المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب - شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة - جـ ٢

[ابن ناجي التنوخي]

الفصل: ‌باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

وإن بدأت بالأختين لم يبق للزوج حقه فأشيروا علي فقال ابن عباس صلى الله عليه وسلم: عوله إلى سبعة أجزاء؟ فادفع ثلاثة منها للزوج وأربعة للأختين قال: أرأيت لو مات رجل وترك ستة دراهم ولرجل عليه ثلاثة ولآخر أربعة كيف تصنع أليس تجعل المال سبعة أجزاء فقال نعم فقال العباس هو كذلك وأجمع الصحابة عليه إلا عبد الله بن عباس وكان في ذلك الوقت صغير فلما كبر أظهر الخلاف.

(ولا يعال للأخت مع الجد إلا في الغراء وحدها وهي امرأة تركت زوجها، وأمها وأختها لأبوين أو لأب وجدها فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس فلما فرغ المال أعيل للأخت بالنصف ثلاثة ثم جمع إليها سهم الجد فقسم جميع ذلك بينهما على الثلث لها والثلثين له فتبلغ سبعة وعشرين سهما):

ما ذكرالشيخ من تصورهما هو كذلك ومثله عن زيد بن ثابت وعنه تصح من ستة وتسقط الأخت، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصح من تسعة ويأخذ كل واحد ما بيده ولا يجمع نصيب الجد مع نصيب الإخوة وعن ابن مسعود تصح من ثمانية للأم السدس سهم.

وما ذكر أنها تسمى الغراء وبذلك سماها مالك فقيل: لأنها من غرة الفرس إذ لا يعرف في مذهب مسألة يفرض فيها للأخت مع الجد إلا هذه فكانت شهرتها في مسائل الجد وبيانها كغرة الفرس وقيل: من الغرور لأن الجد غر الأخت بسكوته عنها حتى فرض لها النصف ثم عاد عليها فقاسمها وتسمى هذه الأكدرية أيضا.

واختلف لأي شيء سميت بذلك فقيل: لتكدر قول زيد فيما قالوا لأنه فرض للأخت مع الجدولم يكن قبل ذلك يفرض لها معه، قال الفاكهاني: هذا القول ساقط عندي فول كان المعنى على ذلك لقيل: مكدرة لأن اسم الفاعل من كدر مكر إجماعا وقيل: إن رجلا فرضيا أتى بها يقال له الأكدر وقيل من بني الأكدر فسأل عنها عبد الملك بن مروان وهو يومئذ خليفة فأخطأ فيها ثم استدرك خطأه فقال له إليك عني يا أكدري وقيل: إن عبدالملك سأله عنها فغلط فنسبها إليه.

‌باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

سئل أبو محمد رضي الله عنه عن وضعه لهذا الباب وما قصد به مع أن فيه كثيرا من المكروه وهو مناف لشرط اختصاره فقال: لما رأيت الناس زهدوا في العلم ورغبوا عن تعليمه وقد أمرنا بنشر العلم بحسب الإمكان قصدت إلى تجديد عيون ما تقدم، إذ الواجب على كل مكلف أن يحفظ عين ما كلف به ويعمل على الجزم فيما خوطب به

ص: 420

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك بأصحابه سبيلا فإذا رأى منهم مللا سلك بهم مسلكا آخر تنشيطا لهم وإذهابا للكسل قلت وها أنا أسلك مسلك الشيخ رحمه الله تعالى.

(والوضوء للصلاة فريضة وهو مشتق من الوضاءة إلا المضمضة والاستنشاق

ص: 421

ومسح الأذنين منه فإن ذلك سنة):

ظاهره سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا وهو كذلك من غير خلاف أعلمه وإن كان وقع في كلام بعضهم خلاف فيجب تأويله، وقدمنا أن حكم المضمضة والاستنشاق السنة في مشهور المذهب وقيل إن ذلك فضيلة حكاه ابن بشير في شرحه على ابن الحاجب ووقفت عليه الآن للمازري أيضا في شرحه على التلقين ومسح الأذنين حكمهما السنة وقيل فرض، وهذا الخلاف في الظاهر وأما في الباطن فهو سنة اتفاقا، واختلف في الظاهر والباطن، وفي كلام الشيخ مسامحة لأنه لم يف بذكر السنن لأنه ترك غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء إلى غير ذلك.

(والسواك مستحب مرغب فيه):

ما ذكره هو المعروف واختار بعض شيوخنا أنه سنة لمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمره به وقال أحمد بن حنبل وغيره: هو واجب وقال الفخر في المعالم: أجمعوا على أنه مندوب إليه، واعترضه ابن هارون بقول أحمد وغيره وأراد بالغير إسحاق بن راهويه، وداود الطائي إلا أن اسحاق أبطل صلاته بتركه عمدا، وداود مطلقا على ظاهر ما نقل عنه، ويكون بغير الإصبع إلا أن لا يجد شيء بستاك به. وظاهر كلام الشيخ فيما سبق به أنه جائز أو هو أرجح من غيره حيث قال: وإن استاك بإصبعه فحسن.

(والمسح على الخفين رخصة وتخفيف):

ما نقله عليه الأكثر وقيل: سنة وقيل: فرض ولهذه الأقوال الثلاثة حكاها ابن الطلاع قائلا: إن نفس المسح فرض والانتقال إلى المسح رخصة ويرد عليه أن كلامه يقتضي أنه رابع وليس كذلك بل من عبر بالفريضة والخلاف في حكمه ابتداء هل هو رخصة أو سنة على أنه رخصة قد يقال إن الأولى ترك ذلك وعلى أنه سنة يكون راجح الفعل وعلى كل منهما ينوي الفريضة قولا واحدا والله أعلم.

(والغسل من الجنابة ودم الحيض والنفاس فريضة):

يدخل في الجنابة مغيب الحشفة، وقد قدمنا أنه اختلف في دم الاستحاضة إذا انقطع على ثلاثة أقوال: السقوط والاستحباب وكلاهما في المدونة والوجوب نقل مالك حكاها ابن الحاجب قال ابن بشير فيها قولان.

ص: 422

(وغسل الجمعة سنة):

ما ذكر هو المشهور وقيل: إنه مستحب وقيل: إنه واجب أخذا من قول المدونة وغسل الجمعة واجب واعترض بأنه في المدونة لفظ أثر وأوجب اللخمي الغسل على أصحاب الروائح الكريهة لئلا يؤذوا غيرهم والمشهور أنه يشترط اتصال الرواح ووقع لابن وهب ما يقتضي أنه لا يشترط.

(وغسل اليدين مستحب):

ما ذكر هو قول الأكثر وقيل إنه سنة واختار اللخمي فيه كما سبق ويتخرج الوجوب فيه من باب أخرى من غسل الجمعة.

(والغسل على من أسلم فريضة لأنه جنب):

ظاهر كلام الشيخ يقتضي إذا لم تسبق منه جنابة أنه لا يجب عليه الغسل وهو كذلك على المشهور وقيل إن الغسل عبادة فيغتسل وإن لم تسبق منه جنابة، وقال القاضي إسماعيل يستحبله وإن كان جنبا لقوله صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله" وألزمه اللخمي الوضوء ونقل عنه المازري أنه قال لا يلزمه الوضوء لأن الله تعالى أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء فقال (يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة) [المائدة: 6]

وهذا إنما يتمشى على أن وضوء التجديد فرض أما أنه فضيلة فلا.

(وغسل الميت سنة والصلوات الخمس فريضة):

ما ذكره هو أحد القولين في غسل الميت وقيل: أنه فرض قال عبد الوهاب وابن محرز وابن عبد البر وزعم ابن بزيزة أن المشهور هو الأول.

(وتكبيرة الإحرام فريضة وباقي التكبير سنة):

قد تقدم أن المازري قال في شرحه على الجوزقي كان عبد الحميد الصائغ يحكي في تكبيرة الإحرام سنة، وحكى ابن رشد قولا إن جميع التكبير سنة واحدة وعندي كلام الشيخ يحتملها هنا وينبني على هذا الخلاف إذا ترك المصلي أكثر من تكبيرة هل يسحد أم لا؟ والخلاف في ذلك شهير.

(والدخول في الصلاة بنية الفرض فريضة):

لا خلاف أن الصلاة تفتقر إلى نية لأنها عبادة محضة ويشترط اقترانها بتكبيرة الإحرام وقيل: يجوز تقديمها بالزمن اليسير قاله ابن رشد رحمه الله واختلف هل يلزمه أن ينوي الخروج من الصلاة أم لا؟ والأكثر على أنه لا يضر، واختلف إذا دخل بنية الظهر وخرج بنية العصر مثلا على قولين والأكثر على أنه لا يجزئه.

ص: 423

(ورفع اليدين سنة):

ما ذكر هو أحد الأقوال الثلاثة وقيل فضيلة وهو المشهور وقيل لا يرجع حكاه ابن شعبان عن مالك من رواية ابن القاسم ويكون الرفع مقارنا لتكبيرة الإحرام على طريق الأولى وإن تقدم أو تأخر فلا جناح والمشهور أنه مختص بتكبيرة الإحرام وفيها أقوال متعددة وانظرها فيما تقدم.

(والقراءة بأم القرآن في الصلاة فريضة وما زاد عليها سنة واجبة والقيام والركوع والسجود فريضة):

جميع ما ذكر هو قول الأكثر وروى الواقدي عن مالك: أن من لم يقرأ في جميع صلاته أنه لا شيء عليه، قال الباجي وهو شذوذ.

وروى علي بن زياد عن مالك: أحب إلى أن يعيد وحكم السورة السنية على المنصوص وفيها قول بالفضيلة أخذه اللخمي من قول مالك وأشهب لا يسحد من تركها سهوا، ورده ابن بشير باحتمال قصر السجود على ما ورد ولم يرد فيها.

وأجابه ابن هارون بأن أصل مذهب مالك أن السجود لا يقصر على ماورد قال: ولم نعلم فيه خلافا ولو لزم ذلك للزم ترك السجود في جل مسائل السهو وقيل إنها فرض وأخذها اللخمي أيضا من قول عيسى بن دينار: من تركها عمدا بطلت صلاته ورده المازري باحتمال أن يكون البطلان لترك السنة عمدا، قال شيخنا حفظه الله وظاهر كلام الشيخ أن مطلق الزيادة على أم القرآن سنة لا إن جميع السورة سنة، وهو كذلك وهذا بالنسبة إلى الفرض وأما قراءتها في النفل فقال ابن رشد مستحبة لسماع ابن القاسم لا سجود لتركها في الوتر.

(والجلسة الأولى سنة والثانية فريضة):

أراد بقوله والثانية فريضة مقدار ما يقول فيه السلام عليكم فإنه فرض لا خلاف في ذلك وما زاد على ذلك فهو سنة كما قال الشيخ وقيل: إن كلا الجلستين أعني الوسطى والأخيرة فرض، قال ابن زرقون: وهو ظاهر نقل أبي عمران وأبي عمر بن عبد البر عن أبي مصعب وقيل إن الأخير منها فرض رواه أبو مصعب.

(والسلام فريضة):

ما ذكره هو المعروف وحكى الباجي عن ابن القاسم من أحدث في آخر صلاته أجزأته صلاته، واعترضه ابن هارون نقلا ومعنى.

أما نقلا فلأن المنقول عن ابن القاسم إنما هو في جماعة صلوا خلف إمام فأحدث إمامهم فلسلموا هم لأنفسهم فسأل عن ذلك فقال تجزئهم صلاتهم أي تجزئ

ص: 424

صلاة المأمومين فقط. وأما معنى فلأن الأمة على قولين: منهم من يرى لفظ السلام بعينه وهو مالك، ومنه من لا يراه لكن يشترط أن ينوي بكل مناف الخروج من الصلاة وأما ما حكاه الباجي من إطلاقه فهو خلاف ما عليه الأمة. وقبله ابن عبد السلام على أن الأخير لا يسلم من اعتراض حسبما قدمناه.

(والتيامن به قليلا سنة):

يعني سنة ضعيفة وظاهر كلام غير واحد أن ذلك فضيلة.

(وترك الكلام في الصلاة فريضة والتشهدان سنة):

يعني فرض مع الذكر ساقط مع النسيان وجعله ابن الحاجب من الشرط لا من الفرائض.

(والقنوت في الصبح حسن وليس بسنة):

اعلم أن قوله ليس بسنة تأكيد لأن قوله حسن يدل على ذلك، وما ذكره أنه حسن بمعنى الفضيلة هو المشهور وقيل إنه سنة قاله علي بن زياد وابن سحنون وهو ظاهر قول السليمانية يسجد لسهوه وهو قول المدونة قال فيها عن ابن مسعود: القنوت في الفجر سنة ماضية والأصل الحقيقة وإتيان سحنون به دون أن يأتي بخلافه يدل على ارتضائه ذلك وقال يحيى بن يحيى: لا يقنت وإنما قال ذلك لقول مالك في الموطأ: كان ابن عمر لا يقنت وعلى الأول فلا سجود كالفضائل فإن سجد بطلت حكاه ابن رشد عن أشهب وقال الطليطلي وإذا قلنا بالسنة فنص علي بن زياد على أنه إن لم يسجد بطلت وهو قائل بذلك في كل سنة.

وقال بعض المتأخرين: من أراد أن يخرج من الخلاف فليسجد بعد السلام وبه قال وأفتى بعض من لقيناه من القرويين ونص ابن الحجب على أنه لا بأس برفع يديه في دعاء القنوت وظاهر المدونة خلافه، قال فيها: ولا يرفع يديه إلا من الاستفتاح شيئا خفيفا والمشهور أنه لا تكبير له. وروي أن مالكا كبر حين قنت.

(واستقبال القبلة فريضة):

يريد مع القدرة ويريد أن ذلك مخصوص بغير النوافل في السفر الطويل للراكب وجعل ابن الحاجب استقبال القبلة من الشروط لا من الفرائض، فإن صلى لغير القبلة ناسيا أو جاهلا فقيل: بعيد أبدا وقيل: في الوقت وإن كان باجتهاد فالمشهور يعيد في الوقت، وقال ابن سحنون: يعيد أبدا وقال ابن مسلمة: إن استدير يعيد أبدا وكل هذا في قبلة الاجتهاد وأما قبلة عيان فيعيد أبدا بالإطلاق اتفاقا فيما قد علمت.

ص: 425

(وصلاة الجمعة والسعي إليها فريضة):

المنصوص والمعروف أن الجمعة فرض ع ين وخرج اللخمي أنها فرض كفاية، وروى ابن وهب أنها سنة فحملها بعضهم على ظاهره ولم يرتضه ابن عبدالسلام، وإنما كان السعي فرضا لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

(والوتر سنة واجبة):

يعني مؤكدة وهذا هو المنصوص وخرج اللخمي وابن زرقون أنه واجب من قول سحنون يجرح تاركه وأصبغ يؤدب واعتذر بعض شيوخ المازري على الأول بأن تركه علامة استخفافه بأمور الدين، واعتذر المازري عن الثاني بأن تأديبه واستخفافه بالسنة، كقول ابن خويز منداد ترك السنة فسق وإن تمادى عليه أهل بلد حوربوا، وقال ابن عبد السلام تخرجي اللخمي عندي قوي حسن من قول أصبغ ضعيف من قول سحنون وقال ابن عبد البر: ضارع مالك وجوب من قوله تقطع صلاة الصبح.

(وكذلك صالة العيدين والخسوف والاستسقاء):

أما ما ذكر من أن صلاة العيدين سنة هو المعروف قال ابن بشير: لا يبعد كونها فرض كفاية لأنها إظهار لأبهة الإسلامة ونقل ابن حارث عن ابن حبيب أنها واجبة على كل من عقل الصلاة من النساء، والعبيد والمسافر إلا أنهم خطبة عليهم.

وناقض بعض شيوخنا قول ابن حارث هذا بقوله في أول الباب: اتفقوا على أنها لا تجب على النساء ولا على أهل القرى البعيدة عن الحواضر، ولما ذكر ابن عبد السلام القول بالسنة قال: وذهب بعض الأندلسيين إلى أن ذلك فرض كفاية وأراد به ابن زرقون على بعد في ذلك حسبما قدمناه، وأما ما ذكر من أن حكم صلاة الخسوف السن هو كذلك باتفاق بالنسبة إلى الخسوف وأما خسوف القمر فقيل كذلك، قاله ابن الجلاب واللخمي وقيل ذلك فضيلة.

وروي عن مالك وبه قال أشهب: ومثله في التلقين، وأما ما ذكر من أن صلاة الاستسقاء سنة فهو كذلك من حيث الجملة قال اللخمي: ويستحب أن يقيمها المخصبون للمجدبين ولسعة الخصب مباح.

(وصلاة الخسوف واجبة أمر الله سبحانه بها وهو فعل يستدركون به فضل الجماعة): يريد أنها سنة مؤكدة وصرح بأن حكمها السنة ابن يونس في أول كتاب الصلاة ونقل عن ابن المواز لما تكلم على صلاة الخسوف أنها رخصة وتوسعة.

(والغسل لدخول مكة مستحب والجمع ليلة المطر تخفيف وقد فعله الخلفاء الراشدون والجمع بعرفة ومزدلفة سنة واجبة):

ص: 426

ظاهر كلامه أن الجمع رخصة وصرح به قبل حيث قال: وأرخص في الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر وهو خلاف رواية ابن عبد الحكم الجمع ليلة المطر سنة وخلاف قول ابن قسيط: الجمع ليلة المطر سنة ماضية والأصل الحقيقة وإتيان سحنون به يدل على ارتضائه ووقع لابن القاسم الجمع غير مشروع، وأن من جمع أعاد العشاء أبدا حكاه الباجي وإليه نحا القرافي في استشكاله الجمع بأن رعاية الأوقات واجبة وفائدة الجمع تحصيل فضيلة الجماعة وهي مندوب إليها فكيف يترك الواجب لأجل تحصيل المندوب، قلت ورد بأن الجمع إما سنة كما قدمنا واستشكال السنة لا يجز وإما رخصة وقد علمت أن الرخصة ارتكاب المحظور لأجل اقيام المانع.

وللقراني جواب عن ذلك لم أذكره لطوله وضعفه وتولى خليل بيان ضعفه وهل هذه الرخصة على القول بها راجحة أو مرجوحة في ذلك قولان للخمي وابن رشد، وظاهر كلام الشيخ الأول لقوله وقد فعله الخلفاء والله أعلم.

والصواب أنها مرجوحة إذ ليست بمتفق عليها ألا ترى ما تقدم عن ابن القاسم وقد جرت العادة في أفراد من المساجد بعدم الجمع فيها كجامع الزيتونة عندنا بتونس.

(وجمع المسافر في جد السير رخصة):

ظاهر كلامه أن جد السير شرط وهو كذلك، وقال أصبغ: لا يشترط وقيل: يشترط في حق الرجال دون النساء قاله بعض شيوخ المذهب، وظاهر كلامه أنه لا يشترط فوات أمر وهو كذلك عند ابن حبيب وفي التهذيب اشتراطه ونصه ولا يجمع المسافر إلا أن يجد السير به ويخاف فوات أمر.

وقال أشهب: يشترط فوات أمر مهم فهو أخص من قول التهذيب فهو قول ثالث والرابع لابن الماجشون الفرق بين الرجال والنساء، وظاهر كلام الشيخ أن الجمع جائز دون كراهة وهو كذلك.

وروي عن مالك أنه مكروه مطلقا.

وروي عنه الكراهة للرجال فقط، وهذه الأقوال الثلاثة حكاها عياض في الإكمال ونقل عبدالحق جوازه في البر دون البحر.

(وجمع المريض جاف أن يغلب على عقله تخفيف):

المشهور أن الجمع الإغماء مطلوب ومنعه ابن نافع وعلى الأول فهل تقدم الثانية إلى الأولى أو يصلي كل صلاة لوقتها في ذلك خلاف قال الفاكهاني: لم فرق بين جمع المسافر وجمع المريض فعبر عن الأول بالرخصة وعن الثاني بالتخفيف مع أن معنى الرخصة التخفيف قلت: تفنن في العبارة والله أعلم.

ص: 427

(وكذلك جمعه لعلة فيكون ذلك أرفق به):

ما ذكره هو المشهور ومنع ابن نافع هو كالأول نقله ابن رشد والخلاف في كيفية الجمع لما سبق، وقال ابن بشير المريض يجمع مطلقا اتفاق وهو قصور لنقل ابن نافع وحفظ ابن الحاجب الخلاف في الثانية دون الأولى فقال: والمريض إذا خشى الإغماء جمع وإن لم يخش فقولان ذكرهما ابن عبد السلام قال بعض شيوخنا ومذان طريقان لا أعرفهما لغيرهما.

(والفطر في السفر رخصة والإقصار فيه واجب):

لا خلاف أن الفطر في سفر القصر جائز واختل فهل هو أفضل من الصوم أو العكس وهو المشهور أوهما على حد السواء في ذلك ثلاثة أقوال حكاها غير واحد، قال ابن حبيب: الصوم أفضل إلا في الجهاد للتقوي على العدو وجعله كالتفسير للمدونة، وظاهر كلام ابن يونس أنه خلاف.

وقول الشيخ الإقصار فيه واجب ظاهره أنه فرض وهو ظاهر قوله قبل حيث قال: فعليه أن يقصر الصلاة وهو أحد الأقوال الأربعة.

وقيل: سنة وهو المشهور. وقيل: فضيلة.

وقيل: مباح وقول الفاكهاني يحتمل ما ذكرناه ويحتمل أن يريد وجوب السنن المؤكدة وهو أولى لأنه المشهور بعيد لما قلناه من قوله فعليه أن يقصر الصلاة فهو كالنص في الوجوب، فيحمل قوله هذا عليه دفعا للخلاف وتقدم فرقا بين الفطر والقصر أفضلهما أن القصر تبرأ منه الذمة في الحال ولا كذلك الفطر فإن الذمة مشغولة بالقضاء.

(وركعتا الفجر من الرغائب وقيل من السنن):

أراد بالرغيبة الفضيلة والقول بالفضيلة هو نقل الأكثر ولاقول بالسنة هو قول أشهب، قال الفاكهاني: وفائدة الخلاف تفاوت الثواب فإن ثواب السنة أكثر من ثواب الرغيبة والنافلة، كما أن ثواب الواجب أكثر من ثواب السنن هذا في الفعل وأما في الترك عمدا فإن قلنا إنها سنة جرى فيها الخلاف في تارك السنن عمدا هل يأثم أم لا؟ قلت يحتمل أن يراعي قائله الخلاف فلا يأثم والله أعلم.

(وصلاة الضحى نافلة):

ما ذكر مثله في التلقين وظاهر كلام ابن عبد البر أنه فضيلة لقوله ورد في صلاة الضحى والوصية آثار كثيرة.

(وكذلك قيام رمضان نافلة وفيه فضل كبير ومن أقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه):

ص: 428

لما خاف أن يتوهم أن حكمه النافلة أردفه بقوله: وفيه فضل كبير وما بعده ليبين أن حكمه الفضيلة التي هي أقوى من النافلة وهذا قول ابن حبيب خلافا لابن عبد البر في قوله: إن قيامه سنة.

(والقيام من الليل في رمضان أو غيره من النوافل المرغب فيها):

قيام الليل من شعائر الأنبياء والصالحين وشيم المخلصين ومذهبنا أن أفضل الليل الثلث الأخر لحديث النزول ومذهب الشافعي الوسط أفضل لحديث داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.

(والصلاة على موتى المسلمين فريضة يحملها من قام بها وكذلك مواراتهم بالدفن وغسلهم سنة واجبة):

ما ذكر الشيخ من أن الصلاة على ميت المسلم فرض كفاية هو قول ابن عبد الحكم وأشهب وسحنون والقاضي عبد الوهاب وهو ظاهر نقل ابن الجلاب عن مالك في قوله قال مالك: صلاة الجنازة واجبة وقيل: إنها سنة قاله أصبغ، وقال ابن زرقون في تلقين الشارقي هي مستحبة ورواه ابن عيشون وأخذ ابن القاسم أنها غير واجبة من قول مالك تجوز صلاة الجنازة بتيمم الفريضة ومن تشبيه فعلها بعد صلاة العصر بسجود التلاوة، قال ولم أجد لمالك فيها نصا وأجيب بالنسبة إلى التخريج لكونها فرض كفاية وبقصوره بقوله لم أجد فيها نصا.

ونقل ابن الجلاب عن مالك وجوبها، وأورد الشيخ شهاب الدين القرافي على القول الأول سؤالا وهو إذا تعذر الوجوب على جملة الطوائف في فرض الكفاية فكيف يسقط عمن لم يفعل غيره مع أن الفعل البدني كصلاة الجنائز والجهاد مثلا لا يجزئ فيه أحد عن أحد فكيف يسوي الشرع بين من يفعل ومن لم يفعل، وأجاب بأن الفاعل يساوي غير الفاعل في سقوط التكليف لا في الثواب وعدمه وما ذكر من أن المواراة فرض كفاية لا أعلم فيه خلافا وما ذكر من أن غسلهم سنة واجبة أراد أنها سنة مؤكدة قاله غيره وزعم ابن بزيزة أنه المشهور وقيل إنه فرض قاله عبد الوهاب وغيره والعجب من الشيخ في تكرره لغسل الميت مع أنه سبق له في هذا الباب.

(وكذلك طلب العلم فريضة عامة يحملها من قام بها إلا ما يلزم الرجل في خاصة نفسه):

ظاهر كلام الشيخ أنه لا يجب عليه تعليم العلم الزائد على فرض العين وإن كان فيه القابلية وهو خلاف قول سحنون بوجوبه عليه والنفس أميل إليه وجعله شيخنا أبو مهدي المذهب قال: لا أعلم خلافه ولأنه ممن تلبس فصار من الجاهلين له بطلب العلم

ص: 429

أن القابلية فيه لا تعلم إلا بعد التلبس.

(وفريضة الجهاد دعامة يحملها من قام بها إلا أن يغشى العدو محلة قوم فيجب فرضا عليهم قتالهم إذا كانوا مثلي عددهم):

يعني أن الجهاد فرض كفاية وهو كذلك بإجماع نص عليه ابن القصار وانتقد ابن عبدالسلام قول ابن الحاجب بذلك قال ابن المسيب وابن شبرمة وغيرهما أنه فرض عين وحكي عن سحنون أنه سنة ليس بفرض، وقال طاوس: السعي على الأخوات أفضل من غير أن هذه الأقوال لا يبعد تأويلها وردها إلى ما نص عليه الجمهور وقال وحق ابن الحاجب أن يقول: الجهاد واجب على الكفاية على الجمهور وانظر ما تقدم لخليل في هذا.

(والرباط في ثغور المسلمين وحياطتها واجبة يحمله من قام به):

قال ابن سحنون وغيره: قال مالك: ليس من سكن بأهله بالاسكندرية وطرابلس ونحوها بمرابطين إنما المرابط من خرج من منزله مرابطا فرابط في نحر العدو وحيث الخوف، قال الباجي: وعندي أن من اختار استيطان ثغر الرباط فقط ولولا ذلك لأمكنه المقام بغيره له حكم الرباط، وروى ابن وهب: الرباط أحب إلي من الغزو على غير وجهه وهو الصواب وأحب إلي من الرباط.

(وصوم شهر رمضان فريضة):

اختلف العلماء في إطلاق رمضان على الشهر على ثلاثة أقوال ثالثها: إن كان هنالك فرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة وإلا كره والقول بالكراهة قاله أصحاب مالك.

(والاعتكاف نافلة والتنفل بالصوم مرغب فيه):

اختلف في حكم الاعتكاف على أربعة أقوال: فقيل: نافلة كما قال الشيخ ونحوه قال القاضي عبد الوهاب: هو قربة وقال ابن العربي في العارضة: هو سنة ولا يقال فيها مباح وقول أصحابنا في كتبهم: جائز جهل، قلت ليس بجهل إنما قصدهم بذلك نفي ما يتوهم من كراهته.

وقال ابن عبد البر في الكافي: هو في رمضان سنة وفي غيره جائز، وقال ابن عبدوس وروى ابن نافع: ما رأيت صحابيا اعتكف وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم حتى قبض وهم أشد اتباعا فلم أزل أفكر حتى أجد في نفسي أنه لشدته نهاره وليله سواء كالوصال المنهي عنه مع وصاله صلى الله عليه وسلم فأخذ منه ابن ابن رشد كراهة لتلك.

(وكذلك صوم يوم عاشوراء ورجب وشعبان وصوم يوم عرفة ويوم التروية وصوم

ص: 430

يوم عرفة لغير الحج أفضل منه للحاج):

قال ابن رشد: أفضل الصوم بعد رمضان صوم يوم عاشوراء وقد كان فرض قبل رمضان قال الفاكهاني رحمه الله: وفيه نظر لأن عاشوراء تكفر السنة قبلها فقط، ويوم عرفة تكفر السنة التي قبلها والتي بعدها كما جاء في الصحيح والتكفير منوط بالأفضلية فمن ادعى غير هذا فعليه الدليل.

(وزكاة العين والحرث والماشية فريضة وزكاة الفطر سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أراد الشيخ بقوله: فرضها: قدرها فلا تناقض في كلامه وقول ابن عبدالبر قول الشيخ أبي محمد سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمريض للسنة ضعيف لما قد قدمناه، وما ذكر من أن حكمها السنة عزاه ابن عبد البر لبعض أصحاب مالك وعزاه ابن رشد لبعض أصحابنا وذكره بعضهم عن مالك، وقال الباجي واللخمي: إنها واجبة، وأخذ ذلك من قول المجموعة إنها داخلة في قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة) [البقرة: 43]

وغيرها وجعله ابن الحاجب المشهور.

(وحج البيت فريضة والعمرة سنة واجبة والتلبية سنة واجبة والنية بالحج فريضة والطواف للإفاضة فريضة والسعي بين الصفا والمروة فريضة وكذلك الطواف المتصل به واجب وطواف الإفاضة آكد منه والطواف للوداع سنة والمبيت بمنى ليلة يوم عرفة سنة والجمع بعرفة واجب والوقوف بعرفة فريضة ومبيت المزدلفة سنة واجبة ووقوف المشعر الحرام مأمور به):

لا خلاف أن الحج فرض واشتهر الخلاف هل ذلك واجب على الفور أو على التراخي؟ ويجب على الأعمى إذا وجد قائدا واختلف في السائل إذا كانت العادة أنه يعطى فقيل: يجب عليه وقيل لا واختلف إذا كان يؤدي غفرا بحيث لا يجحف به هل يجب عليه أم لا؟

(ورمى الجمار سنة واجبة وكذلك الحلاق وتقبيل الركن سنة والغسل للإحرام سنة والركوع عند الإحرام سنة وغسل عرفة سنة):

ما ذكر هو المشهور وقال ابن الماجشون بوجوب جمرة العقبة قاله غير واحد.

(والغسل لدخول مكة مستحب):

قال الفاكهاني: انظر لم جعل الغسل لدخول مكة منحطا عن رتبة السنن حيث عبر بالاستحباب قلت: يحتمل أنه أراد به ليس بتأكيد السنن كغيره.

(والصلاة في الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة):

ص: 431

واختلف في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال: فقيل: سنة قاله الأكثر وقيل: فرض كفاية نقله الأكثر ابن محرز وغيره عن بعض أصحابنا وقيل مندوب إليها مؤكدة الفضل قاله عبد الوهاب في تلقينه ومثله قول ابن العربي في عارضته ويحث عليها وقال ابن رشد: مستحبة للرجل في خاصته فرض في الجماعة سنة في كل مسجد واختلف هل تتفاضل بالكثرة أم لا؟ والمشهور أنها لا تتفاضل خلافا لابن حبيب، وحمل بعض الشيوخ المذهب على قول ابن حبيب وجعل معنى المشهور أن الجماعة سواء بالنسبة إلى عدم الإعادة في جماعة نقله ان عبد السلام ولا أعرفه لغيره، وأقل الجمع اثنان باتفاق.

(والصلاة في المسجد الحرام ومسجد الرسول عليه السلام فذا أفضل من الصلاة في سائر المساجد واختلف في مقدار التضعيف بذلك بين مسجد الحرام ومسجد الرسول عليه السلام ولم يختلف أن صلاة في مسجد الرسول أفضل من ألف صلاة فيما سواه وسوى المسجد الحرام بدون الألف وهذا كله في الفرائض وأما النوافل ففي البيوت أفضل):

واختلف في مقدار التضعيف وقد تقدم في باب الأيمان والنذور أن المشهور من المذهب أن المدينة أفضل من مكة وقيل مكة أفضل من المدينة حكاه عياض عن ابن حبيب وابن وهب واختاره بابن عبد السلام ووقف الباجي.

(والتنفل بالركوع لأهل مكة أحب إلينا من الطواف والطواف للغرباء أحب إلينا من الركوع لقلة وجود ذلك لهم):

قال الفاكهاني: تعليله بقلة وجود ذلك للغرباء فيه نظر لأن التنفل بالصلاة أفضل من التنفل بالطواف ولذلك كانت الصلاة لأهل مكة أفضل من الطواف وإذا كان ذلك فينبغي أن لا يفرق بين الغرباء وأهل مكة إذ المحافظة على الأفضل أولى من المحافظة على المفضول لاسيما على القول بمساواة النافلة للفريضة في الفضل.

(ومن الفرائض غض البصر عن المحارم وليس في النظرة الأولى بغير تعمد حرج ولا في النظر إلى المتجالة ولا في النظر إلى الشابة لعذر من شهادة عليها):

الأصل في غض البصر قوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)[النور: 30]

قال ابن عطية: الأظهر في من أن تكون للتبعيض بخلاف الفروج إذ حفظها عام ويؤيد هذا التأويل ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست الثانية لك" وقال ابن جرير عن عبدالله:

ص: 432

سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: "اصرف بصرك" قال ويصح أن تكون من لبيان الجنس ولابتداء الغاية والبصر هو الباب الكبير إلى القلب وأعم طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثرة السقوط من جهته فوجب التحذير منه.

قال الفاكهاني: وأحسن الشيخ رحمه الله في قوله بغير تعمد لأن النظرة تعمدا حرام وإن كانت الأول وأما المتجالة فيجوز النظر إليها لقوله تعالى (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا)[النور: 60]

الآية.

(وقد أرخص من ذلك للخاطب):

سمع ابن القاسم لمن يريد تزويج امرأة نظره إليها بإذنها قال ابن رشد: يريد إلى وجهها قال المارزي: ويديها وكره مالك أن يتغفلها وأجازه ابن وهب واختار ابن الفطان كون النظر إليها مندوبا إليه لحديث الأمر به، وما إلى جواز النظر إلى جميع الجسد سوى السوأتين وزيد نقل جواز النظر إليها عن داود قال، وروى قاسم بن أصبغ عن الخشني عن أبي عمرو عن سفيان بن عيينة عن عمر بن دينار عن محمد بن دينار عن محمد بن علي بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب إلى علي رضي الله عنه بنته أم كلثوم فذكر له صغرها فقيل له: إن ردك فعاود فعاوده فقال له علي رضي الله عنه: أبعث بها إليك فإن رضيتها فهي امرأتك فأرسل بها إليه فكشف عن ساقيها فقالت له فقالت له: لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك ويزيد فيها أهل الأخبار أنه بعث إليه بثوب وقال لها: قولي له هذا الذي قلت لك عليه، فقال لها عمر قولي له رضيت به فلما أدبرت كشف عن ساقيها فقالت له ما سبق، ذكره فلما رجعت إلى أبيها قالت له: بعثتني إلى شيخ سوء فعل كذا فقال لها: هو زوجك يا بنية وما ذكر عن أهل الأخبار ذكره ابن عباس وابن عبد البر بأتم من هذا فانظره. ابن العربي في الأحكام في قوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق)[الحجرات: 6]

الآية.

من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا لأن الخبر أمانة والفسق قرينة تبطلها فأما في الإنشاء عن نفسه فلا يبطل إجماعا وأما على غيره فإن الشافعي قال: لا يكون وليا في النكاح وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا ثم قال: ولا خلاف أنه يكون رسولا عن غيره في قوله يبلغه أو شيء يوصله أوإذن يعلمه إذا لم يكن عن حق المرسل والمبلغ فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله وهذا جائز للضرورة الداعية إليه ولو لم يتصرف بين الخلق في هذا المعنى إلا العدول ما تحصل منها شيء لعدمهم في ذلك.

ص: 433

(ومن الفرائض صون اللسان عن الكذب والزور والفحشاء والغيبة والنميمة والباطل كله).

قال التادلي رحمه الله: الكذب على خمسة أقسام:

واجب: لإنقاذ مال مسلم أو نفسه.

ومحرم: وهو الكذب لغير منفعة شرعية.

ومندوب: وهو الكذب للكفار بأن المسلمين أخذوا في أهبة الحرب إذا قصد بذلك إرهابهم.

مكروه: وهو الكذب لزوجته ليطيبها لنفسه.

قلت: وقال ابن رشد: جوزت السنة الكذب فيه وفي الحراب لتحذير الكفار قوله: إنه مكروه قال: ومباح وهو الكذب للإصلاح بين الناس، وأراد الشيخ بقوله والزور قول الزور، قال الفاكهاني: والزور والكذب كأنهما مترادفان، قلت: ليس كذلك لأن الزور أخص والغيبة أن يقول الإنسان في غيره في مغيبة ما يكرهه ولو كان ما لا يكرهه فليست بغيبة كما إذا قال رجل فلان سار ولرجل من أعراب إفريقية فليس ذلك بغيبة عندهم لأنهم يقدحون بذلك لأنه لا يتعاطى ذلك إلا من هو شجاع عندهم، وسمعت عبر واحد من شيوخ القرويين وغيرهم يفتي أن الغيبة في الفاسق لا تجوز وما جاء في حديث "لا غيبة في فاسق" لم يصح سلمنا صحته فبعضهم حمله على من يتمدح لذلك، وبعضهم يقول ليس فيها جلاء للجواز إذ يتحمل أن يكون معناه لا غيبة جائزة في فاسق وإلى الآخر مال صاحب الذخيرة في قواعده وعزاه الجماعة من الفضلاء.

وأما النميمة فهي نقل الكلام الفاسد بين الناس وينشأ عن ذلك مفاسد بحسب القول والقائل والمقول به وفيه.

(قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ليقل خيرا أو ليصمت"، وقال "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)

ذكر هذين الحديثين دليلا لما سبق وقد بعث بعض الأمراء إلى زياد بن عبد الرحمن الملقب بشطور يسأله عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة قال: ممن من فضة أو من ذهب؟ فكتب إليه: حدثنا أنس بن مالك وذكر سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال" من حسن

ص: 434

إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وسترد أيها الأمير يوم القيامة فتعلم هل هما من ذهب أو فضة، وذكر ذلك عياض في مداركه، واعلم أن هذين الحديثين عظيمان من وقف معهما وحافظ عليهما سلم.

فالأول: يقول الإنسان إذا وفقه الله أنه لا يتكلم إلا بالقرآن أو بعلم غالبا، وقيل: إن أبا بكر الصديق صلى رضي الله عنه كان يجعل في فيه حصاة يتذكر بها ما يقول أو نحو ذلك.

ويقول: العبادة عشرة أجزاء تسعة في السكوت وواحدة في طلب المعيشة، وكان الشيخ أبو علي البخاري رضي الله عنه يقول: إنما جعل لك لسان واحد وأذنان ليكون ما تسمع أكثر مما تقول ويقال لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب.

وأما الثاني: فيحمل الإنسان إذا وفقه الله على أن يجتنب صحبة من لا خلاق له ويرغب في صحبة من هو خير منه فيتعلم من علمه وعمله وورعه ولا يتعاطى فعلا لا يليق به حتى إذا تلبس بمباح ينقل نفسه إلى المندوب والذي يثاب عليه نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يملكنا نفوسنا وأن يذكرنا عيوبنا بمنه وكرمه.

(وحرم الله سبحانه دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها ولا يحل دم مسلم إلا أن يكفر بعد إيمانه أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغيرنفس أو فساد في الأرض أو يمرق من الدين ولتكف يدك عما لا يحللك من مال أو جسد أو دم ولا تسع بقدميك فيما لا يحل لك ولا تباشر بفرجك أو بشيء من جسدك ما لا يحل لك قال الله سبحانه (والذين هل لفروجهم حافظون) إلى قوله (فأولئك هم العادون)[المؤمنون: 5 - 7]:

قال عبد الوهاب: أراد بقوله أو يمرق من الدين الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ومنهم المبتدعة من القدرية والإباضية الذين قال فيهم مالك بالاستتابة فإن تابوا وإلا قوتلوا.

(وحرم الله سبحانه الفواحش ما ظهر منها وما بطن):

أراد بذلك قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها)[الأعراف: 33]

والفاحشة: قيل كل مستقبح من قول أو فعل ما ظهر للأعين وما بطن أي ستر.

(وأن يقرب النساء في دم حيضهن أو دم نفاسهن وحرم من النساء ما تقدم ذكرنا إياه):

ص: 435

لا خلاف أنه لا يجوز له وطؤها في الفرج كما أنه لا خلاف أنه يجوز له التمتع بما فوق الإزار واختلف فيما تحته من غير الفرج على قولين المشهور أنه لا يجوز.

(وأمر بأكل الطيب وهو الحلال فلا يحل لك أن تأكل إلا طيبا ولا تلبس إلا طيبا ولا تركب إلا طيبا ولا تسكن إلا طيبا وتستعمل سائرما تنتفع به طيبا ومن وراء ذلك مشتبهات من تركها سلم ومن أخذها كان كالواقع حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

ما ذكر الشيخ من أن الطيب هو الحلال صرح بذلك سحنون بن سعيد، قال أبو عبدالله بن عبدوس: واعلم أن عماد الدين وقومه وهو طيب المطعم فمن طاب كسبه زكا عمله ومن لم ينصح في طيب مكسبه خيف عليه ولا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع عمله لأن الله تعالى يقول "إنما يتقبل الله من المتقين) [المائدة: 27]

وقد أخذ سحنون بن سعيد عن عبدالرحمن بن القاسم عن عبدالله بن عبدالعزيز الزاهد يرفع الحديث إلى عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم "من المؤمن" قال "الذي إذا أصبح سأل من أين قرصاه" قلت: يا رسول الله من المؤمن قال "الذي إذا أمسى سأل من أين قرصاه" قلت يا رسول الله لو علم الناس ذلك لتكلفوه قال "قد علموا ولكنهم قد غشموا المعيشة غشمها".

قال الشيخ أبو محمد: تعسفوا تعسفا ونظر عمر إلى المصلين فقال: لا يغرني كثيرة رفع أحدكم رأسه وخفضه، الدين الورع في دين الله، والكف عن محارم الله والعمل لحلاله وحرامه، قال بعض الشيوخ: وأصول الحلال صيد البحر وصيد البر وتجارة بصدق وصناعة بنصح ومغنم قسم بعد وميراث عن قريب وماء من غدير ونبات من أرض غير متملكة وهدية من صالح وسؤال عن حاجة والمتشابه: هو ما اختلف فيه بالحلية والتحريم وقيل ما توقف فيه العلماء كخنزير الماء قال بعضهم: يجب على المكلف طلب الحلال المتفق عليه عند أهل العلم فإن لم يجد فالمتفق عليه في المذهب فإن لم يجد فليجتهد في معرفة أصول ما يشتريه فإن تعذر فشراء الخبز أولى من شراء الدقيق وشراء الدقيق أولى من شراء القمح والمجلوب عن قرب أولى من شرائه عن بعد وفي وجوب السؤال عن أصل محله قولان.

قال الفاكهاني: لا ينبغي اليوم أن يسأل عن أصل شيء فإن الأصول فيه فسدت واستحكم فسادها بل يأخذ الشيء على ظاهر الشرع أولى له من أن يسأل عن شيء فيتعين له تحريمه ثم هو الأرفق بالناس لا قول من قال الحلال ما علم أصله، والذي

ص: 436

عندي في هذا الزمان أن من أخذ قدر الضرورة لنفسه وعياله من غير سرف ولا زيادة على ما يحتاج إليه ما لم يأكل حراما ولا شبهة، وقد قال قاسم بن محمد: لو كانت الدنيا حراما لما كان بد من العيش ألا ترى أنه لا يحل أكل الميتة ومال الغي للمضطر على تفصيل تقدم فما ظنك بما ظاهره الإباحة هذا لا يكاد يختلف فيه اليوم والله أعلم.

(وحرم الله سبحانه أكل المال بالباطل):

دليل ذلك قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)[البقرة: 188]

قال النبي صلى الله عليه وسلم "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به" أو كما قال عليه السلام قال: "ما يريد من الفواكه والثمار ولبن الغنم يحلبها" فقال ابن الفرس لا خلاف في أكل المحتاج من هذه الأشياء وإن لم يأذن ربها، واختلف في غير المحتاج على أربعة أقوال: فقيل: يجوز له ذلك، وقيل: بعكسه، وقيل: يجوز للصديق الملاطف دون غيره، وقيل: يجوز في اللبن دون الفواكه والثمار.

(ومن الباطل الغصب والتعدي والخيانة والربا والسحت والقمار والغرو والغش والخديعة والخلابة):

الغصب: هو ملك الرقبة وأما التسلط على المنفعة هو التعدي.

والخيانة: أخذ ما أؤتمن.

والربا: قيل المراد به ما كانت الجاهلية عليه من فسخ الدين في الدين يقول المطلوب أجرني وأزيدك فقال سواء علينا إن زدنا في أول البيع أو عند محل الأجل فكذبهم الله تعالى قاله مجاهد وغيره فالألف واللام على هذا القول في قوله تعالى (وحرم الربوا)[البقرة: 275]

بالتعريف العهد. وقيل المراد به ما حرم التفاضل فيه لأن الربا في اللسان الزيادة فالألف واللام على هذا لتعريف الجنس، وقيل مراده كل بيع محرم بالإطلاق وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعائشة رضي الله عنهما.

والسحت: هو الرشوة وقيل هو القمار على الحمام والقمار معلوم عند العامة فضلا عن غيرهم.

والغش: كخلط دنئ بجيد قاله الفاكهاني.

والخلابة: بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام الخديعة وفي الصحيح أن رجلا كان يخدع في البيوع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا بعت فقل لا خلابة" أي لا خديعة أي

ص: 437

لا يحل لك خديعتي ولا تلزمني خديعتك هكذا فسر فيكون الشيخ ذكر الخديعة من باب ما اختلف لفظه واتفق معناه.

(وحرم الله سبحانه أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وما ذبح لغير الله وما أعان على موته ترد من جبل أو وقذة بعصا أو غيرها والمنخنقة بحبل أو غيرها إلا يضطر إلى ذلك كالميتة وذلك إذا صارت بذلك إلى حال لا حياة بعده فلا زكاة فيها):

قال الله تعالى (حرمت عليكم الميتة): [المائدة: 3]

الآية قال الفاكهاني: قد تقدم الكلام على هذا في موضعه بما يغني عن الإعادة وما أحسن قول من قال ومن شأن الناس معادات المعاودات قلت، وظاهر كلام الشيخ سواء أنقذت مقاتلها أم لا فمهما آيس من حياتها فلا تؤكل وهو كذلك على خلاف.

(ولا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع ويتزود فإن استغنى عنها طرحها):

اعلم أن قول الشيخ لا بأس نفي لما يتهم وإلا فالواجب أكله منها إجماعا، وما ذكر أنه يشبع هو قول سحنون وأكثر أهل المذهب وبه الفتوى، وقال ابن حبيب وابن الماجشون وأبوه وحكى ابن المنذر وعبد الوهاب عن مالك: لا يؤكل منها إلا ما يسد به رمقه خاصة، وهذا القول هكذا عزاه عياض في إكماله وهو الذي تركن إليه النفوس ومثل هذا الاختلاف اختلاف سحنون وابن حبيب فيمن اضطر لعطش في رمضان فأزاله هل يجوز له أكل بقية يومه أم لا؟ ويقرب منه اختلافهم فيمن يباح له أخذ الزكاة فقيل يجوز إعطاؤه ما يغنيه نصابا فأكثر قاله مالك وقيل: يمنع أن يعطي النصاب قاله عبد الملك والقولان حكاهما ابن الجلاب، واختلف هل يأكل من ميتة الآدمي أو لا يأكل لحمته على قولين.

(ولا بأس بالانتفاع بجلدها إذا دبغ):

ظاهر كلام الشيخ أن الذبغ يقيد بالانتفاع بالجلد في المائعات وغيرها وهو كذلك عند سحنون وغيره وقيل إن طهارته مقيدة باليابسات والماء وحده من المائعات لأن الماء يدفع عن نفسه وهذا القول هو المشهور، وظاهره أنه لا ينتفع به قبل الدبغ وهو كذلك وحكى بن رشد عن ابن وهب وظاهر سماع ابن القاسم أنه ينتفع به زعم ابن حارث الاتفاق على الأول، وما ذكر أنه لا يصلي عليه هو المشهور وكذلك في البيع وقيل يجوز البيع إذا دبغ وقيل يجوزه مطلقا وقول الشيخ وأحب إلينا أن يغسل هو خلا ابن حبيب بوجوب غسله.

وظاهر قوله ولا ينتفع بريشها: التحريم وتقدم أن في القرن والظلف والسن ثلاثة

ص: 438

أقوال ثالثها: الفرق بين طرفها وأصلها وكذلك في العظم الثلاثة حكاها غير واحد، وحكى الباجي فيه الفرق بين أن يصلق أم لا كأحد الأربعة في أنياب الفيل، وحمل بعض من لقيناه من القرويين قول الشيخ وكره الانتفاع بأنياب الفيل على ظاهره فجعله خامسا والأقرب رده إلى التحريم لعدم وجودها لغيره، قال الفاكهاني: هذا الذي ذكر الشيخ قد تقدم في الضحايا بعينه واستوعب الكلام عليه هناك

من بعض النسخ لكنه ثابت في روايتنا.

(وكل شيء من الخنزير حرام):

قال عبد الوهاب: يريد مما يؤكل قلت وقد تقدم الكلام على شعر الخنزير هل نجس أو طاهر وهو المشهور وكذلك القولان في شعر الكلب.

(وحرم الله سبحانه شرب الخمر قليلها وكثيرها وشراب العرب يومئذ فضيخ التمر، وبين الرسول عليه السلام أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام):

قال الله تعالى (إنما الخمر والميسر)[المائدة: 90]

الآية وخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مسر خمر وكل خمر حرام ومن شرب خمرا في الدنيا ومات هو يومئذ لم يتب لم يشربها في الآخرة" وفي حديث أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني أنهاكم عن كل مسكر" وخرج البزار وغيره عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب.

وروى مرفوعا من حديث جماعة من الصحابة وكلهم ما بين ضعيف ومجهول، وقول الشيخ: وشراب العرب يومئذ فضيخ التمر قال الجوهري: والفضيخ شراب يتخذ من البسر وحده من غير أن تمسه النار.

(فكل ما خامر العقل فأسكره من كل شراب فهو خمر):

قال عبد الوهاب: أما إن أراد أنه من باب التحريم والحكم كالخمر فذلك صحيح لاجتماعهما في العلة وأما إن أراد أنه يسمى خمرا في اللغة حتى إذا ثبت ذلك صح دخوله تحت قوله تعالى "إنما الخمر والميسر"[المائدة: 90]

الآية وتحت سائر الظواهر الواردة بتحريم الخمر فهذا مبني على صحة القياس في اللغة قد سلك هذه الطريقة أبو بكر بن الجهم ورواه ابن وهب وهي مسألة من أصول الفقه وفيها خلاف.

ص: 439

(وقال الرسول عليه السلام: أن الذي حرم شربها حرم بيعها):

هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليها الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها" وكذلك لعن صلى الله عليه وسلم الخمرة عشرة: عاصرها، ومن اعتصرت له، وبائعها، ومن ابتاعها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وشاهدها، وآكل ثمنها.

(ونهى عن الخليطين من الأشربة وذلك أن يخلطا عند الانتباذ وعند الشرب):

يريد بالخليطين البسر والرطب والتمر والزبيب.

(ونهى عن الانتباذ في الدباء المزفت):

الدباء معلومة وهي القرعة المزفت قلال أو ظروف تزفت أو تقير ولا خصوصية ما ذكر الشيخ رحمه الله من أن النهي عن الانتباذ فيما ذكر في الحديث الصحيح أن نهي عن التقير أيضا وهو قعر النخلة التي تنقر منه الآنية كذلك نهي عن المحنتم قال ابن حبيب: وهو ما كان من الجرار الكبار أخضر وأبيض مطليا بالزجاج الإمام المازري في المعلم في كتاب الإيما، روى ابن حبيب أنه أرخص في المحنتم، وروى القاضي أبو محمد المنع وأما النقير فروى عن مالك الكراهة والرخصة فيه وأما الدباء والمزفت فكره مالك نبيذهما قال ابن حبيب والتخليل أحب إلي.

(ونهى عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل لحوم الحمر الأهلية ودخل مدخلها لحوم الخيل والبغال لقول الله تبارك تعالى: (لتركبوها وزينة)[النحل: 8]).

اختلف في أكل كل ما يفترس على ثلاثة أقوال: فقيل: أكله حرام وقيل مكروه وقيل: ما يعدو حرام كالأسد والنمر وما لا يعدو فمكروه كالضبع والهر وكذلك اختلف في الحمر الأهلية والبغال بالتحريم والكراهة في الخيل ثلاثة أقوال: هذان القولان والثالث الإباحة هذا الذي نقله أهل المذهب، وحكى النووي عن مالك في الحمر الأهلية الإباحة كالخيل ولا أعرفه لغيره وعلل من ذهب إلى التحريم بأمره صلى الله عليه وسلم بإراقتها وأجاب من أباح أكلها خارج المذهب عن ذلك خوف الفناء عليها مع الحاجة إليها فإذا كثرت كزماننا جاز أكلها وفعله صلى الله عليه وسلم أدبا لأنها طبخت قبل القسمة أو لأنها كانت جلالة.

(ولا زكة في شيء منها إلا في الحمر الوحشية):

قال الفاكهاني: يريد زكاة لحمه وإلا ففي الكتاب تزكية السباع لأخذ

ص: 440

جلودها وتقدم ما ذكره الباجي من أن الزكاة توجب طهارة ما زكي مطلقا سواء قلنا يؤكل أو لا يؤكل.

(ولا بأس بأكل سباع الطير وكل ذي مخلب منها):

ما ذكر هو المشهور روي عن مالك: لا يؤكل كل ذي مخلب من الطير والمشهور لا كراهة في الخطاف وقيل مكروه وقال ابن بشير: هل هذا لأنه لا كبير لحم فيها فدخلت في باب تعذيب الحيوان لا لفائدة قال ابن عبدالسلام وفيه نظر.

(ومن الفرائض بر الوالدين وإن كانا فاسقين وإن كانا مشركين فليقل لهما قولا لينا):

اعلم أن بر الأب والأم متساو وتؤول أنه اختيار مالك ومذهبه وروي عن الليث بن سعد خلافه وذكر المحاسبي أن على تفضيل الأم على الأب في البر إجماع العلماء قال عبد الوهاب: والأبوان الكافران كالمسلمين إلا أن برهما ينقطع بالموت.

قال بعض الشيوخ: والفاسق من الأبوين يزاد في الدعاء على الآخر وقيل لشهاب بن خراش ما جعلت لأبيك من دعائك؟ قال: الثلثين ولأمي الثلث فقيل له: أليس يقال للأم ثلثا البر فقال: بلى ولكن أبي شرطي لأبي هريرة. واختلف في بر الجد فقال أبو بكر الطرطوشي: لم أجد نص العلماء في الأجداد والذي عندي أنهم لا يبلغون مبلغ الآباء واستدل بسلب الأبوة عنهم في الحقيقة بقوله تعالى (أحدهما أو كلاهما)[الإسراء: 23]

ولو كان حكم الأجداد لقاله بلفظه الجمع وبقوله "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك فأدناك" وفي حديث آخر "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك ثم أدناك فأدناك" قال: وفصل صلى الله عليه وسلم ورتب الإخوة بعد الآباء واحتج بقوله تعالى (كما ربياني صغيرا)[الإسراء: 24]

والتربية لا تكون إلا للوالدين.

قال عياض في الإكمال: والذي عندي خلاف ما ذهب إليه كله والمعروف من قول مالك ومن وافقه من أهل العلم من أصحابه لزوم بر الأجداد وتقديمهم وقربهم من الآباء، وقد روي عن مالك أنه لا يقتص من الجد لابن ابنه إلا أن يفعل به ما لا شك في قصده قتله كالأب سواء، وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنه لا يجوز كالآباء وكذلك اختلف في تغليظ الدية عليه في عمد قتله وفي قطعه في السرقة من مال حفيده، وأما الحديث الي احتج به من قوله أمك وأباك وأخاك ومولاك فهو حجة عليه لأنه لما لم يذكر الأجداد وقد ذكر الموالي دل على أنهم داخلون في عموم الآباء قلت: وقد ذكرنا بعض هذا الاحتجاج في أواخر الجهاد وابن عبد السلام حسن قول الطرطوشي قال:

ص: 441

وإن احتجاج عياض إنما يتم على من يدعي أن الجد لاحظ له من البر وهذا لم يذهب إليه أحد وسمعت شيخنا أبا مهدي أيده الله يذكر أهل قرطبة اختلفوا هل يجوز أن توكل الأم ولدها على والده أو يمنع وأنه حكم بجوازه.

(ولا يطعهما في معصية كما قال الله سبحانه):

قال ابن القاسم: إذا طلب الأعمى من ولده أن يذهب به إلى الكنيسة فليطعهما ويحميهما ويعطيهما ما ينفقان في أعيادهما ولكن لا يتولى ذلك بنفسه ولا يعطيهما ما ينفقان في الكنيسة وقال أشهب: لا يفعل ذلك كله.

(وعلى المؤمن أن يستغفر لأبويه المؤمنين وعليه موالاة المؤمنين والنصيحة لهم):

إنما كان عليه أن يستغفر لهما لقوله تعالى (وقل رب ارحمهما)[الإسراء: 24]

الآية وفي الحديث إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر الولد الصالح يدعو له. وقد أجمع العلماء على أن الميت ينتفع بالدعاء له، وبالصدقة عليه، واختلف في قراءة القرآن على أربعة أقوال للعلماء يفصل في الثالث بين أن يكون عند القبر فينتفع بها الميت وإلا فلا، قال الفاكهاني: وذهب بعض الشافعية وأظنه أبا المعالي إلى أن القارئ إذا نوى أول قراءته أن يكون ثواب ما يقرأه لفلان الميت كان ذلك له وإلا فلا إذ ليس له أن ينقل ما ثبت ثوابه لغيره، قوله وعليه موالاة المؤمنين والنصيحة لهم، قيل هذا لقوله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة" الحديث.

وروي عن جابر أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم وقال صلى الله عليه وسلم "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوان" وقال التادلي: اختلف إذا كان هناك من يشارك في النصيحة هل تجب عليك النصيحة أم لا سواء طلب منك أم لا كمن رأيته يفسد في صلاته؟ فقال الغزالي: يجب عليك النصح وقال ابن العريب، لا يجب قلت: الذي أقول به ما قاله الغزالي ويكون ذلك برفق لأنه أقرب للقبول.

ولا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

هذا الحديث يدل على أن المطلوب للعالم أن يود أن يكون كل الناس علماء مثله

ص: 442

وكذلك الصالح والغني، قال النواوي قال الشيخ أبو محمد بن الصلاح: هذا الحديث قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يجب حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله وإخواننا من ذلك أجمعين.

(وعليه أن يصل رحمه):

يريد بنفسه وماله إلا أن يعرض له ما هو أوكد كتعليمه العلم في بلد نائية يعسر عليه الزيارة لهم والدليل على ما ذكر الشيخ قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض)[الأنفال: 75]

الأية وفي الحديث "صلة الرحم، تزيد في العمر" ويحتمل هذا بالنسبة إلى الملائكة وفي الحديث "الرحم معلقة بالعرش تقول يا رب صل من وصلني، واقطع من قطعني".

(ومن حق المؤمن على المؤمن أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشمته إذا عطس ويشهد جنازته إذا مات ويحفظه إذا غاب في السر والعلانية):

لا شك أن هذا من حقه كما قال ويتكلم الشيخ بعد على حكم الإسلام ابتداء وانتهاء.

(ولا يهجر أخاه فوق ثلاث ليال والسلام يخرجه من الهجران ولا ينبغي له أن يترك كلامه بعد السلام):

والأصل في ذلك ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" وروى مالك عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسولا الله صلى الله عليه وسلم قال "تفتح أبوا الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا" قال بعض من لقيناه من القرويين قول الشيخ والسلام يخرج من الهجران إذا نوى به ذلك وإلا فلا ويذكر أن أبا عمران نص عليه.

ص: 443

(والهجران الجائز هجران ذي البدعة أو متجاهر بالكبائر):

قال الفاكهاني: يريد بالبدعة المحرمة كأهل الأهواء والخوارج: وفي البدعة المكروهة عندي نظر هل يحل هجران مرتكبها أم لا؟

(ومن مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك):

قيل هذه الألفاظ الثلاث تفسير لقوله (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)[الأعراف: 177]

، واختلف العلماء هل ينفع تحليل من الظلامات والتباعات أم لا؟ على ثلاثة أقوال فقال ابن المسيب بعدم التحليل مطلقا وقال غيره بعكسه وفرق مالك بين الظلامات فلا تحل بخلاف الديون ونحوها، قال ابن العربي: إذا مات الذي له التباعات انتقلت إلى ورثته وإذا رد الغاصب ما كان عليه للورثة برئ من التباعات بإجماع وبقي عليه حق المطل.

واختلف إذا لم يعط الغاصب للورثة شيئا ثم اجتمعوا في الآخرة لمن يكون ما عليه هل للورثة أو للميت؟ على قولين قلت: وأفتى شيخنا أبو محمد عبدالله الشيبيي- رحمه الله بأن ذلك للورثة وعلل بما سبق من أنه لو دفعه إليهم تبرأ ذمته إجماعا وذلك حق للورثة وشق ذلك على العامة بالقيروان لكثرة المطالب التي يؤدونها على الزرع لغلبة الأعراب عليه فجعل الفلاحون يأتون أفواجا ويقولون يا سيدنا بلغنا كذا فيقول نعم فيها خلاف وهذا الذي ظهر لي من الترجيح فرأيت بعضهم يبكي واشتد بكاؤه فجعل الشيخ يقول لهم على طريق المؤانسة على الظالم ما تعبتم بسببه وما غير به قلوبكم إلى غير ذلك.

(وجماع آداب الخير وأزمته تتفرع عن أربعة أحاديث قول النبي علي السلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" وقوله عليه السلام "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقوله للذي اختصر له في الوصية "لا تغضب" وقوله "المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحبه لنفسه"):

أما الحديث الأول فخرجه مسلم، وأما الحديث الثاني فخرجه الترمذي من كتاب الزهد في حديث الزهري من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي وهو غريب من هذا الوجه والمشهور عن مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام وحديث "إنما الأعمال بالنيات والحلال بين والحرام بين، ومن وراء ذلك أمور متشابهات وازهد

ص: 444

في الدنيا يحبك الله" وقد نظمها أبو الحسن ظاهر بن فورك رحمه الله تعالى فقال:

عمدة الشرع عندنا كلمات: أربع من كلام خيرالبرية

اتق الشبهات وازهد ودع ما: ليس يعنيك واعملن بنية

وأما الحديث الثالث فخرجه البخاري ولم يخرجه مسلم أخرجه البخاري في كتاب الأدب عن يحيى بن يوسف عن أبي بكر بن عياش عن أبي حفص عن أبي صالح عبد الله بن ذكوان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الحديث الرابع فخرجه مسلم ولفظه " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو لجاره ما يحب لنفسه" هكذا في مسلم على الشك وهكذا هو في مسند عبدالله بن حميد على الشك وهو في البخاري من غير شك، قال العلماء: معناه لا يؤمن الإيمان التام والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث "حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه".

(ولا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل كله):

الباطل ضد الحق قولا كان أو فعلا ومفهوم الشيخ أن سماعه من غير تعمد جائز وهو كذلك كالنظرة الأولى قال الفاكهاني: وقد روي عن ابن عمر فيما أظن أنه لما سمع صفارة الراعي سد أذنيه وكان معه إنسان فيقول له تسمع حتى بعد عن الصوت فظاهر هذا عدم التحريم إذ لو كان حراما لأمر من معه أن يفعل كفعله من سد أذنيه.

(وإلا أن تتلذذ بسماع كلام امرأة لا تحل لك):

قال ابن شعبان: وكذلك لا يحل لك سماع صوت الأمرد من الصبيان إذا كان فيه لين يخشى منه اللذة وقبله التادلي وأردفه بقول الغزالي ولا يصلي وراءه الأشفاع لأنه يتلذذ بصوته قال الفاكهاني: وانظر قول الشيخ ولا تتلذذ ولم يقل ولا أن تسمع لأن كلام المتجالة وما في معناها جائز.

(ولا سماع شيء من الملاهي والغناء):

قال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله آية صريحة ولا في السنة حديثا صحيحا صريحا في تحريم الملاهي وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها للاأدلة قاطعة واستدل ابن رشد بقوله تعالى (وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه)[القصص: 55]

وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين في ذلك أربعة أقوال:

الأول: أنها ما زالت في قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب والشتم فيعرضون عنهم.

ص: 445

الثاني: قوم من اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره اليهود من التوراة وبدلوه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق.

الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.

الرابع: أنهم من أناس من أهل الكتاب لم يكونوا من اليهود ولا النصارى وكانوا على دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا به بمكة قصدوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا فكان الكفار من قريش يقولون لهم أف لكم من قوم اتبعتم غلاما كرهه قومه وهم أعلم منكم به، قاله ابن العربي في أحكامه فليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية على تحريم الملاهي والغناء.

استدل أيضا بقوله تعالى (فماذا بعد الحق إلا الضلال)[يونس: 32]

وهذا كما تقدم أعني لا صراحة فيه ولا تحريم شيء بعينه حتى يكون نصا في عين المسألة المطلوبة، واستدل أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم "وكل لهو يلهو به المؤمن باطل إلا ثلاثة، ملاعبة الرجل زوجته، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" قال الغزالي: قلنا قوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة وقد سلم ذلك على أن الملاهي بالنظر إلى الحبشة خارج عن هذه الثلاثة وليس بحرام بل يلحق بالمحظور غير المحظور كقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحد ثلاثة" فإنه يلحق به رابع وخامس وكذلك ملاعبة زوجته فلا فائدة فيها إلا التلذذ وفي هذا دليل على أن التفرج في البساتين وسماع أصوات الطيور وأنواع الملهيات مما يلهو به الرجل لا يحرم شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل، وبالجملة فإن لأصحابنا ظواهر يستدلون لها على التحريم كما لغيرنا ظواهر يستدلون بها على الإباحة.

قال الشيخ أبو القاسم القشيري رضي الله عنه مستدلا على إباحة السماع قال الله تعالى (فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)[الزمر: 17، 18]

قال: ويقتضي قوله عز وجل التعميم والاستغراق والدليل علىه أنه مدحهم بسماع الأحسن وقال تعالى (فهم في روضة يخبرون)[الروم: 15]

وقال في التفسير أنه السماع قال: وأعلم أن سماع الأشعار بالأصوات الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يقصد المستمع محظور أو لم يشتل على مذموم في الشرع ولم ينجرر في زمام هواه ولم ينخرط في سلك لهوه فمباح في الجملة، ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي

ص: 446

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها فإذا جاز سماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان الطيبة هذا ظاهر من الأمر، وثم ما يوجب للمستمع من توفر الرغبة على الطاعة فيذكر ما أعد الله لعباده من الدرجات، ويحمله على التحرز من الزلات ويؤدي في الحال إلى صفاء الواردات مستحب في الدين وممتاز في الشرع.

ثم قال بعد كلام: وقد سمع السلف والأكابر الأبيات والألحان وممن قال بإباحاته من السلف: مالك بن أنس وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء وأما الحداء فأجمعوا على إجازته وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك وذكر في ذلك أوارقا لا نطول بذكرها إذا كان موضعها معروفا، وأما الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله فأفتى بذلك في البحر الزخار وأورد كل ما استدل به من قال بتحريم السماع، وأجاب بأجوبة لا يشك سامعها في أنها أجوبة صحيحة لا تكاد تنقض فعليك بالأحياء إن أردت الوقوف عليها فإن هذا الكتاب ليس موضعا لذلك والذي في ذلك أني لا اعتقد تحريمه، ولا إباحته على الإطلاق بل على التفصيل بحسب الأشخاص والأحوال ووجود الشروط وعدمها على ما هو مذكور في كتاب علماء الصوفية وأرباب القلوب أعاد الله علينا من بركاتهم ولا أحرمنا الإيمان بكراماتهم حتى يجتمع علينا مصيبتان: عدم الوصول إلى مرتبتهم وعدم الإيمان بأحوالهم قلت وبهذا التفصيل أقول ومن رأي حالهم اتصف بطريقتهم وحقر نفسه معهم.

وممن كان يبيحه ويرغب الناس في الاجتماع إليه ويحضره من العلماء القرويين المتأخرين الشيخ الصالح العالم الورع أبو عمران موسى بن عيسى المناري كان يقع بين يديه في زاويته المعروفة بالقيروان وهو في خلوته وأجمع أهل عصره على علمه ودينه وشرع في تأليفه على التهذيب وصل فيه إلى صلاة السفر وتكلم فيه بكلام مشبع يعلم فيه فقه فلما نظر في كتاب الغزالي المسمى بالإحياء تفرغ للعبادة ليلا ونهار أيعمر ميعاده بقراءة الرقائق ويعظ الناس وكان لا يحضر ميعاده أهل الدنيا لما يسمعون منه، وكان ممن يعمله لنفسه شيخ الفقراء والصلاح عندنا بالقيروان في عصره الشيخ الصالح الورع الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الحريري نفعنا الله به لقد مررت بزاويته، وسمعته نشد فوقفت في الزقاق أسمع وهبت أن أدق الباب لأنه كان مغلقا وليس على الشيخ دلالة وكان ذلك في جوف الليل ليلة سفره إلى المشرق فأصابني حال عظيم وكاد عقلي أن يزهق، ووددت أني أحضر في حلقته تلك الساعة، وأخرج عن ملك الدنيا بأسرها لو ملكتها.

ص: 447

وبالجملة فإن القرويين من الطلبة والمرابطين يتسامحون في حضوره بأنفسهم ويرغبون العامة في ذلك، وأما المتصدرون بالخطط منهم فهم لا يفعلون ذلك متبعين في ذلك أشياخ التونسيين المنكرين ذلك أتم إنكار مصرحين بتحريم من يفعل ذلك.

(ولا قراءة القرآن باللحون كترجيع الغناء وليجل كتاب الله العزيز أن يتلى إلا بسكينة ووقار وما يوقن أن الله يرضى به ويقرب منه مع إحضار الفهم لذلك):

اللحون والألحان جميع لحن بإسكان الحاء قال ابن رشد: فالواجب أن ينزه القرآن عن ذلك، ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع به القلب ويزيد في الإيمان وينبغي تفهمه ما عند الله لقوله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) [الأنفال: 2]

الآية وقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها)[محمد: 24]

وقوله (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول)[المائدة: 38]

الآية.

والألحان تكره في الشعر فكيف بالقرآن؟ فمن قصد إلى سماع القرآن بالصوت الحسن فهو حسن، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري ذكرنا رنبا لحسن صوته بالقرآن وتجويده لقراءته، وقد اختلف في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" اختلافا كثيرا وأحسن ما قيل في ذلك أن يكون المعنى فيه: ليس منا من لم يتلذذ بسماع القرآن لرقة قبل وشوقه إلى ما عند ربه كما يتلذذ أهل الغواني بسماع غوانيهم.

(ومن الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل من بسطت يده في الأرض وعلى كل من تصل يده إلى ذلك فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه):

المعروف هنا ما أمر الله سبحانه به والمنكر ما نهى عنه والأصل في ذلك ما قاله أبو موسى واستحسنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم"، وروى جرير بن عبدالله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من قوم يعلم فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله فلا يغيرونه إلا عمهم الله بعقابه" ويشترط في ثلاثة شروط الأول: أن يكون المتولي عالما بما يأمر به، وبما ينهى

ص: 448

عنه. الثاني: أن يأمر أن يؤدي إنكاره إلى أكبر من مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤول نهيه عنه إلى قتل النفس ونحوها الثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع وفقد أحد الشرطين يمنع الجواز وفقد الثالث يسقط الوجوب فقط ويبقى الجواز والندب.

قال التادلي: واختلف في شرطين وهما العدالة وإذن الإمام والمشهور عدم اشتراطهما واختلف إذا رأى بهيمة تفسد شيئا على أقوال ثالثها: يجب علي منعها إن لم تكن فيه مشقة قلت: لا أعرف هذا النقل لغيره وسألت عنه شيخنا أبا مهدي أيده لاله فأنكره قائلا: مقتضى المذهب الوجوب باتفاق نعم يختلف في عزمه إن تركها حتى أفسدت جريا على الخلاف في الترك هل هو كالفعل أم لا؟ وقد علمت النظائر المذكور في ذلك ويشترط في المنكر ظهوره في الوجود من غيرتجسس، ولا يسرق سماعا ولا يستنشق رائحة يتوصل بذلك إلى المنكر ولا يبحث عما أخفى في يده أو ثوبه أو دكانه أو داره فإن السعي في ذلك حرام لقوله تعالى (ولا تجسسوا) [الحجرات: 12].

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أحس من رجل بالخنا فتسور عليه فرآه على منكر فصاح عليه فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن عصيت الله في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاثة فقال: وما هن قال: تجسست وقد قال ولا تجسسوا فقد نهى عنه، وأتيت البيوت من ظهورها وقد أمر تعالى إتيانها من أبوابها، ودخلت غير بيتك من غير استئذان وتسليم وقد أمر الله تعالى بذلك فقال عمر: صدقت فاستغفر لنا فقال: غفر الله لنا ولك يا أمير المؤمنين.

(وفرض على كل مؤمن أن يريد بكل قول وعمل من البر وجه الله الكريم ومن أريد بذلك غيرالله لم يقبل عمله):

الدليل على ذلك قوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)[البينة: 5]

الآية، وقوله تعالى (ألا لله الدين الخالص) [الزمر: 3]

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" قال الغزالي: الإخلاص عند علمائنا إخلاصان إخلاص العمل، وإخلاص طلب الأجر فأما إرادة إخلاص العمل فهو التقرب إلى الله تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته

ص: 449

وأما إخلاص طلب الأجر فهو إرادة نفع الآخرة يعمل الخير، قلت: وكلام المؤلف كالنص بأن الرياء لو طرأ في أثناء العمل يفسده، وهو كذلك وبه أفتى غير واحد ممن أدركناهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

(والرياء هو الشرك الأصغر):

هو أن يريد بعمله غير الله أو يشرك فيه غيره.

(والتوبة فريضة من كل ذنب من غير إصرار والإصرار المقام على الذنب واعتقاد العود إليه):

يريد الكبائر وأما الصغائر فلا تفتقر إلى توبة منها إذا اجتنبت الكبائر وظاهره سواء كان الذنب معلوما أو مجهولا وهو كذلك قال الشيخ أبو علي ناصر الدين: تجب التوبة من المعلوم تفصيلا ومن المجهول إجمالا وتقدم في العقيدة فروع متعدة في أحكام التوبة هل هي مقطوع بها أم لا؟ إلى غير ذلك.

(ومن التوبة رد المظالم واجتناب المحارم والنية أن لا يعود وليستغفر الله ربه):

قال التادلي: ولابد من رد المظالم إلى المظلوم أو إلى ورثته ولو أتى على جميع ماله فإن لم يكن له ورثة تصدق به عليه وقال بعضهم: يترك لنفسه ما يترك للمفلس قلت: وهو ضعيف لأن المفلس أخذ مال الغرماء عن طيب أنفسهم فهم عاملوه على إبقاء شيء بيده بخلاف من أخذ له مال كرها فيناسبه أخذ جميع ما بيده. (ويرجو رحمته ويخاف عذابه ويتذكر نعمته لديه ويشكر فضله عليه بالأعمال بفرائضه وترك ما يكره فعله ويتقرب إليه بما تيسر له من نوافل الخير):

يعني أن جامع بين الرجاء والخوف ويغلب الرجاء عند الموت ليلقى الله على حسن الظن به وفي الحديث "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا.

(وكل ما ضيع من فرائضه فيلفعله الآن):

قال الفاكهاني: لأن الفرض المطلوب لا يسقط بالنسيان فإذا ضيع فرضه قضى، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من نسي صلاة أو نام عنها فليقضها إذا ذكرها" ولا خلاف في ذلك قلت: أما ما ترك في العمد فالخلاف فيه بالنص والتخريج كما قدمنا في محله قال عياض: سعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولة شاذة بسقوط القضاء ولا يصح عنه ولا عن غيره من الأئمة سوى داود بن عبد الرحمن الشافعي

ص: 450

وإنكار عياض لا ينفيه لأن من حفظ مقدم على من لم يحفظ لقلة الناقلين ولإطلاع بعضهم على من لم يطلع عليه الآخر قال سند يتخرج على قول ابن حبيب بتكفيره لأنه مرتد تاب.

(وليرغب إلى الله في تقبله ويتوب إليه من تضييعه وليلجأ إلى الله فيما عسر عليه من قياد نفسه ومحاولة أمره موقنا أنه المالك لصلاح شأنه وتوفيقه وتسديده لا يفارق ذلك على ما فيه من حسن أو قبيح ولا ييأس من رحمة الله):

قال عبدالوهاب: لأن الله هو المسهل والميسر وبيده التوفيق والتسهيل وقد قال تعالى (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده)[فاطر:2]

، وقال تعالى (وما توفيقي إلا بالله) [هود: 88]

وقال تعالى (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري)[طه: 25، 26]

، وقال تعالى:(ولا تيئسوا من روح الله)[يوسف: 87]

الآية، وقال تعالى (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) [النور:40].

قال التادلي: وأشار الشيخ بقوله وليلجأ إلى الله فيما عسر عليه إلى آخره جهاد نفسه وهو أعظم من جهاد العدو ولأنه فرض عين ولكونه دائما وكونه متصلا بالنفس وكونه لا يحصل إلا باسعتمال النفس في جميع الطاعات وكفها عن المحرمات بخلاف جهاد العدو في الجميع.

(والفكرة في أمر الله مفتاح العبادة):

فاستعن بذكر الموت والفكرة فيما بعده وفي نعمة ربك عليك وإمهاله لك وأخذه لغيرك بذنبه وفي سالف ذنبك وعاقبة أمرك ومبادرة ماعسى أن يكون قد اقترب من أجلك أشار الشيخ بقوله في أمر الله لقوله صلى الله عليه وسلم "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق لأنكم لا تقدرون قدره) وهو معنى قوله تعالى (ويتفكرون في خلق السموات والأرض)[آل عمران: 191].

ولقد أحسن من قال من العلماء: المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقال الحسن بن أبي الحسن "الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته" وقال بن عباس وأبو الدرداء "فكرة ساعة خير من عبادة سنة" وما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة، وأخذ أبو سليمان الداراني قدحا من الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف فرآه لما أدخل اصبعه في أذن القدح

ص: 451