الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنّ وَأَخَوَاتِهَا
هذا هو النوعُ الرابعُ من نواسخِ الابتداءِ، وذلك إِنّ وأخواتها. وكان الأصلُ في الحرف -إذا اختُصّ بما يدخُلُ عليه من الأسماء، ولم يكن كالجزء منه، ولا شبيها بغير المختص- أن يعملَ الجرّ بَيّن في الأصول. وإنما يخرج عن أصله لشَبَهِهِ بغيره، فأشبهت هذه الحروف كان وأخواتِها من جهة طلبها للمبتدأ والخبر، واختصاصها بهما والاستغناء بهما، فلم تكن كألا وأمَا الاستفتاحيتين في عدم الاختصاص، ولا مثل لو ولولا في عدم الاستغناء بهما عن الجواب؛ إذ كانتا امتناعيتيّن، وكذلك إذا المفاجأة لافتقارها إلى كلام سابق. وهذا وجه الشبه عند ابن مالك.
وعند الزجاجى رحمه الله أنها أشبهت الفعل المتعدّى إلى واحدٍ من خمسة أوجه:
أحدها: أن معانيها كمعاني الأفعال من التوكيد والمنى والترجي والتشبيه والاستدراك ولذلك عَمِلت كأنّ -بما فيها من معنى التشبيه- عَمَلَ الفعل في نحو قول النابغة:
كَأنه خارجًا من جَنْبِ صَفَحَتهِ
والثاني: أن عددها كعدد الأفعال، : لأن منها ثلاثيا، ورباعياً، وخماسياً.
والثالث: أن أواخرها مفتوحة كأواخر الماضى.
والرابع: أنها تطلب اسمين من وجهين مختلفين، وذلك أنها تطلب الخبر، لأنها إنّما سيقت لتوكيده أو تَمنّيه أو تَرجّيه أو غير ذلك من المعاني المذكورة. وتطلب المبتدأ بتوسط الخبر لأنه مطلوبه لا على اللزوم.
والخامس: أنها يتصل بها ضمير المنصوب كما يتصل بالفعل، فتقول: إِنّك، وإنّه، وإننى كما تقول: ضربك، وضربه، وضربنى.
ونقضها السهيلى كلّها إلا الرابع، قال: أما اتصال الضمير المنصوب بها فلم يكن غلا بعد حصول الشبه الموجب للعمل، ولولا ذلك لم يتصلْ بها، فلا فرق في ذلك بين الضمير والظاهر في أن كلّ واحدٍ منهما ثانٍ عن الوجه الأول الذى أوجب لها العمل. وأما الثلاثة الباقية فموجودة في حرف ثُمّ، ولم يوجب لها ذلك شيئًا من العمل.
هذا ما قال، وهو في الخامس صحيح، وفي غيره غير صحيح. فتأمله.
قال شيخنا رحمه الله: وأجود ما يقال في ذلك -والله أعلم-: أنّ اختصاصها بالجملة الاسمية هو الذى أوجب لها العمل، وأما الشبه المذكور فلم يوجب لها شيئًا من العمل، وإنما أوجب تقسيم العمل على حسب الحاصل في معموليها.
ولنرجع إلى كلامه/:
لإِنّ أَنّ لَيْتَ لَكِنّ لَعَلْ
كَأنّ عَكْسُ ما لِكَانَ مِنْ عَمَلْ
كإِنّ زَيْدًا عَالِمٌ بِأَنّى
كُفْءٌ، وَلَكِنّ ابنَهُ ذُو ضِغْنِ
لإِنّ: متعلّق بمحذف هو خبرٌ للمبتدأ، الذى هو عكسُ -وأراد: لإِنّ، وأنّ، وليت ولكّ، ولعلّ، وكأنّ. فحذف العاطف على عادته.
ويعنى أنّ هذه الأدواتِ لها من العمل في المبتدأ والخبر عكسُ ما ثبت لكان فيها، وقد تقدّم أن كان ترفع المبتدا وتنصب الخبر، فعكسُ هذا -الذى هو نصبُ المبتدأ ورفعُ الخبر- ثابتٌ لإنّ وأخواتها. والذى دلّ على أنها تعملُ في المبتدأ والخبر إحالتُه على [عمل كان، فقد ثبت ذلك فيها، فكذا في هذا ووجه ثبت عكس العمل هنا أنّ إِنّ وأخواتها لمّا ساوتْ كان في العمل، [و] أرادوا أن ينبهوا على فرعيّة العمل فيها- عكسوه، فجعلوا النصب في الاسم والرفع في الخبر، ليكون معها كمفعول قُدِّم وفاعل أُخّرِ.
فإن قيل: فِلمَ لَمْ يكن مثل هذا في ما وأخواتها؟ فالجواب: أنهم أرادوا أيفصلوا بين ما يُشْبِه الفعلَ ولفظُه لفظُ الفِعْلِ، وبين ما يشبه الفعلَ وليس لفظُه لفظَ الفِعْلِ، قاله الزجاج؛ وذلك أَنّ لفظ هذه الحروف كلفظ الفعل لكونها ثلاثيّةً فما زاد، وكونها مفتوحة الأواخر، فأرادوا أن يفرقوا بينهما ليتبيّن الحرف من الفعلِ، بخلاف ما وأخواتها فإنها متميزة الألفاظ من ألفاظ الفِعْلِ، فلم يحتاجوا إلى تفرقة. وأيضا الفرعيّة فيها تظهر في جهة أخرى، وذلك في إبطال العمل عند تقديم الخبر ودخول إلّا ونحو ذلك. وهذا كلّه تعليل بعد
السماع.
ولما ظهر من كلامه أن هذه الأحرف تنصب الاسم وترفع الخبر، ظهرت مخالفته للكوفيين في مسألتين:
إحداهما: ما زعموه من أن هذه الأحرف لا ترفع الخبر البتة، وإنما اقتصر بها على عمل النصب. والدليل على صحة ما قاله الناظم أنا لم نجد في عوامل الأسماء ما يعمل نصبًا دون رفعٍ البتةَ، وقد وجدنا عمل الجرّ وحده، وذلك حروف الجرّ، وما يعمل الرفع وحده، وذلك الابتداء والمبتدأ، أو الخبر، العائد على المبتدأ؛ فقولُ من قال: إن هذه الأحرف تعمل النصب وحده -مُصَيّرٌ إلى ما لا نظير. وهذا أبعد من قولهم في «ما» : إِنّها تعملُ الرفع فقط؛ لأنّ لما قالوه هناك نظيرًا بخلاف.
فإن قيل: إن لهذا نظيرًا أيضًا على مذهبكم، وذلك المنادى، فإنه منصوب بيا وأخواتها، وكذلك التى لنفي الجنس عند سيبويه، هى ناصبةٌ غير رافعة.
فالجواب: أن المنادى ليس بمنصوب بيا لا عندكم ولا عندنا، أما عندكم فهو منصوبٌ للكثرة استعمال، وأما عندنا فبفعل مُقَدّر. فالاتفاقُ على أن حرف النداء غير ناصب. وأما لا فإن الاقتصار بها على النصب مذهبًا لكم فالصحيح عند الناظم خلافُه، وإن لم يكن مذهبا لكم فبناؤكم عليه صحيح؛ / فإن القياسَ على أصل يُعتَقَدْ فسادُه فاسدٌ. وأيضًا
فالخبرُ إِذا لم يرتفع بالحروف -ولا بُدّ له رافع- فلا يخلو أن يكون المبتدأ أو غيره، فإن كان المبتدأ لم يَصِحّ لأنه الآن غير مبتدأ. فإن: إن الأصل فيه المبتدأ، والأصل معتبر، لزمهم أن يُعِمِلُوا الخبر في المبتدأ من تلك الجهة، أو الضمير من الخبر، وذلك لا يصحّ.
فإن قيل: إن الخبر إنما يعملُ في المبتدأ بشرط ألا يكون عامِلٌ آخَرُ.
قيل لهم: وكذلكَ دعى أنّ المبتدأ لا يعمل في الخبر إلا بشرط أن يكون العاملُ في المبتدأِ الابتداءُ. فجوابُهم على هذا نُجِيب به على ما قالوه.
فإن قيل: إنّ هذه الحروفَ إنّما عملت بالشّبَه اتفاقًا، وإذا كان كذلك فينبغي ألّا تعمل في الخبر، لأن ذلك يؤدّى إلى التسوية بين الأصل الذى هو الفعل، والفرع الذى هو الحرف.
فالجواب: أن الشبه هو الذى يقتضى العمل في الأمرين، وضعفُ الفرع موجود في جهة أخرى، وذلك في منع تقدّم مرفوعها على منصوبها وغير ذلك من الأحكام.
وهنا أدلّة أُخَرُ من الجانبين يكفى هذا منها.
والثانية: أن الناظم من حيث قَصَر هذه الحروفَ على عمل الرفع في الخبر مع نصب المبتدأ، دلّ ذلك على مخالفته لمن أجاز في الخبر النصب، فأما الفراءُ فأجاز نصب خبر ليت وحدها، ووافقه الكسائى على ذلك فيما أنشدوه من
قول رؤبة، وأنشده سيبويه أيضا:
يا ليتَ أيّامَ الصِّبا رَوَاجِعَا
وأنشدوا أيضا:
ليت الشبابَ هو الرّجيعَ على الفَتَى
والشيب كان هو البَدِئُ الأوّلُ
وباقي الكوفيين أجازوا ذلك [أيضًا] في سائر أخوات ليت، فيجوزُ عندهم: إنّ زيدًا قائمًا، ولكن زيدًا قائما، وكأن زيدًا قائمًا. ومن حجتهم على ذلك في «إِنّ» ما في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن قَعْرَ جهنم لسبعين خريفًا» . وفي الشعر قول الشاعر:
إنّ العَجُوزَ خَبّةٌ جَرُوَزا
تأكلُ كُلّ ليلةٍ قَفيزَا
وقال الآخر:
إِذَا اسْوَدّ جُنْحُ اللّيلِ فَلْتأْتِ وَلْتكُنْ
خُطَاك خِفَافًا، إِنّ حُرَّاسَنا أُسْدَا
وفي كأنّ قولُ الشاعر:
كَأَنّ أُذْنَيْه إذا تَشَوّفَا
قَادِمَةٌ أَوْ قَلَمًا مُحَرّفَا
وقد زَعَم ابنُ السّيد أَنّ نَصْبَ الخبرِ مع هذه الأحرفِ لغةٌ لبعض العرب. فإن ثبت ما قال بغير هذه الشواهد، بل بنقلٍ لا تأويل فيه، أو بمشافهة لأهلها من غير احتمالٍ فذاك، إلا بهذه الشواهد فهى محتملةٌ لغير ما التزمه الكوفيون. فأما بيت رؤبة فرواجعُ فيه حال، عاملها الخبر المحذوف، كأنه قال: يا ليتَ أيامَ الصِّبا لنا رَوَاجعَ، أو أقبلَتْ رواجعَ، كما قال، أنشده سيبويه:
إِنّ مَحَلًا وإِنّ مُرُتَحلًا
أى: إن لنا كذا. وأما قوله: ليت الشبابَ هو الرجيعَ/. وقوله: كأَنّ أُذْنَيه، فقد رواه أهلُ البصرة على الرفع في الرجيع وما بعده. وقادمتا أو قلما، على التثنية. وحُذِفَت النون ضرورة -وهذا كلّه ردٌّ لرواية العَدْل.
أو يكون الرجيع على إضمار كنَ؛ فإنّ كان تُسْتَعمل بَعيد هذه الأحرف كثيرا فجازَ إضمارُها. وقادمةً: مصوب بإضمار فعل، أى يلحقان قادمةً.
أما: إِنّ العجوز خَبّةً، فالخبر «تأكل» لا «خَبّ». وأما: إن حُرّاسَنا أُسْدَا، فعلى إضمار فِعْلٍ أيضًا تقديره: يشبهون أُسْدًا، أو تجدهم أُسْدًا، أو نحو هذا. وأمّا الحديثُ فحمله الناظم في شرح التسهيل على أنّ «قَعْر» مصدرُ قَعَرْتُ الشئ، أى: جعلته في القعر، وسبعين ظرفٌ، والمعنى على هذا صحيح، والإخار بالزمان عن المعنى جائز. وهذا كلّه تكلّف، والوجه في هذا أن يُرَدّ بندوره وقِلّتِه إن لم يكن له تأويل سائغٌ.
وَعَدّ الناظم هذه الأحرف وهى: إِنّ، وأَنّ، ولَيْتَ، ولعلّ، وكأنّ، ولكنّ. أمّا إِنّ وأَنّ فللتوكيد، وليت للتمني، ولكن للاستدراك، ولعلّ للترجّى ويدخلها معنى الإشفاق، . وعند الأخفش قد تكون للتعليل، وعلى ذلك حَمَلَ قولَ الله -تعالى-:{لَعَلّهُ يَتَذكّرُ أَوْ يَخْشَى} ، أى: ليتذكّر أو يخشى. وقال المؤلف: انها تكون للاستفهام. وحَمَل على ذلك قولَ الله -تعالى-: {وَمَا يُدْرِيكَ؟ لعَلّه يَزّكى؟ } وَقَوْلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض الأنصار وقد دعاه فخرج إليه مستعجلًا: «لعلنا أعجلناك؟ » . وهذا فيه نظر.
وكأَنّ معناها التشبيه المؤكّد، وأصلها عندهم: إِنّ والكاف، فقولك: كأنّ زيدًا أَشَدّ، أصله: إِنّ زيدًا كأسَدٍ، لكنهم قدموا الكاف على إِنّ، ثم فتحوها إصلاحًا للفظ، فصار الحرفان واحدًا. وقد قيل: إنها تأتى للتحقيق، واسُتدلّ عليه بقول الشاعر:
فأصبح بطنُ مَكّةَ مقشعرًا
كأن الأرضَ ليسَ بها هشامُ
وَعَدُّه لها ستةً ذَهَابٌ إلى ما فَعل غيره كالزجاج وغيره. والمتقدمون يعدُّونها خمسة، وبوّب عليها سيبويه:«هذا بابُ الأحرف الخمسة» . ولم يعدّ أَنّ المفتوحة وكذلك فعل المبرِّدُ وابن السّراج وغيرهم،
لأنّ المفتوحة فرعٌ عن المكسورة، من جهة أنها إذا وقعت موقع مفردٍ لم يمكن أَنْ تبقى مكسورة، لما يلزم فيها من وقوعها مبتدأةً وبعدها جملة، ففتحوها لأَنْ تَصِير مقدّرة بمفرد، ويصحّ لهم ما قصدوه من التوكيد. وقد غَمَز في شرح التسهيل عَدّ من عدّها ستة، وقال: إن ذلك لا حاجة إليه لأجل الفرعية. فكان الأخلقُ به أن يَعُدّها خمسة فقط. والعذر عه أنه إنّما اعتبر صُوَرها خاصّةً ولم يعتبر الأصل، كما لم يعتبر هو ولا غيره الأصل في كأنّ، إِذْ أَصلها إنّ والكاف، وإلّا فلو لزم أن يعتبر أصلها لعدّت أربعة.
فإن قيل: الفرقُ بينهما أن أصل كأن منسوخ، ولذلك لم تفتقر الكاف إلى مُتَعلق، بخلاف أنّ فليس أصلها منسوخا بدليل جواز العطف/ بعدها على معنى الابتداء، كما يعطف عليه بعد المكسورة، فاعُتبِرت فرعيّة أنّ دون كأنّ لذلك.
فالجواب: أنّ اعتبار الابتداء في أنّ إنما كان من وجهٍ دون وجه؛ ألا ترى أنه من جهة التأويل بالمفرد غير معتبر، كما أن التوكيد في كأنّ معتبرٌ أيضًا، فليس أصلُها بمنسوخٍ من كلّ وجه. والذى منع من اعتبار الابتداء معها إنشاءُ التشبيه، فإنه معنى مخالف لمعنى الابتداء الذى هو إخبار. وأيضا إِنْ كن قد عدّها هنا ستةً فقد نَبّه على فرعيّةِ أَنّ بعد هذا في قوله:
وَهَمْزَ إِنّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَر
مَسَدّها
…
...
…
فجمع بين الطريقتين، طريقة من عدّها خمسة فبيّن فرعيّة أَنّ.
ثم مَثّل ذلك بقوله: «كَإِنّ زيدًا عالِمٌ .. » إلى آخره، فأتى بثلاثة أمثلةٍ لأحرف ثلاثة، فإن زيدًا عالم، مثالٌ لإنّ المكسورة. و «بأنِّىَ كُفْءٌ، مثال للمفتوحة. وبلكنّ ابنَه ذو ضِغْن مثال للكنّ. وتجرى البواقي نحوها، نحو: ليت هذا الليل شهرٌ، ولعل زيدًا قائم، وكأنّه بدرٌ.
والكُفْءُ، والكفُؤُ، والكُفُوءُ -على فُعُولٍ، كذا في الصحاح- والكفِئُ: النظيرُ. والمصدر الكفاءَة، بالفتح والمدّ. ويقال: فلانٌ لا كِفاءَ له -
بالكسر- وهو في الأصل مصدر، أى: لا نظير له. والضِّغْنُ والضغينَهُ: الحِقدُ، وقد ضَغِنَ عليه -بالكسر- ضَغَنًا: إذا أضمر عداوته (ثم قال):
وَرَاعِ ذَا التّرتِيب إلّا فِي الّذِى
كَلَيْتَ فِيهَا أَوْ هُنَا غَيْرَ البَذِى
الترتيبُ الذى أشارَ إليهِ هو كونُ الاسم يلى الحرفَ العاملَ، والخبر بعد ذلك، حَسْبما أشار إليه في الأمثلة المذكورة، يعنى أنه لا يجوز تقديم أخبار هذه الحروف عليها، فلا تقول: قائمٌ إِنّ زيدًا، ولا توسيطه وهو غير ظرفٍ ولا مجرور، فلا تقول: إن قائمٌ زيدًا، ولا ليت صاحبٌ لك عَمرًا، ولا إنّ يقومُ زيدًا. ولا ما أشبه ذلك.
وإنما لم تتقدّم أخبارها عليها لعدَم تصرّفها، وكذلك لا تتوسّطُ لأجل عدم التصرف في نفسها فلا تتصرّف في معمولها، ولأمرٍ (آخر) وهو أهم قصدُوا أوّلًا في إِنّ عكس عمل كان، من تقديم المنصوب وتأخير ملرفوع، فلو وَسّطُوا الخبر كان ذلك بصورة ما أرادوا الخروج عنه، فكأنه عودٌ إليه. ومِنْ سجاياهم:
إِذا انصرفَتْ نفْسِى عن الشّىْءِ لم تكنَ
عَلَيْهِ بِوَجْهٍ آخِرَ الدّهْرِ تُقْبِلُ
فالتزموا التأخير في الخبر لذلك. وأما الظرف والمجرور فشأهما في كلام العرب أن يتوسّع فيهما ما لا يتوسّع في غيرهما، فجاز التوسيط فيهما إذا وقعا
في هذا الباب خبرين، فلذلك استثناهما الناظم بقوله:«إلّا في الّذى كليت فيها» .. إلى آخره، فأشار إلى أَنّ الترتيب المذكور لا يلتزم فيما كان مثل هذين المثالين، بل يجوز أن تخالف في الترتيب المذكور، فتقدم الخبر على الاسم فتقول: ليت فيها غير البَذِئ، وليت هُنَا غير البَذِئ. ولَفّ المثالين في مثال واحد، لِفَهْمِ ذلك، وكأنه قال: راع/ الترتيب المذكور إلا إذا كان الخبرُ ظرفًا كليت هنا غير البَذِىْ، أو مجرورًا كليت فيها غيرَ البَذِئِ، فإن ذلك أَنْ تأتى بالكلام على هذا الوجه من توسيط الخبر.
وهذا التمثيل أعطى موضع مخالفة الترتيب، لأنه أتى بالخبر متوسطًا بين الحرف واسمه، فَيُتَقيد بما عيّن، فلا يجوز أن يتقدّم الخبر عليهما معًا فلا تقول: فيها ليت غير البذئِ، ولا: هنا ليت غير البذئِ. فالمثال إذًا أعطى قيدين: قيدًا في الخبر المتصرّف فيه، وهو كونه ظرفًا أو مجرورًا، وقيدًا في صورة التصرف، وهو التوسيط خاصّة. وهذا ظاهر، وأما تقديمُ معمولِ الخبر فلم يجر له هنا ذِكْرٌ، ولعلّه تركه لأنه ذكر في باب كان قاعدة تشمل هذا البابَ وغيره في قوله:
وَلَا يَلِى العَامِلَ مَعُمُولُ الخَبَرْ
إِلّا إِذَا ظَرْفًا أَتَى أَوْ حَرْفَ جَرْ
فاستغنى بذلك عن الإعادة هنا، أو ترك ذلك اتّكالا على القياس؛ لأن العلة واحدةٌ في الجميع.
وتقولُ على ما تقتضيه القاعدة: إنّ في الدار زيدًا قاعدٌ، وإن مكانك زيدًا قاعدٌ. ومنه ما أنشد سيبويه، من قول الشاعر:
فَلَا تَلْحَنِي فِيهَا فَإِنّ بُحبِّها
أَخَاك مُصَابُ القَلْبِ جَمٌّ بَلَابِلُهْ
وتقول أيضًا: إن زيدًا طعامَك آكلٌ، ولا تقول: إن طعامَك زيدًا آكلٌ. وما أشبه مما تقدم ذكر تمثيله.
والبَذِى: أصلُه البذئُ، بالهمز، إِلّا أنّه حذَفَ الهمزة على غير قياسٍ، أو سهّلها بإبدالها ياءٌ كالنّسِى، ثم حذفها للساكنين. ومعناه الفاحش السىِءُ القول. وهذا التوجيه على أنّه من المهموز، لأنّه يقال: بَذُؤَ الرجلَ بذاءَةً: إذا سَفِه، على مثال: بذع بَذَاعَةً وبَذَاعًا.
وهى لغة. وإن جعلته البَذِى، من المعتل بالواو، فالأمر أسهل، فإنه يقال: بَذَوْتُ على القومِ وأبذيْتُ عليه، وبَذُو (الرجل يبذو) بذاءٌ لا غير. وفلانٌ بَذِىُّ اللسان، وامرأةٌ بَذِيّةُ. وهذه اللغة الشهيرة.
وَهَمْزَ إِنّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ
مَسَدّهَا، وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ
مقصُودهُ في هذا الفصل أن يُبَيّن المواضع التى تقع فيها أَنّ المفتوحة وإِنّ المكسورة؛ فإنّ لكلِّ واحدةٍ مِنْهما موضعًا يخصّها، وحكمًا يلزمها. وقد ظهر من هنا أنّ الكسورة أصلٌ للمفتوحة وأن المفتوحة فرعٌ عنها بقوله:«وهَمْزَ إِنّ افْتَحْ» . ولو كانت أصلا بنفسها لقال إنّ المفتوح تقع مواقع المصدر، أو ما يعطى
هذا المعنى. وهذه الإشارة مقصودة له، ووجه ذلك: أنّ الكلام مع المكسورة جملةٌ غير مؤوّل بمفردٍ، وأما المفتوحة فالكلام بعدها مؤوّل بالمفرد، وكونُ المنطوق جملةٌ من كلِّ وجهٍ، أو مفردًا من كل وجه، أصلٌ لكونه جملةٌ من وجهٍ أو مفردًا من وجه. وأيضًا المكسورة مستغنية بمعموليها عن زيادةٍ، والمفتوحة لا تستغنى عن زيادة، والمجرد من الزيادة أصلٌ للمزيد فيه. وأيضا فإن المفتوحة تصير مكسورة بحذف ما تتعلّقُ به كقولك في عرفتُ أَنّك بَرٌّ: إِنّك بَرٌّ، ولا تصير المكسورةُ مفتوحةً إلّا بردِّه، كقولك في إِنّك بَرٌّ: عرفتُ أنّك بَرٌّ. والمرجوعُ إليه بحذف/ الزيادة أصلٌ للمتوصّلِ إليه بزيادةٍ.
هذا توجيه المؤلف في الشرح واستدل ابن خروفٍ على ذلك بوقوع المكسورة في موضع المفتوحة، ولا تقع المفتوحهُ في موضعها، تقول: ظننتُ أنّ زيدًا قائم، فإذا دخلتِ اللامُ لم يصحّ منه إلا المكسورة، فتقول: ظننتُ إنّ زيدًا لقائمٌ.
ثم قوله: «وهمزَ إنّ افتح» .. إلى آخره، يعنى أن الموضع إذا كان المصدرُ يسدُّ فيه مسد إِنّ واسمها وخبرها، فافتح همزتها، وإذا كان المصدرُ لا يسدُّ فيه مسدّها فأبقها على أصْلِها من الكسر. وفي ضمن هذين القسمين قسمٌ ثالثٌ، أنه إذا كان الموضع محتملًا للوجهين ساغ في إِنّ الكسر والفتحُ، وقد نبّه عليه بعد ذلك. وهذه قاعدة الفصل، وضابط المسألة، لكن عادتهم أن يحصروا مواضع الكسر، ومواضع الفتح، ومواضع جواز الوجهين زيادةً في البيان، ورفعًا لإشكال الحال في
بعض المواضع.
ويَرِدُ على الناظم هنا سؤالٌ، وهو أنه عَلّل فَتْح هَمْزَة إِنّ بسدّ المصدر مسدّها، وهذا يقتضى صحة وقوع المصدر موقعها، وهذا لا يطّردُ له في جميع ما تُفْتَح فيه، أمّا أنّ المصدر يقعُ موقعها على الجملة من غير حصرٍ فصحيح، وأما أنّ ذلك يصحّ في كلّ موضع فلا؛ ألا تَرَى أنّ أن تفتح بعد لو -وقد نَصّ هو على ذلك في بابها- مع أنّ المصدر لا يصحّ في موضعها؛ فلا تقول: لو ذهابُ زيدٍ لأكرمتك، وأنت تقول: لو أنّ زيدًا ذاهبٌ لأكرمتك. فإذا ثبت هذا فإطلاقُه القولَ في سدّ المصدر مسدها مُشكلٌ.
والجواب: أن سدّ المصدر مسدّ إنّ صحيح باتفاق، ولذلك سميت مصدرية، والشاهد لذلك اطراده في مواضع الفتح، غير أنّ لو اختصّت بهذا الحكم -أعنى بعدم النظق بالمصدر بعدها- استقباحًا لوقوع الاسم بعدها يليها؛ إذا خصُّوها بدخولها على الفعل، مع أنّ المصدر سائغٌ في التقدير [على] القياس، وقد جُعِلَ وقوعُ أنّ بعدها لزوما استغناء عن وقوع المصدر بعدها فذكروا أنهم استغنوا عن: لو ذهابهُ، بلو أنّه ذاهب. وإذا كان ذلك على الاستغناءِ لم يكن قادحًا في إطلاق سدّ المصدر مسدّها، لأنّه حاصل في القياس أو في الاستعمال. والله أعلم.
ثم أخذ في تعديد مواضع الكسر، وهو أحد الأقسام الثلاثة فقال:
فَاكْسِرْ في الابْتَدِا، وَفِى بَدْءِ صِلَهْ
وَحَيثُ إِنّ لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
أَوْ حُكِيَتً بِالْقَولِ، أَوْ حَلّتْ مَحَلْ
حَالٍ، كَزُرْتُهُ وَإِنِّى ذُو أَمَلْ
وَكَسَرُوا مِنْ بَعْدِ فِعْلٍ عُلّقَا
بِاللّامِ، كَاعْلَمْ إِنّهُ لَذُو تُقىَ
قوله: «فاكسر» أراد الكسر اللازم، بدليل أنه ذكر بعد ذلك قسمًا آخر في جواز الوجهين؛ فإذًا لا بُدّ أِنْ يكون الكسرُ هنا حتمًا، وذكر لذلك ستة مواضع:
أحدهما: الابتداءُ، وهو قوله:«فاكسر في الابتداء» . في الابتداء: معمول فاعلٍ [هو حال] من ضمير إنّ، وحذفه للعلم به، وكأنه قال: فاكسره كائنًا في الابتداء، أى: في ابتداءِ الكلام إذا وقع هنالك، نحو/ قولك: إن زيدًا أخوك، و {إِنّ الله يفصل بينهم يومَ القيامة، إِنّ الله عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهيدٌ} .
ووقوع إن في الابتداء تارة يكون لفظا ومعنى، كالأمثلة المذكورة، وتارةٌ يكون معنًى لا لفظًا، ولفظ الابتداء يشمل الوجهين. ومثال ذلك إِنّ الواقعة بعد ألا الاستفتاحية، نحو قول الله سبحانه:{ألَا إِنّهم في مِرْيةٍ من لقاءِ رَبِّهمْ، أَلَا إِنّه بكلِّ شَئٍ مُحِيط} . هذا على تفسير المؤلف في
شَرْح التسهيل، فإنه أدخل تحت الواقعة مبتدأةٌ نحو: ألا إنّ زيدًا قائم، وكذلك نحو:{كَلّا إِنّ الإنسان لَيَطْغَى} . وسائر الأدوات التى يبتدأ بعدها الكلام. ويحتملُ أن يريد الواقعة مبتدأ لفظًا ومعنًى خاصّة، كأنه قال: فاكسرها إذا صُدِّر الكلام المبتدأ بها حقيقةً وحكمًا، فإِنّا إِنْ فرجنا بها عن هذا إلى نحو آخَرَ لزمنا أمرٌ يصعُبُ الجواب عنه أو يضعفُ:
أما أوّلًا فإنّ إنّ الواقعة بعد إذا التى للمفاجأة فيها وجهان، مع أَنّ إذا من أدوات الابتداء، إذا دخلت لا تغير معناه.
وأما ثانيا فيقال: كما تدخلُ إِنّ المبتدأُ بها معنًى لا لفظًا في إطلاق لفظه، فالمبتدأ بها لفظا لا معنًى أَحْرى، نحو: أنك كريم جئتك، أي لأنّك كريم. وأيضا يدخل له تحت المبتدأ بها معنى لا لفظا نحو: عندى أنك كريمٌ؛ فإن أَنّك كريم بابهُ في الأصل التقديمُ، لأنه المبتدأ وما قبله خبره، فيقتضى أَنّ أَنّ في هذه المواضع كُلِّها يجب كسرها. وهو غير مستقيم، بل منها ما يجب فتحه، ومنها ما فيه الوجهان؛ فالأولى أن يحمل قوله:«فاكسر في الابتدا» على أنه يريد الابتداءَ حقيقةً وحكمًا؛ وذلك نحو: إن زيدًا قائم، خاصّةً.
فإن قلت: فإنّ هذا المحملَ أيضًا يلزم عليه مثلُ هذا الاعتراض. فسيأتى في موضعه بيانه، إن شاء الله.
والثاني من مواضع الكسر: مبتدأُ صِلَةِ الموصولِ، وذلك قوله: «وفي بَدْءِ صِلَةٍ «. ويعنى أَنْ تقع إِنّ مُبْتَدأً بها في الصلة، نحو قولك: أعجبنى الذى إِنّه قائم. فالكسر هنا واجب كما وجب في الأول؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة، وأَنّ
المفتوحة في تأويل المفرد، والمفردُ لا يقع صلةً للذى وأخواتها.
كما أنك إذا جعلتها في أوّلِ الكلم لزم الكسر، لأنّ المفتوحة في حكم المفرد، والمفرد لا يستقلّ به الكلام. ومن مُثْلِ هذا الموضع قولُ الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ} .. الآية. ومن أمثلة الكتاب: «أعطيته ما إِنّ شرّه خيرٌ من جَيد ما معك، وهؤلاءِ الذين إِنّ أَحْبَنَهم لأشجعُ من شجعانكم «.
وإنّما قال: «في بَدْءِ صِلَةٍ «، ولم يقلُ: في الصلة؛ لأنها إنما تكسر حتمًا إذا ابتُدِئَتْ فإن كانت في حشوها فلا يجبُ الكسرُ، بل قد تكون مكسورةٌ نحو قولك: أعجبنى الذى أَبُوه إنه منطلق. وتكون مفتوحة نحو: أعجبني الذى ذكرتَ أَنّه فاضِلٌ. فالفتح هنا واجب لكونِ أَنّ منصوبة المحلّ بذكرتَ، كما وجب الكسر في: أبوه إنه منطلق لكون إن خبرًا عن عَينٍ.
والثالث: أن تقع إنّ في جواب القسم، وذلك قوله: «وحيثُ إِنّ لَيِمِين مُكْمِلَه «، يريد أنها تكسرُ إذا وقعت مكملة للقسم، وتكميلُه إنما هو بجوابه، فكأنه قال: وحيث إِنّ جوابٌ للقسم، وذلك نحو: والله إنّ زيدًا لقائم، وفي التنزيل:{إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًا} .. الآية، بعد قوله:{حم. وَالكتابِ المُبِينِ} . وكذلك: {إِنّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} .
/ ووجهُ ذلك أنّ جواب القسم لا يكونُ بالمفرد، وإنما يكون جملة، فوجب أن لا تفتح إنّ هنالك لتأوّلها بالمفرد.
وإطلاقُ الناظم ههنا مرادٌ به التقييد، وذلك أنه حكم بلزوم الكسر ولم يفرّق بين أن تكون إن (بعدها اللام). وكونها لا لام معها، وحكمها مختلف، فقد قال في قسم الوجهين:
بَعْد إِذَا فُجَاءَةٍ أَوْ قَسَمِ
لَا لَامَ بَعْدَه بِوَجْهَينِ نُهِى
فإذا جمعنا بين كلاميه صار ما هالك مُقيِّدًا لما أُطلِق هنا، فيكون مرادُه إِنّ الواقع بعدها اللام ولا عليه من هذا؛ فإن العرب تُطلق في موضع وتُقَيِّد في آخر، بناءٌ على أن مرادها بالمطلق ما أرادت بالمقيّد.
والرابع: إذا وقعت إِنّ محكيّةً بالقَولِ، وذلك قولُه:«أو حُكِيت بالقَولِ» ، فالضمير في حُكِيت» راجع إلى إِنّ، ومرادُه مع معموليها، ويزيد أنها إذا وقعت بعد القول محكيّةً به وجب الكسر أيضًا، نحو قُلتُ: إنّ زيدًا منطلقٌ. ولا يجوز الفتح، لأن الحكاية بالقول تقتضى الجملة لا المفرد، وإنما تقتضى المفردَ إذا لم يُحْكَ به. ومن مثله قول الله تعالى:{قَالَ: إِنِّي عبدُ اللهِ} ، {وقال: إِنّي ذاهبٌ إلى ربِّي سَيهْدِينِ}.
وهذه العبارة التى عبّر بها الناظمُ (عبارة) مختصرٌ حسنةٌ سليمةٌ من النقد الذى يلزم غيره؛ فإنّ الجزولى وغيره يقولون هنا: وبعد القول
المجرد من معنى الظن. وتحرّزوا بذلك مما يكون القولُ فيه غير مجرّدٍ من معنى الظن، فإنّه إذ ذاك يعمل كما يعملُ الظنُّ، فتكون فيه أَنّ مفتوحة على الوجوب، لوقوعها موقع المفرد. وهذا الذى قرّرُوه ليس بسالم عن النقد، لأنّ القول إذا أُشْرِب معنى الظن (لم) يعمل عَمَل الظنِّ مطلقا؛ إذ من العرب من يلزم الحكاية به وإن أشرب معنى الظن، حسبما يأتى في موضعه إن شاء الله؛ فلا يسوغ أن يُستثنى القولُ المشربُ معنى الظنِّ على الإطلاق، لاختلاف العرب فيه. فأما قول الناظم:«أو حُكِيتَ بالقول» فقد أزاح الإشكال؛ لأنّ قصد الحكية يضبط اختلاف اللغات إلى ضابطٍ لا مَحِيد عنه؛ فإنّ من أشربه معنى الظن فَأَعملَ إذا أراد الحكاية كسر إِنّ، كما أنّ من لم يعمل هو قاصدٌ أبدًا للحكاية فيكسرها، فلا يبقى على المسألة غبارٌ. والله أعلم.
والخامس: إذ حَلّت إنّ محلّ الحال ووقعت موقِعَه، وذلك قوله:«أو حَلّتْ مَحَلّ حالٍ يعنى أَنْ تقع مع ما بعدها جملةً في موضع الحال، نحو قوله: «زُرْته وإنّىِ ذُو أَمَلْ» ، أى: زُرْتُه آملًا. فالمفتوحة لا تقعُ هنا، لأن الحال بالمفرد لا تصاحب الواو. ومنه في التنزيل:{كَما أَخْرَجَكَ ربُّكَ من بيتك بالحقَ، وإِنّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمنِين لكارهُونَ. يُجادلُونَك} .. الآية. وأنشد سيبويه لكُثَيّر:
ما أَعْطَيَانِى ولا سَألْتهما
إِلّا وَإِنِّى لحاجِزِى كَرَمِي
والسادس: إذا كانت بعد فِعْلٍ عُلِّق باللّام، وذلك قوله:«وكَسَرُوا -يعنى العرب- من بَعْدِ فِعْلٍ عُلِّق باللّام» . يريد تعليق الفعل عن عمله فيما طلبه من معمولٍ، واللام المعلِّقة هى لام الابتداء. وسيأتى بيانُ التعليق بعدُ إن شاء الله. فإذا كان الفعلُ مُعَلّقًا باللام لم يكن للفعل في إِنّ عملٌ، فبقيت على حالها من الكسر. ومثال ذلك قوله:«اعلم إِنّه لذو تُقَى» ، فاعلَمْ: معلّقٌ باللام في قوله: لذو تُقَى؛ لأنّ/ أصلها التقديم، فأصل الكلام: اعلم لهُوَ ذو تُقَىً، فلما دخلت إِنّ أخّرُوا اللام إلى الخبر، لما سيذكر. ومن مُثُل ذلك في الكلام قولُ الله:{قد نعلَمُ إنّه ليحزُنكَ الذي يقُولونَ} ، وقوله:{والله يعلمُ إِنّك لرسولُه، والله يشهدُ إِنّ المنافقون لكاذِبُون} . وم الشعر قولُ الشاعر؛ أنشده لسيبويه:
أَلَم تَرَ إِنِّى وابنَ أَسْودَ لَيْلةً
لَنَسْرِى إلى نَارَينِ يَعْلُو سَنَاهُما
وأنشد ابن جنى في المحتسب:
وأعَلمُ إِنّ تسليمًا وَتْركًا
للامُتَشَابِهانِ وَلَا سَوَاءُ
فلو زالت اللام لتسلّط الفعل على إنّ فانفتحت، نحو: {عَلِم الله أَنّكُم
سَتَذْكُرُونَهُنّ}، {شهد الله أنّه لَا إِلَه إِلّا هُوَ} ، {ألم تَرَ أنّ الله يُسبِّحُ لَهُ} .. الآية.
هذا تمامُ ما ذَكَر من مواضع لزوم الكسر، وقد بقي عليه فيها دَرْكٌ من وجهين:
أحدهما: أنّ إتيانه بهذه المواضع فَضْلٌ غيرُ محتاج إليه؛ لأنّ العقد الأوّل كان كافيًا، وذلك قوله:«وهمز إِنّ لسدّ مصدرٍ مسدّها» فإنه أتى به ظاهر المعنى، بَيِّن المأخذ. فإذا اعتبرت به المواضع كلها في الأقسام الثلاثة ظهر ما يلزم فيه كُسْرُ إنّ كالواقعةِ مبتدأةً وفي بدء الصلة ونحو، حسبما فُسِّر، وما يسوغُ فيه الوجهان كالواقعة بعد إذا فُجاءةٍ أو قسم، أو نحو ذلك، وما يلزم فيه الفتح كالواقعة في موضع الفاعل أو المفعول أو المجرور. وإذا كان كذلك لم يكن في تعداد هذه المواضع كبيرُ فائدة.
والثاني: على تسليم أنه ذكرها للحاجة إليها، فإنه لم يَستوْفِها بل نقصه مواضعُ ذكرها غيره، فمنها:
أن تقع خبرًا لاسم عينٍ، نحو: زيدٌ إنه قائم. فالكسر هنا لازم، لأنّ المفتوحة في تقدير المصدر، والمصدرُ لا يُخْبَرُ به عن الجُثّة إلى على معنى الوصف، والوصف بأنّ معدوم.
ومنها: أن تَقَع في خبرها اللامُ نحو: إِن زيدًا لقائمٌ، عَدّه الناسُ موضعًا زائدًا على وقوع إنّ في الابتداء، ولم يفعلُوا ذلك إِلّا لما بينهما من المباينة.
ومنها: أن تقع بعد ألا الاستفتاحية، نحو: ألا إِ أخاك منطلقٌ. وفي القرآن: {أَلَا إنهم يثنون صُدورَهُم} ، {أَلَا إِنّهم في مِرْيَةٍ من لِقَاءِ ربّهم} ؛ لأنّ أَلَا من حروف الابتداء، فإِنّ بعدها مبتدأةٌ في المعنى.
ومنها: أن تقع بعد كَلّا، نحو قول الله تعالى:{كَلّا إنهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمِئذٍ لمحجُوبُونَ} ، {كَلّا إِنّها تَذْكِرَة}. وما أشبه ذلك. فلا تقع هنا المفتوحة لأنّ ما بعد كلّا كلامٌ مبتدأ ومنها: أن تقع بعد حتى الابتدائية، نحو: قام القومُ حتى إِنّ زيدًا قائم؛ لا يجوزُ هنا فتح إِنّ لتعذّر تأَوُّلها بالمصدر.
فهذه مواضعُ خمسة زائدة على الستة التى ذكرها، فكان عدُّه قاصرا.
والجوابُ عن الأوّلِ: أَن مجرّد الضابط المتقدّم غيرُ كافٍ في بيان المقصود، وذلك أنه ليس كلُّ ما يصحّ تأوُّلُه بالمصدر يكون مفتوحَ الهمزة عند العرب لزوما أو جوازًا، بل قد يلزم الكسر ولا يراعى فيه صحّةُ التأويل بالمصدر؛ ألا ترى أنّ حتى الابتدائية قد يصحُّ/ قياسًا فتح أنّ بعدها على تأويل المصدر، ويكون خبر مبتدأٍ محذوف للعلم به، فتقول: أسرع القوم حتّى أنهم لا ينامون، : حتّى أمرهُم عدمُ النومِ. فهذا ممكن كما أمكن بعد إذا الفجائية، وفاءِ الجزاء، والقسم لالام بعده، وما أشبه ذلك؛ إلا أن العرب اقتصرت في حتى على الكسر، اعتبارًا بعدم التأويل
بالمصدر، ولم يقتصر في إذا وفاء الجزاء وغيرهما على ذلك. فالحاصل أن ما أمكن تقديرهُ قياسا لا يستلزم أن يكون منطوقًا به، فثبت أنّ معنى سدّ المصدر أنّ، أو عدم ذلك، كونه موجودًا في السماع كذلك، إلا أنك تقيس على مواضع الفتح أو الكسر ما كان في معناها.
والجواب عن الثاني أن يقال: إِنّ هذه المواضع قد ترجع إلى ما ذكر:
أَمّا نحو: زيد إِنّه قائم، فإن الخبر هنا وقع جملة، فأصلُه الأول جملة الخبر، وجملة الخبر في الأصل مستقلّةٌ، ووقوعُها خبرًا عارضٌ، وإذا كان كذلك فلم تقع إِنّ إلا في الابتداءِ، فوجب الكسر.
وَأَما إنّ زيدًا لقائم، فهو الذي قال فيه:«وكسَرُوا من بعد فِعْلِ عُلقا .. باللامِ» ، لأن إنّ إذ وقع اللام في خبرها فإما أن يتقدّمها فِعْلٌ يطلبها أولا، فَإِنْ تقدّم فهو الذي قال، إذ لا يكون إِلا من أفعال التعليق، وإلا فإنّ مكسورةٌ كان معها اللام أم لا. فما فعله الناظم هنا أولى من عَدّدهِ موضعًا ثانيًا لوقوعها في الابتداءِ، وهو كون اللام في خبرها، فإنه كلام متداخل غير مُحَرّرٍ.
وأما ألَا فهى كلمة تدخل على الكلام لتنبيه المخاطب لسماعه، فهي بمنزلة قولك: اسمعْ، أو تَنبّهُ، أو نحو ذلك، ثم يقع بعدها الكلام المبتدأ، فلما أنّ قولك: إن زيدًا قائم، بعد تتبّع كلامٌ وإنّ فيه في الابتداءِ فكذلك ما في معنى ذلك، وهو ألا.
وأما كَلّا فهي أداةُ زَجْرٍ عما تَقَدّم من الكلام، فهي رد لهوزجرٌ عنه، وما بعدها مستأنف، فإن بعدها في محل الابتداء.
وأما حتّى فبمنزلة ألَا؛ من حيث إِنّ كل واحدةٍ منهما يقع بعدها الكلامُ المبتدأ، فإنّ بعدها واقعة في الابتداء بهذا المعنى.
وقد يُقالُ: لعلّ الناظم رأي هذه المواضعُ مما يقعُ فيها النظر، فلا تكون إِنّ فيها من قسم المبتدأة إلا بعد تأمل، فترك التنبيه عليها، اتكالًا على نظر الناظر في كتابه. والله أعلم.
ثم ذكر مواضع الوجهين فقال:
بَعْدَ إِذَا فُجَاءَةٍ أَوْ قَسَمِ
لَا لَامَ بَعْدَه بِوَجْهينِ نُمِى
مَعْ تِلْوِ فَالحَزَا وَذا يَطّرِدُ
فِي نْحوِ: خَيْرُ القَوْلِ أنِّى أَحْمدُ
الوجهان هنا هما: فتح (همزة) إِنّ وكسرها، وذلك يكون باعتبارين، فباعتبار سدّ المصدر مسدّها تُفتَحُ، وباعتبارِ عدمِ ذلك تُكسرُ. ولا يكون ذلك إلبا من وجهين مختلفين. وأتى لهذا القسم بأربعة مواضع:
أحدها: أن تقع بعد إذا التي للمفاجأة نحو: مررت به فإِذا إِنه عبدٌ. يجوز في إِنّ الكسر، وهو الأصل، لأنّ إذا المفاجأة مختصّة بالدخول على الجملة الاسميّة، فإذا وقعت بعدها إنّ فهي داخلةٌ على جملة، فيحتاج إلى كسرها، كأنه قال: فإذا هو عبدٌ. ويجوز الفتح، وهو خلاف الأصل، ولكنه/ جائز، على أن تكون أَنّ وما بعدها في موضع خَبَر مبتدأ محذوفٍ، كأنه قال: فإذا أمرُه أنه عبدٌ؛ قال سيبويه: «ولو قلت: مررت فإذا أنه عبدٌ، تريد: مررت فإذا العبوديّةُ واللؤم، كأنك قلت: مريت فإذا أمرُه العبوديّة واللؤم. ثم وضعت أَنّ في
هذا الموضع جاز، ومثل [ذلك] ما أنشده سيبويه من قوله:
وكنتُ أُرَى زيدًا كما قيلَ سَيِّدا
إذا أَنّه عبدُ القَفَا واللهازِمِ
والثاني: بعد القسم الذي لا لام بعده، وذلك قوله:«أو قَسَمِ .. لا لَامَ بَعْدَه» . وهو معطوفٌ على مخفوض «بعد» ، لا مخفوضِ «إذا» ، إذ ليس للقسم لفظ إذا. وقوله:«لا لام بعده» في موضع الصفة لقسم فالضمير في «بعده» عائد على القسم. ويريد القَسَمَ الذي في جوابه إنّ. وضمير «نُمِى» عائد على همز إِن. ويعنى أنّ إِنّ إذا وقعت جوابا للقسم وليس معها اللام فإنّ في همزها وجهين، وهما: الكسر والفتح ودل عليهما تقَدُّمُهما قبلُ. فَأَمّا الكسر فنحو: والله إِنّ زيدًا قائم، وأقسم إِنك كريم. وأما الفتح فنحو: أقسمتُ أَنّ زيدًا قائم. ومن الأول قولُ الله تعالى: {حم. والكتاب المبين * إِنّا أنزلْناه في ليلةٍ مُبَارَكَةٍ} . وفي الآخرِ: {إنا جَعَلْنَاه قُرْآنًا عَرَبيًّا} . ومن الثاني قولُ الراجز:
أَوْ تَحْلِفِى بِرَبِّك العَلىّ
أَنِّى أَبُوذَيّا لك الصّبي
وتحرَّزَ بقوله: «لا لام بَعْدَه» من القسم الذي بعده اللام، وتقع في خَبَرِ إن، فإنّ هذا لا وجهين فيه، وإنما فيه وجهٌ واحدٌ وهو الكسر، نحو قول الله تعالى:{والله يعلَمُ إِنّك لرسُولُه} .. الآية. بل كقوله: {قُلْ: إِىْ وَرَبِّي إِنّه لحقٌّ} ، {فورَبِّ السماءِ والأَرض إِنه لحقٌّ} فوجهُ الكسر أنّ القسم إذا كان جوابه جُمْلَةً اسميةً فلا بدّ أَنْ يتلقى -إذا كانت موجَبَةً- بإنّ واللام، أو بأحدهما، ولا يستغنى عن واحدٍ منهما. هو هو الأصلُ، ولذلك لا تقول: والله أنت ذاهبٌ. ولو فتحت إنّ لكان بتلك المنزلة، فكان الكسر أولى. ووجه الفتح أن يقال: لعلّ الفتح على إضمار الجارّ إذا قلت أقسمُ أنّك قائِمٌ، أى: على أَنّك قائِمُ. وكذلك يكونُ قوله:
أَوْ تَحِلفِى بِرَبِّك العَلِىَ
أَنِّى أَبو ذَيّا لك الصّبِىِّ
ثم يحملُ على ذلك ما كان الفعلُ فيه غير مصرّح به، نحو: والله إِنّ زيدًا قائمٌ.
وما أجاز هنا من الوجهين ليس بمذهَبِ البصريين، وإنما هو رَأْىُ الكوفيين على ما حكاه ابنُ كيسان، ونحا نحوهم الزجاجىّ إِذ قال: «وقد أجاز بعض النحويين فتحها بعد اليمين، واختاره بعضهم على الكسر، والكسر
أجودُ وأكثر في كلام العرب، والفتح جائز قياسًا، فجعل أبو القاسم الفتح قياسًا، وإن كان الأجود الكسر.
وذهب ابن أبي الربيع مذهبه أيضا.
فالناظم كوفىُّ في أصل المسألة وزَجّاجِىٌّ، إلا أن الأجود عند الكوفيين الفتح، وعند الزجاجي الكسر. وأصلق الناظم القول في جوازهما فالظاهر التساوي عنده، وإذ ذاك يكون قد اختار القول بمذهبٍ ثالث مخالفِ لما تقدم نقله، ومخالفٍ لما رأه في شرح التسهيل من كونِ الفتحِ غير قياسٍ. فأما كونه مخالفًا لما رأه في شرح التسهيل فاضطراب في المذهب، وأما/ مخالفته للناس فاختراع لقول لم يره أحدٌ من النحويين، فهو مخالفٌ للإجماع. ولا يقال: لعل قوله: «بوجهين نُمِى» أراد به وجهين على الجملة، فيكون أحدهما قليلًا، فيتفق له القولان، إِن أراد أنه غير مقيس؛ إذ الفتح نادِرٌ، أو يكون موافقا للزجاجي إن أرد أنه مقيس. وقد رأى هنا غير ما رآه في شرح التسهيل، ولا بُعدَ في هذا، إذ المجتهدون تختلف آراؤهم في الأوقات المختلفة، فيكون له قولان هنا -لأنّا نقول: أما اختلاف القولين للعالم فممكن في نفسه إلا أنه غير ظاهر هنا من وجهين:
احدهما: أن من عادته إذا كان أحدُ الوجهين نادرًا أو شاذًا أو قليلًا أو يُنَبِّه على القلّة أو الشذوذ، أو الشياع والكثرة، وهنا لم يفعل ذلك.
والثاني: / أنه قال: «بوجهين نُمِى» ، إنهُ نِقل عن العرب؛ فإن عنى قياسًا فلازمٌ في الجميع، أو غير قياس فكذلك، ويُبيّنِ ذلك أنه شرك في المسألة ما بعد إذا الفجائية لقوله:«بَعْدَ إذا فجاءَةِ أو قَسَمٍ» .. إلى آخره، وهما في إذا وجهان جَيِّدان لا نُدُورَ في أحدهما ولا قلّة، فكذلك يلزم في القَسَمِ لا محالة، وإذ ذاك يكون مخالفًا لأهل البصرة والكوفة معًا.
ويجاب عن ذلك أَنّ إحداثَ قول ثالث إذا أجمع الناس على قولين لا يكون خرقًا للإجماع عند جماعة من أهل الأصول، فلا عَتْبَ عليه. والحقُّ أنه كلامه غير مقتض لتساوي لوجهين، وإنما يقتضى قياسهما، ومعتمدُه في ذلك السماع، ولا شك أن السماع بذلك نادر، لكن قول الشاعر:
أَنِّى أَبُو ذَيالِكِ الصّبِيِّ
قد يلتحق على مذهبه بالنثر؛ إذ لا مانع ولا ضرورة تمنع من الكسر، فهو بمنزلته في غير الشعر، والقياس قابلٌ لما قال. وأيضًا الكوفيون قد اختارو الفتح على ما نقل عنهم ابن كيسانَ، وذلك لا يكون إلا مع السماع، لأن ما لا سماع فيه -وإنما أُجِيزَ بالقياسِ- لا يقال فيه: إنه أكثر من غيره، وقد قالوا: إنّ الفتح أكثر من السكر؛ فقد انتظم القياس مع السماع، وذلك ما أَرَدْنا، فلذلك -والله أعلم- اختيار الناظم هذا ما اختار. إلا أنّ فيه نظرًا من جهة أنّ إطلاقه في جواز الوجهين في القسّمِ اقتضى أن المفتوحة تقع جوابًا للقسم مطلقًا، لأنه
قال: بَعْدَ إِذَا فُجَاءَةِ أو قَسَمِ»
…
إلى آخره، وإذا وقعت بعده فذلك على أنه جوابٌ له، سواءٌ أكان فعل القسم مصرّحًا به أو غير مُصرح به. وليس كذلك، بل الوجهان إنّما ذكرا مع التصريح بالفِعْلِ والقسم، نحو قوله:
أو تَحْلِفِى بِرَبِّكِ العَلِىِّ
أَنّى أبو ذَيّالِكِ الصّبِىِّ
وأما كونُ الفعل غير مُصَرَّحِ به فلم أر من ذكر فيه نقلًا، نحو: والله أَنّك قائم. والظاهر المنعُ من الفتح والتزام الكسر؛ لأن المفتوحة مُؤَوّلةٌ باسمِ يقع مبتدأً، أو خبر مُبتدأِ، والجملة الابتدائية لا تقعُ بنفسها جوابًا للقسم؛ لا تقول: والله زيدٌ قائم، فكذلك لا تقول: والله أَنّك قائم؛ إذ هو في تأويل: والله أمرك القيام. أما جواز الفتح مع التصريح بفعل القسم فظاهر على تعلّو أنّ به.، لا على أنه جواب، فقولك: حلفت أنّك قائم، على تقدير: حلفتُ على أنك قائم. وهذا بَيِّن، فإطلاق الناظم القول في جواز الوجهين فيه ما ترى.
والجواب: بأَنّ كثيرا من المتأخرين يطلقون القول في جواز الوجهين من غير تفصيل، فكان الناظم أتبعهم. وأيضا الذي حُكِى عن الكوفيين في الشرح/ مماثل لما ذُكر هنا من عدم التفصيل، والمسألة -كما تقدّم- إنما تصح على التفصيل المذكور، فالسؤال واردٌ على الجميع، والله أعلم.
ويقال فيه نَمَيتُ اليه الحديث ونموتُه فأنا أَنْمِيه وأَنْمُوه: إذا رفعته
إليه فَنُمِي مَبْني من أحد الفعلين.
ثم قال: «مَعْ تِلْوِ فَا الجَزَا» . هذا هو الموضع الثالث من مواضع جواز الوجهين في إنّ. وذلك إذا كان تِلْوًا -أي: تاليًا- لفاء الجزاء، وفاء الجزاء هي الواقعة في جواب الشرط.
ومع: متعلقة باسم فاعل محذوف هو حال من الضمير في نُمِى، أى: نُقِل إن بوجهين حالة كونه مصاحبًا إن التالى فاء الجزاء. ويريد مصاحبته في الحكم بجواز الوجهين.
يعنى أَنّ إِنّ إذا وقعت بعد فاء الجزاء فإن للعرب فيها وجهين أيضا: الكسر والفتح. فالكسر نحو قول الله تعالى: {إنّه مَنْ يَتّقِ ويَصبِر فإنّ الله لا يُضِيعُ أَجْر المُحْسِنينَ} ، وقال سبحانه:{إِنْ تَكْفُروا فَإِنّ اللهَ غَنِىٌّ عَنْكُمْ} . وهو كثير. وأما الفتح فنحو قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّهُ مَن يحادِدِ اللهَ ورَسُولَهُ فَأَنّ له نارَ جَهَنّم} .. الآية. وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّه من تَولّاهُ فأَنّهُ يُضِلُّه} .. الآية.
ومما قُرِئَ بالوجهين قولُ الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكم عَلَى نَفْسهِ الرَّحْمَة أَنّه من عَمِل منكم سُوءًا بِجَهالةٍ ثمّ تاب من بَعْدِه وأصلح فأَنّه غفورٌ رحيمٌ} . فقرأ
نافعٌ وغيرُه -إلا عاصمًا وابن عامرٍ- بكسر إِنّ بعد الفاء، وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها. ووجه الفتح أن يكون ما بعد الفاء في تقدير مصدر مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف منوىّ التقديم، أى: فله أنه غفورٌ رحيمٌ، أى: فله غفرانُ الله ورحمتُه. ويجوز أن يكون المحذوف المبتدأ، تقديره: فأمرُه أنه غفور رحيم. وهذا النحو يجرى سائر ما ذكر من الشواهد.
وأما الكسر فلا يحتاج إلى تكلّف شئٍ من ذلك؛ لأنّ ما بعد الفاء حكمه الابتداء؛ قال الفارسي: ومن ثَمّ حُمِل قولهُ: {وَمَنْ عَادَ فينتقمُ الله مِنْه} ، على أنّ بعد الفاء مبتدأ محذوفًا، أى: فهو ينتقم الله منه.
فإن قيل: هذا الإطلاقُ من الناظم غيرُ مستقيم؛ وذلك لأن الشاهد عليه إنما جاء مع تقدّم أنّ المفتوحة، كما مر في الأمثلة، وأَنّ بعد الفاء (في الأمثلة) يحتمل وجهين: أحدهما ما تقدّم من كونها خبرًا أو مبتدأ. والثاني: أن يكون تكررًا لانّ المتقدمة، إما توكيدًا مجرّدًا -وهو مذهب الفراء والمبرّد وغيرهما- وإما بدلًا على جهة التأكيد من الأولى. والمعنى في القولين واحدٌ إلا أن العبارة مختلف، والأظهر من سيبويه هذا الثاني، وهو أن تكون الثانيةُ بدلًا من الأولى، كقوله تعالى:{أَيعدُكم أَنّكم إذا متُّم وكنتُم ترابًا وعظامًا أنّكم مخرجون} ، لأن المعنى: أيعدْكم أنكم مخرجُونَ إذا متم، لكن قدّمت أنّ الأولى وما بعدها من الظرف ليعلم بعد أىّ شئٍ الإخراج. هذا معنى تعليل سيبويه.
ثم قال: «زعم الخليل رحمه الله أن مثل ذلك قوله تعالى: / {أَلَم يَعْلَمُوا أَنّه مَنْ يحادِدِ الله وَرَسُولَه فَأَنّ له نار جَهَنّم}. فظاهر هذا الحملُ على التكرير/ قال السيرافي: «ولو لم تكن مكرّرة لكسرت، لأنها في موضع ابتداءٍ بعد الفاء» . فإذا كان كذلك لم يكن في فتحها بعد الفاء في هذه المواضع شاهد على فتحتها بعد الفاء مطلقا، ولا بُدّ أن يثبت من كلام العرب مثل: من تكْرِمُنِى فَأَنى أكرمُه. وهذا ربما لا تجده، وإذا كان معدوما كان الناظم غير صحيح، لاقتضائه جواز: من يكرمني فَأَنى أكرمه.
فالجواب: أن الناظم جرى في هذا الكلام على طريقة (أبى) الحسن الأخفش في الآية، من تعيين الاحتمال الأول، أن يكون ما بعد الفاء محمولًا على الابتداء والخبر، كما مَرّ تفسيرُه، وتكون هذه الآيات مثل قول الله تعالى:{والّذِين كَسبُوا السيئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بِمثْلِها} تقديره: أمرهم جزاءُ سَيِّئةٍ، أو جزاؤهم. وكذلك قوله:{قلنا: ياذا القَرْنَينِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمّا أَنْ تَتَّخِذِ فِيهِمْ حُسْنًا} ، أى: إمّا أمرُهم كذا وإمّا أمرُهم كذا. وهو في الكلام كثير. وهذا الذى قاله الأخفش ارتضاه ابن خروف، وقال: إذا حُمِل على هذا صلح الفظ والمعنى، قال: ولا وجه للتأكيد في الآية ولا للبدل. وتأوّل كلام سيبويه على هذا المعنى، وأنّ قوله: «وزعم
الخليلِ أنّ مثل ذلك» يريدُ به مثل قوله: قد علمت زيدًا أبوه خيرٌ منك، وقد رأيت زيدًا يقول أبوه ذلك -قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا} .. الآية، يشير إلى المسائل التى يبتدأ فيها، لا إلى أنها على التأكيد ولا البدل. فعلى هذه الطريقة تكون الآياتُ شواهِدَ على جواز نحو: من يكرمني فأنّى أكرمه، على معنى: فأمرى أنّى أكرمه، وفَلَهُ أنّى أكرمه، أو ما أشبه ذلك. ويظهر أَنّ هذه الطريقة أولى، لوجود نظائرها في كلام العرب، ولأنّ البدل والتأكيد لا يكونان جوابا، وقد وقع ذلك الجواب على الطريقة الأخرى. فما ارتض الناظم أحسنُ في القياس الصناعىّ، وبه يصحّ الإطلاق في القاعدة.
ثم قال: «وذا يَطِّردُ» ، ذا: إشارة إلى الحكم المذكور، وهو جواز الوجهين في إنّ، ويطرد معناه: يجرى قياسًا لا ينكسر، وأصله من قولهم: اطّرد الخبرِ أو الشرّ: إذا اتَبِع بعضُه بعضًا، وجرى من غير تَوَقُّفٍ، وقولهم: اطرد الأمر: إذا جرى واستقام. واطّرد النهر: جرى.
يقول: وهذا الحكم يجرى فيما [كان] نحو قولهم: خير القول إنّى أحمدُ، وهو الرابع من مواضع جواز الوجهين، فيجوز، فيجوز لك في إنّ الفتح فتقول: خيرُ القولِ أَنى أحمدُ الله، على تقدير المصور، أى: خيرُ القول حمدُ الله. ويصدق في هذا الوجه على كلِّ حمد، بأىّ عبارةٍ كان. ويجوز الكسر فتقول: خير القول إني أحمد الله، على تقدير: خير القولِ هذا القولُ المعيّن المفتتح بإنى. فهو في التقدير على ما هو في اللفظ ولا تصدقُ هذه العبارة إلا على الحمد بهذا اللفظ المذكور. ومثلُ ذلك ما مثّل به سيبويه حيث قال: «وتقول: أول ما
أقولُ أَني أحمدُ الله، كأنك قلت: أول ما أقول الحمدُ لله، وأَنّ في موضعه». قال:«وإنْ أردْت أن تحكى قلت: أولُ ما أقول: إِنى أحمد الله» . يعنى بالحكاية الحملُ على الابتداء. ومثله: كلامُ زيدا إنه يقول كذا كذا، وجوابه إنّ زيدًا في الدار، وسؤالى إِنى أسأل الله كذا كذا، وخبرى عن حالِ زيدٍ إنه مُتّكِئ. وما أشبه ذلك.
وقيّد مثاله المسألة بشرط لا بُدّ منه وهو: أن يكون أول الكلام مما يقتضى الحكاية، وذلك القولُ وما في معناه، فلذلك قال:«فِى نَحْو خَيرِ الْقَولِ إِنِّى أَحْمَدُ» ، والقول يقتضى الحكاية، فإذا كان كذلك ساغ إجراؤه على الحكاية، وساغ إجراؤه على غير الحكاية، ومن ثَمّ جاز الوجهانِ في إنّ هذه.
ولما حَصَرَ مواضع القسمين واستوفى عَدّها، دَلّ كلامُه على أنّ ما عدا ذلك فهى فيه مفتوحة، وهو القسمُ الثالثُ من أقسام إِنّ، فلم يَحْتَجْ إلى تكلُّفِ عدِّها. وقد ذكر الناس لفتحها عشرة مواضع:
أحدها: أن تقع فاعلة، أى: مُؤَوّلة مع معموليها بالفاعل، لأنها مصدرية، نحو: أعجبنى أنّك منطلقٌ، لأنها في تقدير: أعجبني انطلاقُك.
والثاني: أن تقع مفعولةً نحوُ: كرهتُ أنّك قائم، تقديرُه: كرهتُ قيامك.
والثالث: أن تقع مجرورةً لفظًا، نحو: عجبتُ من أَنّك مُنْطَلِقٌ، أو تقديرًا نحو:{وأَنّ المساجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا} .. الآية. (أى): ولأَن المساجد لله.
والرابع: أن تقع مبتدأة، نحو: عِنْدى أَنك منطلق.
والخامس: أن تقع خَبَرَ مبتدأٍ، الكرمُ أنّك تَفْعَلُ كذا.
والسادس: أن تقع بَدَلَ من شئ، نحو: أعجبتني قصّتُك أَنّك أعطيتَ فلانًا.
والسابع: أن تقع بَدَل اشتمالٍ، نحو قول الله تعالى:{وَإذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إحدى الطّائِفَتَينِ أَنّها لَكُمْ} .
والثامن: أن تقعَ بعد لو نحو قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنّهم إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} ، {وَلَو أَنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ به} .. الآية.
والتاسع: أن تقع بعد لولا، نحو: لولا أَنّك قائمٌ لأكرمتُكَ.
والعاشر: أن تقع بعد مُذْ، نحو: ما رأيتُه مذ أَنّ الله خلقنى.
وما أشبه هذه المواضع فهى في معناها.
واعلم أن اقتصاره فيما يجوز فيه الوجهان على أربعة مواضعَ يُدْخِلُ عليه في هذا القسم خَلَلًا؛ لأن الناس قد ذكروا الجواز الوجهين مواضع أُخَر لم يذكرها الناظم، فاقتضى ذلك فيها لزومً الفتح، وليس كذلك.
منها: ما بعد حتى إذا كانت ابتدائية كسرت إِنّ بعدها -وقد تقدم- وإذا كانت عاطفة فُتِحَتْ، نحو: أعجبنى أمرُك كلُّه حتى أنّك متواضع.
ومنها: ما تقع بعد أما، نحو: أَمَا إنّك منطلق، بالفتح والكسر، فإذا فتحت كانت أما ظرفًا بمعنى حقًا، كأنك قلت: حقًا أنّك ذاهب. وإذا كسرت كانت حرف تنبيه كألا.
ومنها: أن تقع بعد حرف تنبيه كألا.
ومنها: أن تقع بعد حرف العطف، نحو: عرفتُ أنّك ذاهبٌ وأنك مُعْجَلٌ. يجوز الوجهان، فالفتح عطف على أَنّ الأولى، والكسر استئنافٌ. وكذلك مع ثُمّ إذا قلت عرفتُ أنّك ذاهبٌ ثم أَنّك مُعُجَلٌ. ومن ذلك في القرآن. {إِنّ لَكَ أن لا تَجُوعَ فيها ولا تَعْرَى. وأَنّكَ لا تَظْمَأُ فيها وَلَا تَضْحَى} ، قُرِئت بالكسر، وهو لنافع وأبي بكر. وفتح الباقون.
ومنها: أن تقع بعد الواو لكن مع اسم الإشارة، نحو: ذاك وأَنّك قائم، فالفتح -على معنى: الأمر ذاك وأنّك قائم، والكسر على الاستئناف. ومن الكسر قولُ تعالى:{هذا وَإِنّ للطاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ} . ومن الفتح قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وأَنّ للكافِرينَ عَذَابَ النّارِ} ، / {ذَلِكُمْ وأَنّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكافِرينَ} .
ومنها: أن تقع بعد القول المُشْرَبِ معنى الظّنِّ، نحو: أتقول إنّ زيدًا قائم؟ وأتقول: أَنّ زيدًا قائم.
إلى غير ذلك من المواضع التى يجوز فيها الوجهان، زيادةً إلى ما تقدّم من المواضع التى تَلْزَم الكسرَ، فجميعها ينقضُ عليه هذا التقسيم فلا يَتَخلّص للقسم الأخيرِ شئٌ بعينه.
والذى يقال في هذا -والله أعلم- أَنّه لم يقصد الحَصْر التامّ
لسائر الأقسام، وإنما قصد التنبيه على بعض المواضع المشهورة في القسمين الأوّلَينِ، وترك الثالث غُفْلًا لئَلّا يُفْهَم منه لزوم الفتح في جميع ما لم يذكر. وكأنه ذكر ضابط الفتح. وهو سدُّ المصدر مسدّه، فاكتفى به على الجملة، ثم نَبّه على شَىْءٍ مما خرج عنه إلى لزوم الكسر أو جواز الوجهين، وترك سائر المواضع لينتظر فيها الناظر في كتابه، بناءً على ما ذكر له، وذلك كافٍ في مثل هذا المختصر.
(ثم قال):
وَبَعْدَ ذَاتِ الكَسْرِ تَصْحَبُ الخَبَرْ
لَامُ ابْتِدَاءٍ، نَحْوُ: إِنّى لَوَزَرْ
وَلَا يَلِى ذِى اللّامَ مَا قَدْ نُفِيا
وَلَا مِنَ الأَفْعَالِ مَا كَرَضِيَا
وَقَدْ يَلِيهَا مَعَ قَدْ، كإِنّ ذا
لَقَدْ سَمَا عَلَى العِدَا مُسْتَحْوذا
(وَتصْحَبُ الواسِطَ مَعْمُولَ الخَبَرْ
وَالْفَصْلَ، وَاسْمًا حَلّ قَبْلَهُ خَبَرْ)
أخذ الآن يُبيّين ما يتعلق بهذه الحروفِ أو ببعضها من الأحكام، زائِدًا إلى ما لها من ذلك في أنفسها. وابتدأ بِذِكْرِ إِنّ المكسورة، فذكر أن لام الابتداء تدخُلْ مع إِنّ على الخبر وغيره. وذلك أنّ لام الابتداء أصلها أنّ تدخل على المبتدأ
والخبر لتؤكِّد الكلام، فتقول: لَزيدٌ قائمٌ، و {لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيرٌ من مُشْرِكٍ} . ثم إِنّ إِنْ تدخل على المبتدأ والخبر أيضًا للمعنى الذى تدخله اللام من التوكيد، ويبقى معها معنى الابتداء، كما كان باقيًا مع اللام، فلما لم يتناقضا جاز اجتماعُهم زيادةً في التوكيد، وحسُن اجتماعٌ توكيدين بحرفين، كما حَسُن اجتماعهما باسمين، نحو:{فَسَجَدَ الملائِكَةُ كُلٌّهم أَجْمَعُون} ، وموضِعُ كل واحدٍ من الحرفين صدرُ الكلام، لكن لما اجتمعا كرهوا ذلك، وأن يجتمعها ويتلاحقا، ولذلك لما جمعوا بينهما في الشعر غَيّروا أنّ بإبدال همزتها هاءً، فقالوا: أنشده عامة النحاة:
أَلَا يا سَنَا بَرْقٍ عَلَى قُلَلِ الحَمِى
لَهِنّكَ مِنْ بَرقٍ عَلى كَرِيمُ
والأصل عندهم: لإنك. فأبدلوا كما أبدلوا ألف ما حين اجتمعت مع مثلها في قوله، أنشده ابن جني:
مَهْما لى اللّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهْ
فلما كان اجتماعهما مكروها أخّروا اللام وأبقوا إنّ في موضعها اعتبارًا
باختصاص إنّ بالمبتدأ وعملها فيه دون اللام، فإنها لا تختص ولا تعمل، فقالوا: إنّ زيدًا لقائم. ومع هذا فاللام في نية التقديم ولذلك عَمِلت [إنّ]، ولولا ذلك لعلقتها عن العمل، كما علقت أفعال القلوب. فإذا أخّروها فلا بُدّ أن يقع بين إِنّ وبينها فاصلٌ، وإلّا كان المحذوف باقيا. فلا تدخل إلا حيث يحصُلُ هذا الشرط. وذكر الناظم لدخولها أربعة مواضع، وهى: الخبر، ومعموله، والفعل، والاسم.
فأما دخولها على الخبر فذلك قوله: «وَبَعْدَ ذَاتِ الكسرِ تصحتُ الخبر بعد إِنّ المكسورة.
وإنما قال: «وَبَعْدَ ذَاتِ الكَسْرِ» بيانًا أنّ هذه اللام مختصّة اللحاق بإنّ لا بغيرها من الحروف المذكورة؛ فلا/ تدخل في خبر المفتوحة، فلا تقولك أعجبني أن زيدًا لقائم. وما جاء من ذلك في السماع فشادُّ لا يقاس عليه، كقراءة من قرأ:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا أنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَام} ، بفتح (أنّهم) مع اللام ولا تدخل أيضا في خبر غير أنّ، فلا تقول: كأنّ زيدًا لقائمٌ، ولا لعلّ زيدًا لقائم، ولا ليت زيدًا لقائم. وهذه متفقٌ عليها. ولا تقول أيضًا: لكن زيدًا لقائمٌ. عند البصريين وهو رأى الناظم. وذهب الكوفيون إلى جوازه. والصحيح مذهب أهل البصرة للقياس والسماع أمّا القياسُ فلأَنّ هذه اللامَ إما لام الابتداء وإما لام
اختلاف المذهبين، وأىّ ذلك كان فلا يستقيم دخولها في خبر لكن، وذلك لأنها إن كانت لامَ الابتداءِ فإنما حَسُن دخولُها مع إنّ لموافقتها لها في المعنى؛ إذ كلٌّ منهما للتأكيد، وأما لكنّ فمخالفةٌ لها في المعنى. وإن كانت لام القَسَمِ فإنما حَسُن دخولها مع إنّ لأن كلّ واحدةٍ منهما تقع جوابًا للقسم، ولكن مخالفةٌ للّام في ذلك لأنها لا تقع في جواب القسم، فكان الواجب أن لا تدخل في خبر لكن البتّةَ. وأما السماعُ فمعدُومٌ، فلا مستَنَدَ لجواز لحاقها مع لكنّ.
واحتج الكوفيون على صحة مذهبهم أيضا بالقياس والسماع، أما القياسُ فمن وجهين، أحدهما: بقاء معنى الابتداء مع لكنّ كما كان باقيًا مع إِنّ، وبقاءُ معنى الابتداء في إِنّ هو المسوِّغُ لدخولها مع إِنّ، فَلْتَدخُلْ مع لكنّ لوجود ذلك المعنى الجامع بين إِنّ ولكنّ. وأيضًا فإنّ أصل لكنّ إن، زيدت عليها اللام والكافُ، كما زيدت عليها اللام والهاء في نحو:
لَهِنّكَ مِنْ بَرْقٍ عَلَىّ كَرِيم
والحرفُ قد يُزاد عليه في أوّله نحو لَعَلّ، وفي آخره نحو:{فإمّا تَرَينّ} . إلا أن الهمزة حذفت تخفيفًا، كما حذفت عندكم في لن؛ إذ أصلها -على قول الخليل-: لا أنْ. وإذا كان كذلك فلكنّ هى إِنّ في الحقيقة، فكما جاز دخول
اللام مع إِنّ جازَ مع لكنّ. وأما السماعُ فقد قال الشاعر:
وَلَكِنّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيدُ
ولا يقال: لو كان قياسًا لوجد في السماع كثيرًا، لكنه لم يُوجَدْ منه إِلّا هذا الشطر، فدلّ على أنه عند العرب مهجورٌ -لأنّا نقول: لا تعتبر القلّة والكثرة في السماع إِلّا إذا كان القياس يدفعه ويعارضه، فأما إذا كان جاريًا على القياس ولم يكن له معارض، فلا يندفع بالقلّة. واعتبر ذلك بمسألة أبى الحسن في شنوءة، في باب النسب، حيث قال فيه شَنَئِىّ -ولم يسمع غيرُه-: هو البابُ كلُّه- فكذلك مسألتنا قد تقدم وجهُ القياس فيها، ولا معارض لذلك، فصحّ القياسُ على ما سُمِع فيها وإن قَلّ.
والجواب عن الأول: أنّ معنى الابتداء فحسبُ، بل لأنها مثلها في التوكيد، ولكنّ بخلاف ذلك. وأيضًا فإنّ معنى الابتداءِ مع لكنّ لم يبق كبقائه مع إِنّ؛ لأنّ الكلام الذى فيه إنّ غير مفتقرٍ إلى شئٍ قله، بخلاف الذى فيه لكنّ فإنه مفتقرٌ إلى ما قبله، فاشبهت أَنّ المفتوحةَ التى أُجمع على امتناع دخول اللام بعدها.
وعن الثاني: أَنّ ما قُلتم من أنّ أصلها «إِنّ» زيدت عليه اللام والكاف فدعوى لا تسمع من غير/ دليلٍ. وأما النَظْرِ بقوله: «لَهِنّكَ مِنْ بَرْقٍ» فيحتمل أن يكون الأصلُ لإنّك، فَأبدَلت الهمزة هاء. وهذا الذي يدّعيه
البصريون. ويحتملُ أن يكون الأصلُ: لِلهِ إِنّك. فاختُصر كما اختُصِرَ في نحو: لاهِ أبوك، ولَهْىَ أبوك، ولهِ أَبُوكَ. وهذا أولى من قول الكوفيين لثبوت تصرّف العرب في لفظ الله في القسم. وهذا تأويل السُّهيلى فيما أحسبُ؛ فإذًا لم يتعيّن وجهُ التنظير، ولو سُلِّم أن أصلها إِنّ فلا يلزم أن يبقى بعد التركيب حكمُ ما قيل التركيب، بل يختلفَ كثيرًا. كما اختلف عند الخليل في لن، حيث جاز: زيدًا لن اضرب، ولك يجز: زيدًا لا أَنْ أضرب؛ وكما اختلف في إمّا، فلزمت فعل الشرطِ النون، ولم تلزم دون ما. وكما قلتم أنتم في «اللهم» ونظائر ذلك كثيرة؛ فإذا كان كذلك لم يستتبّ القياس مع جواز المخالفة بعد التركيب، بل مع ثبوتها كما تقدّم في جواب الوجه الأول.
وأما السماعُ فقال ابن مالكٍ: لا حُجّة فيه لشذوذِه؛ إذ لا يُعْلَم له تتمّةٌ ولا قائلٌ ولا راوٍ عدلٌ يقول: سمعته مِمّن يوثَق بعربيته، والاستدلالُ بما هو هكذا في غاية الضعفِ. قال: ولو صحّ إسناده إلى من يوثق بعربيته لوجِّه بجعل أصله: «ولكِنْ إِنّنى» ثم حُذِفت همزة إِنّ ونونُ لكنّ، وجئ باللام في الخبر لأنه خبر إِنّ، أو حُمِل على أن اللام زائدةٌ كما زيدت في الخبر قبل انتساخ
الابتداء، كقوله، أنشده عامة النحويين:
أُمُّ الحُلَيسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ
ولا يصحُّ عَضْدُه بموافقته للقياسِ؛ فقد مرّ القدحُ في ذلك القياسِ، فلم يبق إلا الوقف على السماع.
وقولُ الناظم: «لامُ ابتداءٍ» تعينٌ للّام الداخلة ما هى؟ وأنها لَام الابتداءِ الداخلةُ على المبتدأ والخبر، نحو: لزيدٌ قائمٌ، ليست غيرَها. وهذا الذى أشار إليه هو مذهبُ أهل البصرة. وقد تقدّمت الإشارة إلى الخلافِ في ذلك. والدليلُ على صحة مذهب الناظم أَنّ هذه اللام مستغنيةٌ عن نون التوكيد إذا دخلت على المضارع نحو: إِنّ زيدًا ليقومُ، و {إن ربّكم لَيحكُمُ بَيْنَهُم} ؛ ولو كانت لام القسم لم تستغن عن النون، فكنت تقول: إن زيدًا ليقومنّ، كما تقول: والله ليقومنّ. فإن لم يقولوا ذلك مع كثرةِ دخول النون مع لام القسم وندورِ خلافه [فهو] اليلٌ واضحٌ على أنها ليست لام القسم، وإنما هى لام الابتداء التى لا تلزمُها نون. ومثالُ دخولها على الخبر قولُ الله تعالى:{إِنّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ} ، {وإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرةٍ للناسِ عَلَى ظُلْمِهم} . وهو كثير.
[والوَزَرُ: الملجأ].
ثم أخذ يشترطُ في جوازِ دخولِ هذه اللام على الخبر شروطًا ضرورية، وهى ثلاثةٌ:
أحدها: أشار إليه مثاله، وهو قولُه:«إِنِّى لَوَزر» . وهو الفصلُ بين إنّ والخبر، فإنه لو لم يكن مفصولًا من إِنّ لم تدخل اللامُ عليه، نحو: إِنّ في الدار زيدًا، فلا يقال: إِنّ لفي الدار زيدًا. ووجهُ ذلك ما تقدم.
والثاني: أن لا يكون الخبر منفيًا، وهو المصرّحُ به في قوله:«وَلَا يَلِى ذِى اللامَ ما قد نُفِيا» . ذى: مفعول بيلى، وما هو الفاعلُ، كأنّه قال: ولا يلى الخبرُ المنفىُّ اللّام المذكورة. وقوله: «ما قد نُفِى» -وإن كان الخبرُ غير مصرّحٍ به فيه- فهو/ المرادُ، لأن كلامه فيه، فمعنى الكلام: ولا يلى هذه اللامَ ما قد نُفِى من الأخبار.
والخبر المنفىُّ: هو الذى دخلت عليه أداة نفي، فيريد أَنّ نحو: إِنّ زيدًا ما أبوه قائمٌ، لا تدخلُ اللامُ عليه، فلا تقول: إِنّ زيدًا لما أَبُوه قائم. وكذلك غير ما من أدوات النفي، فلا تقول: إِنّ زيدًا للايقول، ولا: إن زيدًا لإِنْ تقُول إلا خيرًا. وما أشبه ذلك. ومثل ذلك في الامتناع: إِنّ زيدًا لَلَمْ يَقُمْ، وإِنّه لَلَنْ يقوم.
ووجه امتناع اللام هنا عند المؤلف أَنّ أكثر أدوات النفي أولُها لامٌ مثلُ: لا، ولم، ولن، فكرهوا اجتماعَ حرفين مثلين لما فيه من الثّقلِ على اللسان، ثم أجرّوا سائِرَ أدواتِ النفِي على ذلك لِيُنْسَقَ البابُ، كما حملوا يُكرمُ وتُكرمُ على أُكرمُ في حذف همزة أَكرَمَ. ولذلك نظائر في القياس العربي. وقد شذ دخولُها على «لا» في الشعر؛ أنشد
ابن جني:
وَأَعْلَمُ إِنّ تَسْلِيمًا وَتَركًا
لَلَا مُتَشابِهانِ وَلَا سَوَاءُ
وهذا محفوظٌ عند الناظم، فلذلك لم يَبْينِ عليه.
والثالث من الشروط: أن لا يكون الخبرُ فعلا يشبه رَضِى، وذلك قوله: «وَلَا مِن الأفْعَالِ ما كَرَضِيا، وأَنْ يكون متصرِّفا؛ فإذا اجتمع في الفعل الوصفان معًا لم تلحقه اللامُ، فلا تقول: إِنّ زيدًا لَرضِى، وكذلك لا تقول: إِنّ زيدًا لقام، وإن لأعطاني كذا، ونحو ذلك.
فإن تخلّفَ شرطٌ من هذين جاز لحاقها أما تخلف كونه ماضيا، فنحو: إنّ زيدًا يقومُ، فَتَلْحقُ واللام؛ لأنّ الفعلَ مضارعٌ، فتقول: إن زيدًا ليقومُ، ومنه:{إِنّ ربّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} .. الآية. وأما تخلف كونه متصرفًا، فنحو: إن زيدًا نِعْمَ الرجلُ، فتلحق اللام هنا فتقول: إِنّ زيدًا لنِعْمَ الرجل، لفقد التصرُّفِ. ووجهُ هذا كلِّه أَنّ أصل اللام أن تدخل على الاسم لا على الفعل، وإنّما دخلت على الفعل المضارع لشَبَهِه بالاسم الشبه المذكور قبلُ، وأمّا الماضى فليس شبيها بالاسم فلم تدخل عليه اللام، وإنما جاز دخولُها على غير المتصرّفِ لأنه يُفيد الإنشاء، والإنشاء يستلزم الحضور فيحصل بذلك شَبَهُه بالمضارع، فتدخل اللام. ولهذه العلّة إذا دخلت على الفعل الماضى المتصرّف [المفترن
بقد] استُبيِحَ دخولُ اللام عليه؛ لأن قد تقَرّب الماضي من الحال ومن هنا استثنى الناظمُ ذلك من الحكم بالمنع فقال: وقد يليها مع قد، يعنى: أنها قد تدخل على الماضى المتصرّفِ إذا كان مصحوبًا بقد، نحو ما مثّل به من قوله:«إنّ ذَا .. لقد سَمَا على العِدَا مُسْتَحوِذَا، فأدخل اللام على «سما» لما اقترن بقد.
ثم يتعلّق النظر في كلامه بمسألتين:
الأولى: أَنّ التصرّف المختصّ بالأفعال يطلق على وجهين:
أحدهما: أن يُرَاد به ما استُعمِل على وجه واحدٍ من وجوه التصرف الثلاثة، إمّا ماضيًا أو أمرًا أو مضارعًا مع بقاء دلالته على الزَّمانِ وعدمِ انتقاله إلى الإنشاءِ كأفعال المقاربة ما عدا كاد وأوشك، وكذا تَعَلّم بمعنى اعلَمْ، وتبارَك، وسُقِط في يده، وينبغي، ونحوها مما لا يستعمُل إلا على وجه واحدٍ وإنْ كان دالًا على الزمان -فهذا ليس بِمُرادٍ للناظم، لأنه جارٍ هنا مجرى المتصرف؛ / فإنك لا تقولُ: إِنّ زيدًا لجعلَ يقومُ، ولا: إن زيدًا لسُقِط في يده، كما لا تقول: إنّ زيدًا لرضِىَ. ويجوز ذلك إذا أدخلت قد فتقول: إِنّ زيدًا لقد جعَلَ يقوم، وإن زيدًا لقد سُقِط في يده، وإن زيدًا لقد سما على العدا. وما أشبه ذلك. ويُشِعِرُ بهذا من كلامه تمثيلُه برضى من حيث كان ماضيًا دالًا على الحدث والزمان، فما كان مثله امتنع أَنْ تدخُلَ عليه اللام.
والثاني: أن يُرِيدَ به ما كان من الأفعال شبيها بالحرف في عدمِ
دلالته على الحدث والزمان وعدمِ تَصرُّفه، كنِعْمَ وبئس، فهذا هو المراد للناظم فأخرجه بالقيد من حُكمِ المَنْع من دُخُولِ اللام عليه، فدخل في حكم الجواز، فتقول على هذا: إنّ زيدًا النِعْم الرجلُ، وإنّ عمرًا لِبِئْسَ الغلامُ. وما أشبه ذلك وقد تَبَيَّنِ وجهُه. واقتضى ذلك جوازَ دخولِ اللام على ليس، وأن تقول: إنّ زيدًا لليس بقائم. وهذا ألا يسوغُ لكراهية اجتماع لامين في اللفظ. ولعلّه لم يَعْيَنِ بالتحرُّزِ منه اتكالًا على عِلّة امتناع دخولِ اللام على أدوات النفي، أو لأنه -وإن لم يَدُلّ على الحدث والزمان- في حكم المتصرّف، كما يقول فيه ابن أبي الربيع وغيرُه، أو لغير ذلك.
والثانية: أنه لما أخرج عن الحكم بدخول اللام على الخبر الخَبَر الوالى لأَنّ، والمنفي، والواقع فعلًا ماضيا، كان ذلك ظاهرًا في أَنّ سائر ما يقع خبرا لأنّ يجوزُ دخول اللام عليه، فتقول: إن زيدًا لقائمٌ، وإن زيدًا لفي الدار، وإن زيدًا ليخرج اليوم. ونحو ذلك. ويقضَى ذلك أن تدخل على الخبر إذا كان شرطًا وجزاءً، وعلى واو المصاحبة المغنية عن الخبر، وعلى الخبر إذا تقدمته أداةُ التنفيسِ، وكذا إذا كان قسمًا وجوابًا، أو جُمْلَةً اسمية.
أما الشرط والجزاء فقد مَنَع في التسهيل دخولَ اللام عليه؛ قال في الشرح: «والمانع من دخولها على أداة الشرط خوفُ التباسها بالموطِّئِة للقسم، فإنها تصحبُ أداة الشرط كثيرًا، نحو: {لَئِن لَمْ يَرْحَمْنَا ربُّنا ويَغْفِرْ لَنَا لنكونَنّ مِنَ الخَاسِرِينَ}. فلو لحقت لام الابتداء أداة الشرط لذهب الوهم إلى أنها الموطئة، وحقُّ المؤكِّدِ أنْ لا يلتَبَسُ بغير مؤكد» . وذكر أيضا أن ذلك غير
مستعمل في كلام العرب فتأكّد المنعُ. ومنع ذلك غَيْرُه أيضًا من النحويين واعتلُّوا للمنع بأنّ هذه اللام تطلب المبتدأ؛ ألا ترى انك لا تقدّم الخبر في قولك: لزيد قائم فتقولَ: لقائمٌ زيدٌ؛ لأن اللام لا تدخل على الخبر، وإنما دخلت في خبر إِنّ للضرورة من اجتماع حرفين مؤكّدين، وإنما دخلت على الخبر لشبهه المبتدأ، وذلك إذا كان مفردًا، أو ظرفًا، أو مجرورًا، أو فعلا مضارعًا. فإن كان الخبر على غير ذلك لم تدخل إلا بنظر وشَغْبٍ؛ فإذًا إطلاق الناظم الجواز فيه ما ترى.
وقد يجابُ عن هذا بأَنْ يقال: المسألةُ نظريّةٌ -ولعلّ الناظم ذَهَب هنا في الشرط مذهبَ ابن الأنباري القائل بالجواز في الجواب، لا اعتبارًا بعدم التباسِها بالموطِّئَةِ لأنها لا تدخلُ في الجواب، بل قاسَ الجوابَ على الجملة الفعلية أو الاسمية إذا قلت: إِنّ زيدًا/ لأبوه قائمٌ، حسبما يذكر بحول الله.
وأمّا واو المصاحبة المُغْنِيةِ عن الخبر فقد منع في التسهيل دخول اللام عليها، فلا يقال، : إنّ كُلُّ رَجُلٍ لَوَضيعتهُ، ولا يدخل هذا عليه هنا، لأن واو المصاحبة وما صاحبت ليس بخير، وإنما هى نائبه منابه، فلم تدخل تحت قوله:«وبعد ذاتِ الكَسْرِ تصحبُ الخُبر .. لامُ ابتداءٍ» . فلا دَرْك عليه
بذلك هنا. وعلى أنّ المؤلف حكى عن الكسائي جواز المسألة محتجًا بما حكى من قولهم: إن كل ثوبٍ لَوَ ثمنه. وأما الخبر المصدّرُ بأداة التنفسِ ففي جواز اللام عليها خلافٌ بين الكوفيين والبصريين، نقله المؤلف في الشرح، فذهب البصريون إلى ما اقتضاه كلامه هنا من الجواز، وذهب الكوفيون إلى المنع، فلا يجوز عندهم أن يقال: إن زيدا لسوفَ يقوم. وأجازه البصريون، قال المؤلف:«ولا مانع من ذلك، فجوازه أولى» .
وأما القسم والجواب فقد مَنَعَوا دخول هذه اللام عليه، فلا تقول: إنّ زيدًا لو الله قد قام، ولا ما أشبه ذلك. وظاهر إطلاق الناظم جواز ذلك.
قوله: «وَقَدْ يَلِيهَا معَ قَدْ» ، قاعل يلى الفعل الماضى المتصرّف. وها: عائدة على اللام المذكورة؛ يعنى أنّ اللام قد تدخل قليلا على الفعل الماضى المشبه لرضى، إذا كان بعد، نحوُ ما مثّل به من قوله:«إنّ ذا .. لقد سَمَا على العِدَا مُسْتَحْوِذا» . فدخلت اللام على سما لمّا اقترن بعدَ.
والعدا: الأعداءُ.
والمستحوذ على الشئ: هو الغالب عليه؛ {اسْتَحوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} ، أى: غَلَبَت على قلوبهم فأنساهم ذكر الله.
وأما دخولُ اللام على معمول الخبر، فذلك قوله:«وتصحبُ الواسِطَ مَعْمُولَ الخَبَر» . يعنى أَنّ اللام تصحبُ أيضًا معمول الخبر إذا كان متوسطًا، يريد: بين الاسم والخبر، فتقول: إنّ زيدًا لَفِى الدار قائمٌ، وإنك لَعِندي خطِي،
وإن زيدًا لطعامَكَ آكلٌ. ومنه قول أبى زُبيدٍ الطائى:
إن امرأ خَصّنَِى عْمدًا مَوَدّتَهُ
عَلَى التّنَائِى لَعِنْدِى غيرُ مَكْفُورِ
وإنما جاز هذا لأن المعمول كالجزء من عامله، فإذا قدّم كان كالجزء المتقدم، وإذا أُخِّر كان كالجزء المتأخر. وأيضًا تقدّم المعمول يُؤُزِنُ بتقدُّم العامل، فالمعمولُ إذا تقدّم في محلِّ عامله، فكأن اللام وإنما دخلت على العامل، وهو الخبر.
واقتضى كلامه في معمول الخبر شرطا، وهو أن يكون واسطًا، أى: متوسِّطًا بين المبتدأ والخبر، تحرزًا من أن يكون متأخرًا عن الخبر، أو متقدّمًا على المبتدأ، فإن اللام لا تلحقه هنالك؛ فإذا قلت: إِنّ عليك زيدًا نازلٌ، لم يجز لحاقُ اللام في عليك، لقُبْحِ اجتماع إِنّ واللام، كما تقدم، فلا تقول: إنّ لَعَليك زيدًا نازِلٌ. وإذا قلت: إِنّ زيدًا نازلٌ عليك، لم يجز دخولُ اللام على معمول الخبر، فلا تقول: إِنّ زيدًا نازلٌ لَعَليك، لاستحقاق الخبر لها.
و«معمولَ الخبر» : يَحْتَملُ أن يكون بدلصا من «الواسطَ» ، ويحتملُ أن يكون حالًا منه تقديره: وتصحبُ الواسط حال كَوْنِهِ معمولًا/ للخبر، أو صفةً على ذلك المعنى. ويكون ذلك تحرزًا من أَنْ لا يكون معمولًا بل صِفَةً للاسم، نحو: إِنّ زيدًا الفاضِلَ لَقَائِمٌ، فلا تَلْحَقُ هنا المتوسِّطَ بين الاسم والخبر لأنه من تمام الاسم. وكذلك إن توسط معطوفٌ أو بَدَلٌ أو توكيدٌ،
نحو: إنّ زيدًا وعَمْرًا قائمان، وإ زيدًا أباك قائمٌ، وإنّ زيدًا نَفْسَه قائم؛ لأن ذلك كلّه راجع إلى تمام الأوّلِ، كما أنّ معمول الخبر من تمام الخبر، فلذلك لحقت معمول الخبر متوسطًا وإن تقدّم قبله نعتُ الأول، فيما أَنْشَد سيبويه من قول أبي زبيد:
إِنّ امْرَأ خَضّنِى عَمْدًا مَودّتُه
عَلَى التّنَائِى لَعِنْدِى غَيْرُ مَكْفُورِ
وكذلك إذا كان الواسطُ معمولاتٌ لغير الخبر، نحو: إِنّ عدى لفي الدار زيدًا، وإن هذا لقائمًا صاحبك، فنحو هذا غير جائز؛ قال ابن خروف: لتعلّق الظرفِ والحال بما قبل الاسم والخبر.
وهذا تحرُّز حسن؛ إلا أنه يلقاه فيه منعُ نحو: إنّ غدًا لعليك زيدًا نازِلٌ، وإنّ اليوم لفيك زيدًا راغبٌ؛ إذ ليس معمول الخبر هنا متوسطا بين الاسم والخبر، بل بين معمول الخبر والاسم. ويُمكن أن يريد الواسط بين شيئين أَعمّ من أن يكونا اسما وخبرًا، أو غير ذلك، كمسألتنا، فتدخل له في حيِّز الجواز، ويصح كلامه على هذا التنزيل. والله أعلم.
واعلم أنّ كلامه لا يمنع أن تدخُلَ اللامُ على الخبر مع توسُّطِ معمولٍ، بل يصلحُ أن يدخل تحته نحوُ: رِنّ زيدًا في الدار لقائمٌ؛ لأن إنما ذكر أنّ دخولها على الخبر أو على معموله بشروطها جائز، فإذا اجتمعت هذه الشروط في كلِّ واحد فيهما كنت مخيرا فقتول: إِنّ زيدًا في الدّار قائم، كما تقول: إن زيدًا لفى الدار قائم، ومن ذلك قولُ الله تعالى:{إِنّ الله بِالنّاسِ لرَءُوفٌ رحيمٌ} ، وقوله:
{قَالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيكُمْ لَمُرْسَلُونَ} . وما أشبه ذلك. ومن أجل التخيير أجاز الزجاجُ أن تَلْحَقَ الخبر ومعموله معًا توكيد فتقول: إن زيدًا لفي الدار القائم، وشَبَّهه بقولهم: مررت بالقومِ كُلُّم أجمعين أكتعين.
فإن قلت: إن كان المرادُ التخيير اقتضى كلامُ الناظمِ أيًا أن تقول: إن فيها زيدًا لقائم، كما تقول: إن فيها لزيدًا قائم.
قيل: أَجَلْ، ذلك جائزٌ، وقد نصّ عليه سيبويه.
وأما دخولُ اللامِ على الفصل فهو قوله: «والفَصْلَ» ، هو معوطفٌ على «الواسط» . أو على «الواسط» أو على «معمول الخبر» ، تقديره: وتصحب الفَصْلَ.
والفصلُ: هو الضمير المسمى عند أهل البصرة فصلًا، وعند الكوفيِّين عمادًا. ولم يذكره في هذا النظم ولا عَرّج على حكمه، وكان من حقه ذلك، وهو ضمير رفع منفصل يقع بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله ذلك، على شروطٍ مذكورةٍ في مواضعها، نحو: إن زيدًا هو القائم، فمثلُ هذا تدخلُ اللامُ فيه في الفصل، فتقول: إنّ زيدًا لهو القائم، ومنه في القرآن الكريم:{إِنّ هَذا لَهُوَ القَصَص الحَقُّ، وإِنّ الله لهوَ العزيزُ الحكيمُ} . وإِنما فَعَلُوا ذلك لأنّ الفصل مُقَوٍّ للخبر، من حيثُ كان رافعًا لتوهُّم كونه تابعًا، فتنزّل مَنْزِلَةَ الجُزْءِ الأوّل من الخبر، فدخَلَت اللامُ عليه لذلك.
وأما دخول اللام على الاسم (فقال فيه: «اسمًا حلّ/ فبله خَبَر)»، واسمًا» معطوف على «الفصل» يعنى أن اللام تصحب أيضًا اسم إنّ بشرط أن يتقدم الخبر على الاسم)، وذلك نحو: إن في الدارِ لزيدًا، وفي القرآن:{إن في ذلك لآيةٍ} ، {إِنَّ في ذلِكَ لعِبْرَةً لأولِى الأبصارِ} . وقد تقدّمَ أَنّ الخبر لا يتقدم على الاسم في هذا الباب إلا إذا كان ظرفًا أو مجرورًا، وقد تقدّم أنّ الخبر لا يتقدم على الاسم في هذا الباب إلا إذا كان ظرفًا أو مجرورًا، وتقدم أيضا أنّ أصل اللام أَنْ لا تدخل إلا على الاسم، لكن لمّا كان دخولُها عليه مع عدم الفصل يؤدّى إلى محظور صناعي عربي، أُخِّرت إلى الخبر، فحين زال المحظور بوجود الفصل بين إن واسمها دَخَلت عليه.
واعلم أنّ اشتراط تقدم الخبر قد يظهر لبادئ الرأي أنّه اشتراطٌ قاصر، لأن دخول اللام على الاسم إنما شرط جوازه مردُ الفصل بينه وبين إنّ، كان الفصل خبرًا أو غير خبر، فكما يجوز أن تقول: إن عندك لزيدًا، وإنّ في الدار لعمرًا، كذلك يجوز أن تقول: إن فيك لزيدًا راغبٌ، وإِنّ بك لزيدًا مأخوذ. وما أشبه ذلك مما يقع فيه الفصل بغير خبر، ولا ما يمكن أن يكون خبرًا. ثم هو مُخِلٌّ -من حيث المفهومُ- لأنه لما وصف الاسم بحلول الخبر قبله، اقتضى مفهومُ الصِّفةِ أنه إذا لم يحلّ قبله الخبر لم تلحقه اللام وإن وقع الفصل بغير الخبر، وذلك غير صحيح.
ولا أجدُ الآن جوابًا عنه.
وهذان البيتان كرّر الناظمُ في رَوِيِّهما كلمة الخبر، إلا أنه جعلها في الأول معرفة وفي الثاني نكرةً. وهذا القدر من الاختلاف يخرج القافية عن عيب الإيطاءِ عند الأخفش، وقد تقدم له مثل هذا، ومرّ الاستشهاد عليه.
* * *
(ثم قال)
وَوَصْلُ «ما» بِذِى الحُرُوفِ مُبْطِلُ
إِعْمَالَها، وَقَدْ يُبَقى الْعَمَلُ
ما هذه تسمى الكافّة، لأنها تكفُّ ما دَخَلت عليه عن العمل، فتصيِّره من حروف الابتداء، أي: الحروف التي يبتدأ بعدها الكلامُ، ومن جملة ما تدخلُ عليه هذه الحروفُ، فنقول: إِنّما زيدٌ قائمٌ، ولكنّما زيدٌ قائم، فَتُصيِّرها حروف ابتداء إِنْ أبطلتِ العملَ، وإلا فهي من أدوات التوكيد. ويعنى أَنّ هذه الحروف الخمسة إذا وصلت بما فلها في كلام العرب وجهان.
أحدهما: أن يبطلا عملها جُمْلَةً في المبتدأ والخبر، بل تصير مع ما كحروف الابتداء التي يُبْتَدأُ بها الجمل، وذلك قوله:«وَوَصْلُ ما بِذِى الحروفِ مبطلُ .. إعمالها» . وإبطالُ عملها يستلزمُ عدم اختصاصها بالمبتدأ والخبر، فعلى هذا تكون عند إبطال عملها على وجهين:
أحدهما: أن يبقى دخولها على المبتدأ والخبر، نحو قوله تعالى:
{إِنّما وَليُّكمُ اللهُ وَرَسُولُه} ، {اعْلَمُوا أَنّما الحياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} .. الآية. وقال النابغة الذبياني؛ أنشده سيبويه:
قالت أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنا
إِلَى حَمْا متنا وَنِصْفُهُ فَقَد
برفع الحمام ونصفه. وأنشد أيضا لابن كُرَاعٍ:
تَحَلّلْ وَعالِجْ ذاتَ نَفْسِكَ وانظرَنْ
أبا جُعَلٍ، لَعَلّما أنت حالمُ
والثاني: أن تدخل على الجملة الفعلية فتقول: إنما يقدمُ زيد. ومنه قول الله سبحانه/ {إِنّما يُوفّى الصَابِرُونَ أَجْرَهُمْ} وقال امرؤ القيس:
وَلَكِنّما أَسْعَى لِجْدٍ مُؤَثّلٍ
وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المؤثل أَمْثَالِي
وقال الرجز:
أَعِدْ نَظَرًا -يا عبد قيس- لَعَلّما
أَضَاءَتْ لَكَ النّارُ الحمِار المُقيّدا
وفى كلا الوجهين عمل هذه الحروف قد بَطَلَ لِلحَاقِ ما، وهذا هو الغالب فى الأستعمال، والكثيرُ فى الكلام، ودلّ على ذلك من كلامه إطلاقهُ القول بالإبطال حيث قال:«ووصْل ما بذى الحروف مبطلُ .. إعمالها» ، وقطعه بذلك، وأنه لما استدرك الوجه الثانى -وهو بقاء العَمَل- نَبَّه على قِلّتِهِ بِقَدْ، فى قوله:«وقد يُبَقّى العملُ» . يعنى أنّ عمل هذه الحروف قد يبقى مع دخول ما فلا يبطل، ولا يكون إذ ذاك إلّا داخله على المبتدأ والخبر كما كانت قبل دخول ما؛ فالمعنى أَنّ ما زائدة كما زيدت بين الجارّ والمجرور فى نحو:{فَبِمَا نقْضِهِمْ} ، فتقول: لعلّما زيدًا قائمٌ. ويُروَى بيت النابغة هكذا:
قَالَتْ: أَلَا لَيْتما هَذَا الحمامَ لَنَا
إلى حَمَامِتنا ونِصْفَه فقدِ
بنصب الحمام ونصفه. وحكى المؤلف فى شرح التسهيل عن الأخفش أنه روى عن العرب: إنما زيدًا قائمٌ، ونَسَبَ مثل ذلك إلى الكسائىّ عن العرب. فأعمل عمل إِنّ مع ما. والسماعُ فى غير هذي معدومٌ، ولكن الناظم أطلق القول فى جواز إبقاء العمل على قلة، فدلّ على أنه عنده قياس، ولم يقيد ذلك
بموضع السماع، وهو: إنّما وليتما، فدلّ على إجازته الإعمال فى الجميع، فتقول: كأنّما زيدًا قائما، ولكنّما زيدًا قائم، ولعلّما زيدًا قائم. وإلى ذلك ذهب فى التسهيل. وهو مذهب ابن السراح؛ إذ قاس على ليتما سائرَ أخواتها، خلافُ ما ذهب إليه الجمهور من اختصاص الإعمال مع ما بليت وحدها متابعةٌ للسماع. وأما ابن السراج فرأى القياس لا مانع منه، فأجاز مقتضاه من الإعمال.
قال المؤلف: وما ذكره ابن بَرهانٍ من النقل فى إنما يؤيّدُ ما ذهب إليه ابن السراج من إجراء عوامل هذا الباب على سَنَنِ واحدٍ قياسًا. وإن لم يثبت سماع فى إعمال جميعها، فإنما قال هنا:«وقد يُبقى العملُ» تنبيها على القياس، إلا أنه جعله مرجوحًا مع فُشُوِّ إبطاله بما، ولذلك قال:«وقد يُبَقّى العملُ» ، فأتى بالفعل المضارق ولم يقل: وقد بُقّي العمل، فيكون تنبيها على ما سمع من ذلك. وحمل ابن الناظم كلامه على أنه يشير إلى ما سُمع من ذلك فقال:«وفى قوله: «وقد يُبَقّى العملُ» -بدون تقييدٍ- تبيةٌ على مجئ مثله»: يريد مثل ما حكى ابنُ برهانٍ. والظاهر أن مراده إجراءُ القياس فى الجميع كما قال في التسهيل: «والقياس سائغ» ، إلا أنه قلّله هنا تنبيهًا -والله أعلمُ- على ما فيه من الضعف؛ إذ عُدِمَ السماع فى كأنما ولكما ولعلّما جملةً، وندوه فى إنّما، مما يُبَيّن أن العرب إنما أرادت بما الداخلة عليها الكافة لا
التوكيدية
…
...
…
فى الفوائد المجوية، لما ذكر في البيت الوجهين وفى .. .. .. ..
فإن قيل: فهذا يدلّ على ما قاله ابنه لا سيّما وعادته .. .. التسهيل.
فالجواب: أن عبارته بعيدةٌ عن ذلك القصيد إن .. .. (و) عادته/ إذا أتى بقد أن يُشيِر إلى ما قد يلحقه القياس، وأيضًا لو لم يكن مقصودُه القياس لأوهم أن الأعمال فى ليت مقصور على السماع، وذلك غير صحيح باتفاق، فدلّ على أن مراده القياس بلا بدّ، والله أعلم.
ثم هنا سؤالان:
أحدهما: أَنه قال: «ووصلُ ما» . ولم يبيِّن أهى ما الحرفية أم لا؟ ولا شكّ أنها الحرفية، فتكون مع إعمالها الزائدة التوكيدية، وفى الوجه الآخر الكافة. وأما الاسمية فلا مدخل لها هنا إلا أن تكون هى الاسم، وذلك عد الإعمال خاصّةً، نحو:{إنما تُوعَدُون لآتٍ} {إنَّما عِنْدَ الله هَوَ خَيرٌ لَكُمْ} ، وما أشبه ذلك فكان يبغى أن يُنَبّه على أنها الحرفية.
والجواب: أنّه ترك ذلك اتِّكالًا على الناظر فى المسألة، لأنّ دخولها إنما يكونُ تقديرًا بعد توفية الاسم والخبر أو ما يقومُ مقام ذلك؛ وإذا
كان كذلك فلا حاجة إليالزيادة الاسميّة، وإنما تعقل الزيادة إذا قُصِد بها قَصْدَ الأدواتِ، وهي الحروف للزيادة، فلم يكن في تَرْكِه البيان كبيرُ إشكالٍ.
والثاني: أن القول: «قَدْ يُبَقى العَمَلُ» مُشْعِرٌ بالتقليل، كا مر، ومن جملة هذه الحروف ليت فاُقتضى أَنّ إعمالها مع ما قليل أو مقيس على قلّة. وذلك غير صحيح بل إعمالها كثير، مشهور، بل هو المتحقق فيها. وأما إبطال العمل فغير متعيّن؛ قال سيبوية:«وأما ليثما زيد منطلقٌ، فإن الإلغاء فيه حسن» . قال: «وقد كان رؤبة بن العجاج يُنشِدُ هذا البيت رفعًا:
قَالَت: أَلَا لَيْتَما هَذا الحمامُ لنا
إلى حَمَامَتِنا ونصْفُه فَقَد
فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: {مَثَلًا ما بَعُوضة} أو يكون بمنزلة قوله: «إنما زيدٌ منطلق» . هذا ما قال، والوجهان جاريان فيما يغرض من هذه المسائل. وإذا كان كذلك لم يصحّ أن يُقال: إن الإعمال في ليت قليل، ولا سيّما على مذهبه في الشرح؛ فإنه لما قَرّر ما أجازه سيبويه من الوجهين قال:«وليت -بهذا التوجيه- عاملةٌ فى الروايتين، وهى حقيقةٌ بذلك، لأن اتصال ما بها، لم يُزِلْ اختصاصها بالأسماء، (بخلاف أخواتها فإن اتصال ما بها أزال أختصاصها بالأسماء)، فاستحقت ليثما بقاء العمل دون إنّما، وكأنّما، ولكنّما، ولعلّما، وهذا هو مذهب سيبويه» . انتهى ما قال.
فإطلاقُ الناظم مشكلٌ، ولا أجدُ الآن جوابًا عنه، وليس كلُّ داءٍ يعالجه الطبيب.
ثم أخذ في فصلٍ آخر فقال:
وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى
مَنصُوبِ «إنّ» بَعْدَ أَن يَسْتَكْمِلَا
وَأُلْحِقَتْ بِإنّ لكنّ وَأَنْ
مِنْ دُونِ لَيْتَ وَلَعَلّ وكَأَنْ
هذه مسالة العطف على موضع إنّ، وتفصيل القول فيها على ما ارتضَى كم مذهب البصريين، وذلك أن العطف على اسم إنّ قد يكون باعتبار اللفظ، وقد يكون باعتبار الموضع؛ فاعتبار اللفظ جاز على الإطلاق سواءً أجاء المعطوف بعد الخبر أم قبله، فمثال مجيئه قبل الخبر قولك: إنّ زيدًا وعَمرا فى الدار، وفى القرآن الكريم:{إِنّ المُسْلِمينَ وَالمُسْلِمَاتِ، والمُؤْمِنِيِنَ والمُؤْمِنَاتِ والقَانِتِينَ والقَانتاتِ} / إلى آخر الآية. ومثالُ مجيئِهِ بعد الخبر قولُك: إِنّ زيدًا فى الدار وعمرًا، وقرأ ابن أبى إسحاق وعيسى بن عُمَر:{أَنّ الله بَرِئٌ مِنَ المُشْرِكينَ وَرَسُوله} ، بالنصب. وأنشد سيبويه لرؤبة:
إِنّ الربيعَ الجَوْدَ والخَرِيفا
يَدَا أبى العبّاس والصّيوفا
ولا خلاف فى هذا القسم، ولم يُنَبّه الناظمُ عليه لأنه حكمٌ تقرّر فى بابه، وإنما ينبّه فى الأبواب من أحكام التوابع على ما لم يدخل تحت ضوابط بابه.
وأما العطف باعتبار الموضع -وأعنى موضع أسم إنّ، أو موضعَ إنّ واسمها- فلا يخلو أن يكون المعطوف واقعًا قبل الخبر أو بعده، فإن كان بعده فجائز أيضا بغير خلاف عند النحويين على الجملة، نحو قولك: إن زيدًا قائمٌ وعمرو. ومنه قولُ الله تعالى: {إنّ الله بَرِئٌ مِنَ المشركينَ ورسولُه} ، فى قراءة ابن محيصن بكسر إنّ. ومنه ما أنشده سيبويه لجرير:
إنّ الخلافة والنبوّة فيهمُ
والمكرُماتُ، وسادَةٌ أطهارُ
لكنهم اختلفوا فى وجه هذا العطف اختلافًا كثيرا، فمنهم من جعل ذلك عطفًا حقيقةً، من باب عطف المفردات، وأن قولك: إن زيدًا قائم وعَمرٌو، عطف فيه عمرو على موضع زيد، وهو الرفع، كما عطف على موضع خبر ليس في نحو:
فَلَسْنَا بالجِبَالِ وَلَا الحَدِيدَا
وإليه ذهب الشلوبين فى أول قولَيْهِ، وابن أبى الربيع. وهو ظاهر إيضاح الفارسىّ وجُمَل الزجاجىّ. ومال إليه بعض من شرح كلامهما أخذًا بالظاهر من كلامهما. وتأوّلُ بعضُهم عليه كلام سيبويه.
والذى عليه الأكثر أنّ الرفع فى المعطوف على الأبتداء واستئناف جملةٍ معطوفة على أخرى، وهو الأظهر من كلام سيبويه، ونقل عن الأخفش، والفراء، والمبرد، وابن السراج، والفارسىّ -فى غير الإيضاح- وابن أبى العافية، والشلوبين -في آخر قوليه- وجماعةٍ من أصحابه- ومنهم من يتأوّلُ على المبرّد أنه يقول بالعطف على الموضع، لكن على وجهة التوهم، لا على حقيقة مقتضى الموضع؛ إِذِ الحمل على التوهّم عنده مقيس، وهو أصل الكوفيين فى جواز الرفع قبل مجئ الخبر.
وكلامُ الناظم هنا محتملٌ للمذهبين؛ إذ معنى كلامهم أنّ المنصوب بالعطف على اسم إِنّ يجوزُ رفعه، ولم يذكر: علام يُرْفع؟ فيتحمل أن يكون قائلا بالأَول أو بالثانى؛ فإن كان رأيه هذا الثانى فهو أَوْلَى لوجهين:
أحدهما: أنه الذى ذهب إليه في شرح التسهيل ونصره وزيف غيره.
والثانى: أنه الصحيحُ من المذهبين، والمعتمدُ المعضودُ بالدليل. وقد تصدّى ابن أبى العافية لنصره في مسألةٍ أفردها، وابنُ الزبير من شيوخ شيوخنا فَتلقّيناه عنهم، فمن أراد الترجيح بين المذهبين فَعَلَيه بكلام ابن الزبير، ففيه غايةُ الشفاء في المسألة.
وقد أحتج له المؤلف بأنهم اقتصروا فى هذا العطف على الإيتان به بعد تمام الجملة، ولو كان من عطف المفردات لكان وقوعُه قبل التمام أولى، لأنّ وصل المعطوف بالمعطوف عليه أجودُ من فصله وأيضًا لو كان كذلك لجاز رفع غيره من التوابع، ولم يَحْتَجْ سيبويه في/ قوله تعالى:{قُلْ: إِنّ ربّي يقْذِفُ بِالحقِّ عَلَّامُ الغُيوبِ} إلى أن يجعله خبر مبتدأٍ أو بدلًا من فاعل يقذف. واستدلّ بغير ذلك مما يطول فيه الكلام.
وإن كان مراده الأول، وكان هو مذهبه فيترجح بأمرين:
أحدهما: أنّ جَعْلَه من باب عطف الجُمَل يؤدّى إلى مخالفة الظاهر من ادّعاء حذف الخبر مع إمكان الاستغناء عنه كما فى المنصوب، لأنّ المسألتين وإن كانتا تحتاجان إلى تقدير فالتقدير مع المنصوب كالمُطّرَح، ولذلك جاز العطف فيه، فلا تقول: إن زيدًا قائمٌ لا عمرًا، فكذلك (تقول) في الرفع:(إن زيدا قائم) لا عمرو. فهذا من عطف المفردات، لأنّ «لا» لا يعطَفُ بها الجملُ إلا مع التكرار، نحو: لا عمرو خارج ولا بكر مُقيمٌ. وأما جعل هذه المسألةِ من عطف الجمل، والمقدر كالمنطوق به، فهو ادّعاء ما لا دليل عليه، وذلك ممنوع.
والثاني: أنه قد (جاء في كلام العب) ما يعضده، (إذ هو على تقدير التوهم) وهو كثير في كلام العرب (ويعبر عنه بعض شيوخنا بالرفع على المرادف) ومنه ما أنشده سيبويه):
بَدَا لِىَ أَنّى لَسْتُ مُدّرِكَ ما مَضَى
وَلَا سَابقٍ شَيئًا إِذَا كانَ جائيا
لأن الباء من شأنها أن تدخل هنا. ومثله ما أنشده من قول الأخوص الرياحي:
مَشَأيمُ لَيْسُوا مُصلِحينَ عَشِيرة
وَلَا ناعِبٍ إِلّا بَبيْبنِ غُرَابُها
على توهّم: لَيْسُوا بِمُصْلِحينَ عَشِيرةٌ. ومنه في القرآن: {فَأَصّدّق وَأَكُنْ من الصّالِحينَ} ، على قراءة غير أبى عَمْرو. فهذا متعيّن فينبغى أن يُحملَهذا الموضعُ على ذلك.
وهذا الرأي أسعد بكلام الناظم، لأنه قد أجاز العطف على الموضع في باب اسم الفاعل، وليس إلّا من باب التوهّم، وسيأتى ذكره في بابه إِنْ شاء الله تعالى.
وهذا الموضع -أعنى الحمل على التوهّم- خالف فيه البصريون البغداديين في موضع، ووافقوهم في موضع. فأما موضع المخالفة فحيث كان من باب اعتبار الفاء نحو: ما زيد قائما ولا قاعدٍ. وليس هذا الموضع من ذلك، وأما موذع الموافقة فحيث كان من باب اعتبار الأصل نحو: هذا ضاربُ زيدٍ وعمرا. فهذا الموضع من ذلك؛ لأن الأصل الابتداء، وإنما اختلفوا هنالك واتفقوا هنا، لكثرة هذا وقلة ذاك.
وهذا كلّه إما هو فيما إذا استكمل العامل معموليه، وهو قول الناظم:«بَعْدَ أن يستكْمِلَا» فالضمير في «يستكمل» عائد إما على إِنّ، كأنه قال: بعد أن يستكمل العامل ما يحتاج ايه من معمولاته التي يكمل بها الكلام، وذلك الخبر، أي: بعد أن يؤتى بالخبر، وإما على منصوب إنّ كأنها راد: بعد أن يستكمل الاسم ما يطلبه من جهة معناه من الخبر؛ إذ لا يستقلُّ به الكلام دون الخبر. وأما إذا لم يستكمل العاملُ عمله، أو الاسم خبره، فليس إلا النصب على ما يُفْهَم من اشتراطه الاستكمال. وما ارتضاه من ذلك هو رأي البصريين، فإذا قلت: إِنّ الزيدين وعمرًا قائمون -ومنه قولُه تعالى: {إنّ الذين آمنُوا والذين هادُوا والصّابئينَ والنّصَارَى والمجُوسَ والذينَ أَشْركُوا، إِنّ
الله يَفْصِلُ بينهُم يومَ القِيامة} - فلا يجوز الرفع عندهم البتّةَ، بل يلزم النصب. وذهب الكوفيون إألى جواز الرفع كما جاز مع تأخير المعطوف، إلا أنهم اختلفوا، فذهب الكسائى إلى الجواز/ بإطلاق، ظهر في المعطوف عليه النصب أو لم يظهر، فتقول: إنّ زيدًا وعمرٌو قائمان، وإنك وبكرٌ ذاهبان. وذهب الفراء إلى التفرقة بين ما لم يظهر فيه الإعراب فيجوز الرفع في المعطوف عليه، وبين ما ظهر فيه الإعراب فلا يجوز إلا النصب، فتقول على مذهبه: إنك وزيدٌ ذاهبان، وإنّهم وزيد قائمون، ولا تقولا إن زيدًا وعمرو قائمان والصحيح ما ذهب اليه الناظم للقياس والسماع؛ أما القياس فمن وجهين:
أحدهما: أنك إذا قلت: إِنّ زيدًا وعمرُو قائمان، وإنك وزيدٌ ذاهبان، وجب أن يكون زيدٌ مرفوعا بالابتداء، ووجب أن يكون زيدٌ عاملًا في الخبر أيضًا فيؤدى ذلك إلى أن يعمل عاملان معًا في معمول واحدٍ عملًا واحدًا، وذلك فاسد.
وقد يجيب أهلُ الكوفة عن هذا بأنّ العامل في خبر أن عندهم الابتداء، لا إنّ، وهو العامل أيضا في زيد على رأيهم، فيجب -على رأيهم- أن يكون الابتداء أيضًا هو العامل في الخبر من تلك الجهة، فاتحذ العامل في الخبر إذًا، وهو الابتداء.
وهذا الجواب لا (ينهضُ) فإن زيدًا على مذهبهم إنما يرتفع بالخبر، والخبر يرتفع في باب الابتداء بالمبتدأ وهو زيد هنا، وبالابتداء
في باب إنّ، فقد اجتمع على الخبر ها عاملان، وذلك غير صحيح، كا مرّ.
والثاني: ما قاله المؤلف من أَنّ إنّ وأخواتها قد ثبت قُوَة شبهها بكان وأخواتها، فكما امتنع في كان العطفُ على موضعها منصوبها باتفاقٍ فكذلك يمتنع في إن، ولو جاز أن يكون اسمُ إِنّ مرفوعَا لمحلِّ باعتبار عروض العامِلِ لجاز أن يكون خبر كان مرفوع المحلِّ بذلك الاعتبار، لتساويهما في أصالة الرفع وعروض النصب. وفيه نظر.
وأما السماع فموافق لما قاله البصريون، وما جاء مما ظاهره المذهب الآخر فغير مُتَعيِّن له، لاحتمال أمرٍ آخر فيه؛ فمن ذلك قول الله تعالى:{إِنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنّصَارى} .. الآية، فعطف (الصابئُون) على موضع (الّذين) قبل الإتيان بالخبر، وهو قوله:{مَنْ آمن بالله واليَوْمِ الآخِرِ} .. إلى آخرها. وروى الثقاتُ عن العرب: إِنّك وزيدٌ ذاهبانِ، وأنشد سيبويه لبشر بن أبى خازم:
وَإلّا فاعْلَمُوا أنا وَأَنتُمْ
بُغَاةٌ ما بَقِينا في شِقَاقِ
فلو كان المعطوف منصوبًا لقال: إِنّا وَإِيّاكم بُغاةٌ. وهذا كُلّه قليلٌ لا يعتمد عليه، مع مخالفته الوجه الشائع. وقد تكُلِّم في ذلك أيضًا بناءً على كونه قليلا؛ فأما الآيةُ فجعلها سيبويه وغيره على التقديم والتأخير، قال فيها:«كأنّه ابتدأَ على قوله: (والصابئُون) (بعدما يمضى الخبرُ» يريدُ أنّ تقديها: إن الذين آمنوا والذين هادُوا من آمن بالله واليوم الآخر، ثم ابتدأ فقال: والصابئُون والنصارى كذلك. وأجاز السيرافي أن يكون خبر (الذين) محذوفًا لدلالة خبر (والصابئُونَ والنصارى) عليه، وهو قوله:{من آمَنَ بالله} .. الآية. فيكون على حدّ قول الشاعر:
نَحنُ بِمَا عِنْدنَا، وأَنْتَ بِمَا
عِنْدَكَ رَاضٍ، والرأْيُ مُخْتَلِفْ
أراد: نحن بما عندا راضون، وأنت بما عندك راض. والآية على رأي سيبويه مثلُ قول الشاعر:
مَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ
فَإِنِّي وَقَيّارٌ بها لَغَرِيبُ
فيمن رواه برفع «قيّار» ، فلا يكون «قَيّار» على غير الابتداء، والخبر محذوف إلا بتكلفٍ.
وأما قولهم: إنّك وزيدُ/ ذاهبان، فحمله سيبويه على الغلط فقال: «واعلم أنهم يغلَطُون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وَإِنّك وزيدٌ ذاهبان. وذلك أن معناه معنى الابتداء، فيُرى أن قال: هُمْ، كما قال:
* وَلَا سابقٍ شيئًا إِذا كانَ جَاثيا*
على ما ذكرتُ لك».
يعنى أنهم توهّموا أَنْ ليس ثَمّ إِنّ، حتى كأنهم قالوا: هم أجمعون ذاهبون، وأنت وزيد ذاهبان، وَأَنّس بهذا عدمُ ظهور الإعرابِ في اسم إنّ في الموضعين. والدليل على صحة هذا أن لم يَجئْ فيما ظهر فيه الإعراب حو: إن زيدًا وعمرٌ قائمان؛ إذ لو كان الرفع في المعطوف على غير التوهّم لكان خليقًا أن يَجِئْ مع ظهوره، فلما لم يكن كذلك دلّ على أنهم اعتقدوا أنّ المنصوب مرفوع فعطفوا على اللفظ، كما قالالشاعر:«ولا سابقٍ شيئًا» ، بالخفض مُتَوهّما أه قال:«لستُ بمدركٍ ما مضى» ، فلذلك جعله سيبويه من باب الغلط، والله أعلم.
وأنشد المؤلف في الشرح:
خَلِيلَىّ، هَلْ طِبُّ؟ فَإِنِّى، وأَنتُمَا
وَإِن لَمْ تَبُوحًا بِالْهَوَى - دَنِفَانِ
وعلى كلام الناظم بعدُ سؤالان:
أحدهما: أنه ذكر مسألة العطف على موضع اسم إنّ قبل مجئِ الخبر ومنعها جملةً، فعنده أنه لا يقال: إن زيدًا وعمرو في الدار، ولا: إِنك وعمرو في الدار، بوجه من الوجوه، حسبما اقتضاه مفهوم شرطه؛ لأنه أجاز العطف على موضع اسم إنّ بشرط أن يستكمل، فاقتضى مَنْعَ العطف عند فِقْدانِ الشرط بإطلاق، وهذا لم يقله البصريون لا يقتضيه كلام سيبويه على الجملة. بل الوجه في ذلك أن يقال: إذا كان العطف قبل الخبر فلا يخلو أن يكون الخبر مطابقًا لهما جميعا نحو: إنك وزيدٌ ذاهبان، أو لأحدهما نحو: إنك وزيدٌ ذاهب. فإن كان مطابقًا لأحدهما جاز في المعطوف الرفع والنصف؛ فالنصب على وجهين: على أن يكون الخبر الثاني، وحُذِف خبرُ الأوّلِ، أو يكون خبرًا للأوّلِ، على التقديم والتأخير، وحذف خبر الثاني. والرفع أيضًا على وجهين، وهما المذكوران في النصب، فالأول مثل:
نَحنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا
…
عِنْدَكِ رَاضٍ
…
...
…
والثاني مثل:
* فَإِنِّى وَقَيّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ *
وإن كان الخبر مطابقًا لهما لم يَجُز إلا النصب عند سيبويه والبصريين. وأما الرفع فعلى جهة الغلط كما قال سيبويه، وجاز عند الكوفيين كما تقدم.
فالحاصل: أن الرفع في المعطوف قبل الإتيان بالخبر لا يقال فيه: جائز، باطلاق، ولا ممتنعٌ بإطلاق، بل هو في حال يجوز بإطلاق من غير
حكاية خلافٍ، وفي حال ممتنع على الخلاف. فمفهومُ شرطِ الناظم إذًا غير صحيح. ولا يقال: إنه لم ير العمل بالمفهوم، لأنا نقول: هو عمدتُه في هذا النظم، وعليه اعتمد في نقل المسائل الكثيرة، ولولا هُوَ لافتقر إلى العبارة الطويلة في المسألة الواحدة، حسبما تراه في هذا الشرح، بحول الله. فإذًا هذا الموضعُ مشكِلٌ.
والثانى: أه لما اقتصر هنا على ذكر عطف النّسق وهم أنّ غير/ من التوابع لا مخالفة فيه لما ذكره في التوابع، وليس كذلك؛ فالتوكيد وعطف البيان والنعتُ حكمهما عند الجرمىّ والزجاج والفراء حكم العطف النّسَقِىِّ، فتقول: إن زيدًا قائمٌ الظريفَ والظريفُ، وإن زيدًا قائم نفسَه ونفسُه. ومنه:{قُلْ: إِنّ الأَمْرَ كُلُّه لِلهِ} في قراءة رَفْعِ كلّ، وهى لأي عَمْروٍ بن العلاء، وإن زيدًا قائمٌ أخُوك وأخاك. وجعلوا من النوع قول الله سبحانه:{قُلْ: إِنّ رَبِّى يقذفُ بالحقِّ عَلّامُ الغُيُوبِ} و {عَلّامَ الغُيوبِ} . والرفعُ قراءة السبعة، والنصبُ لابن أبى إسحاقَ وعيسى بن عُمر. وإذا كا كذلك كان ينبغي له أن لا تخُصّ العطف بالحرف هنا.
والجواب عن الأوّلِ لا يحضرني الآن إلّا أن يعدّ ما جاء من مطابقة الخبر لأحدهما غير مقيس، فإّنه قليل، فكأنه لم يعتدّ به.
وعن الثاني أنّ النحويين -غير من ذكر- لم يجيزوا هذا ولا اعتمدوه، وحملوا الآية على غير ذلك؛ إذ تحتمل أن تكون جملة مستقلة وقعت موقع البيان لما قبلها، والمبتدأ منها محذوف، كأنه قال: هو علّامُ الغيوب، أو على أن يكون خبرًا ثانيًا لربِّى. وكذلك قوله:{كلُّه للهِ} جملة هى خبرُ إنّ، كذلك نَدّعى فيها الاحتمال ذلك فيها، وإذا احتمل ذلك لم يكن فيه دليلٌ على ما قالوا؛ فكأن الناظم لم يرتضِ مذهب الجرمي ومن قال بَقْولِهِ، ووجْهُ المنع في النعت أنّ الغرض به بيان المنعوتِ ليصحّ الإخبارُ عنه، فوضعُه أَنْ يكون قبل الخبر، فإن جاء بعده فعلى نيّة التقديم، والحمل على الموضع لا يكون إلا بعد تمام الكلام، ولذلك لم يجز العطف على الموضع قبل الخبر، كما تقدم.
وهذه المسألة كانت سبب عَمَى «الأَعْلَمِ» /؛ حدثنا سابقا الأستاذ -رحمة الله عليه- أنه سأل الأعلمَ بعضُ نحاة عصره: لِمَ جاز اعتبار الموضع في العطف دن النعت؟ فَكلف إيرادًا -وكان رَمِدَ العينين- فنزل الماء فيهما فَعَمِى.
فإن قيل: قد جوزتم النعت على الموضع في باب لا، وفي باب:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيرُه} .
قيل: أمّا «لا رَجُلَ» فكالشئ الواحد، وأما «من» فزائدة، وذانك ليسا في إِنّ، فافترقا.
وأما التوكيد والعطف البياني فكالنعت، وكذلك البدل؛ إذ هو في التقدير حالٌّ محلّ اسم إِنّ، واسم إِنّ لا يكون إلا نصبًا.
ثم قال: «وَأَلْحقُوا بِإِنّ لَكِنّ وأَنْ» ، يعنى أن العرب ألحقت بإنّ المكسورة في هذا الحكم المتقدّم لكنّ وأنّ المفتوحة، فعطفوا على موضع اسمها فقالوا: لكن زيدًا قائم وعَمْروٌ، وأنشد المؤلف في الشرح:
وَمَا قَصّرَتْ بِى في التّسَامِى خُؤُولَةٌ
ولكِنّ عَمِّى الطيِّبُ الأَصْلِ والخالُ
والقوافي مرفوعةٌ. وقالوا: علمت أنّ زيدًا قائم وعمروٌ، وفي القرآن الكريم:{وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الحجِّ الأكْبَرِ أَنّ الله بَريِءٌ مِنَ المُشْرِكينَ} وَرَسُولُه على قراءة الجمهور. ويمكن أن يكون م ذلك قوله تعالى: {وَلَو أنّ ما في الأَرْضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحرٌ يَمُدُّه مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} .. الآية، فيكون، رفع (البَحْرُ) على مثل الرفع في إِنّ المكسورة، لا على أنها جملة حاليةً وإِنْ أجاز ذلك سيبويه، بدليل القراءة الأخرى بالنصب ليتّحد معنى/ القراءتين.
وما ارتضاه الناظم وَإن المقتوحة من إلحاقها بالمكسورة في هذا
الحكم هو رأيُ الجمهور، والظاهر من كلام سيبويه. ومع من ذلك بعض الأئمة، وزعم أَنّ المفتوحة لا تُلحَقُ بالمكسورة؛ لأن المكسورة على شرط الابتداء وليست المفتوحة كذلك، إنما تجعل الكلام شأنًا وحديثًا بمنزلة المفرد، ولذلك لا يكون في الآية دليل لصحة جملة على وجهين جيِّدين:
أحدهما: أن يكون (ورسولُه) عطفًا على أَنّ وما بعدها، لأنها اسمٌ مفردٌ، فالتقدير: براءةُ الله من المشركين ورسولُه، أى: وبراءَةُ رسولِهِ. وهذا وجه جيد، كما تقول: أعجبي أنك منطلقٌ وإسراعُك.
والثاني: أن يكون (ورسولُه) معطوفًا على الضمير في (بَرِئٌ)، وحَسُن للفصل، كما قال تعالى:{سَيقولُ الذينَ أشْركوا لو شَاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنَا وَلَا آباؤنا} ؛ وإذا كان كذلك لم يكن في الآية دليل على ما قالوه، فالاستشهاد بها وَهْمٌ جَرَى على سيبويه والنحويين.
وردّ هذا ابن جنى قياسًا وسماعًا، أما السماع فما في الحماسة لجعفر بن عُلْبَةَ الحارثى، وذلك قوله:
فَلَا تَحْسَبِي أَنِّى تخشّعتُ للعِدَى
لِشَئٍ وَلَا أَنِّى مِنَ الموتِ أفْرقُ
وَلَا أَنَا مِمّنْ يَزْدَهِيهِ وَعِيدُهُمْ
وَلَا أَنّنىِ بالمَشْىِ في القَيدِ أَخْرَقُ
فَعَطَفَ الجملة من المبتدأ والخبر على قوله: (أنِّى تخشّعْتُ)، وهو يريدُ
معنى أنّ المفتوحة؛ يدلّ على ذلك روايةُ من روى:
وَلَا أنّ نَفْسِى يَزْدَهِيها وَعِيدُهُمْ
وقد جاء ذلك أيضًا في التنزيل، قال الله عز جلّ:{وَأَنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً واحِدةً، وأَنَا ربُّكُمْ فاتقُونِ} ؛ ألا ترى أنّ معناه: ولأنّ هذه أمتُكم أمّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتقون: فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على (أَنّ) وفيها معنى اللام، كما تقدّم. وهذا يزيد معنى الابتداء عبرَه، ويصرف الكلام إلى معنى المصدر، أى: ولكوني ربكم فاتقونِ.
ونحو ذلك قوله أيضا: {ضرب لَكُمْ مَثَلًا من أَنْفُسِكم هَلْ لَكُمْ مما ملكت أيمانُكُمْ من شُرَكَاءَ فيما رَزَقناكُمْ، فأنتُمْ فيه سَوَاءُ} ، أى: فتستوا. قال أبو على: فأوقع الجملة المركّبة من المبتدأ والخبر موقع الفعلِ المنصوب بأن والفعل، إذا انتصب انصرف القولُ والرأىُ فيه إلى المصدر، ومعلوم أن المصدر أحد الآحاد، ولا شُبهةَ بينه وبين الجملة، وقد ترى الجملة، وقد ترى الجملة التى هى قوله:{وأنا ربُّكم} معطوفةً على أنّ المفتوحة، وعبرتها عبرةُ المفرد من حيث كانت مصدرًا، والمصدرًا، والمصدر أحد الأسماء المفردة.
ومنه أيضا -ولم يذكره أبو على- قوله تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى} . أي فيرى، لأنّ الفاء جواب الاستفهام، وهي تصرف الفعل
بعدها إلى الانتصاب بأن مضمره، وأن المنصوب بها مصدر لا محالة حتى كأنه قال: أعِنْدَه عِلْمُ الغيب/ فرؤْيتُه، كما أنّ قوله {فأنتم فيه سَوَاءٌ} ، أى: هاك شركة بينكم فاستواء». انتهى ما ذكر من السماع.
ومنه في القرآن مواضع، كقوله تعالى:{أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِم سُلْطانًا فَهُو يَتَكلّمُ} ، وقوله:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. أَمْ عِنْدَهُمُ الغَيبُ فَهْم يكتُبُونَ} . وقد أنشد سيبويه:
وَإِلّا فَاعْلَمُوا أَنّا وَأَنْتُمْ بُغَاةٌ
…
...
…
ثم قال: «كأنه قال: نحن بغاةٌ وأنتم» . فقدّم وأخّر، في مرفوعًا بالابتداء والخبر محذوف، كقوله تعالى:{إِنّ الّذِينَ آمنُوا والذينَ هادُوا والصّابئُونَ والنّصارى} . فقد سوّى بين إنّ وأنّ، فليس سيبويه مِمّن يقصرُ ذلك الحكم على المكسورة، كما ظنه بعضهم.
قال ابن جني: «فأما وجه القياس فهو [أَنّ] المفتوحة -وإن لم تكن من مواضع الابتداء فإنها في التحقيق مثلُ المكسورة، فلما استويا في المعنى في العمل وتقاربنا في اللفظ، صارت كلّ واحدٍ كأنها أختها؛ يزيد ذلك وضوحًا أنك تقول: علمت أَنّ زيدًا قائمٌ، وعلمت أنّ زيدًا قائمٌ،
علمت إِنّ زيدًا لقائم، فنجد معنى المكسورة كمعنى المفتوحة، تؤكد في الموضعين كليهما قيام زيدٍ لا محالة، والقيام مصدرٌ كما ترى. نعم وتأتى هنا بصريح الابتداء فتقول: قد علمتُ لزيدٌ أفضلُ منك، كما تقول: علمت إنّ زيدًا أفضلُ منك؛ أفلا ترى إلى مجارى هذه التراكيب إلى معنى [واحد] وتناظر بعضها إلى بعض. وسببُ ذلك كلّه ما ذكرت من مشابهة إنّ لفظًا ومعنى وعملًا، فإذا كان كذلك سقط اعتراضُ هذا المتأخر على ما أورده سيبويه، وأسقط كلفته عنه. قال: ويزيدُ فيما نحن عليه بعد قوله:
وَلَا أَنّنِى بالمَشْىِ في القيدِ أَخْرُقُ
فعاد إلى أَنّ البتّةَ. وهذا ما قاله ابن جني.
وقال ابن خروف: لا يمتنعُ حملُ الجملة الابتدائية على أنّ، ثم قال: ويجوزُ في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه؛ ألا ترى إلى قولهم: رُبّ رَجُلٍ وأخيه، وأشباهه، والحملُ في هذا أحرى بذلك.
فإذًا ما رآه الاظمُ هو الصحيح من القولين.
وأما قولُه: «مِن دُوْنِ لَيْتَ وَلَعَلَّ وكَأَنّ» ، ففيه سُؤال وهو أن يقال: هذا الشطر حشوٌ لا معنى له، لأنه لو اقتصر على ذكر ثلاثة الأحرف -وهى المتقدمة- لا قتضى كلامُه اختصاصَ ذلك الحكم بها دون ما بقي، لأن المسكوت عنه لا يجرى على حكم المنطوق به، ولا يحمل كلامه على ذلك، فصار ذكر البواقي منفيّ الفائدة.
والجواب: أنّه إنما نبّه على البواقي لفائدة التنكيت على ما ذهب إليه بعض النحاة، فهو يقول: إنّ ثلاثة الأحرف المذكورة وهى: إِنّ ولكنّ، هى المختصة بهذا الحكم، وليس بشامل لها وللبيت ولعلّ وكأنّ، كما يقول بعضهم، فهذا الموضع مثلُ قوله في باب كان:«فَجِئْ بها مَتْلُوّةً لا تاليةٌ» ، وقد مضى التنبيه عليه. والمخالف في المسألة هو الفراءُ، فأجاز أن يقال: كأنّ زيدًا أسدٌ وعمروٌ، ولعل زيدًا قائم وعمروٌ، وليت زيدًا قائم وعمروٌ. وشاهده على ذلك قولُ الراجز:
يا ليتَنىِ وأنتِ يا لَمِيسُ
بِبَلْدةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
قال المؤلف: «ولا حجة له في ذلك، لاحتمال أن يكون «وأنت» مبتدأً محذوف الخبر، تقديره: وأنت معي، والجملة/ في موضع لاحال واقعة بين اسم ليت وخبرها. وإنّما امتنع العطفُ على الموضع فيها عند الجمهور لأنّ دخولها غَيّر معى الابتداء الذى هو محرزٌ للموضع، فصار مسوخًا بمعنى التمنى والترجي والتشبيه، وأنت إذا عطفت فرفعت المعطوف لم تحمله إلا على الابتداء، فلم يصحّ ذلك حيث لم يبق معى الابتداء، ولا له محرزٌ، بخلاف إنّ وأَنّ ولكنّ، فإنها لم تغير معنى الابتداء، لأنّها داخلةٌ لتوكيده أو للاستدراك به لا نسخ معناه، فجاز رفع المعطوف معها على لَحْظِهِ؛ قال سيبويه: «ولم تكن ليت واجبةٌ ولا لعلّ ولا كأنّ، فَقُبح عندهم أن
يُدْخِلُوا الكلام الواجب في موضع التمنّى، فيصيروا قد ضَمُّوا إلى الأول ما ليس على معناه، بمنزلة إن». يعنى: أنه قبح أن يدلُّوا بالخبر الذى ليس بواجب، وهو خبر هذه الحروف، علي الخبر الواجب، وهو خبر المعطوف، إذ لا يدلّ على المحذوف إلا ما هو على معناه.
وقال السيرافي: «حَمْلُ المعطوف في هذه الحروف على الابتداءِ بغيّر المعنى الذي أحدثته هذه الحروف، لو قلت: ليت زيدًا منطلقٌ وعمرو مقيم، كان «وعمرو مقيم» خارجًا عن معنى التمنّى». فإذا كان كذلك لم يستقم حملُ هذه الحروف على إنّ لمباينة ما بينهما.
فالناظم إذًا أراد أن ينبّه بهذه الزيادة على خلافِ من خالف، وأيضًا فو سكت لسبق إلى الوهم إجراء القياس، فنصّ على نفي ذلك لئلا يُتَوّم صحتُه. وقلّما تجد في هذا النظم ما يسبق أه فضلٌ إلا وتحته فائدة أو فوائدُ، وقد مضى من ذلك أشياء، وستأتى أُخَر إن شاء الله تعالى.
وأطلق الناظمُ العطفَ ولم يُقَيِّده بحرفٍ دون حرفٍ، فدلّ على أَنّ لحروف العطف دون الواو في ذلك مدخلًا، وذلك صحيح، فتقول: إنّ زيدًا قائم فعمروٌ، و: فعمرًا. وإنّ زيدًا قائم ثم عَمْروٌ، وإن الناس قادمون حتى المشاةُ، وإن زيدًا قائم بل عَمْروٌ، وإنّ زيدًا قائم لا عمروٌ. وما أشبه ذلك، إلا أَمْ وإمّا فإنّ هذا الموضع ليس من مواضعهما فلذلك -والله أعلم- لم يستثنهما الناظم؛ إذ لا يصح دخولهما مع إنّ وأخواتها.
(ثم قال):
وَخُفِّفَتْ إِنّ فَقَلّ العَمَلُ
وَتَلْزَمُ اللّامُ إذا ما تُمُيَلُ
وَرُبّما اسْتُغْنِىَ عَنْها إِنْ بدًا
مَا نَاطِقٌ أرَادَهُ مُعْتَمِدًا
وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخَا فَلَا
تُلْفِيه غَالِبًا بِإِنْ ذِىِ مُوصَلَا
العربُ خَفّفت في هذا الباب أربعة أحرف لثقل التضعيف، كما تفعلُ ذلك في غير موضع من كلامها، وذلك إنّ وأنّ وكأنّ ولكنّ. وأمّا لعلّ فلم تخففها بحذف أحد المضاعفي، لأن التخفيف فيها حصل بحذف اللام الأولى، قالوا فيها: عَلّ، فلو زادوا فيها تخفيفا لأجحفوا بها. وأما ليت فلا تضعيف فيها، فبقي مما فيه التضعيف المحتملُ للتخفيف الأحرفُ الأربعةُ/ وذكر الناظم منها ثلاثة ولم يذكر «لكنّ» لكونها في حال تخفيفها لا تعمل شيئًا كما تعمل البواقي بعد التخفيف. وما نزع إليه هو مذهب النحويين ما عدا يُونُس والأخفش، فإنهما أجازا إعمال لكنّ بعد التخفيف قياسًا على أخواتها، وذلك لم يرد به سماعٌ فلا يُبْنى عليه.
فأخذ يتكلم على تلك الثلاث الباقية، وابتدأ بالكلام على إنّ المكسورة فقال:«وَخُفِّفتْ إِنّ فَعَلّ العَمَلُ» ، فَأَعلم أنها إذا خففت لا تبقى على حكمها
قبل التخفيف على حالٍ، بل لها أحكام تختصّ بها تلك الحال هو آخذٌ في ذكرها، فيعنى أنها إذا خففت صار في إعمالها للعرب وجهان: أحدهما: إبقاؤها على ما كانت عليه من الإعمال، وهو قليل في كلام العرب، ولذلك قال:«فَقَلّ العَمَلُ» ، ولكنه مع ذلك قياس، فتقول: إنْ زيدًا لقائمٌ. ومنه في القرآن الكريم: {وَإِنْ كُلّا لَمَا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبُّكَ أَعمالَهُمْ} ، وهى قراءة الحرمييّن وأبي بكر.
وَوَجْهُ بقاءِ الإعمال أنها عملت بشبه الفعل كما تقدّم، والفعل يعمل محذوفًا كما يعمل تامًا، كما تقول: لم يكن زيدٌ قائمًا، ولم يَكُ زيدٌ قائمًا، فكذلك يحكم لما أشبهه. وأيضًا فالحذفُ فرعٌ عارض، والأصل هو الإثبات فالمحذوف التقدير كأنه لم يحذف، وكأنها إِنّ كما كانت في الأصل.
والثانى: إهمالها، وهو الأكثر في الكلام. ودلّ على أنه الأكثر قوله:«فَقَلّ العَمَلُ» ، لأنه إذا قلّ إعمالها لزم كثرةُ إهمالها، إذ هى دائرةٌ بين هذين لا: واسطة بينهما، فتقول على هذا في الكثير: إِنْ زيدٌ لقائمٌ. ومنه قول الله سبحانه: {وإِنْ كلٌّ لَمَّا جَميعٌ لَدَينا مُحْضَرُونَ} . {وإِنْ كلُّ ذَلِك لَمّا مَتَاعُ الحياةِ الدُّنْيَا} ، {إن كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيها حافِظٌ} . وما أشبه ذلك.
ووجهُ إهمالِها أنها إنما عملت مع اعتبار الشبه اللفظى إما مستقلًا وإما جزءَ عِلّةٍ، فإذا فقد الشبهُ اقتضى القياسُ فَقْدَ الحكم المبنى عليه، وهو الإعمال، فأهملت.
وهذا الذى قَرّره الناظم مبنىٌّ على موافقة أهل البصرة في أَنّ إِنْ المخففة ليست النافية، بل هي التوكيديّةُ، خلافًا لمن قال: إنها النافية، واللام اللازمة بعدها للايجاب بعد النفي، فقولك: إِنْ زيدٌ لقائم، في معنى: ما زيدٌ إلا قائمٌ. وهو مذهب الكوفيين. والذى يدلّ على صحة ما ذهب إليه الناظم مجئ النصب عن العرب، كقراءة من قرأ:{وَإِنْ كلًا لما لَيُوَفِّينّهُم} ، وقال سيبويه:«وحدثا من يُوثَق به أنه سمع من العرب من يقول: إِنْ عمرًا لَمطلقٌ» ، قال: «وأهل المدينة يقرءُون: {وَإِنْ كُلًا لَمَا لَيُوَفِّينّهُمْ} ، يخفّفُون وينصبُونَ، كما قالوا: كأن ثَدْيَيْهِ حُقّانِ
قال: «وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شئٌ لم يتغيّر عمله، كما لم يُغَيِّر عمل لم يَكُ. ولم أُبَلْ حين حُذِف» . وحكى المؤلف عن الأخفش أنه قال: «زعموا أن بعضهم يقول: إِنْ زيدًا لمنطلق» . وحكى ابن
الأنباري ذلك أيضًا. وإذا ثبت لها النصب عند التخفيف لم يصح أن تكون النافية أصلًا، لا يقال في الآية: إن كُلًا منصوب بقوله: ليوفيّهم، أو بفعلٍ/ يفسّره، لأنّا نقول: كلا القولين ممنوع على مقتضى أصولهم في هذا الموضع أو ضعيف؛ قال المؤلف: «لأنهم يوافقون في أن ما بعد إلّا لا يعمل فيما قبلها ولا يفسّر عاملًا فيما قبلها، قال: «وكذلك قال الفراء في كتاب المعانى: وأما الذين خفّفُوا إنّ فإنّهم نصبُوا كُلًا بِلَيوَفِّينّهُمْ. وهو وجه لا أشتهيهِ، لأن اللام لا يقعُ الفعل الذى بعدها على شئ قبله، فلو رفعنا كُلًا لصلحَ ذلك، كما يصلَح ذلك، كما يصلُح إِنْ زيدٌ لقائم، ولا يصلح أن تقول: إنْ زيدًا لأضرب؛ لأن تأويله كقوله: ما زيدًا إلّا أضرب. وهذا خطأ في اللام وإلّا. هذا نصّه» . قال ابن مالك: «فقد أَقَرّ بأن حَمْلَ القراءة على جعل إِنْ نافيةً، واللام بمعنى إلّا، خطأٌ. ولا شكّ في صحة قراءة النصب، ولا توجيه لها إلا توجيهُ البصريين، فتعيّن الحكمُ بصحته مع ما أيّد ذلك من السماع» .
ثم قال: وتَلزُم اللامُ إذا ما تُهْمَلُ»، يعنى إِنّ إذا خُفِّفَتْ فأهملت في أحد الوجهين لزمت اللام في خبرها، والألف واللام في قوله: «وتلزم
اللامُ» لتعريف العهد، إِذْ قد تقدّم له الكلام في لحاقها. وأفاد بهذا الكلام فوائد:
إحداها: أن تلك اللامَ لامُ الابتداء الداخلةُ في خبر إِنّ، وهو رأىُ جمهور البصريين. وزعم الفارسىُّ من البصريين أنها غيرها، لك ليست بمعنى إلّا. وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى إِلّا، بناء على أنّ إِنْ هى النافية. والدليل على ما قاله الناظم أنّ من العرب من يعملها واللام معها، فيقولون: إِنْ زيدًا لقائم، ومنه اللام في:{لما لَيُوفِّينّهُم} ، وقد نصّ سيبويه على ذلك في أبوابِ إِنّ، وقال: إنها التى في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} .
أما قولُ الكوفيين فمجرّدُ دعوى لا دليل عليها، ولو كان كما قالوا لصحّ وقوعها حيث تقع إلّا بعد كلِّ نفي، فكنت تقول: ما زيد لقائمٌ، أو: لما قائمٌ -بمعنى: ما زيدٌ إلا قائم- ولم يقم لَمَا زيد، [ولن يقومَ لَمَا زيدٌ]، وفي امتاع ذلك دليلٌ على أن الأمر ليس كما زعموا.
وأما قول الفارسىّ فشبهته -فيما زعم- ما رأى في الكلام من إعمال ما قبلها فيما بعدها، نحو:{وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرهُمْ لَفَاسِقِينَ} ، {وَإِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} . وهو كثير، ولام الابتداء لا يعملُ ما قبلها فيما بعدها، لو قلت: إنك
كنت لقائمًا، أو إنّك قتلتَ لمسلما، لم يجز، فعلمنا أنها ليست بها.
وقد اعتذر عن هذا المعنى ابنُ خروفٍ فقال: ولما خُفِّفت وأبطل عملُها ألزموها اللام فرقًا بينها وبين النافية، وأدخلوها على ما لم تكن تدخل عليه وإنّ مثقلةً، فقالوا: إن قام لزيدٌ، وإن ضربتَ لعمرًا، {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقينَ}؛ قال: وليس دخولها في هذه المواضع بأبعد من دخولِ إنّ على الفعل، لَمّا أُلغِيت جاز فيها ذلك. هذا ما قاله؛ وأيضًا فلا بُعْدَ في أَنْ يعملَ ما قبلها فيما بعدها، كما يعمل فيما قبلها إذا قلت: إنّ زيدًا طعامَكَ لآكِلٌ، وإن زيدًا في الدار لقائِمٌ. وما أشبه ذلك، لما كانت مؤخرة من تقديم، فمن حيث فيها على الجملة ألّا تعتبر صَدْريّتِها مع إنّ يجوز أن لا تعتبر هنا أيضًا لأن المخففة هى المثقّلَةُ. وللمؤلف هنا جواب آخر في الشرح لا حاجة إلى جَلْبِهِ هنا.
والفائدة الثانية: ما نصّ عليه/ من لزوم اللام، والفائدة في لزوم اللام قصدُ التفرقة بين إِنْ المخففة من الثقيلة وبين إن النافية؛ إذ لو قلت: إِنْ زيد قائمٌ، لم يُعرَفْ أهى النافية أم لا، فأدخلوا اللام المختصّة بأنْ المخففة، لأنها التى تصحبها حال تثقيلها وحال تخفيفها أيضًا إذا أُعمِلَت، فلم تلتبس بالنافية؛ ولأن لام الابتداء ليس من شأنها أن تدخل مع أدوات النفي، فحصل الفرق بينهما؛ قال سيبويه:«اعلم أنهم يقولون: إِنْ زيدٌ لذاهبٌ، وإِنْ عَمْروٌ لخيرٌ منك، لما خَفّفها جعلها بمنزلة لكنّ حين خَفّفها» -يعى بمنزلتها في الإهمال-، قال: «وألزمها اللام لئلا تلتبس
بإن التي بمنزلة ما التى ينفي بها». وهذا التعليل (قد) يقتضى أنها لا تلزم إذا لم يقع لَبْسٌ، ولكن العرب لم تراع ذلك إلا في النادر، كما هو ذاكره. والفائدة الثالثة: أنها لا تلزم إذا أُعْمِلت، لأنّ الناظم شرط في لزومها إهمالَ إِنّ، فاقتضى مفهُو الشرط أنها إذا لم تُهْمَلْ لا تلزمُ. وذلك صحيح، فتقول: إِنْ زيدًا قائمٌ، وإِنْ زيدًا لقائم. نصّ على ذلك السيرافي وغيره، ووجه ذلك ظاهر، وهو أنها لما أُبقيَتْ مع التخفيف على حكمها مع التثقيل في العمل، أُبِقَى لها أيضًا حكمُ دخول اللام في الخبر، وهو الجواز مع التثقيل، فكذلك يكون مع بقاء حكمه. ثم قال:«وَرُبّما استُغْنَىِ عَنها» ، رُبّما إنما يستعملها الناظم في التقليل، والضمير «عنها» عائدٌ إلى اللام. يعنى أنّ اللام الفارقة قد يُستَغنى عنها فلا يؤتى بها، لك بشرط أن يبدو ويظهر مرادُ المتكلم بكلامه ومعتمدُه الذى اعتمده. وذلك الإيجابُ لا النفىُ. وهذا الاستغناء قليلٌ في الكلام، والغالبُ لزوم اللام. وحاصلُ ذلك أنها تسقط إذا أُمِن اللبس بين إِنْ المخففة والنافية بقرينة تدلّ على ذلك، فإذا أُمِن اللبسُ فربّما لم يُؤْتَ باللام نحو قراءة من قرأ:{وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا متاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيا} ، بكسر لام لما، أى: للذى هو متاع الحياة الدنيا. وفي الحديث: «وأَيمُ الله، إِنْ كَانَ خليقًا للإمارة» . وقال معاوية في كعب الأحبار: «إن كان من أحذقِ هؤلاء» . وهذا كلُّه نادر كما قال.
(فإن) قيل: في ظاهر سياقه تناقضٌ، وذلك أنه قال:«وتلتزمُ اللامُ» ، فاقتضى أن السقوط غير موجود، ثم قال:«وربّما استُغْنِى عنها» فاقتضى أها غير لازمة! وشأنه أن يأتى في مثل هذا بلفظ الغلبة أو الشياع فيقول: وتغلبُ اللامُ، أو: وتلحقُ اللام في الغالب أو الشائع أو ما أشبه ذلك. فهذه عبارة معترضةٌ.
فالجواب: أن قصده أمرٌ آخر، وهو أنّ قوله:«وتلزم اللامُ» يريدُ في القياس، فلا يجوز إسقاطها البتّة وإن أُمِنَ اللبس. وقوله:«وربّما استُغنِىَ عنها» ، يعنى به في السماع الذى لا يقاسُ عليه. والدليل على هذا القصيد من كلامهم قوله:«وربّما» فجعل النُّدورَ في قسم ما أُمِن فيه اللبسُ، ومواضع أمن اللبس لا توصف بالندور لكثرة القراءة الدالّة، فإنما أراد تعيينن موضع السماع، وأن إسقاط اللام نادِرٌ لا يقاسُ عليه. ولو أراد القياس لم يأت بربّما المقتضية لترك القياس عنده/، وليس قصده كما قال في التسهيل:«وتلزم اللام بعدها فارقةً إِنْ خيف لبسٌ بإنْ النافية» . فهذا الكلامُ يقتضى أَنّ إسقاطها بشرط أَمْنِ اللبس قياسٌ، بخلاف كلامه في هذا النظم، فإنّ الظاهر منه لزومُ اللام مطلقًا كمذهب سيبويه وغيره، فخالف ما ذهب إليه التسهيل وشرحه، ومذهبه هنا أصحّ؛ إذ لو كان أمُن اللبس مجوّزًا لإسقاطها عند العرب لكانوا خُلَقاءَ أن يكثر ذلك في كلامهم ويشيع؛ إذ اللام عند ذلك جائزةُ اللحاق لا لازمتُه، فلما لم يكن ذلك، بل حافظوا على إلحاقها مطلقًا، دلّ ذلك على أهم أجروا ما لا لبس فيه على ما فيه اللبس، ليجرى البابُ كلُّه مجرًى واحدًا، كما فَعَلُوا
ذلك في جريان الصفة على غير من هى له. وقد مرّ ذلك في باب الابتداء.
فإن قيل: أطلق الناظمُ القولَ في لزوم هذه اللام، فاقتضى أنها تلزمُ الخبر كان منفيًا أو موجبًا. وليس كذلك، بل إما تلزم عند كون الخبر موجبا لم تتقدّمه أدا نفى، وقد شرط ذلك في التسهيل حيث قال:«وتلزمُ اللام بعدها فارقةً إن خِيفَ لبسٌ بإن النافية، ولم يكُنْ بعدها نَفْىٌ» فلا يجوز على هذا: إِنْ زيدٌ لما قام، وإن زيدٌ للا يقوم، وكلامُه هنا يجوز ذلك لإطلاقِه وعدمِ ذكره هذا الشرط. وهو غير صحيح.
فالجواب: أن هذا الاشتراط غير محتاج إليه؛ إذ (قد) تقرّر من كلامه أنّ هذه اللام هى لام الابتداء الدالخلة في خبر إنّ، وإذا كات إيّاها فقد تقدّم قبلُ اشتراط كونِ الخبر غير مفيّ في قوله:«وَلَا يَلىِ ذى اللامَ ما قَدْ نُفيا» ؛ فذِكْرُ ذلك هنا تكرارٌ من غير فائدة. وأيضا لو احتيج إلى ذلك الشرط أنْ يُذكَرَ هنا لاحتيج لذكر جميع الشروط مثل أن لا يكون فعلا ماضيا متصرِّفًا خاليًا من قد، وساءر ما ذُكِر هنالك، فلما لم يكن كذلك كان تَرْكُ هذا الشرطِ هو الوجبَ ها. فالذى فعل هَنَ ابن مالكٍ أحسنُ من فعله في التسهيل، والله أعلم.
ثم بَيَّن دخولها في الأفعال فقال: «والفِعلُ إِنْ لَم يَكُ ناسخًا» .. إلى آخره. هذا الكلامُ تُعطِى أَنّ وصلَ إِنْ هذه بالأفعالِ جائز على الجملة. وهذا مفهومٌ من كلامه؛ لأن معناه أَنّ الفعل إن كان ناسخًا وصِلَ بها وغلا فهو على الجملة مما يُوصَل بها الفعل. وهذا مُتّفق عليه، لكنهم اختلفوا في تعيين نَوْعِهِ، فالبصريُّونَ على اشتراطِ كونه ناسخًا للابتداءِ، وهو الّذى ذكَره النّاظم من أنها لا تُوصَل بالفِعلِ غالبًا إلا إذا كان ناسخًا، والأفعال النواسخ هى: كان وأخواتها، وكاد
وأخواتها، وعلم وأخواتها، فتقول: إن كان زيدٌ لقائمًا، وإن كادَ ليقوم، وإن علمتك لصادقًا. ومن ذلك قول الله تعالى:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبينٍ} ، {وَإِنْ يَكَادُ الذينَ كَفَرُوا لَيُزْلقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمِ} ، {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبينَ} . وهو كثير.
وأما الكوفيون فلا يُعَيِّنون لذلك ناسخًا من غيره، بل يجيزون دخولها على كل فِعْلٍ متصرِّفٍ/ فيقولون: إِنْ ضربَ لزيدًا، وإن أكرمتَ لعمرًا، وإن قام لزيدٌ. وإلى هذا ذهب الأخفشُ، ومالَ إليه المؤلف في التسهيل وشرحه. والظاهرُ منه هنا خلاف ذلك، لقوله: «فَلَا تُلْفِيهِ غَالِبًا بِإِنْ ذِى مُوْصَلَا، والغالبُ عنده في مقابلة النادِرِ، وهكذا جرى اصطلاحه في هذا الإطلاق، والنادرُ لا يقاسُ عليه. وإنما ذهبوا إلى ذلك لوجود السماع به، أمّا الكوفيون فالذى حكوا من ذلك هو قولُ امرأةِ الزبير رضي الله عنهما:
ثكَلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا
وَجَبتْ عَلَيْكَ عُقُوبةُ المُتَعمِّدِ
وهذ -وإن كان في نقلهم شاذًا- فهو على قاعدتهم قياسٌ، من جهة أَنّ إِنْ عنده نافيةٌ، واللامُ ايجابيّة، كما وإلّا، وكما أَنّ ما وإلّا غير مختصّةٍ بناسخ دون غيره، فكذلك مرادفها.
وأما من قال بقياسه من البصريين فمعتمدهم السماع، فقد جاء من ذلك أشياء؛ من ذلك ما حكى الأخفش في معانيه في قراءة ابن مسعود، قال:{إِنْ لَبِثْتُم لَقَلِيلًا} ، وقول امرأة من العرب:«والذى يُحْلَفُ به إِنْ جاءَ لَخَاطبًا» ، وقول بعض العرب:«إِنْ يَزِينُك لنفسُكَ، وَإِنْ يَشِينُك لهِيَهْ» . وهذا كلّه لا يبلغ مَبْلَغَ أَنْ يُقاسَ عليه.
وإنما اختصت بالأفعال الناسخة لأنها كانت مختصّة بالدخول على المبتدأ والخبر في الأصل، فلمّا خُفِّفَتُ الشئ على حال كذا، أى: وجدته كذلك .. وذى من قوله: «بإذن ذِى مُوْصَلا صفةٌ لإِنْ، وهى التى يشار بها إلى القريب المؤنث، أى: لا تلفيه موصَلًا بإن هذه، يعنى المخففة من الثقيلة، تحرّزًا من إِنْ النافية وإن الشرطية، فإنهما مخالفان لها في هذا الحكم.
وتحرز بقوله: «غالبًا» مما جاء من الأفعال غير الناسخة موصلًا بإن. وقد تقدم ما جاء من ذلك
وبقي (هنا) على الناظم سؤالان:
أحدهما: أن «موصلا» من «أوصلت» الرباعىّ، والفعلُ المستعمل في معنى الوصول كذا إلى كذا وصولًا. ولا تقول: أوصلت كذا بكذا، بمعنى وصلته، وإنما تقول: أوصلتُ كذا إلى كذا، فهو الذى يتعدّى إلى الثاني بإلى لا بالباء، وأما المتعدّى بالباء فتقول فيه: وصلته فهو موصول. فكان حقّ الناظم أن يقول: فلا تلفيه غالبا بإن ذي موصولا.
والثاني: أنّ هذا الوصلَ المراد لم يبّن كيف يكون، أقبل إِنْ أم بعدها؟ فإن اتصال الشئ بالشئ يكون من كلتا جهتيه، ولذلك تقول:«وصلتُ الكلام بعضه ببعض، تريد: وصلتُ أوّله بآخره، وأخَرهُ بأوّله. وإذا كان كذلك فمن الواجب بيانُ اتصال الفعلِ بإنْ، هل يكون الفعلُ متقدّما على إنْ أو متأخّرًا عنها؛ إذ لا يعرف ذلك إلا بالنّقْلِ والنصّ عليه. ولذلك اعتنى أبو القاسم بهذه المسألة، فبوّب لها بابًا مستقلًا فقال: باب الجمع بين إنّ وكان» ، ونص على تقديم إنّ، فَتَرْكُ الناظمِ بيانَ ذلك تقصيرٌ.
والجواب عن الأول: أن العرب تقول: وَصَلَ الشئُ بالشئ/: إذا اتصل به. فهو يتعدّى ولا يتعدّى، كرجَعَ ورجعتُه، ووقف ووقفتُه، وعَمَر المنزلُ وعمرتُه؛ وإذا ثبت ذلك فلعلّ الناظم عدّى هذا الفعل بالهمزة بناءً على أنه مقيس، كما تقول: ذهب وأذهبته، وقام وأقمته، وقعَد وأقعدتُه؛ فيكون مُوصلًا من أوصلتُ الشئ بالشئ، المعدّى من وصل بمعنى اتّصل، ولا يكون فيه اعتراضٌ.
وعن الثاني: أن وَصْلَ الشئِ بالشئِ يجرى في العرف على معنى الوصل من آخر، ولذلك إذا أرادوا الوصل من أوّلٍ عدلوا عن هذا اللفظ إلى لفظ «ألحقت» أو إلى لفظ أدخلت، فيقول: كذا على كلمة كذا، أى أوصلتها بها من أولها. فلفظُ الوصل في العرف المستعمل له خصوصيّةٌ
باللحاق من آخر؛ فكأنّ الناظم عوّل في فهم تقديم إِنْ على الفعل على هذا الاستعمال. والله أعلم.
وَإِنْ تُخَفّفْ أَنّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ
وَالخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلةً من بَعْدِ أَنْ
وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا
وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا
فالأحْسَنُ الفَصْلُ بَقَدْ، أو نفىٍ أو
تَنْفِيسٍ أوْ لَوْ، وَقَلِيلٌ ذِكُرُ لَوْ
هذا هو الحرف الثاني من الأحرف الثلاثة التى خُفِّفت في هذا الباب، وهو أَنّ المفتوحة، وذكر من أحكامها المختصّة أنها إذا خُفِّفت لم تُهْمَلْ؛ بل عملها باقٍ، إلا أنّ اسمها يكون مُستَكنًا، أى مضمرًا أبدًا لا يجوز إظهاره إلا في نُدورٍ أو ضرورة شعر لا يعتدّ به، نحو ما أنشده ابن الأنبارىّ وغيره من قول الشاعر:
فَلوْ أَنْكِ في يَوْمِ الرّخَاءِ سَأَلْتِنِى
فَرِاقَكِ لَمْ أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ
وأنشد ابن الأنباري أيضا:
لَقَد عَلِم الضّيفُ والمُرْمِلُونَ
إِذّا اغْبرّ أُفْقٌ وَهَبّتْ شَمَالَا
وَخَلّتْ عَنْ أولادِها المرضِعاتُ
ولم تَرَ عَيْنٌ لِمُزْنٍ بِلَالًا
بأَنّكَ الرّبيِعُ وغيثٌ مَرِيعٌ
وقِدْمًا هُنَاك تكُونُ الثّمالَا
وهذا تكنّ لم يُبَيّن ما هو؟ وكان أولى به أن يبيّنه، ولكن لم يحنج إلى ذلك، بناءً على أنه لا يتعيّن ما هو، إذ لا يلزمُ أن يكون ضمير الشأن لإمكان عوده على حاضر أو غائب معلوم. وإلى هذا ذهب في شرح التسهيل، واحتجّ لذلك بكلام سيبويه إذ قال في قوله تعالى:{وآخرُ دَعْوَاهُم أَنِ الحمدُ لِله رَبِّ العَالَمِينَ} : «هوَ على قوله: أنه الحمد لله» . ثم قال: «ومثل ذلك: {وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبراهيمُ، قَدْ صَدّقْتَ الرُّؤْيا}، كأنه جَلّ وعزّ قال: وناديناه أَنّك قد صدّقت الرُّؤْيا يا إبراهيم. قال: وإذا قلت: أرسل إليه أَنْ ما أنتَ وذا؟ فَهِىَ عَلى أَىْ» . قال: «وإن أدخلتَ الباءَ على أَنّك وأنه فكأنه يقول: أرسلْ إليه بأنّك ما أنت وذا جاز» . وله مثل ذلك في باب هذا الباب، والجمع مذكور في أبواب إن وأنّ
من آخر الرِّزمة (الأولى).
وقد التزم بعضهم في هذا المستكنّ أن يكون ضمير الشأن. وذلك غيرُ لازم. هذا حكم اسمها وياتى حكمُ خبرها.
وقد اقتضى كلامُه فيها حيث ألزم لها اسمًا وخبرًا، ولم يقلْ غير ذلك أنها عنده معملةٌ مع التخفيف/ مطلقًا، وخلافُ أهل البلدين جارٍ فيها. واستدلّ لصحّة إعمالها بما تقدّم من الشاهدين، وأن بعض أهل اللغة يحكي ذلك عن بعض العرب. وغلى هذا فلا نُكْر في التزام حذف الاسم مع التخفيف، فقد حذفوه في المثقلة حين قالوا:
فَلَو أَنّ حُقّ اليومَ منكُمْ إقامةٌ
وإِنْ كانَ سَرْحٌ قد مضى فَتَسرّعا
فما خَفّفوها بالحذف حذفوا أيضا الاسم لتكون على شكل ما لا يعملُ، إذ صارت شبه متالا يعمل في الاسماء. ولا نظير هذا التزامهم في إِنِ الشرطية إذا حذفوا جوابها أن يكون فعلُ الشرط ماضيا، لئلا تكون على شاكلة ما يجزم وليس له جواب ينجةزم. فالحاصل أنّ ذلك فرارٌ من قبح لفظيّ. وأيضا فقد قال سيبويه:«لم يحذفوا لأن يكونَ الحذفُ يُدخِله في حروف الابتداء، بمنزلة إنّ ولكنّ، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف عَلَمًا لحذفِ الإضمار في إنّ، كما فعلوا ذلك في كأنّ» . وقال في أبواب إنّ وأَنّ: ومن قال: {والخامسةُ أَنْ غَضَبُ اللهِ عَلَيها} ، فكأنه قال: أنه غَضَبُ الله عليها، لا يُخَفِّفُها في الكلام زبدًا وبعدها
الأسماءُ إلا وأنت تريدُ الثقيلة مضمرًا فيها الاسم». انتهى.
فإن قلت: فهذا يقتضى أنها إذا كان بعدها الأفعال لا يضمر فيها، ولا تكون المخففة من الثقيلة.
فالجواب: أنه إنما نفي أن تكون التفسيرية التى بمعنى أَىْ، وأما إذا وليها الأفعال فقد تكون التفسيريّة، وقد تكون المخفّفة ويضمر بعدها.
وقولُ الناظم: «والخَبَر اجعلْ جملة من بعد أَنْ» ، يريد أن الخبر إما أن يكون جملة اسميّةً أو فعلية، فإن كان جملة اسمية فاجعلها بعد الحرف من غير اشتراط فعلٍ. هذا معنى قوله:«من بعد أَنْ» أَىْ: على الإطلاق، كقول الله تعالى:{وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ} . وقرئ في غير السبع: {والخامِسَةُ أَنْ غَضَبُ اللهِ عليها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقينَ} . وفي السبع: {والخامِسَةُ أن لعنةُ اللهِ عليه إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبينَ} . وفي الشعر ما أنشده سيبويه من قول الأعشى:
في فِتْيَةٍ كسُوفِ الهِنْدِ قد عَلِمُوا
أَنْ هالِكٌ كُلٌّ من يَحْفَى ونتعلُ
فإن قيل: مقتضى هذا الكلام التزامُ عدمِ الفصلِ بين إن وهذه الجملة، وأن لا يجوز الفصلُ وذلك غير صحيح، بل الفصلُ بالأدوات جائز؛ فأنت تقول:
علمتُ أن لا عالم إلا زيد. وفي القرآن الكريم: {وَأَنْ لا إِلَه إِلّا هُوَ، فَهَلْ أنتُمْ مُسْلِمونَ} . وقل لبيد بن ربيعة:
فَقُولا لَهُ -إِنْ كانَ يُقسِمُ أمره-:
أَلَمّا يَعَظْكَ الدّهْرُ، أُمُّكَ هَابِلُ
فَتَعْلَم أَنْ لَا أَنْتَ مُدْرِكَ ما مَضَى
وَلَا أَنْتَ مِمّا تَحْذَرُ النفسُ زائُل
وأنشد ابنُ خروف لكُثَيِّر:
لِتَعْلَم عِنْد الغَيْبِ أَنْ لا مُقَصِّرٌ
وهو شهيرٌ، فكيف هذا؟
الجواب: أن الناظم لم يشترط هنا الولاية لأنْ، وإنما ذكر أنك تجعلُ الجملة بعدها قطّ، من غير شرطٍ؛ فإنما زطلق العبارة توطئةً لما يذكُره بعدُ من اشتراطِ الفعلِ في الأحسن/ إذا كانت الجملة فعلية، يفهم له من مجموع العبارتين أن الجملة الفعلية يشترط فيها الفصلُ في الأمر الأرجح، بخلاف الجملة الاسمية يشترط فيها ذلك.
فإن قيل: من أين تعَيَّن أن يكون المراد بالجملة في قولهم: «والخَبَر اجعَلْ جُمْلَةً» . الجملة الاسمية، يقيّدها بذلك؟
فالجواب: أن الذى يُبيِّن ذلك من كلامه مَوْرِدُ التقسيم؛ إذ قال:
«وَإِنَ يكُنْ فِعْلًا» ، أى: يكن الخبر فعلًا، فدلّ على أن الجملة المتقدمة التى جعلها خبرًا من بعد أَنْ ليست الفعليّة لا تتضمّنُها، فتعيّن أنه الاسمية بهذا الاعتبار؛ إذ لا جُملة إلا اسمية أو فعليّة. ويحتملُ آخَر، وهو أن يكون المرادُ بقوله:«والخَبَر اجْعَلْ جُملة» الجملة على الإطلاق، كانت اسميةً؛ إذْ لم يُقيّدها، وإنما ألزم أن يكون الخبر جملة خاصّةً، فيكون حالها في الجواز أَعمّ من أن يقع بين أَنْ وبينها فَضْلٌ أَوْلا، فإن لَحَقِ فصلٌ فهو جائزٌ، وإن لم يلحق فكذلك، لكن الأحسنُ الفصلُ إذا كانت فعليّةً على تفصيله المذكور، كأنّه قال: يلزمُ أن يكون خَبرُها جملةً بِفَصْلٍ وغير فَصْلٍ، إلا أنّ الأحسنَ في الفعلية الفصل بشرطه. وهذا كلام مستقيم.
فمثال الفصلِ وعدمه مع الجملة الاسمية قد تقدّم، ومثالُه مع الفعلية قولُ الله تعالى:{قَالُوا: نُريدُ أَنْ نأكُلَ مِنْها وتَطْمئِنّ قُلُوبُنَا، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} .. الآية، وقولهُ تعالى:{عَلِم أَنْ سَيَكُونُ منْكُمْ مَرْضَى} . ومثال عَدَمِ الفصل قراءةُ من قرأ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرّضَاعَةَ} . وقال امرؤ القيس:
وَحَدِّثْ بِأَنْ زالَتْ بِلَيْلٍ حُمُولُهمْ
كَنَخْلٍ من الأعراضِ غير منَبّقِ
وقال النابغة الذبياني:
فَلَمّا رَأَوا أَنْ ثَمّرَ اللهُ مَاله
وَأثلَ مَوَجُودًا وَسّد مَفَاقِرَهْ
وقال الفراء: ولو رُفِع الفعلُ في خَبَر أَنْ بغير لا. كان صوابًا، كقولك: حَسِبْتُ أن تقولُ ذلك، لأن الكاف تحسنُ مع أَنّ، فتقول: حَسِبت أنّك تقولُ ذاك. وأنشد:
أَنْ تَهْبطِينَ بِلَادَ قَوْمٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطّلاحِ
وإن كان قد ضعفه سيبويه فلم يمنعه البتّةَ، قال:«واعلم أنّه ضعيفٌ في الكلام أن تقول: قد علمتُ أَنْ تَفَعَلُ ذاك، ولا: قد علمتَ أَنْ فَعَلَ ذاك، حتى تقول: سيفعلُ أو قد فَعلُ، أو تنفي فَتدخُلَ لا» . ثم وجّه ذلك. فعدمُ الفصل إذًا جائز، لكن الفصلَ أقوى منه. ويُحْتَمِل أن يكون من ذلك ما أنشده السيرافىُّ وغيره:
أَنْ تَقْرآنِ عَلَى أَسْمَاءً وْيَحكُما
مِنِّى السّلَامَ، وأَنْ لا تُشْعِرا أَحَدَا
ثم بيّن بعد هذا الإطلاق ما يحتاج إلى الفصل في الوجه الأحسن مما
لا يحتاج إليه، فقال:«وَإِن يَكُنْ فِعْلًا ولم يكُنْ دُعَا» .. إلى آخره، وحاصله: أن الخبر إذا كان فعلًا، وذلك عبارة عن كونه جملة فعليّة، فالأحسنُ فيه الفصلُ بين أَنْ والفعلِ بأحد تلك الأشياء، ويجوز عَدَمُه على قلة، لكن بشرطين:
أحدهما: أن لا/ يكون فِعْل دُعَاءٍ، وهو قوله:«وَلَم يَكُن دُعَا» ، يعني الفعلَ، وإليه رجع الضمير في «يَكُن» ، فإنه إن كان دعاءً لم يشترط الفصلُ في الأحسن، بل لا يفتقر إليه، نحو قولهم: أَمَا أَنْ جَزَاك الله خيرًا. ومنه في القرآن الكريم: {وَالخامِسَة أَنْ غَضِب اللهُ عليها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقين} . وما أشبه ذلك.
والثاني: أن لا يكون الفِعلُ غير متصرف، وذلك قوله:«ولم يَكُنْ تصريفه مُمْتَنِعا» ، فإن إِنْ كان غير متصرّفٍ لم يحتج إلى فَضْلٍ، نحو علمت أن لستَ قائمًا. ومنه قولُ الله تعالى:{وَأن ليس للإنْسانِ إِلّا ما سَعَى} ، وقال تعالى:{وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} .
فإذا اجتَمَعَ الشّرطان فحينئذٍ يعتبر الفصلُ كما ذكر، وعيّن له أربع أدوات:
إحداها: قد، نحو قولك: علمتُ أن قد قام زيد، وقال تعالى حكايةً:{وَيَعْلَم أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا} .
والثانية: أداةُ نَفْىٍ، كلا، ولن، ولم، نحو:{لِئَلّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَنْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ من فَضْلِ اللهِ} ، {أَفَلا يَرَونَ أَنْ لَا يرْجِعُ إلَيْهم قَوْلًا} .. الآية {أَيَحْسَبُ الإِنسانُ ألّن نّجْمَعَ عِظَامَهُ} ، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ، {أَيَحسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أحد} .
والثالثة: حرفُ التنفيس -وهو السنُ أو سوفَ- نحو: علمتُ أَنْ سيقومُ زيدٌ، قال تعالى:{عَلِمَ أَنْ سَيكُونُ مِنْكمْ مَرْضَى} .
والرابعة: لو، ومنه قول الله تعالى:{فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجنُّ أَنْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ} .. الآية. وأنشد الفارسي:
أَمَا -والله- أَنْ لَوْ كُنْتَ حُرًا
وما بالحُرِّ أَنْتَ وَلَا الخَلِيقِ:
وإنما لم يفعلوا ذلك بالجملة لااسمية ولم يُرَجِّحوا الفَصْلَ كالفعلية؛ لأنك قد جئت أَنْ باسمٍ وخبرٍ، كما جئت (بهما) بعد المثقّلة المُعْمَلَةِ، فكأَن ما حُذِف لم يُحْذَفْ، يقال في الفَصْلِ مع الجمكلة الفعلية: إنه عوض، ولا يقال ذلك فيه مع الجملة الاسمية، كما جِئَ به لما تقتضيه الأداةُ من المعنى.
وأما فِعْلُ الدعاء فلم يحتج إلى فضلٍ لأنه لا يُوصِلُ إليه مع الدعاء، قال سيبويه:«وَأَمّا قولهم: أَمَا أَنْ جَزاك الله خيرًا، فإنهم إنّما أجازوه -يعنى من غير فَضْلٍ- لأنه دعاء، ولا يَصِلُون هنا إلى قَدْ ولا السين. ولو قلت: أما أَنْ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، جاز لأنه دعاء، ولا تَصِلُ هنا إلى السين» . قال: «ومع هذا أيضًا أنه قد كَثُر في كلامهم حتى حذفوا فيه إِنّهُ -يعنى المكسورة- وإِنّه لا تُحذَفُ في غير هذا الموضع. وسمعناهم يقولون: أَما إِنْ جزاك الله خيرًا، شبهوها بأنّهُ -يعنى المفتوحة- فلما جازت إِنّ كانت هذه أَجْوَرَ» . كأنه يقول: لما كثر هذا في كلامهم استغنوا عن العِوَضِ.
وأما الفِعلُ غير المتصرف فلم يحتج إلى الفصل لشبهه بالاسم في الجمود وعدم التصرف، والاسم غَيرُ محتاجٍ إِلى الفصل، فكذلك ما أشبهه.
وقوله: «قَلَيلٌ ذِكْرُ لَوْ» يَحْتَملُ وجهين من التفسير، أحدهما: أَنْ يريد أنه قليلٌ في السماع، وأن الفصل بها لم يكثر كثرة الفصل بغيرها مما تقدم. والثاني: أن يُريد أَنّ ذكر هذا الفاصِلِ قليلٌ عند النحويين، فلم يذكره منهم إلا قليل، وهو مما يُحتاج إلى ذكره، وبهذا فَسّره ابنه فقال:«وأكثر النحويِّين لم يذكُروا الفَصْلَ بين أَنْ المخفّفة وبين الفِعْلِ بلو» ، قال: وإلى ذلك أشار بقوله:
«وقليلٌ ذِكْرُ لَوْ» . وهذا الذى قاله صحيحٌ محتمل، بل هو الأولى؛ إذ لو أراد الأول لقال:«وقليلٌ فَضْلُ لَوْ» ، أو ما يعطى هذا المعنى، فإنما أراد: وقليلٌ ذِكْرُها في الفواصل، والنصُّ من النحويين عليها. وقد تقدّم ما في القرآن من قوله:{أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ} ، ومنه أيضا:{وَأنْ لَو استَقَامُوا على الطريقَةِ لأسقيناهُم/ ماءً غدقًا} ، ومن بحث وجد من ذلك كثيرًا، فليست بقليلة الوجود في كلامهم العرب. والله أعلم.
وَخُفِّفَتْ كَأَنّ أَيْضًا فَنُؤِى
مَنْصُوبُها، وَثابِتًا أَيْضًا رُوِى
هذا هو الحرف الثالث من الأحرف الثلاثة، وَيعنى أنّ العرب خفّفت أيضًا كأنّ بحذفِ إحدى نونيها، كما خففت أَنّ، وحين خَفَّفُوها نَوَوا منصوبَها، أى: إِنهم قدروا لها منصوبًا هو اسما، ويلزم من ذلك أن يكون لها مرفوع، وهو خبرها. وقد انتظم هذا الكلام ثلاثَ مسائل:
أحدها: أنها مع التخفيف عامِلةٌ بإطلاقٍ، لم تُهْمَلْ كما أُهمِلتْ إِنّ المكسورة، بل أعملت كما أعملت أَنّ المفتوحة. وخلاف البصريين والكوفيين فيها جارٍ. والدليل على إعمالها ظهوره مع إثبات الاسم كما سيذكره، وأيضا فإنّ إنما هى الكاف وإنّ، فقولك: كَأَنّ زيدًا أسدٌ، أصله: إن زيدًا كأسدٍ؛ ذكره سيبويه إشارةٌ وبسطه ابن جني؛ فإذا ثبت الإمالُ في إِنّ ثبت في كأنّ، لأنّها هي.
والثانية: كون منصوبها منوبًا لا يظهر، وهذا هو الأشهر، كقولك: أنت في زمانك كأنْ لم تَعْرِفْ أَهله. ومنه في القرآن الكريم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعة مِنَ النّهَارِ} . وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لم تَغْنَ بِالأمْسِ} . وأنشد سيبويه لابن صُرَيم الشكرىّ:
وَيَوِمًا تُوَافِينا بِوَجْهٍ مُقَسَّمْ
…
كَأَنْ ظبيةٌ تَعْطُوا إلى وَارقِ السّلَمْ
وأنشد أيضا قول الآخر:
وَوَجْهٍ مُشْرِقِ النّحْرِ
…
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ.
والثالثة: أنّ لها خبرًا غير منوىّ، بل هو ظاهرٌ؛ لأنه إذا أشار إلى أنها مُعْملة ج كان لها خبرٌ بلا بدٍّ، ولما كان منصوبُها منويا كان مرفوعُها غير منوىِّ غالبًا. إِلّا أنه لم يُبَىِّ ما يكون خبرًا لها في حال التخفيف، وقد نصّ في التسهيل على تعيين الخبر بناءً على أنّه لا يكون خبرًا لها حالَة التخفيف كلّ ما يكونُ خبرًا لها حالة التثقيل بإطلاقٍ، كما كان ذلك في أَنْ، حسبما بَيّنه فوق هذا فقال:«وتُخَفّف كأنّ فتعمل في اسمٍ كاسم أَنْ المقدّر، والخبر جملة اسميّة أو فعلية مبدوءة بلم أو قد، أو مُفْرد» . فمثالُ كونه جملةً اسميةً قوله:
وَوجْهٍ مُشْرِقٍ النّحْرِ
…
كَأَنْ ثَدْياهُ حُقّانِ
ومثال كونها فعليةً مبدوءةً بلم قولُ الله تعالى: {كَأَنْ لم تَغْنَ بالأَمْسِ} ، ومبدوءةً بقد نحو قوله، أنشده في الشرح:
لا يَهُولَنّكَ اصْطِلَاءُ لَظَى الحَرْ
…
بِ فَمحذُورُهَا كَأَنْ قَدْ أَلَمّا
ومثال المفرد قولهُ:
كَأَنْ ظبيةٌ تعطُو إلى وَارِقِ السّلَمِ
فكان حقُّ الناظم أن يُبَيّن ذلك كلّه، وإلّا فإطلاقه يقتضى أنّ كلّ ما يقع خبرًا للمثقّلة يقع خبرًا للمخففة. وليس كذلك؛ ألا ترى نك لا تقول: حسبتُ زيدًا كأنْ قام، أو كأَنْ، أو كأَنْ في الدار، أو كأن عندك. فلو حملناه على إطلاقه لاقتضى جواز هذا كُلِّه. وغير صحيح، فهو مما فاته ذكرُه، فلو زاد بيان ذلك لكان أحسنَ.
ثم قال: «وثابتًا أيضًا رُوِى» . مرفوعُ «رُوِى» عائد على «منصوبُها» /، يعني: أن اسمها ثابتًا غير محذوف ولا منوىّ، كما كان في حين تثقيلها. منه روايةُ من رَوَى بيت:
كَأَنْ ظَبْيةً تعطُو إلى وارقِ السّلَمْ
بنصب ظبية، وخبرها في هذه الرواية محذوف للعلم به، تقديرُه: كأنْ ظبيةً تعطُو هذه المرأةُ. أيضا هذا البيت:
وَوَجْهٍ مُشْرِقِ النّحْرِ
…
كَأَنْ ثَدْيَيْه حُقّانِ
بنصب الثديين.
وفي هذا الكلام ما يُشعر بأنه سماعٌ وليس بقياس. وإلى هذا المقصد أشار في التسهيل وشرحه ونصّ سيبويه أَنّ إعمالها مخصوصٌ بالشعر؛ إذ قال في أَنْ المخففة: «فلو لم يريدوا ذلك كما ينصبون إذا اضطُرُّوا في الشعر بكأنّ إذا خَفَّفُوا، يريدون معنى كأنّ، ولم يُريدوا الإضمار، وذلك قوله:
كَأَنْ وَرِيدَيهِ رِشَاءُ خُلْبِ
لكن يلزم الناظِمَ على طريقته المتقدمة له أن لا يكون هذا من قبيل المسموع؛ إذ ليس ما يَضطرُّه لتمكّن الشاعر من أن يقول: كأَنْ ظبيةٌ تعطُو، وكأَنْ ثدياه حُقّان، وكأَنْ وَرِيداه رِشاءُ خُلْبِ. وهى أقربُ في التمكن من قوله:
صوت الحمار يُجِدّعُ. ومن قوله: وما من يرى للخِلّ. وما أشبه ذلك. فالظاهر أنه غفل عن إعمال تلك القاعدة المقررة عنده، ونعمّا فعل.