المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[قاعدة نافعة جامعة لصفة الروايات المنقولة عن الإمام أحمد] - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف - ت الفقي - جـ ١٢

[المرداوي]

الفصل: ‌[قاعدة نافعة جامعة لصفة الروايات المنقولة عن الإمام أحمد]

[قَاعِدَةٌ نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ لِصِفَةِ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ]

َ رضي الله عنه وَالْأَوْجُهِ وَالِاحْتِمَالَاتِ الْوَارِدَةِ عَنْ أَصْحَابِهِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَغَفَرَ لَنَا وَلَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

ص: 239

فَكَلَامُهُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا أَوْ تَنْبِيهًا كَقَوْلِنَا " أَوْمَأَ إلَيْهِ " أَوْ " أَشَارَ إلَيْهِ " أَوْ " دَلَّ كَلَامُهُ عَلَيْهِ " أَوْ " تَوَقَّفَ فِيهِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا عَلِمْت ذَلِكَ، فَمَذْهَبُهُ:

2 -

مَا قَالَهُ بِدَلِيلٍ وَمَاتَ قَائِلًا بِهِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ: مَذْهَبُ الْإِنْسَانِ: مَا قَالَهُ، أَوْ جَرَى مَجْرَاهُ، مِنْ تَنْبِيهٍ أَوْ غَيْرِهِ انْتَهَى.

3 -

وَفِيمَا قَالَهُ قَبْلَهُ بِدَلِيلٍ يُخَالِفُهُ أَوْجُهٌ: النَّفْيُ، وَالْإِثْبَاتُ وَالثَّالِثُ: إنْ رَجَعَ عَنْهُ وَإِلَّا فَهُوَ مَذْهَبُهُ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا قُلْت: الصَّحِيحُ أَنَّ الثَّانِيَ: مَذْهَبُهُ اخْتَارَهُ فِي التَّمْهِيدِ، وَالرَّوْضَةِ، وَالْعُمْدَةِ، وَغَيْرِهِمْ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَغَيْرِهِ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَقِيلَ مَذْهَبُ كُلِّ أَحَدٍ عُرْفًا وَعَادَةً مَا اعْتَقَدَهُ جَزْمًا أَوْ ظَنًّا انْتَهَى.

4 -

فَإِذَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَوْلَانِ صَرِيحَانِ، مُخْتَلِفَانِ فِي وَقْتَيْنِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ: فَالثَّانِي فَقَطْ مَذْهَبُهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَقِيلَ: وَالْأَوَّلُ، إنْ جُهِلَ رُجُوعُهُ اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: أَوْ عُلِمَ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ مُحَرَّرًا مُسْتَوْفًى.

ص: 241

فَعَلَى الْأَوَّلِ: يُحْمَلُ عَامُّ كَلَامِهِ لَهُ عَلَى خَاصِّهِ، وَمُطْلَقُهُ عَلَى مُقَيَّدِهِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْهَبَهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَصَحَّحَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، وَالْفُرُوعِ، وَغَيْرِهِمَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: لَا يُحْمَلُ انْتَهَى فَيُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلِّهِ، وَفَاءً بِاللَّفْظِ.

6 -

وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَمَذْهَبُهُ: أَقْرَبُهُمَا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ أَثَرٍ، أَوْ قَوَاعِدِهِ، أَوْ عَوَائِدِهِ، أَوْ مَقَاصِدِهِ، أَوْ أَدِلَّتِهِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: قُلْت: إنْ لَمْ يُجْعَلْ أَوَّلُ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْهَبًا لَهُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ فَيَكُونُ هَذَا الرَّاجِحَ: كَالْمُتَأَخِّرِ فِيمَا ذَكَرْنَا، إذَا جُهِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ قُلْت: وَيَحْتَمِلُ الْوَقْفَ لِاحْتِمَالِ تَقَدُّمِ الرَّاجِحِ وَإِنْ جَعَلْنَا أَوَّلَهُمَا ثَمَّ مَذْهَبًا لَهُ، فَهُنَا أَوْلَى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ مُتَأَخِّرًا.

انْتَهَى قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَإِنْ جُهِلَ، فَمَذْهَبُهُ أَقْرَبُهُمَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَوَاعِدِهِ وَإِنْ تَسَاوَيَا نَقْلًا وَدَلِيلًا: فَالْوَقْفُ أَوْلَى قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ إذَنْ وَالتَّسَاقُطَ.

7 -

فَإِنْ اتَّحَدَ حُكْمُ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الْفِعْلِ كَإِخْرَاجِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ عَنْ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، وَكُلِّ وَاجِبٍ مُوَسَّعٍ أَوْ مُخَيَّرٍ: خُيِّرَ الْمُجْتَهِدُ بَيْنَهُمَا وَلَهُ أَنْ يُخَيِّرَ الْمُقَلِّدَ بَيْنَهُمَا، إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ حَاكِمًا.

8 -

وَإِنْ مَنَعْنَا تَعَادُلَ الْأَمَارَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْهُ فَلَا وَقْفَ وَلَا تَخْيِيرَ، وَلَا تَسَاقُطَ أَيْضًا وَيُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ رُوَاةً، أَوْ بِكَثْرَةٍ، أَوْ شُهْرَةٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ وَرَعٍ وَيُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ عَلَى الْأَوْرَعِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ

ص: 242

وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ فِي آدَابِ الْإِفْتَاءِ، فِي " بَابِ الْقَضَاءِ "

9 -

فَإِنْ وَافَقَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبَ غَيْرِهِ: فَهَلْ الْأَوْلَى مَا وَافَقَهُ، أَوْ مَا خَالَفَهُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ قُلْت: الْأَوْلَى مَا وَافَقَهُ وَحَكَى الْخِلَافَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ: وَهَذِهِ التَّرَاجِيحُ مُعْتَبَرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ وَمَا رَجَّحَهُ الدَّلِيلُ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ أَوْلَى.

10 -

وَإِنْ عُلِمَ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ: فَكَمَا لَوْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ وَيَحْتَمِلُ الْوَقْفَ.

11 -

وَيُخَصُّ عَامُّ كَلَامِهِ بِخَاصِّهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى وَصَحَّحَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ: لَا يَخْتَصُّ.

12 -

وَالْمَقِيسُ عَلَى كَلَامِهِ: مَذْهَبُهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.

قَالَ فِي الْفُرُوعِ: مَذْهَبُهُ فِي الْأَشْهَرِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي، وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَثْرَمِ، وَالْخِرَقِيِّ، وَغَيْرِهِمَا قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَقِيلَ: لَا يَكُونُ مَذْهَبُهُ قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا مِثْلُ الْخَلَّالِ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمِ، وَسَائِرِ مَنْ شَاهَدْنَاهُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ وَأَنْكَرُوا

ص: 243

عَلَى الْخِرَقِيِّ مَا رَسَمَهُ فِي كِتَابِهِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَاسَ عَلَى قَوْلِهِ. انْتَهَى وَأَطْلَقَهُمَا ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ.

13 -

وَالْمَأْخُوذُ أَنْ يُفَصَّلَ فَمَا كَانَ مِنْ جَوَابٍ لَهُ فِي أَصْلٍ يَحْتَوِي عَلَى مَسَائِلَ، خَرَجَ جَوَابُهُ عَلَى بَعْضِهَا: فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ بَقِيَّةُ مَسَائِلِ ذَلِكَ حَيْثُ الْقِيَاسُ وَصَوَّرَ لَهُ صُوَرًا كَثِيرَةً فَأَمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْقِيَاسِ فِي مَسَائِلَ لَا شَبَهَ لَهَا فِي أُصُولِهِ، وَلَا يُوجَدُ عَنْهُ الْأَصْلُ مِنْ مَنْصُوصٍ يَبْنِي عَلَيْهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ انْتَهَى وَقِيلَ: إنْ جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَذْهَبُهُ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: قُلْت: إنْ نَصَّ عَلَيْهَا، أَوْ أَوْمَأَ إلَيْهَا، أَوْ عَلَّلَ الْأَصْلَ بِهَا: فَهُوَ مَذْهَبُهُ، وَإِلَّا فَلَا إلَّا أَنْ تَشْهَدَ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ وَأَحْوَالُهُ لِلْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ بِالصِّحَّةِ وَالتَّعْيِينِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْحَاوِي وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قُلْت: إنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَلَا نَقْلَ وَلَا تَخْرِيجَ انْتَهَى

14 -

فَعَلَى الْأَوَّلِ: إنْ أَفْتَى فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ: جَازَ نَقْلُ الْحُكْمِ وَتَخْرِيجُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَى الْأُخْرَى جَزَمَ بِهِ فِي الْمَطْلَعِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَاخْتَارَهُ الطُّوفِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْأُصُولِ وَشَرْحِهِ وَقَالَ: إذَا كَانَ بَعْدَ الْجِدِّ وَالْبَحْثِ قُلْت: وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ

ص: 244

وَقَدْ عَمِلَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَغَيْرُهُ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَقَوْلِ الشَّارِعِ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي التَّمْهِيدِ وَغَيْرِهِ وَقَدَّمَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ، وَالطُّوفِيُّ فِي أُصُولِهِ، وَصَاحِبُ الْحَاوِي الْكَبِيرِ، وَغَيْرُهُمْ وَجَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، أَوْ مَنَعَ النَّقْلَ وَالتَّخْرِيجَ قَالَ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي: أَوْ قَرُبَ الزَّمَنُ، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ ذَاكِرُ حُكْمِ الْأَدِلَّةِ حِينَ أَفْتَى بِالثَّانِيَةِ وَالْمَذْهَبُ: إجْرَاءُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا فَعَلَى الْمَذْهَبِ: يَكُونُ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ وَجْهًا لِمَنْ خَرَّجَهُ وَعَلَى الثَّانِيَةِ: يَكُونُ رِوَايَةً مُخَرَّجَةً ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ، وَغَيْرُهُ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي.

15 -

فَعَلَى الْجَوَازِ: مِنْ شَرْطِهِ: أَنْ لَا يُفْضِيَ إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ قَالَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي: أَوْ يَدْفَعُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ عَارَضَهُ نَصُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي " بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ " مُسْتَوْفًى وَأَصْلُهُ فِي الْخُطْبَةِ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ، قُلْت: وَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَلَمْ نَجْعَلْ أَوَّلَ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْهَبًا لَهُ جَازَ نَقْلُ حُكْمِ الثَّانِيَةِ إلَى الْأُولَى فِي الْأَقْيَسِ وَلَا عَكْسَ، إلَّا أَنْ نَجْعَلَ أَوَّلَ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْهَبًا، لَهُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَإِنْ جَهِلَ التَّارِيخَ: جَازَ نَقْلُ حُكْمِ أَقْرَبِهِمَا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ أَثَرٍ، أَوْ قَوَاعِدِ الْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَى الْأُخْرَى فِي الْأَقْيَسِ وَلَا عَكْسَ إلَّا أَنْ نَجْعَلَ أَوَّلَ

ص: 245

قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْهَبًا لَهُ، مَعَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَأَوْلَى لِجَوَازِ كَوْنِهَا الْأَخِيرَةَ، دُونَ الرَّاجِحَةِ انْتَهَى وَجَزَمَ بِهِ فِي آدَابِ الْمُفْتِي

16 -

وَإِذَا تَوَقَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي مَسْأَلَةٍ تُشْبِهُ مَسْأَلَتَيْنِ، فَأَكْثَرُ أَحْكَامِهِمَا مُخْتَلِفَةٌ: فَهَلْ يَلْحَقُ بِالْأَخَفِّ، أَوْ بِالْأَثْقَلِ، أَوْ يُخَيَّرُ الْمُقَلَّدُ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ وَأَطْلَقَهُنَّ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَآدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ، وَالْفُرُوعِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي، وَالْحَاوِي: الْأَوْلَى الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا لِمَنْ هُوَ أَصْلَحُ لَهُ وَالْأَظْهَرُ عَنْهُ هُنَا: التَّخْيِيرُ وَقَالَا: وَمَعَ مَنْعِ تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ فَلَا وَقْفَ، وَلَا تَخْيِيرَ، وَلَا تَسَاقُطَ.

17 -

وَإِنْ أَشْبَهَتْ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً: جَازَ إلْحَاقُهَا بِهَا، إنْ كَانَ حُكْمُهَا أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَالْحَاوِي.

18 -

وَمَا انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَقَوِيَ دَلِيلُهُ: فَهُوَ مَذْهَبُهُ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَقَالَ: يَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى سَائِرِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، فَكَيْفَ؟ وَالرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةٌ، خَبِيرٌ بِمَا رَوَاهُ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ مَذْهَبَهُ بَلَى مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ بِخِلَافِهِ أَوْلَى

ص: 246

وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْخَطَأِ إلَى الْوَاحِدِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَتِهِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأَصْلُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ.

قُلْت: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَطَأُ الْجَمَاعَةِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ.

19 -

وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: فَهُوَ مَذْهَبُهُ، إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ أَقْوَى مِنْهُ قَالَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْفُرُوعِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي.

20 -

وَقَوْلُهُ " لَا يَنْبَغِي " أَوْ " لَا يَصْلُحُ " أَوْ " اسْتَقْبَحَهُ " أَوْ " هُوَ قَبِيحٌ " أَوْ " لَا أَرَاهُ " لِلتَّحْرِيمِ قَالَهُ الْأَصْحَابُ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِرَاقُ غَيْرِ الْعَفِيفَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَهَا وَسَأَلَهُ أَبُو طَالِبٍ: يُصَلِّي إلَى الْقَبْرِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْحُشِّ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَا يُصَلِّ إلَيْهِ قُلْت: فَإِنْ كَانَ؟ قَالَ: يَجْزِيهِ وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ فِيمَنْ قَرَأَ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا بِالْحَمْدِ وَسُورَةٍ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ حَسَّانٍ فِي الْإِمَامِ وَفِي الْأَوْلَى وَيُطَوِّلُ فِي الْأَخِيرَةِ: لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ

ص: 247

قَالَ الْقَاضِي: كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه ذَلِكَ، لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَدَلَّ عَلَى خِلَافٍ.

21 -

وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَإِنْ قَالَ " هَذَا حَرَامٌ " ثُمَّ قَالَ " أَكْرَهُهُ " أَوْ " لَا يُعْجِبُنِي " فَحَرَامٌ وَقِيلَ: يُكْرَهُ.

22 -

وَفِي قَوْلِهِ " أَكْرَهُ " أَوْ " لَا يُعْجِبُنِي " أَوْ " لَا أُحِبُّهُ " أَوْ " لَا أَسْتَحْسِنُهُ " أَوْ " يَفْعَلُ السَّائِلُ كَذَا احْتِيَاطًا " وَجْهَانِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي آدَابِ الْمُفْتِي، فِي " أَكْرَهُ كَذَا " أَوْ " لَا يُعْجِبُنِي " أَحَدُهُمَا: هُوَ لِلتَّنْزِيهِ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَالْحَاوِي، فِي غَيْرِ قَوْلِهِ " يَفْعَلُ السَّائِلُ كَذَا احْتِيَاطًا " وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى فِي قَوْلِهِ " أَكْرَهُ كَذَا " أَوْ " لَا يُعْجِبُنِي.

وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ، وَالْحَاوِي: وَإِنْ قَالَ " يَفْعَلُ السَّائِلُ كَذَا، احْتِيَاطًا " فَهُوَ وَاجِبٌ وَقِيلَ: مَنْدُوبٌ انْتَهَوْا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلتَّحْرِيمِ اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ، وَصَاحِبُهُ، وَابْنُ حَامِدٍ، فِي قَوْلِهِ " أَكْرَهُ كَذَا " أَوْ " لَا يُعْجِبُنِي " وَقَالَ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي، وَالْحَاوِي: وَالْأَوْلَى النَّظَرُ إلَى الْقَرَائِنِ فِي الْكُلِّ انْتَهَيَا.

23 -

وَقَوْلُهُ " أُحِبُّ كَذَا " أَوْ " يُعْجِبُنِي " أَوْ " هَذَا أَعْجَبُ إلَيَّ " لِلنَّدْبِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ

ص: 248

اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ فِي قَوْلِهِ " أَحَبُّ إلَيَّ كَذَا " وَقِيلَ: وَكَذَا قَوْلُهُ " هَذَا أَحْسَنُ " أَوْ " حَسَنٌ " قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ قُلْت: قَطَعَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ: أَنَّ قَوْلَهُ " هَذَا أَحْسَنُ " أَوْ " حَسَنٌ " كَ " أُحِبُّ كَذَا " وَنَحْوِهِ وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: أَسْتَحْسِنُ شَيْئًا، أَوْ قَالَ " هُوَ حَسَنُ " فَهُوَ لِلنَّدْبِ وَإِنْ قَالَ " يُعْجِبُنِي " فَهُوَ لِلْوُجُوبِ.

24 -

وَقَوْلُهُ " لَا بَأْسَ " أَوْ " أَرْجُو أَنْ لَا بَأْسَ " لِلْإِبَاحَةِ.

25 -

وَقَوْلُهُ " أَخْشَى " أَوْ " أَخَافُ أَنْ يَكُونَ " أَوْ " لَا يَكُونَ " ظَاهِرٌ فِي الْمَنْعِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي، وَقَدَّمَاهُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي قَالَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، وَالْفُرُوعِ: فَهُوَ كَ " يَجُوزُ " أَوْ " لَا يَجُوزُ " انْتَهَى.

وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ.

26 -

وَإِنْ أَجَابَ فِي شَيْءٍ ثُمَّ قَالَ فِي نَحْوِهِ " هَذَا أَهْوَنُ " أَوْ " أَشَدُّ " أَوْ " أَشْنَعُ " فَقِيلَ: هُمَا عِنْدَهُ سَوَاءٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالْقَاضِي وَقِيلَ: بِالْفَرْقِ قُلْت: وَهُوَ الظَّاهِرُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الرِّعَايَةِ، وَالْفُرُوعِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ، قُلْت: إنْ اتَّحَدَ الْمَعْنَى، وَكَثُرَ التَّشَابُهُ: فَالتَّسْوِيَةُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَلَا

ص: 249

وَقِيلَ: قَوْلُهُ " هَذَا أَشْنَعُ عِنْدَ النَّاسِ " يَقْتَضِي الْمَنْعَ وَقِيلَ: لَا وَقَوْلُهُ " أَجْبُنُ عَنْهُ " لِلْجَوَازِ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَقِيلَ: يُكْرَهُ اخْتَارَهُ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى، وَآدَابِ الْمُفْتِي وَقَالَ فِي الْكُبْرَى: الْأَوْلَى النَّظَرُ إلَى الْقَرَائِنِ وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَ " أَجْبُنُ عَنْهُ " مَذْهَبُهُ وَقَالَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ: جُمْلَةُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ إذَا قَالَ " أَجْبُنُ عَنْهُ " فَإِنَّهُ إذْنٌ بِأَنَّهُ مَذْهَبُهُ، وَأَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْوَى الْقُوَّةَ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا وَلَا يَضْعُفُ الضَّعْفَ الَّذِي يُوجِبُ الرَّدَّ.

28 -

وَمَعَ ذَلِكَ: فَكُلُّ مَا أَجَابَ فِيهِ فَإِنَّك تَجِدُ الْبَيَانَ عَنْهُ فِيهِ كَافِيًا فَإِنْ وَجَدْت عَنْهُ الْمَسْأَلَةَ وَلَا جَوَابَ بِالْبَيَانِ، فَإِنَّهُ يُؤْذِنُ بِالتَّوَقُّفِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ انْتَهَى.

29 -

وَمَا أَجَابَ فِيهِ بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: فَهُوَ مَذْهَبُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ أَحَدِ الصَّحَابَةِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

30 -

وَمَا رَوَاهُ مِنْ سُنَّةٍ، أَوْ أَثَرٍ، أَوْ صَحَّحَهُ أَوْ حَسَّنَهُ، أَوْ رَضِيَ سَنَدَهُ، أَوْ دَوَّنَّهُ فِي كُتُبِهِ، وَلَمْ يَرُدَّهُ وَلَمْ يُفْتِ بِخِلَافِهِ: فَهُوَ مَذْهَبُهُ قَدَّمَهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَنَصَرَهُ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْحَاوِي الْكَبِيرِ

ص: 250

وَاخْتَارَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَصَالِحٌ، وَالْمَرُّوذِيُّ، وَالْأَثْرَمُ قَالَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي.

وَقِيلَ: لَا يَكُونُ مَذْهَبَهُ، كَمَا لَوْ أَفْتَى بِخِلَافِهِ قَبْلُ، أَوْ بَعْدُ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، وَالْفُرُوعِ وَقَالَ: فَلِهَذَا أَذْكُرُ رِوَايَتَهُ لِلْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ انْتَهَى.

31 -

وَإِنْ أَفْتَى بِحُكْمٍ، فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ فَسَكَتَ: فَلَيْسَ رُجُوعًا قَدَّمَهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَنَصَرَهُ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَقِيلَ: يَكُونُ رُجُوعًا اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي وَإِنْ ذَكَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَيْنِ، فَمَذْهَبُهُ: أَقْرَبُهُمَا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ، سَوَاءٌ عَلَّلَهُمَا أَوْ لَا، إذَا لَمْ يُرَجِّحْ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يَخْتَرْهُ قَدَّمَهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَنَصَرَهُ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ، وَالْفُرُوعِ وَقِيلَ: لَا مَذْهَبَ لَهُ مِنْهُمَا عَيْنًا، كَمَا لَوْ حَكَاهُمَا عَنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا بِمَا ذَكَرَ لِجَوَازِ إحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ يُخَالِفُ الصَّحَابَةَ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ.

32 -

وَإِنْ عَلَّلَ أَحَدَهُمَا وَاسْتَحْسَنَ الْآخَرَ، أَوْ فَعَلَهُمَا فِي أَقْوَالِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ: فَأَيُّهُمَا مَذْهَبُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ، وَالْفُرُوعِ

ص: 251

قُلْت: الصَّوَابُ أَنَّ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ مَذْهَبُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيلِ الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ بِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدْته فِي آدَابِ الْمُفْتِي قَدَّمَهُ، وَقَالَ: اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَقَالَ عَنْ الثَّانِي فِيهِ بُعْدٌ.

33 -

وَإِنْ حَسَّنَ أَحَدَهُمَا، أَوْ عَلَّلَهُ: فَهُوَ مَذْهَبُهُ قَوْلًا وَاحِدًا جَزَمَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ، وَغَيْرِهِ.

34 -

وَإِنْ أَعَادَ ذِكْرَ أَحَدَهُمَا، أَوْ فَرَّعَ عَلَيْهِ: فَهُوَ مَذْهَبُهُ قَدَّمَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَقِيلَ: لَا يَكُونُ مَذْهَبَهُ إلَّا أَنْ يُرَجِّحَهُ، أَوْ يُفْتِيَ بِهِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ فِيمَا إذَا فَرَّعَ عَلَى أَحَدِهِمَا

35 -

وَإِنْ نَصَّ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى حُكْمٍ، وَعَلَّلَهُ بِعِلَّةٍ، فَوُجِدَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي مَسَائِلَ أُخَرَ: فَمَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُعَلَّلَةِ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَالْفُرُوعِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: سَوَاءٌ قُلْنَا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَوْ لَا كَمَا سَبَقَ انْتَهَى وَقِيلَ: لَا

36 -

وَإِنْ نُقِلَ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةٍ رِوَايَتَانِ، دَلِيلُ أَحَدِهِمَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَلِيلُ الْأُخْرَى: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ أَخَصُّ وَقُلْنَا هُوَ حُجَّةٌ يَخُصُّ بِهِ الْعُمُومَ فَأَيُّهُمَا مَذْهَبُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُهُ مَا كَانَ دَلِيلُهُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْت: وَهُوَ الصَّوَابُ وَقَدَّمَهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَنَصَرَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي

ص: 252

وَقِيلَ: مَذْهَبُهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَالْحَالَةُ مَا تَقَدَّمَ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخَصَّهُمَا، أَوْ أَحْوَطَهُمَا: تَعَيَّنَ.

37 -

وَإِنْ وَافَقَ أَحَدُهُمَا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ، وَالْآخَرُ قَوْلَ التَّابِعِيِّ: اُعْتُدَّ بِهِ إذًا وَقِيلَ: وَعَضَّدَهُ عُمُومُ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أَثَرٍ فَوَجْهَانِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي.

38 -

وَإِنْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ وَحَسَّنَ بَعْضَهُ: فَهُوَ مَذْهَبُهُ إنْ سَكَتَ عَنْ غَيْرِهِ.

39 -

وَإِنْ سُئِلَ مَرَّةً فَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ ثُمَّ سُئِلَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَتَوَقَّفَ ثُمَّ سُئِلَ مَرَّةً ثَالِثَةً، فَأَفْتَى فِيهَا: فَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ مَذْهَبُهُ.

40 -

وَإِنْ أَجَابَ بِقَوْلِهِ " قَالَ فُلَانٌ كَذَا " يَعْنِي بَعْضَ الْعُلَمَاءِ: فَوَجْهَانِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْفُرُوعِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي وَاخْتَارَ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَذْهَبَهُ وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ: أَنَّهُ يَكُونُ مَذْهَبَهُ.

41 -

وَإِنْ نَصَّ عَلَى حُكْمِ مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ قَالَ " وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ، أَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى كَذَا " يُرِيدُ حُكْمًا يُخَالِفُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ كَانَ مَذْهَبًا: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلْإِمَامِ رضي الله عنه أَيْضًا، كَمَا لَوْ قَالَ " وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى كَذَا "، قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَمَنْ بَعْدَهُ، وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَالْفُرُوعِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي، وَغَيْرِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لَهُ، ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ مِنْ عِنْدِهِ، قُلْت: وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ.

ص: 253

كَقَوْلِهِ " يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ "، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَقَدْ أَجَابَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِيمَا إذَا سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ: هَلْ يَقْصُرُ؟ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِمِثْلِ هَذَا، وَأَثْبَتَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: رِوَايَتَيْنِ.

43 -

وَهَلْ يُجْعَلُ فِعْلُهُ، أَوْ مَفْهُومُ كَلَامِهِ مَذْهَبًا لَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَآدَابِ الْمُفْتِي، وَأُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ، قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ: عَامَّةُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ: إنَّ فِعْلَهُ مَذْهَبٌ لَهُ، وَقَدَّمَهُ هُوَ، وَرَدَّ غَيْرَهُ، قَالَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي: اخْتَارَ الْخِرَقِيُّ، وَابْنُ حَامِدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِهِ مَذْهَبُهُ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَذْهَبَهُ.

44 -

فَإِنْ جَعَلْنَا الْمَفْهُومَ مَذْهَبًا لَهُ، فَنَصَّ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى خِلَافِ الْمَفْهُومِ: بَطَلَ، وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ، فَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إنْ جَعَلْنَا أَوَّلَ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْهَبًا لَهُ. 45 - وَصِيغَةُ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَرُوَاتِهِ فِي تَفْسِيرِ مَذْهَبِهِ، وَإِخْبَارُهُمْ عَنْ رَأْيِهِ: كَنَصِّهِ فِي وَجْهٍ، قَالَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْأَصَحِّ، قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ: إذَا بَيَّنَ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَوْلَهُ بِتَفْسِيرِ جَوَابٍ لَهُ، أَوْ نَسَبُوا إلَيْهِ بَيَانَ حَدٍّ فِي سُؤَالٍ: فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ، وَمَنُوطٌ بِهِ، وَإِلَيْهِ يُعْزَى، وَهُوَ بِمَثَابَةِ نَصِّهِ، وَنَصَرَهُ، قَالَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي: اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ،

ص: 254

وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَغَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: وَخَالَفَنَا فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: مِثْلُ الْخَلَّالِ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ.

تَنْبِيهٌ

هَذِهِ الصِّيَغُ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، وَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ فِيهَا كُلِّهَا أَوْ غَالِبِهَا مَذْكُورٌ فِي تَهْذِيبِ الْأَجْوِبَةِ لِابْنِ حَامِدٍ، مَبْسُوطٌ بِأَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَلَهُ فِيهَا أَيْضًا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، تَرَكْنَا ذِكْرَهَا لِلْإِطَالَةِ، وَمَذْكُورٌ أَيْضًا فِي آدَابِ الْمُفْتِي، وَالرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَبَعْضُهُ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ.

ص: 255

فَصْلٌ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: هُوَ الْوَارِدُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، وَبَقِيَ الْوَارِدُ عَنْ أَصْحَابِهِ.

46 -

وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَارِدَ عَنْ الْأَصْحَابِ: إمَّا وَجْهٌ، وَإِمَّا احْتِمَالٌ، وَإِمَّا تَخْرِيجٌ، وَزَادَ فِي الْفُرُوعِ: التَّوْجِيهَ.

47 -

فَأَمَّا الْوَجْهُ: فَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَتَخْرِيجُهُ، إنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوَاعِدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَوْ إيمَائِهِ أَوْ دَلِيلِهِ، أَوْ تَعْلِيلِهِ " أَوْ سِيَاقِ كَلَامِهِ وَقُوَّتِهِ.

48 -

وَإِنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَمُخَرَّجًا مِنْهَا: فَهِيَ رِوَايَاتٌ مُخَرَّجَةٌ لَهُ وَمَنْقُولَةٌ مِنْ نُصُوصِهِ إلَى مَا يُشْبِهُهَا مِنْ الْمَسَائِلِ إنْ قُلْنَا مَا قِيسَ عَلَى كَلَامِهِ: مَذْهَبٌ لَهُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا فَهِيَ، أَوْجُهٌ لِمَنْ خَرَّجَهَا وَقَاسَهَا.

49 -

فَإِنْ خَرَّجَ مِنْ نَصٍّ وَنَقْلٍ إلَى مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ يُخَالِفُ مَا خَرَّجَ فِيهَا: صَارَ فِيهَا رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ، وَرِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ مَنْقُولَةٌ مِنْ نَصِّهِ، إذَا قُلْنَا الْمُخَرَّجُ مِنْ نَصِّهِ مَذْهَبُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَفِيهَا رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَوَجْهٌ لِمَنْ خَرَّجَهُ.

50 -

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ يُخَالِفُ الْقَوْلَ الْمُخَرَّجَ مِنْ نَصِّهِ فِي غَيْرِهَا: فَهُوَ وَجْهٌ لِمَنْ خَرَّجَ.

51 -

فَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي الْحُكْمِ، دُونَ طَرِيقِ التَّخْرِيجِ: فَفِيهَا لَهُمَا وَجْهَانِ،

ص: 256

قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيُمْكِنُ جَعْلُهُمَا مَذْهَبًا لِلْأَمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه بِالتَّخْرِيجِ دُونَ النَّقْلِ، لِعَدَمِ أَخْذِهِمَا مِنْ نَصِّهِ.

52 -

وَإِنْ جَهِلْنَا مُسْتَنَدَهُمَا: فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا مُخَرَّجًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، وَلَا مَذْهَبًا لَهُ بِحَالٍ.

53 -

فَمَنْ قَالَ مِنْ الْأَصْحَابِ هُنَا " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ " أَرَادَ نَصَّهُ.

54 -

وَمَنْ قَالَ " فِيهَا رِوَايَتَانِ " فَإِحْدَاهُمَا بِنَصٍّ، وَالْأُخْرَى بِإِيمَاءٍ، أَوْ تَخْرِيجٍ مِنْ نَصٍّ آخَرَ لَهُ، أَوْ نَصٍّ جَهِلَهُ مُنْكِرُهُ.

55 -

وَمَنْ قَالَ " فِيهَا وَجْهَانِ " أَرَادَ: عَدَمَ نَصِّهِ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ جَهِلَ مُسْتَنَدَهُ أَوْ عَلِمَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَذْهَبًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، فَلَا يُعْمَلُ إلَّا بِأَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَأَرْجَحِهِمَا، سَوَاءٌ وَقَعَا مَعًا أَوْ لَا، مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ عُلِمَ التَّارِيخُ، أَوْ جُهِلَ.

56 -

وَأَمَّا " الْقَوْلَانِ " هُنَا: فَقَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه نَصَّ عَلَيْهِمَا، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الشَّافِي، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَوْمَأَ إلَى الْآخَرِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَجْهًا، أَوْ تَخْرِيجًا، أَوْ احْتِمَالًا بِخِلَافِهِ.

57 -

وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الَّذِي لِلْأَصْحَابِ: فَقَدْ يَكُونُ لِدَلِيلٍ مَرْجُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا خَالَفَهُ، أَوْ دَلِيلٍ مُسَاوٍ لَهُ، وَقَدْ يَخْتَارُ هَذَا الِاحْتِمَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، فَيَبْقَى وَجْهًا بِهِ.

58 -

وَأَمَّا التَّخْرِيجُ: فَهُوَ نَقْلُ حُكْمِ مَسْأَلَةٍ إلَى مَا يُشْبِهُهَا، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْخُطْبَةِ.

ص: 257

فَصْلٌ صَاحِبُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ وَالِاحْتِمَالَاتِ وَالتَّخَارِيجِ: لَا يَكُونُ إلَّا مُجْتَهِدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مُجْتَهِدٍ مُطْلَقٍ، وَمُجْتَهِدٍ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ، أَوْ فِي مَذْهَبِ إمَامِ غَيْرِهِ، وَمُجْتَهِدٍ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ، وَمُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِلَ، ذَكَرَهَا فِي " آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي " فَقَالَ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ

" الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ " وَهُوَ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ " كِتَابِ الْقَضَاءِ " عَلَى مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ إذَا اسْتَقَلَّ بِإِدْرَاكِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مِنْهَا، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ أَكْثَرَ الْفِقْهِ، قَدَّمَهُ فِي " آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي "، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ: مَنْ حَصَّلَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ فَمُجْتَهِدٌ، وَتَقَدَّمَ هَذَا وَغَيْرُهُ فِي آخِرِ " كِتَابِ الْقَضَاءِ "، قَالَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي: وَمِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ عُدِمَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ

ص: 258

مَعَ أَنَّهُ الْآنَ أَيْسَرُ مِنْهُ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ قَدْ دُوِّنَا، وَكَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ الْآيَاتِ، وَالْآثَارِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ الْهِمَمُ قَاصِرَةٌ، وَالرَّغَبَاتُ فَاتِرَةٌ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَدْ أَهْمَلُوهُ وَمَلُّوهُ، وَلَمْ يَعْقِلُوهُ لِيَفْعَلُوهُ. انْتَهَى.

قُلْت: قَدْ أَلْحَقَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَصْحَابِ هَذَا الْقِسْمِ: الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَتَصَرُّفَاتُهُ فِي فَتَاوِيهِ وَتَصَانِيفِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُفْتِي مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ عَلَى يُسْرٍ، مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ آخَرَ.

الْقِسْمُ الثَّانِي " مُجْتَهِدٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ، أَوْ إمَامٍ غَيْرِهِ "، وَأَحْوَالُهُ أَرْبَعَةٌ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُقَلِّدٍ لِإِمَامِهِ فِي الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ، لَكِنْ سَلَكَ

ص: 259

طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى، وَدَعَا إلَى مَذْهَبِهِ، وَقَرَأَ كَثِيرًا مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَهُ صَوَابًا وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَأَشَدُّ مُوَافَقَةً فِيهِ وَفِي طَرِيقِهِ، قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي " آدَابِ الْمُفْتِي " وَقَدْ ادَّعَى هَذَا مِنَّا ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ الَّذِي لَهُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُمَا عَنْ الشَّافِعِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، قُلْت: وَمِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، فَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَالْمُصَنِّفِ، وَالْمَجْدِ، وَغَيْرِهِمَا، وَفَتْوَى الْمُجْتَهِدِ الْمَذْكُورِ، كَفَتْوَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَالِاعْتِدَادِ بِهَا فِي الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ، مُسْتَقِلًّا بِتَقْرِيرِهِ بِالدَّلِيلِ، لَكِنْ لَا يَتَعَدَّى أُصُولَهُ وَقَوَاعِدَهُ، مَعَ إتْقَانِهِ لِلْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَأَدِلَّةِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، عَالِمًا بِالْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ، تَامَّ الرِّيَاضَةِ، قَادِرًا عَلَى التَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي لِإِمَامِهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا مَعْرِفَةُ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِكَوْنِهِ يَتَّخِذُ نُصُوصَ إمَامِهِ أُصُولًا يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا الْأَحْكَامَ، كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، وَقَدْ يَرَى حُكْمًا ذَكَرَهُ إمَامُهُ بِدَلِيلٍ، فَيَكْتَفِي بِذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ مُعَارِضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ،

ص: 260

وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَوْجُهِ وَالطُّرُقِ فِي الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ حَالُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ الْآنَ، فَمَنْ عَلِمَ يَقِينًا هَذَا، فَقَدْ قَلَّدَ إمَامَهُ دُونَهُ؛ لِأَنَّ مُعَوَّلَهُ عَلَى صِحَّةِ إضَافَةِ مَا يَقُولُ إلَى إمَامِهِ؛ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِتَصْحِيحِ نِسْبَتِهِ إلَى الشَّارِعِ بِلَا وَاسِطَةِ إمَامِهِ، وَالظَّاهِرُ: مَعْرِفَتُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثٍ، وَلُغَةٍ، وَنَحْوٍ، وَقِيلَ: إنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ؛ لِأَنَّ فِي تَقْلِيدِهِ نَقْصًا وَخَلَلًا فِي الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ: يَتَأَدَّى بِهِ فِي الْفَتْوَى، لَا فِي إحْيَاءِ الْعُلُومِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ فِي فَتْوَاهُ مَقَامَ إمَامٍ مُطْلَقٍ، فَهُوَ يُؤَدِّي عَنْهُ مَا كَانَ يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ حِينَ كَانَ حَيًّا قَائِمًا بِالْفَرْضِ مِنْهَا، وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، ثُمَّ قَدْ يُوجَدُ مِنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ اسْتِقْلَالٌ بِالِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى فِي مَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ بَابٍ خَاصٍّ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا لَمْ يَجِدْهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ عَنْ إمَامِهِ، لِمَا يُخَرِّجُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ، وَهُوَ أَصَحُّ.

فَالْمُجْتَهِدُ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه مَثَلًا: إذَا أَحَاطَ بِقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ، وَتَدَرَّبَ فِي مَقَايِيسِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ: يَنْزِلُ مِنْ الْإِلْحَاقِ بِمَنْصُوصَاتِهِ وَقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ مَنْزِلَةَ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فِي إلْحَاقِهِ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَقْدَرُ عَلَى ذَا مِنْ ذَاكَ عَلَى ذَاكَ، فَإِنَّهُ يَجِدُ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ قَوَاعِدَ مُمَهَّدَةً، وَضَوَابِطَ مُهَذَّبَةً، مَا لَا يَجِدُهُ الْمُسْتَقِلُّ فِي أُصُولِ الشَّارِعِ وَنُصُوصِهِ،

ص: 261

وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَمَّنْ يُفْتِي بِالْحَدِيثِ: هَلْ لَهُ ذَلِكَ، إذَا حَفِظَ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ؟ فَقَالَ: أَرْجُو، فَقِيلَ لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا: فَأَنْتَ تُفْتِي، وَلَسْت تَحْفَظُ هَذَا الْقَدْرَ؟ فَقَالَ: لَكِنِّي أُفْتِي بِقَوْلِ مَنْ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه، ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَفْتَى فِيمَا يُفْتِي بِهِ مِنْ تَخْرِيجِهِ هَذَا مُقَلِّدٌ لِإِمَامِهِ، لَا لَهُ، وَقِيلَ: مَا يُخَرِّجُهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ عَلَى مَذْهَبِهِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسُبُوهُ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَذْهَبُهُ؟ فِيهِ لَنَا وَلِغَيْرِنَا خِلَافٌ، وَتَفْصِيلٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ: هُوَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّفْرِيعِ عَلَى أَقْوَالِهِ، كَمَا يَتَمَكَّنُ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ مِنْ التَّفْرِيعِ عَلَى كُلِّ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاسْتِنْبَاطُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ: أَنْ يُفْتِيَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي كُلِّ مَا يُفْتِي بِهِ، بِحَيْثُ يَحْكُمُ فِيمَا يَدْرِي، وَيَدْرِي: أَنَّهُ يَدْرِي، بَلْ يَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَيَجْتَهِدُ الْعَامِّيُّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ وَيَتْبَعُهُ، فَهَذِهِ صِفَةُ الْمُجْتَهِدِينَ أَرْبَابِ الْأَوْجُهِ وَالتَّخَارِيجِ وَالطُّرُقِ،

ص: 262

وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ تَخْرِيجِ هَذَا الْمُجْتَهِدِ وَأَنَّهُ: تَارَةً يَكُونُ مِنْ نَصِّهِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَقْسَامِ الْمُجْتَهِدِ مُحَرَّرًا. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ رُتْبَةَ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ، غَيْرَ أَنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ، حَافِظٌ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ، عَارِفٌ بِأَدِلَّتِهِ، قَائِمٌ بِتَقْرِيرِهِ، وَنُصْرَتِهِ، يُصَوِّرُ، وَيُحَرِّرُ، وَيُمَهِّدُ، وَيُقَوِّي، وَيُزَيِّفُ، وَيُرَجِّحُ، لَكِنَّهُ قَصَرَ عَنْ دَرَجَةِ أُولَئِكَ إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْ فِي حِفْظِ الْمَذْهَبِ مَبْلَغَهُمْ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَبَحِّرٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِثْلُهُ فِي ضِمْنِ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ الْفِقْهِ وَيَعْرِفُهُ مِنْ أَدِلَّتِهِ عَنْ أَطْرَافٍ مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُقَصِّرًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ أَدَوَاتُ الِاجْتِهَادِ الْحَاصِلِ لِأَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ، وَهَذِهِ صِفَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ رَتَّبُوا الْمَذَاهِبَ، وَحَرَّرُوهَا، وَصَنَّفُوا فِيهَا تَصَانِيفَ، بِمَا يَشْتَغِلُ بِهِ النَّاسُ الْيَوْمَ غَالِبًا، وَلَمْ يُلْحِقُوا مَنْ يُخَرِّجُ الْوُجُوهَ، وَيُمَهِّدُ الطُّرُقَ فِي الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا فَتَاوِيهِمْ: فَقَدْ كَانُوا يَسْتَنْبِطُونَ فِيهَا اسْتِنْبَاطَ أُولَئِكَ أَوْ نَحْوَهُ وَيَقِيسُونَ غَيْرَ الْمَنْقُولِ وَالْمَسْطُورِ عَلَى الْمَنْقُولِ وَالْمَسْطُورِ نَحْوَ قِيَاسِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فِي رُجُوعِ الْبَائِعِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الثَّمَنِ، وَلَا تَبْلُغُ فَتَاوِيهِمْ فَتَاوَى أَصْحَابِ الْوُجُوهِ، وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ بَعْضُهُمْ إلَى تَخْرِيجِ قَوْلٍ، وَاسْتِنْبَاطِ وَجْهٍ، أَوْ احْتِمَالٍ، وَفَتَاوِيهِمْ مَقْبُولَةٌ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُومَ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ، وَنَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، فَهَذَا يُعْتَمَدُ نَقْلُهُ وَفَتْوَاهُ بِهِ فِيمَا يَحْكِيهِ مِنْ مَسْطُورَاتِ مَذْهَبِهِ: مِنْ مَنْصُوصَاتِ

ص: 263

إمَامِهِ، أَوْ تَفْرِيعَاتِ أَصْحَابِهِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَذْهَبِهِ، وَتَخْرِيجَاتِهِمْ، وَأَمَّا مَا لَا يَجِدُهُ مَنْقُولًا فِي مَذْهَبِهِ: فَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَنْقُولِ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، بِحَيْثُ يُدْرِكُ مِنْ غَيْرِ فَضْلِ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الْأَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي إعْتَاقِ الشَّرِيكِ: جَازَ لَهُ إلْحَاقُهُ بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يَعْلَمُ انْدِرَاجَهُ تَحْتَ ضَابِطٍ، وَمَنْقُولٍ مُمَهَّدٍ مُحَرَّرٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْفُتْيَا فِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ نَادِرًا فِي حَقِّ مِثْلِ هَذَا الْمَذْكُورِ، إذْ يَبْعُدُ أَنْ تَقَعَ [وَاقِعَةٌ] حَادِثَةٌ لَمْ يُنَصَّ عَلَى حُكْمِهَا فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى بَعْضِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ شَيْءٍ مِنْ قَوَاعِدِ وَضَوَابِطِ الْمَذْهَبِ الْمُحَرَّرِ فِيهِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا الْفَقِيهَ: لَا يَكُونُ إلَّا فَقِيهَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ تَصْوِيرَ الْمَسَائِلِ عَلَى وَجْهِهَا، وَنَقْلَ أَحْكَامِهَا بَعْدَهُ: لَا يَقُومُ بِهِ إلَّا فَقِيهُ النَّفْسِ، وَيَكْفِي اسْتِحْضَارُهُ أَكْثَرَ الْمَذْهَبِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مُطَالَعَةِ بَقِيَّتِهِ قَرِيبًا.

ص: 264

الْقِسْمُ الثَّالِثُ

" الْمُجْتَهِدُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ "، فَمَنْ عَرَفَ الْقِيَاسَ وَشُرُوطَهُ: فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَسَائِلَ مِنْهُ قِيَاسِيَّةٍ، لَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ، وَمَنْ عَرَفَ الْفَرَائِضَ: فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا، وَإِنْ جَهِلَ أَحَادِيثَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ، دُونَ غَيْرِهَا، وَقِيلَ: بِالْمَنْعِ فِيهِمَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، ذَكَرَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ

" الْمُجْتَهِدُ فِي مَسَائِلَ، أَوْ مَسْأَلَةٍ "، وَلَيْسَ لَهُ الْفَتْوَى فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا فِيهَا، فَالْأَظْهَرُ: جَوَازُهُ، وَيَحْتَمِلُ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ، قَالَهُ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، قُلْت: الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ: يَتَجَزَّأُ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَجَزَمَ بِهِ الْأَمَدِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِثْلَهُ، وَذَكَرَ أَيْضًا: قَوْلًا يَتَجَزَّأُ فِي بَابٍ، لَا مَسْأَلَةٍ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ " كِتَابِ الْقَضَاءِ "، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْمُجْتَهِدِ، ذَكَرَهَا ابْنُ حَمْدَانَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي

ص: 265

فَصْلٌ

قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي: قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ " الْمَذْهَبُ كَذَا " قَدْ يَكُونُ بِنَصِّ الْإِمَامِ، أَوْ " بِإِيمَائِهِ، أَوْ بِتَخْرِيجِهِمْ ذَلِكَ وَاسْتِنْبَاطِهِمْ إيَّاهُ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ تَعْلِيلِهِ، وَقَوْلُهُمْ " عَلَى الْأَصَحِّ " أَوْ " الصَّحِيحِ " أَوْ " الظَّاهِرِ " أَوْ " الْأَظْهَرِ " أَوْ " الْمَشْهُورِ " أَوْ " الْأَشْهَرِ " أَوْ " الْأَقْوَى " أَوْ " الْأَقْيَسِ " فَقَدْ يَكُونُ عَنْ الْإِمَامِ رضي الله عنه، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ " الْأَصَحُّ " عَنْ الْإِمَامِ رضي الله عنه، أَوْ الْأَصْحَابِ: قَدْ يَكُونُ شُهْرَةً، وَقَدْ يَكُونُ نَقْلًا، وَقَدْ يَكُونُ دَلِيلًا، أَوْ عِنْدَ الْقَائِلِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي " الْأَشْهَرِ " وَ " الْأَظْهَرِ " وَ " الْأَوْلَى " وَ " الْأَقْيَسِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ " وَقِيلَ " فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ رِوَايَةً بِالْإِيمَاءِ، أَوْ وَجْهًا، أَوْ تَخْرِيجًا، أَوْ احْتِمَالًا، ثُمَّ " الرِّوَايَةُ " قَدْ تَكُونُ نَصًّا، أَوْ إيمَاءً، أَوْ تَخْرِيجًا مِنْ الْأَصْحَابِ، وَاخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ كَثِيرٌ، لَا طَائِلَ فِيهِ، وَ " الْأَوْجَهُ " تُؤْخَذُ غَالِبًا مِنْ نَصِّ لَفْظِ الْإِمَامِ رضي الله عنه وَمَسَائِلِهِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَإِيمَائِهِ، وَتَعْلِيلِهِ. انْتَهَى. قُلْت: قَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَأْخَذِ الْأَوْجَهِ، وَتَقَدَّمَ أَكْثَرُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَالْمُصْطَلَحَاتِ فِي الْخُطْبَةِ.

تَنْبِيهٌ عَقَدَ ابْنُ حَمْدَانَ بَابًا فِي " آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي " لِمَعْرِفَةِ عُيُوبِ التَّآلِيفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِيَعْلَمَ الْمُفْتِي كَيْفَ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَنْقُولِ، وَمَا مُرَادُ قَائِلِهِ وَمُؤَلِّفِهِ فَيَصِحُّ

ص: 266

نَقْلُهُ لِلْمَذْهَبِ، وَعَزْوُهُ إلَى الْإِمَامِ رضي الله عنه، أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَأَحْبَبْت أَنْ أَذْكُرَهُ هُنَا لِأَنَّ كِتَابَنَا هَذَا مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا قَالَهُ، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ الْمَحَاذِيرِ فِي التَّأْلِيفِ النَّقْلِيِّ: إهْمَالُ نَقْلِ الْأَلْفَاظِ بِأَعْيَانِهَا، وَالِاكْتِفَاءُ بِنَقْلِ الْمَعَانِي، مَعَ قُصُورِ التَّأَمُّلِ عَنْ اسْتِيعَابِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ بِلَفْظِهِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ بَقِيَّةُ الْأَسْبَابِ مُفَرَّعَةً عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ بِحُصُولِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، أَوْ الْكَاتِبِ بِكِتَابَتِهِ مَعَ ثِقَةِ الرَّاوِي: يَتَوَقَّفُ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ، وَالنَّسْخِ، وَالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالِاشْتِرَاكِ، وَالتَّجَوُّزِ، وَالتَّقْدِيرِ، وَالنَّقْلِ، وَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، فَكُلُّ نَقْلٍ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ حُصُولُ بَعْضِ الْأَسْبَابِ، وَلَا نَقْطَعُ بِانْتِفَائِهَا نَحْنُ وَلَا النَّاقِلُ وَلَا نَظُنُّ عَدَمَهَا، وَلَا قَرِينَةَ تَنْفِيهَا، وَلَا نَجْزِمُ فِيهِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، بَلْ رُبَّمَا ظَنَنَّاهُ، أَوْ تَوَهَّمْنَاهُ، وَلَوْ نَقَلَ لَفْظَهُ بِعَيْنِهِ، وَقَرَائِنِهِ، وَتَارِيخِهِ، وَأَسْبَابِهِ: لَانْتَقَى هَذَا الْمَحْذُورُ أَوْ أَكْثَرُهُ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الظَّنُّ بِنَقْلِ الْمُتَحَرِّي فَيُعْذَرُ تَارَةً لِدَعْوَى الْحَاجَةِ إلَى التَّصَرُّفِ لِأَسْبَابٍ ظَاهِرَةٍ وَيَكْفِي ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الظَّنِّيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَائِلِ الْفُرُوعِيَّةِ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ التَّظَاهُرُ بِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَالتَّنَاصُرُ لَهَا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَصَارَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا أَحْزَابٌ وَأَنْصَارٌ، وَصَارَ دَأْبُ كُلِّ فَرِيقٍ نَصْرَ قَوْلِ صَاحِبِهِمْ، وَقَدْ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمْ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى مَأْخَذِ إمَامِهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَتَارَةً يُثْبِتُهُ بِمَا أَثْبَتَهُ بِهِ إمَامُهُ، وَلَا يَعْلَمُ بِالْمُوَافَقَةِ، وَتَارَةً يُثْبِتُهُ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَشْعُرُ بِالْمُخَالَفَةِ.

وَمَحْذُورُ ذَلِكَ: مَا يَسْتَجِيزُهُ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْ تَخْرِيجِ أَقَاوِيلِ إمَامِهِ مِنْ مَسْأَلَةٍ

ص: 267

إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ مَذْهَبًا لَهُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، وَهُوَ لِهَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ دَلِيلٍ، وَنِسْبَةُ الْقَوْلَيْنِ إلَيْهِ بِتَخْرِيجِهِ، وَرُبَّمَا حَمَلَ كَلَامَ الْإِمَامِ فِيمَا خَالَفَ نَظِيرَهُ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ، اسْتِمْرَارًا لِقَاعِدَةِ تَعْلِيلِهِ وَسَعْيًا فِي تَصْحِيحِ تَأْوِيلِهِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَنْقُلُ عَنْ الْإِمَامِ مَا سَمِعَهُ، أَوْ بَلَغَهُ عَنْهُ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ وَلَا تَارِيخٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ قَرِينَةٌ فِي إفَادَةِ مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، كَمَا سَبَقَ، فَيَكْثُرُ لِذَلِكَ الْخَبْطُ؛ لِأَنَّ الْآتِيَ بَعْدَهُ يَجِدُ عَنْ الْإِمَامِ اخْتِلَافَ أَقْوَالٍ، وَاخْتِلَالَ أَحْوَالٍ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لَهُ، يَجِبُ عَلَى مُقَلِّدِهِ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، دُونَ بَقِيَّةِ أَقَاوِيلِهِ، إنْ كَانَ النَّاظِرُ مُجْتَهِدًا.

وَأَمَّا إنْ كَانَ مُقَلِّدًا: فَغَرَضُهُ مَعْرِفَةُ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِالنَّقْلِ عَنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ غَرَضُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْجَمْعَ، وَلَا يَعْلَمُ التَّارِيخَ، لِعَدَمِ ذِكْرِهِ، وَلَا التَّرْجِيحَ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا لِتَعَذُّرِهِ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَحْذُورُ إنَّمَا لَزِمَ مِنْ الْإِخْلَالِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَيَكُونُ مَحْذُورًا، وَلَقَدْ اسْتَمَرَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ، وَالْحَاكِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ " مَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا " وَ " مَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا "، فَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ: أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ فَقَطْ، فَلِمَ يُفْتُونَ بِهِ فِي وَقْتٍ مَا، عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ؟ وَإِنْ أَرَادُوا: أَنَّهُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَيَمْتَنِعُ الْمَصِيرُ إلَى غَيْرِهِ لِلْمُقَلَّدِ، فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّارِيخُ مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا،

ص: 268

فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، فَلَا يَخْلُوا: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ إمَامِهِ: أَنَّ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ إذَا تَنَاقَضَا، كَالْأَخْبَارِ، أَوْ لَيْسَ مَذْهَبُهُ كَذَلِكَ، بَلْ يَرَى عَدَمَ نَسْخِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي، أَوْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ اعْتِقَادَ النَّسْخِ: فَالْأَخِيرُ مَذْهَبُهُ، فَلَا تَجُوزُ الْفَتْوَى بِالْأَوَّلِ لِلْمُقَلِّدِ، وَلَا التَّخْرِيجُ مِنْهُ، وَلَا النَّقْضُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ: أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي عِنْدَ التَّنَافِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ يَرَى جَوَازَ الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ الْمُقَلِّدُ إذَا أَفْتَاهُ الْمُفْتِي، أَوْ يَكُونُ مَذْهَبُهُ الْوَقْفَ، أَوْ شَيْئًا آخَرَ، فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ: كَانَ الْحُكْمُ وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ.

وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْوَقْفَ: تَعَطَّلَ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ، وَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا قَوْلٌ يُعْمَلُ عَلَيْهِ سِوَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ إمَامِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ: فَهُوَ لَا يَعْرِفُ حُكْمَ إمَامِهِ فِيهَا، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِالْقَوْلِ بِالْوَقْفِ فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، هَذَا كُلُّهُ إنْ عَلِمَ التَّارِيخَ، وَأَمَّا إنْ جَهِلَ: فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الْجَمْعُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، بِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ أَوْ مَحَلَّيْنِ، أَوْ لَا يُمْكِنُ، فَإِنْ أَمْكَنَ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ إمَامِهِ جَوَازَ الْجَمْعِ حِينَئِذٍ كَمَا فِي الْآثَارِ وَوُجُوبَهُ، أَوْ التَّخْيِيرَ، أَوْ الْوَقْفَ، أَوْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، أَوْ الثَّانِي: فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ إلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْهُمَا، فَلَا يَحِلُّ حِينَئِذٍ الْفُتْيَا بِأَحَدِهِمَا عَلَى ظَاهِرِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ،

ص: 269

وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ: فَمَذْهَبُهُ أَحَدُهُمَا بِلَا تَرْجِيحٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ، سِيَّمَا مَعَ تَعَذُّرِ تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ، أَوْ الْخَامِسُ: فَلَا عَمَلَ إذًا، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ: فَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ نَسْخَ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي أَوْ لَا يَعْتَقِدُ، فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ: وَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَخْذِ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَيَّهُمَا هُوَ الْمَنْسُوخُ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ النَّسْخَ: فَإِمَّا التَّخْيِيرُ.

وَإِمَّا الْوَقْفُ، أَوْ غَيْرُهُمَا، وَالْحُكْمُ فِي الْكُلِّ سَبَقَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ: فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْضَارِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ نُصُوصِ إمَامِهِ عِنْدَ حِكَايَةِ بَعْضِهَا مَذْهَبًا لَهُ، ثُمَّ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ تَجْدِيدِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ اعْتَقَدَهُ: وَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُهُ فِي كُلِّ حِينٍ أَرَادَ حِكَايَةَ مَذْهَبِهِ، وَهَذَا يَتَعَذَّرُ فِي مَقْدِرَةِ الْبَشَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْإِحَاطَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى جِهَتِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُسْأَلُ، وَمَنْ لَمْ يُصَنِّفْ كُتُبًا فِي الْمَذْهَبِ، بَلْ أَخَذَ أَكْثَرَ مَذْهَبِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَفَتَاوِيهِ، كَيْفَ يُمْكِنُ حَصْرُ ذَلِكَ عَنْهُ؟ هَذَا بَعِيدٌ عَادَةً،

ص: 270

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُ إمَامِهِ وُجُوبَ تَجْدِيدِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ نِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَيْهِ مَذْهَبًا لَهُ: يَنْظُرُ، فَإِنْ قِيلَ: رُبَّمَا لَا يَكُونُ مَذْهَبُ أَحَدٍ الْقَوْلُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ الْإِمَامِ، قُلْنَا: نَحْنُ لَمْ نَجْزِمْ بِحُكْمٍ فِيهَا، بَلْ رَدَّدْنَاهُ، وَقُلْنَا: إنْ كَانَ كَذَا: لَزِمَ مِنْهُ كَذَا، وَيَكْفِي فِي إيقَافِ إقْدَامِ هَؤُلَاءِ تَكْلِيفُهُمْ نَقْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ الْإِمَامِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ.

وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِهِ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُونَ هَذَا التَّحْقِيقَ بِكَثْرَةِ نَقْلِ الرِّوَايَاتِ، وَالْأَوْجُهِ، وَالِاحْتِمَالَاتِ، وَالتَّهَجُّمِ عَلَى التَّخْرِيجِ وَالتَّفْرِيعِ، حَتَّى لَقَدْ صَارَ هَذَا عِنْدَهُمْ عَادَةً وَفَضِيلَةً، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ، فَالْتَزَمُوا لِلْحَمِيَّةِ نَقْلَ مَا لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ، لِمَا عَلِمْته آنِفًا، ثُمَّ لَقَدْ عَمَّ أَكْثَرَهُمْ بَلْ كُلَّهُمْ نَقْلُ أَقَاوِيلَ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا فِي نَظَرِهِمْ، بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهَا مُرْسَلَةٌ فِي سَنَدِهَا عَنْ قَائِلِهَا، وَخَرَّجُوا مَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، بِنَاءً عَلَى مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ الدَّلِيلِ، فَمَا هَؤُلَاءِ بِمُقَلِّدِينَ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يَحْكِي أَحَدُهُمْ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ، يَتَوَهَّمُ الْمُسْتَرْشِدُ: أَنَّهَا إمَّا مَأْخُوذَةٌ مِنْ نُصُوصِ الْإِمَامِ، أَوْ مِمَّا اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى نِسْبَتِهَا إلَى الْإِمَامِ مَذْهَبًا لَهُ، وَلَا يَذْكُرُ الْحَاكِي لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لَهُ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ قَدْ اسْتَنْبَطَهُ أَوْ رَآهُ وَجْهًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ أَوْ احْتِمَالًا، فَهَذَا أَشْبَهَ التَّدْلِيسَ، فَإِنْ قَصَدَهُ فَشِبْهُ الْمَيْنِ، وَإِنْ وَقَعَ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا، فَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْبَلَادَةِ وَالشَّيْنِ.

كَمَا قِيلَ:

ص: 271

فَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ

وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ

وَقَدْ يَحْكُونَ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ الْعَمَلُ بِهِ، وَيُرْهِقُهُمْ إلَى ذَلِكَ: تَكْثِيرُ الْأَقَاوِيلِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَحْكِي عَنْ الْإِمَامِ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً، أَوْ يُخَرِّجُ خِلَافَ الْمَنْقُولِ عَنْ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ، بَلْ إمَّا التَّخْيِيرُ، أَوْ الْوَقْفُ، أَوْ الْبَدَلُ، أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ عَنْهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ حَالَيْنِ، أَوْ مَحَلَّيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ: حُكْمُهُ خِلَافُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ عِنْدَ تَعَرِّيهَا عَنْ قَرِينَةٍ مُفِيدَةٍ لِذَلِكَ، وَالْغَرَضُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَشْرَحُ أَحَدُهُمْ كِتَابًا، وَيَجْعَلُ مَا يَقُولُهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْمَشْرُوحِ رِوَايَةً، أَوْ وَجْهًا، أَوْ اخْتِيَارًا لِصَاحِبِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ أَنَّهُ ظَاهِرٌ الْمَذْهَبِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا إجْمَالٌ، أَوْ إهْمَالٌ، وَقَدْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ " الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ " أَوْ " ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ كَذَا " وَلَا يَقُولُ " وَعِنْدِي " وَيَقُولُ غَيْرُهُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَلِمَنْ يُقَلِّدُ الْعَامِّيُّ إذًا؟ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَعْمَلُ بِمَا يَرَى، فَالتَّقْيِيدُ إذًا لَيْسَ لِلْإِمَامِ، بَلْ لِلْأَصْحَابِ فِي أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ، ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفِينَ وَالْحَاكِينَ قَدْ يَفْهَمُونَ مَعْنًى، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِلَفْظٍ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ وَافٍ بِالْغَرَضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدٌ فِيهِ وَفِي قَوْلِ مَنْ أَتَى بِلَفْظٍ وَافٍ بِالْغَرَضِ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يَفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مَعْنًى قَدْ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ لِلَّفْظِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَيُحْصَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي لَفْظٍ وَجِيزٍ.

ص: 272

فَبِالضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَفْهُومُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي اللَّفْظَيْنِ مِنْ جِهَةِ التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ لِلْآخَرِ، وَقَدْ يَذْكُرُ أَحَدُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ إجْمَاعًا، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِ بِقَوْلٍ يُخَالِفُ مَا يَعْلَمُهُ، وَمَنْ يَتَتَبَّعُ حِكَايَةَ الْإِجْمَاعَاتِ مِمَّنْ يَحْكِيهَا، وَطَالَبَهُ بِمُسْتَنَدَاتِهَا: عَلِمَ صِحَّةَ مَا ادَّعَيْنَاهُ، وَرُبَّمَا أَتَى بَعْضُ النَّاسِ بِلَفْظٍ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، فَيَظُنُّ: أَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ مِنْهُ، فَيَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَى مَحْمَلِ كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ، فَإِنْ رُئِيَ مُغَايِرًا لَهُ: نُسِبَ إلَى السَّهْوِ أَوْ الْجَهْلِ، أَوْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، إنْ كَانَ، أَوْ يَكُونُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يُغَايِرُ مَدْلُولَ كَلَامِ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ، فَيَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِ كَلَامِ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ، فَيَجْعَلُ الْخِلَافَ فِيمَا لَا خِلَافَ فِيهِ، أَوْ الْوِفَاقَ فِيمَا فِيهِ خِلَافٌ، وَقَدْ يَقْصِدُ أَحَدُهُمْ حِكَايَةَ مَعْنَى أَلْفَاظِ الْغَيْرِ، وَرُبَّمَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرَى جَوَازَ نَقْلِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعِلُ ذَلِكَ مِمَّنْ يُعَلِّلُ الْمَنْعَ فِي صُورَةِ الْفَرْضِ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ التَّحْرِيفِ غَالِبًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي أَلْفَاظِ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ، فَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ: رُبَّمَا رَأَى تَرْكَ التَّصْنِيفِ أَوْلَى، إنْ لَمْ يَحْتَرِزْ عَنْهَا، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَاذِيرِ وَغَيْرِهَا غَالِبًا، فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ هَذَا فِعْلُ الْقُدَمَاءِ وَإِلَى الْآنَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ عَلَى الْأَئِمَّةِ تَرْكُ الْإِنْكَارِ إذَنْ، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وَنَحْوُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

قُلْت: الْأَوَّلُونَ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا عَنَيْنَاهُ،

ص: 273

فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَأْلِيفٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَفِعْلُهُمْ غَيْرُ مُلْزِمٍ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ حُجَّةً، بَلْ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا لِبَعْضِ الْعَوَامّ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى أَنَّ الْعَامِّيَّ مَلْزُومٌ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَحْفَظُوا الشَّرِيعَةَ مِنْ الْإِغْفَالِ وَالْإِهْمَالِ، قُلْنَا: قَدْ كَانَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا فِي حِفْظِهَا أَنْ يُدَوِّنُوا الْوَقَائِعَ وَالْأَلْفَاظَ النَّبَوِيَّةَ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى جِهَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، مَعَ ذِكْرِ أَسْبَابِهَا كَمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا حَتَّى يَسْهُلَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَعْرِفَةُ مُرَادِ كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِهِ، فَيُقَلِّدُهُ عَلَى بَيَانٍ وَإِيضَاحٍ،

ص: 274

وَإِنَّمَا عَنَيْنَا مَا وَقَعَ فِي التَّآلِيفِ مِنْ هَذِهِ الْمَحَاذِيرِ، لَا مُطْلَقَ التَّأْلِيفِ، وَكَيْفَ يُعَابُ مُطْلَقًا؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ» فَلَمَّا لَمْ يُمَيِّزُوا فِي الْغَالِبِ مَا نَقَلُوهُ مِمَّا خَرَّجُوهُ، وَلَا مَا عَلَّلُوهُ مِمَّا أَهْمَلُوهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عِبْنَاهُ وَبَيْنَ مَا صَنَّفْنَاهُ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ يُمْكِنُ أَنْ أَذْكُرَهَا مِنْ ذِكْرِ الْمَذْهَبِ مَسْأَلَةً مَسْأَلَةً، لَكِنَّهُ يَطُولُ هُنَا، وَإِذَا عَلِمْت عَقْدَ اعْتِذَارِنَا، وَخِيَرَةَ اخْتِيَارِنَا، فَنَقُولُ: الْأَحْكَامُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَغَيْرِهِ مِنْ اللَّفْظِ: أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْإِمَامِ رضي الله عنه بِعَيْنِهِ، أَوْ إيمَائِهِ، أَوْ تَعْلِيلِهِ، أَوْ سِيَاقِ كَلَامِهِ وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ لَفْظِهِ: إمَّا اجْتِهَادًا مِنْ الْأَصْحَابِ، أَوْ بَعْضِهِمْ، وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ ".

وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ " وَمِنْهَا مَا قِيلَ " إنَّهُ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ "، وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " نَصَّ عَلَيْهِ " يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَفْظُهُ، وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ " وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلُهُ لَفْظَ الْإِمَامِ رضي الله عنه وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " وَيَحْتَمِلُ كَذَا " وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ كَلَامَ الْإِمَامِ رضي الله عنه، أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهَا: مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ سَرْدًا، وَلَمْ يُوصَفْ بِشَيْءٍ أَصْلًا، فَيَظُنُّ سَامِعُهُ: أَنَّهُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ رضي الله عنه، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا،

ص: 275

وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " إنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ "، وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " إنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهُ فِيهِ "، وَمِنْهَا: مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ " اخْتِيَارِيٌّ " وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أَصْلًا مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا: مَا قِيلَ " إنَّهُ خَرَجَ عَلَى رِوَايَةِ كَذَا " أَوْ " عَلَى قَوْلِ كَذَا " وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْإِمَامِ رضي الله عنه فِيهِ، وَلَا تَعْلِيلَهُ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِغَيْرِ الْإِمَامِ رضي الله عنه وَلَمْ يُعَيَّنْ رَبُّهُ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، لَكِنْ الْقَوْلُ بِهِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِإِجْمَاعِهِمْ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى وَفْقِ مَذَاهِبِهِمْ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَمْدَانَ.

وَفِي بَعْضِهِ شَيْءٌ وَقَعَ هُوَ فِيهِ فِي تَصَانِيفِهِ، وَلَعَلَّهُ بَعْدَ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ، وَوَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ حِكَايَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَخِيرَةِ فِي كُتُبِهِمْ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ فَائِدَةً فِي الْخُطْبَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مُصْطَلَحِ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِهِ هَذَا، مَعَ أَنِّي لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى كِتَابِهِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 276