الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَاعِل
الجملة المفيدةُ على قسمين: جملة اسمية، وجملة فعلية؛ فالجملة الاسميّة هى جملة المبتدأ والخبر، وهى التى فَرَغ الآن من ذكرها وذكرِ أحكامها وعوارِضها. والجملة الفعلية هى: جملة الفعل والفاعل، وهى التى شَرَع الآن فى ذكرها وذكر أحكامها، وابتدأ بتعريف الفاعل فقال:
الفَاعِلُ الّذِى كَمَرفُوعَى: أَتَى
زَيدٌ مُنِيرًا وَجْهُه، نْعم الفَتَى
وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلُ فَإِنْ ظَهَرْ
فَهْوَ، وَإِلَّا فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ
يعنى أن الفاعلَ فى اصطلاح النُّحاةِ كلُّ ما كان شاكلة الاسمين المرفوعين فى هذا الكلام، وهما: زيد المرفوع بأتى، ووجهه المرفوع بمنيرًا، وجامعًا لأوصافهما، فكل ما كان هكذا فهو الفعل المصطلح/ عليه؛ فيجب حينئذ أن ننظر فى أوصاف هذين المرفوعين فنعدّها ثُمَّ نعتبر، فكل اسم اجتمعت فيه تلك الأوصاف فهو فاعل، وجملتها خمسة أوصاف؛ فإِن زيدًا قد أُسندَ إِليه فعل، تامّ، فارغ لطلبه، غير مصوغ للمفعول، وقدّم عليه، وذلك الفعل هو: أتى. وكذلك وجهه قد أسند إليه اسم يعطى معنى الفعل، تام، فارغ لطلبه، غير مصُوغ للمفعول ولا فى معنى المصوغ له، وقدم عليه.
وَلْنتكلَّم أولًا على أوصاف زيد:
فالأَوّلُ: أن يكون مسندًا إليه فِعْلُ كأتى، إذا قلت: أتى زيدٌ. فلو أُسند إليه اسم وليس فى معنى الفعل نحو: أخوك زيدُ، أو: زيد أخُوك، وهذا زيد، أو: زيد هذا- لم يُسمَّ فاعلًا.
والثانى: أن يكون ذلك الفعل تامّاً كقام زيدُ، وجلس عَمْرو، وأتى فى مثاله. فلو كان الفعل غير تام نحو: كان زيد قائما، لم يُسمَّ فاعلًا.
ومعنى التمام: أن يكتفى الفعلُ بمرفوع من غير احتياجٍ إلى منصور، وإن كان طلبُه، كضربت زيدًا، فإن ضربت يطلبُ منصوبًا مع أنه يكتفى فى الإفادة بمرفوعه؛ إذ كنت تقول: ضربتُ -مقتصرًا عليه- فُيُفِيدُ، وكذلك: أكرمت وأعطيت. وأمَّا كان وأخواتها فلا تكتفى به أصلًا؛ لأنها داخلة على ما أصله المبتدأ والخبر، فمرفوعها وحده غير مفيد دون منصوبها، فكان زيدٌ بمنزلة زيد وحده. وأيضا فالخبر عِوَضُ من مصدرها، فهو كالجزء منها. فإذًا زيدُ من قولك: كان زيدُ قائما، لا يسمى فى العرف الجارى فاعلًا لفقد التمام فى كان، وإن سمى فاعلا كما فعل سيبويه فتجوَّز فى العرف. ولو فرضت كان تامّة، كان زيدُ فاعلًا؛ لأنه إذ ذاك يكتفى به كما يكتفى أتى بزيد فى مثال الناظم. وكذلك زيد فى: عسى زيد أن يقدم، وجعل زيد يقوم، وسائر أفعال المقاربة، لا يسمى معها فاعلًا؛ لعدم اكتفائها به.
فإن قلت: فيلتزمُ على هذا أن لا يكون زيدُ مع ظن وأخواتها فاعلًا، إذا قلت: ظن زيدُ عمرًا أخاك؛ لأنها لا تكتفى به دون ذكر المنصوبين، ولا
سيّما على مذهب الناظم، حيث منع الاقتصار فيها على المرفوع؛ إذ لا فائدة فيه عنده، فقد ساوت كان وأخوتها في هذا المعنى، لكن النحويين يجعلون مرفوع ظن وأخواتها فاعلًا باتفاق، فأشكل هذا. وهو يلزمه في التسهيل حيث صرّح بهذا القيد ثَمَّة. ولا يقال إنّ معنى التمام أن يأخذ الفعل فعله خاصّةً، لا أَنْ تحصُل الفائدة معه بدون غيره خاصّة؛ لأنا نقول: لا يُعْرفُ إذًا معنى التمام إلا بعد معرفة كون المرفوع فاعلًا، ونحن قد جعلنا التمام جزءًا من تعريف الفاعل، فلا يعرف الفاعل إلا بعد معرفته فيلزم الدورُ.
فالجواب: أَنَّ هذا القيد هو المثير للإشكال، وعدمه غير مُخِلٍّ، فلترجع، فنقول: إنه عندنا غير مراد، فيدخل ظن وأخواتها. ولا يقال: إن كان وعسى وأخواتهما تدخل عليه؛ إذ قد بين الاظم أن مرفوعهما مبتدأ في الأصلِ، فدخولها عليه وعملها فيه كعمل إنّ وأخواتها فيه، وما/ وأخواتها، فذلك، فذلك أمرٌ مستثنًى عنده، فلا يَرِدُ عليه.
والثالث: أن يكون الفعل فارغًا، ومعناه: أن لا يكون فيه ضمير، كمثاله المذكور، فلو كان غير فارغ بل مُتَحمّلًا لضمير بارز أو غير بارز، نحو:{وَأَسرُّوا النَّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُوا} ، فلا يكون {الّذِين ظَلَمُوا} فاعلًا؛ لأن الفعل قبله غير فارغ، فهو مُسْتَغْنٍ بضميره. وهذا القيدُ نصَّ عليه في التسهيل، ولكني سمعت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله بن الفخار -رحمةُ
الله عليه- يقول: هذا القيد فارغ -يريد من الفائدة- وذلك لأن الفعل إذا فرضته متحملًّا لضمير، فذلك الضمير هو المعرّفُ به، وهو الفاعلُ؛ لأن الفِعْلَ قد أُسْنِد إليه اسم، واجتمعت الأوصاف؛ وإذا فرضته غير متحمل فالظاهر هو ذلك الاسم. وقد قال هو على أثر هذا: «وبعد فِعْلٍ فاعلُ فإن ظَهَرْ فَهْوَ .. إلى آخره، فبيَّن أن الفاعل قد يكو ضميرًا وإذا صار مثل الظاهر، وكلاهما قد أُسنِد إليه الفعلُ. وأيضًا فإن كلامه في قُوَّة أَنْ لو قال: الفاعل اسم أُسْنِدَ إليه فعلٌ على طريقة كذا، وهو نَصُّه في التسهيل، وذِكْرُ الإسناد يُجْزئِ عن ذكر الفارغ؛ إذ لا يصحّ الإسنادُ إلّا والفعلُ خالٍ عن الإسناد، وإلّا فإذا كان فيه ضمير فقد أُسنِدَ، فلا يتصوّر القصدُ إلى الإسنادِ مع كوه غير فارغ من ضمير.
فالصواب تركُ هذا القيد والذى قبله، كما فعل غيره. والاعتراض عليه في التسهيل وارد، وأما هنا فيمكن أن لم يقصده، ولا يُلْفى محذور. فإذا قلت: الفاعل اسم مسندٌ إليه فعل مقدّم عليه، غير مبني للمفعول -صحّ، ولم يصحّ الاعتراض عليه أصلا، ولم يَرِدْ عليه نحو: قاموا الزيدون، وأن يكون الزيدون فاعلًا، مع أن قام متحمّمل للضمير؛ إذ ليس بمسندٍ إليه، بل الضمير هو المسند إليه. وقد عُرِف معنى الإسناد أولَ الكتاب.
والرابع: أن يكون الفعلُ غير مبنىّ للمفعول، وذلك أن يكون على طريقة فَعَلَ، «كأتى» في مثاله، فلو كان مبنيًا للمفعول لم يكن المسند إليه فاعلًا، كقولك: ضُرِب زيدٌ، واستُخرِجَ المال، وإن سُمِّى المرفوع هنا فاعلًا يومًا مّا فعلى الاتّساع في العبارة.
والخامس: أن يكون الفعل مقدّمًا على الاسم، كالمثال في: أتى زيدٌ، فلو تقدّم الاسمُ على الفعلِ لم يكن فاعلًا في العُرف النحوىّ، وإن كان هو الفاعل من جهة المعنى إذا قلت: الرجل جاء، وزيدٌ أتى؛ لأن العرب إذا قَدَّمت الاسم على الفعل أضمرت في الفعل ضميرًا يلزمه، فهو إذًا الفاعل، لا الإسم المتقدّم. والدليل على لزوم الضمير للفعل المتأخر ظهروه لزومًا في التثنية والجمع إذا قلت: الزيدان قاما أو أتيا، والزيدون قاموا أو أَتَوا. ولو كان المتقدّم هو الفاعل لم يكن في الفعل ضميرٌ البتَّة، بل كنت تقول: الزيان أتى، والزيدون أتى، كما تقول: أتى الزيدون، وأتى الزيدون. وأيضا فإن العرب جعلت الفاعل مع الفعل كالجزء المتأخر منه، وذلك ظاهر مع كونه ضميرا متصلا-/ وقد استدلّ ابن جنِّي على صحّة ذلك بأحد عشر دليلًا- ولا يجعل كذلك إلا وهم قد عَزَمُوا على تأخيره عن الفعل لزوما، وجعلوه بمزلة الجزء إذا كان ضميرًا متصلا، وبمنزلة صدر المركّبِ من عَجُزه إذا كان غير ذلك.
حدثني شيخُنا الأستاذ -رحمةُ الله عليه- في الجملة، ونقلتُه من خطّه، عن الشيخ الفقيه الأوحد أبي عبد الله الحضرمىّ القاضي بسبتة، قال: أخذت بيده يومًا أقودُه إلى منزله من مدرسة باب القَصْر بسبتةَ لمكان سِنِّه، فقعد أثناء الطريق ليرتاح، ثم قال لى: ما تقول في قولك: زيد قام، أيكون زيدٌ فاعلًا مقدّمًا؟ فقلت: لا أدرى -لكوني لم أكن حِينئذٍ في
هذه الطبقة- قم قال لي: لا يكون ذلك لأمرين، أحدهما أنّ الفاعلَ كالجزء من فعله إذا كان ضميرًا متّصِلًا، فوجب أن يجرى الظاهر معه على أسلوب واحد. والآخر: أنه لو كان كذلك لاتحد حكم الفعل مقدّما ومؤخّرًا. وقال الأستاذ رحمه الله: فهذا من أوّل ما أفادني، رحمة الله عليه.
وفي المسألة خلافٌ خاصّ وخلافٌ عامٌّ يذكر في قوله: «وَبَعْدَ فِعْلٍ فاعلٌ، بحول الله.
فإذا اجتمعت الشروط كان المرفوع فاعلًا، نحو: قام زيد، وخر عمرو، وركب أخوك، وضرب الزيدون عمرًا. وما كان نحو ذلك.
وأمّا أوصاف «وجهُه» من قوله: منيرًا وجهُه» فالأول: أنه مسندٌ إليه اسم يعطى معنى الفعل، وهو منيرٌ؛ إذ هو اسم فاعل من: أنار وجهه فهو مُنِير. وقد يحتمل أن يكون صفة مشبهة باسم الفاعل، وكلاهما مراد. ويدخل في ضمن هذه الإشارة أفعل التفصيل، نحو: زيد أفضلُ من عمرو؛ فإن في أفضلَ ضميرا يعود على زيد، هو فاعل أَفْعَلَ، وقد يظهر كما سيأتى. واسم الفعل نحو: صه، ونحو:
فَهَيهاتَ هَيْهَاتَ العقيقُ وأَهْلُهُ
فالعقيق فاعل بهيهات، أى: بَعُد العقيقُ وأهله. وكذلك المصدر المقدّر بأن
وفعل الفاعل، نحو: أعجبني ضَرْبٌ زيدٌ عمرًا، وركوبُ الفرسِ زيدٌ.
وكذلك الظرف والمجرور إذا اعتمدا نحو: {أَفِي اللهِ شَكٌّ} و: أعندك عَمْرو؟ في أحد الوجهين، فإنه في تقدير: أيستقرُّ في الله شكٌّ، وأستقر عندك عمرو؟ . وهذا الأخير لم ينبه عليه الناظم في مسألة: أقائم الزيدان؟ لكن نبَّه عليه في مسألة وقوعه خبرًا، حيث قال:«وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أو بِحَرْفِ جَرْ» .. إلى آخره.
والثاني: كونه تامًا، تحرُّزًا من نحو: هو كائن أخاك، ففي كائن ضميرٌ رفَعُه على اسم كان لا على الفاعلية، وإن كان كائن اسمًا في معنى الفِعْل.
والثالث: كونه فارغًا تحرزا من الاسم إذا كا فيه ضمير.
وقد بيّن ما في هذين الوضعين.
والرابع: كونه غير مبني للمفعول، تحرُّزًا من الصفة إذا بنيت للمفعول، نحو: مضروب أبوه، ومكرمٌ أخوه؛ فإن المرفوع هناك لا يعرب فاعلًا. ويَصْدُق على الظرف والمجرور والمصدر أنها غير مصوغات للمفعول.
فإن قلت: وكذلك يصدق/ أيضا على ما كان في معنى المفعول منها نحو: أعجبني قراءَةٌ في الحمّام القرآنُ، و: أعجبني ركوبٌ الفرسُ؛ لأن المصدر لا يتبيَّن فيه صيغة فاعل من صيغة مفعول. وإذا كان كذلك أوهم أن يُعْرَب القرآن والفرسُ فاعلا، وليس كذلك.
فالجواب: أنّ المصدر إذا كان معناه معنى فاعل يصدقُ عليه أنه
غير مبني للمفعول، وإذا كان معناه معنى مفعول لا يصدُق عليه ذلك، باعتبار تقديره بفعل المفعول، وإنما يصدق عليه ذلك باعتبار لفظه خاصّة، والمصدر لم يعمل إلا باعتبار الفعل الذى قام مقامه، فإذا قام مقام مبنى للفاعل فليس بميني للمفعول على وجه ولا بالاعتبار، وإذا قام مقام مبنى للمفعول فلا تصدُق عليه العبارة صدقا مطلقًا. وذلك يكفي ههنا.
والخامس: كونه مقدّمًا كما تقدّم من الأمثلة، فلو تأخّر لم يكن الوجهُ فاعلًا، نحو: وجههُ مِنيرٌ، لأنّ فيه ضميرًا يبرُزُ في التثنية والجمع كالفعل. والخلاف الذى يجرى في تقدّم الفعل يجرى هنا.
فإذا اجتمعَتِ الشروطُ أُعرِب ذلك الاسم المتأخر -الذى هو نظير الوجه في المثال- فاعلًا بإطلاق، نحو: مررتُ برجُلٍ قائم أبو حسنٍ، أخوه أفضلَ منه. وأعجبنى رجل عندك أبوه، وفي الدار أخوه. وما أعجبني إِكرامٌ زيدٌ عمرًا. وما أشبه ذلك.
وإذا تقرّر هذا رَجَعْنا النظر إلى معنى التعريف وما يتعلّق به، وفيه نظر من أوجه:
أحدها: أنه قال: «الفاعل الذى كمرفوعَىْ أَتَى .. زيدٌ منيرا وجهُه» فجعل الفاعل ما اجتمعت فيه أوصاف المثالين معًا، وذلك غير ممكن؛ إذ لا يجتمع في اسم واحد أن يكون مسندًا إليه فِعْلٌ ومسندًا إليه ما يُؤَدِّى معنى الفعلِ في حالة واحدة، فلو قال: كمرفوع كذا، أو كمرفوع كذا، لكان صحيحا، كما قال في التسهيل:«هو المسند إليه فعلٌ أو مضمَّن معناه» .
والجواب: أن مقصوده ما أراد في التسهيل، فالموضع لأَو، لكن لما كانت الواو قد تقع موقع أو في مواضع، وبالعكس، أتى بالواو هنا تقديرًا، كأنه قال:
الذي كمرفوع أتى، وكمرفوع منيرًا، ثم ثَنَّى على هذا التقدير لأن التثنية لا ترادف إلا العطف بالواو، حسبما هو مبين في موضعه، وإذا ساغ هذا التقدير صح كلامه.
والثانى: أن هذا التعريفَ الجُمْلِىّ اقتضى أن الفاعل إنما يكون اسمًا صريحًا لتعريفه إياه بالاسم الصريح، وهو: زيد، وجهه. وليس ذلك بلازم، بل قد يكون غير صريح، نحو: أعجبي أن تقوم. فأن وما بعدها هو الفاعل، وليس باسم صريح. وكذلك أَن ومعمولاها، نحو: أعجبي أَنّك قائم، وما المصدريّة أيضًا، نحو ما صنعتَ، أى: صُنعُك. ولا يقال: إن مثل هذا قليل لم يُعتّد به، بل هو كثير كطَرد مقيس.
والجواب: أن مثل هذا في حكم الاسم الصريح، ولذلك ترى سيبويه يطلق على الحرف المصدرىّ أنه اسمٌ لقرب تأوّله بالاسم. وأيضًا إذا نظرتَ في الحرف مع ما بعده/ وجدته مع الفعل قبله في الحكم كالاسم الصريح، من حيث حَصَلَ له إسنادُ فعلٍ تام فارغٍ غير مصوغٍ للمفعول مُقَدّم، وإما كان ذلك اعتبارًا بقوة الاسم الصريح. وإِنَّما قصد الناظم بالتمثيل بالاسم الصريح مقتصَرًا عليه التنكيت على الكوفيين القائلين بجواز كون الفاعل غير اسم ولا مقدّرًا باسمٍ، مستدلّين على ذلك بقوله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوْا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِيْنٍ} ، ففاعل (بَدَا) عندهم الجملة التى هى:{لَيَسْجُنُنَّه} . ومثلُ ذلك: {أَفلم يَهْدِ لَهُمْ كم أهْلَكَنَا/ قَبْلَهُمْ} ؛ فلا يصحّ أن يكون (كَمْ) الفاعل، بل الجملة كلُّها،
ومن مُثلُ سيبويه: بدالَهُم أَيُّهم أَفْضَلُ، وقال في تقديره:«كأنك قلت: ظهر لهم أهذا أفضلُ أم هذا» . وفي الشعر أيضًا من ذلك كثير، كقوله:
ما ضَرَّ تَغْلِبَ وائلٍ أَهَجَوْتَها
…
أَمْ بُلْتَ حيثُ تَلَاطَمَ البَحْرانِ
وقال بشر:
نَزَعْتَ بأسبابِ الأُمرِ وَقَدْ بدا
لِذِى اللُّبِّ منها أَىُّ أَمْريه أصوبُ
ومن ذلك في القرآن أيضا: {وَتَبيَّنَ لَكُمْ كيف فَعَلْنا بِهِمْ} ، ونحوه قوله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وإِلىَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .. الآية. والمفعولُ الذى لم يُسِمَّ فاعله بمنزلة الفاعل في جميع أحكامه. ومن مُثُل الفرَّاءِ: قَدْ تبيَّنَ لى أهذا عَبْدُ الله أم زيد، وبدا لي لأضربَتّك. وقال الفراء: كلّ فعلٍ كان تأويلُه بلغنى، أو قيل لي، أو: انتهى إلىّ، فإنّ اللام وأَنّ يصلحان فيه. ومثل ذلك في الكلام كثير، وجميعه يشعرُ بل يُصَرح بأنّ الفاعل لا يلزمُ أن يكو اسمًا. فكأن الناظم يُنكِّت على القائلين بهذا المذهب، ويقول: إن الفاعل إنما يكون اسمًا، وما جاء مما ظاهره خلافُ ذلك، فراجع في الحقيقة إليه.
والجواب: أن النّمط مما حُمِل الكلامُ فيه على معناه دون لفظه، والمسألة
من باب تعليق الفعل عن الفاعل كما يُعلّق عن المفعول بإطلاق في باب ظننت، لأن بدا وظهر وتبيَّن في معنى عَلِم، فعُلِّق تعليقه، وكذلك قوله:{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُم} ، لأن معناه: أفلم يعلموا؟
فإن قيل: فأين الفاعل؟
قيل: ما أعطاه الكلامُ المعلّق عنه الفعل من معنى المفرد، لأن التقدير: بدا لهم هذا المعنى، كما أن الجملة المعلّقة في «علمت» هى على ذلك التقدير، ولم يقع مفعولُ علمت جملةً أصلًا إلا في اللفظ، وأما في المعنى فلا، فكذلك وقوعُ الجملة في موضع الفاعل.
فإن قيل: فيصدقُ أن الفاعل ليس بمفرد.
قيل: أما في اللفظ فنعم، كما يقع الحرف فاعلًا في نحو: أعجبني أن تقوم، ولا يدلّ ذلك على أن نفس الفاعل غير الاسم، وأما في التحصيل فلا، بل الفاعل معنى الجملة، وهو المفرد الذى صِرْنا إليه. وأيضًا قد وقع المبتدأ جملة في اللفظ، لأن المعنى معنى المفرد، نحو: سواء علىّ أقمت أم قَعَدْتَ. وهو كثيرٌ في القرآن والكلام العربي؛ لأن «أقمتَ أم قعدت» في تقدير: قيامُك وقُعودُك، ولم يكن ذلك ضائرًا، فكذلك يقع الفاعل في اللفظ جملة إذا كان المعنى للمفرد.
فإن قيل: هذا إقرارٌ بمذهب الكوفيين.
قيل: إن أرادوا بما أجازوا/ هذا المقدار فنحن نوافقهم عليه، ولا يبقى بين الفرقين خلاف، فإن أرادوا غير ذلك فلا نقول به؛ إذ الجملة من حيث هى جملةً لا تقع فاعلةً أبدًا، ولا يوجد في الكلام ذلك إلا على
ما تبيّنن. وهذا ظاهر كلام سيبويه، وذهب إليه طائفة. ولكن هذا التأويل لا يساعد عليه ظاهر عبارة الناظم غلا بتكلف شديد، والذى يساعد عليه كلامه مذهب المبرّد ومن وافقه، وهو أن هذا الباب كلّه محمولٌ على إضمار المصدر المفهوم من الفعل، فهو الفاعل والتقدير: بدا لهم بَداءٌ، ويَهْدِ لهم هُدَى، وتبيَّن لكم تَبَيُّن، وأُوحىِ وَحْىٌ أو إيجادٌ، وكذلك سائر الأمثلة. وقد وقع المبرّد في كتاب سيبويه طُرّةً نصُّها:«بدا لهم فعل، والفعلُ لا يخلو من فاعل، ومعناه عند النحويين أجميعن بدًا لهم بُدوٌّ، وقالوا: ليسُجُننَّه. وإنما أضمر البُدُوَّ لأنه مصدر يدلّ عليه قوله: (بَدَا لَهُم)، وأضمر كما قال تعالى: {والْمَلائِكَةَ يَدْخُلُونَ عَلَيهم مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلَامٌ عَليْكم}، ولا يكون (لَيَسْجُنُنَّهُ) بدلًا من الفاعل، لأنه جملة، والفاعل لا يكون جملةً» . هذا ما قال، وقد زعم أَنَّه مذهب النحويين أجمعين، يعنى من تقدمه. وقد ذكر ابن خروف أن النحويين خالفوا فيما قال، وعلى الجملة فهم فيه فرقتان، وظاهر الناظم الذهاب إلى رأى المبرّد، وإليه ذهب السيرافي وجماعة من المتأخرين.
والوجه الثالث من أوجه النظر في تعريفه: أنه زاد مثالًا ثالثا في البيت، وهو قوله:«نِعْم الفتى» ، وهو لم يُحِلْ عليه في التعريف، بل قال:«كَمَرْفُوعِى أَتَى زيدٌ مُنِيرا وَجْهُه» فظهر أن ذلك المثال حشوٌ بلا فائدة.
والجوابُ: أَنَّ هذا المثال تكميلٌ لما قصد، مع الاكتفاء بما أحال عليه، لأَنّ قوله:«أتى زيدٌ» شمله، ولكنه نبّه على أنه ليس من شرط الفاعل أن يكونَ فعلُه المسندُ إليه متصرّفا كأتى زيد، بل قد يكون غير متصرّف كنِعْمَ. ولا يخرج الاسم بذلك عن كونه فاعلًا، وهو الفتى في مثاله وما حلّ في موضعه؛ إذ لا يعتبر في إعرابه فاعلًا أن يكون فاعلًا معنًى، وإنما يُعْتبر احتياج الفعل إليه لغة، وسمّوه
فاعلا وإن لم يكن فاعلًا حقيقةً اعتبارًا بما كان منها فاعلًا، ليستَتِبَّ الاصطلح في الباب. ومن ههنا لم يحدّوا الفاعل من جهة المعنى، وإنما حدّوه بأحكامه اللفظيّة، ليدخُلَ في الحدِّ نحو: نِعْم الرجلُ، وما زيدٌ، وما أشبه ذلك. ففي تمثيل الناظم إشارة إلى هذا المعنى.
والوجه الرابع: أَنَّ [في] قوله: «كمرفوعَى أَتَى» ما يشير إلى أنّ من أحكامه الرفع، وأنه هو الذى يقتضيه من أنواع الإعراب، فلا يكون منصوبا ولا مجرورًا. وهذا صحيح؛ فإن الفاعل مرفوعٌ أبدًا. قالوا: واختُصَّ بالرفع، لأنَّ الرفع إِعراب العُمَد، والفاعل عمدة؛ إذا لا يستغنى الكلام عنه. وأما النصب فللفضلات المستغنى عنها، وكذلك الجرّ.
فإن قيل: فيقتضى هذا أن لا يكون الفاعل إلا مرفوعًا، وذلك غير مُطَّرد من أوجه:
منها: أن العرب تقول: كَفَى بالموتِ واعظًا. وفاعل كفى إنما هو الموت. وهذا نظير جَرِّ المبتدأ في قولهم: بحسبك زيد. وقالوا: ما أتأنى مِنْ أحدٍ، وأحدٌ هو الفاعل. وهذا مقيسٌ.
ومنها: أن المصدر/ الموصول قد يضافُ إلى فاعله، بل هو الأكثر فيه، نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ، وضربُ زيدٍ عمرًا، وهو أيضا مطرد.
ومنها: أن النّحويّين يقولون: إذا كان معنى الكلام يميّز بين الفاعل والمفعول، جاز في الشعر كثيرًا أن ينصب الفاعل ويرفع المفعول،
وجاز في الكلام قليلا. ومن ذلك في قراءة عبد الله: {فَتَلَقَّى آدَمَ من ربِّه كلماتٌ} بنصب (آدمَ)، ورفع (كلماتٌ). وقالوا: خَرقَ الثوبُ المسمار. وكسر الزجاجُ الحجر. ومن ذلك في الشعر:
مثل القنافِذِ هَدَّاجُون قد بَلَغَتْ
نجرانَ أو بَلَغَت سَوْءاتِهم هَجَرُ
وقال الفرزدق:
غداةَ أَحلَّتْ لابن أَصْرَمَ طعنَة
حُصَينٍ عبيطاتُ السدائِف والخَمْرُ
وقال الآخر، وهو خداش بن زهير:
وَتَلْحَقُ خيلٌ لا هَوادَةَ بينها
وَتسْفِى الرِّماحُ بالضّياطِرَةِ الخُمْرِ
وقال الجعديّ:
حَتَّى لَحِقْنا بِهِمْ تَعدُو فَوارسُنَا
كأننا رَعْنُ قُفٍّ يَرَفَعُ الآلا
ومثل هذا كثير. وقد جعل ابن الطراوة هذا قياسًا مُطّردًا، فأجاز نصب الفاعل ورفع المفعول إذا فهم المعنى، نحو: أكل الخبزُ زيدًا، وركب الفرسُ عمرًا، وما أشبه ذلك. فإذًا ما التزمه الناظم من رفع الفاعل غيرُ لازمٍ.
فالجواب: أن هذا كلّه غير وارد؛ أما كفى بالموت واعظً، و {كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} ، فمن باب ما ندر وخَرَج عن القياس، فل يعتدُّ به، مع أن الباء عدهم زائدة، دخولها كخروجها، فكأن لم كن ثَمّة.
وأما ما أتاني من أحد، فكذلك أيضًا، فإنّها من مواضع زيادة مِنْ. والحرف الزائد لا يعتدُّ به، ولا يكسرُ قاعدةٌ، ولا يخرج الفاعل بذلك عن كونه فاعلًا، ولذلك يُعطف على موضعه رفعًا، فهذا ليس مما يعترضُ به.
وأما فاعل المصدر إذا أضيف إليه فلا يسمّى فاعلًا عرفًا حينئذٍ، بل هو مضافُ إليه، كما لا يُسمّى زيدٌ -فيق قولك: زيدٌ قام- فاعلًا، ولا في زيد مضروبٌ مفولًا، وإن كان المعنى في الجميع على ذلك. ومن هنا يتبيَّنُ في نحو: كسر الزجاجُ الحَجر، أَنَّ الزجاج هو الفاعل، وأن الحجر مفعول، اعتبارًا باللفظ،
وإن كان المعنى بخلاف ذلك؛ إذ لا يستتبُّ قانو التعليم إلا بذلك.
قال شيخا الأستاذ -رحمةُ الله عليه-: الْإعرابُ إنما يكون أبدًا على حسب العلامة التى تكون في الاسم المعرب؛ ألا تَرَى أن (القَرْيَةَ) من قوله تعالى: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} إنّما تعربُ على حسب حركتها لا على حسب الأصل.
وإنما كان يكونُ ذلك كسَرَا أن لو كان المنصوب يعرب فاعلًا والمرفوع يعربُ مفعولًا، من قولك: كسر الزجاجُ الحجَر، ونحوه. فالفاعلُ إذًا شأنه الرفعٌ، كما أشار إليه الناظم. وأما كون هذا القلبِ قياسًا أو غير قياس، فمسألةٌ لا نحتاج إليها الآن؛ إذ لا تعلق لها بكلام الناظم.
والوجه الخامس: أن قوله: «كمرفْوعَى أتى» .. إلى آخره، ظاهر في أن أتى هو الرفع لزيد، وأن منيرًا هو الرافع لوجهُه، فالرافع للفاعل إذًا هو المسند فعلًا كان أو ما أشبه، وهذا مذهب البصريين. وزعم بعض الكوفيين أن الرفع له الإسناد لا المُسْند، وهو مرجوحٌ من أوجه:
أحدها: أن الإسناد نسبةُ بين المسند والمسند/ إليه/ فليس عمله في الفاعل دون الفعل بأولى من العكس.
والثاني: أن العمل إنما ينسب إلى المعنى إذا لم يوجد لفظ صالح للعمل، والفعلُ موجودٌ وصالح للعمل باتفاق، فلا يصحّ أن يعدلَ عنه إلّا بدليلٍ يدلّ على عدم صلاحيته في الموضع، ولا دليل هنا على ذلك، فوجب أن لا يُصارَ إلى غيره.
والثالث: أن من شأن المعمول الاتصال بعامله، وأن لا يتصِّل بغيره،
وقد وجدنا أن الفاعل إذا كان ضميرًا إنما يتّصل بالفعل، فدلّ على أنه عامله، ولو كان غير عامل لما أتّصل به أصلًا، بل كان يكون منفصلا عنه.
وعلى الجملة فهو خلافٌ في اصطلاح، لا يينني عليه حكم عند الجميع، وإن كانت الأدلة تقتضى ذلك، فليس أحدٌ من المخالفين لنا بقائل بما يقتضيه الأدلة عليه.
وقوله: «وبعد فعل فاعلٌ» اقتصر على ما يشير إليه لكفى، لكنه نصّ عليه ولم يكتف بالإشارة، لما له في ذلك من الفوائد، والذى يشتمل عليه منها ثلاث:
إحداها: الإشارة إلى مخالفة من خالف في لزوم التقديم، وهم الكوفيون؛ وإذا أجازوا تقدّم الفاعل على الفِعل أو ما أشبهه، فكأنه يقول: الفاعل مختصّ بكونه بعد فعل، فلا يجوز أن يتقدم عليه، ودَلّ على قصده لهذا تقديمه الظرف لدلالته على الاختصاص بهذا الحكم، كقوله:{إيَّاكَ نَعْبدُ} ، بمعنى: ما نعبد غيرك، فكذلك هذا، ليس الفاعلُ إلا بعد الفِعْلِ، وغيرُ الفِعْلِ بمزلة الفِعْلِ في هذا. ويجيزُ الكوفيُّون تقديمه فيقولون: الزيدان قام، والزيدون قام -على تقدير: قام الزيدان، وقام الزيدون- ومررت برجلٍ أبواه قائم- على تقدير: قائمٍ أبواه. واستدلّوا على ذلك بمجيئه في الشعر، كقول الزباء:
مَا لِلْجِمالِ مَشْيُها وَئِيدَا
فالتقدير: وئيدًا مشيُها. وقولِ امرئ القيس:
فَظَلّ لننا يومٌ لذيذ بنعمة
…
فَقِلْ في مَقِيلٍ نحسُه مُتَغَيَبِّ
التقدير: مُتَغيِّب حسُه. وقول النابغة:
ولا بُدَّ من عوجاء تَهْوِى براكب
إلى ابن الجلاح سيرُها الليل قاصِدِ
التقدير: قاصِدٍ سيرها. وقال الآخر:
لمن زُخْلُوقَةٌ زُلُّ
…
بها العينانِ تَنْهلُّ
وهذا وما أشبه قد أجاب عنه الناظم بجواب مجمل، وذلك قوله:«فإن ظَهَرْ .. فَهْوَ وإِلا فَضَمِيرٌ استَتَرْ» ، يريدُ أنَّ الفاعل لا بُدَّ منه بعد الفعل، فقد يكون ظاهرًا، وذلك نحو: قام زيدٌ، وقد يكون مضمرًا نحو: زيدٌ قام. ففي قام ضمير عائد على زيد، تقديره: قام هو، ولا يتكلم بِهُوَ. فإذا ظهر الفاعل بعد الفعل فذاك، وإن لم يظهر فالفاعل ضمير مستترٌ في الفعِل أو فيما أشبهه. ولا يريد بقوله:«فإن ظهر» ، فإن كان غير ضمير، وإنما يعنى إن ظهر للعيان في النظق، فيدخلُ فيه الظاهر ضدّ المضمر، نحو: قام زيد، كما ذكر. ويدخلُ فيه الضمير البارز نحو: قمتٌ، وقاما، وقاموا، وقُمْ، وما قام إلا أنا، لأنه قد ظهر ولم يستتر. ويدلّ على هذا المقصد من كلامه قوله في قسيمه:«وإلّا فَضَمِير اسْتَتَرْ» ، فوصفه بالاستتار، ولا/ يقال في الضمير البارز: مستتر، فتقسيمه الفاعل إلى ما ظهر وإلى ما استتر يعيِّنُ ما ذكر. وإذا ثبت فكل ما تُوِهِّمَ أن الفاعل فيه مقدّم فليس كذلك، بل الفاعل فيه ضمير مستتر في ذلك الفِعل، أو في الاسم الذي
بمعناه، فقولها:
مَا لِلْجِمالِ مَشْيُها وَئِيدا
فاعل «وئيد» فيه ضمير مستتر عائد على «مشيها» ، على أن يكون مشيها مبتدًأ خبره محذوف وهو العامل في وئيدًا، كأنه قال: مشيُها حَصَلَ وئيدًا، أو ظهر، نظير ما تأوّل سيبويه قوله:
يا ليتَ أيامَ الصِّبا رَوَاجِعَا
كأنه قال: أقبَلتْ رَوَاجعا.
وكذلك قول امرؤ القيس: «نحسه مُتَغَيِّب» فيه ضمير هو الفاعل عائد على نحسُه، على أن يكون على حذف إحدى ياءَى السب المرادُ به المبالغة، لقوله:
وَالدَّهرُ بالْإنسانِ دَوّارِىّ
أراد: دوّار، فكذلك هنا، أراد: نحسُه مُتَغَيِّبىٌّ، فَحذَفَ.
وكذلك قوله: سيرها اللي قاصدِ»، في قاصد ضمير هو الفاعل، عائدٌ على «عوجاء» كأه قال: ولا بُدَّ من عوجاءَ قاصدٍ، وكأنَ أصله أن يقول: قاصدة، لكن جعله من باب النسب، أى: ذات قصدٍ، كقوله:{السَّماءُ مُنْفطِرٌ بِهِ} أو يعود على راكبُ، كأنه قال: تهوى براكب قاصدٍ. وسيرُها الليل: مبتدأ وخبر.
وقوله
بِهَا العَيْنَانِ تَنْهَلُّ
في تنهلّ ضمير عائد على العينين، وأفردَ لأن العينين في تلازمهما
كالشيء الواحد، وم عادة العرب أن تعامل هذا الوع من المثنى معاملة المفرد كقوله:
وَكَأَنَّ في العَيْنَينِ حَبُّ قَرَنْفُلِ
…
أو سنبلا كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
أو يكون على حدّ.
فكل هذا دخل تحت قوله: «وإِلَّا فَضَمِيرًا سْتَتَرْ» ، فإليه يرجع ما تقدم من التأويلات، وما كان نحوها، فهو إشارة منه حسنة في المسألة. والفائدة الثانية: بيان أن كل فِعْلٍ لا بدّ له من فاعل، وأه لا يوجد فعلٌ لا فاعل له البتّةَ، لقوله:«وبعد فِعْلٍ فاعِلٌ فإن ظهر .. فَهْوَ» .. إلى آخره، يعنى أن ذلك لازمٌ للفعل، وإذا لزم ذلك له ظهر أن الفِعْلَ لا يخلو م فاعل، فإنْ ظهر فذاك، وإلا فهو مستترٌ فيه. ونكّت بهذا على مسائِلَ وقعت لجماعة ظهر فيها من قولهم أن م الأفعال الثابتة الفعليَّة ما يقع بلا فاعل، فمن ذلك قَلَّ إذا لحَقَها ما، وزعم جماعة أنّ قلّ [هناك] فعلٌ لا فاعل له، وإنما كفّته ما عن العمل، كما تكف غيره كإنّ، وأنَّ، وربَّ، وما أشبه ذلك. وهذا لا يتعيَّن، فقد يمكن أن تصير قلّ مع ما حرف نافيًا بمنزلة ما، ولذلك تُستعمل للفي المحض، فقلبت عليها الحرفية، وإذا كا كذلك فليست مما يطلب فاعلًا. وأظنّ أن منهم من أبقاها على فعليّتها، وجعل فاعلها
ما وما بعدها من الفعل] على أن تكون ما مصدرية، نحو: أعجبني ما صنعت، فكأنك قلت: أعجبني صنعُك، فقولك: قلّما يقوم زيد، في تأويل: قلّ قيام زيد- ومنهم من جعلها زائدة، ووصالٌ فاعلٌ.
ومن ذلك دعوى الكسائى في قولك: ضربني وضربتُ قومك، إنه على حذف الفاعل من ضربني؛ إذ لا يجوز عنده الإضمار فيه، فلا يقول: ضربوني وضربتُ قومك، بل يُوجِبُ فيها حذف الفاعل، كما قال الشاعر:
تَعَفّق بالأرطى لها وَأَرَادها
…
رجالٌ
…
...
…
وما قاله الكسائى في البيت ونحوه غير صحيح، بل/ الفاعل مضمر في الفعل، كأنه قال: تعفَّق مْن ثَمّ، ويكونُ عودُ الضمير -وهو مفرد- على الجماعة مثل قولهم هو أحسن الفتيان وأجمله. وسيأتى في الإعمال إن شاء الله.
فمثل هذا يدخل تحت قول الناظم: «فإن ظهر .. [فَهْوَ]، وإلا فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ» .. ومن ذلك ما رآه المؤلف في شرح التسهيل في نحو قولك: قام مبني على الفتح، أنَّ قام في هذا الكلام فعلٌ باقٍ على أصله، وقد
أُسنِدَ إليه قولك: مَبْنِىّ على الفتح، إسنادَ الخبر إلى المبتدأ، لا إسناد الفعل إلى الفاعل، فَرَفْعُ مبنىّ على الخبرية عنده لا على الفاعلية، فلا فاعل له إذًا، وإلى هذا ذهب القرافىّ. وما زعمه غير صحيح من وجهين:
أحدهما: ما أشار إليه من أن كلّ فعلٍ لا بدّ له من فاعل، فأين فاعلُ هذا الفعل؟ فإن قال: ناب عنه الخبر. قيل: هذا لا نظير له، بخلاف نيابة الفاعل عن الخبر فإنه ثابت باعتراف ابن مالك في: أقائمٌ الزيدان؟ فليس إذًا «قام» هنا فعلًا، وإلّا لزم أن يكون له فاعل، وليس له فاعلٌ هنا باتفاق من الخصوم، فليس بفعلٍ.
والثاني: قال شيخنا القاضي رحمه الله: يقال لابن مالك: ما إعراب «قام» من قولك: قام مبنى على الفتح؟ فلا بدّ أن يقول: مبتدأ. وقد قال هو: إن الفعل وحده لا يكون مبتدأ، وإن المبتدأ اسم أو ما هو في تقديره، فقام إذًا اسم لا فعل، وهو المطلوب.
والفائدة الثالثة: التنكيتُ على بعض البصريين في إجازتهم تقديم الفاعل على الفعل في بعض مواضعَ مخصوصةٍ، فكأنه يقول: كلّ ما يُظَنَّ أنَّه مما تقدّم فيه الفاعل فليس في الحقيقة منه، ولذلك أمثلةٌ منها ما قاله سيبويه والجمهور في قول الشاعر:
صَدَدْتِ فأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ وقَلَّما
وصالٌ على طول الصُّدودِ بَدُومُ
إنَّ «وصالٌ» فاعل متقدّم ضرورة، ويجيز هؤلاء تقديم الفاعل على الفعل
في الضرورة. ولذلك حمل جماعة الأبيات المتقدمة للكوفيين على تقديم الفاعل ضرورة. وهذا كلّه لا داعية له؛ لإمكن أن يكون وصال فاعلًا بفعل مضمر يفسّره يدوم كأنه يقول: وقَلَّما يدومُ وصالٌ على طول الصدود يدوم؛ وساغ هذا لأن قلَّما مما لا يليها إلا الفعُل. وهذا رأى طائفة في بيت الكتاب، ويكو ذلك مبنيًا على أن قَلَّما حرفٌ لا فعلٌ.
ومنها مسألة: إِنْ زيد قام أكرمته؛ قال الأُبَّذِىّ: قال شيخنا أبو الحسن الدبّاج رحمه الله «لا يبعدُ عندى أن يقال: إن هذا الفعل يصحّ له العملُ في الأول مقدّما عليه، وذلك مع أداة تطلب بالفعل؛ وذلك أن العامل متصرّف في نفسه، فيتصرّف في معموله، إلا أن يمنع مانعٌ، وذلك في الفاعل أَنْ يلتبسَ بالمبتدأ في قولك: قام زيد، وزيدٌ قام؛ فإذا جاء حرفٌ لا يليه إِلا الفعلُ لفظًا أو تقديرًا أزال ذلك اللبس، فصح أن يكون فاعلًا مقدَّمًا، إن قدّرت الفعل فارغًا من الضمير، فاعلا برضمار فعل إن قدّرته مشغولًا بضمير» . فالحاصل من كلامه أنه أجاز أن يكون زيدٌ فاعلًا مقدَّمًا، وذلك غير سائغ عند الجمهور، لما تقدّم ذكره. وهذا الموضع أيضا محتمل لا يتعيّن فيه ما قال، ولا مرجّح له، فليس إلى القول بإثباته سبيلُ. وأيضًا صاحب هذا المذهب/ يلتزم جواز: وإنِ الزيدون قام أكرمتهم. وهذا لا يثبت سماعًا أصلًا، إلا فيما تقدّم للكوفيين، وقد مرّ
ما فيه. فالصحيح في المسألة امتناع التقديم. [فعلى هذا كل] ما كان من نحو: {وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشرِكينَ اسْتَجَارك} ، وقول الشاعر:
عاوِدْ هراةَ وَإِنْ معمورُها خَرِبا
وقول عدىّ بن زيد:
فمتى وَاغلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّوهُ،
وتُعْطَفْ عَلَيْهِ كَأْسُ السَّامَىِ
وقوله:
صَعْدةٌ ثَابِتَةٌ فِي حَائِر
أَينما الرِّيحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ
ونحو: أزيدٌ قام؟ وما أشبه ذلك، فهو على إضمار فعلٍ، لا على تقديم
الفاعل.
وبقي في كلامه بحث لفظي، وهو أنه قال:«وبعدَ فِعْلٍ فاعلٌ» ، يعنى أنه لا بُدَّ أن يكون بعد الفعلِ فاعلٌ، ثم قال:«فإنْ ظَهَر. فَهْوَ وإِلَّا فَضَمِيرٌ استترْ» ، يعنى، فإن كان ظاهرًا فهو الفاعل، وإلا فهو ضمير، فيصبر المعنى: إن الفاعل بعد الفعل، فإن ظهر الفاعل فهو الفاعل. وهذا كلام خَلْفٌ لا فائدة فيه.
والجواب: أنّ ذلك جارٍ على قصد صحيح فيه فائدةٌ، وهو أن قوله:«وبعد فِعْلٍ فاعلٌ» ، إخبارٌ بالقاعدة، أنّ كلّ فعلٍ لا بدّ له من فاعل بعده لا قبله، يريد: فابحث عنه. فهى كُلِّيةٌ تُعيِّن موضع البحث عن الفاعل. ثم أخبر بعد ذلك بَوجْهَ مجيئه فقال: إن جاءَ ظاهرًا فهو، أى: المطلوب الذى قصدتَه، وإن لم يجئ ظاهرًا فاعلم أنه ضمير مستتر في الفعل، طردًا لحكم القاعدة، وعملًا بمقتضاها. وهذا معنًى صحيح مفيد. فقوله:«فهو» مبتدأ محذوف الخبر، أى: المطلوب. أو يكون خبرًا محذوف المبتدأ، كأنه قال: فالمطلوبُ هو. وكذلك قوله: «فضمير، يسوغٌ فيه الوجهان. واستتر: في موضع الصفة لضمير.
(ثم قال الناظم):
وَجَرِّدِ الفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا
لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَفَارَ الشُّهَدَا
وقَدْ يُقَال: سَعِدَا وسَعِدُوا
وَالفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ
هذا الفصل يَذُكُر فيه لحاق العلامة [للفعل] إذا أُسنِدَ إلى الفاعل؛ فإِنَّ العربَ -على الجملة- تُلْحِق الفِعْلَ علامةً تدلّ على حال الفاعِلِ، من كونه مؤَنثًا غير مُذَكّر، أو كونه مثنى أو مجموعًا، أوما ما شبه ذلك. وابتدأَ بالكلام على لحاق العلامة إذا كان الفاعل ظاهرًا مثنًى أو مجموعًا، وسواءٌ أَكان مذكرًا أم مؤنثًا. وسيأتى ذكر المفرد. فيريد أن الفعل إذا أسند إلى اثنين أو إلى جمع -وهما المثنى والمجموع- فهو مجرَّدٌ عن العلامة الدالَّة على التثنية والجمع، فلا تلحَقُه في اللغة الفصحى [علامة]، فتقول: قام الزيدان، وقام الزيدون. ولا تقول: قاما الزيدان، ولا قاموا الزيدون.
ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهما} ، {قال الكافرون: إنّ هذا لسِحْرٌ مُبِينٌ}. وأتى من ذلك بمثال وهو قوله: «فاز الشهدا» ، ولم يقل: فازوا الشهداء. ومثلُه لو قَلتَ: فاز الشهيدان. ومثل ذلك إذا قلت: قامت الهندانِ، وقامت/ الهِنْدَاتُ، فلا تقول في اللغة المشهورة: قامتا الهندانِ، ولا: فُمْنَ الهنداتُ؛ بل تُجَرِّدُ الفعل من العلامتين: علامةِ التثنية وعلامةِ الجمع.
وإنما جَرَّدوا الفعل هنا قصدًا للتفرقة بين قام أخواك، وأخواك قاما؛ لأَنّ العلامة لو لحقت في: قاما أخواك، لالتبست بالضمير، فتوهم
أن قاما خبر مقدّم، فَفَصَلُوا. وهذا هو الفرق بين التثنية والجمع وبين التأنيث، حيث ألحقوا علامة التأنيث دون علامتى التثنية والجمع؛ لأَنّ علامة التأنيث ليست بعلامة إِضمارٍ،
فلا تلتبس بعلامة الإضمار؛ قال سيبويه: «وتقول: جاريتاك قالتا، كما تقولُ: أبواك قالا؛ لأنَّ في قُلْنَ وقالتا إضمارًا، كما كان في قالا وقالوا» ثم قال «وإذا قلت: ذهبت جاريتاك، وجاءت نساؤُك، فليس في الفعل إضمارٌ، قال: ففصلوا بينهما في التأنيث والتذكير، ولم يفصلوا بينهما في التثنية والجمع، وإنما جاءوا بالتاء للتأنيث، لأنها ليست علامة إضمار كالواو والألف، وإنما هى كهاء التأنيث في طلحة، وليست باسم» . هذا ما قال، وهو معنى ما تقدم.
وللناس في الفرق بين العلامتين أوجه لا فائدة في إيرادها، وقد حصل التأنيس بالتعليل.
ثم أتى باللغة الأخرى فقال: «وقد يُقال: سَعِدا وسَعِدُوا» .. إلى آخره يعنى أنّ من العرب من يقول: قاما أخواك، وقاموا إِخوتُك، وقامتا الهندان، وقُمْنَ الهنداتُ، فُيلحقُ الفعلَ علامة التثنية والجمع، وكذلك تقول على تمثيله: سعد أخواك، وسَعِدُوا إخوتُك، وسَعِدَتا أخناكَ، وسَعِدْنَ أَخَوَاتُك. وهذه اللغة ضعيفة قليلة، وعلى قلتها نبّه بقوله:«وقد يُقال» ؛ إذا عادته أنه يأتى بقد مع المضارع تنبيهًا على قِلَّة ما تدخل عليه. ووجهُ إدخال العلامة هنا تشبيه التثنية والجمع بالتأنيث؛ إذ كلُّ واحد منهما فرعًا، فالمثنى والمجموع فرعٌ عن الواحد، والمؤنث فرع عن المذكر؛ قال سيبويه: واعم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك، فشبهوا هذا بالتاء التى يُظْهِرونَها في: قالت فلانةٌ،
فكأَنَّهم أرادوا أن يجعلوا للجميع علامةً، كما جعلو للمؤنث». قال:«وهى قليلة» . ومن هذه اللغة ما جاء في الحديث: «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنَّهارِ» . ومن العرب من قال -وهو أبو عَمْروٍ الْهَذلىُّ-: أَكَلَوني البراغيث الليلة. وأنشد سيبويه للفرزدق:
ولكِنْ دِيافِىٌّ أَبُوه وأُمُّه
…
بحَورانَ يَعصِرْنَ الّسِليطَ أَقاَربُهْ
وقال أمية:
يلومُونَنِى في اشتراءِ النخيلِ قَومى، فكلُّهم يعذلُ
وَأَهلُ الذى باع يَلْحَوْنَه
…
كما لُحِىَ البائئعُ الأوَّلُ
وأنشد السيرافي:
أُلْفِيتا عيناكَ عِنْد القَفَا
…
أَولى فأولىَ لَكَ ذَا واقيهْ
وقول الناظم: «والفعلُ للظاهر بعد مُسْنُد» جملة في موضع الحال، أي:
قد يقال: سَعِدا وسَعِدُوا، في حال كون الفعل مسندًا إلى الظاهر لا إلى الضمير. فيّن في هذه اللغة موضع لحاق العلامة، وهو حيث يكون الفعل مسندًا إلى الظاهر، فإنّه/ إذا كان مسندًا إلى الضمير اتفق الجميع على أن يقولوا: سعدا وسَعِدوا، فيكون الألفُ والواو ضميرين لا علامتين، وكذلك رذا قلت: سِعدْنَ، بخلاف ما إذا أُسِنَد إلى الظاهر فإنّ العلامة تخَصُّ بهذه اللغة. وعلى هذا التحرز لا تكون الألف والواو والنون في هذه اللغة ضمائر، وإنما تكون علامات حرفيّةً كتاء التأنيث، وهذا مذهب الجمهور. وبعض النحويين زعم هنا أنها ضمائر [مسندٌ إليها] لا علامات، لكن من هؤلاء من يقول: ما جاء من نحو: قاما أخواك، وقاموا إخوتُك فهو على تقديم الخبر، والزصل: أخواك قاما، وإخوتك قاموا. ومنهم من يقول: الكلامُ على أصل الترتيب، لكن الظاهر منه من غير أهل اللغة المذكورة، وأما أن يُجعَل جميعُ ما وَرَدَ من ذلك على أن الألف والواو والنون فيه ضمائر، فغير صحيح، ؛ لأن أئمة هذا العلم متفقون على أن ذلك لغةٌ لقومٍ من العرب مخصوصين، فوجب تصديقهم في ذلك، كما نصدّقهم في غيره».
هذا ما قاله، وتمامُه أن يقال: لو كان على ذلك التأويل لزم أن يكون أهلُ تلك اللغة قد التزموا ما لم يُوجَدْ في كلام العرب التزامُه، وهو الإتيانُ بالضمير مسندًا إليه الفعلُ إذا أرادوا الإتيان بالظاهر، حتى يكون الظاهرُ بدلًا من الضمير. هذا غير معهود، وأيضا هو شبيه بتقَضِّى الفعلِ أكثر من فاعلٍ واحدٍ، وهو غير موجود. فالصحيح أنها في هذه اللغة
علاماتٌ حرفيّةٌ، حسبما أشار إليه الناظم.
فإن قلت: وأين إشارة الناظم إلى أنها حروف لا ضمائر؟
قيل: في وقوله: «والفِعلُ للظاهر بعدُ مسندُ» ؛ إذ لو كانت عنده ضمائر، لكانت هى المسند إليها، ولم يقل هذه العبارة.
واعلم أن النظم ترك ذِكْر أمرين ضَرُوريَّين هنا:
أحدهما: حكم هذه العلامات مع الفعل المضارع، فإنها تلحق حيث تلحق الماضي، فتقول في اللغة المشهورة: يقوم الزيدان، ويقوم الزيدون، وتقوم الهندات، كما تقول: قام الزيدان، وقام الزيدون، وقامت الهندات. وتقول في اللغة الأخرى: يقومان الزيدان، ويقومون الزيدون، ويقَمْنَ الهندات، كما تقول: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون، وقُمْنَ الهندات. فكان من حقه أن يذكر ذلك، وقد تقدمت الشواهد في المضارع، وكذلك فَعَل في لحاق علامة التأنيث الفعلَ، وترك هناك ذكر المضارع البتّةَ، وكان من حقه أن يذكر حكمه؛ إذ لا يُفَهم له من حكم الماضي، للمخالفة الحاصلة بينهما؛ ألا ترى أنها تلحق الماضى في آخره، والمضارعَ في أوله؛ ولذلك لو قال في فصل لحاق التاء بعد قوله:«والتاء مَعْ جَمْع سِوَى السَّالِم مِنْ» .. إلى آخره:
والتاءُ في مُضَارعٍ كالتَّاءِ في الماضِ إلّا الوضعُ في ابتداءِ
لم يبق عليه اعتراضٌ فيه، وبقي الاعتراض في هذا الموضع. وقد تحرّز في التسهيل، فَكمَّلَ القصد بقوله في آخر فصلِ التاء:«ويساويها في اللزوم/ وعدمه تاءُ مضارع الغائبة، ونون التأنيث الحرفيّة» ثم قال
: «وقد تلحق الفعَل المسند إلى مال يس واحدًا من ظاهر أو مضمر علامةٌ كضميره» .
والجواب: أن قوله: «وجَرِّد الفعلَ» ينتظم بإطلاقه الماضى والمضارع معًا، إذ لم يقيّده بالمضى كما قيده في قوله:«وتاءُ تأنيثٍ تَلِى الماضى» ، فلما لم يقيّدها هنا لم يفُتْه ذكرُ المضارع؛ لأن المرادَ بالفعل جنسُه، لكن يخرج عنه فعل الأمر لأنه لا يسند إلى ظاهر أصلًا، فبقي الآخران. وتمثيله بالمضاضى لا يخرج المضارع، كما أنه لو مثل بالمضارع لم يخرج الماضى، فلا اعتراض عليه هنا، وإنما يعترض تخصيصُه الماضى في فصل لحاق التاء مع أن المضارع مثله في حكم العلامة كما مرّ.
والأمر الثاني: حكم هذه العلامات أو نظائرها مع الصفة؛ لأن اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة باسم الفاعل، تجرى في لحاقها العلامات وعدم لحاقها مجرى الفعل، فكما تقول: يقوم الزيدان ويقوم الزيدون وتقوم الهندات -في اللغة المشهورة- كذلك تقول: أقائم الزيدان؟ وأقائم الزيدون؟ وأقائمة الهندات؟ ومررت برجل حسنٍ أبوه، وحسنٍ آباؤه، وحسنةٍ أخوته. وكما تقول في اللغة الأخرى: يقومان الزيدان، ويقومون الزيدون، ويقُمْنَ الهنداتُ، كذلك تقول: هذا رجلٌ قائمان أبواه، وقائمون آباؤه، وقائماتٌ أخوته، ومررت برجل حَسَنَينِ أَبواه، وحَسَينينَ آباؤُه، وحسناتٍ أخواتُه. وليس في كلامه هنا ما يُعيِّن هذا الحكم في الصفات، ولا يصح أن تحمل على الفعل في تعيين العلامات لما بينهما من المخالفة في بعض الأحوال وإن اتفقت في بعضها؛ ألا ترى أن الفعل إذا أُسْنِدَ إلى جماعة المؤنث لحقته النون، ورذا أُسنِدت الصفة
إليها لحقتها والتاء في مقابلة النون في الفعل. وإذا كان كذلك ثبت أنّ حكم الصفة قد فاته من أَصلٍ.
والجواب: أن يقال: لعلّ الناظم ترك ذك اكتفاءً بما ذكره في باب النعت من ذلك الحكم، حيث قال:
وَهْوَ لَدَى التَّوحيد والتذكير أَوْ
سِوَاهُما كالفِعْلَ، فاقْفُ ما قَفَوا
فبيّن أن النعت يجرى مجرى الفعل في توحيده أو تثنيته أو جمعه، وتذكيره أو تأنيثه، فحيثُ تلحق العلامةُ لحقتِ النعتَ، وحيث لا تلحقُ فلا تلحق النعت،
وحيث يجوز الوجهان في الفعل يجوزان في النعتِ. وهذا صحيح إلا ما كان من تعيين العلامة فإن فيه مخالفةً ما؛ إذ تلحق الفعَل النونُ، والنعتَ الألف والتاءُ، وفوات هذا أقرب من فوات أصل المسألة. ولم يُصَرِّح بحكم العلامة مع المفرد، وإنما ذكر حكم المثنى والمجموع، ولا ذكره أيضًا مع المذكّر، وإِنما ذكره مع المؤنث، لأنّ المفرد المذكّر يتبيّن حكمه مما ذكر، فإذا بيّن لحاقها مع المثنى والمجموع هنا، ولحاقها مع المؤنث/ تلخَّص من ذلك أنَّ المفرد المذكر لا يحتاج إلى شئ من ذلك. وأيضًا قد قُلِم أن العلامة إنما تُطْلَب لبيان ما يُسْتَهم حاله عند السامع، والسامع يدرك أن الفاعل أقل ما يكون واحدًا، وأن أصله التذكر، فإذًا متى كان كذلك يم يحتج إلى علامة؛ قال الجُزولى: «إذا ذُكِر الفعل أُدرِك أنه لا بدَّ من فاعل، وأنه أقلّ ما يكون واحدًا، وأنّ أصله التذكير، ولا يُدْرَك التأنيث ولا
التثنية والجمع، فَيحتاج ما لا يُدْرك إلى علامة».
وَيَرْفَعُ الفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا
كَمِثْلِ: زيدٌ، في جَوَابِ: مَنْ قَرَا؟
يعنى أنّ الفعل يعمل في الفاعل على وجهين، أحدهما: أن يكون ظاهرًا، وقد تبيّن. والثاني: أن يكون مضمرًا ومقدّرًا غير ملفوظا به، [لكن] لا يكون ذلك إلا إذا كان في الكلام ما يدلّ عليه، كالمثال الذى أتى به، . وهو إذا قال لك قائلٌ: من قرأ؟ فأجبتَه بقولك: زيدٌ. فزيدٌ هو المقول في جواب قوله: من قرأ؟ فهو مرفوع بفعل مقدَّرٍ دالٍ عليه السؤال، فكأنه قال: قر زيدٌ، هذا وإن كان يحتمل أَن يكون مبتدًأ محذوف الخبر؛ فإن الأوّل أولى، لأنه مطابقٌ بخلاف الثاني.
واعلم أن الفعل المقدّر رافعًا للفاعل على وجهين:
أحدهما: أن يكون مقدَّرًا مع فاعله، لِنَصْبٍ يكون في الكلام لا ناصب له في اللفظ، فيجب أن يُقَدَّر له ناصب، ولا يكون إلا الفعل وفاعله، كما إذا قيل لك مَنْ ضربتَ؟ فتقول: زيدًا. وهذا يَتَكَّلم فيه وفي تقديره بَعدُ.
والثاني: أن يقدّر وحده لرفعٍ يكونُ في الكلام، لا رافع له إلا أن يقدّر له فِعْلٌ، حسبما يقتضيه الكلام. وهو الذى تكلَّم فيه هنا، لكن هذا أيضا على ضربين: أحدهما: أن يكون مقدّرًا أبدًا لا يجوز إظهاره، كالفعل المقدّر قبل المرفوع في باب الاشتغال، نحو: إِنْ زيدٌ قام أكرمته، تقديره: إن قام زيدٌ قام أكرمته. ولا يُتَكلّم به، كما يأتى إن شاء الله. ولم يَتَكلَّم هنا على خُصوصِ القسم، وإنما تكلم عليه في موضع الحاجة.
والثاني: أن يكون جائز الإظهار، وهو الذى أشار إليه التمثيل؛ إذ يجوز أن تقول في جواب مَن قرأَ؟ قرأ زيدٌ. وقد جاء في القرآن الكريم الوجهان معًا؛ قال تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهم: مَنْ خَلَق السَّمواتِ وَالأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ: اللهُ} ، التقدير: خَلَقَهُنَّ اللهُ. وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَهُمْ؟ ليقُولُنَّ: اللهُ} . وهو كثير. ومن الإثبات قولُه تعالى: {وَلئِن سَأَلْتَهُم: مَنْ خَلَق السمواتِ والأرضَ؟ ليقولُنَّ: خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} ، {قال: مَنْ يُحيىِ العِظَامَ وَهيِ رَميمٌ؟ . قل: يُحْييها الّذِي أنشأها أَوَّلَ مَرَّةٍ}. {يَسْأَلُونَكَ: ماذا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطّيّباتُ} . وكذلك ما أشبهه. ولم يخصّ هذا التقدير بموضع دون آخر، بل أحال/ بمثاله على ما في معناه، وحاصلُ ما يجوز من ذلك أن يكون الدليل على المقدّر مذكورًا في الكلام، موافقًا للمقدّر ومعنى. وينتظم هذا العِقْدُ ثلاثة أقسام:
أحدها: يكون المقدّر في جواب استفهام، وهو الذى مثل به الناظم، ومرّ تمثيله.
والثاني: أن يكون في جواب نفي، كقوله: ما جاءني أحد. فتقول: [بل] زيدٌ. تقديره.
بل جاءك زيدٌ، وأنشد المؤلِّف في الشرح:
تجلّدتُ حتى قيل: لم يَعْرُ قَلْبَهُ
مِن الوجدِ شيءٌ قلتُ: بل أعظمُ الوَجْدِ
أراد: بل عَراه أعظمُ الوجد.
والثالث: أَنْ يتقدّم فعلُ مفعولٍ من لفظه ومعناه، كقولك: جُمع الناس زيدٌ، وحُشِر أهلُ المدينة الملِكُ، وما أشبه ذلك، فالتقدير: جَمَعهم زيدٌ، وحَشَرهم الملكُ، ومنه قراءة ابن عباس:{يُسَبَّح لَهُ فِيهَا بِالغُدوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ .. } الآية، بفتح باب (يُسَبَّح) على البناء للمفعول، فرجالٌ فاعلُ (يسبّح) مضمرًا، تقديره: يُسبِّح له رجال، وقرأ ابن كثير:{وَكَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِك اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، أي: يوحي اللهُ، وأنشد النحويّون:
ليُبكَ يزيدُ ضَارعٌ لخصومةٍ
…
ومُخْتَبِطٌ ممّا تُطيح الطوائحُ
تقديره: يبكيه ضارعٌ لخصومة. ومن أبيات الحماسة لرجل من بَلْعنبر:
لو كنتُ من مازنٍ لم تُسْتَبحْ إِبِلى
بنُو اللقيطهِ مِنْ ذُهْلِ بن شَيْبَانا
على رواية مَن روى: تُسْتَبحْ، مبنيا للمفعول، أى: لم تسَتبحها بنو اللقيطة.
وقال الآخر:
حمامة بطن الواديين تَرَنَّمى
سُقيتَ من الغُرّ الغوادى مَطيرُها
برفع: مطيرُها، وسقيت: مبني للمفعول
وهذا التقدير مشروط بدلالة الكلام عليه كما تَقَدّم، فلو لم يتعين لم يصحّ أن يقدّر شئٌ، للاستغناء بما ظهر، نحو: وُعِظَ فى المسجد رجالٌ، بخلاف ما إذا قلت: وعظ فى المسجد رجالٌ، ، زيدٌ. فإنه على التقدير. وهذا القسم داخل فى كلام الناظم، فلا يقال: إنه خارج عنه، لأن المثال لا يُعِيَّن مثله، وإنما يعِيَّن ما تَقدّم فيه فعلُ الفاعل، وهذا تقدّم فيه فعلُ المفعول؛ لأنا نقول: بل يدخل فيه من وجهين:
أحدهما: أن مباينه ما بينِ فِعْل الفاعل وفعِل المفعول قريبة جدًا، فهما متفقان لفظًا ومعنى وحكما، ولذلك جاز حذف الفعل هنا؛ إذ لو أعتُبِرتَ تلك المباينة لم يجز الحذفُ عندهم قياسًا، كا جاز مع تقدّم فعل الفاعل، كلما ساغ
الحذف هنا واشتهر، دلّ على أن تلك المباينة غير معتبرة.
والثانى: أن هو القسم راجع إلى ما ذكره فى المثال؛ لأن الفعل فيه حذف فى جواب الاستفهام، وهذا القسم فى التقدير من ذلك، فقولك: قُرِىَ القرآنُ، زيدٌ. على تقدير أنه قال: قُرِىَ القرآن. فقيل: من قرأه؟ قال زيد. فدخل بالمعنى في إشارة مثاله.
وثمَّ قسمٌ رابعٌ، وهو أن يُدلَّ على/ الفعل المقدّر معنى الجملة لا لفظُها، أَوْ يدلّ عليه فعلٌ مجامعُه فى أصل الاشتقاق، لا فى نفس الصيغة:
فالأول [نحو] ما جاء فى الحديث من قول عائشة رضي الله عنها: «فلا أستطيعُ أَنّ أصومَهُ إِلَّا فى شعبان، الشُّغْلُ برسول الله صلى الله عليه وسلم» . التقدير: يمِنعُنى الشغْلُ أو نحو.
والثانى: نحو قول الفِرزدقِ:
غَدَاة أَحلّت لابن أَصْرَمَ طعنةٌ
حُصَينٍ، عَبِيِطاتُ السَّدائَفَ والخَمْرُ
تقديره: حلّتْ لى عبيطاتُ السَّدائف والخمرُ.
وهذان فى القياس عليهما نَظرٌ، وليس ممّا يُشعِرُ به تمثيل الناظم، والله أعلم. وأتى الناظم بَقَرأ مُسهّلةَ الهمزة، بالإبدال، على لغة من قال: قريتُ، وأخطيتُ، فى قرأتُ وأخطأت. وقد تقدّم له مثل هذا.
(ثم قال الناظم)
وَتَاء تَأنيثٍ تَلىِ الماضىِ إِذَا
كان لأنْثىَ، كَأبَتْ هِنْدُ الأَذَى
وهذا قسم يذكر فيه حكم لَحاقِ الفعل علامةُ التَأنيث إذا كان الفاعل مؤنثًا. وقد قدَّم حكم لحاق علامة التثنية والجمع، ولما خصّ بالذكر المؤنَّثَ دلّ على أن التاء لا تلحق هى ولا غيرها إذا كان مذكّرا، إلا فى موضع مخصوصةٍ قَدّم ذكر بعضها، وسيأتى حكمُ باقيها، فنحوُ: قام زيدٌ وخرج عمرو، لا تلحق فعله علامةٌ أصلًا، فإن جاء ما ظاهره ذلك فمؤول، كما قال القائل:«فلان لغُوبٌ، جاءته كتابى فاختصَرها. فقيل: تقول: جاءته كتابى؟ ! فقال: أليست بصحيفة» . فأَنَّث [الكتاب] علي معنى الصحيفة. وقد جُمِل على هذا المعنى قولُ حاتم:
أَما وِىَ، قد طال التجنُّبُ والهَجْرُ
وقَد عَذَرِتْنى فى طلابِكمُ العُذْرُ
أى: المعذرة.
فقوله «وتاء تأنيثٍ» ، مبتدأٌ خبرُه:«تلى الماضِىْ» وأسكن ياء «الماضى» وكان حقُّه أن يقُولَ: «تلى لماضى» -بالتحريك لضرورة الشعر. ولأَنَّها لغة ضعيفة، وقد تقدم ذكرها.
يعنى زن تاء التأنيث حكمه أَنْ تَلِىَ الفِعْلَ الماضى، أي: تأتي بعده
متّصلةٌ [به] لاحقةً له، وإذا كان ذلك الماضى لأنثى، أى: مسندًا إلى أنثى. فالضمير فى كان عائد على الاضى. والأنثى مطلقا، أو بظاهرها إذَا كان تأْنيثها حقيقيًا.
و«لأنثى» متعلّق بمسند، وحُذِف لدلالة الكلام عليه؛ إذ كان هنا كمستقر فى سائر المواضع، فى كونه مفهومًا معلومًا. أو ما يتعلق بمستقر، فكأن الناظم يقول: إذا كان الماضى مستَقّرًا لأنثى.
وأتى لذلك بمثال وهو: بت هند الأذى بيّن به ما آصل، وكيف تلى تاءُ التأنيث الفعل؛ إذ ليس فى قوله «تلى الماضى» بيانُ كيفيَّة اتّصال التاد بالفعل، ور كان ذلك معلومًا من خارج، فأراد إيضاح ذلك/ الأتصال.
(ثم قال):
وَإِنَّما تَلْزَمَ فِعْلَ مُضْمَر
مُتَّصِلٍ، أَوْ مُفْهمٍ ذَاتَ حِرِ
لما بيّن لحاقها على الجملة من غير تقييد بلزوم ولا جواز، أتى هنا ببيان ذلك المجمل، فيريد أن تاءَ التأنيث فى الحاقها الفعل على وجهين، لازمة وغير لازمة:
فأما لزومُها ففى موضعين:
أحدهما: مع فَعْلِ المضمر المتصل، وهو قوله:«وَإِنما تلزم» -يعنى التاء- «فعْلَ مُضْمَرِ» ، يريد فعل فاعل مضمر متّصل بالفعل. أما
اشتراطه أن يكون الفاعل مضمرًا فلأنه إذا كان ظاهرًا فله حكم سيذكره، وكذلك اشتراطهُ أن يكون متًّلا تحّرزٌ من كونه منفصلًا؛ فإن حكمه إذ ذاك حكمُ الظاهر، فكما تقول: ما قام إلا هندُ، وما قمت إلا هندٌ، كذلك [تقولُ]: ما قام إلا انت يا هندُ. بخلاف ما إذا كان ضميرًا متصلًا فإنّ التاء لازمةٌ مطلقًا، سواءٌ أكان المؤنث حقيقى التأنيث أم لا. هذا ظاهر كلامه حيث أطلق القول فى المضمر المتَّصل، وقيّده فى الظاهر بكونه حقيقيًّا. وهذا صحيح، فتقول: هند قامَتْ، وزنينبُ خرجَتْ، والشمس طلعَتْ، والدار تهدّمتْ؛ فلا يجوز هنا حذف التاء قياسًا.
وقوله: «إنما تلزَمُ» ، أراد اللزوم القياسىّ خاصَّةً، وإلا فقد جاء السماعُ بخلاف ذلك، كبيت عامر بن جُؤَين:
* ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقَالها *
وكذلك قولُ بعضهم: قال فلانة، فى الموضع الثانى. وما أشبههما من النظائر. وقال نبّه على ذلك الناظم بعدُ، فإنّما مقصوده أن ذلك شاذٌّ، وإن القياس لزوم التاء
والموضع الثانى: مع فعل الظاهرِ النتَّصِلِ الحقيقىّ التأنيث، فالظاهر إذا اجتمع فيه أَيكون حقيقى التأنث متّصلا بفعله، لزمته العلامة أيضًا. فأما
كون الفاعل حقيقى التأنيث فصريح فى كلامه حين قال: «أو مُفُهِمٍ ذات حِرِ» . ومفهم: صفةُ موصوفٍ محذوفٍ تقديرُه: أو فاعل مفهمٍ كذا، هو مخفوصٌ بالعطف على مُضْمرَ، كأنه قال: وإنما تلزم فِعْلَ مضَمِر، أو فِعْلَ فاعلٍ مُفْهِمٍ ذات حِرِ. ويعنى بكونه مُفْهِمًا أن يكون دالًا على صاحبة حِرِ، أى: دالًا على مؤنث حقيقى التأنيث. وعبَّر عن ذك بذات الحِرِ كالمرأة والشاة والأتان، ونحو ذلك مما له فَرْجٌ، ولمقابله من الزوجين ذَكَرٌ. وهذا اللفظُ الذى شرح به الناظم التأنيثَ الحقيقى أصرحُ فى شرح المقصود من قولهم: حقيقىّ التأنيث؛ لأن حقيقىّ التأنيث مُفسَّر بما ذكر، فكان الأولى أَن يُبَيّنَه بما هُوَ المعهودُ عند النحويين من لفظ التأنيث الحقيقى، ، كما فعل في التسهيل وغيره.
وأما كونُ الفاعل متّصلا/ بالفعل لم يُفْصَل بينهما بفاصل، فيظهر من كلامه من موضعين:
أحدهما: قوله: «وقدِ يبيحُ الفصلُ ترك التاء» ، وما بعده، فإنه يُفهم منه أنّ تَرْكَ التاء ذون فَصْلٍ غيرُ مْباحٍ، فلا بدّ من أن يكون الاتصّال شرطًا فى لزوم التاء، وهذا وإن كان تركُها مع الفَصْلِ قليلا، فالتاء على الجملة غيرُ لازمة قياسًا.
والثانى: أن قوله «أو مُفْهِم ذاتَ حِرِ» لما عطف على «مُضْمِر» قد وصف بمتَّصِل، كان المعطوفُ شريكَ المعطوفِ عليه فى ذلك الوصف،
كأنه قال: أو مفهمٍ ذاتَ حِرٍ مُتَّصلٍ وهو شبيه بقوله عليه السلام: «لا يُقْتَل مسلمٌ بكافر، ولا ذو عَهْدٍ فى عَهْده» ، قال المحققون: معناه: ولا ذو عَهْدٍ فى عهده بكافر. وبذلك يصحّ معنى الحديث، فكان تقدير حلول المعطوف فى محلّ المعطوف عليه يشعر بلزومه قيدَه، حتّى كأنّ الموضع له. فإذا اجتمع الشرطان لزمت التاء فقلت: قامت هند، ونَدَّت الشاةُ، وضلَّتِ الأتانُ ولا يقال: قام هند، ولا نَدَّ الشاة -وأنت تريدُ الأنثى- ولا ضلّ الأتانُ- وما جاء من قولهم: قال فلانة، فشاذٌ يحفظ ولا يقاسُ عليه، وسيذكره.
ولَمَّا عيّن لِلُّزومِ هذين الموضعين، دلّ على أنه فى غيرهما بالخيار، لأنّ ضد اللزوم الجواز، وذلك مع المؤنث المجازىّ التأنيث، مع الحقيقى مع الفصل، ومع غير ذلك. وجوازُ الوجهين فى ذلك كلّه مختِلفٌ، فمنه ما يقوى فيه [لحاقُ التاء، ومنه ما يقوى فيه] خلافه، فلذلك فَصّل الحكم فيه فقال أَوّلًا:
وَقَدْ يِبيحُ الفَصْلُ تْركَ التَّاءِ فىِ
نَحُوِ: أَتىَ القْاَضِىَ بِنْتُ الَواقِفِ
يعنى أنّ الفعل قد يُسْنَد إلى ظاهرِ المؤنُّثِ الحقيقي، فلا تلحق الفعل علامة التأنيث، ويستباح ذلك لأجل الفاصل الحاصل بين الفعل والفاعل، ومَثّل ذلك بقوله: أتى القاضىَ بنتُ الواقف. ففصل بالقاضى بين الفعل والفاعل. وإنما جاز ذلك لمكان الفصل؛ لأن الفاصل لما كان مُبِعْدًا بين الفعل والفاعل
قلّ القبح اللفظى؛ من حيث كان الفعلُ بترك العلامة/ يقتضى أن الفاعل غير مؤنث، والإتيان بالفاعل مؤنثا يقتضى لحاق العلامة، فكان فى الجمع بينهم [بعض] القبح؛ فإذا حصل الفصلُ بَعُد القبحُ شيئًا مّا؛ قال سيبويه:«وكلما طال الكلام فهو أحسنُ -يعنى تَرْكَ العلامة- نحو: حضر القاضى امرأة، قال: لأنه إذا طال الكلام -يعنى بالفصل- كان الحذف أجمل، قال: وكأنه يصير بدلًا من شئ كالمعاقبة، [نحو قولك]: زدناقة [وزناديق]، [فتحذف الياء لمكان الهاء -يعنى كأن الفصل بين الفعل والفاعل صار بدلًا من لحاق العلامة، كما كانت الهاء فى زنادقة] بدلًا من لاياء فى زناديق. ثم قال أيضا تعليلا لعدم لحاقها على الجملة: «وإنما حذفوا التاء لأنّه صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء، كما كفاهم الاثنان والجميع حين أظهروهم عن الواو والألف» . ومن مُثُلِ ذلك قَولُ جرير
لَقَدْ وَلَدَ الأخَيطلَ أمُّ سَوْءٍ
مُحمّلةٌ من الأمّاتِ عارا
وأنشد الفراء:
إنّ امرًأ غرَّهُ مِنْكُنَّ واحدةٌ
بَعْدِى وبَعْدَكِ فى الدُنْيا لَمَغرْوُرُ
وهكذا الحكم فى المضارع، فكما تقول: حضر القاضى امرأة، وتقول: يحضُر القاضى امرأةٌ ويأتى القاضى بنت الواقف.
وفى قوله: «وقد يُبيحُ الفصلُ» الدلالة على أنه قليلٌ، وعلى أنه قياس. أما دلالته على أنه قليل فمن جهتين، إحداهما: إتيانه بقد، فإنّ عادته أن يأتى بها مشيرًا بالتقليل. والثانية: قوله: «وقد يُبيحُ» ، فإن هذا اللفظ [إنما] يستعمل غالبًا فيما الأصل فيه المنع، وأن مقاربته محذورة، كما [يقال: هذا] حِمىَ بنى فلان، وهذا حِمىً لا يستباح. وهذه العبارة موافَقِة المعنى لعبارة الجزولى فى قوله:«وحذفُها مع الفصل أسهلُ منه بلا فَصْلٍ» .
وأما دلالته على كونه قياسًا فمن إتيانه بقد؛ إِذْ من عادته أن يأتى بقد حيث يجوز ذلك الحكم فى الكلام على قلة. وهو ظاهر من كلام سيبويه المتقدّم وغيره.
وعلى الناظم هنا اعتراض من جهة علم القوافى، فإنه أتى بقافية مُؤَسّسةٍ، وهى قوله:«بنت الواقف» ، وبنظيرتها مجرّدة حكمًا، وهي قوله:
(التاء في). فإنها بمنزلة (المكتفى) في الحكم، لا بمنزلة الواقف؛ لأنّ حرف التأسيس في كلمة، وحرف الرّوي في كلمة أخى غير ضمير. ومما أنشدوا على القياس قولُ العجاج: /
فهنّ يعكفنَ بِه إذَا حَجَا
عِكْفَ البِيطِ يلعبونَ الفَنْزَجا
فلم يعتبر الألف من إذا؛ لكونها من كلمة أخرى، فلو قال الناظم: مِثلَ: أتى القاضِي بنت المكتفِي، لكان هو القياس. وقد جاء في السماع ما فيه المؤسس مع المجرد. قال:
أدعوك يا ربّ مِن النارِ الّتى
أَعْدَدْتَ للكفّارِ في القيامة
وليس بقياس؛ وإنما هو سماع.
(ثم قال الناظم):
والحَذفُ مَعْ فصْلٍ بالأفضلا
كمَا زكا إلّا فتاةُ ابنِ العَلا
يعني أن الفصل إِنْ كان بغير «إلّا» فحكمه ما تقدّم، وإن كان الفصلُ بإلّا فحذف العلامة أحسنُ من إثباتها، وهو عند العرب مفضّل، والإثباتُ مفصول. فقولك: ما قام إلا هندٌ، وما خَرج إلا وعدٌ أفضل من قولك: ما قامت إلا هندٌ، وما خرجت إلا زينب. ومثل ذلك [قوله]: ما زكا إلا فتاةُ فلان. لو قال: ما زكت، لجاز، ولكنه مفضول. فالوجهان -على الجملة- جائزان، وإن كان أحدهما أرجح من الآخر. ووجه رجحان الحذف أن النَفْى [بما] يقتضى العمومَ والتذكير، فكأنَّه فى المعنى: ما قام أحدٌ إِلّا هندٌ، وما خرج إنسان إلّا وعدٌ؛ فإذا كان المعنى على التذكير كان إسقاطُ التاء أولى، وإن كان اللفظ على يقتضى غير ذلك. ووجهُ الإثباتِ القصدُ إلى إسناد الفعل إلى المؤنث، اعتبار اللفظ، ومما جاء على غير الأولى قولُ ذى الرُمَّة:
[طوى النحزُ والاجراز ما فى غُروضِها] فما بَقِيت إلا الصُّدور الجراشِعُ
وقال ذو الرمة أيضا:
كأنها جَمَلٌ وَهْمٌ وَما بقيت
إلا الّنحيزَةُ والأَلْواحُ والعَصَبُ
ومما جاء منه فى المضارع قراءة من قرأ: {لا تُرَى إِلا مَسَاكِنُهمُ} ، وهى قراءة الحسن وعاصم الحجدرى وجماعة من التابِعِين. وجعل ابن جنى مثل هذا أولى بالشعر. واختار المؤلف خلافه محتجًا بما جاء فى القرآن من ذلك مقروءًا به، فهو عنده مما يجوز فى الكلام لكنه [ضعيف]، وعلى ذلك بنى هنا؛ إذا جعله مفضولًا خاصّةً، ولم يخصّه بالشعر. وما تقدّم من الأمثلة إنما هو فى المجازىّ التأنيث، وهو مع الحقيقى التأنيث [هنا] كالسواء وأنشد المؤلف منه:
ما بَرئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وَذَمّ
فى حَزْبنا إلا بَنَاتُ العَمِّ
/ والزكة: الطهارة والعمل الصالح، ورجل زكى، أى: تقىّ. والفتاة: الشابّة، والفتى أيضا يطلق على الخدِيم.
وفى قوله هنا بعدُ: «والحذف» ، مشاحّة لفظية، وذلك أنّ لفظ الحذف إنما يستعمل عُرفًا فيما كان ثابتًا حُذِف. وهذه التاء لم تكن فى الأل ثابتة ثم حُذِفت، بل الآصل القياسىّ عدمُ لحاقها الفِعْلَ؛ ألا ترى
أنها لا تلحق معالمذكر لأنه أصل، فيعرض لحاقها إذا عرض إسنادُ الفعل إلى المؤنث، وكان ذلك هو الموجب للحاق، وأما عدم اللحاق فرجوع إلى الأصل، فكيف يُعَبَّر عنه بالحذف. وأحسن من لفظ الحذف تركُ التاء كما قال قبلُ:«وقد يُبيح الفصلُ تركَ التاءِ» .
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن مثل هذا اللفظ قد يُسْتعمل عرفًا فيما لم يكن ثانيًا قبل ذلك، كقولهم: إنّ حذف النون علامة النصف فى [نحو]: لن يفَعْلا فإن الحذف هنا لم يكن عن إثبات صحيحٍ، وإنما تأتى العربُ به النصب بغير نونٍ، كما تأتى به فى الرفع بالنون. وقولُهم: أصل النصب وغيره الرفعُ، أمرٌ قياسىٌّ تقديرىّ لا يشهد له أصلٌ من كلام العرب. فتسميتهُم له حَذْفًا ضَرْبٌ من الاتّساع على الجملة.
والثانى: أن تقول: أصل الفعل فى القياس أَنْ لا تلحقه علامهٌ، وأصله فى الاستعمال أن تلحقه العلامة مع المؤنث الحقيقى على الجملة، ويَدُل على ذلك كثرة لحاقها معه، والقاعدة أن الكثرة لها الأصالة، وقد ثبت لنا هنا أنّ اللحاق مع المؤنث هو الأكثر، فإذا لم تلحق معه قدّرنا أن عَدم اللحاق حذف صحيح؛ إذ كانت القاعدة تقتضى اللحاق، ولكن عرض سَبَبٌ مَنَع الأصل أن يستمّر، فادّعينا أنّ عَدَم اللحاق حَذْفٌ، وقوفًا مع الأصل وفى هذا بحث.
قال:
والحذفُ قد يأتي بلا فَصْلٍ، ومَعْ
ضميرِ ذي المجازِ في شِعْرٍ وقعْ
هذا تنبيه على ما جاء في المساع مما يخالف القاعدة المتقدّمة؛ إذ قَدّم القياس المتسمرّ والحكم اللازم مع عدم الفصل لحاق العلامة إذا كان الفاعل ظاهرًا مؤنثًا حقيقي التأنيث، أو كان ضميرَ مؤنثٍ متصلًا كان حقيقي التأنيث أو مَجازيَه، فقال في أحد القسمين -وهو الظاهر الحقيقي التأنيث إن حذف العلامة قد يأتي بلا فَصْلٍ. وهذا إشارة منه مجيئه في الكلام، لكن قليلًا ضعيفًا، فتقول على هذا: قام هندٌ، وخرج دَعْدٌ. حكى سيبويه عن بعض العرب:
قال فلانةُ: وقال لبيد بن ربيعة:
تمنَى ابنتايَ أن يعيشَ أبوهُما
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضَرْ
وقال في القسم الآخر: «وقَعْ .. ضمير ذي المجازِ في شعرٍ وقَعْ» ، يعني أنّ حَذْفَ التاء مع كون الفاعل ضمير مؤنث مجازيّ التأنيث وقع في الشعر لا في الكلام. ومن ذلك قولُ عامر بن جُؤين الطائي، أنشده سيبويه:
فلا مُزنَهٌ وَدَقَتْ وَدْقَها
ولا أَرْضَ أَبْقَل إِبقالها
وكان الأصل: أبقلتْ. وأنشد أيضا للأعشى:
فإما ما تَرَىْ لِمتّى بُدّلَتْ
فإِنَّ الحَوَادث أَودى بها
والوجه: أودتْ. ومن بابه ما قال الأعشى:
أَرَى رَجُلًا مِنْهُم أَسيفًا كأنَّما
يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كفًا مُخَضَّبا
والوجه: مُخَضَّبَةً. وأنشد سييوبه لطُفيل:
إذْ هىَ أَحْوَى مِنَ الرَبِْعيّ حَاجِبهُا
وَالْعَينُ بالإثمِدِ الحارىّ مَكْحُولُ
الأصل: مكحولة؛ لأنه خَبَرُ العين، ولم يأت فى الكلام مثلُ هذا، فلذلك قال:«شعرٍ وَقَعْ» . وإذا تبيَّن ما قاله تَوجَّه عليه سؤالان:
أحدهما: أنه قال أَوّلًا: «وإنما تلزم فِعْلَ مُضْمَرِ» الى آخره، وهو نصٌّ فى أن إساقط التاء مع القسمين لا يجوز البتَّةَ، وهو معنى اللزوم. ثم نقص اللزوم هنا بقوله:«والحذوفُ قَدْ يَأتِى بلا فَصْلٍ» ، فأجاز إسقاط التاء هنا مع القسمين وإن كان ضعيفًا، فحصل أن ثبوتها ليس بلازم، وهذا تناقض من
القول. ولا يقال: إِنَّه أراد أوّلًا أَنَّ اللزوم هو القياس، وأن مثل: قال فلانَةُ، سماعٌ؛ لأنا نقولُ: قَدْ كرَّ من عادته أنه يريد بقوله: قد يكون كذا، أنه يجوز قياسًا.
ولا أجد جوابًا عنه؛ إلا أن يريد باللزم أَنَّه أكثرىّ وهذا ضعيف.
والسؤال الثانى: أَنَّ قوله: «وَمَعْ ضَمِير ذى المجازِ» ، يُؤْخَذُ منه أنه لم يأتِ فى الكلام فى ضمير ذى المجاز. ويظهرُ من السماع خلافُ ذلك؛ فإنّ فى الكتاب العزيز:{إنَّ رَحْمَةَ الله قرِيبٌ مِنَ المُحسنِيِنَ} ، وقال تعالى:{السَّماءُ مُنْفطِر به} . ويأتى مثل هذا فى الكلام، فكيف بقولُ: إِنَّه وقع فى شعرٍ. ولا يُقال/: إنَّ مثل هذا وقع على معنى النسب، أراد: ذات قُرْب، وذات إمطارٌ؛ لأنا نقول:[ذلك] لا يُنْجىِ؛ إِذِ الضمير المرفوع فى (قَرِيبٌ) و (مُنْفَطرٌ) ضمير مؤنث، ورفعه على الفاعلية، ولم تلحق الصفة علامة، فالسؤال وارد. وكذلك لا ينجى أن ذلك على تأويل الرحمة والسماء بمذكر، فإنّ قوله
* وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقاَلَها *
وما أشبهه مؤوَّل بمذكر، حسبما ذكره النحويون.
ولا جواب لى إلّا أن يقال: لعلّه لم يلتفت إلى هذا النحو هنا، لجرياته مجري ما لا تلحقه العلامة من الصفاتِ، مفَعُول ومِفْعال، وما ذكر معهما؛ فإنه استثنى ذلك فى باب المذكر والمؤنث. أو يقال -وهو الأولى-: لعلّه إنما تَكلّم فى هذا الفصل على لحاق التاءِ إلى الفعل خاصَّة،
وترك ذكر لحاقها الصفة، لأنه قد ذكر حكم الصفة فيما بعد، فذكر فى باب النعتِ من ذلك نحوًا مما ذكر هنا فى الفعل، ثم ذكر فى باب المذكر والمؤنث ما يمتنع أن تلحقه العلامة فى قوله: «ولا يَلى فَارِقةَ مَفُعولَ .. إلي آخره. وإذا كان كذلك لم يَبْق إشكالٌ، وحصل جواب هذا السؤال.
واعَلمْ أنه لما قَرَّر موضِعَىْ لزومِ التاء ظهر أنّ المؤنث الذى ليس على ذلك الوصف لا تلزمه التاء، وهو الظاهر المجازىُّ التأنيث، فتقول: طلعِت الشمسُ، وطلع لشمسث، وتهدّمتِ الدار، وتهدّم الدار، وما أشبهه ذلك. وعلى هذا القسم أحال فى قوله بعدُ:«كالتَّاءِ مَعْ إحْدَى اللّبنْ» . إلا أنه يدخل عليه فيما ذكره لزوم لحاقها فى موضع لا يلزم فيه اللّحاق، وإن كان المسندُ إليه حقيقى التأنيث، وذلك إذا كان قد دخلت عليه من الزائدة؛ فإنك إذا قلت: ما قامتِ أمرْأةٌ، فلا بُدَّ من التادة، كما [تقول]: قامت امرأة. فإن قلت: ما قامتْ مِنَ امْرأةٍ، كنت فى لحاق التاءِ وعدم لحاقها بالخيار. أما وجهُ لحاقها فاعتبارٌ بسقوط من الزائدة تقديرًا؛ إذ هى فى تقدير السقوط، فكان التقدير: ما قمت امرأة. وأمّا عَدَمُ إلحاقها فاعتبارٌ بأن دخول مِنْ أفاد معنى الحنس وعموم النفى، فصار كمرفُوعِى نعم وبئس.
والجواب (عن ذلك): أن هذه المسألة يُسَتفَادُ حكمهُها من كلامه فى نعم؛ إذ عَلّل عَدَم اللّحاق بقصد الحنس، فإذا كلُّ مؤنّثٍ قُصدَ فيه قصد الجنس ففيه ما فى: نِعْم المرأةُ هندٌ
/فإن قلت: إن ما قلت قياسُ على كلامه، والاشكال على القياس
في محلّ التعليم ينافى التعليم، هذا مع أنه نصّ على لزوم التاءِ فى غير ما استثنى، فكان مُوهِمًا دخول هذه المسألةِ فى ذلك الحكم، وهو فاسدٌ.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن نقول: لا نعلم أنه لم ينصَّ عليه، لنه قد علَّق الحكم بحذف التاء على علّة قصد الجنس، والقاعدةُ الأصولية أن الحكم إذا علق على علَّة، فهو عموم بالنَّصّ لا بالقياس عند طائفة، فكأنه قال: كلُّ ما قصِد فيه الجنسُ فحذف التاء فيه سائغٌ مستحسنٌ.
والثانى: إذا سلّمنا أنه عامٌّ بالقياس لا بالنصّ، فالقياس يُخصّ به العموم عند جماعةٍ، فلعلَّ الناظم قائِلٌ بأحدى هاتين الدَّعْوَيين، فلا يكون عليه اعتراض. وفى هذا الجواب نظرٌ. ويمكن أن يكون راجعًا إلى إسقاط لتاء لأجل الفصل. وفى هذا نظرٌ أيضا. والأَولى أن يقال: إنه تركَ ذِكْرَ هذا الفَرْعِ رأسًا فلم يتعَرضْ له. والله أعلم.
ثم قال:
وَالتَّاءُ مَعْ جمْع سَوَى السَالِم مِنْ
مُذَكّرٍ، كَالتَّاءِ مَعْ إِحدَى اللَّبِنْ
يعنى أَنَّ ما عدا جمع المذكّر السالمِ من الجموع فحكمُها إذا أُسند إليها الفعلُ حكمُ الواحد المجازىّ التأنيث، فى جواز لحاق التاءِ وعدم لحاقها. والجموع ثلاثةُ أضربٍ:
جمع تكسير لمذكّر كان أو المؤنث، كالرجال والهنود. فهذا تقولُ فيه:
قام الرجالُ، وقامت الرجالُ، وقام الهنود، وقامت الهنود، كما تقول: تكسَّرت اللبنة، [وَتكَسَّر اللبنةُ].
وجمع مُؤنَّثٍ سالم، نحو: الهندات، والطلحات، والبنات. فهذا على مقتضى عبارته، تقول فيه: قام الهنداتُ، وقاكِت الهنْداتُ، وقام الطلحاتُ، وقامت الطلحاتُ، وقام البنات وقامت البنات. وجميع مذكر سالم بالواو والنون، فهذا لا يجرى فيه ما جاز فى النوعين الآخرين، لاستثناء الناظم له، وإذا لم يكُنْ تَخييرٌ فليسَ إلَّا وجهٌ واحدٌ، فينظر فيه ما هو؟ وذلك أنه ليس بمؤنث لا مفرده ولا هو، فليس له إذًا إلا ما للمذكر، وهو عدمُ لحاق التاء، فتقول: قام الزيدون، وخرج العَمْرونَ، ولا تقول: قامت، ولا خرجَتْ، هذا محصول كلامه.
وقوله: «من مذكّر» /، مِنْ فيه لبيان جنس السالم؛ لأن الجع السالم ضربان: مذكر ومؤنث، فبيَّن أنه أراد المذكّر بالاستثناء.
، قوله:«كالتاء مع إحدى اللَّبِن» خبر المبتدأ الذى هو التاء. وبيّن بذلك المؤنث المجازىّ التأنيث؛ فإنَّ إحدى اللّبن لَبِنَةٌ، [واللَّبنة] تأنثيها لفظىّ.
وبعدُ؛ فإنّ للنظر فيما قال هنا مجالًا، أما كونُ الجمع المكسَّر ذا وْجهين فكما قال، ولا خلاف فيه. ووجه ذلك أنَّ جمع التسكير لا يتَبيَّنُ فيه لفظ الواحد، فجاز أَنْ يُعامَلَ مُعاملة الجماعة والجمع، والجماعة - من حيث هى جماعةٌ- لا يُنْسبُ إليها تأنيثٌ حقيقىٌ ولا تذكيرٌ حقيقي،
فاستوت مع الشمس والدار ونحوهما، مما ليس له تأنيث حقيقىّ، فكانت العلامة جائزة لا واجبة.
وأما جمعُ المذكر السالم فإنما استثناه لأنّ بناء الواحد فيه سالم ظاهر، فلم يَسُغْ فيه تأويله بالجماعة ولا بالجمع، فعُومِل معاملة واحده الظاهر فيه، فلم تلحقه علامة. وهذا الذي ذهب إليه فيه هو رأى جمهور البصريين. وذهب الجزُولي -فى ظاهر إطلاقه- والكوفيون إلى جواز الوجهين، فيقولون: قامت الزيدون، وقام الزيدون. ولم يَرِدْ بقولهم سماعُ، وإنما ورَدَ بلزوم إسقاط العلامة، فهو الذى يُعوَّل عليه.
وأما جمع المؤنث السالم فعلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يكون للمذكر حقيقة أو مجازًا، نحو: الطلحات والحمامات. فجواز الوجهين فيها ظاهر، فوجه عدم لَحاقِ التاء اعتبار سلامة الواحد، كما اعتُبرتْ فى جمع المذكر السالم. ووجهُ لَحاقها اعتبارُ لفظِ الجمع؛ إذ هو مؤنثُ اللفظ بالتاء، وهو مما يُجمعُ عليه المؤنث، فاعتُبر فيه ذلك على الجملة.
والثانى: يكونُ للمؤنث المجازىّ التأنث، نحو: تَمَرات وخُطُوات. فجواز الوجهين فيه أيضًا ظاهر، إِمَّا اعتبارًا بواحده، وإمّا لأنه مؤنَّث اللفظ، فعُومل معاملة ما تأنيثُه لفظىٌّ.
والثالث: يكون للمؤنث الحقيقى التأنيث نحو: الهندات والزينبات، فظاهر إطلاق الناظم ينتظمُ هذا القسم، وأنه مما يجوز فيه الوجهان، كما/ يجوز ذلك فيما قبله، فيقال: قام الهندات، وقامت الهندات، على
مشهور اللغات لأنه لم يستثن من جواز الوجهين إلا جمع المذكر السالم. وهذا غير صحيح؛ إذ لا يقال: قام الهندات، إلا فى الشعر، نحو قول أبى عطاء السِّنْدىّ:
عشيّه قام التائحاتُ وشققّتَ
جيوبٌ بأيدى قَأتَمٍ وخدودُ
وأنشد البكرىّ قول الشاعر يصف امرأة:
أَنَاةٌ عَلَى نِيْرين أضحى لِداتُها
بِلينَ بلَاءَ الرّبْطِ وهى جديدُ
أو على لغة من قال: قال فلانة، وهى لا تدخل هنا، ولا حجة له فى قول الله تعالى:{إذ جاءَكَ المؤمناتُ} ؛ لأن الذى سَهَّل إسقاط العلامة هنا الفصل بالكاف، أو تقدير ثبات الموصوف المحذوف، وقد مرَّ ذكر حكم الفصل. وقد قيّد فى كتاب التسهيل ما أَطلق ههنا، فقال:«وحكمُها -يعنى التاء- مع جمع التكسير وشبهه وجمع المذكر بالألف والتاء، حكمُها مع الواحد المجازىّ التأنيث» . فقيده بجمع المذكر، ولم يقل: والجمع بالألف والتاء.
ولا يقال: لعل مراده بقوله: «من مذكر» ، ليس بيانا للسالم، بل هو راجعٌ إلى الجمع حتى كأن قال: «والتاء مع جمع من مذكر سوى السالم كالتاء
مع إحدى اللبن»، ويكونُ كلامُ متناولًا لجمع التكسير خاصّة، ولم يتعرض لحكم جمع المذكر بالألف والتاء؛ إذ كان المختصرُ يضيقُ عن تقرير هذه التفاصيل كُلُّها، ولكنُ هذا المحملُ أولى من الحمل على مخالفة الجماعة. لأنَّا نقول: هذا غير صحيح من وجهين:
إحدهما: ما يلزم عليه من ترك حكم جمع المذكر بالألف والتاء، مع ترك حكم جمع المؤنث كذلك أيضًا، فيكون الكلام يقتضى أَنْ لم يتعرضّ للمجموع بالألف والتاء رأسًا، وفى هذا تقليل الفائدة جدًا، وهو مناقض لما وِضع له المختصر من تكثير الفائدة. [مع تقليل العبارة] ما أماكن.
والثانى [أنه] قال: «سوى السالم» فيقضى باستثناءه الحكم عليه بخلاف المستثنى منه، وأن يكون الجمعُ بالألف والتاء تلزمه التاء، كان لمذكرٍ أو المؤنثٍ حقيقى أو غير حقيقى، [وذلك] فسادٌ كبير.
فالأولى حملهُ/ على ما تقدّم، وأنه ارتضى فى هذه المسألة وحدها مذهب من رأى أن الجمع بالألف والتاء للمؤنث الحقيقى لا تلزمه التاءُ، وهو رأى الكوفيين وظاهر الجزولى فى الكراسة، لقوله فيها:«ولا تلزم فى الجمع مطلقًا» . ولهذا المذهب وجه من الصحّة؛ قال الفارسىّ فى التذكرة: «قولهم جاء الهنداتُ، حسنٌ، وليس من القبح كقولك: جاء هِنْدٌ؛ لأنّ الواحدة حكمُها أن تلزمها علامة التأنيث للفصل بين التأنيث والتذكير،
وأيضاً: فتلزم العلامة للزوم المعنى المسمىّ. وقد تكون الألف والتاء فى الجمع على غير حدّ التأنيث فى الواحد؛ ألا تراهم قالوا فى تحقَير دراهم: دُرَيهمات، فلحقت الألف التاء على حدّ الجمع وتأنيث الجماعة، لما أريد به الجمع، فإذا كان كذلك لم يقبح: جاء الهندات، بل كان حسنًا، على حدّ إرادة التأنيث فى الجماعة. ومن ثمَّ جاء فى التنزيل:{إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِناتُ} . قال: فإن قُلْتَ: فَهَلْ يستقيم على هذا أن أقول: قالت الزيد دل، فأحمل على الجماعة؟ قال: فإن ذلك لا يسوغ عندى؛ ألا ترى أن هذا الضرب من الجمع لم يجئ فى تأنيث كما جاء دُرَيهمات فيما ذكرت [لك]، [ولا يكون ذلك] إلّا على حدّ واحده المذكر وتثنيته. قال: فأمّا قولك: مضت [سِنُون] ونحو ذلك، فإن حرفى الجمع في سِنُون» ليس على حد «الزيدون» ألا ترى أن الاسم مكسّر فى هذا الجَمْع مغيَّرٌ، وليس فى زيدين ونحوه كذلك». هذا ما قال: وهو توجيهٌ لا بأس به. وأيضًا فإن الجمع بالألف والتاء قد عاملوه معاملة: جمع التكسير فى تغييره عن بنيةٍ واحدةٍ، فقالوا: طَلَحات فى طَلْحة، وخُطُوات فى خُطْوة، وهِندات فى هند. [ونحو ذلك] مما لا يبقى فيه الواحدُ على شكله قبل الجمع. ولم يصنعوا ذلك فى الجمع بالواو والنون، بل قالوا في زيد: زيدون، وفي
عَمْرو: عَمْرون، وفى قُفْل وعَدْل -اسمَىْ رجل: قُفْلُون وَعدْلون. فَلَم يُغَيِّروا بِنْيَةَ الواحد فيه إلا حيثُ جعلوا العلامتين عوضًا، نحو: سِنوُن، وقُلُون، وما أشبه ذلك. فلما ساوى الجمعُ/ بالألف والتاء الجمعَ المكسّر، فى جوازِ تغيير بنية الواحدِ فيه، عاملوهُ مُعاملة الجمع والجماعة فى لَحاقِ التاء وعدِم لَحاقها. وإذا ثبتَ فلا ضيرَ فى أَنْ يكون فى التسهيل ذهب مذهبَ البصريّين فى المسألة، وذهب هُنَا مذهبَ الكوفيين؛ إذ رآه حين نظم هذه الأرجوزة أرجَحَ؛ وقد يكون للمجتهد قولان بحسب وقتين، والناظمْ مِمَّن نَصَب نفسه مِنصب الإجتهاد، فجرى فى اختلافِ الأقوال فى المسألة الواحدة مجراهم. والله أعلم.
وهنا نظر ثانٍ، وهو انّ جمع التكسر الذى أجازَ فيه الوجهين قطعًا، هو الّذى كُسّر على أبنية التكسير المذكورةِ في النصف الثانى من النظمِ، كأفعالٍ، وأَفْعِلَة، وفُعُول، وفِعال، ونحوها. وجمعُ التكسير عند النحويين يُطْلقَ بإطلاقين، فيطق تارةً على ما تكسّر على تلك الأبنية، كرجالٍ وأَجْمَالٍ. ويطلق تارة على الجمع المسلّم إذا لزم فيه تغييرُ الواحد أو غَلَب، أو جاء على شكل المسلّم وليس فيه شروطه كأرضين، وعِزِين، وسنين، وما أشبه ذلك. ولا شكّ أَن جمع التكسير بهذا المعنى الثانى مرادُ الناظم، [كما أن الأول مرادٌ له]، فتقول: مضت سِنوُن، ومَضَى سِنُون، ومرّتِ الإوَزُّون، ومرَّ الإوَزُّون. وذهب اللَّدُون، وذهبت
اللّدُون، وما أشبه ذلك. وكذلك ما كان من هذا النحو بالألف والتاء، نحو: لِدَاتٍ، وحكم التاء معه التخيير أيضًا. ومن ذلك عند الناظم بنون وبنات، فإنهما لم يسلم فيهما بناءُ الواحد، فحكمها حكمُ جمع التكسير، فتقول: جاء البِنُونَ، وجاءت البَنُونَ، وجاء البنات فى وجاءتِ البناتُ. وأنشد سيبويه:
قَالَتْ بَنُو عَامرٍ: خَالُواَ بِنَى أَسَدٍ
يا بُؤْسَ للحرْبِ ضَرَّارًا لأقَوْامِ
وقال عَبْدةُ بن الطّبِيب:
فبكى بَنَاتى شْجَوهُنْ وَزَوجِتَىَ
والظاعِنُونَ إلىّ ثُمّ تصدَّعوا
وقال كُثَيّر:
وهَمَّ بناتى أَنْ يبَنّ وخَمَّشَت
وجُوُهُ رِجَالٍ مِنْ بِنىَّ الأصَاغِرِ
وقال أبو ذؤيب:
وقامَ بناتي بالنَّعالِ حواسِرًا
وألصقن ضَرْب السّبْتِ تحت القِلائدِ
وبهذه الشواهد استدلّ أهل الكوفة على جواز الوجهين فى: قام الزيدون، وقامت الهندات. ولا دليل لهم فيه، لأنه من قبيل التكسير وإن كان ظاهره التسليم/ ولا يقال: إن هذه الشواهد اضطرارية فلا حجّة فيها على جواز مثلها فى الكلام؛ لأنا نقول: هى فى قوة ما وقع فى الكلام لإمكان إسقاط التاء من «قالت بنو عامر» ؛ إذ لا ينكسر به الوزن، وإمكان إلحاقها فى قوله:«وهمّ بناتى» وما بعده، ولا ينكسر الوزن بذلك وهذا بناءٌ على طريفة ابن مالك فى اعتبار ما هو ضرورة مما ليس بضرورة، لإمكان زوالها مع بقاء الوزن [وعدم ذلك]. وقد تقدّم تقريرها فى باب الموصول.
ونظر ثالث، وهو أنه لم ينصّ على حكم التاء مع المثنى واسم الجمع واسم الجنس، فمن أين يؤخذ له حكمهما.
والجواب عن ذلك: أن الناظم لما استثنى السالم من جوازا الوجهين، وتبيّن أنّ ذلك لكون الواحد بيّنًا فيه، فلا بدّ من اعتباره، ثبت أن المثنىّ أيضا له حكمُ الجمع السالم، فلا يجوز فيه إلا إثبات التاء إن كان مؤنثا حقيقيا، أو عدمها إن كان مذكرًا، أو كان ذا وجهين إن كان مؤنثا مجازيًا، على حسب التفصيل المتقدّم فى المفرد؛ أذ كانت العلة موجودة في المثنى.
فإن قيل: وهكذا جمع المؤنث السالم قد تبيّن فيه الواحد وَسلِمَ، وقد أجاز فيه الوجهين كما تَقَدّم من البيان، فمن أين لك اطّرادُ علّة السلامة فى المثنى وهو لم يطرُدْها فى الجمع بالألف والتاء؟
فالجواب: أن التثنية أدخلُ فى باب سلامة الواحد من الجمع بالألف والتاء؛ ألا ترى أنه يتغيّر الوسط منه بتحريكه إن كان اسما ساكن الوسط، كما سيأتى -إن شاء الله- بخلاف التثنية وجمع المذكر السالم حسبما تقدّم.
وأما اسم الجمع واسم الجنس فلا يخلو أن تجعلهما مفردين أو جمعين، فإن جعلتهما مفردين فهما مما جاء فيه لغتان من الأسماء المفردة، والتذكير والتأنيث، كلسان ونحوها، فإذًا حكمهما حكمُ لسان، فعلى لغة التذكير لا يجوز أن تلحق العلامة، وعلى لغة التأنيث وجهان، لأن التأنيث مجازى. فتقول فى لغة التذكير: طاب الرُّطَبُ، ولا تقول: طابت الرطب. وتقولُ في لغة التأنيث: طابت الرطبُ، وطابَ الرُّطب. وتقول: / قام الصحبُ، ولا تقول: قامت الصحبُ وتقول: قامت النساءُ وقام النساء، وإن شئت. وأما إن جعلتهما جمعين فإنك تعاملهما معاملة جمع التكسير. فلا إشكال على الوجهين، إذ كان/ حكمهما مأخوذًا مما تَقَدّم. والله أعلم.
ثم قال:
وَالحذْفَ فِى نِعْمَ الفَتَاةُ اسْتْحسَنُوا
لِأنّ قَصْدَ الجِنْسِ فِيه بَيِّنُ
يعني أَنَّ حَذْف التاء فى باب نعم وبئس -إذا أسند إلى مؤنث حقيقى- حَسَنٌ وليس بقبيح كما يقبح فى غير نعم وبئس إذا قلت: قام المرأة، بل يجوز أن تقول: / نعمت المرأةُ هندُ، [ونعم المرأة هند] وكذلك مثاله: نعم الفتاةُ ونعمت الفتاةُ، كلاهما جائزٌ حسن. وعلّل وذلك بأَنَّ المقصود بالفتاة هنا الجنسُ لا الواحدةُ. ولذلك لزم فى هذا النوع الألف واللام، حسبما هو مقرّرٌ فى بابه. فإذا كان كذلك فاعتبار الجنس من حيث هو جنس خروج عن اعتبار حقيقىّ التأنيث؛ إذ كان المفردُ غير ملحوظٍ من تلك الجهة، فصار اعتبارُ مجرّد الجنس اعتبارَ التأنيثِ غَيْر حقيقىّ. وقد مضى جوازُ الوجهين فيه، فجرى هذا على نسقه فقوله:«لأنّ قَصْدَ الجِنْسَ فيه بَيِّنُ» ، يريدُ أَنَّ المفردَ ليس هو المقصود فتلزم التاء، ، إنما المقصود حقيقةُ الجنس، وتأنيثهُ كتأنيثِ الجماعةِ والفرقَةِ غيرٌ حقيقىّ.
فإن قيل: فهذا التعليل يقضى بأن كُلَّ مفردٍ حقيقى التأنيث إذا قُصِد به الجنسُ فيجوزُ فيه الوجهان، إمّا بنصّه على رأىِ جماعةٍ، وإمّا بالمعنى، وهو رأى طائفة أيضًا.
قيل: نَعَمْ، وقد يلتَزمُ ذلك فى كلامة فيقال نحوُ: صارت المرأة خيرًا من الرجل، [وصار المرأةُ خيرًا من الرجل]؛ لأن المعنى فى قولهم: الرجلُ خيرٌ من المرأة. وكذلك ما أشبهه مما تكون فيه الألف واللام جنسيّة.
فإن قيل: فهل يكون من ذلك قولك: ما قامت امرأة؛ لأنها فى معنى: ما قام أحد من هذا الجنس؟
قيل: لا، لأنّ امرأة هنا ليس المراد بها الجنس، وإن تُوُهِّم ذلك، وإنما المرادُ بها واحدة، والعموم إنما جاد من النفى، لا من إرادة الجنس.
وقوله: «والحذفَ» : منصوب على المفعولية باستحسنوا. والضمير فى استحسنوا للعرب أو للنحوييّن. ويريد بقوله: «فى نعم الفتاةُ» الباب كلّه.
وَالأصْلُ فِى الفاعِلِ أن يَتَّصِلَا
وَالأصْلُ فِى المفعُولِ أن يَنْفَصِلَا
/ وَقَدْ يُجَاءُ بِخِلافِ الأَصْلِ
وَقَدْ يَجِى المفعُولُ قَبَلَ الفِعْلِ
أخذ الناظم هنا يتكلم فى مرتبة الفاعلِ والمفعول من الفعل فى الأصل، وما يعرض فى ذلك من مخالفة المرتبة جوازًا أو وجوبًا؛ فذكر أوّلًا أنّ الفاعلَ أصلُه أن يَتصل بفعله، وأن يكون واليا له. وقد مرّ قبل هذا كوُن الفعل لازم التقدم على الفاعل، فحصل من ذلك أن مرتبة الفاعل فى الأصل أن يكون بعد الفعل متّصلا به، ولا يعنى بالاتصال الأتّصال الأخصّ التامّ؛ فإنّ ذلك مخصوص بالضمير المتصل، نحو: ضربتُ وضربنا؛ وإنما تكلم فى الأتصال العامّ الذى يشمل الأخفش وغيره، نحو: ضرب زيدٌ عمرًا، وضربْتَ عمرًا، وهو الاتصال فى النطق به واليًا
للفعل. وأما المفعول فالأصل فيه أن ينفصل عن الفعل ولا يتصّل به، وانفصاله إنما يكون بالفاعل، نحو: ضرب زيدٌ عمرًا، فمرتبةُ عَمْرو أن يكون بعد زيد، ويلزم من ذلك أن لا يتصّل بالفعل لتقدم الفاعل، فلذلك قال:«والأصلُ في المفعولِ أَنْ يَنْفَصثلا» . وإنما كان الأصل ذلك لأَنّ كلّ فْعلٍ لا بدّ له منه فاعل، فهو طالبٌ له على اللزوم، بخلاف المفعول، فإنه لا يلزم أن يكون لكل فعلٍ مفعولٌ، بل قد يكون له مفعولٌ، نحو ك ضربتُ زيدًا، وقد لا يكون نحو: كَرُمَ زيدٌ. وأيضا قد يستغنى الفعل الطالبُ للمفعول عن المفعولِ؛ فتقول: ضربت: مُقْتصرًا، ولا يُستغنى عن الفاعل أبدًا؛ إلا إذا غُيِّر عن شكله وأُقيم له المفعولُ مقام الفاعل لازم الذّكر، وعلى جميع أحكامه من الرفع، والاتصال بالفعل، ولزوم كونه بعده، وغير ذلك من أحكام الفاعل. ولهذا جعلوا الفاعل مع فعله كالشئِ الواحد، رذا كان ضميرًا متصّلا، فسكنوا آخر الماضى له تحاميا من اجتماع أربع حركات فى نحو: ضربْتُ، وذلك [لا يتحامى] إلا فى الكلمة الواحدة، ولم يفعلوا ذلك فى المفعول إذا كان ضميرًا متّصلا. [لأنّه]، [كلمة ثانية فقالوا: ]، [ضَربَكَ، ولم] يتحاموا اجتماع الحركات لأنهما كلمتان ثم قال: «وَقَدْ يُجَاءُ بِخِلافِ الأَصْلَ» ، يعنى أنه قد يأتى الفاعل على غير الأصل المذكور، والمفعول كذلك قد يأتى على غير الأصل،
فيتَّصلُ المفعول بالفعل وينفصلُ الفاعل/ عنه، فيقال: ضرب عمرًا زيدٌ، وذلك لأنّ الفعل متصرّف فى نفسه، فيتصرّف فى معمولاته، بتقديم بعضها على بعض، [وتأخير بعضها عن بعض]، ما لم يمنع من ذلك مانع صناعىٌّ حسبما يذكره.
وقوله: «وقد يَجىِ المفعولُ قبلّ الفِعْلِ» ، هذا أيضا من تمام المجئ بخلاف الأصل وهو أن يأتي المفعولُ مَقدَّمًا على فعله وفاعله معًا، كما جاء مقدّمًا على فاعله وحده. وعلة ذلك تصرُّف الفعل في نفسه كما مرّ. وخُصّ هذه الأخير وحده بالمفعول، لأنّ الفاعل لا يصحّ فيه التقَدُّمُ، فإنه إِنْ تقدّم صار مبتدأٌ. وقد تقدّم بيانُ ذلك أول الباب، بخلاف المفعول فإنه إذا تقَدّم على الفعل لم يختلف الحكم فيه، بل يَبْقَى مفعولًا كما كان، ولا فى الفاعل، بل يبقى فاعلًا كما كان، لأنّ رتُبتة محفوظةٌ، وهى تأخّره عن الفِعْلِ.
وينظر فى كلام الناظم فى مسألتين:
إحداهما: أن هذا المفعول الذى ذكره هنا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يريد المفعول به وحده، كضربتُ زيدا. وهو الجارى فى كلام النحويين إذا تكلموا على هذه المسألة على الخصوص، فلا تكاد تراهم يتعرّضون لغيره، أعنى فيما عدا الابتداء ونواسخه.
والثانى: أن يريد المفعول الأعمّ الذى يشمل المفعول [به] وغيره، فيدخل تحت قوله:«والأصلُ فى المفعولِ أَنْ ينفصلَا» ، وقوله:«وقد يِجَى المفعولُ قبلَ الفعلِ» - المفعولُ المطلقُ، نحو: ضَرب زيدٌ ضربًا، والمفعولُ
فيه، نحو: قام زيدٌ يوم الجمعة، والمفعولُ من أجله، نحو: قام زيدٌ إكرامًا لعمرو. فكأنه يقول: كلُّ ما يُسمّى مفعولًا الأصلُ فيه الانفصالُ، وقد يُجاءِ بخلاف الأصل، وقد يجىُ [ذلك] المفعولُ قبل الفعلِ، ما لم يمنع من ذلك مانعُ.
فتقول فى المصدر على الأصل: جاء زيدٌ جَيئًا، وقام أخوك قيامًا. وعلى غير الأصل: قام قيامًا زيدٌ، وقيامًا قام زيد.
وتقول فى ظرف الزمان: يقومُ زيدٌ غدا، [على الأصل. ويقوم ًا زيدًا]، وغدًا يقوم زيد، على غير الأصل. وفى ظرف المكان: جلس زيدٌ أماك، وجلس أمامك زيدٌ، وأمامك جلس زيدٌ. وكذلك فى سائرها.
لكن قد يمتنع المجئ بخلاف الأصل فى بعضها، كالمفعول معه -كما سيأتى-/ وذلك لا يقدح في صحة هذه الكليه، إلا أنّ الأحتمال الأوّل هو المشهور، والظاهر أنه مقصود الناظم.
والثانية: أنّ قوله: «وقد يُجاءُ بخلاف الأصلِ» .. إلى آخره، مراده أنّ ذلك يأتى فى الكلام على الجواز، لقوله:«وقد يُجاء» ؛ لأن هذه العبارة إنما يؤتى بها فيما يجوز ذلك فيه لا فيما يلزمُ، فكأنه يقول: يجوزُ أن
يتقدّم المفعولُ ويتوسط ويتأخر من غير موجب لفظىّ، فإن كان موجبٌ لفظىّ يقتضى خلاف ما تقدّم فهو الذى ذكره على إثر هذا.
فالحاصل أنه قدّم أصلين أحدهما مرتَّبٌ على الآخر، فالأصلُ الأولُ ذكْرُ مرتبة الفاعل والمفعول فى [الأصل]. وهذا أصل قياسى. [والأصل] الثانى: جواز المخالفة فى ذلك الأصل، وهو أصل استعمالىّ، فإن عرض لزومٌ فى تقديم الفاعل على المفعول، فهو على خلاف الأصل. وإن عرض لزوم فى تقديم المفعول على الفاعل فهو على خلاف الأصل أيضا، إلا أن الأول خروج عن الأصل من وجهٍ واحدٍ، والثانى خروج عنه من وجهين. فابتدأ الناظم بذكر الأول، ثم عطف عليه بالآخر فقال:
وَأَخّرِ المفْعُولَ إِنْ لَبْسٌ حُذِرْ
أَوْ أضَمِر الفاعِلُ غَيْرَ مُنحَصِرْ
وَمَا بإِلَّا أَوْ بإنَّما انْحَصَرْ
أَخّرْ، وَقَدْ يَسْبِقُ إِنْ قصَدٌ ظَهَرْ
وَشَاع نَحوُ: خَافَ رَبَّه عُمَرْ
وَشَذَّ نَحوُ: زَانَ نَوْرُه الشَّجَرْ
فذكر للوجه الأول ثلاثة مواضع:
أحدها: موضع اللبس، يعنى أنه إن حُذِر -أى: خِيفَ- الالتباسُ بين
الفاعل والمفعول، بحيث لا يتميَّزُ واحدٌ منهما عن صاحبه، وجب أن يلزم كلّ واحدٍ منهما مرتبته، فيلزم الفاعل والمفعولُ موضعه، ولا يجوز توسيطُ المفعول ولا تقديمه، فتقول: ضرب موسى عيسى -إذا كان عيسى هو المفعولَ به- وضرب عيسى موسى- إذا كان الفاعل. ولا يجوزُ أن تقول: ضرب موسى عيسى، وعيسى هو الفاعلُ؛ إذ ليس ثَمَّ ما يعرفُ بأنه الفاعل؛ إذ الإعرابُ المسوقُ للتفرقة مفقودٌ في اللفظ، وليس ثَمَّ تابع لواحدٍ منهما يظهر به الفرقُ، ولا المعنى، أيضًا بمبيِّن شيئًا./ فلم يبق إلا الالتزامُ المرتبة لكلِّ واحدٍ منهما.
ولا يجوز أيضا أن يتقدّم المفعول، فلا تقول: موسى ضرب عيسى، وموسى هو المفعولُ، لالتباسه بالمبتدأ، ويكون [الفاعل] ضميره، وعيسى هو المفعول.
وكذلك الحكم في نحو: أكرم هذا ذاكوضرب [هذا] من قام، وعرف الذى أكرمك الذى أكرمته. وما أشبه ذلك.
وإما يخاف الالتباسُ إذا لم يبق فارقٌ بين الفاعل والمفعول سوى المرتبة، فيجب اعتبارها والتزامها، وأما إن كان ثمَّ وجهٌ آخر يعرفُ به فرقُ ما بينهما صِيرَ إلى الأصل الاستعمالى من عدم لزوم المرتبة، كما إذا ظهر الإعرابُ فيهما أو في أحدهما، نحو: ضرب موسى زيدٌ، وموسى ضرب زيدٌ. أو في تابعهما نحو: ضرب موسى العاقَل [عيسى]، وموسى العاقَل ضرب عيسى. أو كان أحدهما مؤنثا ولحقتِ التاء، نحو ضربَتْ
موسى سلمى، وموسى ضربَتْ سلمى. أو كان المعنى يعيِّن المفعول من الفاعل، نحو: أكل الكُمّثرى موسى، والكُمّثرى أكَلَ موسى، وكذلك إذا قلت: أعجب مَنْ ثَمَّ ما صنعَت، فإن مفعولَ أعجب لا يكون إلا عاقلًا. ومن [تقع في الغالب على العاقل]. وعلى هذا فقس ما جاء من هذا القبيل.
وهذا البيت من عادة المتأخرين أن يذكروه -أعنى التزام المرتبة- إذا عُدِم الفارقُ بين الفاعل والمفعول. وقد تقدّم له ابنُ السّراج في الأصول، ولم يذكر ذلك سيبويه ولا غيره من المتقدّمين، بل قد نصُّوا على خلافه ولكن ابن مالك اتَّبَعَ من اعتبر ذلكواعتمده، وأجرى كلام العرب عليه. وقد تقدّم قبلُ هذا المعنى، وحصلَ فيه بسطُ قاعدةٍ ظهر مأْخذُ المسألة، فإن أردت النظر فيها فعليك بها في باب المبتدأ،
والثاني من المواضع التي يلزم فيها تأخير المفعول: أن يكون الفاعل ضميرًا غير محصور، وذلك قوله:«أو أضمر الفاعلُ غيرَ مُنحَصرْ» . فقوله: «أضمِر الفاعلُ» جملة معطوفة بأو على حُذر «تقديره وأخر المفعول إن أُضمِر الفاعل غير منحصر، يعني أنّ الفاعل إذا أضْمرِ وجب تأخير المفعول على فاعله، فلا تقول: ضربت زيدا، أو أكرمت عمرًا. فلا يجوز هنا تقديمُ المفعولِ على فاعله، فلا تقول
ضرب زيدًا تُ، ولا: ضرب زيدًا أنا؛ لأنه قد قدّم أن الضمير لا يكون منفصلًا ما/ أمكن أن يكون متصّلا. وهذا إذا لم يكن الفاعل ضميرًا، منحصرًا -فلو كان ضميرا منحصرًا- وهو الذى تحرّز منه بقوله: غير مُنْحَصِرْ- لم يلزم المفعولُ رتبتَه من التأخير عن الفاعل، على حسب ما يذكره في البيت التالي لهذا.
والمنحصِرُ قد تقدّم تفسيرُه، وأنه يريد به ما وَلِى أداة الحصر، نحو: ما أكرم زيدًا إلا أنا، وما أشبه ذلك.
وغيرَ: منصوب على الحال من «الفاعل» أى حالة كونه غير منحصر.
وفي هذا الكلام نَظَرٌ من وجهين:
أحدهما: أن قوله: «أو أُضمِر الفاعلُ غيرَ مُنْحَصِرْ» يدخل فيه ما كان من الفاعلين ضميرًا منفصلا غير محصور؛ فإنك إذا فلت: ضربَ زيدًا إما عمروٌ وإما أنا، وأكرمك إما أنا وإمّا زيد، أو قلت: إن أكرمك لزيد، وإن أرضاك لهو. فهذا كلّ وما أشبه قد أضُمِر فيه الفاعل غير منحصر، مع أنه لا يلزم فيه تأخير المفعول، بل لا يجوز ذلك في جملة من [هذه] المسائل. لا يقال: إنّ مذهبه هنا مع إنْ المخففة مذهب الكوفيين في هذه اللام من أنها يمعنى إلّا، لأنه نَصَّ على خلافه كما تقدم، ولو كان رأيُه فيها رَأْيهم لم يتّجه ذلك، لوُجودِ نحو: أقام أباك إمّا أنا وإما زيدٌ، وكذلك مع اسم الفاعل إذا قُلْتَ: إن ضاربك لزيدٌ وإن
مخرجك لهو، وكذلك: أعجبتني هندٌ المكرمُها أنا، وما أشبه ذلك. وهذا الاعتراضُ لازم له في التسهيل حيث قال:«يجب وصلُ الفعلِ بمرفوعه إِنْ خِيفَ التباسه بالمنصوب، أو كان ضميرًا غير محصور» . فإن الضمير في هذه المسئل كلّها غير محصور، ولم يجب فيها وصلُ الفعلِ بمرفوعه. وبهذا اعترضه في التسهيل شيخنا الأستاذ أبو سعيد، أجلَّه الله. ويزيد كلمُه في التسهيل اعتراضًا آخَرَ لا يلزمه هنا، وهو أنه قال:«يجب وصلُ الفعلِ بمرفوعه [إن خيف التباسه بالمنصوب» ، فاقتضى أنّ اللبس إنما يُوجِب وصلَ الفعلِ بمرفوعه] من غير نظر في المفعول. وليس كذلك؛ ألا ترى أنك لا تقول: موسى ضرب عيسى، لأجل اللبس، وقد اتّصل الفعل بمرفوعه، وهو إما عيسى إن فرضت موسى مفعولًا، وإما ضمير موسى إن فرضتَه مبتدًأ.
وقد اقتضى كلامُه جَوازَ مثل هذا، وأنّ موسى إذا فرضته مفعولًا لا يلزم تأخيره، [وليس كذلك، بل يلزم تأخيره] لأجل اللبس كما مرّ. وكلامه هن مُحَرّر لقوله: «وَأَخِّر المفعول إِنْ لَبْسٌ حُذِرْ» . فاعتنى بالمعفولِ تحرُّزًا من التقديم فيه.
والثاني: أنّ الفاعل إذا أُضمِرَ نحو: ضربتُ زيدًا، لم يلزم تأخير لمفعول؛ إذ كان جائزًا باتفاقٍ أَنْ تقول: زيدًا ضربت، ولا يزلم أن تقول: ضربتُ،
ولا يلزم أن تقول: ضربتُ زيدًا، لا غيرُ. وكذلك ما أشبهه، وإنما يلزمُ التأخيرُ مع اللَّبس كما تقدم.
فالحاصل أن هذا الكلام غير صحيح من وجهين وعبارته في التسهيل بالنسبة إلى هذا الوجه صحيحة، لقوله: يجب وصلُ الفعل بمرفوعه إن كان كذا أو كان ضميرًا غير محصورٍ، فالتاء في ضربت ضميرٌ غير محصور، فوجب وصلُ فعله به من غير تعرّضٍ للمفعول، فاقتضى جواز: زيدًا ضربتُ، بلا شك.
فإن قيل: قد دخل له نحو: زيدًا ضربت، في قوله قبلُ:«وقد يَجىِ المفعولُ قبل الفعل» .
قيل: ليس كذلك، لأن ذلك الكلام مجملٌ يصدق على نحو: زيدًا ضرب عَمْرو، فلا يكون بيانًا لهذا الموضع.
وهذان الاعتراضان لا جواب لي عنهما، وليس كلُّ داءٍ يعالجه الطبيب؛ لَمّا بيَيّن ابنُ جني أنه لا يجوز ردُّ اسم لما لم يُسَمَ فاعله لنقصان الحديث، لنقصانِ ظُنّ زيدٌ، قال: فقلت لأبي علىّ: فقول سيبويه: كائنٌ ومكونٌ؟ [فلم يُجِبْنى عن هذا السؤال بشئ، وقال: {يَمُرُّونَ عَلَيها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونِ}؛ فجهِدْتُ به] فلم يجبني، وجعلَ يُعَلّل ويقول: الذى يقولُ أصحابنا قد عَرّفتُك إياه. قال: قلت: فيقولون: إن سيبويه يُجِيزُ أَن تبنى كان للمفعول فقال: لا. قلت: فما يُعَملُ بهذا الذى ورد؟ فقال: لا أَدْرى. قلت: أَفتقول: إنه خَطَأ في النسخة؟
فقال: لا. ثم قال: ليس كلُّ الداء يعالجه الطبيب. انتهت الحكاية.
ثم قال الناظم: «وما بإلّا أو بإنّما انحصَرْ .. أَخِّرْ» ، «ما» هنا منصوبة المحلّ بأخِّرْ، أى: أَخِّر ما انحصر بإلّا أو بإنّما.
وهذا هو الموضع الثالث من المواضع التى يجب فيها تأخير المفعولِ عن الفاعل، وذلك إذا كان المفعولُ محصورًا بإلّا أو بإنّما، لكن لمّا كان الفاعلُ أَيضًا يلزمه التأخير عن المفعول إذا كان هو المنحصر، أَتى بالقاعدة شاملةً للفاعل والمفعول معًا بما التى تقتضى العموم في قوله:«وما بإلّا» ، يعنى أنَّ ما كان من الفاعلِ والمفعول منحصرًا بأحد هذين الحرفين وجب تأخيره، فمثال تأخير المفعول المحصور بألّا: ما ضرب زيدٌ إلّا عمرًا. فلا تقول هنا: إلّا عمرًا لم يضرب زيد، وإن كان يجوز: عمرًا لم يضربْ زيدٌ، لمكان أداة الحصر. وكذلك لا تقول: ما ضرب إلا عمرًا زيدٌ إلا قليلا، حسبما يذكره.
ومثال تأخيره محصورَا (بإنما): إنما ضرب زيدٌ عمرًا، فإن معناه كمعنى: ما ضرب زيدٌ إلا عمرًا. ومنه ما أنشد سيبويه:
كَأَنَّ يَوْمَ قُرّى إِنَّما نَقْتُلُ إيَّانَا
وأما لزومُ تأخير الفاعل فذكر له موضعين:
أحدهما الذي شمله اللفظ، وهو إذا كان الفاعل مقرونا بإلا أو بإنما، فاقترانه بإلّا نحو: ما ضرب أخاك إلا زيدٌ، وما أكرمه إلا أنا. وفي القرآن:{لا يُجَلِّيها لوقْتِها إلّا هُو} ، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ}. وقال الشاعر:
قَدْ عَلِمتْ سَلْمَى وَجَارَاتُها
ما قَطّرَ الفارِسَ إلّا أنا
واقترانه بإنّما نحو قولك: إنما ضَرَب زيدًا عَمْروٌ. وإنما أكرم أخاك زيد. وقال الشاعر:
أَنَا الفَرِسُ الحامِى الذِّمارَ وَإِنّما
يُدافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنا أَوْ مِثْلِى
ولا يقال: ما ضرب إلا زيدٌ أخاك، وما ضرب إلا أنا زيدًا، إلا قليلا كما ذُكر، وكذلك لا تقول: إنما ضرب زيدٌ عمرًا، وزيدٌ هو المحصورُ، كما أنك لا تقول: إنما ضرب عمرًا زيدٌ، وعمرًا هو المحصور. هذا مذهب جماهير البصريين والكوفيين.
والمسألتان معًا مختلف فيهما بين النحويين على ثلاثة أقوال:
أحدها: لزومُ تأخير المحصور من الفاعل والمفعول، وهو الذي تقدَّم.
والثاني: عدم اللزوم بإطلاق، بل يجوز تقديمُ المحصور إلى موضع غير المحصور. وهو رأى الكسائى من الكوفيين.
والثالث: الفرقُ بين الفاعل والمفعُولِ، فإذا كان المحصورُ/ [هو الفاعلُ لم يجز تقديمه، وإذا كان المفعولُ جاز تقديه. وهو منقولٌ عن الأخفش وابن الأنبارى.
وكأنّ الناظم أخذ بمذهب رابع، وهو جوازُ تقديم المحصور على قلّة. وذلك قولُه:«وقد يَسْبِقُ إِنْ قصدٌ ظَهَرْ» ، فضمير «يسبق» عائد على ما انحصر، يعنى أنّ المنحصر قد يتقدّم إن ظهر قصدُ الكلام وتبيّن المنحصرُ من غيره، وذلك في الحصر بإلّا نحو: ما ضرب إلّا عمرًا زيدٌ، وما ضرب إلا زيدٌ عمرًا. ووجهُ ما رأَى الناظم من ذلك أن القياس لا يمنعه بإطلاق، والسماع يُعَضِّد القول به. أما القياسُ فإن الأل الاستعمالي -كما تقدّم- جوازُ تقديم المفعول على الفاعل، والأصلُ القياسىُّ تقديمُ الفاعِل على المفعول، فإذا ثبت هذا لم يُعْدَل عن إلا لما هو أقوى منه، وليس بموجود في مسألتنا، لأنّ تأخير المحصور إنما يُفْتَقَر إليه إذا لم يكن ثَمَّ دليلٌ عليه سوى التأخير، وقد دلّت إلّا على المحصور بدخولها عليه، فهو معلوم سواءٌ تقدَّم أم لا، بخلاف إنّما فإنها لا تُعيِّن لامحصور من غيره، فالتُزِم التأخير فيه ليتعيَّن. وأما السماع فقد قال زهير:
وَهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّى إِلّا وَشِيجُهُ
وتُغْرَسُ إِلّا في مَنَابِتِها النَّخْلُ
وكانَ الأصلُ -لو روُعِى التأخيرُ- أن يقولَ: وتُغَرسُ النخلُ إلّا في منابِتِها. وقال ذو الرُّمّة:
تَداويتُ مِنْ مىٍّ بِتَكْلِيمةٍ لها
فَما زَادَ إلَّا ضعْفَ دَائِى كَلَامُها
هذا في حصر غير الفاعل، وأما حصر الفاعل وتقديمه، فقد أنشد الفارسىّ في التذكرة:
نُبِّئْتُهم عَذّبُوا بالنّارِ جَارَتَهُمْ
وهل يُعَذِّبُ إِلّا اللهُ بالنّار
وأنشد أيضا:
فلم يَدْرِ إلا الله ما هيجّت لنا
عشيةَ أنآءُ الديار وشامها
وإذا ثبت سماعًا ما سوّغه القياسُ جاز لنا القياسُ على ما سُمِع، إلا أنّ السماع لم يأت منه ما يبلغ مبلغ الشائع الكثير. وأكثر ما تراه في الشعر الذى يُظَنّ أَنه فيه ضرورة. فلم يُطلق القولَ بالقياسِ كما أطلقه الكسائى، ولا بالمنع كما أطلقه الجمهور، فأجازه على ضعفِ، وهو سادٌ من النظر، فقال: «وقد
يسبقُ إن قصدٌ ظَهَرْ». فأتى بقد المشعرة ببالتعليل والضعب، وقيّد الجواز بعدم اللبس تحرُّزًا من إنّما؛ فإنَّ المحصور معها لا يتعيَّنُ إلا بالتأخير، فلو أجيز تقدّمه لالتبس بغير المحصور، فلم يكن بدٌّ من التزام تأخيره حسبما أعطاه معنى كلامه.
وهنا مسألتان:
إحداهما: أنهم اختلفوا [بعد وجود تقديم] المحصور في وجه التقديم على قولين؛ فمنهم من أجازه [على إِضمار فعل] فإذا قلت: ما ضرب إلا عمروا زيدًا، فهو على تقدير حذف المفعول [من ضرب اقتصارا]، وقوله: إلا زيدًا على إضمار فعل تقديرُه: ضرب زيدٌ. وعلى ذلك [تَأَوَّل] المانعون قولك: ما ضرب إلا زيدًا عمرو؛ إذ هو تقدير: ضربه عمرو، [وفيه بقاءُ الفعل بلا] مرفوع، وذلك ممنوع، فامتنع ما يؤدّى إليه؛ ولأجله استسهل بعضهم ما جاء من نحو: ما ضرب إِلا عمرو زيدًا، ولم يستسهل نحو: ما ضرب/ إلا عمرًا زيد، على عكس ما ذهب إليه أبو الحسن وابن الأنبارى.
ومنهم من حمل ذلك على غير الرضمار، بل على حقيقة التقديم والتأخير، وكان ابن الأنبارىّ إلى هذا نحا، فأجاز: ما ضَرَب إلا زيدًا عمرو؛ لأن المحصور مستحقٌّ التأخير، فكأنّ زيدًا متأخر، فجاز. ومنع:
ما ضرب إِلا زيدٌ عمرًا، لأن زيدًا محصور، فاستحق التأخير، فرذا قُدّم صار في محلّه الأصيل، فلم يكن مستحقًا للتأخير، فتناقش، فامتنع.
وعلى هذا الوجه يجرى أيضًا كلام الناظم؛ إذ لو اعتُبِر الإضمار لم يصحّ له إجازة: ما ضرب عمرًا إلا زيد، لبقاء الفعلِ فاعلٍ. وكذلك ابن الأنباري والأخفش وسائر من أجاز على الجملة.
والثانية: أنك إذا قلت: ما ضرب إلا زيدٌ عمرًا فهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون على معنى: ما ضرب عمرًا إلا زيدٌ، أن تنفي الضاربين عن عمرو وتستثنى منهم زيدًا.
والثاني: أن تُريدَ نفي الضاربين بإطلاق، ثم تستثنى منهم زيدًا، مخبرًا أنه ضَرب عمرًا، حتى كأنك قُلْتَ: ما ضَرَبَ أحدٌ إلا زيدٌ، أى: ما وقع من أحدٍ ضربٌ إلّا من زيدٍ، ثم أخبرت أَنّه ضَرَبَ عمرًا، وكأَنَّ عمرًا منصوب بإضمار فعل لا بالأول.
فأما الوجه الأول فهو المختلفُ فيه، وأَمَّا الثاني فكأنه متفق على جوازه، وقد أجازه الأخفش، وهو الذى منع الأول. وذكره أيضًا الشلوبين واعترض بسببه على الجزولى؛ إِذْ لا يَجُوزُ فيه تقديمُ مَفْعولِه وتأخير [فاعله][لالتباسه في التقديم]
…
...
…
فقد يقال إن هذا وجه يدخل [له تحت] قوله: «وما
بإلّا أو بإنما انحصَرْ .. أَخّر» يعنى عن المفعول يقتضى أَنّ [الكثير في نحو] قولك: ما ضربتَ إلّا زيدٌ عمرًا، تقديم عمرو وأن تقديم زيد عليه قليل. وليس كذلك، بل لا يجوز هنا الّا تأخير المفعول خوف اللبس، فكلامه معترض يجاب عن ذلك بأن المسألة ليست من قبيل ما تكلّم فيه الناظم؛ ما تكلّم فيه هو ما كان فيه الفاعل والمفعول معًا لفعل واحدٍ، فتدخل فيه المسألة على الوجه الأوّل محذوفٌ اقتصارًا؛ إذ لم تَنْفِ فيه ضاربي عمرو بخصوصه، وإنما نفيتَ الضَّاربِيِنَ بإطلاق، ونَفْىُ الضَّارِبينَ بإطلاقٍ لا يصحّ مع ذكر المضروُب الذى هو عمرو، فلا بدّ أن يكون عمرو معمولًا لفعل آخر مقدّر، كأن الكلام في تقدير سؤال سائر: من ضرب زيدً؟ فتقول: عمرًا. أى: ضرب عمرًا هذا تنزيل المسألة، وإن كان أبو علىٍّ الشلوبين قد أتى بها مُسْجَلَةً مجملة، فلا يصحّ المعنى إلّا على هذا، وإذا كان كذلك امتنع تقديم عَمْرو، لأنه فَصْلٌ بين أبعاض جملة بأجنبىٍّ هو معمولٌ لجملة أخرى. فلا اعتراض على الجُزُولى ولا على الناظم بهذه المسألة، والله أعلم.
ثم قال: «وشاع نحوُ: خاف رَبَّه عُمَرْ» . وهذا هو الموضع الثاني من موضعي لزوم تقديم المفعول على الفاعل، وذلك إذا اتّصل بالفاعل ضمير يعودُ على المفعول، لكنّه قدّم هنا مقدّمة يتّصل معناه بمعنى ما أراد ذكره، وهو جوازُ تقديم المفعول إذا اتّصل به ضميرٌ يعودُ على الفاعل، وأن لا محذور في ذلك، وعيَّن ما أراد بالمثال، وهو قوله: خافَ ربَّه عُمَرْ»، فأراد أن ما كان كذلك فهو
شائع في كلام العرب/ فاشٍ، يعنى تقديم المفعول. وإنما ذكر هذا المعنى ليتبيَّن أنّ الضمير إذا تأخّر مفسِّرُه لا يمتنع بإطلاق، بل يجوز في موضع ويمتنع في آخر. وهذا الموضع ممّا لا يمتنع فيه تأخيرُ المفسّر، بل هو كثير شائع، وإن كان تأخير الضمير من المفسّر أكثر، فيجوز أن تقول: خافَ ربَّه عُمَرُ، وإن كن ضمير رَبَّه يعود على عُمَر، وهو متأخر، لأن أصله التقديم، فكأن التقدير: خاف عمرُ رَبَّه. وهذا صحيح لا إشكال فيه. وعلى هذا تقول: ضَرَبَ غلامَه زيدٌ، وأكرم صاحب أبيه عَمْرٌو. ومن ذلك قول الله تعالى:{فَأَوْجَسَ في نَفْسِه خيفَةً مُوسَى]؛ لأن المجرور مفعولٌ به تقديرًا. وهو كثير في كلام العرب، كما قال. فإن كان الضميرُ متّصلًا بالفاعل لزم فيه التأخير، ولزم في المفعول التقديم، إلا في الشعر، وعلى ذلك نبّه بقوله: «وَشَذّ نَحو: زَانَ نَورُه الشَّجَرْ، يعنى ما كان نحو هذا مما اتّصل بالفاعل فيه ضمير يعودُ على المفعول، لم يجز تقديمُ الفاعل فيه، بل يلزمُ تأخيرُه، فتقول: زان الشجَرَ نورُهُ، وضرب زيدًا غلامه، وقتل عَمْرًا أخوه. ومنه قول الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى إبراهيمَ ربُّه بِكَلِمَاتٍ} ، وقوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آياتِ رَبِّك لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيْمَانُها لم تكُنْ آمَنَتْ من قبلُ} .. الآية.
ووجهُ المنعِ أَنّ مُفَسِّر الضمير إنما يكونُ متقدّمًا عليه؛ إذ لا يضمر الاسم إلا بعد أَنْ يعرف ويتقدّم ذكره. وإذا كان كذلك، وكان مفسّر الضمير متأخرًا، فإن كان التأخير له عرضًا جاز لأنه في الحقيقة متقدّم على الضمير، وذلك كالمسألة الأولى، وهى: خاف ربّه عُمَر. وإن كان
التأخير له بحكم الأصل لم يصحّ وضعُه مفسّرا، لأنه خلاف الوضع، فلا بدّ أن يُرَتّب الكلام ترتيبا يكون فيه المفسّر متقدمًا في اللفظ ليكون الضمير محالًا به على مذكور، فلزم أن يتقدّم المفعولُ إذا كان هو المفسّر للضمير المتّصل بالفاعل فعلى الجملة إذا حصل للمفسّر التقديمُ إما في اللفظ وإمّا في المرتبة الأصلية، وإن كان متأخّرا في اللفظ، صحّ، وإن لم يحصل له التقديمُ لا في اللفظ ولا في المرتبة لم يصح الكلام إلّا في الشعر، كما قال:
وقوله: «وشذ نحُو» كذا، تنصيصٌ على أنه قد جاء في السماع ما يخالف هذا الأصل، وذلك على مثال
…
فلا يقاس عليه لاختصاصه بالشعر وعدم مساعدة القياس له. ومما جاء من ذلك قولُ حسان بن ثابت يرثى مطعم بن عدىّ، جدّ نفع بن جُبَير بن مطعم، رحمهم الله:
وَلَو أَنَّ مَجْدًا أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِدًا
مِنَ النّاسِ، أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعَما
وقال النابغة:
جَزَى رَبُّه عَنِّى عَدىَّ بن حَاتِمْ
جَزَاءَ الِكَلاب العَاوِيَاتِ، وقَدَ فَعَلْ
وقال الآخر:
لَمَّا رَأَى طَالِبُوهُ مُصْعَبًا ذُعِرُوا
وَكَانَ لَوْ سَاعَدَ المَقْدُورُ يَنْتَصرُ
وقال الآخر:
جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عَنْ كبَرٍ
وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال الآخر:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ يلومَنَّ قَوْمه
زُهَيرًا عَلَى ما جَرّ مِنْ كُلِّ جَانبِ
وقال الآخر:
كسا حِلْمُه ذا الحِلْمِ أثوابَ سُؤدَدٍ
وَرَقَى نَدَاهُ ذا النَّدىَ في ذُرىَ المَجْدِ
وهذا كلُّه عند الناظم لا يعتدّ به، ولا يبنى عليه قياسٌ، وهو رأىُ الجمهور من النحويّين.
وذهب أبو الفتح بن جِنّى إلى جواز القياس على ما جاء من ذلك، فيجوز عنده أن تقول: ضرب غلامُه زيدًا، ونصرَ أبوه عمرًا، وزان نورُه الشجر. / وتبعه المؤلِّف في التسهيل، وشرحه على القياس، واحتجّ لما
ذهب إليه بالسماع المذكور -ولا حجةَ فيه لقلّته واختصاصه بالشعر- قال: «ولأنّ جواز [نحو]: ضرب غلامُه زيدًا، أسهلُ من جواز: ضربوني وضربتُ الزيدين، ونحو: ضربتُه زيدًا، على إبدال زيدٍ من الهاء. وقد أجاز الأوَّلَ البصريون، وأجِيز الثاني بإجماعٍ حكاه ابن كيسان. وكلاهما فيه ما في ضربَ غلامُه زيدًا، من تقديم ضمير على مفسّرٍ مؤخّر الرتبة، لأنّ مفسِّر واو] ضَربُونِى معمولُ معطوفٍ على عاملها، والمعطوفُ ومعموله أمكنُ في استحقاق التأخير من المفعول بالنسبة إلى الفاعل، لأن تقدّم المفعول على الفاعل [يجوز في الاختيار كثيَرَا، وقد يجب، وتقدمُ المعطوف وما يتعلّق به على المعطوف] عليه بخلاف ذلك، فيلزم من أجاز: ضربوني وضربت [الزيدين] أن يحكم بأولوية جواز: ضرب غلامُه زيدًا، لما ذكرناه» . قال: «وكذلك يلزمُ مَن أجاز إبدال ظاهر من مضمر لا مفَسِّر له غيرهُ؛ لأنّ البدل تابع، والتابع مؤخر بالرتبة ومؤخّر في الاستعمال على سبيل اللزوم. والمفعولُ ليس كذلك؛ إذ لم يلزم تأخيره» .
هذا تمامُ ما احتجّ به، وليس فيه على ما اختار هنا واضحُ دليلٍ:
أَمَّا أوّلًا فإن المتّبع السماعُ كيف كان، وقد علمنا شُذُوذَ ما جاء عنهم في مسألتنا وشياع ما جاء عنم في باب الإعمال والبدل، فنحن نقيس حيث بلغ
أن يقاس عليه، ونمنع القياس حيث لم يبلغ السماعُ أن يقاس عليه. وبعد ذلك إن وجدنا علّةً لشذوذ الشائع فسّرناها بناءً على قول سيبويه:«قِفْ حيث وَقَفُوا ثم فَسِّرْ» . وهى قاعدة مسلمة عند الجميع.
وأما ثانيا فإنّ بابى الإعمال والبدل جاءا على خلاف الأصول؛ إذ الأصل والأكثر الشائع تقدُّم مُفَسّر ضمير الغائب، بإقراء ابن مالك وغيره، فمتى جَاءَ ما يخالفه فلا ينبغي فلا يُعَوّلَ عليه في قياس ما ليس من بابه عليه، بل ينظر إليه في نفسه، فإن كثر تبلغ القياسَ قيس عليه في بابه خاصّةً، كما فعلُوا في باب الإعمال، وباب نعم وبئس، وباب ضَمير الشأن، وباب البدل، وباب رُبَّ. ولم يُتَعرّض لإبطالِ الأصل به؛ إذْ لو كان كذلك لم يَصحَّ أَنْ يكون الأصلُ تقديمَ مفسّر ضمير الغائب، ولكان التقديم والتأخير في المفسّر جائزًا بإطلاقٍ قياسًا على ما قال، لكن هذا باطل باتفاق، فيطل ما أدّى إليه. وإنَّما نظيرُ بابِ الإعمال وما أشبه في كونها مستثنًى من القاعدة بيعُ العرايا بِخَرْصِها تمرًا إلى الجَدَادِ، وضربُ الدية على العاقلة وما أشبهها مما هو خارج عن القواعد
…
ولا يخرج عن بابه لأنه خرمٌ للقاعدة الثابتة. فما قاله المؤلف رحمه الله لا ينهض دليلًا على القياس، فالصحيح ما ذهب إليه هنا من الوقوف مع الأصلِ ومنع
سواه؛ إذ لم يثبت سماعٌ يقاسُ عليه. وإذا ثبت وَرَدَ على الناظم دركٌ في هذا الفصل من وجهين:
أحداهما: أنه أتى في تقديم المفعول على الفاعل أو على الفعل بثلاثة أقسام خاصة؛ لزوم تأخير المفعول، ولزوم تقديمه على/ الفاعل، وجواز تأخيره وتقديمه وتوسيطه. والقسمة تقتضى سبعة أقسام: لزوم تأخيره عن الفاعل، ولزوم تقديمه على الفعل، ولزوم توسيطه بينهما، وامتناع تأخيره فقط مع جواز تقديمه وتوسيطه، وامتناع تقديمه فقط مع جواز توسيطه [وتأخيره]، وامتناع توسيطه فقط مع جواز تقديمه وتأخيره، وجواز الأوجها الثلاثة. فالجميعُ سبعةُ أقسام، نقصَهُ منها أربعة: أحدها: لزومُ تقديمِ المفعولِ، وذلك إذا كان فيه معنى الشرط، نحو: من تُكْرِمْ أكرِمْ، وَأَيّهم تُكْرِمْ أكرِمْه. أو معنى ذلك الاستفهام، نحو: أَىّ رجل أكرمت؟ ومَن ضربت. وما صنع زيد؟ أو كان كم الخبرية، نحو: كم رجلٍ أكرمتُ، وكم بَطَلٍ جَدَلَ زيدٌ، أو مضافًا إلى واحد منهما، نحو: غُلام أَيِّهم تُكْرِمْ أكرِمْه. وغلام مِنْ أكرمت؟ وغُلام كم رجلٍ أطعمتُ
والثاني: امتناع التقديم، وذلك مع أدوات الشرط سوى إِنْ، نحو: متى يضربْ زيدٌ عمرًا أكرِمْه. ومتى يَضْرِبْ عمرًا زيدٌ أكرِمْه. فيجوز تأخيرُ المفعول وتوسيطه، ولا يجوز تقديمه. ومع أدوات الاستفهام سوى الهمزة، فيجوز: هل ضرب زيدٌ عمرًا؟ وهل ضرب عمرًا زيدٌ؟ ولا يجوز هل عمرًا ضرب زيد؟
والثالث: امتناع التوسيط، وذلك إذا كان الفاعلُ [ضميرًا متصّلا، نحو: ضربتُ زيدًا، وزيدًا ضربت. ولا يجوز توسيطه] بين الفعل والضمير، فلا تقول: ضرب زيدًا، من غير حصر، ولا ما يوجد انفصالَ الضمير.
والرابع: لزوم توسيطه، وذلك إذا كان الفاعل مقرونا بإلّا، أو في معناه، أو كان ضمير متصّلا والفاعل ظاهر، نحو: ما ضرب زيدًا إلّا عمرو، وإنّما ضرب زيدًا عمرو، وضَربَك عمرو.
فإن قلت: قد ذكر هذا القسم بقوله: «وَمَا بِإِلَّا أَوْ بِإِنَّما انحصَرْ .. آخِّرْ» .
قيل: بل لم يذكره، وإنما فيه لزومُ تأخير الفاعل خاصة، يبقى المفعول محتمِلًا لأَنْ يكون لازم التوسيط أو التقديم، أو لم يتعرض له، فقد يتوهم جواز مثل: ما زيدًا ضرب إلا عمرو وهو غير جائز.
والثاني: أن المواضع التى ذكر للزوم التأخير في الفاعل أو المفعول قاصرة عن المقصود؛ إذ لم يستوفها كما استوفاها غيره، فكان حقّه أن يستوفيها.
فإن قيل: إِنَّ هذا المختصر لم يُبْن على الاستيفاء وإنما بُنى على الاختصار وذكر مشاهير الأصول والمسأل، وأيضا فما ذكر تنبيه على ما لم يذكر.
قيل: هذا ليس بعُذْرٍ، وقد قَرَّر أولًا جواز التقديم والتأخير والتوسيط، وأنه الأصل المرجوع إليه إذا فقدت العوارض، ولما ذكر من العوارض ما ذكر أوهم أَنْ
ليس ثَمَّ عارضٌ يَصُدُّ عن مراجعة الأصل، فاقتضى أنّ سِوَى ما ذكر يجوز فيه الأوجه الثلاثة، وذلك إخلاف. ومن شرطه في هذا النظم أن يأتى بالقواعد موفّاةً وبالمسأل محرَّرَةً، وليس من شرطه أن يذكر جميع مسائل النحو بإطلاق؛ إذ لم يقدر على ذلك في التسهيل الذى بناه على الاستيفاء، فما ظنك بهذا المختصر؟ ! فأمّا لزوم تأخير المفعول فنقصه منه مواضع:
أحدها: أن يكون ضميرًا متّصلا بالفاعل، نحو ضربته وأكرمته.
والثاني: / أن يكون العامل في المفعول مصدرًا مضافًا إلى فاعله، نحو: عجبتُ من ضَرْبِ (زيدٍ عمرًا. ومثلُ ذلك: ضرب القومُ بعضُهم بعضا)، فلا يجوزُ هنا توسيط بعض ولا تقديمه، قال بعضهم: لما يلزمُ من الفصل بين البدل والمُبدَلِ منه. وبالجملة فالسماعُ على التزام تقديم الفاعل وبدلهِ على المفعول. وكذلك أيضًا لا يجوزُ عندهم أن يقال: ضرب بعضَ القوم بعضٌ.
وأما لزوم تأخير الفاعل فنقص منه مواضعُ أيضا:
أحدها: أن يكون المفعولُ ضميرًا مُتّصلا والفاعل ظاهرٌ، نحو: أكرمك زيدٌ.
والثاني: أن يكون المصدرُ هو العاملَ، وهو مضاف إلى المفعول بحضرة الفاعل، نحو: أعجبني ضربُ زيدٍ أَخُوكَ.
والثالث: أن يكون العامل صفةً جَرَت على غير من هى له، نحو: مررتُ بامرأةٍ ضارِبِها أنت، أو: ضاربها زيدٌ.
والرابع: أن يُضْطَرّ إلى ذلك في الشعر، نحو قول الشاعر:
إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السماءِ القنابلُ
ولو تتبْعت المسائل لكانت أكثر من هذا.
فالحاصل أن في هذا الفصلِ تقصيرًا كثيرًا هنا وفي التسهيل، والتقسيم السباعىّ المتقدم أقربُ ما يقرّر في هذا الموضع، وهو الذى ما زلنا نسمعه من شيخنا الأستاذ -رحمةُ الله عليه- وكان يُعَيِّن لكل قسمٍ مواضعَ معلومة، قرّرها في تقييده على الجمل، أكثرها -أو جميعها- مذكورٌ هنا بالانجرار، ولكن الاستيفاء في مثل هذه الأشياء كالمتعذِّر، وإنما هو أمرٌ تقريبىٌّ، ولذلك لما عدّها رحمه الله قال في آخرها:«وقسم يتقدّم ويتأخر ويتوسط، وهو ما عدا ما ذُكِر، نحو: ضرب زيد عمرًا، وما لم يعرض له عارض فيعمل على مقتضى ذلك العارضِ» . فتحرَّزَ كما ترى ولم يجزم الحكم استظهارًا على ما سَيرِدُ من هذا النوهع. فلو صنع الناظم هكذا لم يَرِدْ عليه اعتراضٌ. ولقد كان يمكن أن يُتَكلّف له الجواب عن بعض هذه الأمور، ولكن التكلف في الأشياء غير محمود، فلنقتصر على إيراد السؤال، ومن قدر على الجواب أجاب. والله الموفق للصواب.
[ختام الأصل]
كمل باب الفاعل، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدن محمد وآله وصحبه وسلم
ويتلوه «النائب» إن شاء الله تعالى
وذكر مقابل النسخة في هامشها
««بحمد لله طالعت هذا السفر من أوله إلى هذا الموضع، متأملًا فهم مسائله، فلله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتب عبد الله -تعالى- محمد بن محمد بن علي الفوجيلى -وفقه الله بمنِّه- أواخر شهر ربيع الثاني عام 1047.
فهرس موضوعات
الجزء الثاني
الموضوع
…
الصفحة
تتمّة باب المبتدأ والخبر ..............................................
…
3
كان وأخواتها ......................................................
…
136
ما ولا وإنْ المشبَّهات بليس ..........................................
…
215
أفعال المقاربة .......................................................
…
261
إنّ وأخواتها ........................................................
…
305
لا التي لنفي الجنس .................................................
…
412
ظنّ وأخواتها ........................................................
…
452
أعْلَم وأرى .........................................................
…
510
الفاعل ............................................................
…
530