الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا
هذا هو النوعُ السادس من أنواع النواسخ، وهو باب ظن وما لحق به، وهو باب الأفعال التى تتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وهى على قسمين:
أحدهما: ظن وأخواتها، وتسمّى أفعال القلوب، لاختصاصها بالقلوب لأنها إما للظن وإما للعلم، وكلاهما مختصّ بالقلب.
والثاني: صَيّر وأخواتها، وتسمّى أفعال التحويل، لأنها كلّها راجعةٌ إلى معنى التحويل من شئٍ إلى شئٍ.
وكلاهما قد ذكره الناظم، وابتدأ بذكر عملهما، ثم بتعدادهما فقال:
انْصِبْ بِفِعْلِ الْقَلْبِ جُزْأَىِ ابْتَدا
أَعْنِى: رَأَى خَالَ عَلِمْتُ وَجَدا
ظَنّ، حَسِبْتُ، وَزَعَمْتُ مَعَ عَدْ
حَجَا، دَرَى، وَجَعَل الّذْكَاعْتَقَدْ
وَهَبْ، تَعَلّمْ، وَالّذىَ كَصَيّرا
أَيْضًا بِهَا انْصِبْ مُبْتَدًأ وَخَبَرا
فِعْلُ القلب مرادهُ به الجنس، ولم يُرِدْ فعلًا واحدًا. وجزءا الابتداء: هما الجزآن المنسوبان إلى الابتداء، وذلك المبتدا والخبر. ويعنى أن أفعال القلب تَنْصِبُ بها المبتدأ والخبر معًا، يريدُ أن هذا شأنُها، فلا يقتصر معها في النصب أحد الجزأين دون الآخر، كما كان ذلك فيما تقدّم من النواسخ.
ولما كان كلامه مطلقًا في نصب الخبر، سواء أكان معرفةً أم نكرة، وكان من مذهبه في الحال أنها/ لا تكون إلا نكرة، دَلّ ذلك من كلامه على أن نصبه على غير جهة الحال، وهو مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى أن نصبها للخبر إنّما هو نصب على الحال .. وَردّ بأنّ هذا المنصوب الثاني يقعُ معرفةً مضمرًا نحو: ظننتُكَه، وظننتُكَ إِيّاه. وبالألف واللام نحو: ظننتكَ القائمَ، ومضافًا إضافةً محضةٌ مَعْرِفَةٌ، نحو: ظننتُه أخاك، وعلمتُه غلامَك. وعلى غير ذلك، والحال لا يكون ذلك فيها.
فإن قيل: المعرفة إذا وقعت هنا قائمةٌ مقام النكرة، كما قامت مقامها في نحو: طلبتُهَ جَهْدَك وطاقتك، ورجع عَوْدَه على بدئه، وأرسلها العِرَاك. وما أشبه ذلك من المعارف الواقعة حالًا باتفاق، لوقوعها موقع النكرات، فكذلك يقال هنا.
فالجواب: أن هذه ألفاظُ قليلة غير قياسية، فلا يُبْنى عليها حُكْمٌ، بخلاف وقوع المعرفة مع ظننتُ فإنه كثير جدًا، فَتَبايُنُهما في الكثرة والقَلّة دليلٌ على تبايُنِهما في الحُكْمِ. وأيضًا فجهدك وطاقتك وما كان من بابهما مصادر واقعةٌ موقع أفعالها، وأفعالها هى الواقعة موقع الحال، والمصدر يقع موقع فعله معرفة ونكرةً، بخلاف غيره. هذا عُذْرُ ابن الانبارى، وفيه بحث؛ قال الفارسي في التذكرة حين ذكر هذا المذهب عن الفرّاء:(ويقول الفراء): إن الظنّ وبابه أصلُه، قال: فكان على هذا من أولى
الناس بأن يقول: إن المفعول الثاني ليس بحال، لأَنّ الحكاية حكمها أنّ تكون من الجمل والكلام التام. يريد: والحال إنما تأتى بعد تمام الكلام، فيلزمه بدعوى الحال في المفعول الثاني هنا أن يكون الظّنُّ واقعًا في أصله على المفرد لا على الحكاية. وهذا تناقض ظاهر. فالصحيح على هذا ما ذهب إليه الناظم والبصريون.
ثم أخذ يعدّد هذه الأفعال التى عبّر عنها بفعل القلب فقال: «أَعْنِى: رَأَى، خالَ، علِمْتُ، وَجَدا» إلى قوله: «وَهَبْ، تعَلّمْ» ؛ يريد بقوله «أعنى: رَأَى .. » تفسير فعل القلب، كأنه قال: أعنى بفعل القلب رأى وخال، وعلمت، ووجد». وحَذَف حروف العطف على عادته في ذلك. وجملةُ الأفعال التى أَتَى بها ثلاثة عَشَر فعلًا:
أحدها: رأَيتُ، وهى تكون تارةٌ بمعنى الظن. وقد جَمع الأمرين قولُه تعالى:{إِنّهُم يَرَوْنَهُ بعيدًا. وَنَراهُ قَرِيبا} ، أى: يَظنّونه بعيدًا ونعلَمُه نحنُ قريبا.
والثاني: خِلْتُ، وغالبُ أمرها أن تكون بمعنى الظن، ومنه قولهم في المثل: من يَسْمَعْ يَخَلْ. وأنشد في شرح التسهيل:
إِخالُكَ إن لم تَفْضُضِ الطّرْفَ ذَا هَوَى
يَسُومُكَ ما لا تستطيعُ من الوَجْدِ
والثالث: عَلِمتُ، وهى بمعنى اليقين ليس غيرُ، وذلك فيها مشهور، نحو:
علمتُ زيدًا أخاك.
والرابعُ: وجدتُ، وهى بمعنى اليقين كعلمت، ومنه قول الله سبحانه وتعالى:{تَجِدُوهُ عند اللهِ هُوَ خيرًا وأعظمَ أجرًا} .
والخامس: ظننتُ، وهى تكونُ تارةً/ على ظاهر الأمر فيها والأشهر، وهو أصلها، نحو: ظننت زيدًا أخاك، ومنه قول الله تعالى:{وأنّهم ظَنُّوا كما ظننتُم أَنْ لن يبعثَ اللهُ أَحَدا} وتكون تارةً لليقين، نحو قوله:{الذينَ يظنُّونَ أَنَّهُم مُلَاقوا رَبِّهم} ، {وَظَنّوا أن لا مَلْجَأ مِنَ اللهِ إِلّا إِلَيْهِ} .
والسادس: حَسِبتُ، وبابُها أن تكون بمعنى ظننت، نحو قوله تعالى:{وتحسبُهم أيقاظًا وهم رقُودٌ} . وقد قيل: إنها تأتى بمعنى علمت كقول الشاعر، أنشده القالى:
حَسِبتُ التُّقَى والجُودَ خَيْرَ تجارَةٍ
رباحًا، إِذا ما المرءُ أصْبَحَ ثَاقِلا
والسابع: زعمتُ، وهى بمعنى الاعتقاد، صحيحًا كان أو فاسدًا، إلا أنها من المتّهم محمولةٌ على الكذب، ومنه قولُ اللهِ: {زَعَم الّذِينَ كَفَرُوا
أن لن يُبْعَثُوا}. وأنشد سيبويه لأبي ذُؤَيب:
فإن تَزْعُمينى كنت أَجْهَلُ فِيكمُ
فَإِنّى شَرَيتُ الحِلْم بَعْدكِ بِالْجَهْلِ
وأنشد أيضًا للجعدىّ:
عَدَدْتَ قُشَيرًا إِذْ عَدَدْتَ فلم أُسَأْ بِذَاكَ، وَكم أَزْعُمْكَ عَنْ ذَاكَ مَعْزِلَا
والثامنُ: عَدَدْتُ، وهى بمعنى الظنّ، نحو قول الشاعر -أنشده الجمهور- وهو جرير:
تَعُدُّونَ عَقْر النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكم
بَنِى ضَوْطَرى لولا الكَحِىّ المعَنّعا
والتاسع: حَجَوتُ، وهى بمعنى ظننتُ وقدّرتُ؛ قال الجوهرى:«وحجا الرجلُ القومَ كذا وكذا، أى: حَزَاهُم وظَنّهم كذلك» . ومنه ما أنشده في الشرح:
قَدْ كُنْتُ أَحْجُو أَبَا عَمْرو أَخَا ثِقَةٍ
حَتَى أَلَمّتْ بِنَا دِومًا مُلِمّاتِ
والعاشر: دَرَيتُ، وهى بمعنى عَلِمتُ، نحو قولك: دَرَيتُ زيدًا ذا فَصْلٍ. ومنه ما أنشده في الشرح:
دُرِيتَ الوفىّ العهدِ يا عَمْرو فاغتبط
فإنّ اغتباطًا بالوفاء حميدُ
والحادى عشر: جَعَلْتُ الاعتقاديّةُ، وهى التى نبّه عليها بقوله:«وجَعَل الذْ كاعْتَقَدْ» تحرّزًا من الذى للصيرورة، وسينَبِّه عليها وعلى غيرها. ومن ذلك قوله تعالى:{وَجَعَلُوا الملائكَةِ الذينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَنِ إِنَاثًا} .
وأتى الناظمُ بلفظِ الّذى محذوفة الياء مسكنة الذّالِ، وهى لغة حكاها المؤلّف، وأنشد عليها:
كالّذْ تَزَبّى زُبْيَةً فَاصْطِيدَا
والثاني عشرَ: هَبْ، وهى غير متصرّفة، بل إنما تستعمل على صيغة الأَمْرِ، نحو: هَبْنِى قائما، ومعناها معنى الظن والحسبان. وكذلك تقول: هَبْكَ فعلتَ، بمعنى: ظُنّنِى، وظُنّكَ. وأنشد ابن خروف:
هَبِيني يا مُعَذّبَتِي أَسَأْتُ
والثالث عشر: تعَلّم، ومعناها معنى اعلم، ولا تسعمل إلا هكذا على صيغة الأمر، فهى من الأفعال غير المتصرفة كَهَبْ المذكورة آنفا. وسيأتى تنبيهُ الناظم عليها، قال عمرو بن معد يكرب:
تَعَلّم أَنّ خير الناسُ طرّا
قَتيلٌ بين أحجار الكُلَابِ
هذا تمام الأفعال التى ذكر، وظهر منه أن لا زائد عليها؛ إذ لم يَقُلْ: مثل كذا أو ككذا، أو يذكرها ثم يقول آخرًا: وما كان نحوها. وهذ الظاهر منازَعٌ فيه؛ إذ قد ذكر هو وغيره ما هو أكثر/ من هذا، فممّا ذكر في التسهيل: ألفى، بمعنى وجد، وأنشد عليه قول الشاعر:
قد جَرّبوه فألفَوْه المغيث إذا
ما الرّوْعُ عَمّ فَلَا يُلْوَى عَلَى أحَدِ
ومن ذلك: سمع المعلقة بَعْينٍ، نحوُ قولِكَ: سمعتُ زيدًا يقول كذا، إلا أنّ ثانى مفعوليهما لا يكون إلا فعلًا، ومنه قوله تعالى:{قَالُوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} ؛ فإن لم تتعلّق بعين اقتُصِر بها على مفعولٍ واحدٍ فلم تطلبْ غيره، كقوله تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُم لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} .
ومما ذكر غَيرُه: عَرَفَ، تكون بمعنى علم، فتقول: عرفت زيدًا أخاك، كما
تقول: علمتُ زيدًا أخاكَ.
وكذلك: أبصر: أبصرتُ زيدًا قائمًا. وصادف، نحو: صادفت زيدًا قائمًا. وغادر نحو: غادرتُه سائرًا. وأصاب، نحو: أَصَبْتُه قاعدًا. وضَرَب مع المثل، نحو:{ضَرَبَ الله مَثَلًا عبدًا مَمْلوكًا} . ومن ذلك أعلم وأرى، وأخواتها إذا بُنِيت للمفعول، فإنها تجرى مجرى هذه الأفعال؛ قال السيرافي: كانت متعدّية إلى ثلاثة، أُقِيم واحد منها مقام الفاعِلِ وبقي الآخران كمفعولَيِ الظن في جميع أحكامهما. وكذلك معناها يعودُ إلى معنى ما تقدّم، فَأُعِلمْتُ وأُرِيتُ يعودُ معناهما إلى عَلِمتُ ورَأَيت، ومعنى البوافي إلى معنى هذين الفعلين.
فهذه خمسة عشر فعلًا من هذا الباب لم يذكرها، فكان ينبغي له أن يذكرها، أو يُفْسِحَ لها في عبارته مجالًا حتّى تدخل، ولا يأتى بعبارة تَمْنَع أن يدخل فيها مثل هذا.
والجواب: أنه لم يثبت عنده منها إلا ما ذكر، وإن عدّها بعضُهم إلى نحوٍ من ثلاثين فعلًا؛ قال ابن خروف: زاد بعضهم فيها على ثلاثين، وأكثرها سقِيم. ووجّه ما أشار إليه من سقمها أن المفعول الثاني فيها لا يتعيّن كونُه مفعولا صحيحا، بل هو أظهرُ في الحال للزوم مجيئه نكرةً، وإنما يثبت كونُه مفعولًا إذا كثر مجيئُه معرفةً؛ إذ الحال لا تكون معرفةً إلّا ندورًا مُؤَولًا، فسمع المعلّقةُ بَعينٍ، وعَرَف، وما ذُكِرَ معهما لم يأت لهما المفعول الثانى معرفة، فلم يثبت كونه مفعولًا. وكذلك ألفَى، لم يكثر عنده ذلك كثرته في وَجَد مرادفتها.
وليس كلُّ فعلٍ كانَ فِعْلَ قَلْبٍ يتعدّى إلى مفعولين؛ ألا ترى إلى نحو: تحقّق وتبيّن وفهم، وما أشبه ذلك، كيف لم يتعدّ إلى اثنين. وكذلك عرف وغيره
مما ذُكِر. وعلى هذا المعنى نبّه بقوله: «انصِبِ بِفِعْل القَلْبِ جُزْءَى ابتدا» ، ثم قال: أعنى كذا وكذا. فلم يطلق القوْلَ في جميع أفعال القلوب بل قيدها بما عَدّد. وأما الأفعال المبنية للمفعول المتعدّية إلى ثلاثة فلم يذكرها لعدم اطِّراد هذا الباب فيها؛ لأن مذهبه جوازُ إقامةِ المفعول الثاني ونصب الأول والثالث، إذا لم يقع لبسٌ، وغذا جاز عنده لم يكن أول المنصُوبين/ هو المبتدأ والثاني خبره بإطلاق، وإذا لم يكن كذلك لم يكن الفعلُ من النوسخ، فخرج عن هذا الباب جملة، وإنّما عدّ هذه الأفعال هنا مَنْ عَدّها بناءً على لزوم إقامة الأول، فيبقي الثاني والثالث منصوبين بالفعل، وهما في الاصل مبتدأٌ وخبرٌ، فجرى فيهما ما يجرى في هذا الباب من الأحكام. فنِعْم ما فعل الناظم في تَرْكِ ذكرها هنا حيث لم تلزم الباب ثم ذكر القسم الثاني من الأفعال المتعدية إلى مفعولين زصلهما المبتدأ والخبر، وهو القسم الذى بمعنى التحويل فقال:«والذى كصَيّرا .. أيضًا بها انصِبْ» .. إلى آخره. فقوله: «والذى كصيرا» ، يريد به النوع من الأفعال الشبيه بصيّر في أداء معنى التحويل. والذى مبتدأ خبرُه انصب، وبها متعلّو به، والضمير عائد الذى باعتبار المعنى، فكأنه قال: والأفعال المؤدية معنى صيّر انصب بها المبتدأ والخبر أيضا، وتسمى أفعال الصيرورة. وجُمْلَتُها على ما ذكره في التسهيل ثمانيةٌ، ولم يذكرها هنا لاكتفائه بالإشارة إليها؛ إِذْ لا يتخلف له عمّا ذكر فِعلٌ منها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بخلاف أفعال القلوب، فلذلك نَصّ عليها هناك ولم يذكرها هنا.
أحدها: صَيّر الذى نبّه به الناظمُ على جملة النوع، نحو: صيّرتُ الفضة خَلْخَالًا فإن قلت: كيف دخل صيّر في أفعال هذا القسم، وهو إنما ذكره مُشَبِّها به، والمشبّه مباينٌ في الذاتِ للمشبّه به، فكأنه إنما أعطى الحكم للمشبّه خاصة، وبقي المشبّه به مسكوتًا عن دخوله؟
والجواب: أَنّ ما ذكرت هو حقيقة اللفظ، وأما معنى الكلام فصيّر فيه داخلةٌ. لأنّه إذا كان المشبّه داخلًا في الحكم لأجل الشبه فالمشبّه به أولى بذلك الحكم. وهذا ظاهر.
والثاني: جَعَل، في نحو قولك: جعلت الفِضّة خَلْخالًا. وفي القرآن: {فَجَعَلْنَاه هَبَاءً مَنْثُورًا} ، {فَجَعلناها حَصِيدًا} .
والثالث: وَهَب، وهو غيرُ متصرِّفٍ، حكاه المؤلِّف عن الأزهرى، عن ابن الأعرابي في قولهم: وَهَبَنِى الله فداءك، أى: جعلني فداءك. إلا أن الظاهر أن الناظم لم يقصد ذكر هذا الفعل لوجهين:
أحدهما: قِلَّتُه في السماع، وأنه إنما سمع في مثل، والأمثال يتكلّم بها على حالها ولا تُغَيّر، فوهب في المثل لا يُنْقَل عن محلّه، فصار موقُوفًا على السماع.
والثاني: أنه لو قصد ذكره لنبّه على عدم تصرّفه، كما نبّه على ذلك في هَبْ وتَعَلَّمْ، فَأَن لم يَفْعَلْ ذلك دليلٌ على عدم القصد إليه، فلا ينبغي أن يعدّ هنا،
وإن كان ابن الناظم قد عدّه فيما أشار إليه أبوه.
فإن قيل: فقد دخل [له] في قوله: «والذى كصيّرا» ، فأتى بأداة العموم.
قيل: لا، فإنه قد قال:«انصب بها» ، يريد قياسًا، ولا ينصب بوهب قياسًا. فإن قيل: هو داخلٌ في عموم اللفظ وإن لم يقصده، فيعترض عليه.
قيل: لا، لأن عدم تنبيهه عليه مع هَبْ وتعلّمْ دليل على أنه لم يرده، فعموم لفظه مخصوص بما دلّ عليه كلامه/.
والرابع: رَدّ، في نحو:{لو يَرُدُّونكم مِنْ بَعْدِ إِيمانكم كُفّارًا} .
والخامس: ترك، في قول الشاعر:
وربّيتُه حتّى إذا ما تركتُهُ
أَخا القوم، واستغنى عن المَسْحِ شاربُهْ
والسادس: تَخِذَ واتّخَذَ، لغتان بمعنى واحدٍ، ومن ذلك قوله تعالى:{لا تَتّخِذُوا عَدُوّى وعَدُوّكم أولياء} . وقوله: {اتّخَذُوا أَيْمانَهُم جُنّةً} .. الآية.
والثامن: أكانَ المنقولة من كان بمعنى صار، ألحقها بعض النحويين، وسَلّم ذلك المؤلفُ قياسًا، وقال: «لم أعلم به مسموعًاط. فيكون نحو قولك: أكنتُ زيدًا عالما، أى: صيّرتُه عالمًا.
وذكر غيره زائدًا على هذه الثمانية ضَرَب بمعنى صيّر، نحو: ضربت الفضة خَلْخَالًا. وهى كلُّها داخلةٌ تحت إشارة الناظم. فأفعال الصيرورة إن أثبتنا وَهَب تسعةٌ وإلا فثمانية.
وقوله: «مبتدًأ» ، أصله: مبتدًأ، بالهمز، لكنّه خَفّفه وأتى به على لغة من يقولُ في قرأتُ: قريتُ.
ووقع في نسخ هذا الرجز: «والذى كصيّرا» ؛ بلفظ الذى الواقعة على المذكر، ثم قال:«انصب بها» فأتى بضمير المؤنث، فكان الأولى أن يأتى بالتى عِوضِ الذى، ليكون المعنى: والأفعال التى كصيّر انصب بها كذا، فيتطابقُ اللفظان، أو يأتى بضمير المذكر على معنى: والفعل الذى كصيّر انصب به كذا، فيتطابقان أيضا. ووجه ما فعل أنه عزم أولًا أن يُصَدِّر قسمي الأفعال بلفظ الجنس فقال أولًا:«انصبْ بفعلِ القلبِ» ، ولم يقل: بأفعال القلب. ثم قال: «والذى كصيّر» ، أى: والجنس الثاني من الأفعال الذى هو شبيهٌ بصيّر، ثم لما كان جنسُ ما معناه معنى صيّر تحته أشخاصٌ متعدّدة، نبّه على ذلك بقول:«انصب بها» ، أى بأشخاض ذلك الجنس، فكان الإتيان بضمير المؤنث الصالح للجماعة أولى. والله أعلم.
(ثم قال الناظم):
وَخُصَّ بالتَّعْلِيقِ والإلغاءِ مَا
مِنْ قَبْلِ هَبْ، والأَمْرَ هَبْ قَدْ ألْزِمَا
كَذَا تَعَلَّمْ، وَلَغِيرِ الماضِ مِنْ
سِوَاهُمَا اجْعَلْ كُلّ مَالُه زُكِنْ
الإلغاء: عبارة عن ترك إعمال الفعلِ لغير مانعٍ. والتعليق: تركُ إعماله لمانع. وإن شئت قلت: الإلغاءُ عبارة عن إبطال العمل لفظا ومحلا، وأما التعليق فإبطال العمل لفظًا لا محلًا. وكلاهما له سببٌ سيذكره على أثر هذا، إنما قصده هنا بيان ما يدخله هذان الحكمان من هذه الأفعال -فيعنى أنّ الإلغاء والتعليق معًا جائزان وواقعان قياسًا على الجملة، لكن في الأفعال التى قبل هَبْ، فإنها المخصوصة بهما دون ما بقي، وهى أفعال القلوب كُلُّها ما عدا هَبْ وتعلّمْ، من أفعالِ القُلُوبِ. فيجوز لك أن تقول: زيدٌ -ظننتُ- قائمٌ، فتلغى ظننت ولا تعملها، وكذلك: زيدٌ قائم ظننتُ. وكذلك زيدٌ -علمتُ- منطلقٌ، وزيدٌ -رأيتُ قائم/، وكذلك سائرها. ولا يجوز ذلك في هب وتعلّمْ، فلا تقول: زيدٌ قائم هَبْ، ولا يجوزُ تقديم المعمولين، أو أحدهما -الذى هو الشرط في جواز الإلغاء- على واحدٍ من الفعلين. ولا يجوز أيضا الإلغاءُ في القسم الثانى من أفعالِ هذا الباب، وهى أفعالُ الصيرورة مطلقًا، فلا تقول: الفضةُ خلخالٌ صيرتُ، إذ لا موضع للإلغاء فيها؛ لأن مقصده أن تُذكر الجملة من المبتدأ والخبر، أو يبدأ بذكرها، ثم يريد أن يُبَيّن مرتبتُها في العلم أو الشك عنده، أو يبتدئ الجملة على العلم ثم يدركه الشك. وهذا ظاهر في أفعال القلوب. وأما في غيرها فلا معنى له. وأما التعليق فكذلك أيضًا مخصوصٌ بما قَبْلَ هَبْ، ولا يجوز في
هَبْ، ولا في تعلَّمْ؛ لأنّ التعليق نوع من التصرف، هما غير متصرفين في أنفسهما، وعلى ذلك وضعهما. وكذلك لا يجوز في أفعالِ الصيرورة؛ إِذ لا معنى له فيها، فالكلام مستقيم بخلاف أفعال الصيرورة فإنه لا معنى لها في ذلك؛ فلذلك قال الناظم:«وخُصّ بالتعليقِ والإلغاِ ما .. من قَبْلِ هَبْ» . وقد مرّ تمثيل الإلغاء، وأما مثال التعليق فنحو: علمتُ لزيدٌ قائم، وظننتُ ما زيدٌ منطلق. ومنه قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ} .
وما: منصوبة الموضع على المفعوليّة بخصّ، على أنّه فِعلُ أمر المخاطب. ويحتمل أن تكون مرفوعة الموضع به، وهى مفعولُ ما لم يُسمّ فاعله، على أنه فعل ماض مبني للمفعول.
وقوله: «والأَمْرَ هَبْ قَدُ أُلْزِما» ، يعنى: هَبْ قد مُنِع من التصرّف وألزِمَ صيغةَ الأمر، فلا يستعمل منه ماضٍ ولا مضارعٌ، فلا تقول: وهب زيدًا منطلقًا، ولا أهبُ زيدًا أخاك. وإنما يستعملُ في الأمر خاصة. والأمر مفعول ثانٍ لألزِمَ، على حذف المضاف، أى أُلزِمَ صيغةَ الأمرِ.
وقوله: «كَذَا تَعَلّمْ» ، يعنى أنه مثلُ هَبْ في عدمِ تصرّفه وإلزامهِ صيغة الأمر فلا يستعمل منه ماضٍ ولا مضارع. وهذا كلّه فيهما سَمَاعٌ، وإلا فالقياس قابلٌ لتلك التصرّفات، لكنه لا يعملُ هاهنا ذلك القياس للمعارض الأقوى، وهو أنا فهمنا من العرب اقتصارها فيهما على ما ذكر، وأنّها لم تَقْصِد فيهما إطلاق القياس. والعربُ قد تهمل بعض التصرفات على غير قصد، وهذا هو الذى يجرى فيه القياس، فيستعمل ما أهملت؛ إذ لم تتركه لأجل أن يتبع في تركه، وقد تهمل بعضها قصدًا إمّا للاستغناء بغيره، كما أهملت وَدَع استغناءً بترك،
وإما لغير ذلك من مقاصدها.
فإن قيل: فكيف يُعرَف ذلك.
قيل: يعرف من أوجه محلُّ ذكرها الأصولُ.
ثم قال: «وَلغيرِ الماضِ من .. سِوَاهما» .. إلى آخره، يعنى أنّ حكم غير لماضى/ من هذه الأفعالِ كُلّها حكمُ الماضى السابق الذكر، ما عدا هَبْ وتعَلّم، فإنهما قد أُهْمِلَ فيهما غير صيغة الأَمرِ، وذلك أَنّه قدّم ذكر هذه الأفعالِ بلفظ الماضى فَنَبّه الآن على أن سواه وهو المضارعُ والأمر منها في الحكم مع الماضى على حدٍّ سواءٍ، فكلّ ما للماضى من أحكام هذا الباب مستقرٌّ لغيره. وإنما نبّه على هذا خوفًا من أن يتوهّمَ خلافُه، وأكّد التنبيه عليه ذكرُه هَبٍ وتعلّم، وأنهما مختصّان بالأَمْرِ، إذ لقائل أن يقول: وهل ما تقدّم من الأفعال الماضية مختصٌّ أيضًا بصيغة الماضى أم لا؟ فكان من التمام رفعُ هذا التوهّم. وتقدير الكلام: واجعَلْ لغير الماضى من سوى هَبْ وتعلّمْ ما زُكِنَ لذلك الماضى من الأحكام -وزُكِنَ- في كلامه -بمعنى: علم. ومنه -في قول الجمهور- قول قَعْنَب:
زَكِنْتُ من أَمْرِهِمْ مِثْلَ الذى زَكِنُوا
أى: علمت من أمرهم ما علموا من أمرى.
وقوله: «من سواهما» ، جاء على التصرّف في سوى، وهو قليل، بل من خصائص الشعر عند سيبويه. ولكن الناظم ارتضى فيها جواز
التصرّف قياسًا حسبما يأتى إن شاء الله، فعلى مذهبه استعملها متصرّفة. والله أعلم.
ثم قال الناظم:
وَجَوِّز الإِلْغَاءَ لَا فِى الابْتَدِا
وَانْوِ ضَمِيرَ الشّأْنِ أَو لَامَ ابْتَدِا
فى مُوِهمٍ إلغاءَ مَا تَقَدّمَا
وَالْتَزِمِ التْعْلِيقَ قَبْلَ نَفَىِ مَا
وَإنْ، وَلَا، لَامُ ابْتِدَاءٍ أَوْ قَسَمْ
كَذَا، وَالاِسْتِفْهَامُ ذَالَهُ الْخَتَمْ
هنا تكلّم في موصع الإلغاء والتعليق، وفي حكمها من الجواز والوجوب عند وجوب شروطهما، وابتداء بالإلغاء فبيّن أنّ الإلغاءَ جائزٌ لا واجب بقوله:«وجوّز الإلغاءَ» ، ولم يقل: والتُزِم الإلغاء كما قال: «والتُزِم التعليق» . ثمّ نصّ على شرط ذلك فقال: «لا في الابتدا» يعنى أَنّ إلغاء الفعل -وهو أن لا يعمل في مفعوليه- يجوز بشرط الآخر، فيكون متوسطًا بينهما، فتقول: زيدٌ قائم علمت، وأبوك منطلقٌ ظننتُ. وتقول في التوسيط: زيدٌ -علمت- قائمٌ، وأبوك -ظننتُ- منطلقٌ. ومن ذلك قولُ اللعين يهجو العجاج، أنشده سيبويه:
أَبِالَاراجيزِ يا ابن اللُّؤْمِ -تُوعِدُنى
وفي الأراجيزِ -خِلْتُ- اللؤمُ والخورُ
ويجوز أن لا تلغى فتقول: زيدًا قائمًا ظننتُ، وزيدًا -ظننت- قائمًا. فأمّا أَنْ تقدّمَ الفعْلَ وتبتدئَ به فلا يجوزُ الإلغاءُ، وهو قوله:«لا في الابتدا» . يريد كونَ الفعل مبتدًأ به قبل المفعولين معًا؛ وذلك أنّ الإلغاء والإعمال، كلّ واحدٍ منهما له مقصدٌ يوجبه غير مقصد الآخر، فمقصدُ الإلغاء أن تكون ذكرت الجملة على أن تطلق الإخبار بها إطلاقًا، ثم تستدرك ذكر الشكّ أو اليقين، وذلك يكون على وجهين:
أحدهما: أن تبتدئ كلامك وليس في قلبك منه مخالجة شك، فإذا مضى كلامُك أو بعضه على اليقين، لحقك فيه الشك، كما تقول: / عبد الله أمير -وأنت لم تشاهده- فيجب أن تستظهر فتقول: بلغني، أى إن هذا فيما بلغنى. ولو قدّمت قولك: بلغني، لم يجز أن تقول: بلغني عبد الله أمير؛ لأن الجملة لا تكون فاعلة، ولكن تقول: بلغنى إمارته، أو بلغني أنه أمير. وكذلك قولهم: من يقول ذلك؟ تدرى؟ ولو قدّمت: تدى، لعمل في مَنْ، وصارت بمعنى الذى، فخرجت عن الاستفهام.
والثاني: أن تبتدئْ كلامك وأنت شاكّ، لكنك أردت أن تطلقه إطلاقًا، كما يقول القائل: زيد أمير، وهو يريد: عندى، وفي ظنى. ثم أردت أن تستدرك خحقيقة الخبر عندك من شك أو ظن، فقلت: عبد الله قائم ظننت، أو عبد الله -ظننت- قائم.
، أما مقصد الإعمال فَأَن تبنى كلامك على الإخبار بما عندك في ذلك الخبر، من علم أو ظن. فالفعل بلا بدٍّ مبنى عليه الكلام، لكنك أَردْت تقديم المفعولين أو أحدهما للاعتناء بذكره، أو لغير ذلك، فلا بدّ هنا من الإعمال، إذ قصد الكلام مبنى على ذكر الفعل. وإذ ذاك يتبين وجه
القصدين مع تأخير الفعل أو توسيطه، ويتعيّن امتناعُ الإلغاء مع تقديمه، لأن الابتداء به مؤذِنٌ بالقصد إليه ابتداءٌ، فلا يصحّ إلغاؤه؛ لأَنّ الإلغاء مبني على عدم القصد ابتداءً، وهذا نقضُ الغرض. وقد ظهر بهذا وجه ما أجازه الناظم من الإلغاء مع تأخير الفعل أو توسيطه، وما مَنَع منه مع تقديمه.
وهنا مسألة وهى النظر في تحقيق الابتداء الذى ذكره مضافًا إلى الفعل، هل المراد الابتداء به أول الكلام حتى لا يتقدّمه غيره، نحو: ظننت زيدًا قائما، أم أراد الابتداء به قبل المفعولين، وإن تقدّمه هو غيرُ ذلك من أداة نفي أو استفهام أو نحوهما؟
فأما إن أراد الأول فيقتضى أن ما كان نحو: متى تظن زيدًا منطلقا؟ وأن تظن زيدًا قائما؟ يجوز فيه الإلغاء، فتقول: متى تظنّ زيد قائم؟ وأين تظنّ زيد قائم؟ وهذا جائز على الجملة، نصّ عليه سيبويه وغيره، لكن على مقصد، وهو أن يكون الظرفُ المتقدّم متعلقًا بقائم، والسؤالُ إِنما وقع عن زمانه أو عن مكانه، فهاهنا أجازوا الوجهين، على حدّ ما لو تقدم أحد المفعولين. وإنما لم يحكم للفعل هنا بحكم الابتداء، لأن معمولَ المعمولِ الثاني قد تقدّم على الفعل، والقاعدة أن تقدم المعمول مُؤْذِنٌ بتقدم العامل، فكأنّ المعمولَ الثانى -وهو قائم- قد تقدّم على الفل، فجاز الإلغاء.
فإن قصد أن الظرف متعلّق بَظنَ لم يَجُزْ الإِلغاء، لأن الفعل إذ ذاك في الابتداء، والفعل لا يُلغَى مبتدًأ، فيصحّ تنزيل كلام الناظم على مثل هذه المسألة، وأن الإلغاء جائز فيها على الجملة، إذ ليس الفعل مبتدًأ به.
فإن قلت: إنما يَصِحُّ جواز الإلغاءِ على فَرْضِ أن يتعلّق الظرفُ بقائمٍ لا بتظن، فإن الإلغاء مع تعلّقه بظَنّ غير جائز.
فالجواب: أنّ صورة لامسألة/ قد جاز فيها الوجهان مع قطع النظر عن متعلّق الظرف، فلا يضرّ الإطلاقُ فيها، كما لك يضرّ إطلاقُه القول بجواز الوجهين مع تقدّم المفعولين أو أحدهما، وليس الإلغاء إلا على قصدٍ لا يصح معه الإعمال.
فإن قلت: فكان من حَقّه أن يُبَيِّن ذلك.
قيل: ليس هذا من صناعة النحو، وإنما يختصّ بالكلام في ذلك أهل علم المعاني.
وينبني عليها أن الفعل إذا تقدمه أداةٌ من الأدوات النافية أو الاستفهامية، فيجوز الإلغاء أيضا، نحو: هل تَظُنّ زيدًا قائما، وما ظننتُ زيدًا قائمًا، فتقول: هل تظنّ زيدٌ قائمٌ، وما ظننتُ زيدٌ قائمٌ، لكن على اعتقادِ أَنّ الاستفهام والنفي راجعان إلى القيام لا إِلى الظن، كما مرّ في مسألة: متى تظن زيد قائم. وقد أجاز هذا بعض المتأخرين واحتجّ بعض المتأخرين واحتجّ له بقول كعب بن زهير:
آرجو وآمل أن تأنُو مَؤَّدتها
وما إخالُ لدينا منك تنويلُ
ومما يرجع إلى ذلك قولُ الآخر، أنشده النّحَوِيون واللُّغَوِيّون:
وما أدرى وسوف إخال أدرى
أقوم آل حصن أم نساءُ
فألغى إخال حتى أدخلها على الفعل لما تقدمها أدارة لغيرها، فإذا يصدق على مثل هذا أن الفعل الملغى غير مبتدِأ به. هذا وإن كان ابنُ مالك لم يرتض هذا المذهب في الشرح، فلا يبعد أن يرتضيه في بعض أوقات النظر، كما تقدّم.
وأما إن أراد بالابتداء بالفعلِ أن يكون قبل المفعولين معًا، فيقتضى أن نحو: هل تظن زيدًا منطلقا؟ ونحو: ما ظننتُ زيدًا منطلقًا، يمتنع فيه الإلغاء لوجود الفعل مقدّما على المفعولين معًا، لكن يردّ عليه اقتضاء كلامه لمنع: متى تظن زيدٌ منطلق؟ وأنّ الإلغاء فيه كالإلغاء في الابتداء لا يجوز البتّةَ. وذلك غير صحيح، بل هو جائز عند النحويين على تقدير تعلُّقِ الظرف بقائم.
فإن أُجِيب بأنّ تقديم المعمول مُؤذِنٌ بتقدّم العامل، فكانّ قائمًا مقدّمٌ على الفعل.
فيقال: فكذلك إذا قلت: ما ظننتُ زيدًا قائمًا؟ النفي فيه والاستفهام مُسَلّطا على المفعول الثاني في أحد التقديرين، فهما يطلبانه بالتقديم، فليكن في جواز الإلغاء مثل: متى ظننت زيد منطلق؟ وهو إيرادٌ يبعُدُ الجوابُ عنه بما يرتضى إلا أن يقال: إنّ الظرف معمولُ، وهل أو ما غير معمول، فهذا غير مُؤَثّر؛ إذ هما مستويان في الطلب المعنوىّ، أو يقال: هذا المحمل أولى لوجهين:
أحدهما: أنّ الوجهَ الّذى لأجله امتنع الإلغاء مع التجريد عن أداة
استفهام أو غيره، موجود في تقدّم تلك الأداة، لأنك ابتدأت كلامك بالإخبار بالعلم أو الظن، وأما الأداة فداخلةٌ على الفعل، فهى له ومن حيّزه، فيبعد أن يُتْرَك هذا الظاهر ويُعْدَل عنه إلى جَعْلِ الأداة ليست بداخلةٍ على الفعل تقديرًا. هذا وجهُ القياسِ، ويظهرُ من سيبويه حين قال:«وتقول: أين تُرى عبدَ الله قائمًا؟ وهل تُرى ذاهبًا؟ لأنّ هل وأين كأنك لم تذكرهما؛ لأن ما بعدهما ابتداءٌ، كأنك قلت: أَتُرىَ زيدًا ذاهبا، وأتظن عبد الله منطلقًا» . وهذا كالنصّ من سيبويه على أنّ الأدوات لا تعتبر، اللهم إلا أن تكون الأدوات معمولة لمعمول الفعل كمتى وأين، فحكمهما في التقديم حكم المعمول فيجوز الإلغاء حسبما نصّ عليه في/ قوله:«فإن ابتدأت فقلت: ظنى زيدٌ ذاهب، كان قبيحا، ولكن متى تظنّ عمرو منطلق، لأن قبله كلامًا» يعنى متعلقًا بالخبر، فكأن المفعول قد تقدم، بهذا فسّره السيرافي وغيره، ثم ترك هل والهمزة، لم يُجزِ فيهما ما أجاز في متى، فكذلك يجرى الحكم في سائر الأدوات.
والثاني: أنّ هذا المذهب هو رأيه في كتبه، فقد نصّ عليه في التسهيل نصًا مطلقًا، ثم بين في الشرح أن قوله:
وَمَا إِخالُ لَدَنياينْك تنويلُ
من باب الشذوذ الذى يقدّر فيه ضمير الشأن، ولم يحمله على الإلغاء واعتبار تقدم النفي؛ إذ هو داخل على الفعل، فهذا ممكنٌ في الجواب عن الفرق بين تَقَدُّمِ الحَرْفِ وتقدم الظرف. ولكنه غير جارٍ على لفظه حيث اعتبر تقدّم الفعل على المفعولين من غير نظر فيما يتقدم الفعل من غيرهما، فالظاهِرُ من الناظم الأوّلُ، فهذا سهلٌ وأجرى على الاستقامة. والله أعلم.
ومسألة ثانية وهى أَنّ إطلاق كلام الناظم في جواز الإلغاء، يقتضى أن يجوز نحو: زيدٌ -ظننتُ ظنًّا- قائم، وما أشبه مما يكون فيه الفعلُ مُؤَكّدًا بمصدره، وكذلك إذا وُكِّد بنائب مصدره، من ضمير أو اسم إشارة، فتقول: زيدٌ -ظننت ظاك- قائم، وزيدٌ -ظننته- قائم، أى ظننت الظن. وقد نصّ النحويون على قبحه مع المصدر نفسه، وعلى ضعفه مع نائبه. وإنما كان ذلك لأن المصدر يقع في هذا الموضع بدلًا من فعله، نحو: متى ظَنُّك زيدًا منطلقا، وزيد -ظَنُّك- منطلق. فلمّا كانت ظننتُ عاملةً، و «ظَنّ» عاملًا عملها، صعب الإلغاء إذا جئت بهما، وكأنّك جمعت بين عاملين ثم ألغيتهما، فقبح لذلك -بخلاف الجمع بينهما مع الإعمال، فهو حسن، لكن القبح في الإلغاء يختلف، فأقبحه أن تأتى بالمصدر منصوبا، ويقلّ القبح إذا لم يضمر فيه إعراب، نحو: زيد ظننت ظَنِّى -منطلق، وأحسن منه الإتيان بضميره؛ لأن الهاء تصلح للمصدر وغيره. وأحسن منه أن تأتى باسم الرشارة لأنه بهم لا تختص بمصدر، فإذا نفرد الفعل لم يكن مصدرًا، وأصل هذا لسيبويه. وما ذكرته من الترتيب نصّ عليه ابن خروف، وإليهِ ذهب المؤلف في شرح التسهيل، وهو رأي
الجمهور، فالناظم هنا يقتضى كلامه جواز الإلغاء من غير قبح وهو غير سديد. والعذر عنه أنه في هذه المسألة على إطلاق الجواز من غير تقييد بترجيح؛ ألا تراه كيف أطلق ذلك في المسائل المتقدمة، مع أن الإلغاء في: زيدُ قائمٌ ظننت، أحسن منه في: زيدٌ -ظننت- قائمٌ، فكذلك أطلق الجواز في مثل هذه المسألة، وإن كان في بعض أقسامها جائزًا على قبح، وفي بعضها ما يحسن، فالجواز فيها كُلّها حاصلٌ، ولكنه على درجاتٍ في القوّةِ والضعفِ، فإطلاقه على الجملة صحيح.
ثم لما قال: «لا في الابتداء» فنفى أن يكون الإلغاء صحيحا معه، وكان في كلام العرب ما يقتضى بظاهر جوازَه، أخذ في ذكر تأويله فقال:«واُنوِ وضَمير الشّأْنِ أَوْ لَام ابْتِدَا» في كذا، يعني أنّه إنْ جاء في كلام العرب ما يوهم الإلغاء مع التقدّم والابتداء بالفعل فاحمِلْه على أحد وجهين من التأويل: إما على أن تكون الجملةُ من المبتدأ والخبر في موضع المفعول الثاني، والمفعولُ الأول هو ضمير الأمر والشأن، حذف كما حذف في قوله، أنشده/ سيبويه:
إِنَّ مَنْ لَامَ في بَنِى بَيْتِ حَسّانَ،
أَلُمه وَأَعْصِهِ في الخُطُوبِ
وحكى من كلامهم: إن بك زيدٌ مأخوذٌ. التقدير: إنّه من لام،
وإنّه بك زيدٌ مأخوذ.
وإما على تقدّر لام الابتداءِ داخلةً على الجملة، وحُذِفت من قول الله تعالى:{قَدْ أَفْلَح مَنْ زَكَّاها} ، وهى مرادةٌ في الموضعين، فلذلك عَلّت الفعل في مسألتنا، وبذلك يخرج الفعل مع التقديم عن باب الإلغاء، فممّا جاء يُوهِم الإلغاء مع التقديم قولُ بعض بنى فزارة، وهو من أبيات الحماسة:
كذاك أُدِّبت حتّى صار من خُلُقِى
…
أَنِّى رأيتُ ملاكُ الشيمةِ الأدبُ
وقولُ كعب بن زهير في أحد التأويلين:
وما إخالُ لدينا مِنْكِ تَنْويلُ
فالظاهر -لبادى الرأى- أن رأيتُ ملغاةٌ مع التقديم، خلافَ القاعدةِ، لكن يُحمل على تقديم ضمير الشأن، تقديره: أَنّى رأيتُه ملاكُ الشيمة الأدبُ، أو على لام الابتداء، أى: لملاكُ الشيمة الأدبُ. وكذلك: إِدخالُ، يُحمل على ضمير الشأن، والتقدير: وما إخاله لدينا منك تنويل.
فإن قيل: تحرّز الناظم من هذا الشذوذ، وكان يكفيه أن يَسكُتَ عنه جملةً، أو يقول: وشذّ مع التقديم، أو نحو ذلك.
فالجواب: أنه إنما فعل ذلك تنبيها وتنكيتًا على أن ذلك المنفي مذهبٌ لقوم، وأنهم احتجوا على مذهبهم بما ظاهره الموافقة لما زعموا، فنكّت على أن ما اعتمدوا عليه غير معتمد، لحمله على خير ما قالوا بحيث يكون الإلغاءُ مع
التقديم ممنوعًا لا دليل يدلّ على جوازه. والذين أجازوا هم الكوفييون -فيما نُقِل- وابن الطراوة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من البصريين، وهو الذى يساعدُ عليه السماعُ، وهو القياس أيضًا، كما تقدّمَ بيانه أولَ المسألة.
فإن قيل: ظاهر قوله: «وانو ضمير الشّأنِ» .. إلى آخره، أَنّ ذلك التأويل هو المقصودُ في البيت لا غيره، ومثلُ هذا لا يقطع عليه، لإمكان أن يقصد الإلغاء؛ إذ لا يمنع أن يكون الشاعر قاصدًا له لا لضمير الشأن، ولا للام الابتداء، وإنما الأمر غايةُ الأمر الاحتمالُ، فهو الذى يكفى في مثل هذا، إذ به يسقط استدلال الخصم، فكان وضعُ الناظم للتأويل غير مستقيم.
فالجواب: أنه لم يرد بذلك القطع على قائله، بدليل أنه حَمّله وجهين لا يجتمعان في قصد الشاعر، وإنما أَمَر الناظر في المسألة بأن تقدّر أنّ الناظم قصده، ليدخل الاحتمال في الدليل، لا لأنه مقصود الشاعر. وأيضًا فإن فرضنا قصده إلى تعيين أحد الوجهين دون ما قاله الخصمُ فلذلك وجهٌ صحيح؛ فإنّ البيت محتمل لأوجه ثلاثة، اثنان منها قد ثبت لهما أصل في كلام العرب، وهما نيّة الضمير أو نيّةُ اللام، فنيّةُ الضمير ثابتةٌ في البيت المذكور وفي قولهم: إنّ بك زيدٌ مأخوذٌ، وفي غيرهما، بحيث لا ينازَعُ فيه -ونية اللام أَيضًا ثابتةٌ في نحو:{قَدْ أَفْلَح مَن زَكَّاها} لأن مثل هذا من جواب القسم إنما يكون باللام، فإذا رُدّ بيت الحماسة إلى أحد هذين فقد رُدّ إلى أصل ثابت كان قويًا أو ضعيفا، بخلاف الوجه الثالث الذى تمسّك به الخَصْمُ، فإنه لا يرجع إلى أصلٍ ثابت؛ إذ
لم يُوجَد من/ كلام العرب ما يتعيّنُ فيه إلغاء الفعل مع التقديم، فلا ينبغي أن يحمل عليه. وإنما ينبغي الردُّ إلى أصلٍ ثابت، فلذلك عيّن الناظم أحد الوجهين ونفي الوجه الآخر. وهذه قاعدة أصولية الناظم إليها، وهى حسنة.
قوله: «في موهم» متعلق بانو، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في، أى: في كلامٍ موهمٍ كذا. وما واقعه على الفعل. وإلغاءَ: مفعول يقال: وَهِمْتُ في الحساب -بالكسر- أَوْهَم وَهَما: إذا غلطتَ. وَوَهَمت إلى الشئ -بالفتح- إذا ذهب وهمُك إليهِ وأنت تريد غيره. وأوهمت غيرى إيهامًا. فَمُوهم هنا المنقولة من وَهِم -بالكسر- أو من وَهَم بالفتح- فانظر في تحقيق التنزيل. هُو قولهُ «لا في الابتدا» أنه إيطاء، إِذْ كرَّر كلمة، وليس منه في الحقيقة لوجهين: اختلاف الكلمة بالتعريف والتنكير. وقد تقدّم وأن الابتداء الأول هو اللغوى والثاني هو الاصطلاحي، وبينهما فرق.
شرع في ذكر التعليق فقال: «والتُزِمَ التَّعْليقُ قبل نَفْىِ ما» .. إلى آخره، فقوله: بيان أن التعليق لازم مع وجود سببه بخلاف الإلغاء فإنه جائز إذا به، كما مرّ، ويعنى أنَّ تعليق هذه الأفعال يكون إذا وقعت قبل هذه الأدوات، وقعت قبلها فلا بدّ أن يكون المفعولا واقعين بعدها، فتفصل الأدوات بين ومعمولاتها، فلا يمكن العملُ مع الفَصْلِ بها، فتقول: علمت أزيدٌ قام أم عَمْرو. ما زيدٌ قائم. ولا تقول: علمتُ أزيدًا قائما أم عمروًا، ولا
: عرفت ما زيدًا قائمًا، لأن هذه الأدوات لها صدرُ الكلام، فلا يصحّ أن يعمل ما قبلها فيما بعدها، ولا ما بعدها فيما قبلها؛ ومن هنا كان التعليق لازمًا لا جائزًا. وأما الإلغاء فإنما يقع لمعنىً يمكن أن يقصد في الكلام الواحد وأن لا يُقْصَد، فهو تابعٌ لقصد، والقصد جائز لا واجب، فكذلك ما تبعه.
وقوله: قَبْل نَفْىِ مَا وَلَا وَإِنْ» .. إلى آخره، عدّ فيه الأدواتِ المعلِّقةَ وجعلها ثلاثة أنواع: أدوات النفى، واللام المؤكدة أو القسمية، وأدوات الاستفهام. فأما أدوات النفي فهى ثلاث:
إحداها: ما، ومثال التعليق بما قولك: علمتُ ما زيدٌ قائم. ومنه قولُ الله عز وجل: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤلاءِ ينطقُون} ، وقال:{قالوا: لقد عَلِمْتَ ما لنا في بناتك من حَقٍّ} .
والثانية: إنْ، ومثال التعليق بها قولك: علمت إن زيدٌ إلا قائم، ومنه في القرآن الكريم:{وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} .
والثالثة: لا، ومثالها: حسبت لا يقومُ زيد. وقد تقدم في لا بحث في كونها مما له صدر الكلام أم لا، ولكن قد قيد ابن الناظم إِنْ ولا هنا بأن يكون الفعل معهما مضمّنا معنى القسم، فإنّ لهما حينئذ صدرَ الكلام.
وأما اللام فهى التى قال فيها «لامُ ابتداءٍ أو قسم» ، كذا. وهذا الكلام أتى به معطوفًا على الكلام الأوّلِ، فحذف حرف العطف معه ضرورة، فلامُ ابتداء:
مبتدأ خبرُه «كذا» ، ولا يصحّ أن يكون «لام» مجرورًا/ عطفًا على «نَفْىِ» ، لأن قوله:«كذا» لا يكونُ له معنًى مفهومٌ. ويريد أن لام الابتداء ولام مثلُ ما وإن ولا في أنهما يُعَلّقان الفعل عن العمل.
فمثال التعليق بلام الابتداء قولك: قد علمتُ لزيدٌ أخوك. ومنه في القرآن: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ} . ومثال التعليق بلام القسم قولك: عَلِمْتُ ليقومَنّ زيدٌ، وقال الشاعر:
وَلَقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتىِ
إِنّ المَنَايا لا تَطيشُ سهَامُها
وأما الاستفهام فقوله: «والاستِفْهامُ ذَا لَهُ انحتَمْ» ، يعنى أن حكم التعليق أيضًا لازم للاستفهام، إذا وقع الفعلُ قبله مَنَع الفعل أن يعمل في لفظ المعمول، كما منع النفيُ واللام ذلك أيضًا. وللاستفهام أدوات، منها: الهمزة، كقولك: عَلِمت أزيدٌ قائمٌ أم عَمْرو. وفي القرآن الكريم: {وَإِنْ أَدْرِي أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعَدُونَ} . وأنشد سيبويه للحارث بن كَلَدَة:
وما أَدْرِي أغيّرهُم تَناءٍ
وطولُ العهدِ أَمْ مَالٌ أصابُوا
ومنها: أىُّ، نحو: علمت أيُّهم قام، قال الله تعالى:{لَنَعْلَمَ أىّ الحزبين أَحْصَى لما لَبِثُوا أَمَدا} ، وقال:{وَلَتَعْلَمُنَ أَيُّنا أشدُّ عذابا وأبقى}
ومنها: مَنْ، نحو قولك: عرفت من زيد، وعلمت من أخوك. منها: ما، نحو: علمتُ ما الأمر، وعرفتُ ما مذهبُك. ومنها: هل، نحو: علمت هل أنت قائم. ومنها: كيف، نحو: عرفتُ كيف زيدٌ. ومنها: أين، نحو: علمتُ أين زيدٌ قاعدٌ. ومنها: ومتى، نحو: علمت متى خروجُك.
وعلى الجملة فأدواتُ الاستفهامِ كلُّها داخلةٌ في هذا الحكم، ولذلك أطلق النظام القول الناظم القول في الاستفهام.
وكما يلزم تعليقُ الفعلِ عن المفعولين معًا، كذلك يلزمُ تعليقه عن الثاني فقط بمقتضى عبارته، حيث لم يقيد التعليق بالمفعولين معًا دون أحدهما، فيشمل كلامُه قولَهم: علمت زيدًا من أبوه، وعلمت زيدًا أبو من هو، وعلمت زيدًا أبوه خالدٌ أم بكر، وعلمت زيدًا أقائمٌ أبوه أم خارج. وماأشبه ذلك.
لكن يبقى النظرُ في زيدِ هل يُعلّق عنه الفعلُ أم لا يجوز فيه إلا النصبُ؟ هذا لم يُصَرِّح فيه الناظم بشئ واضحٍ، وإنما فيه إشعارُ به من قوله:«والتُزِم التعليقُ قبل نَفْى ما» ، وكذا حين بيّن أن الفعل قبل هذه الأدوات معلق عمّا بعدها، فيبقى ما لم يفصل فيه بين الفعل والمفعول بها غير مُعَلّقٍ، ويَرْجِعُ إلى أصل الباب من التزام النصب، هذا مما يُشعر به كلامه إذا ضُمَّ بعضه إلى
بعض.
وهذا المفهومُ فاسِدٌ؛ لأن زيدًا يجوز فيه عند سيبويه والجمهور النصبُ، وهو الأولى، والرفع وليس بضعيف، بل هو قولُ يونس في المسائل كُلِّها. وقد أجاز في التسهيل الوجهين في المسألة واختار النصب، فجعله الأَوْلى متابعًا لسيبويه حيث قال:«وتقول: عرفُ زيدًا أبو من هو، وعلمت عمرًا أأبوك هو أم أبو غيرك، فأعملت الفصل في الاسم الأول، لأنه ليس بالمُدْخَلِ عليه حرفُ الاستفهام. ثم قَوّى النصب، ثم قال: «وإن شئت [قلت]: قد علمت زيدٌ أبو من هو، كما تقول ذلك فيما لا يتعدّى إلى مفعول .. » إلى آخر كلامه. فالوجهان جائزان على الجملة، فصار هذا المفهومُ غير صحيح.
ويجاب عنه أن إطلاق انحتام النصب/ إذا تقدّم الفِعلُ إنما جرى كلامه فيه حين لم يعرض له عارض التعليق، وهذا الموضع الذي نحن فيه لم يَخْلُ من عارض التعليق على الجملة، فلا يجري فيه انحتام النصب، بل يكون من أجل ذلك خارجًا عنه، ولا هو أيضًا قد انحتم عليه أن يكون معلقًا عنه الفعلُ؛ إذ ليس بعد حرف التعليق بل قبله وواليا للفعل بلا فصل، فخرج عن انحتام النصب والتعليق، وصار له لحظان، فمن حيث هو في الواقع والٍ للفعل بلا فَصْلٍ يجب أن ينتصب ومن حي هو في معنى الواقع بعد الأداة يجب أن يعلق، فثبت له اللحظان معًا بكلام الناظم؛ لأنه قال
: والتُزِم التعليقُ قبل كذا، فأطلق، والقبليّةُ قد تكون حقيقيّة وقد تكون حكمية، وذلك بحسب ما يقَعُ من المفعولاتِ بعد الأداة. وقال أيضا:«انصبْ بِفِعْل القَلْبِ جزأى ابتدا» ، فأوجب النصب مع عَدَم المُعَلِّق، وعدمُه قد يكون حقيقةً. وقد يكون حُكْمًا، فقد اجتمع الأمران في قولك: علمتُ زيدًا أبو من هو، فافهم ذلك، إلا أنّ الناظم اكتفى [هنا] بالإشارة اتكالًا على فهم الناظر في كتابه. وهذه مسألةٌ مما يتعلق بكلامه.
ومسألة ثانيةٌ، وهي أنّ قوله:«والتُزِم التعليقُ قبل» كذا، فيه تنبيه على أنه لا يكون الحكمُ إلا ملتزمًا فلا تظنّ أنه جائز، ولا أنه قد يأتى في الكلام خلاف ذلك، وإن جاء ما يتوهّم فيه ذلك، كقولهم: قد عرفتُ أبا مَنْ زيدٌ مكنّى، فأبا يُتَوهّم أنه منصوب بعرفت، وليس كذلك. بل هو منصوب بمكنى، قال سيبويه: «كأنك قلت: أبا مَنْ زيدٌ مَكْنِىّ، ثم أدخلت عرفت عليها، يعنى: فلو كان منصوبًا بعرفت لوجب رفعه إذا أسقطت عرفت. ومثل ذلك: علمت أأبا زيد تُكنى [أم] أبا عَمرْو، وكأنك قلت: أأبازيد تكنى أم أبا عمرو، ثم أدخلت عليه علمت، كما أدخلت عليه حين لم يكن ما بعده إلا مبتدأ، نحو: علمت أزيد قائم أم عمرو. ومثل ذلك: علمت أبا من رأيت قائمًا، فأبا منصوب برأيت لا بعلمت، بدليل أنّك تقول: أبا من رأيت قائما؟ من غير أن تدخل علمت. وتقول: علمت أَىّ يومٍ الجمعةُ، فتنصب أىّ يومٍ على الظرفية لا على النصب
بعلمت، وإن شئت قلت: علمت أىُّ يومٍ الجمعة فرفعتَ أىُّ. وقد قالت العرب: «قد علمت أىّ حين عقبتى» ، وأىُّ حينٍ عقبتي. ومثل هذا أيضا -كثير ومنه قوله تعالى:{وسيَعْلَمُ الّذِين ظَلَمُوا أَىّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، فأىّ منصوب ينقَلبوه، لا بسيعلم. ومن قال: عرفت زيدًا أبو من هو، فنصب زيدًا [قال: قد عرفتُ زيدًا؟ ] أبا من هو مكنىْ، وعلمتُ زيدًا أي يوم وقته، فهذا كله مُنّبَّه عليه بقوله:«والتُزِم التعليقُ» .
ومسألةٌ ثالثة، وهى أنه إنما قال:«قبل نفي ما» وكذا، فقيد وجوب التعليق بكون الفعل قبل المعلِّق، ولم يقيّده بكون المفعول بعد المعلِّق، فيها على أن المعلِّق فيه يكون قبل المفعول حقيقة، كقولك: علمت هل زيدٌ قائم، وقد يكون قبله حكما لا حقيقة، ويلزم التعليق، كالمضاف إلى اسم الاستفهام، كقولك: علمت أبو مَنْ زيدٌ، فَأَبُو لم يقع قبله المعلِّق وإنما وقع بعده، إلَّا أنّه اكتسى منه حكم الصدرية بسبب الإضافة إِليه، فهو في الحكم واقع بعد المعلّق، وعلى هذا تقولُ: علمتُ غلامُ أيّهم زيد، وقد يكون لا قبله ولا بعده، بل المفعول هو المعلِّق المُعَلَّ، وذلك إذا ضُمِّن معنى الأداة المعلِّقة، كقولك: علمتُ أَيُّهم قائم،
وسائر أسماء الاستفهام، فليس وقوعُ المفعول/ بعد المعلِّق بمطّررد، فلو قال مثلا: والتزم التعليق إذا دخل على المفعول أداةٌ مُعَلِّقة، لم يطّرد، فما عبّر به هو الأولى، ومن ثم تستشعر الإشارة إليالوجهين في: عرفت زيدًا أبو من هو. والله أعلم.
ومسألة رابعة وهي: أنه لم يذكر في أدوات التعليق إنّ، وقد جعلوها من الأدوات المعلّقة نحو: علمتُ إنّ زيدًا لقائم، فيظهر أنّ ذلك مما نقصه. ولكن يجاب عن ذلك بأنّ إنّ المؤكدة إن كانت اللام في خبرها فاللام هي المعلقة في الحقيقة، لأنها منويّة التقديم، كما تقدّم في باب إن، فدخلت تحت قوله:«لامُ ابتداٍ» ، وإن كانت غير مؤكدة باللام فل تقع معلقة عند جمهور النحويين. وحكى الفارسىّ عن المبرّد أَنّه أجاز كسر إنّ في قوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنّ الذينَ كَفَرُوا إِنّما نُمْلِي لهم خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} ، على أن يكون إنّ كاللام وهي قراءة يحيى بن وثّاب. وهذا المذهب مرجوح لقَلّة ما جاء من ذلك. وقد ضعّف سيبويه أن تقول: علمتُ إنّ زيدًا ذاهبٌ، من غير لام، كما ضَعّف قولك: علمت زيدٌ خيرٌ منك وجعل الجميع على إرادة اللام، فكذلك تكونُ الآية على مذهبه، وإذا كان كذلك دخل ذلك تحت قوله:«لامُ ابتداءٍ» ، وكأنه يقول: لام الابتداء معلّق ملفوظًا بهًا وقمدرة. ووجه الفارسى القراءَة في كتاب الإِغْفَال بتشبيه إنّ باللام في أنها تقد صدرًا، وأنها للتأكيد، وقد يُتَلَقّى
بها القسم، فعاملها معاملة اللّام شذوذًا. وقد مرّ الكلام على تلقىّ القسم بها دون اللام في قوله:
بَعْدَ إِذا فُجاءَةٍ أو قَسَمِ
لا لَامَ بَعْدَه بِوَجْهَينِ نُمِى
وبالله التوفيق
* * *
(ثم قال):
لِعِلْمِ عِرْفَانِ وَظَنِّ تُهَمَهْ
تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ
عادة النحويين هنا جاريةٌ بأن يَتحرَّزوا من الاستعمالات الجارية في هذه الأفعال؛ إذ هي تُطْلَق بالاشتراك على معانِ أُخَر، فتخرج إذ ذاك عن حكم هذا الباب، وإنما تادخلُ فيه إذا أطلقت على معانٍ مخصوصةٍ، وهي راجعة إلى معنى العلم والظن، فأراد الناظم التنبيه على نحوٍ مما نَبَّهوا عليه لئلا يُفْهم من كلامه ما لا يصح. فيعنى أن العلم إذا كان بمعنى العرفان تعدّى إلى مفعول واحد لزومًا، ولا يجوز أن يتعدّى إلى اثنين وهو بذلك المعنى. وكذلك الظن إذا كان بمعنى التُّهَمِة تعدّى إلى واحدٍ أيضًا لزومًا، وذلك قوله:«تَعْدِيةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَه» . وإنما كان كذلك لأن عرف يتعدّى إلى واحدٍ، تقول: عرفتُ زيدًا، وكذلك اتهم يتعدّى إلى واحد تقول: اتهمتُه؛ قال تعالى: {وَمَا هَوَ عَلَى الغَيْبِ بِظَنِينٍ} ، أي: بمتهم. فإذا صار غيرهما من الأفعال يُوَدِّى معناهما إما
بالأصالة وإما بالتضمين، لزم أن يتعدى تعدِّيهما، فتقول في علم بمعنى عرف: علمتُ زيدًا، وتقتصر، أي: عرفتهُ. قال الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهم لا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُم} ، وقال تعالى:{أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يعلَمُونَ شَيْئًا ولا يهتَدُونَ} . وتقول في ظنّ بمعنى أتَههم: ظننتُ زيدًا، أي: اتهمتُه، ومنه الآية المتقدمة. والفرق بين العلم والعرفان أن العلم يرجع إلى ذات المعروف وصفاته وأحواله، والعرفان/ راجع إلى ذاته خاصّةً؛ فالعلم في تعلقه بالمعلوم عام، والعرفان في تعلقه بالمعروف خاصّ. فإذا صار لفظ العلم إلى معنى لفظ العرفان صار خاصًا مثله.
وقوله: «لِعِلْم عِرْفانٍ وَظَنَّ تُهمه» خبر المبتدأ الذي هو: «تَعديةٌ» .
فإن قيل: إن أفعال هذا الباب -كما ذكر- مستعملة على وجهين:
أحدهما: أن تكون معانيها راجعةً إلى الظنّ والعلم في أصل وضعهما، فيتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وهي ما تقدَّم شرحُه أَوَّلَ الباب.
والثاني: أن تكون بمعنى أفعالٍ أُخَر، فلها إذ ذاك من التعدّى أو اللزوم ما لأفعالها التي تضمّنت معانيها. وهذا فيها معلوم أيضَا ومشهور، فرأي بمعنى أبصر تتعدى إلى واحدٍ، كما تتعدّى أبصر، فتقول: رأيت زيدًا بمعنى أبصرته، وكذلك رأيته بمعنى أصبت رئته، يتعدّى تعدِّيهُ، ورأيت رأيًا بمعنى اعتقد. ووجد بمعنى أصاب،
وحَسِب من الحُسبان، وزعم بمعنى ضَمِن، وعدّ من الحسبان أيضًا، وحجا بمعنى يغلب في المحاجاة، ودرى بمعنى خَتَل، يقال: درى الذئب الصيد: إذا استخفى له ليفترسه، وجعل بمعنى خلق، . كلها تتعدى إلى ما تعدّت إليه الأفعال التي تضمنت معانيها. وقد تكون مؤدّيةً معنى ما لا يتعدّى، نحو حجا فإنها قد تكون بمعنى: بخل، وبمعنى أقام. وزعم قد تكون بمعنى هزل، وعلم قد تكون بمعنى انشقت شفته فهو أَعْلَمُ، ووجد بمعنى استغنى أو غضب أو حزن، وحسب بمعنى آحمرّ لونه وابيضّ كالبرص، وخال الفرسُ بمعنى ظَلَعَ، أو بمعنى عجب أيضا. وما أشبه ذلك، فلا تتعدّى كما لا تتعدّى الأفعال المرادفة لها. وعلى هذين فليست من هذا الباب. والناظم قد ترك التنبيه عليها كُلِّها إلا علم بمعنى عرف، وظن بمعنى اتهم، فيبقى سائرها داخلًا تحت إطلاقه في جميع استعمالاتها، ذلك غير صحيح. وغاية ما يخرج له دون هذين الفعلين جعل؛ إذ قال فيها:«وَجَعَلَ اللّذ كَاعْتَقَدْ» ، وهَبْ وَتَعْلّمْ؛ إذ جعلهما من الباب وقَيّدهما بعدم التصرّف، فاقتضى لزومهما معنًى واحدًا، وهو الذين ذكره وما عداها مُشكلٌ إطلاقه فيه.
فالجواب: أنّ الناظم رحمه الله قال أولا: «انصِبْ بعفل القْلب جزءي ابتدا» ، فقيّد الفعل الناصب لجزأى الابتداء بكونِه فِعْلَ قلب، ثم فسّرها،
قال تدخل تلك الأفعال المذكورة في كلامه إلا إذا كانت أفعال قلوب، وكل ما ذكر فيها من المعاني المشتركة فليست إذا دلت عليها بأفعال قلوبٍ البتّة إلا علم بمعنى عرف، وظن بمعنى اتّهم، فإنهما من أفعال القلوب، كما أن عرف واتّهم من أفعال القلوب، وليستا من هذا الباب إذ لا تتعدّى إلا إلى واحدٍ، فكان من الواجب أن يُنَبِّه عليهما ويخرجهما عن الباب لئلا يتوهم دخولهما في جميع ما تقدم. ولم يلزمه أن يستثنى غيرهما من الأفعال إذ لا تكون من أفعال القلوب إلا وهي داخلة، ولا تكون على غير ذلك إلّا وهي غير مرادةٍ لقوله:«انصِبْ بفعل القلب» . وهذا حسن من التعبير، وتخلّصً بأقلِّ عبارة من التطويل، المُمِلِّ، وإذا وازنت بين عبارته في التسهيل وهذا النظم عرفت فَرْقَ ما بينهما.
وإنما الوارد عليه بلا بدِّ رأى بمعنى اعتقد؛ إذ هو فعلٌ قلبي، وهو عنده متعدٍّ إلى واحدٍ، فكان الواجب عليه أن يخرجه مع عِلْمِ العرفانِ وَظن التُهمَة فإنه مثلهما في الحكم الذي ذكر.
ولا جواب عنه إلا أن يقال: إنه رأى هنا رأي من يقول: إنّه يتعدّى إلى اثنين. وهو مذهب كثير من الناس حسبما يظهر من نَقْلِ الأبّذي. ويدلّ على صحة هذا عند الناظم عدّة من أخوات ظنّ جَعَل بمعنى اعتقد. وإنما حُكِي القولُ بتعدِّيها إلى واحد عن الفارسي وتلميذه، قالاه في قول السّموألِ:
وَإِنّا لقومٌ ما نَرَى القَتْل سُبّةً
إذا ما رأتْه عامرٌ وسلولُ
قالا: سُبَّةً حال، ولو كان مفعولًا ثانيًا لقال: إذا ما رأته عامر وسلول سُبّةً أو اياها. قالوا: ولا دليل فيه لاحتمال حذفه اختصارًا، وإذا كان كذلك فقد دخلت رأى في كلامه أولًا على معانيها الثلاثة، والله أعلم.
فإن قيل: إذا كان كما قلت لزم من إخراجه هذه الأفعالَ وأشباهها ألّا يكون فيها حكم من أحكام هذا الباب، وليس كذلك؛ فإنّ عَرَف وعَلِم بمعناها يدخل فيها التعليق، وليس من أفعال هذا الباب، كما يدخل في رأى بمعنى أبصر ونظر وتفكر، ونحو ذلك، فتقول: عرفتُ أَيُّهم قائم، وعلمت أيُّهم قائم -بمعنى عرفت- نصّ على ذلك سيبويه وغيره.
فالجواب: أنه لم يقل في علم إنه خارج على أحكام هذا الباب جملةً، وإنما ذكر أنه يتعدى إلى واحد، وقال أولا: انصِبْ بفعل القلب، كذا، ثم ذكر ما يتعلق بها من إلغاء وتعليق، وغيرهما. فليس في الكلام أولًا وآخرا ما يقضى في عَرف وعَلِم وغيرهما مما يَتَعلّق حكما بعدم ذلك، بل هي مسكوت عنها، ونحن لا نؤاخذه بما سكت عنه من مسائل النحو ولا فصوله، بل ولا من أبوابه؛ إذ لم يَبْنِ على استيفاء أحكام الكلام كلها، وإِنّما تصدّى للقوانين المشهورة. ولعمري لقد ترك بابين عظيمين ضروريين، وهما باب القسم وباب التقاء الساكنين، وسيُنَبّه عليهما إن شاء الله آخر الكتاب.
ولما كانت رأى الحُلُمية داخلةً في أفعال هذا الباب، مع أنها ليست بفعل قَلبٍ بإطلاق، خاف أَن يُتَوهم أنها ليست منه، فاستدركها بقوله:
وَلِرَأي الرُّؤْيا انّمِ مَا لِعَلِما
طَالِبَ مَفْعُولَين مِنْ قَبْلُ انْتَمىَ
يعني أن رأى التي بمعنى رؤيا النوم -وتسمى الحُلُمية لأنها منسوبة إلى الحُلُم. وهو ما يرى النائم- لها من الحكم مثلُ ما لعَلِمَ التي تطلب مفعولين حسبما تقدّم ويأتى، فيتعدى رأى الرُّؤيا إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فتقول: رأيتُ في النوم زيدًا صديقك. ومنه قولُ الله تعالى: {قال أَحَدُهما: إني أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} .
وأضاف الفعل إلى الرؤيا تعريفًا لرأى بالمصدر الذي هو مختصٌّ بالنوم؛ فإن الرؤيا لا يكن مصدرًا إلا لرأى التى تُستَعمل في النوم. و «لرأى» متعلِّق بقوله: انم»./ وقوله: «لِعَلِمَ» و «من قبل» متعلقان بانتمى. وطالب مفعولين: منسوب على الحال من علم، لأنه اسم عَلَمٌ للفظ، والتقدير: انم لفعل الرؤيا ما انتمى لعَلَمَ من قبلُ، حالة كون علم طالب مفعولين. وإنما قيّد عَلِمَ بقوله: طالب مفعولين، لأنّه قدم لها استعمالين، استعمالًا على أصلها، وآخر تعدّى فيه إلى واحدٍ، فلو أطلق اللفلظ في علم لكان يتوهّم رجوعه إلى علم المتعدّية إلى واحد، لأنها أقرب مذكور. ويقال: نَمى الحديث والخبر: إذا فشا وشاع، ونَمَيْتُه أنا: إذا أَشْهَرته وأظهرته. فقوله: «انم» هو من المتعدى، ومنصوبه ما، أي: اشتهر لرأى المذكورة ما انتمى واشتهر لعلم ذات المفعولين. وانتمى: مطاوى نمى، كشهرت الحديث فاشتهر.
فإن قيل: قولُه «انمِ ما لعلم» قد اقتضى بعمومه أن يُنْمَى لرأى الرؤيا جوازُ الإلغاء ودخولُ التعليق، كما اقتضي تعدّيها إلى المفعولين؛ إلا أنّ ذلك عند المؤلف غير صحيح، ألا تراه في التسهيل خصّ دخول
الإلغاء والتعليق بأفعاللقلب حيث قال: «وتسمّى المتقدمة على صَيَّر قلبيةٌ» .. إلى آخره، فأخرج رأى الحُلُمية عنها إِذْ لم يذكرها معها، وذكر تخصيص أفعال القلب بجواز الإلغاء على الجملة، ثم ذكر أنها تختصّ أيضًا بالتعليق، فلا يكون إلا فيها وفيما أشبهها مما ذكر، فأخرج رأى الحلمية من ذلك بالكلية. وفي الشرح ما يساعد على ذلك، فكيف يأتى هنا بعبارة تعمّ جميعَ الأحكامِ المذكورة؟ ألا تراه قال بعد شرح معنى الإلغاء والتعليق: ولا يكونان إِلّا في فِعْلٍ قلبي متصرّف؟ فالحاصل أن هذا التعميم معترضٌ.
فالجواب: أن النحويين قلّما نجد منهم من يذكر هذه المسألة بخصوصها، والظاهر في القياس جوازُ الإلغاء فيها والتعليق أيضًا؛ أما الإلغاء فلا يتعد أن يخبر الإنسان بخير يطلقه وإنما مستنده فيه النوم فيقول: زيد قام، أو عمروٌ أكرمني، ويريد في النوم. وعلى هذا يقول: رأيت زيدًا قام، ورأيت عمرًا أكرمني، إذا قصد الإعمال، كما قال يوسف عليه السلام:{يا أبَتِ، إِنِّي رأيت أحد عَشَر كوكبًا والشمس والقمر رأيتُهم لي ساجدين} . فإذا قصد إطلاق الخبر ثم استدرك قال: زيدٌ -رأيتُ- أكرمنى، وزيدٌ أكرمني، رأيت- وما أشبه ذلك. إلّا أنّ مثل هذا القصد في الإخبار قليل الوقوع، وقِلَّتُه لا تخرجه عن القياس. وأما التعليق فكذلك أيضَا إذا قال: رأيتُ ما زيدٌ قائم، إذا رأى في النوم مقتضى هذا الخبر، ومثله: رأيتُ متى زيدٌ منطلقٌ، ورأيت أزيدٌ أخوك أم عمروٌ. وهذا لا مانع منه في القياس؛ فقد يمكن أن يكون الناظم
قاصدًا لذلك ولا سيّما وليس في كلام العرب ما يردّه، فالوجه أن يقال به. وقد قَصَر ابنُه بدر الدين في شرح هذا النظمِ معنى الكلام على التعدّى إلى المفعولين، فطالِعْه ثَمَّةَ.
* * *
(ثم قال):
وَلَا تُجِزّ هُنا بِلَا دَلِيلِ
سٍقُوطَ مَفْعُولَينِ أو مَفْعُولِ
هنا: إشارةٌ إلى الباب المُتَكَلِّم فيه، يعني أنه لا يجوزُ في هذا الباب حذفُ المفعولين معًا من غير دليل، / ولا حذف أحدهما [أيضا] من غير دليل، فلا تقول في -ظننت زيدًا أخاك-: ظننت، وتقتصر، ولا: ظننت زيدًا، وتقتصر، ولا: ظننت منطلقا، أو أخاك، وتقتصر.
فأما امتناع الاقتصار على أحدهما دون الآخر فمتفق عليه؛ لان المفعولين هنا أصلهما المبتدأ والخبر أن تأتي بالمبتدأ دون الخبر ولا بالخبر دون مبتدأ، فكذلك لا يجوز بعد دخول الناسخ؛ إذ من شرط الحذف أن يبقى على المحذوف دليل.
وأما امتناع حذفهما معًا والاقتصار على الفعل والفاعل دونهما من غير دليل فمسألةٌ مختلف فيها؛ فذهبت طائفة إلى جواز ذلك منهم ابن السرّاج والسيرافي، وذهبت طائفة أخرى إلى المنع من ذلك، منهم ابن خروف وشيخهُ ابن طاهر، وهو الذي ارتضى الناظم هنا وفي
التسهيل وغيره. وكلامُ سيبويه قد تعلّق به الفريقان معًا. والدليل على ما ذهب إليه الناظم أنّ القائل: ظننت، ولا يخلو أن يكون قصدُه الإخبارَ بمجرد وقوع الفعل فقط، أو الإِخبار به وبما وقع من الجمل، فإن كان القصدُ الأولَ فلا يصحّ؛ إذ المخر بأنه وقع منه ظنٌّ أو علم بمنزلة المخبر بأنّ النار حارة في عدم الفائدة؛ إذ لا يخلو إنسان من ظنٍ مّا أو علمٍ ما، كما لا يخلو إنسان مّا من قيامٍ مّا، والعربُ لا تتكلّم بما لا فائدة فيه: وإن كان القصد الثاني فقد تنزّل الظن من الجملة منزلة قولك: في ظني، فكما لا يجوز لمن قال: زيد منطلٌ في ظني، أن يقتصر على: في ظنى، كذلك لا يجوز لمن قال: ظننتُ زيدًا منطلقًا أن يقتصر على ظننت؛ لأن ذلك نقضُ الغرض. ويظهر هذا المذهبُ من سيبويه في أبواب الضمائر، ولكن ليس بنصٍّ، وإن كان الفارسي وابن خروف قد اعتمداه كالنصّ في منع هذا الاقتصار. وللكلام في بيان رأي سيبويه، والجمع بين ما قال هناك وما قال أول الكتاب، موضعٌ غير هذا. وقد حكى مما يدلّ على الجواز قولهم: من يسمع يَخَلْ، وقولهم: ظننت ذاك، وظننتُ به. وهذا على رأي الناظم ومن وافقه مسموعٌ ومؤوّل.
ولما قال هنا: «بلا دليلِ» اقتضى مفهومُ هذا القيد أنه إن حُذِفا معًا أو أحدهما بدليل جاز، ولا ينبغي أن يُختلف فيه. وقد حُكِى عن ابن ملكون المنعُ منه، والسماع والقياس يردّان عليه، فممّا حُذِف فيه المفعولات معًا
اختصارًا قولُ الكُميت:
بأىّ كتابٍ أَمْ بأيّةِ سُنَّةٍ
ترى حُبّهم عارًا علىّ وتحسِبُ
أي: وتحسِبُ حُبّهم عارًا. ومنه أيضَا قولُ الله سبحانه: {والله يَعلمُ وأَنتمُ لا تَعْلَمونَ} ، وقولُه:{أعندَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُو يَرَى} . وإنما حُذِفالعموم العلم بالمحذوف، أي: يعلم الأشياء كائنةً، أو ما في معنى هذا التقدير. وكذلك:(فهو يَرَى)، أى: يرى ما سَمِع باطلا، أو: يرى الجزاء غير كائن، أو: يرى الأشياء أو ما يعتقده ويفعله حقًا وصوابًا -وكذلك قدّره ابن خروف- أو غير ذلك مما يعطيه معنى ما تقدّم من قوله: {وَأَعْطَى قليلًا وَأَكْدَى} ، فليس مثل هذا خارجًا عن هذا الأصل الذي أَصَّله الناظم؛ لأن عموم العلم بالمحذوف يُبِينهُ؛ ألا ترى إلى حذف خَبَر ما بعد لولا، وحذفهم متعلّق الظرف والمجرور إذا وَقَعا/ خبرين، وما أشبه ذلك، فكذلك ما نحن فيه.
ومما حذف فيه أحد المفعولين اختصارًا قول الله تعالى: {ولَا يحسبنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فَضْلِهِ هو خيرًا لَهُم} ، قالوا:
التقدير: البخلَ هو خيرًا لهم، فحذف لدلالة الفعل عليه، وقال عنترة:
وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّى غَيْرَهُ
مِنّى بِمَنْزَلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أى: فلا تظنِّى غيره كائنا. وقاله الآخر:
كَأَنْ لَمْ يَكُن بَيْنٌ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ
تَلَاقٍ، وَلَكِن لَا إِخَالُ تلاقيا
قدّره المؤلف: لا إخال الكائنَ تلاقيا، ثم حذف الأول. وقدره غيره: لا إخال تلاقيًا كائنا، أو لا إخالُ ثَمَّ تلاقيًا. ثم حذف الثاني، وكلامه يدلّ على عموم اختصاص الحذف بأحدهما دون الآخر، فمن سأَلَ: أتظن زيدًا قائما؟ أجاز أن يقال له: ظننت زيدًا، وأن يقال له: ظننتُ قائمًا، وأن يقال له: ظننت، كل ذلك سائغ، والله أعلم.
* * *
(ثم قال):
وَكَتَظُنّ اجْعَلْ «تَقُول» إِنْ وَلِى
مُسْتَفْهَمًا بِهِ وَلَمْ يَنْفصِلِ
بِغَيرِ ظَرفٍ أَوْ كَظَرفٍ أو عَمَلْ
وَإِنْ بِبَعْضِ ذِى فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ
وَأُجْرِى القَوْلُ كَظَنٍّ مُطْلَقَا
عِنْدَ سُلَيم، نَحْو «قُلْ ذا مُشْفِقَا»
هذا الفصلُ يذكر فيه إلحاق القول بالظنّ في العَمَل في جزأَىِ الابتداء والخبر، فذكر أوّلًا لغة الجمهور من العرب في ذلك، وأنهم يلحقون القول بالظن بأربعة شروط، شرطان مصرّح بهما في كلامه:
أحدهما: أن يلى مستفهما به، وذلك قوله: إن ولى مستفهما به، والضمير في وَلِى عائدٌ على فعل القول وهو تقولُ المذكور. والمستفهم به هو أداة الاستفهام، ولم يقيّده بأداة دون غيرها، فاقتضى الإطلاق في جميع أدوات الاستفهام، فتقول: أتقول زيدًا صاحبك؟ وهل تقول زيدًا صاحبك؟ ومتى تقولُ زيدًا منطلقًا؟ وأنشد سيبويه لابن أبي ربيعة للخَلِيطِ:
أما الرَّحيلُ فدونَ بَعْدَ غَدٍ
فَمتَى تَقُولُ الدارَ تجمعُنا؟
بنصب الدار. وأنشد غيره:
متى تَقُولُ القُلُصَ الرّواسما
يَحْمِلْنَ أم قَاسِمٍ وَقَاسما؟
وكذلك «ما» إذا قلت: ما تقول زيدًا فاعلًا؟ ومنه فى الحماسة لعمرو بن معد يكرب:
علامَ تقولُ الرُّمحَ يُثْقِلُ عاتِقِى
إذا أنا لم أطعُنْ إذا الخيلُ كرَّتِ؟
يُرْوى بنصبِ الرمح. وعلى ذلك تقولُ: أينِ تقول زيدًا قاعدًا؟ وأىّ رجل تقولُ زيدًا مكرمًا؟ وما أشبه ذلك، فلو لم يتَقدّم الاستفهام لم يَعملِ القولُ، بل يرجع إلى الأصل فيه وهو الحكاية -إلا فى لغة سليم- فتقول: قلت: عَمرُو منطلق، وتقول: زَيدُ أخوك.
والثانى: أن تكون أداة الأستفهام متصلة بالفعل، أو فى حكم المتّصل، وذلك قوله: ولمَ ينْفَصِلِ بغير كذا، يريد أَنّ الفعل لا يخلو أن ينفصل من الاستفهام أولا، فإن لم ينفصل فالإعمال لوجود الشرط. وإن انفصل الفعل من الاستفهام فإما بظرف أو مجرور أو عَمَل أو بغير ذلك، فإن انفصل بأحد الثلاثة فهو مُفْتقَر لأنها معمولاتُ القول أو معمولات معمولاته، والمعمول إذا تَقَدّم على العامل فهو فى نيّة التأخير، فكأنك حين قلت: أفى الدار تقول زيدًا، وأزيدًا تقول قائمًا؟ وأقائما/
تقول أخاك؟ إنما قلت: أتقول زيدًا فى الدار؟ وأتقول زيدًا قائمًا؟ وأتقول أخاك قائمًا؟ وكذلك إذا قلت: أفى الدار تقول زيدًا قاعدًا؟ وأعندك تقول زيدًا ساكنا؟ فكأنك قلت: أتقول زيدًا قاعدًا فى الدار؟ وأتقول زيدًا ساكنا عندك؟ فالاتصال حاصِلُ. وإن انفصل بغير ذلك فلا يجوز الإعمال عَمَلَ الظّنّ، وهو معنى قوله:«ولمَ ينْفَصِلِ» من الاستفهام، فلو قلت: أأنت تقول زيدٌ منطلق؟ فلا بدّ من الرفع على الحكاية بالقول، قال سيبويه:«لأنك فصلت بينه وبين حرف الاستفهام، كما فَصَله: أأنت زيدٌ مررتَ به، فصارَتْ بمنزلة أَخَواتِها، وصارت على الأصل» . يفى صار زيد يختار فيه الرفع، كما كان زيدُ مررت به كذلك، لان الاستفهام قد انفصل منه، فلم يكن داخلًا عليه، فلم يكن ثَمّ طالبُ للفعل، فكذلك فى أأنت تقول، ليس الاستفهام بداخل على الفعل فَيَحْدُثَ فيه معنى الظن، فلم يصلح أن يعملَ عمله؛ إذ كان عملُه عَمَلَ الظّن تابعًا لأدائه معناه، فقولك: أتقول زيدًا أخاك، إنما معناه معنى: أتَظُنُّ زيدًا أخاك. ومن هنا يُجعَلُ قول الناظم: «ولتَظنُّ اجعل تقولُ» ، يريد: اجعله مثله مطلقا فى المعنى والعمل.
فهذان هما الشرطان المصرّحُ بهما فى كلام الناظم. وأما الشرطان غير المصرّح بهما فمشارُ إليهما بالمثال، وهو قولُه:«ولتَظن اجعل تقولُ» .
أحدهما: أن يكون فعلُ القول مضارعًا، كأنه قال: اجعل هذه الصيغة المعيّنةَ مثل تظن، فيخرج عن ذلك الفعلُ الماذى وفعلُ الأمر، فلا يجوز أن
يقال: أقلتَ زيدًا أخاك؟ ولا: قُل زيدًا أخاك؟ لأنه لم يبلغ من قوة القول فى تضميه معنى الظن وإعماله عمله أن يكون ذلك فى كل موضع. وإنما كان ذلك فيها فى موضع واحد وهو المضارع، فصار كما الحجازية لا تعمل فى كل موضع، قال سيبويه:«ولم يُجْعَلْ «قلتُ» كظننتُ لأنها إنّما أصلها عندهم أن يكون ما بعدها محكيا، فما دخلت في باب ظننتُ بأكثر من هذا، كما أنّ «ما» لم تقو قوّة ليس، ولم تقع فى جميع مواضعها، لأنّ أصلها أن يكون ما بعدها مبتدأً».
والثانى: أن يكون مُسْنَدًا إِلى المخاطب، هو ما دلّ عليه المثال فى قوله:«اجعَلُ تقولُ» ، كأنه قال: بشرط أن يكون مسندًا إلى ضمير المخاطب، فلا يجوز إعمال المضارع المسند إلى ضمير متكلّم ولا غائبٍ، فلا يقال أأقول عمرًا منطلقًا؟ ولا: أيقول زيدُ عمرًا منطلقا؟ بل الحكاية. واجبة؛ ووجه ذلك أن الإعمال إنما يكون مع فعل المخاطب إذا استفهمتَه عن ظنِّه، فأكثر ما يقول الإنسان لمخاطبه: أتقول كذا؟ وما تقول في كذا؟ يريد: ما تعتقد؟ وإلى أَيْشٍ تذهب؟ وكثر هذا المعنى فَأجروا مجْرِى الظنِّ؛ فإذا قالوا للمخاطب: أيقول زيدُ كذا؟ حَكَوا؛ إذ لم يكثر أن يُستفْهم المخاطبُ عن ظن غيره، هذا معنى تعليل سيبويه. ومثلُ ذلك استفهامُ الإنسان عن ظن نَفْسِهِ، لا يكادُ يوجدُ. فهذا كمال الشروط الأربعة، وهى غاية ما اشترطه الناسُ.
ثم قال: «وَإِن ببعضِ ذِى فَصَلْتَ/ يُحتَملْ» ، ذى: إشارة إلى ما
تَقَدّم له قريبًا، وهو الظرفُ وشبهه، وهو الجارّ والمجرورُ، والعملُ، ويريد به معمول القول، أطلق عيه مجازًا، وكأنه على حذف مضاف، أى: أو ذى عمل. وإتيانه بإشارة المؤنث، لأنها مما يُشار بها إلى الجماعة. والمتقدم له قريبًا ثلاثة أشياء، فلو قال: ببعض ذا، لتوهم أنه أراد بعض المعمولات، وأنه لم يُرِدْ الظرف ولا المجرور، وذلك فاسدُ، فأتى بما يُعطى شمول الثلاثة. ويعنى أنك إن فَصَلْتَ بين الاستفهام وفِعْلِ القول ببعض هذه الأشياء، بظرف، أو بمجرور، أو بمعمولاتِ القولِ، احتُمِلَ ذلك فى صحة الإعمال فلم يقدح فيه. فمثال الفصل بالظرفِ قولَكَ: أكلّ يوم تقول أخاك منطلقا؟ وأنشد فى الشرح:
أبَعْدَ بعد تقولُ الدارَ جامعةً
شَمْلِى بِهِمْ، أم دوامَ البُعْدِ مَحْتوما؟
ومثال الفصل بالمجرور قولك: أفى الدار تقولُ زيدًا قائمًا؟ ومثال الفصل بالمعمول قول الكميت:
أَجُهَّالًا تقولُ بنى لُؤَىّ
لَعَمْر أَبيكَ أم مُتَجاهِلِينا؟
ويروى: أنُوَّاما أم متناومينا؟ فالفصل بهذه الأشياء كلا فصلٍ، قال سيبويه -فى قولك: أكل يوم تقولُ عمرًا منطلقا؟ -: «لَا نفْصِلْ بها كما لَا
تفْصِلْ بها في قولك: أكلَّ يَوْمٍ زيدًا تضربه: ، يعنى أنها لم تغيّر اختيار النصب فى زيدٍ لأجل الفصل، فكذلك هاهنا.
ومثال ما اجتمعت فيه الشروط قولك: أتقول زيدًا أخاك؟ ومتى تقول عمرًا صديقك؟ وأنشد سيبويه لعُمَر بن أبى ربيعة:
أَمَّا الرحيلُ فَدُونَ بَعْدِ غَدٍ
فِمتى تقولُ الدارَ تَجْمَعُنا؟
بنصب الدار. وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدى، وهو من أبيات الحماسة:
عَلَام تقولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتِقِى
إذا أنا لمْ أطعُن إذا الخيلُ كرّتِ؟
يروى بنصب الرمح ورفعه، والرفع على الرجوع إلى الأصيل من الحكاية، والنصب على إعمال القول. وقول الآخر:
متى تقولُ القُلُص الرَّواسِمَا
يَحْمِلْنَ أُمُّ قاسِمٍ وقاسما؟
وهو كثير.
ثمَّ قال: وأجرى القولُ كظَنٍ مطلقا .. عند سلِيمٍ»، سليم: قبيلة من
قيس عيلانَ، وهو سُلَيم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفة بن قيس بن عيلان. وسُلَيم أيضًا: قبيلة فى جُذَام من اليمن.
ويعنى أن القول فى لغة سُليم يجرى مجرى الظنّ بإطلاقٍ من غير تقييد بشرطٍ من الشروط المذكورة فى غيرهم، فسواءُ أكان الفعل ماضيا أو مضارعا أو أمرًا، ولذلك مثّله بالأمر فقال:«نحو: قُلْ ذا مشفقًا» ، وسواءُ تقدّمه استفهام أم لا، فتقول: قلت زيدًا قائمًا، ولا أقولُ عمرًا قاعدًا، وأنشدوا:
قَالَتٍ -وكنتُ رجلًا فَطِينا: -
هذا -وربّ البيت- إسرائينا
فنصب إسرائين بقالت مفعولًا ثانيا، جعل اسم الإشارة المفعول الأوّل. وإسرائين: لغة في إسرائيل.
وعلى هذه اللغة حمل فى الشرح ما أنشده الفارسىّ فى التذكرة وغيرُه، من قولِ الحُطَيئة:
إذا قُلتَ أَنِّى آيب أهلَ بلدةٍ
حَطَطْتُ بها عنه الوَلِيَّة بالهَجْرِ
بفتح أنّ، وذلك يقتضي الإعمال، وقد تأوّله الفارسي على غير لغة سُليم بأنّ جعل القول بمعنى الظن، قال/: ومعناه: إذا قَدَّرت وظننت أنِّي آيب، ولم يحمله على لغتهم؛ لأنّ لغة بني سُليم غير مسلتزمة لمعنى الظنّ. قال ابن خروف: القول في مذهب بني سُليم على معناه، وعمله عمل الظنّ بخلاف من يشترط فيه الاستفهام، فإنّه عندهم بمنزلة الظنّ معنىً وعملصا، وقد نصّ على ذلك سيبويه بقوله: إنّه لا يكاد يُستفهم عن ظنّ غيره، ولم ينصّ في لغة سُليم على شيء من ذلك. وما قاله ابن خورف هو ظاهر من كلام سيبويه؛ إذ أطلق القولَ بالإعمال في حكايته عن أبي الخطاب بقوله:«وزعم أبو الخطاب -وسألته غير مرّة- أن ناسًا يوثق بعربيّتهم -وهم بنو سُليم- يجعلون باب (قلتُ) أجمع مثل (ظننتُ)» . يعني يجعلون ما دخله معنى الظنّ وما لا مثل (ظننت) في العمل. قال ابن الضائع: لو كان معنى الظنّ مشروطًا لاشترط سيبيه ذلك، حيث حكى هذه اللغة. قال: وأيضًا فلا يحتاج لذلك؛ لأنّ القول الذي هو النطق إنّما يكون عن علم أو ظنّ، فلا بدّ من الظنّ في ذلك. وأمّا الشلوبين فإنّه زعم أن النصب بالقول إذا لم يكن فيه معنى الظن لا وجه له، وأنّ بني سُليم لا يُعملون إلا على معنى الظنّ، ومعنى كلام سيبويه -عنده- لمّا قال: يجعلون
باب قلت أجمع مثل ظننت»، أى جميع ضروب القول من متكلم وغائب، وماض ومستقبل، مما فيه كلِّه معنى الظن ثم حكى عن بعض المتأخرين أنه فهم من كلام سيبويه أن القول كلّه ما فيه معنى الظن، وما ليس فيه معناه يجرى مجرى الظنِّ، وخطّأه فيه.
وإذا تقرّر هذا فكلام الناظم محتمل للمذهبين معًا، وذلك أن قوله «مطلقا» راجع إلى التقييد المتقدم فى مذهب الجمهور إذا أعملوا، وهو لم يذكر هناك هل القول إذا أعمل معناه معنى الظن أم لا؟ وعلى ذلك ينبنى تعيين مذهبه، لكن تقدم أن معناه هناك معنى الظن، وذكر أن قوله:«ولَتَظن اجعَلْ تقولُ» يريد به فى المعنى والعمل، لأن معنى الظن كالازم لاجتماع الشروط، فيكون إذًا قوله فى هذا البيت:«وأُجري القولُ كَظنَ مطلقا» يريدُ فى المعنى والعمل. وهو ما نصّ عليه الشلوبين، ويظهر من الفارسىّ وابن جنى فى كلامهما على بيت الحطيئة، لأنهما أجريا فيه القول مجرى الظن بنص الفارسىّ، وتسليم ابن جنى في كتابه التنبيه، ثم قال ابن جنى: فإن قيل: فليس هنا استفهام فكيف جاز استعمال القول استعمال الظن؟ قيل: لم يجز هذا للاستفهام وحده، بل لأن الموضع من مواضع الظن، ولو كان للاستفهام مجردًا من تقاضى الموضع لإنه وتلقّيه إياه [فيه] لجاز أيضا: أأقولُ زيدًا منطلقا؟ وأيقول زيد عمرًا جالسًا؟ ولما لم يجز ذلك لأنه لا يكاد يستفهمه عن ظنّ غيره، وعلمت به أَن جوازه إنما هو لأن الموضع مقتضٍ له، وإذا كان الأمر كذلك جاز
[أيضاً] إذًا: قلت أَنِّى آيبُ، بفتح همزة أنى، من حيث كان الموضع متقاضيًا للظنِّ». هذا ما قال، واقتضى كلامُه أن بني سليم ينقسم القول عندهم قسمين، قسم يقتضى فيه الموضعُ معنى الظن، فهذا هو المعمل عندهم، وقسمُ لا يقتضى الموضعُ ذلك فيه، فليس بمُعْمَلٍ عندهم. وهذا محتاج إِلى توقيف، وظاهر نقل الأئمة خلافه. فهذا وجه مما يحتمله كلام الناظم.
والوجه الثانى: أن يكون قوله: «ولتَظن اجعلْ تقولُ» يريد فى العمل خاصّةً، ويبقى معنى الظن مسكوتا عنه، لم يتعرّض له لعدم الحاجة إليه؛ لأن/ الشروط المذكورة إذا توفرت لزمها معنى الظن، فذكرُها مُغنٍ عن اشتراطه، وإذا تخلّف منها شرط أو أ: ثر بقى الفعلُ على أصل وضعه من الحكاية والدلالة على معنى النطق، ويكون قوله بعدُ:«وأُجرِى القولُ لتَظنّ مطلقًا» ، يريد أيضا فى العمل خاصة، ولا ينظر فى لغة سُلَيم إلى معنى ظنٍ ولا غيره، فإذا توفّرت الشروط صار معنى القول كمعنى الظن، وإذا تخلفت بقى على أصل معناه، وربّما يدخله معنى الظن، إن دخل فلا يعتبر؛ إذ ليس ثمّ ما يطلبه. وعلى هذا يمشى كلامُ الناظم على ظاهر كلام سيبويه ومن وافقه، ولا فرق إذ ذاك عند سليم بين إشرابه معنى الظن وعدم إشرابه ذلك، بل يعلمون القول في القسمين. وهذا المحمل أولى الاحتمالين، وهو الذى قصد فى التسهيل فقال:«وإلحاقه فى العمل بالظن مطلقًا لغة سليم» ، فقيّدَ
الإلحاق بالعمل، ثم قال:«ويخصّ أكثر العرب هذا الإلحاق بمضارع المخاطب الحاضر بعد استفهام» .. إلى آخر ما قال، فتأمل كيف لم يتعرّض لإشراب القولِ معنى الظن.
وقوله: «قُلْ ذا مُشْفِقا» ، الإشفاق لغة: الخوفُ، يقال: أشفقت عليه بمعنى خفت. ويقال: أشفقت من كذا، بمعنى حَذِرْتهُ وخِفٍت منه أيضا.
وعلى الناظم بعدُ فى هذا الفصل دَرْكُ من أربعة أوجه:
أحدهما: أن شروط الإعمال فى مذهب الجماعة إذا توفّرت كانت الحكاية جائزة، رجوعًا إلى الأصل فى القول، ولم يلزم الإعمال، قال سيبويه:«وإن شئت رفعت بما نصبت» ، يعنى مع اجتماع شروط النصب، كأنه قال: وإن شئت رفعت فى الموضع الذى نصبت فيه. وبين ذلك المؤلفُ فى التسهيل فقال: «فإن عُدشم شرط رجع إلى الحكاية، وتجوز إن لم يعدم» . وهذا مملا أعلم فيه خلافًا بين النحويين. وقد تقدّم الوجهين في بيت عمْرو:
* عَلَام تَقولُ الرمْحُ يُثْقِلُ عاتِقِى *
وأنشد ابن خروف:
متى تقولُ خَلَتْ من أَهْلِها الدارُ؟
كأنَّهُمْ بِجَنَاحَىْ طَائِرٍ طَارُوا
فأتى بجملة محكية بعد استكمال الشروط. وليس فى نظم الناظم ما
يشعر بالجوار، بل هو يقتضى لزوم الإعمال، لقوله:«وَلتظنّ اجعَلْ تقولُ» فهذا يقتضى اللزوم لأنه أمرُ بالإعمال كما قال أول الباب: «انصب بفعل القلبِ جزءَى ابْتَدِا» .
والوجه الثانى: أن الباب الأعمّ والمذهب المطرد فى القول هو الحكاية، وهو لم يتكلم فيها بشئٍ، وإنما تعرّض للإعمالِ وهو الأقل بالنسبة إلى الحكاية، وللغة سُليم وهى قليلة أيضًا بالنسبة إلى جميع اللغات، وترك ما هو الأولى بالبيان من أحكام القول، لا سيما وفيه فى الحكاية تفصيل، وذلك أن ما يقع بعد القول إما أن يكون جملة أو مفردًا، فإن كان جملة حُكِيَتْ على ما كانت عليه قبل دخول القول، نحو: قلت: زيد قائم، (قال الله: هَذَا يَومُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)، (قَالَ الله: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ). وإن كان مفردًا/ فإما أَنْ يكون فى تقدير الجملة، وهو الذى ليس من لفظِ القول ولا معناه، أو لا، فإن كان كذلك فهو محَلىُّ كالجملة، نحو: قلت: زيد، مجيبا لمن قال: من جاءك؟ ومن هذا القسم قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أنزلَ رَبُّكم؟ قالُوا: أساطيرُ الاولين} ، كأنهم قالوا: هى أساطيرُ الأولِين، نفيًا لكونه منزلًا -صدق الله وكذبوا. وإن لم يكن فى تقدير الجملة وجب نَصبُه، كان من لفظ القول أو معناه، نحو: قلت قولًا، وقلت حقًّا وصدقًا، وقلت كذبًا وكلامًا. أو لم يكن كذلك بل أُريد به مجرد اللفظ، نحو قلتُ زيدًا، أي:
هذا اللفظ. ومن الأول: {وقيل للذين اتقوا: ماذا أنزلَ ربُّكم؟ قالوا خيرًا} . ومن الثاني: {قالُوا: سمعنا فتى يذكُرهُمْ يُقَالُ لَهُ: إبراهيم} ، فإبراهيم مرفوع يقال، ولو بنى القول للفاعل لكان منصوبا.
فأنت ترى هذا التفصسل الأكيد لم يذكره على كثرته وعموم البَلْوى به، وذكر لغة سُليم التى يُسْتَغنى عنها لقلتها بالنسبة إلى غيرها.
فإن قيل: قد يؤخذ له حكم الحكاية من مفهوم قوله: «ولتَظُنّ اجْعَلْ تَقُولُ إِنْ وَلِى» كذا؛ لأن معناه أنّ القول يعمل مع توفّر الشروط، فمقتضاه أن الشروط إذا اختلت لم يعمل، وهو معنى الحكاية فيما بعده، فيحصل مرادُه.
فالجواب: أن المفهوم من الكلام ليس ترك الإعمال فقط، بل ترك الإعمال عمل الظنّ، وإذا انتفى عمل الظن بانتفاء شرط لم ينتف الإعمال مطلقا؛ إذ نفي الأخصْ لا يستلزمُ نفى الأعَمّ، لتعدّد ما يبقى من وجوه الإعمال، كإعماله عمل ضرب أو كان إو إنِ، أو غير ذلك من وجوه الإعمال، والإهمال واحد من هذه الوجوه الداخلة تحت المفهوم، فمن أين يتعيّن. وأيضًا فترك الإعمال مطلقًا لا يصحّ؛ إذ القول لا يعرى عن العَمَل إما فى اللفظ إذا وقع بعده المفرد المحض، نحو: حقًّا وقولًا، وإما فى الموضع إذا وقع بعد الجملة أو المفرد فى تقديرها كما تقدم، والقصد هنا تعيين الحكاية، وهى لا تتعيَّن. وأيضا لو تعيَّنت لم يصحّ لما فى الحكاية من التفصيل المذكور.
والوجه الثالث من أوجه الدَّرْك: أن قوله: «وإنْ بِبَعْضِ ذى فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ» ، حشوُ لا يعطى زيادةً فائدةٍ، علي ما يفهم له من الشطر الذى قبله؛ لأن قوله:«ولم ينفصل بغير ظَرْفٍ، أو كظرفٍ، أو عَمَلْ» يبيّن أن الفصل بها مُحتَمَلْ، فكان الأولى به أن يأتى فى هذا الشطر الثانى بالحكم الذى أغفل، وبيان ما أجمل.
والوجه الرابع: أنه أطلق العبارة فى إجراء القول مجرى الظن، فاقتضى أنه جارٍ مجراه فى جميع ما يتعلّق به من الأحكام المتقدمة، ومن جملتها الإلغاء والتعليق، فكأنه يقول: وَلتَظن اجعَلْ تقولُ فى الإعمال والإلغاء والتعليق وغير ذلك. وهو إطلاق غير صحيح عنده؛ إذ قد نصّ فى التسهيل أن هذا الإلحاق مقتصر به على العمل، لقوله:«وإلحاقه فى العمل بالظن مطلقا لغة سليم» .. إلى آخره/. وما قاله هو القياس والصواب، أما فى لغة سُليم فظاهر؛ إذ لا يشترط فيه عندهم معنى الظن على ما هو الصحيح، والإلغا والتعليق لا يصح معناهما إلا مع أفعال القلوب، وليس القولُ منها، وإن اتفق معناه فى القول فغير معتبر ولا ملحوظ لعروضه وعدم أصالته. وأما فى لغة غيرهم فكذلك أيضا، فلم يتصرّفوا فى القول إذا أشرب معني الظن هذا التصرّف، بحيث يقوم مقام فِعْلِ الظن من كلّ وجهٍ، فليس لأحدٍ أن يفعل به ذلك، هذا وليس فى المسألة سماعُ يرجع إليه، فلا اعتماد على هذا الإطلاق لعدم صحته.