المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهنوالعارية والوديعة واللقطة والغصب - شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة - جـ ٢

[ابن ناجي التنوخي]

الفصل: ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهنوالعارية والوديعة واللقطة والغصب

ويتوقف بعد ذلك على شرط اتفاق المدنيين فمتى حصل ذلك الشرط تم الحكم وهو وجوب الميراث.

(والولاء للأقعد من عصبة الميت الأول فإن ترك ابنين فورثا ولاء مولي لأبيهما ثم مات أحدهما وترك بنين رجع الولاء إلى أخيه دون بنيه وإن مات واحد وترك ولدًا أو مات أخوه وترك ولدين فالولاء بين الثلاثة أثلاثًا):

اعلم أن المعتق وابنه أقوى من الأب فلا شيء للأب مع وجود أحدهما والأخ الشقيق أو للأب وأبناؤها مقدمون على الجد، وهو مقدم على العم وابنه والولاء كالعصوبة في عدمها.

قال ابن الحاجب: كالمدونة وغيرهما فيفيد عن عدمها الميراث، وولاية النكاح وحمله العاقلة.

قال ابن عبد السلام: لا يقتصر بإفادته على هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرها بل كل موضع للعصبة فيه مدخل كصلاة الجنازة وغسل الميت، وربما لا يشترط عدم العصبة في بعض مسائل النكاح.

قلت: قال بعض شيوخنا: يلزم على قوله أن يكون للمعتق القيام بقذف معتقه وهو يعيد والحق في ذلك اتباع النصوص والله سبحانه الموفق للصواب.

‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن

والعارية والوديعة واللقطة والغصب

قال عياض رحمه الله: هي بتسكين الفاء.

قلت: وحكي بعض فضلاء أصحابنا عن النووي فيها الضم قال عياض: وأصل ذلك من الشفع، وهو ضد الوتر؛ لأن الشفيع يضم الحصة التي يأخذها إلى حصته فتصير حصته حصتين. وقيل: من الزيادة؛ لأنه يزيد مال شريكه إلى ماله وهو يقرب من الأول.

وقيل: من الشفاعة؛ لأنه يشفع نصيبه إلى نصيب صاحبه.

وقيل: كانوا في الجاهلية إذا باع الرجل حصته جاء المجاور شافعًا إلى المشتري ليوليه ما اشتراه.

وحقيقتها في الاصطلاح وقال ابن الحاجب: الشفعة أخذ الشفيع حصة شريكه جبرًا بشراء، واعترضه ابن هارون بأنه غير مانع؛ لأنه يقتضي وجوب الشفعة في العروض وهى لا شفعة فيها. قال بعض شيوخنا لا يخفي سقوط ما اعترض به لذي فهم.

ص: 232

قال ابن عبد السلام: نقض عليه بأخذ أحد الشريكين مشتركًا بينهما لا ينقسم بما وقف عليه بثمن إذا دعا أحدهما إلى بيعه. وقال: وجوابه بأن المأخوذ هو كل المشترك لاحظ الشريك ليس بقوي.

قال خليل: وأحسن من هذا الجواب أن يقال: لا نسلم أنه يأخذه أحدهما جبراً بل اختياراً من صاحبه إذ له أن يزيد فوق ما أعطى شريكه بخلاف الشفيع فإنه يأخذ الحصة بمصل الثمن من غير زيادة.

قلت: واعترضه بعض شيوخنا أيضًا بأن حده إنما يتناول أخذها لا ماهيتها وهو غير آخذها لأنها معروضة له ولنقيضه وهو تركها، والمعروض لشيئين متناقضين ليس عين أحدهما وإلا اجتمع عليه النقيضان وحدها بأن قأل: هي استحقاق شريك أخذ مبيع شريك بثمنه.

(وإنما الشفعة في المشاع ولا شفعة فيما قد قسم ولا لجار ولا في طريق ولا عرصة دار قد قسمت بيوتها):

يريد في غير العروض، وما أشبهها حسبما يأتي إن شاء الله تعالى، واختلف في الشفعة هل هي معللة أم لا؟ فقيل: إنما غير معللة بل هي عبادة نقله ابن العربي عن إمام الحرمين وقيل: معللة بضرر من الشريك الذي أدخله البائع قاله ابن رشد في أجوبته قائلاً: أجمع عليه أهل العلم.

واعترضه بعض شيوخنا بأن في نقله تنافيا لقوله في مقدماته في كونها لضرر الشركة أو للقسم قولان للمتأخرين.

واختلف هل في المناقلة شفعة أم لا؟ وهي بيع شقص بعقار على أربعة أقوال: فقيل: بثبوت الشفعة فيها كغيرها قاله مالك، وابن القاسم، وقيل: لا حكاه ابن الجلاب، قال خليل: ولم أره، ولعل صاحبه رأى أنه من باب المعروف، وقيل: إن علم القصد بالمسكن فلا شفعة، وإلا وجبت قاله مالك أولا ثم رجع إلى ما تقدم.

وقيل: إن ناقل بحصته حصة بعض شركائه فلا شفعة ذكره ابن الحاجب وذكر الأربعة الأقوال ولم يذكره المغربي إلا تقييدًا وذلك أنه قال: إن مطرفًا وابن الماجشون قالا: إن المناقلة التي قال فيها مالك لا شفعة إنما هي إذا باع شقصه من شريكه بشقص له فيه شرك، ويكون كل واحد إنما أراد التوسعة في حصته بما صار إليه وكذلك ذكره اللخمي وابن رشد، وغيرهما.

قال خليل الله: ولعل ما نقلاه عن مالك بنفي الشفعة هو القول الثاني، قال

ص: 233

ابن حارث: واختلف في الشفعة في الكراء، قال ابن القاسم: إن اكتري رجلان دارًا أو أرضًا ثم اكتري أحدهما حصة فلا شفعة لشريكه، وقاله سحنون، وقال ابن القاسم في المستخرجة له الشفعة، وقاله أشهب، وقال: وكذلك لو اكترى أحد الشريكين في دار حظه منها فلشريكه الشفعة.

قال ابن رشد: إنما وقع اختلاف قول مالك في الكراء في الواضحة، وبقوله بالشفعة فيه قال ابن الماجشون، وابن عبد الحكم وبنفيها فيه قال ابن القاسم، ومطرف وأصبغ وابن حبيب.

قال ابن المواز: ولو كان الأصل لواحد فأكرى نصفه مشاعا ثم أكري المكتري لغيره فلرب الأصل الشفعة.

(ولا في فحل نخل أو بئر إذا قسمت النخل أو الأرض):

قال ابن رشد: وقيل إن الشفعة في الأصول ثابته، وإن لم تنقسم وقيل: تقصر على ما يحكم بقسمته، وقيل: تقصر على ما ينقسم، وإن لم يحكم بقسمته.

قلت: وإلى هذا يرجع اختلافهم في هذا الأصل، وسأذكر بعضه على طريق الاستئناس، وقال الشيخ أبو محمد عن محمد بن المواز لم يختلف مالك وأصحابه أن الشفعة في الحمام.

وقال ابن الماجشون في غير الموازية أبي مالك من الشفعة في الحمام؛ لأنه لم ينقسم إلا بتحويله عن كونه حمامًا، وأنا أرى فيه الشفعة.

قال بعض شيوخنا: وما ذكر عن ابن الماجشون: هو خلاف نقل اللخمي عنه،

ص: 234

قال رواية المدونة في الحمام الشفعة، وقال ابن الماجشون: لا شفعة فيه هو خلاف قوله في النخلة والشجرة الشفعة.

قال ابن عبد السلام: وفي المدونة ما يدل على القولين قال غيره، وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف، وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون وأصبغ، وقال صاحب الوجيز وعدم الشفعة هو المشهور.

وقال صاحب المعين: وبه القضاء، وأفتى فقهاء قرطبة به لما جمعهم القاضي منذر بن سعيد إذ كان به القضاء عندهم فرفع الشفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد، وقال: حكم عبى بقول غير مالك فوقع بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاورهم فقالوا: مالك يرى الشفعة في الحمام فقضي منذر بن سعيد بذلك وحكم بها.

قلت: وقيل هذا غير واحد كخليل واستشكل شيخنا أبو مهدي رحمه الله نقض حكم نفسه مع كونه حكم بما عليه العمل وأجاب باحتمال أن يكون إنما حكم به لكونه معتقدا أنه قول مالك فلما أخبر بخلافه ولم يخفظوا له غيره على ظاهر ما تقدم حكم بنقض الأول لا لغير ذلك؛ لأنه كان لا يخالف في الله لومة لائم حسبما هو مذكور في محله.

قال ابن حارث: واختلف في الشفعة في الأندر فقال أشهب وابن نافع في سماع عبد الملك فيه الشفعة، وفي سماع سحنون لا شفعة فيه يعني في الأندر، ولا في الأفنية.

واختلف في حجر رحا الماء إن بيعت على ثلاثة أقوال: ففي المدونة لا شفعة فيها، وقال ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن سحنون فيه الشفعة، وقيل: الشفعة في الحجر السفلي دون الأعلى قاله عبد الحق وبعض شيوخه، قال عياض: وأشار الباجي إلى أن الخلاف في حجر رحا دون محلها وأشار التونسي إلى أن الخلاف فيهما.

(ولا شفعة إلا في الأرض وما يتصل بها من البناء والشجر):

ظاهر كلام الشيخ أن الثمرة لا شفعة فيها وهو كذلك عن ابن الماجشون وسواء بيعت مع الأصل أو دونه والشفيع شريك في الأصل أم لا؟

وقيل: إن الشفعة فيها ثابتة قاله مالك في المدونة قائلاً: ما علمت أحدا من أهل العلم قاله قبلي ولكني استحسنته، وقيل: إن بيعت مع الأصل ففيها الشفعة وإلا فلا قاله أشهب وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها غير واحد وكذلك استحسن مالك في الشفعة في نقض الحبس.

ص: 235

قال في المدونة: وإذا بنى قوم في دار حبست عليهم ثم مات أحدهم فأراد ورثته بيع نصيبه من البناء فلإخوته فيه الشفعة، وهي شيء استحسنته وما سمعت فيه شيئًا وخارج المدونة قول لابن المواز بأنه لا شفعة في ذلك.

واعم أن مالكاً لم يقل بالاستحسان إلا في خمس مسائل هاتان وقول قسمتها إذا أوصت الأم بالصبي ولمالها فإن كان يسيرا نحو ستين دينار فلا ينتزع من الصبي استحسنه مالك وليس بقياس والقصاص بالشاهد واليمين في كل أنملة من الإبهامين خمس من الإبل.

وسمعت شيخنا أبا مهدي عيسى رحمه الله تعالى ينقل عن أبي بكر عن العربي أنه قال في كتابه المسمى بالمحصول في أصول الفقه: أنكر الشافعي وأصحابه الاستحسان وكفروا أبا حنيفة في القول به تارة، وبدعوه تارة وبه قال مالك ولم يكن في أصحابه شديد عارضة يبرزه إلى الوجود، وقد تتبعناه في مذهبنا فألفيناه ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف.

الثاني: ترك الدليل لمصلحة كتضمين الصناع، والدليل يقتضي ائتمانهم.

الثالث: ترك الدليل لإجماع الصحابة كإيجاب القيمة على من قطع ذنب بغلة القاضي.

الرابع: ترك الدليل في اليسير ورفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق بجواز التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير.

قال أبو محمد وغيره قال ابن المواز: لو ساقي أحد الشريكين في النخل حظه منها فقال أشهب: لا شفعة لشريكه في ذلك، وأظن أن ابن القاسم يرى له الشفعة وجدته في كتاب، ولا أدري ممن سمعته.

وظاهر كلام الشيخ أنه لا شفعة في العروض وهو كذلك باتفاق عند أهل العلم ولذلك أنكروا نقل الإسفراييني من الشافعية عن مالك وجوب الشفعة فيها وفي الحيوان وقد أكثر الشيوخ الاعتذار عنه وكذلك حكي بعض الحنفية عن مالك وجوب الشفعة في السفن؛ لأنها تشبه الرباع.

قال ابن عبد السالم: وهو لا يصح نعم الشفعة في رقيق الحائط ودوايه عند أهل المذهب على أن بعض الشيوخ خرج من ذلك خلافًا كثيراً، وكذلك لا شفعة في الممر ومسيل الماء.

قال ابن عبد السلام: ولا يبعد تخريج الخلاف فيهما من الخلاف في النخلة

ص: 236

الواحدة وشبهها، وكذلك لا شفعة في الدين باتفاق، واختلف هل يكون المديان أحق به أم لا؟ فقال ابن القاسم: لا يكون أحق به، وقيل: هو أحق به للضرر الذي يدخل عليه فيأخذه بقيمة العرض إن كان الثمن عرضا، وبعدده إن كان عينا، والقولان حكاهما ابن حارث رحمه الله تعالى.

(ولا شفعة للحاضر بعد السنة):

اختلف المذهب هل تسقط الشفعة بنفس الشراء إذا كان الشفيع حاضرا عالما بالبيع أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: تسقط به قاله ابن وهب في كتاب ابن شعبان، وقيل: هو على شفعته أبدًا ما لم يوقف قاله مالك والأبهري.

وقيل: إنها تسقط بمضي مدة طويلة وعلى الثالث فاختلف في منتهي المدة على تسعة أقوال:

فروى أشهب، وقال به: إن مضيت سنة فلا شفعة له، وهو مذهب الشيخ رحمه الله.

وقيل: لا يكفي ذلك بل حتى يمضي مع ذلك أكثر من شهرين نقله المتيطي عن ابن الهندي ونحوه لابن فتوح غير معزو وكأنه المذهب وحكى الصدفي يسقطها ما زاد على ثلاثة أشهر.

وقال ابن سهل: بل على أربعة أشهر، وقال أصبغ: وهو على شفعته الثلاث سنين ونحوها قيل له بأكثر من ذلك قال: ليس هذا طولا ما لم يحدث المشتري بناء، وقيل: تثبت للحاضر إلى أربعين سنة قاله ابن الماجشون. ثم رجع إلى عشر سنين وكلاهما حكاه ابن رشد في مقدماته عن أحمد بن المعذل.

وروي عن أبي عمران أنه يسقطها ثلاثون سنة وعن بعضهم خمسة عشرة سنة فيتحصل في ذلك أحد عشر قولا، وهذه المسألة إحدي المسائل الستة، وهي إحدى وعشرون مسألة وقد ذكرتها في اللقطة حسبما تقف عليه عن قريب إن شاء الله تعالى.

وتسقط الشفعة بالمغارسة والسكوت وهو يبنى ويهدم ويغرس، واختلف في المساومة والمساقاة والاستئجار والمشهور أنها مسقطة خلافًا لأشهب والمعبر في إسقاط الشفعة أن تكون بعد الشراء، وأما قبله فكالعدم على المنصوص؛ لأنه إسقاط للشيء قبل محله.

وخرج اللخمي اعتباره من قوله في المدونة إن اشتريت عبد فلان فهو حر، وإن تزوجت فلانة فهي طالق، ومن جعل لزوجته الخيار إن تزوج عليها فأسقطت ذلك الخيار قبل أن يتزوج عليه قائلاً: وهو في الشفعة أبين؛ لأنه أدخل المشتري في عهدة

ص: 237

الشراء فهو كهبة قارنت البيع.

وفي أجوبة ابن رشد: الفرق بين قوله: وإن تزوجت فلانة فهي طالق وإن اشترى فلان شقص كذا فقد أسقطت عنه الشفعة إن الطلاق حق لله تعالى لا يملك المطلق رده إن وقع لو رضيت المرأة برده إذا ليس بحق لها، وإسقاط الشفعة إنما هو حق له لا لله يصح له الرجوع فيه برضى المشتري فلا يلزم إلا بعد وجوبه، وذكر ابن بزيزة القولين منصوصين قال: وهما جاريان على لزوم الوفاء بالوعد قال خليل: وقد يقال: هما على الخلاف فيما جر سببه دون شرطه أن الشركة سبب والبيع شرط.

(والغائب على شفعته وإن طالت غيبته):

ما ذكر مثله في المدونة قال فيها: الغائب على شفعته، وإن طالت غيبته، وهو عالم بالشراء وإن لم يعلم بذلك أحرى.

قال ابن عبد السلام: لو قيل: العالم بالشفعة في غيبته لا يوسع له في الأجل إذا قدم له لكان له وجه، وهذا كله في الغيبة البعيدة، وأما ما قرب ولا ضرورة في الشخوص إليه على الشفيع فهو فيه كالحاضر، ونص عليه أشهب.

قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: المريض الحاضر والصغير والكبير كالغائب، ولهم بعد زوال العذر ما للحاضر سواء علم المريض والغائب بالشفعة أم لا!!

وقال أصبغ: المريض كالصحيح إلا أن يشهد في مرضه وقت الشفعة إنه على شفعته، وإن تركه التوكل عجز عنه وإلا فلا شيء له، ولما ذكر الباجي قول أشهب في إشهاد المريض، وقال: وهذا يقتضي أن الغائب إنما يبقي على شفعته إن لم يعلم فإن علم فإنه يقدر على شهادة بأخذ بالشفعة فإن لم يفعل فحكمه حكم الحاضر.

(وعهدة الشفيع على المشتري):

قال بعضهم: ظاهر كلامه سواء دفع الشفيع الثمن للمشتري أو للبائع أنها على

ص: 238

المشتري وقبله الفاكهاني.

(ويوقف الشفيع فإما أخذ أو ترك):

ما ذكر الشيخ هو المشهور والمعمول به قال المتيطي وابن رشد ووجهه قياسًا على قول مالك في الولي أنه لا يؤخر حتى بنظر قاله ابن رشد، وقيل: أنه يمهل ثلاثة أيام عزاه ابن رشد لابن عبد الحكم قياسًا على المرتد وحديث المصراة، وعزاه ابن يونس واللخمي والباجي لروايته لا لقوله.

قال اللخمي: وهو أحسن إن أوقفه بنفس شرائه؛ لأنه إذا كان لا بنفس شرائه فقد تربص، وأمهل، ونظير هذه المسألة ما في ثالث نكاح المدونة وفي المجوسيين يسلم الزوج فيعرض عليها الإسلام أنه يفرق بينهما إن لم تسلم ولو تؤخر ونظيره أيضًا المملكة يوقفها السلطان فلا يؤخرها وهاتان النظيرتان ذكرهما ابن رشد قائلاً: لا يبعد دخول الخلاف في هذه المسائل كلها، والأصل في هذا المعنى قوله تعالى (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) [هود: 65].

واختلف المذهب إذا طلب أن يؤخر أيامًا ليأتي بالثمن على أربعة أقوال: فقيل: يؤخر ثلاثة أيام قاله في المدونة.

ونقل الباجي عن ابن الماجشون انه يمهل عشرة أيام ونحوها.

قال أصبغ: بقدر قلة المال، وكثرته وعسره ويسره وأقصاه شهر فلا أدري ما وراء ذلك، وقال اللخمي: الشهر كثير للموسر.

(ولا توهب الشفعة ولا تباع):

يريد لغير المشتري قاله المشتري قاله الفاكهاني واختلف إذا أخذ بالشفعة ليبيع على قولين.

(وتقسم بين الشركاء بقدر الأنصباء):

ما ذكر هو المنصوص والمشهور، وخرج اللخمي قولاً باعتبار العدد من قول عبد الملك في المعتقين وحصصهم متفاوتة أن التقويم عليه بالسواء وكأنه رجحه، وحكى الفاكهاني نصا لعبد الملك ولا أعرفه قال خليل: وقد يقال في هذا التخريج نظر إذ لا شك أن العلة هنا الضرر ومتى كثر النصيب كثر الضرر ومتى قل قل بخلاف العتق فإن من قال بالتقويم فيه على قدر الرءوس علل بأنه حق لله تعالى ولا تفاوت فيه.

قال عياض: وخرجه آخرون من قول المدونة في الأقضية أجر القاسم على عدد الرءوس والفرق بين البابين بين، وحكاه ابن الجهم عن بعض أصحاب مالك نصًا.

ص: 239

قلت: وصرح المغربي بالفرق فقال: إن عمل الفريضة وحسابها يكثر لأجل صاحب القليل فذلك فذلك كانت على الرءوس.

واعلم أن لهذه المسائل الثلاث نظائر منها توزيع نفقة الوالد على أولاده وأجرة كاتب الوثيقة، وكانس المراحض وحارس الأندر وزكاة الفطر في العبيد المشتركة وإذا أرسل أحد الصائدين كلبًا والآخر كلبين وإذا أوصى لمجاهيل من أنواع، وكلها ذكرها خليل في النفقات قائلاً: اختلف في جميعها.

(ولا تتهم هبة ولا صدقة، ولا حبس إلا بالحيازة):

قال المغربي: الصدقة نقل الملك بغير عوض، وكذلك الهبة.

قلت: وقال بعض شيوخنا: الهبة تمليك متمول بغير عوض إنشاء فيخرج الإنكاح والحكم باستحقاق وارث إرثه وتدخل العارية والحبس والعمري والصدقة.

قال: والحبس مصدرا إعطاء منفعة شيء مدة وجودة لازما بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديرا.

وقول ابن عبد السلام إعطاء منافع على سبيل التأبيد يبطل طرده بالمخدم حياته، ولا يرد بأن جواز بيعه يمنع اندراجه تحت التأبيد؛ ولأن التأييد إنما هو في الإعطاء، وهو صادق على المخدم المذكور لا في لزوم بقائه في ملك معطيه، وهو اسم ما أعطيت منفعته مدة إلى آخره.

ويلحق بما قال الشيخ من قوله: ولا تتم هبة ولا صدقة ولا حبس إلى آخره القرض والعارية، قاله في المدونة، وغيرها، وأما الكفالة فالمشهور أنها لا تحتاج إلى حيازة، وما ذكر في الهبة متفق عليه، وما ذكر في الصدقة والحبس هو المشهور، وروي أبو تمام أنهما لا يفتقران إلى حيازة حكاه ابن زرقون، والمذهب أنهما لا زمان بالقول ويجبر على التحويز إن هو امتنع.

وكذلك في الهبة على المشهور، وروي عن مالك أنها لا تنعقد إلا بالقبض.

(فإن مات قبل أن تحاز عنه فهي ميراث إلا أن يطول ذلك في المرض فذلك نافذ من الثلث إن كان لغير وارث):

ظاهر كلامه وإن كان جادا في الطلب، وهو كذلك عن ابن الماجشون، وقال ابن القاسم: لا تبطل قال التادلي: وظاهر كلامه أنه لا تؤخذ منه في حالة المرض، ولو كانت له أموال مأمونة.

وروي ابن القاسم أن له أخذها في المرض إن كان له ذلك.

ص: 240

قلت: ما ذكره من ظاهر كلامه هو أحد قولي مالك في كتاب الصدقة، والمال المأمون هو العقار والرباع، قاله مالك في العتق الأول من المدونة.

واختلف في الناض الكثير فعند ابن القاسم: ليس بمال مأمون، وقيل: هو مال مأمون قاله أشهب، وأصبغ.

(والهبة لصلة الرحم أو لفقير كالصدقة لا رجوع فيها):

يريد وكذلك الهبة لليتيم وما ذكره زعم ابن عبد البر الاتفاق عليه وعزاه ابن عبد السلام لبعض الشيوخ كعادته في التعمية بعدم العزو، وقال: فيه نظر فإن مطرفًا قال فيمن وهب هبة لأبيه أو لوجه الله: فله الاعتصار.

وقال ابن الماجشون: لا يعتصر.

قلت: وما ذكره عن مطرف ذكره ابن زرقون بعد أن ذكر كلام ابن عبد البر، وزاد ابن رشد في قول مطرف أنه إذا وهب لولده لوجه الله أو لصلة الرحم أن له الاعتصار أبدًا حتى يسمي الصدقة.

وقال عياض: خرج بعض شيوخنا من إجازة مالك في العتبية لكل ما تصدق به على ابنه الصغير جواز الاعتصار في الصدقة.

(ومن تصدق على ولده فلا رجوع له):

كلامه في المسألة السابقة يغني عما ذكر هنا والله أعلم.

(وله أن يعتصر ما وهب لولده الصغير أو الكبير ما لم ينكح لذلك، أو يداين أو يحدث في الهبة حدثًا):

ظاهر كلام الشيخ: أن الجد لا يعتصر، وهي رواية ابن القاسم في المدونة ورواية ابن وهب في غيرها، وهو المشهور، وروي أشهب أنه يلحق بالأب وهو اختيار ابن عبد الحكم وظاهر كلامه أن الولد إذا نكح لذلك يمنع الاعتصار سواء كان الولد ذكرا أو أثني وهو كذلك على ظاهر المدونة وابن الحاجب وتصريح مالك في الموطأ.

وقال ابن دينار: نكاح الذكر لغير الهبة لا يمنع الاعتصار ولأن الذكر دخل فيما المخرج بيده منه، وذلك في الأنثى بيد غيرها حكاه غير واحد كالباجي.

وظاهر كلامه ولو زال النكاح بموت أو طلاق قبل البناء أو بعده، وهو كذلك عند ابن القاسم، وظاهر كلامه أن المداينة لا يشترط فيها أن تكون على الهبة بل هي مانعة مطلقاً، كما لو كان الابن غنيا فوهب له أبوه هبة يسيرة يرى أنه لا يداين لمثلها، وهو كذلك عند ابن الماجشون.

ص: 241

وقال مالك، وابن القاسم وأصبغ ومطرف: لا يمنع والقولان حكاهما ابن رشد.

قال الباجي: ولو كان الابن مديانا فوهب له أبوه مالا فقال ابن الماجشون: لا يعتصر كما لو تقدمت الهبة، وقال أصبغ: يعتصر، وتغيير السوق لا يفيت نص عليه غير واحد كابن الماجشون.

قال ابن عبد السلام: وهو ظاهر المدونة، وقال بعضهم: لا يختلف فيه ولا يبعد تخريج الخلاف في هذا.

قلت: أراد بالبعض عياضًا رحمه الله تعالى، واعترض بعض شيوخنا قوله: ولا يبعد تخريج الخلاف فيه بأن من حقه أن يبين الذي يتخرج منه الخلاف وذكره دون تعيينه ساقط، ونص متأخر الأصوليين على أن القياس المنكر هو القياس على صورة غير معينة باطل ومثلوه بقول المستدل الزكاة واجبة في الحلي بالقياس على صورة من صور الوجوب فيسقط ليس معارضته بمثله وهو القياس على صورة من صور عدم الوجوب، وللأصبهاني شارح العتبية في ذلك كلام حسن ليس هذا موضعه.

وظاهر كلام الشيخ أن العطية إذا كانت دنانير وصرفها فإنها فوت، وهو كذلك قاله بعض من لقيناه من القرويين وأفتى به.

وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: ليس بفوت والأقرب هو الأول وقد قال ابن الجلاب: وعبد الوهاب خلط الدنانير بمثلها فوت وإن كان استقر لي من المدونة خلافه، وذلك أنه قال في المدونة: من اتباع زيتا فصبه بمحضر بينة على زيته ثم فلس فالبائع أحق بقدر زيته، وهو كعين قائمة، وكذلك خلط الدنانير ومسألتنا أشد والله أعلم.

الحمل من الولد مفيت اتفاقًا وفي مجرد الوطء قولان.

(والأم تعتصر ما دام الأب حيًا فإذا مات لم تعتصر ولا يعتصر من يتيم واليتم من قبل الأب):

قال الفاكهاني: هكذا روايتنا من يتيم في هذا الموضع، وفي بعض النسخ: والأم تعتصر ما دام الأب حيًا فإن مات لم تعتصر ولا يعتصر من يتيم.

قلت: هما في المعنى واحد، وظاهر كلام الشيخ أنها تعتصر من ولدها اليتيم حالة الهبة، وإن كان غنيا، وهو كذلك قاله جمهور أصحاب مالك.

قال الباجي: وروى ابن المواز عن أشهب أن اليتيم إذا كان غنيا أن لها أن تعتصر كما تعتصر من الكبير.

ص: 242

واختلف إذا وهبته في حياة أبيه ثم مات الأب ففي الاعتصار قولان: قال المغربي: والتهذيب يحتمل القولان قال فيها: وللأم أن تعتصر ما وهبت أو نحلت لولدها الصغير في حياة أبيه فيحتمل أن يكون العامل في حياة أبيه تعتصر أو قوله وهبة.

وظاهر كلام الشيخ: وإن وقعت حيازة أن لها أن تعتصر، وهو المشهور، وقال ابن الماجشون: لا تعتصر ما حاز عنها له أبوه أو وصيه أو هو إن كان يلي نفسه، وإنما تعتصر ما وهبت له إن كانت هي التي تليه فلم تخرج الهبة من يدها حكاه ابن حارث وغيره.

(وما وهبه لابنه الصغير فحيازته له جائزة إذا لم يسكن ذلك أو يلبسه إن كان ثوبًا وإنما يجوز له ما يعرف بعينه وأما الكبير فلا تجوز حيازته له):

قال ابن عبد السلام: يقع في الإشهاد رفع يد الملك ووضع يد الحوز وظاهر كلامه أن ذلك على طريق الشرطية.

وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: الصواب عندي ما رأيته بخط ابن رشد وليس في شرحه لا يحتاج إلى الكتب برفع يد الملك ووضع يد الحوز، وما يكتبه جهلة الموثقين من ذلك لا يحتاج إليه.

واختلف فيما لا يعرف بعينه من المكيلات والموزونات فقيل: يكون حوزه فيها كغيره، وقيل: لا، كما قال الشيخ بل يجوز غيره وذكره الهبة طردي بل وكذلك الصدقة وكذلك ذكر الصبي وكذلك ذكر السفيه، وأراد بالكبير الرشيد، والوصي، ومقدم القاضي ملحقان بالأب وألحقوا الأب بالأجنبي في هبة دار سكناه فشرطوا معاينة الشهود الدار خالية من شواغل الأب.

قال الباجي عن ابن العطار: إن وهب أحد الوصيين يتيمهما لم يجز حوزه له وقيل: يجوز.

قلت: واختار بعض شيوخنا إن رضي الوصي الثاني وإلا فالأول، واختلف إذا قبض الزوج ما وهب لزوجته بدون أمرها فقيل: حوزه لها ماض قاله ابن الماجشون.

وقال ابن القاسم، وأصبغ: كالعدم فلا يصح وكلاهما حكاه ابن حارث.

قلت: وأخذ المغربي القول الأول من المدونة من قولها: ومن وهب لحاضر أو غائب أرضًا فقبض الحاضر جميعها فقبضه حوز للغائب، وإن لم يعلم ولا وكله، ونقل ابن حارث عن عبد الملك في مسألة المدونة: أنه ليس بحوز وكان عبد الملك رأى أن قبض الزوج ما وهر لزوجته كأنها وكلته عليه بخلاف الغائب فلا تناقض في كلامه-

ص: 243

والله أعلم – ولذا ينبغي حمل الخلاف على أنه خلاف في حال.

(ولا يرجع الرجل في صدقته ولا ترجع إليه إلا بالميراث):

كلام الشيخ رحمه الله يحتمل الوجهين الكراهة والتحريم، وظاهره أن الهبة بخلاف ذلك قال اللخمي: واختلف في خمسة مواضع هل النهي على الوجوب أو على الندب؟ وهل النهي عن الشراء من المتصدق عليه أم منه أو ممن صارت إليه؟ وهل تدخل في ذلك الصدقة الواجبة أو لا؟ وهل الهبة كالصدقة أم لا؟ وهل المنافع كالرقاب أم لا؟ وهل العود بالثمن أو بغيره؟ فذكر في الأول المشهور من المذهب أن النهي في ذلك على الندب.

قال مالك: لا ينبغي أن يشتريها، وقال: يكره، وقال الداودي: هو حرام وظاهر الموازية لا يجوز قال: والأول أحسن لأن المثل ضرب لنا بما ليس بحرام.

قلت: واعترض بعض شيوخنا ما استدل به بأن التعليل يدل على ذم الفاعل لتشبيهه بالكلب العائد في قيئه، والذم على الفعل يدل على حرمته.

وقال عز الدين بن عبد السلام وأبعد اللخمي عن ذكر قواعد أصول الفقه حسبما قاله المازري في صلاة الجنازة. قال: هذا والله أعلم، وكذلك قول ابن عبد السلام المشهور الكراهة فيه نظر؛ لأن ظاهر كلام اللخمي فبما حكاه عن الموازية أن معنى لا يجوز الحرمة، وهو لفظ المدونة وسماع ابن القاسم ولم يحك ابن رشد في سماع عيسى غير لفظ لا يجوز.

قلت: تبع ابن عبد السلام اللخمي في تصريحه بالمشهور كما تقدم إذ معنى كلامهما واحد إلا أن عبارة ابن عبد السلام أشد لأنهما يتكلمان في النهي وليس الندب من عوارضه.

وظاهر كلام شيخنا أنه انفرد به وليس كذلك.

قال التادلى: واختلف إذا أخرج لسائل كسرة فلم يجده على ثلاثة أقوال ثالثها لابن رشد: إن أخرجها لسائل معين أكلها، وإلا فلا وفي النوادر: ولو أخرجها لسائل فلم يقبلها فليعطها لغيره وهو أشد من الذي لم يجده وفرق ابن رشد في بيانه بينهما بأنه لما أن وجده فأبي أن يقبلها وقد كان له أن يقبلها فردها أشبه عند ردها إليه بعد قبوله إيهاها ولعله إنما ردها إليه ليعطيها لغيره مثل أن يقول له أنا لا حاجة لي بها فادفعها لغير فيكون ذلك قبولا منه لها، ويكون بذلك راجعا في صدقته.

(ولا بأس أن يشرب من لبن ما تصدق به ولا يشتري ما تصدق به):

ص: 244

يريد بلا بأس هنا لما غيره خير منه قال الفاكهاني: الظاهر أن هذا خلاف قول المدونة في كتاب الصدقة، ومن تصدق على أجنبي بصدقة لم يجز له أن يأكل من ثمرتها، وأي فرق بين اللبن والثمرة فانظره.

ونحوه قول شيخنا أبي مهدي رحمه الله تعالى: الصواب أن له الأكل من الثمرة كاللبن.

قلت: ويظهر لي فرق بينهما من حيث المعني، وهو أن الابتذال في اللبن أغلب من الثمرة والله أعلم.

قال التادلي: وانظر هل يأكل من ربح ما تصدق به يجري على حكم اللبن بل هو أجوز منه والله أعلم، وإذا تصدق بداية فلا ينتفع بركوبها قاله في كتاب الصدقة من المدونة بأثر ما تقدم عنها.

وزعم ابن عبد السلام: أن المشهور الجواز وعزا عدم الانتفاع لعبد الملك، واختاره بعض الشيوخ للأحاديث الواردة في هذا الباب وأما العرية فقد تقدم أن ذلك إنما جاز للضرورة أو لقصد المعروف.

(والموهوب للعوض إما أثاب القيمة أو رد الهبة فإن فاتت فعليه قيمتها، وذلك إذا كان يرى أنه أراد الثواب من الموهوب له):

ما ذكر الشيخ أن الموهوب إذا أتي بالقيمة لا مقال للواهب هو المشهور، وقال مطرف: يخير الواهب حينئذ فإن شاء سلمها له بذلك، وإن شاء استرجع هبته حتى يرضي كذا عزاه أكثرهم، وعزاه ابن رشد له ولروايته وعزاه الباجي له ولسماع ابن القاسم وأبهم اللخمي روايته فعزاه له، ولمالك، ونقل الفاكهاني عن الباجي مثل عزو ابن رشد، وهو غلط لا شك فيه، وهذا القول هو قائم من كتاب الشفعة من المدونة، قال فيها: ولو أثابه بعد تغييرها أضعاف القيمة قبل قيام الشفيع ثم قام لم يأخذ إلا بذلك كالثمن الغالى وإنما يهب الناس ليعارضوا أكثر.

قال مطرف وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه قال في الموطأ: ومن وهب هبة يرى أنه أراد الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها.

وظاهر كلام الشيخ أن الموهوب بالخيار ولو قبض الشيء الموهوب، وهو كذلك في المشهور وروى ابن الماجشون عن مالك أن القبض فوت يوجب القيمة، ولابن القاسم أن حوالة الأسواق فوت، وقاله أشهب، وأصبغ، وظاهر كلامه أن الزيادة والنقصان مما تفوت به الهبة فتلزم القيمة.

قال الباجي: وهو المشهور عن مالك، وقاله ابن القاسم، ولمالك وأشهب أن

ص: 245

والزيادة لا تلزم بها الموهوب القيمة، قال أشهب: وهو معنى قول مالك ليس للموهوب له ردها في النقص ولا للواهب في الزيادة.

وقال ابن عبد الحكم: ليس له الزيادة إلا باجتماعها زادت القيمة أو نقصت.

قال ابن رشد: واختلف إذا تشاح الواهب والموهوب له فيما يكون ثوابًا، فقال أشهب: تتعين الدنانير والدراهم، وقال سحنون: لا تتعين ويصح أن يثيبه بكل ما يتمول، وقال ابن القاسم في المدونة: إلا فيما لا يثاب منه عادة كالحطب، وفي المدونة: لا ثواب في هبة العين ابن القاسم إلا بشرط، واختلف في هبة الحلى. فقال ابن القاسم فيه الثواب.

وقال أشهب: بعكسه والقولان حكاهما المتيطي رحمه الله تعالى، واشتهر الخلاف في اعتبار القيمة هل هي يوم الهبة أو يوم الحكم إلا فيوم القبض على قولين: وكلاهما لمالك رحمه الله تعالى.

قال الفاكهاني: ورأيت لابن عبادة البطليوسي التفصيل بين أن يكون العوض مما لا تتعين فيه الهبة فيوم الحكم وإلا فيوم القبض فكأنه تفقه فيه وهو عندي لا بأس به.

(ويكره أن يهب لبعض ولده ماله كله وأما الشيء منه فذلك سائغ):

إنما كان مكروها خشية العقوق، ولذلك قال: وأما الشيء منه فذلك سائغ؛ لأنه يؤدي على البر.

(ولا بأس أن يتصدق على الفقراء بماله كله لله):

قال الفاكهاني: لأنه فعل خير وقربة، وقد أثنى الله تعالى على فاعل ذلك فقال:(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)[الحشر:9]

وبقوله: (وما انفقتم من شيء فهو يخلفه)[سبأ: 37]

وقوله: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)[الحشر:9]

، وفي الحديث:" ينادي مناديان كل يوم في السماء: اللهم أعط كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا"، وهذا له عندي شرطان أن لا يتشوش إذا بقي بغير شيء إلى أن يفتح الله عليه وأن يكون ما يرجوه مثل المال المتصدق به في الحلية.

قلت: كلامه يدل على أن لا بأس هنا: راجحة الفعل من حيث الجملة، وقال التادلي: يريد مع الكراهة إذا بلا قائل بجوازه دونها

ص: 246

قلت: وقال سحنون في العتبية من تصدق بكل ماله ولم يبق ما يكفيه ردت صدقته كذا عزاه اللخمي، وتعقبه بعض شيوخنا بكونه لم يجده في العتبية إلا في سماع ابن القاسم تصدق بكل ماله وتخلى عنه صحيحا فلا بأس به قال: وظاهر قوله ردت صدقته أنه لا يلزمه شيء، ولما ذكر ابن بشير الخلاف في إمضاء فعله بعد الوقوع والنزول ولم يعزه.

قال: وفي الشريعة ما يدل على الوجهين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة من أبي بكر بجميع ماله ورده على كعب بن مالك وغيره، وقد قال أبو حامد الإسفراييني: إن من يرجع إلى اليقين كما رجع إليه أبو بكر بحيث لا يسخط فتجوز صدقته بجميع ماله ومن يكون على خلاف في ذلك فلا ويرد إليه فيجعل ذلك خلافًا في حال.

(ومن وهب هبة فلم يحزها الموهوب له حتى مرض الواهب أو أفلس فليس له حينئذ قبضها):

يريد بالمرض المخوف عليه، وظاهر كلام الشيخ أن إحاطة الدين بمال الواهب ليست بمانعة من الحيازة بل حتى يفلس، وهو كذلك عند أصبغ.

قال ابن الماجشون، ومطرف: الدين أولى ويشترط في صحة القبض أن يكون الواهب في عقله نص على ذلك ابن القاسم.

قال الباجي: يريد ويكون موقوفا فإن اتصل ذلك بموته بطلت وإلا جاز ذلك.

وقال ابن عبد السلام: إنما يتبين هذا على القول الشاذ أن الهبة لا تلزم بالقول، وأما على القول المشهور أنها تلزم به فمقتضى القياس كان دفعها للموهوب له والفرق بين ذهاب العقل وبين المرض والدين أن الحق في ذهاب العقل للواهب وقد أسقطه بالتزامه، وهو في المرض لغير الواهب، وهو للوارث، وكذلك في الدين لغير الوارث، ولا يلتزم أحدهما شيئًا، وشرط إنفاذ الهبة قد فات فتبطل الهبة.

(ولو مات الموهوب له كان لورثته القيام فيها على الواهب الصحيح):

ما ذكر مثله في أول كتاب الهبة من المدونة قال فيها: وإن وهبت هبة لحر أو عبد فلم يقبضها حتى مات فلورثة الحر، وسيد العبد قبضها، وقال: في كتاب الصدقة في المرسل بهدية يموت المرسل أو يموت المرسل إليه قبل وصولها فإنها ترجع إلى المهدي أو لورثته واستشكلت وأجيب بقوة الحوز إذا مات الواهب وباحتمال أن لا يقبل الموهوب له العطية لو وصلت إليه.

قال ابن عبد السلام مضعفا له: وقد علمت أن هذا الاحتمال قائم إذا أشهد

ص: 247

الواهب مع ذلك فلا أثر له، وأيضًا لو كان هذا التعليل صحيحا لما افترق الحكم بين هبة الحاضر والغائب فالصواب عنده تعليل المسألة بأن الإشهاد هو غاية المقدور عليه في التحويز فإن موت الموهوب لا يضر في الحيازة ألا ترى إلى قوله في المسألة التي قبل هذا: وما اشترى الرجل من هدية لأهله في سفره من كسوة ونحوها ثم مات قبل أن تصل إلى بلده فإن كان أشهد على ذلك فهي لمن اشتراها له، وإن لم يشهد فهي ميراث فقد أمضى، هذه الهدية مع عدم القبول.

(ومن حبس دارًا فهي على ما جعلها عليه إن حيزت قبل موته ولو كانت حبسًا على ولده الصغير جازت حيازته له إلى أن يبلغ وليكرها له ولا يسكنها):

اعلم أن المذهب وبه قال أكثر العلماء في الحبس أنه مندوب إليه.

قال بعض شيوخنا: ويتعذر عروض وجوبه بخلاف الصدقة، وقال أبو حنيفة وأصحابه ممنوع لقوله تعالى:(ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام)[المائدة: 103]

وما في معني هذا من الآي وليس معناه كما ظنوه إذ مقتضي الآية الكريمة توبيخهم على اتباع خطوات الشيطان وليس ما يحبسه الإنسان على ولده أو غيره بشيء من ذلك بل هي قربة، وأيضًا فقد وقع الإجماع على تحبيس المساجد والطرقات، والقناطر وللقوم احتجاج يطول جلبه ورده فمن شاءه فلينظره في المطولات.

قال الباجي: وقد نزع أبو يوسف عن مذهبه إلى مذهب مالك لما ظهر عليه مالك في مجلس الرشيد، وقال: هذه أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلها أهل المدينة خلفهم عن سلفهم يشير بذلك إلى الخير المتواتر، وهذا فعل أهل الدين والعلم في الرجوع إلى الحق متى ظهر، وتبين ولا خلاف عندنا أنه يصح في العقار المملوك لا

ص: 248

المستأجر.

قال اللخمي: ومن حبس حظه في مشاع قبل أن يأذن شريكه فإن كان المشاع مما ينقسم بما خرج للحبس مضى حبسًا، وإن كان مما لا ينقسم رد الحبس للضرورة؛ لأنه لا يقدر على بيع الجميع وإن فسد فيه شيء لم يجد من يصلحه معه، وما ذكر مثله في نوازل الشعبي، وقال بعض شيوخنا في القسم الأول هذا على أن القسم تمييز حق، وإما على أنه بيع فإنه يؤدي إلى بيع الحبس إلا أن يقال الممنوع بيعه ما كان معينا لا المعروض للقسم؛ لأنه كالمأذون في بيعه من محبسه.

قال: وما ذكر اللخمي عن المذهب هو أحد الأقوال الثلاثة، وقال ابن حبيب، وابن الماجشون فيما لا ينقسم: يباع فما أصاب المحبس اشترى به مثل ما حبسه فيه وظاهر آخر مسألة من شفعة المدونة أنه جائز مطلقًا، ولا مقال للشريك، ونقله ابن سهل عن ابن زرب.

قلت: ولم يذكر ابن عبد السلام إلا القول الثاني: وعزاه لبعضهم زاد واختلفوا هل يقضى عليه بذلك أم لا؟

واختلف قول مالك في وقف العروض وكذلك اختلف قوله أيضًا في الحيوان فقيل: يجوز في الخيل وحدها.

واعلم أن الحبس لا يصح بالشاهد واليمين، وقال أبو عمران الصنهاجي: وكذلك النكاح والطلاق والعتق والولاء والنسب، والوصايا لغير المعينين وهلال رمضان وهلال ذي الحجة، والتمويت والقذف والإيصاء، ونقل الشهادات والترشيد.

قلت: زاد شيخنا أبو مهدي الحضانة لا يصح إسقاطها بشاهد ويمين قال أبو عمران، وفي التعديل والتجريح خلاف وكذلك الوكالة وشاهد على نكاح امرأة وقد ماتت وشاهد على نسب رجل أنه قد مات وكذلك على ولاء رجل أنه قد مات وترك مالا.

قلت: وكذلك الأدب بالشاهد واليمين ذكره ابن رشد، وما ذكر الشيخ أن الدار تصرف فيما جعلت فيه صحيح، وإن لم ينص صاحبها على شيء، ومات فإنه يرجع إلى العرف فإن لم يكن فهي على الفقراء قاله في المدونة وقاله عبد الوهاب في المعونة وتصرف في وجوه الخير.

(فإن لم يدع سكناها حتى مات بطلت):

ما ذكر الشيخ من أنه إذا لم يدع سكناها فإنها تبطل، وهو كذلك وتقدمت رواية أبي تمام أن الحبس والصدقة لا يفتقران إلى حوز، واختلف إذا سكن بعضها ووقع

ص: 249

الحوز في بعض. فقال ابن القاسم في المدونة في آخر الرهون: ومن حبس على صغار ولده دارًا أو وهبها لهم أو تصدق بها عليهم فذلك حوز وحوزه حوز لهم إلا أن يكون ساكنا في كلهما أو رجلها حتى مات فيبطل جميعها وتورث على فرائض الله تعالى، وأما الدار الكبيرة ذات المساكن يسكن أقلها ويكري لهم باقيها فذلك نافذ فيما سكن وفيما لم يسكن.

وفي المذهب أقوال أخر أحدهما: أنه يمضي الجميع بشرط أن يكون ما حيز منها أكثر من النصف وعكسه وإن حيز النصف وسكن النصف صح ما لم يسكن وبطل ما سكن.

وقيل: إن سكن القليل وأبقي الكثير خاليا بطل حتى يكريه لهم؛ لأن تركه منع لهم فكأنه أبقاه لنفسه وكلاهما لشيوخ عبد الحق وعزا عياض الأخير منهما للصقليين قال: وهو صحيح في النظر ظاهر من لفظ الكتاب وقيل: يبطل الجميع مطلقًا حكاه ابن شاس.

وقيل: ما حيز لزم بخلاف الباقي عزاه ابن الحاجب لابن القاسم، وهو خلاف ما تقدم له في الدونة؛ لأنه حاصل ما فيها إن سكن الجل بطل الجميع، وإن سكن الأقل صح الجميع، ويتعارض المفهومان في النصف، واختلف إذا كان المحبس يتولى صرف منفعة الحبس على من حبس عليه، وهم غير معينين هل يؤثر ذلك في صحة الحوز أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: يؤثر وقيل: لا يؤثر.

وقيل: إن كانت الرقبة بيدة وإنما يتصرف في الغلة كالحائط يبقيه بيده ويدفع غلته للفقراء فإنه يؤثر، وإن كان سلاحا أو كتبًا يدفعها لم يقاتل بها أو ينظر فيها ثم غلته للفقراء فإنه يؤثر قاله في المدونة وما ذكرناه من أنها ثلاثة أقوال هو عزو ابن الحاجب وذكرها ابن شاس رواية وقبله ابن عبد السلام وابن هارون.

وقال بعض شيوخنا: لا أعرف بطلانه في الفرس والسلاح إن أخرجها وعادت إليه بحال ويشترط في إثبات الحوز الشهادات بالمعاينة لا بالإقرار.

(وإن انقرض من حبست عليه رجعت حبسًا على أقرب الناس بالمحبس يوم المرجع):

ويريد من الفقراء قال ابن كنانة: وإنما يرجع إلى أولى الناس بالمحبس ولم يرجع إلى المحبس؛ لأنه رجوع في الصدقة.

قال ابن عبد السلام: وهذا قد يظهر إذا كان الحبس أولى بمعني الصدقة وهو أعم

ص: 250

من ذلك لأن المذهب لا يشترط فيه ظهور القربة، وإنما كان الحكم أن يرجع إلى أولى الناس بالمحبس لما يجتمع به من الصلة، وسد خلة الفقير قاله ابن كنانة أيضًا.

وقال مالك في رواية أشهب أحب إلي أن يرجع صدقة على المساكين وأهل الحاجة ولا يرجع ميراثا وما ذكرناه من اشتراط الفقير هو المشهور.

وقيل: يدخل الأغنياء في السكنى دون الغلة، وقيل: إذا لم يكن أهل المرجع فقراء أعطى للأغنياء منهم، والمشهور من المذهب أنه يدخل من النساء من لو كان رجلاً كان عاصبا.

وقيل: لا يدخلن وعلى الأول فقال مالك في كتاب محمد الذكر والأنثى فيه سواء واشترط في أصل الحبس للذكر مثل حظ الأنثيين قال: إن المرجع ليس فيه شرط ولو لم يكن له يوم الموجع إلا ابنة واحدة لكان لها جمعيه فإن لم يكن للمحبس من القرابة من يصرف إليه المرجع فإنه يصرف إلى الفقراء.

(ومن أعمر رجلاً حياته دارًا رجعت بعد موت الساكن ملكًا لربها، وكذلك إن أعمر عقبه فانقرضوا بخلاف الحبس):

ما ذكره صحيح جلي المعني من حيث إن العمرى إنما هي تمليك للمنافع دون الرقاب بخلاف الحبس فإنه تملك للرقاب.

(فإن مات المعمر يومئذ كان لورثته يوم موته ملكا):

قال الفاكهاني: يريد إذا قال له: أعمرتك هذه الدار أيام حياتي، وأما إن قال له: أيام حياتك فمات المعمر فإنها لا ترجع لورثته إلا بعد موت المعمر.

(ومن مات من أهل الحبس فنصيبه على من بقي):

قال ابن رشد: إذا مات أحد من أهل الحبس فلا يخلو من ثلاثة أوجه: تارة يكون بعد الطيب فهذا حصته لوارثه اتفاقًا.

قلت: وذكر اللخمي قولاً أن المعتبر من وجد عند القسم فيما إذا كانت تقسم عليهم الغلة، وليسوا يلون عملها.

قال ابن رشد: وتارة يموت قبل الإبار فلا شيء لوارثه اتفاقًا، وتارة يكون بعد الإبار، وقبل الطيب ففي ذلك خمسة أقوال: فقيل: لوارثه مطلقًا قاله غير واحد من الرواة في المدونة، وقيل: مثله إن كانت الميت أبر وسقًا قاله في هذا السماع وقيل: هو لمن بقي من أهل الحبس وهذا الحبس وهذا الذي رجع إليه مالك، وقيل: مثله إن كانوا يلون عملها، وكان المحبس عبدًا يخدمهم أو دارًا يسكنونها، وإن كان ثمرا يقسم رجع لمحبسه، وقيل:

ص: 251

له مطلقًا وإن لم يعرها وأولهما هو الذي رجع عنه مالك في المدونة.

وثانيهما: مقتضى قول اللخمي وعزاه لرواية عبد الوهاب في المعونة وصوبه إلا أن تكون العادة رجوعه لبقية أصحابه.

(ويؤثر في الحبس أهل الحاجة بالسكني والغلة):

ما ذكر هو المشهور، وقيل: لا يفضل ذو الحاجة على الغنى إلا بشرط من المحبس وسواء كان التحبيس على قوم بأعيانهم وأعقابهم أو على ولده وولد ولده إلا أن المخالف في الأولى عبد الملك، والمخالف في الثانية المغيرة والفقه قريب.

(ومن سكن فلا يخرج لغيره إلا أن يكون في أصل الحبس شرط فيمضي):

زاد في المدونة ولو لم يجد مسكنا ولا كراء له، وظاهر كلامه ولو استغني بعد أن سكن لأجل فقره، وهو كذلك.

قال ابن عبد السلام: ولعل ذلك لأن عودته لا تؤمن وإلا فالأصل كان أن لا يخرج.

قلت: وقال بعض شيوخنا: ونص ابن رشد عن ابن القاسم على أنه لا يخرج إذا كان الحبس على العقب فإذا سكن لغيبة غيره فلا يخرج، ولو كان على الفقراء فإنه يخرج إذا استغني قال: وقول ابن الحاجب: ولا يخرج الساكن لغيره وإن كان غنيا يوهم خلاف ذلك لقول ابن عبد السلام: ولو سكن ثم خرج فإن كان خروج انقطاع يسقط حقه وكان من سكن أولى وإلا فلا قال في المدونة: ومن مات أو غاب غيبة انتقال استحق الحاضر مكانه.

وأما من سافر لا يريد مقامًا فهو على حقه إذا رجع وأقام منها المغربي ما في جامع العتبية أن من أقام بموضع في المسجد في الصف الأول وقام لتجديد وضوء أو لغيره على أن يؤوب إليه بالقرب أنه أحق والقرب هو أن يكون ذلك المعنى الذي جلس إليه قائمًا مثل أن يكون ينتظر الصلاة.

قلت: ومن هذا المعني قيام الطالب من درس العلم لحاجة ثم يعود وكذلك قال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: لا يجلس غيره من أصحابه في مكانه إذا سبقه إذا كان لكل إنسان موضع معلوم به كما هو المألوف عندنا بتونس؛ لأن ذلك مقصود من المجلس للعرف المقتضي لذلك.

(ولا يباع الحبس وإن خرب)

ص: 252

ما ذكر هو المعروف وروي أبو الفرج جوازه وهو الذي حكاه ابن رشد، وكذلك ذكر اللخمي وعزا الجواز لابن القاسم جريا على قوله في الثياب إذا بليت إلا أنه قصر الخلاف على ما بعد من العمل ولم يرج صلاحه، وأما ما كان بالمدينة فلا يباع وظاهر كلامه باتفاق فجعله بعض شيوخنا ثالثًا.

وقال ابن عبد السلام: حكى أبو الفرج وابن شعبان قولاً بجواز بيع الخرب مثل ما في الرسالة واعترضه بعض شيوخنا بأن الذي في الرسالة إنما هو المناقلة بالمعاوضة فقط كما سيأتي ورواية أبي الفرج بالبيع أعم منه.

قلت: على أن ما حكاه عن ابن شعبان لم أجده.

واختلف هل يجوز نقض بيع نقض الحبس إذا خرب أم لا؟ على قولين ذكرها في الزاهي، وكذلك اختلف هل يجوز نقله إلى حبس آخر ليبني به إذا لم ترج عمارة الخرب أم لا؟ وبالجواز مضى العمل عندنا.

قال مالك: ولا بأس أن يشتري من دور محبسة إن احتيج إلى توسعة مسجد أو طريق؛ لأنه نفع عام، وقيل به في مساجد جوامع الأمصار لا القري قاله غير واحد كابن عبد الحكم ومطرف واختلف المتأخرون إذا أبوا من بيعها للمسجد فقال أكثرهم: تؤخذ بالقيمة جبرًا، وقيل: لا يجبرون وقيل بالأول في المسجد الجامع بخلاف غيره، وأما إذا كانت الدار الملاصقة لمسجد الجمعة مملوكة، فقال الباجي: يجبر أهلها بإجماع.

وقال ابن رشد: في الجبر قولان وأفتي بالجبر، واحتج بقول سحنون يجبر ذو أرض تلاصق طريقًا هدمها نهر لا ممر للناس إليه فيها على بيع طريق لهم بثمن يدفعه الإمام من بيت المال، وبفعل عثمان رضي الله عنه، في توسعة مسجده صلى الله عليه وسلم ويقول مالك وغيره إذا غلا الطعام واحتيج إليه أمر الإمام أربابه بإخراجه للسوق.

(ويباع الفرس الحبس يكلب ويجعل ثمنه في مثله أو يعان به فيه):

ما ذكر الشيخ هو المشهور، وقول ابن الماجشون: لا يباع ويوقف، وإن ذهبت

ص: 253

منفعته إلا أن يكون شرط فأطلق هذا الخلاف غير واحد.

وقال اللخمي: إن انقطعت منفعة الحبس وعاد بقاؤها ضررا جاز بيعه وإن لم يكن ضررا ورجا أن تعوده منفعته لم يجز بيعه.

واختلف إذا لم يكن ضرر أو لا رجيت منفعته، وما ذكر الشيخ من صفة الجعل هو كذلك في المدونة في الفرس، وقال في الثياب: يتصدق بها في السبيل إن لم تبلغ ثيابًا ينتفع بها فقيل: إن الثياب لما لم يظهر لها كبير منفعة في الغزو واستخفت الصدقة بما عجز عن ثمن ثوب بخلاف الخيل لعظم منفعتها في الغزو وحوفظ على أصل التحبيس فيه.

قال ابن عبد السلام: وفي هذا الفرق نظر، قال ابن وضاح سألت سحنون عن زيت المسجد يكون كثيراً أيباع ويتخذ في منفعة الحبس؟ قال: تجعل فتائله غلاظا ولم ير بيعه.

قلت: أيوقد في مسجد آخر؟ قال: لا بأس، قلت: فالخشب تكون في المسجد قد عفنت لا يكون لها كبير منفعة أترى أن تباع ويشترى بثمنها خشب، ويرم بها المسجد قال: أما أنا فلا أجعل سبيلا إلى بيعها أصلاً وأشار بقوله أنا إلى أن ثم قولاً ضعيفا.

وقال ابن زرب بيع حصر المسجد جائز وكذلك ما يلي من أنقاض المسجد ويصرف في منافعه.

(واختلف في المعارضة بالربع الخرب بربع غير خرب):

قد قدمنا أن القول بالجواز داخل في عموم رواية أبي الفرج، والقول بالمنع نقله الباجي عن ابن شعبان قائلاً: وإن خرب ما حوله وقد تعود العمارة ولم يحك الباجي غيره.

واعلم أن المتولي للوقف يكريه بنظره السنة والسنتين فإن أكراه ممن مرجعه إليه جازت الزيادة على ذلك وقد أكرى مالك منزله، وهو كذلك عشر سنين واستكثرت.

قال ابن عبد السلام: ومعنى ما تقدم إذا كانت الدار وقفا على معينين ثم على أولادهم، وشبه ذلك، وأما إن كانت الدار على الفقراء وشبههم فينبغي أن يكون أوسع من هذا الأجل إذا لا يتقي في ذلك سوى انهدام الدار، وهذا الاحتمال لا يمنع من طول الأجل في الدور ثم قال: وأجاز جماعة من فقهاء بلدنا وعمل به منذ عشرين عامًا كراء بقعة من أرض الحبس أربعين عامًا لمن بناها دارًا وليس الحبس فيها على معينين بعد أن بذل فيها مكتريها عوضًا خارجًا في الكثرة عن العادة.

ص: 254

قال ابن الحاجب: ولا يفسخ كراء الوقف لزيادة، قال ابن عبد السلام: يعني إذا كان عقده غبطة، وأما إن كان فيه غبن فتقبل فيه الزيادة قيل: وسواء كان من طلب الزيادة فيه حاضرا أو غائبًا وأهل تونس في هذا التاريخ وقبله بسنين كثيرة استمروا على أنه يكري ربع الحبس على قبول الزيادة فيه ويجعلونه منحلا من جهة المكري ومنعقدا من جهة المكتري وهو قول منصوص عليه في المذهب ووقع في المدونة ما يقتضيه، وإن بعضهم رأى ما في المدونة خارجًا عن أصول المذهب، واعتقد بعض من لقيناه أن ذلك مخالف للإجماع؛ لأنه راجع إلى بيع الخيار ولم يجزه أحد إلى سنة.

وأشار ابن رشد إلى أن هذه المسألة ليست كبيع الخيار الذي جعل أمد الخيار فيه سنة فإن ذلك ينتقض فيه البيع من أصله إذا أراد حله من جعل له الخيار وهنا لا ينتقض إلا ما بقي من المدة.

قلت: وهذا الفصل لما كان مضطرا إليه ذكرنا في هذا المحل اتباعا لمن ذكر، وإن كان غير هذا الفصل أليق به والأعمال بالنيات.

(والرهن جائز):

ص: 255

وقال ابن الحاجب: الرهن إعطاء امرئ وثيقة بحق واعترض بأنه غير مانع بالمنع لذي حق على الوفاء به والحميل لحق والإشهاد به.

قال ابن عبد السلام: وأجيب بمنع قبول دخول شيء منها تحته؛ لأن لفظة إعطاء تقتضي حقيقة دفع شيء ولفظ وثيقة يقتضي صحة رجوع ذلك الشيء لدافعه إذا استوفي ذاك وذلك لا يصح في الحميل واليمين الأخذ والرد حقيقة.

وأما الوثيقة بذكر الحق فهو وإن صح دفعها فلا يلزم ردها بعد استيفاء الحق.

قلت: ورده بعض شيوخنا بأن قوله لفظة إعطاء يقتضي دفع الشيء إلى آخذه، وإن أراد دفعه حسب المحسوس منع لصحة قولنا: إعطاء عهد الله والأصل الحقيقة، وإن أراد الأعم منه، ومن المعني دخل ما وقع النقص به وإن سلم كونه حسبا بطل بإخراجه رهن الدين، وقوله لفظة وثيقة تقتضي صحة رجوع ذلك الشيء إلى آخذه يريد؛ لأنه لا يلزم من نفي لزوم ردها نفي صحته واللازم عنده إنما هو الصحة حسبما تصرح به قال: ويتعقب رسم ابن الحاجب بأنه لا يتناول الرهن بحال؛ لأنه اسم والإعطاء مصدر وهما متباينان، وظاهر كلام الشيخ: أن الرهن جائز حضرًا أو سفا وهو كذلك عندنا.

(ولا يتم إلا بالحيازة):

ظاهر كلام الشيخ إذا لم يحز فإنه يبطل، وإن كان جد في الطلب إلى أن قام عليه الغرماء، وهو كذلك قال ابن حارث وقال عبد الوهاب عجزه مع جده في طلبه إلى أن قاموا لا يبطله كالهبة.

وحكى اللخمي القول الثاني غير معزو كالأول دون استدلال قائلاً، وهو أحسن.

قلت: واستدلال القاضي بالهبة يدل على أنه متفق عليه فيما وليس كذلك بل هو قول ابن القاسم، وقال ابن الماجشون: تبطل حسبما قدمنا ذلك في موت الواهب ولا فرق بين الموت والتفليس.

واعلم أن الحواز المتقدم لغير الرهن كالمتأخر على الأصح، واختلف هل يصخ رهن مشاع العقار أم لا ففي المدونة صحته.

وقال ابو حنيفة والشافعي: لا ينعقد فيه رهن قال المازري، وخرجه الشيخ عبد المنعم، وهو أحد شيوخ شيوخي من قول بعض أصحابنا أن هبة المشاع لا تصح؛ لأن قبضه لا يتأتى.

قلت: وخرجه بعض المتأخرين من منع صرف جزء الدينار لامتناع القبض

ص: 256

والحسي فيه ورده شيخنا أبو مهدي رحمه الله بأن الصرف أشهد فهو أضيق بدليل أنه يشترط فيه القبض الحسي.

وقال ابن الحاجب: وقبض الجزء المشاع، والباقي لغير الراهن إن كان عقارا جائز باتفاق.

وقال ابن عبد السلام: لم يطلع المؤلف على الرواية بمنع رهن المشاع كأبي حنيفة.

قلت: ومرض بعض شيوخنا نقله بقوله: لا أعرف هذه الرواية وظاهر نقل شيوخ المذهب نفيها، ولو كانت ثابتة ما اضطر إلى التخريج الذي ذكره المازري والشأن من التحقيق في ذكر غريب مثل هذا عزوه.

(ولا تنفع الشهادة في حيازته إلا بمعاينة البينة):

ظاهر كلامه أن الإقرار بحوزه ووجوده في يده بعد الموت أو التفليس كالعدم، وهو ظاهر المدونة قال فيها: ولا يقضى بالحيازة إلا بمعاينة البينة بحوزه في حبس أو هبة أو رهن.

وقيل: إن وجود الرهن بيد المرتهن بعد موت راهنة يقبل قوله حزته في صحته نقله أبو محمد في نوادره عن مطرف وأصبغ، ونقل خلافه عن ابن الماجشون، وابن حبيب، وفي الطرر لابن عات العمل أنه إذا وجد بيده وقد حازه كان رهنا، وإن لم يحضروا الحيازة ولا عاينوها؛ لأنه صار مقبوضًا وكذلك الصدقة.

(وضمان الرهن من المرتهن فيها يغاب عليه ولا يضمن ما لا يغاب عليه، وثمرة النخل الرهن للراهن):

ما ذكر الشيخ أن ضمان ما يغاب عليه من المرتهن هو كذلك باتفاق من حيث الجملة ويريد ما لم يكن بيد أمين فإنه من الرهن كما سيأتي له.

وظاهر كلامه ولو قامت البينة على هلاكه وهو كذلك في رواية أشهب وقيل: لا يضمن رواه ابن القاسم، وقال به، وبه قال عبد الملك وأصبغ نقله ابن يونس وسبب الخلاف هل الضمان بالأصالة أو بالتهمة، ولو اشترط نفي الضمان؟ فقال ابن القاسم: لا يعول عليه، ويضمن، وقال أشهب: لا يضمن وقيل: إن كلا منهما ناقض أصله.

وأجاب بعض شيوخنا عن ابن القاسم: بأن الضمان يتقوى معه الشرط؛ لأن الضمان عنده معلل بالتهمة، وعن أشهب بأن شرط عدم الضمان ناسخ.

قلت: ولا مناقضة على ابن القاسم في قوله في العارية إذا اشترط المستعبر أنه

ص: 257

مصدق فيها وكانت مما يغاب عليه فإن يوفي له بشرطه؛ لأن العارية معروف وإسقاط الضمان معروف ثان بخلاف ما أصله المكايسة كالرهن قاله اللخمي في العارية، وما ذكر الشيخ من نفي الضمان فيما لا يغاب عليه هو المنصوص والمشهور، وقال المازري: وخرج بعضهم ضمانه من رواية ضمان المحبوس بالثمن.

ورده بعض أشياخي بأن ضمان المحبوس بالثمن ليس لأنه رهن بثمنه لاحتمال كونه على رواية شرط مضى زمان إمكان قبض المبيع بعد عقده في ضمانه بالعقد والحبس مانع من تمكن قبضه وخرجه بعضهم من قول شركة المدونة إن استعار أحد الشريكين دابة لحمل شيء من مالك الشركة بغير إذن شريكه فتلفت: لا ضمان على الشريك غير المستعير، وأجيب بأنه بيان لحكم الشركة لو حكم حاكم بضمانه لا أنه بيان لحكم ضمان المستعير.

قال رحمه الله: ويستغني عن هذا التخريج بقول أبي الفرج عن ابن القاسم فيمن قبض عبدًا ارتهن نصفه فتلف: ضمن نصف فقط.

قال في المدونة في السلم الثاني: ما لا يغاب عليه هو الحيوان والدور والأرضون والثمر في رءوس النخل والزرع إذا لم يحصد.

قال اللخمي: وهو عام في الحيوان على اختلاف أنواعه من شاة وطير، وأري أن يضمن ما يستخف أكله وذبحه.

(وكذلك غلة الدور):

ما ذكر الشيخ أن غلة الدور للراهن هو المشهور، وفي المبسوط لمالك: ومن استرهن دارًا أو عبدًا قبضه أو لم يقبضه؛ فإن إجارة العبد والدار تجمع لا تصل إلى الراهن ولا للمرتهن حتى يفك الرهن فتكون تبعًا للرهن فإن كان في الدار كفاف الحق كانت الإجارة للراهن.

قال في البيان: وهذه الروايات شاذة لا تعرف في المذهب، ويريد الشيخ إلا أن يشترط المرتهن ذلك فيكون له، وسمع أصبغ ابن القاسم: لا بأس أن يشترط بيع المبيع، ويرتهن الدار أو العبد انتفاعه به لأجل معلوم كان أبعد من أجل الرهن أو قبله.

قال ابن رشد: هو كقوله في المدونة خلاف نص مالك جوازه في الربع والأصول دون الحيوان والثياب إذ لا يدري كيف يرجع ذلك إليه، واحتج ابن القاسم بجواز إجارة ذلك، وهو لا يدري كيف يرجع إليه، ولا حجة على مالك؛ لأنه إنما كرهه للغرر كالرهن إذ لا يدري متى تكون القيمة بعد استعماله.

ص: 258

واختلف في رهن الجنين فمعروف قول مالك أنه ممنوع وأجازه ابن ميسر كذا نقله الشيخ أبو محمد ولم يحك ابن الجلاب إلا الجواز وعزاه ابن حارث لابن الماجشون والمعروف جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه.

ونقل ابن رشد عن ابن القاسم: أنه ممنوع ولم يذكره غيره إلا بالتخريج.

قال المازري: ورهن الثمرة التي لم تخلق كالجنين، وهو خلاف قول ابن الحارث اتفق ابن القاسم، وابن الماجشون على ارتهان الثمرة التي لم تخلق.

واختلف في ارتهان ما في البطن فأجازه عبد الملك كالثمرة ومنعه ابن القاسم.

(والولد رهن مع الأمة الرهن تلده بعد الرهن):

ما ذكر مثله في المدونة قال فيها: ومن ارتهن أمة حاملا كان ما في بطنها وما تلد بعد ذلك رهنا معها، وكذلك نتاج الحيوان.

قال ابن رشد: لأنه كجزء منها، ونحوه للمازري في منع استثنائه واستشكل بعض التونسيين كونه كالجزء بأنه لو كان كذلك للزوم من عتق الجنين عتق أمه كعتق يديها وليس كذلك.

وأجاب بعض شيوخنا بأن الجزء ملازم ومفارق فالملزوم للعتق الملازم لا المفارق، وفي الجلاب وفراخ النخل، والشجر رهن مع أصولها.

قال في المدونة: ولا يدخل إلا صوف كمل نباته يوم الرهن معها كلبن في ضروعها.

(ولا يكون مال العبد معه رهنا إلا بشرط، وما هلك بيد أمين فهو من الراهن):

ما ذكر مثله في المدونة، قال ابن حارث اتفاقًا، قال: واختلف فيما يستفيده بهبة أو شبهها.

قال ابن عبدوس عن ابن القاسم: لا يدخل إلا باشتراطه، وقاله أشهب، واحتج بالوصية؛ لأنها لا تدخل في الأرباح إلا فيما لم يعلمه الموصي.

وقال يحيى بن عمر: تدخل وهي أشبه بالمبيع من الوصية. قال التونسي في الموازية: إذا اشترط مال العبد في الرهن لا يدخل ما أفاد فيه، وإلا شبه دخوله كشرط ماله إذا ابتيع على الخيار فما أفاد من مال في أيامه دخل فيه.

وفي المدونة فيمن كوتبت على خيار فما أفادت في أيامه فهو لسيدها، وهو فيها لغير ابن القاسم، والمعروف الأول.

وقال المازري: وقيل في الأرباح: إنها كالفائدة في الزكاة فأشار إلى تخريج الخلاف في ربح مال العبد.

ص: 259

(والعارية مؤداة يضمن ما يغاب عليه ولا يضمن ما لا يغاب عليه من عبد أو دابة إلا أن يتعدى):

العارية هي بتشديد الياء، قاله الجوهري. وقال ابن شاس، وابن الحاجب العارية تمليك منافع العين بغير عوض، واعترضه بعض شيوخنا بأنه غير جامع؛ لأنه لا يتناولها إلا مصدرا والعرف إنما هو استعمالها اسما وهو الشيء المعار.

قال مالك في المدونة فيما تلف من عارية الحيوان عند من استعارها: لا ضمان عليه إلا أن يتعدى، وبأنه غير مانع؛ لأنه يدخل عليه الحبس، وحدها بأن قال: هي مصدرًا: تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض فتدخل العمرى والإخدام لا الحبس واسما مالك ذو منفعة مؤقتة ملكت بغير عوض، وهي مندوب إليها من حيث الجملة؛ لأنها إحسان والله يحب المحسنين ويعرض لها الوجوب كمن هو مستغن عنها لمن يخشى هلاكه والتحريم ككونها معينة على معصية والكراهة إذا أعين بها على مكروه والمباح إذا أعين بها غني.

واختلف في علف الدابة المعارة فقيل: على المعير، وقيل: على المستعير، قال ابن رشد في المقدمات: وأجرة حمل العارية على المستعير، واختلف في أجرة ردها فقيل: على المستعير وهو الأظهر وقيل: على المعير؛ لأن العارية معروف فلا يكلفه أجرف بعد معروف صنعه.

وقبل الفاكهاني قول ابن الجلاب ومن استعار شيئًا إلى مدة معلومة فلا بأس أن يكريه من مثله، وفي المدونة: ولا بأس أن يعيره من مثله كما قال ابن هارون وابن عبد السلام، قول ابن شاس، وابن الحاجب المعير مالك للمنفعة غير محجور عليه فتصح من المستعير، والمستأجر، ويؤيد ما قالوه قول المدونة في الوصايا الثاني، وللرجل أن يؤاجر ما أوصى له به من سكنى دار أو خدمة عبد قال في الوصايا الأول إلا أن يريد رب العبد ناحية الكفالة والحضانة، وهو خلاف ما في الزاهي لابن شعبان من استعار دابة فلا يركبها غيره وإن كان مثله في الخفة والحال ومثله قول إجارة المدونة إن استأجرت ثوبًا تلبسه يومًا إلى الليل فلا تعطه غيرك ليلبسه لاختلاف الناس في اللباس والأمانة.

وكره مالك لمكتري الدابة لركوبة كراؤها من غيره، وإن كان أخف، وخرج ابن عبد السلام قوله في العارية، وما ذكر الشيخ أنه لا يضمن ما لا يغاب عليه، قال اللخمي: هو المشهور من قولي مالك وأصحابه وروى ابن شعبان: لا يصدق في ذهاب الحيوان حتى يعلم ذهابه، وقاله ابن القاسم في كتاب الشركة، ولا حاجة لتأويل بعضهم

ص: 260

إذا كان أحد قولي مالك، وقيل: لا يصدق فيما صغر فقط، وقد يرجح هذا فيما يراد منه الأكل دون غيره.

قلت: ونقل ابن يونس عن أشهب يضمن الحيوان ولو قامت بينة على هلاكه بغير سببه فيتحصل في المسألة أربعة أقوال.

(والمودع إن قال: رددت الوديعة إليك صدق إلا أن يكون قبضها بإشهاد):

قال ابن شاس: وابن الحاجب: الوديعة استنابة في حفظ المال، واعترض بعض شيوخنا ما ذكراه بأنه غير جامع؛ لأنه بقي عليهما إيداع الوثائق بذكر الحقوق وبأنه غير مانع لأنه يدخل فيه حفظ الإيصاء، والوكالة؛ لأنها أزيد من الحفظ وحفظ الربع، وحدها بأن قال الوديعة بمعنى الإيداع نقل مجرد حفظ مالك بنقل، وهي مباحة، ويعرض لها الوجوب والتحريم، وأمثلتها واضحة.

وما ذكر الشيخ من أنه مصدق مثله في التهذيب، وظاهرهما بغير يمين وعزى للمدونة، وقيد الفاكهاني قول الشيخ فقال يريد، ويحلف كان متهما أم لا قال عبد الحق.

وقال اللخمي: يحلف ولو كان مأمونا لدعوى ربها عليه التحقيق إلا أن تطول عليه المدة مما يعلم أن مثل المودع لا يستغني عنها لما يعلم من قله ذات يده أو تمر عليه عشرة فتضعف اليمين إن كان المودع عدلا، ونقل ابن الحاجب قولاً بعدم حلفه فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال منصوصة، ومرض غير واحد من أشياخي ما نسب لابن الحاجب لعدم وقوفهم عليه لغيره.

وأجابهم شيخنا أبو مهدي رحمه الله بأنه ظاهر قول أبي محمد في مختصره في الوكالات في قوله، ويحلف إن كان متهما وظاهره إذا كان غير متهم لا يحلف، وما أجابهم به شيخنا صحيح؛ لأن ظواهر كلام الفقهاء كالمنصوص، ويريد الشيخ بقوله إذا قبضها بالإشهاد أن تكون البينة مقصورة التوثق، وبذلك قيد غير واحد المدونة كعبد الحق واللخمي.

ونقل ابن عات عن ابن زرب ما يقتضي أن البينة لا يشترط فيها ذلك بل يضمن مع وجودها مطلقًا، قال بعض شيوخنا: ولا أعرفه لغيره وقيل: لا يضمن والبينة كالعدم عزاه ابن شاس لابن القاسم نصًا، ولم يذكره ابن رشد إلا تخريجا من قوله في دعوى المستأجر رد ما استأجره من العروض أنه يصدق ولو قبضه ببينة على تردد عنده في التخريج، وجعله ابن الحاجب المذهب وجعل ما يقوله غيره أنه المذهب، وأنه المشهور ثانيًا له ونصه وإذا ادعى الرد قبل مطلقًا، وقيل: ما لم تمكن بينة مقصودة

ص: 261

التوثق، وتعقبه ابن عبد السلام، بقوله: الثاني: هو مذهب المدونة، وأما الأول فشاذ على نظر في صحة نسبته إلى المذهب.

(وإن قال ذهبت فهو مصدق بكل حال):

ما ذكر الشيخ هو كذلك باتفاق، واختلف في حلفه على ثلاثة أقوال: فقيل: يلزمه قاله ابن نافع وعليه حمل الفاكهاني قول الشيخ، وقيل: لا يحلف نقله اللخمي، وقيل: إن كان متهما حلف وإلا فلا، نقله أبو محمد عن أصحاب مالك رحمه الله وبه فسر ابن يونس المدونة في قولها صدق وصرح ابن رشد بأنه المشهور.

قال: ولو حققت الدعوى توجهت اليمين باتفاق، وقال ابن الحاجب: فيها وفي التي قبلها: وأما المتهم فيحلف باتفاق وهو قصور لما تقدم من الخلاف قاله ابن عبد السلام، وتعقبه خليل.

قلت: وهو خلاف قوله في الزكاة فإن قال: قراض أو وديعة أو على دين أو لم يحل الحول صدق ولم تحلف فإن أشكل أمره فثالثها بحلف المتهم كأيمان التهم.

(والعارية: لا يصدق في هلاكها فيما يغاب عليه):

لا حاجة إلى هذا بعد قوله قبل، والعارية مؤداة، واختلف قول مالك لو قامت بينة فيما يغاب عليه فإنه لم يتعد وأخذ ابن القاسم بعدم الضمان وأشهب بعكسه، ولم يحفظها ابن يونس وذكر ابن الحاجب قولين لهما وحكاهما ابن الجلاب روايتين.

(ومن تعدى عله وديعة ضمنها):

ما ذكر هو كذلك باتفاق كما إذا أودعها لغير عذر، واختلف في مسائل يتردد النظر هل هو متعد فيها أم لا؟ فمن ذلك إذا نزى على بقرة وشبهها فعطبت به أو ماتت من الولادة، فقال ابن القاسم في المدونة: يضمن، وقال أشهب: لا يضمن قائلاً: إنزاؤه عليه أرجح؛ لأنه مصلحة، ولو ختن المودع علجا أسلم عنده، وهو يطيقه فمات فإنه ليس بمتعد اتفاقًا وسواء قلنا: الختان واجب أو سنة على ما تقدم قاله شيخنا أبو مهدي رحمه الله وكذلك اختلف إذا وضع الوديعة في جيبه فضاعت فهل يضمنها أم لا على قولين حكاهما ابن شعبان.

والذي أفتى به بعض شيوخنا: أنه لا يضمن قائلاً: لا ينبغي اليوم أن يختلف فيه ومن ذلك اختلف ابن القاسم، وأشهب، فيما إذا أودعها زوجته وخادمة المعتادة عنده لذلك فقال ابن القاسم: لا يضمن خلافًا لأشهب.

وأما عكسها، وهي إذا أودعت المرأة زوجها وديعة فضاعت فأظن أن عياضًا

ص: 262

حكى في مداركه فيها خلافًا لما عرف بأحمد بن صالح الفهري عرف بابن الطبري من أصحاب ابن وهب فانظره فإنه قد تعذر علي الآن، وفي المعنى لا فرق وهذا الفصل متسع جداً.

(وإن كانت دنانير فردها في صرتها ثم هلكت فقد اختلف في تضمينه):

اعلم أنه اختلف المذهب في المسألة على أربعة أقوال فقال مالك وابن القاسم في المدونة، ومحمد: لا يضمن، وبه قال أشهب، وعبد الحكم، وأصبغ وهو المشهور، وقيل: يضمن رواه يحيى بن عمر عن مالك، وهو قول المدنين.

وقال ابن الماجشون: وإن كانت مربوطة أو مختومة لم يبرأ إلا بردها إلى ربها وكذلك إن كان سلف بعضها ضمن جميعها، ولو أشهد على إخراجها من ذمته لم يبرأ إلا بردها لربها، والجميع ذكره اللخمي إلا أنه لم يعز إلا الثلاث الأول فقط، وقيل: إن ردها كما كانت بإشهاد برئ قاله مالك، وأخذ به ابن وهب وعلى الأول فاختلف في اليمين فقيل: لا يخلف، وهو ظاهر المدونة قاله الباجي، وأشار أبو محمد إليه بقوله لم يذكر في المدونة يمينا، وقيل: يحلف قاله ابن المواز، وابن الماجشون في المبسوط.

وقيل: إن تسلفها بغير بينة فالأول وإلا لم يصدق إلا بينة قال في الموازية، ولم يعزه اللخمي بل ذكره اختيارًا له وقيل: إلا أن يكون إشهاده لخوف موته حفظ الحق المودع فيبرأ، وإن لم يشهد على ردها.

قال ابن شعبان: من أودع وديعة وقال له: تسلف منها إن شئت فتسلق لم يبرأ يردها إلا إلى ربها.

وقال ابن رشد، واللخمي: لا يختلف فيه؛ لأن السلف من ربها وهذا التوجيه الذي ذكرنا هـ ذكره الباجي أيضًا وقال عندي إنه يبرأ بردها.

(ومن اتجر بوديعة فذلك مكروه والربح له إن كانت عينا):

ذكره التجر طردي، وإنما المراد تسلفها، وما ذكر من الكراهة، وهو أحد الأقوال الستة، وبه قال مالك في سماع أشهب، وعليه يحمل منع مالك في كتاب اللقطة من المدونة، وقيل: إنه جائز إن أشهد قاله في سماع أشهب ثانيًا.

وقيل: إن كانت مربوطة أو مختومة لم يجز قاله عبد الملك، ولما ذكر اللخمي هذه الأقوال الثلاثة قال: وأرى إن علم عدم كراهته المودع لذلك جاز، وإن علم كراهته لم يجز، وإن أشكل أمره كره.

قلت: وسمع أشهب ترك تسلفها أحب إلي فجعله بعض شيوخنا خامسًا بناء على

ص: 263

أن نقيض المستحب ليس بمكروه ونص ما في لقطة المدونة، ولا يتجر باللقطة في السنة ولا بعد السنة أيضًا كالوديعة فأخذ بعضهم منها التحريم، وقبله الفاكهاني فيكون سادسها.

والصواب: حملها على الكراهة كما صرح بها في أواخر كتاب الوديعة، ولم يذكر ابن الحاجب غير المدونة الكراهة والجواز فقال: وإن كان له وفاء وهي نقد فجائز إن أشهد، وقيل مكروه فقدم الجواز في أن الثاني هو مذهب، وأما سلف المبضع معه فإنه جائز ذكره ابن يونس في الوكالة وأجرى بعض من لقيناه من القرويين فيه ما في الوديعة وكنت أجيبه بأنه فرق بين من لم يؤذن له فيه التصرف البتة، وبين من أذن له فيه على وجه ما فالأول: أشهد والثاني: وأخف فلم يقبله.

وما ذكرناه من الخلاف في تسلف الوديعة إنما هو في غير الفقير، وأما فيه فلا يجوز قاله اللخمي قائلاً: وليس له تسلفها إن كانت مما يقضى فيه بالقيمة، وكذلك المكيل والموزون إذا كثر اختلافه، كالكتان. واختلف في تسلق القمح والشعير وشبهه، فقال في المدونة: إن تسلفها ثم رد مثلها لم يضمنها، وقال عبد الملك: إن خلطها بمثلها ضمن.

وقال الباجي: حكي عبد الوهاب هذا في كل مكيل أو موزون.

قلت: وذكر ابن الحاجب القولين منصوصين، واعترضه ابن عبد السلام بأن وجودها غريب بل هما مخرجان على أن التخريج الأول لا يسلم من اعتراض؛ لأنه لا يلزم من عدم ضمانه جوازه وأجابه بعض شيوخنا بوجودهما في كلام ابن الحاجب في قوله وفي اتفاق الوديعة بغير إذن ربها روايتان: الكراهة، والإجازة قال: فإن قلت: لفظ الإنفاق يدل على أنها عين والكلام إنما هو في الطعام، ونحوه.

قلت: ليس كذلك لحمل أبي محمد وابن رشد سماع أشهب من استنفق طعامًا أودعه غرم مبلغه على ظاهره.

(وإن باع الوديعة، وهي عرض فربها مخير بين أخذ الثمن أو القيمة يوم التعدي):

قال الفاكهاني: أنظر هل تكون له أجرة في بيع للعرض والعرض هنا ما عدا العين والاشتراء به أو لا شيء له، وهو الظاهر من إطلاقهم فإني لم أر فيه نصًا.

(ومن وجد لقطة فليعرفها سنة بموضع يرجو التعريف بها):

ص: 264

قال ابن الحاجب: اللقطة كل مال معصوم معرض للضياع في عامر أو غامر.

قال ابن عبد السلام تبع في ذلك ابن شاس، وقد تبع هو في ذلك الغزالي كعادته

ص: 265

في كشقير وهي بسكون القاف وفتحها.

قلت: وقال بعض شيوخنا: اللقطة مال وجد بغير حرز محترم ليس حيوانا ناطقًا ولا نعما فيخرج الركاز وما بأرض الحرب، وتدخل الدجاجة وحمام الدور إلا السمكة تقع في سفينة هي لمن وقعت إليه قاله ابن عات عن ابن شعبان والأظهر في السمكة إن كانت في موضع بحيث لو لم يأخذها من سقطت إليها لنجت بنفسها لقوة حركتها وقرب محل سقوطها من ماء البحر فهي كما قال ابن شعبان في زاهيه: وإلا فهي لرب السفينة كقول المدونة فيمن طرد صيدا حتى دخل دار قوم إن اضطره إليها فهو له، وإن لم يضطره، وبعد عنه فهو لرب الدار.

واعلم أن واجد اللقطة على ثلاثة أقسام: تارة يعلم من نفسه الخيانة فهذا يحرم عليه التقاطها لأن ذلك مستلزم لإتلاف المال المعصوم وتارة يخاف على نفسه الخيانة فهذا يكره له التقاطها ولا يحرم، وتارة يعلم من نفسه الأمانة فإن كانت في مكان يخاف عليها من أهل الخيانة فهذا يجب عليه التقاطها باتفاق، وإن لم يخف عليها الخيانة ففي ذلك ثلاثة أقوال: الاستحباب والكراهة، والاستحباب فيما له بال، وكلها لمالك.

وفي المدونة مع سماع ابن القاسم من التقط ثوبًا يظنه لقوم يراهم فسألهم فقالوا له: ليس لنا فرده حيث وجده لا بأس به.

قال ابن القاسم: إن كانت علينا فأخذه أحب إلى فجعل بعض شيوخنا قول ابن القاسم رابعًا، وهو الفرق بين العين وغيرها، وتأوله ابن رشد فقال: معناه لا ضمان عليه إن فعل والاختيار أن لا يفعل كقوله في الثوب إذ لا فرق بينهما وبين الثوب ورده شيخنا بوضوح خفة الحفظ في العين دون الثوب ولما يلزم من تفقده.

وقال ابن عبد السلام: والأظهر إن كان مع القدرة على الحفظ أن يجب الالتقاط ولا يعد علمه بخيانة نفسه مانعا وأحرى خوفه ذلك؛ لأنه يجب عليه ترك الخيانة والحفظ للمال المعصوم وقصارى الأمر أن من يأمن على نفسه الخيانة فقد توجه عليه الخطاب بالحفظ وحده ومن يخاف على نفسه الخيانة وجب عليه أمران: الحفظ وترك الخيانة، وبعد تسليم هذا فالأظهر من الأقوال الثلاثة الاستحباب أو الوجوب لو قيل به لوجوب أعانة المسلمين عند الحاجة والقدرة على الإعانة.

وما ذكر الشيخ أنه يعرف بها بموضع يرجو التعريف بها هو كذلك؛ لأن ذلك مظنة لوجود صاحبها، ويريد في غير المسجد ولكن على بابه.

ص: 266

وابن رشد عن المذهب ولفظ ابن رشد أقوى ونصه في المقدمات لقطة مكان لا يحل استنفاقها بإجماع، وعليه أن يعرف بها أبدًا وبها أيضًا قال اللخمي، وابن العربي في القبس بعد أن ذكر اللخمي القول الأول عن ابن القصار، وكذلك ابن العربي، وإنما اختار ما ذكره بعد أن ذكر الأول مالك قال: وتكلم علماؤنا في الاحتجاج لمالك والانفصال عن الحديث، ولا أرى مخالفة الحديث ولا تأويل ما لا يقبل.

وأجابه بعض شيوخنا بقاعدة مالك في تقديمه العمل على الحديث الصحيح حسبما ذكره ابن يونس في كتاب الأقضية، ودل عليه استقراء المذهب.

قال: وقول المازري: محمل الحديث على أصلنا على المبالغة في التعريف؛ لأن ربها يرجع لبلده وقد لا يعود إلا بعد أعوام حجة عليه لا له، وظاهر كلامه وإن كانت يسيرة أنها كالكثيرة ولابد من سنة وهو كذلك على ظاهر قول مالك في المدونة.

وقيل: يعرف بها أيامًا فقط قاله ابن وهب، وابن القاسم في المدونة والقولان حكاهما ابن رشد في المقدمات، وذلك مثل الدريهمات مما جرت العادة أن ربها يسمح بها.

وأما التافه فلا يعرف به وظاهر كلام التسوية بين حبسها وصدقتها ومثله في ابن الجلاب، وزاد ويتملكها وليس في كلام الشيخ خلاف.

وقال اللخمي: واختلف في صفة تصرفه فيها على أربعة أقوال: فقيل: إنه مخير في انفاقها والصدقة ويخير صاحبها في تضمينه وهو قول مالك: لا أحب أن يأكلها مع قول ابن القصار، ويكره أكلها، وقيل: يجوز استمتاعه بها غنيا كان أو فقيرا، ويضمنها لربها، وهو مقتضى قول ابن القاسم في المدونة، وقيل إن كان غنيا بمثلها قاله أشهب، وابن شعبان، وقيل: مثله إن قلت وكان فقيرا قاله ابن وهب في العتبية، وذكر ابن رشد مثل ما ذكر اللخمي من الأربعة الأقوال إلا أنه عزا قول ابن القاسم للشافعي لا لأحد من أهل المذهب.

وقال ابن العربي: لم أجد لأحد من المسلمين خلافًا في ضمان مستنفقها لربها، وأجابه بعض شيوخنا بأن في معلم المازري اختلف الناس في غرامة ملتقطها إن أكلها جاء ربها فعندنا يغرمها، وقال داود: لا غرامة عليه.

(وإذا عرف طالبها العفاص والوكاء أخذها):

قيل العفاص: هو وعاء الدراهم، والوكاء ما يشد به وهذا هو المعلوم في اللغة، وعليه أكثر الفقهاء، وقيل: بالعكس عزاه الباجي لأشهب، وعزا الأول لابن القاسم وهو

ص: 268

واضح لقوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف عددها ووكاءها ووعاءها" فجعل بدل العفاض الوعاء.

وظاهر كلام الشيخ أن الدنانير والدراهم لا يشترط معرفة عددها، وهو كذلك عند أصبغ واعتبر ذلك ابن القاسم وأشهب كذا عزاهما الباجي.

وعزا اللخمي الثاني كما ذكر والأول للمدونة.

قال بعض شيوخنا: وفيه نظر؛ لأن فيها يلزم دفعها لمن وصف عفاصها، ووكاءها وعددها قال: لم أسمع من مالك فيها شيئًا، ولا شك أن وجه الشأن أن تدفع إليه فظاهر هذا اعتبار العدد، وعلى هذا اللفظ اختصرها البراذعي، وفيها بعد ذلك أن دفعها لمن وصف عفاضها، ووكاءها وعددها ثم جاء آخر فوصف مثل ما وصف الأول وأقام بينه أن تلك اللقطة كانت له لم يضمنها له لأنه قد دفعها بأمر كان وجه الدفع فيه كذا جاء في الحديث " اعرف عفاصها ووكاءها".

فظاهر هذا مثل ما قال اللخمي قال: وفي اقتصاره على هذا دون الأول نظر، وكذلك بالنسبة إلى البراذعي لكونه اقتصار على الأول فقط، ظاهر كلام الشيخ، أنه لا يفتقر إلى اليمين كما هو ظاهر المدونة، وهو المشهور.

وقال أشهب: لابد من من اليمين وسبب الخلاف هل العرف يتنزل منزلة الشاهدين أو الشاهد الواحد، ولهذه المسألة نظائر كتصديق الزوجة في المسيس بإرخاء الستر عليه في خلوة الاهتداء، وكالقمط والعقود في الحائط، وكالحكم لأحد الزوجين بما يصلح ما في اختلافهما في متاع البيت، وتصديق المغصوبة إذا جائت مستغيثة عند النازلة أو جاءت تدمي وتصديق أحد المتداعيين مع الحوز وتصديق المرتهن في مبلغ قيمة الرهن.

وذكر المغربي في إرخاء الستور عوض هذه النظيرة تصدق الراهن في دفع الدين إذا قبض الرهن، ولا أعرفها منصوصه لغيره وكأنها مناقضة لما نص عليه ابن الهندي، وقبله هو وغيره فيما إذا وجدت الوثيقة بيد المديان ويقول ما قبضتها حتى دفعت ما على فإنه لا يقبل منه ويؤخذ بالحق؛ لأن من حجة رب الدين أن يقول سقطت لي أو سرقت إلا أن يقال: إن الاحتفاظ على الرهن أشد.

وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: أعرفها منصوصة لغيره، ومحملها عندي على ما إذا اقر المرتهن إنه إذا دفع الرهن، وأما إذا خالف وقال: لم أدفعه فإن القول قوله

ص: 269

كمسألة الوثيقة.

قال المازري في المعلم: ولو جهل عين المسروق منه فكاللقطة يأخذ السرقة ويصفها بما تؤخذ به اللقطة قاله أصحابنا.

واختلف في جهل المودع فقيل: كذلك وقيل: لأنه قادر على دفعها ببينة؛ لأنه مختار.

واعلم أنه إذا وصفها اثنان بما يأخذها به المنفرد تحالفا وقسمت بينهما فإن نكل أحدهما أخذها الحالف قال الباجي زاد اللخمي عن أشهب إن نكلا لم تدفع إليهما قال: وأرى أن يقتسماها.

قلت: قال بعض شيوخنا، وهو الجاري على قول ابن القاسم بعدم وقف أخذها بالصفة على اليمين قال اللخمي: وإن أخذها بالصفة ثم أتى آخر فوصفها بمثل وصف الأول قبل أن يتبين ويظهر أمرها قسمت بينهما على الصحيح من القولين فظاهره أن في ذلك خلافًا.

وقال ابن يونس: تقسم بينهما على قول ابن القاسم وعلى قول أشهب تكون للأول.

(ولا يأخذ الرجل ضالة الإبل من الصحراء):

ص: 270

ظاهر كلام الشيخ: وإن كانت بموضع لا يؤمن عليها من السباع وهو كذلك في أحد القولين، وظاهر كلامه أيضًا أنه يلتقطها إذا وجدها في غير الصحراء، وهو واضح؛ لأن وجود ربها في غير الصحراء أسهل فليلتقطها ليحفظها له حتى يجدها عن قرب بخلاف ما إذا وجدها في الصحراء فلا يتأتى له معرفه ربها إذا نقلها إلى العمارة.

واختلف هل يلحق البقر والخيل والبغال والحمير بالإبل أم لا؟ على ثلاثة أقوال: ثالثها لابن القاسم تلحق البقر دونها وهذه الأقوال حكاها ابن الحاجب.

قال ابن عبد السلام: وإنما تتصور الأقوال الثلاثة على نوع من التخريج.

(وله أخذ الشاة وأكلها إن كانت بفيفاء لا عمارة فيها):

ظاهر كلام الشيخ ولا ضمان عليه إن جاء صاحبها، وهو كذلك قاله مالك.

قال ابن عبد البر، وقال سحنون في العتبية: إذا أكل الشاة واجدها بالفلاة أو تصدق بها ثم جاء صاحبها ضمنها له، وهو الصحيح، وقد قال مالك: ومن اضطر إلى طعام غيره، وأكله فإنه يضمنه فالشاة الملتقطة أولى بذلك ورأوا أن قوله صلى الله عليه وسلم:" هي لك أو لأخيك أو للذئب" ليس بتمليك لقوله أو للذئب.

قالوا: وقد جاء: " هي لك أو لأخيك أو للذئب فاردد على أخيك ضالته" قيل: وإنما قوله هي لك مثل قوله في اللقطة فشأنك بها.

قلت: وما نقله عن العتبية قبله ابن عبد السلام: وقال بعض شيوخنا هو وهم وليس في العتبية شيء من ذلك، وإنما لسحنون فيها ضمانه فيما يجب عليه فيه التعريف.

قال فيها عنه: من اختلطت بغنمه شاة ولم يجد ربها كانت لقطة يتصدق بها ويضمنها لربها وشرب لبنها خفيف؛ لأنه يرعاها ويتفقدها فهذا هو الموجود فيها لا ما تقدم، وإذا فرعنا على الأول فإذا ذبحها في الفلاة ثم أتى بلحمها أكله غنيا كان أو فقيرا.

قال أصبغ: ويصير لحمها وجلدها مالا من ماله، ولا ضمان عليه في ذلك إلا أن يجده صاحبها في يده فيكون أحق به.

ص: 271

قال اللخمي: يريد ويغرم أجر نقلها.

قلت: قال بعض شيوخنا: وفيه نظر؛ لأنه نقلها لنفسه، وإن أتى بالشاة من الفلاة إلى العمارة فلها حكم اللقطة فإن أتى ربها أخذها قاله أصبغ أيضًا، وقال اللخمي: والقياس لا شيء فيها لربها؛ لأنه نقلها بعد أن ساغ له ملكها ولولا ذلك لما نقلها، وأجابه بعض شيوخنا بأن المملوك له منها الانتفاع بها لا ملكها.

وقال ابن رشد: تعقب التونسي قول أصبغ إذا قدم بها مذبوحة، وقال: الأصوب عدم أكله إياها، وإن يبيعها، ويوقف ثمنها؛ لأن الإباحه إنما كانت حيث لا ثمن لها، وهو صحيح، فيتحصل من هذا ثلاثة أقوال: قول أصبغ، وقول سحنون وقول التونسي.

وأما إذا وجد ما يفسد كالطعام وكان كثيرًا فلا يخلو إما أن يكون مما لا يخشى تلفه كوجوده في رفقة مأمونة أو قرية أم لا؟ فالأول: إن أكله أو تصدق به، واختلف في ضمانه له على ثلاثة أقوال: فقيل: إنه يضمنه أكله أو تصدق به وهو ظاهر قول أشهب يبيعه، ويعرف بثمنه وقيل: بعكسه، وهو ظاهر المدونة وقيل: إن أكله ضمنه، وإن تصدق به لم يضمنه قاله ابن حبيب.

وأما الثاني فيجوز له أكله ولا شيء عليه وهذه طريقة ابن رشد في المقدمات وما ذكر اللخمي الثلاثة في التافه وغيره وعزاه الأول كما تقدم والثاني لمالك والثالث لمطرف قال: وأرى فيما لا يطلبه ربه غالبًا لقلته لا شيء فيه إذا أكله أو تصدق به، وأما ما الغالب طلبه فعلى واجده حفظه لبقائه على ملك ربه فذكر كما ترى الأقوال في الكثير واليسير.

(ومن استهلك عرضًا فعليه قيمته):

ما ذكر أن العرض تلزمه فيه القيمة هو المشهور، وحكى الباجي عن مالك قوله بأن جميع المتلفات مثليه كقول أبي حنيفة والشافعي.

قال المازري: كذا في نسخ المنتقي وأراه وهما.

قلت: وحكاه عنه ابن زرقون، ولم يتعقبه، ولا نقل كلام المازري، مع أنه نقل عنه في غير موضع.

(وكل ما يوزن أو يكال فعليه مثله):

ظاهر كلام الشيخ أن من استهلك غزلا فعليه مثله، وهو كذلك عند غير ابن القاسم، وهو أشبه.

ص: 272

وقال ابن القاسم: تلزمه قيمته وكلاهما في المدونة وهي أول مسألة من كتاب تضمين الصناع.

فإن قلت: وهل حكم سلف الغزل يتنزل منزلة استهلاكه فيختلف فيه أم لا؟ قلت: ليس كذلك بل نقل ابن يونس في أوائل الجعل والإجارة عن البراذعي وعن محمد بن أبي زيد أنه يرد مثله، وسألت شيخنا أبا مهدي: هل تحفظ خلافة؟ قال: لا، وهو صواب؛ لأنه فرق بين السلف والاستهلاك، وكذلك اختلف ابن القاسم، وأشهب فيمن استهلك حليا إلا أن قول اشهب ليس هو في المدونة، وإنما نقله ابن يونس والأصل قول أشهب ولذلك قال بعض شيوخ الفاكهاني: الأصل أن يحكم في ذوات الأمثال بالمثل إلا في أربع مسائل: الأولى: مسألة الغزل.

الثانية: من فدى أسيرًا بدار الحرب بقنطار قطن مثلاً فإنه يأخذ قيمته ببلد الإسلام؛ لأنه لو أخذ القطن ربما أضر بالمفتدى.

الثالثة: إذا وهب لغيره هبة ثواب مما يكال أو يوزن فيفوت فعليه قيمته، وهل له أن يعطيه مثله؟ فقال ابن القاسم: ليس له ذلك خلافًا لأشهب.

الرابعة: إذا كان لشريكين على رجل قنطار كتان مثلاً فاقتضى أحدهما منه نصفه فدخل معه شريكه فيما اقتضى، وقلنا: إنه يرجع الآخر بالنصف الثاني، فقبضه منه فعليه أن يعطيه قيمة نصفه لشريكه.

وأما من قال: يرجعان جميعا فلا تخرج هذه المسألة عن الأصل.

وزاد الفاكهاني مسألة خامسة: وهي من اشترى صبرة جزافا فأتلفها البائع أو غيره فإنما فيها القيمة لا المثل ذكر ذلك عند تكلمه على كلام الشيخ، وكل بيع فاسد فضمانه من البائع.

ومسألة الحلي السابقة سادسة: وظاهر كلام غير واحد أن المعدود من ذوات القيم بالإطلاق.

وقال ابن رشد: المعدود الذي لا تختلف أعيان عدده كالجوز والبيض مثلي، قلت: وأما اللؤلؤ الصغير القدر جداً الذي لا يباع إلا وزنا فهو مثلي أيضًا بخلاف ما فوقه فإنه من ذوات القيم لكمال تباين آحاده، ولذلك قال في المكاتب لا تجوز الكتابة على لؤلؤ غير موصوف لتقارب الإحاطة بصفته يريد بصفة الوسط منه قاله بعض شيوخنا.

ص: 273

(والغاصب ضامن لما غصب)

قال ابن الحاجب مختصرا لكلام ابن شاس: الغصب أخذ المال عدوانا قهرًا من غير حرابة فأخرج بالعدوان ما أخذ قهرا لا عدوانا كأخذ الإمام الزكاة من الممتنع وتعقب بوجهين:

أحدهما: أن فيه التركيب وهو وقف معرفة على معرفة حقيقة أخرى ليست أعم منه، ولا أخص من أعمه.

الثاني: بأنه غير مانع لأنه يدخل عليه فيه المنافع كسكنى ربع وحرثه، وليس غصبًا بل تعديل، وهو لبعض شيوخنا وحده بأن قال: الغصب أخذ مال غير منفعة ظلما قهرا لا لخوف قتال فيخرج أخذه غيلة إذ لا قهر فيه؛ لأنه بموت مالكه وحرابه، ومعرفة حرمة الغصب في الدين ضرورة؛ لأن حفظ الأموال أحد الكليات التي اجتمعت الملل عليها.

قال ابن رشد في مقدماته، ومثله لابن شعبان، وغيره: ويؤدب فاعله سواء عفا عنه المغصوب منه أم لا!! لئلا يتجرأ على الناس، وما ذكروه هو خلاف نقل المتيطي لا يؤدب إن عفا عنه المغصوب منه فجعل الحق فيه للآدمي، وإن كان الغاصب صغيرا لم يبلغ فقيل: يسقط أدبه لرفع الإثم عنه.

وقيل: إنه يؤدب كتأديبه في المكتب وكلاهما حكاه ابن رشد في مقدماته، وغيره ولم يحك ابن الحاجب غير الثاني، ولم يتحقق ابن عبد السلام وجود الأول بل قال: أظن أني وقفت عليه لبعض الشيوخ.

قال ابن شعبان: والغصب بين الزوجين وبين الوالد، وولده ثابت لابد من أدبه، وفي اغتصاب الوالد من ولده خلاف، وبهذا أقول: وظاهر كلام الشيخ أن الغاصب يضمن وإن كان صبيا مميزا وهو كذلك باتفاق.

وأما غصب الصغير الغير المميز فقيل: كذلك وقيل، لا، كذلك الخلاف في الدم وجمع ابن الحاجب بينهما فذكر ثلاثة أقوال فقال: وأما غير المميز فقيل: المال في ماله

ص: 274

والدية على عاقلته، وقيل: المار هدر كالمجنون، وقيل: كلاهما هدر، واعترضه ابن عبد السلام بأن هذه الطريقة، وإن كانت حسنة في الفقه لكن الروايات لا تساعدها، وإنما تعرضوا للتحديد في هذه المسألة بالسنين فقيل: ابن سنتين، وقيل: ابن سنة ونصف إلى غير ذلك.

وأجابة بعض شيوخنا بأنها تساعده، قال ابن رشد في ثاني مسألة في رسم العتق من سماع عيسى من الجنايات: لا خلاف أن الصبي الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها أنه في جنايته في المال، والدماء كالمجنون، وفيها ثلاثة أقوال المذكورة وعزا الثالث لهذه الروايات والصبي قال: والصبي والمميز ضامن المال في ذمته والدماء على حكم الخطأ والمشهور أن الضمان يعتبر حالة الغصب إن فات المغصوب.

وقيل: يلزمه أرفع القيم نقله ابن شعبان عن ابن وهب، وأشهب، وعبد الملك قال: لأن عليه رده في كل وقت فمتى لم يرده فهو كغصبه حينئذ قال: وكذلك إذا كانت قيمته خمسين ثم بلغت ألفا ثم عادت إلى خمسين أو هلك فالقيمة عندهم على أرفع القيم.

قال اللخمي: فجعلوا له أرفع القيم مع وجود عينه وعدمها وأراه كذلك إن كان المغصوب للتجر لا للقنية، ولقول مطرف، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم وأصبغ، فيمن غصب دارًا فأغلقها أو أرضًا فبورها أو دابة فأوقفها يغرم إجارتها لمنعه ربها إياها.

(فإن رد ذلك بحاله فلا شيء عليه وإن تغير في يده فربه مخير بين أخذه بنقصه أو تضمينه القيمة):

ظاهر كلامه وإن تغير في سوقه وهو المشهور وتقدم الآن ما في ذلك.

واختلف إذا نقل الغاصب الطعام لغير البلد الذي غصبه فيه ووجده ربه على أربعة أقوال، فقيل: إنما يلزمه مثله في البلد الذي غصبه فيه قال ابن القاسم وقيل: إنه مخير في ذلك بين قيمته وأخذه قاله أشهب وقيل: إن لقيه ببلد بعيد عن بلد غصبه فالأول وإلا فالثاني قاله أصبغ.

وقال اللخمي: بعد أن نقل ما تقدم: إن له أخذ الطعام إن كان الغاصب مستغرق الذمة أو لم يكن سعره في بلد الغصب أقل منه في بلد النقل أو قال ربه: ادفع الأقل من نقله وزيادة سوقه.

قال ابن الحاجب: ولا خلاف أن الغاصب يمنع منه حتى يتوثق.

ص: 275

قال ابن عبد السلام: هذا صحيح في النظر، ولا يبعد وجود الخلاف فيه أو ما يدل عليه في فروعهم وأظن أني وقفت على ما يقتضي ذلك.

قلت: ولم ينقل الشيخ خليل ما ذكره، واعترضه بعض شيوخنا بأن قول وجود الخلاف فيه يقتضي وجود القول عنده؛ لأنه لا يحال بينه وبينه مع عدم التوثق منه، وهذا خلاف الإجماع على منع الحاكم من الحكم بما يقتضي تضييع الأموال على أربابها فتأمله.

وفسر خليل التوثق المذكور بأحد أمرين: إما برهن أو بضامن وقبله شيخنا أبو مهدي وهو عندي بعيد بالنسبة إلى الرهن، والصواب: الضامن فقط، والله أعلم.

قال الشيخ أبو مهدي، وفي الموازية عن ابن القاسم: لو اتفقا على أن يأخذ منه ثمنا نقدا جاز كبيع طعام القرض قبل قبضه، وقاله أصبغ، وروي ابن القاسم في المجموعة والعتبية: لا يجوز أخذه منها طعامًا يخالفه في جنس أو صفة؛ لأنه طعام بطعام مؤخر.

(ولو كان النقص بتعديه خير أيضًا في أخذه وأخذ ما نقصه، وقد اختلف في ذلك):

هذه المسألة هي من باب التعدي لا من باب الغصب ويعني أن من خرق ثوبًا مثلاً فأفسده فسادًا كثيرًا أن ربه مخير في أخذه وأخذ ما نقصه أو أخذ القيمة بخلاف اليسير، وهذا قول مالك في المدونة.

قال ابن القاسم فيها: وكان مالك يقول: ويغرم ما نقصه، ولم يفصل بين القليل والكثير ونقل غير واحد كابن يونس عن أشهب إنما له أخذ القيمة أو أخذه ناقصًا ولا شيء له معه، وقاله ابن القاسم في أحد قوليه. قال سحنون وفي المدونة إن أفسده يسيرا فلا خيار له وإنما له ما نقصه بعد رفوه.

قال ابن حارث: اتفاقًا من ابن القاسم، وأشهب زاد غيره، ومالك قال اللخمي: وليس فيه القضاء بالمثل ولو كان منه ما غرم النقص بعد إصلاحه، وقد تكون قيمة الثوب سالما مائة ومعيبًا تسعين فأجرة رفوة عشرة وتكون قيمته بعد إصلاحه خمسة وتسعين بخسر المتعدي خمسة، وقد لا تزيد إلا صلاح في قيمته معيبًا شيئًا وإنما يلزمه إصلاحه؛ لأن ربه لا يقدر على استعماله إلا بعده، ومثله من حلق رأس محرم كرها بفدي عنه؛ لأنه أدخله في ذلك.

واختلف في هذا الأصل هل يغرم الجارح أجرة الطبيب أم لا؟ على قولين الأحسن أنه على الجارح كأنه كالرفو قال ابن يونس: ولو قال قائل السير إنما عليه فيه ما نقصه فقط، لم يبعد؛ لأنه إذا أعطاه ما نقصه دخل فيه الرفق كقولهم فيمن وجد آبقا، وكذلك شاة له جعل مثله، ولا نفقة له؛ لأنها داخلة في تقويم جعل مثله.

ص: 276

قلت: وما ذكرناه قول ابن الحاجب قالوا: بعد رفو الثوب وشعب القصعة وضعف. واعترضه خليل بأنه يوهم تواطؤ أهل المذهب أو أكثرهم عليه، وإنما نقله ابن يونس عن بعض الأصحاب، ونحوه.

قال ابن عبد السلام: وإنما حكاه بعض الشيوخ وأنكره غيره، وقال ظاهر نصوصهم لا يلزم رفو الثوب ولا شعب القصعة ولعل هذا وما في معناه هو ما أراد بقوله: وضعف.

(ولا غلة للغاصب ويرد ما أكل من غلة أو انتفع بها، وعليه الحد إن وطئ ولده رقيق لرب الأمة):

قال ابن رشد في المقدمات: تحصيل اختلافهم في الغلة بعد اجتماعهم على أن ما هلك ببينة لا ضمان على الغاصب فيه، وأنه لا يقبل دعواه التلف، وإن كان مما لا يغاب عليه على ثلاثة أقسام قسم على خلقه الأصول كالولد، وفي إطلاق الغلة عليه نظر فلا خلاف عندهم أن عليه رده مع الأم إن كانت قائمة، وإن ماتت خير بين الولد وقيمة الأم.

قلت: وخرج الشيخ ابن القاسم السيوري: أن الولد غلة وهو للغاصب من قول مالك في المدونة في كتاب الرد بالعيب فيمن رد أمة ابتاعها بعيب فقد زوجها فولدت يجبر نقص النكاح بالولد كما يجبر بزيادة قيمتها، والنكاح ثابت.

قال المازري: ورد بوجهين:

أحدهما: لو كان غلة ما جبر به العيب؛ لأن الولد غير عين وقيمة العيب، إنما هي عين والجبر فيه يوجب كونه كعضو منها.

الثاني: أنه يجبرها وإن زاد على أرش العيب ولو كان كما قال لما جبر به مع الزيادة.

قال ابن رشد: وما كان متولدا على غير خلقة الأصول كالصوف واللبن ففيه قولان، وأما ما كان غير متولد كالأكرية والجراحات ففي ذلك خمسة أقوال ولم يعزها، وما ذكر من العزر هو للمغربي، فقيل: يرد ذلك قاله مطرف، وابن الماجشون، وأشهب وابن عبد الحكم، وأصبغ، وعكسه قاله مالك، وقيل: يرد إن اكتري ولا يلزمه إن انتفع أو عطل رواه أبو الفرج.

وقيل: يلزمه إن أكرى أو انتفع، ولا يلزمه إن عطل قاله مطرف، وقيل: يرد غلة الأصول دون الحيوان قاله ابن القاسم.

ص: 277

قلت: وأقام المغربي من قول المدونة من أنه إذا عطل لا شيء عليه على ما نص عليه في الواضحة من وكل على ربع فتركه ولم يكره فلا شيء عليه، قال: ويتخرج من قول مطرف ومن ذكر أنه يضمن.

قلت: ويرد بأن الغاصب أشد، وقبل شيخنا أبو مهدي ما نص عليه ابن سهل أن الوصي إذا بور ربع اليتيم؛ أنه ضامن وهو الصواب، ولا يتخرج في الوكيل؛ لأن الموكل قادر على أن يكري بنفسه أو يوكل غيره وبخلاف الموصى عليه والله أعلم.

(ولا يطيب لغاصب المال ربحه حتى يرد رأس المال على ربه):

قال اللخمي: واختلف في ربح الغاصب على ثلاثة أقوال: فقيل له سواء كان موسرا أم لا قاله مالك وابن القاسم.

وقيل له: إن كان موسرا قاله ابن حبيب، وابن مسلمة في الولي يتجر في مال يتيمه لنفسه.

قلت: ويرد بأن الغاصب أشد، وقيل: للمغصوب منه بقدر ما ربح في ذلك المال لو بقي في يده، وما زاد عليه للغاصب، وذكره ابن سحنون فيمن شهد بدين حال أن صاحبه أخر الغريم به سنة ثم رجع عن الشهادة بعد محل الأجل.

قال التادلى: وقول الشيخ: ولا يطيب أي لا يحل اختلاطه بالمحرم وحمل عبد الوهاب على الكراهة قائلاً: لأن الشيء المعصوب في ذمته فكان الربح بحكم الشرع؛ لأنه مكروه؛ لأنه نشأ عن مال لم تطب نفس مالكه بتقبله فإذا رد رأس المال على ربه ساغ له.

(ولو تصدق بالربح كان أحب إلى بعض أصحاب مالك، وفي باب الاقضية شيء من هذا المعني):

كلام الشيخ دل على قولين:

أحدهما: إذا رد رأس المال على ربه؛ أنه يطيب له الربح، ولا يستحب له الصدقة به، وإلى هذا أشار بقوله: ولا يطيب لغاصب المال ربحه حتى يرد رأس المال على ربه.

الثاني: أنه يستحب له الصدقة به ولهذا أشار بقوله: ولو تصدق بالربح كان أحب إلى بعض أصحاب مالك وعرضت هذا على شيخنا أبي مهدي رحمه الله فاستحسنه وقال به.

ص: 278