الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثامن
المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء
…
بسم الله الرحمن الرحيم
المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج
والإسراء، وتعميمه بعموم لطائف التكريم في حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.
اعلم -منحني الله وإياك الترقي في معارج السعادات، وأولصلنا به إليه في حظائر الكرامات- أن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات، وأقوى الحجج المحكمات وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعموم الكرامات.
"المقصد الخامس: في" بيان "تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء" أي: جعلها مخصوصة به لا تتجاوزه إلى غيره، والمراد به الأمور الخارقة التي اختص بها ليلته كرؤية الله والجنة، وقطعه في زمن قليل، واتساع الزمن حتى صلى بالأنبياء التي غير ذلك، فلمان كانت تلك الأمور كلها لم تتعده إلى غيره جعل المصنف همته في الترجمة بيانها؛ لأنه صار بها مقدمًا على من عداه ومقربًا في حضرة التقديس عن كل ما سواه، وقدم المعراج في الذكر لتعلقه بالحضرة الإلهية، وآخره في الترتيب مطابقة للواقع.
"وتعميمه"، أي: تغطيته وستره "بعموم،" أي: كثرة "لطائف التكريم" أي: النعم التي أكرمه الله بها التي لا تحصى بجعلها شاملة كالملاءة التي تشتمل على جميع جسد من جعلت عليه طفي حضرة التقريب،" أي: المكان الذي خاطبه فيه، "بالمكالمة والمشاهدة" له سبحانه وتعالى "والآيات الكبرى" العظمى.
"اعلم منحني" أعطاني، "الله وإياك الترقي في معارج السعادات" أي: المراتب المحصلة لها لمن أراد الله به الخير والمعراج عند أهل الطريق منتهى سير المقربين الذي هو عروجهم، أي: سلوكهم؛ لأن كل سالك إلى طريق كان غايته الحق بشرط فوزه منه بسعادة ما، فذلك السالك صاحب معراج وسلوكه عروج، "وأصولنا" الله "به"، أي: النبي صلى الله عليه وسلم "إليه"، أي: إلى قرب المكانة إلى الله "في حظائر الكرامات"، أي: المحلات التي تنزل بها الكرمات وتليق بها، أو المراد بها الجنهة، وأصل الحظيرة ما يعمل للإبل من الشجر ليقيها البرد، ونحوه، "أن قصة الإسلاء والمعراج"، بزنة مفتاح السلم، وجمعه معارج ومعاريج، ويقال: معرج للواحد، بكسر الميم وفتحا "من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات" الواضحات، "وأقوى الحجج" بالضم، جمع حجة "المحكمات وأًدق الأنباء"، جمع نبأ، بالهمز، وهو الخبر، "وأعظم الآيات وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعمو الكرامات" لما اشتملت عليه من الأمور الخارقة للعادة التي تقصر العقول عن إدراك مثلها.
وقد اختلف العلماء في الإسراء.
هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟
احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله:
ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه
"وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإسراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة"، فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا"، وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي.
"احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر
الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في وقد اختلف العلماء في الإسراء.
هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟
احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله:
ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه
_________
"وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة،" فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا،" وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي.
"احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر
الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في
منام، وبأن "الرؤيا" و"الرؤية" واحدة كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس في الآية -كما عند البخاري-: هي رؤية أريها صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وزاد سعيد بن منصور عن سفيان في آخر الحديث: وليس رؤيا منام: ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي.
وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس، وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ:"الرؤيا" على ما يرى بالعين في
الليل وسرعة تقضيه" حتى "كأنه منام"، فهو مجاز علاقته المشابهة، "وبأن الرؤيا" بالألف "والرؤية" "بالتاء" "واحدة"، يعني أن كلا منهما يستعمل موضع الآخر "كقربى وقربة"، وهذا نقله ابن دحية ولفظه.
قال أهل اللغة: رأيت رؤية ورؤيا مثل قربة وقربى، "ويشهد له قول ابن عباس" وهو من أئمة اللسان "في" تفسير "الآية، كما عند البخاري: هي رؤية عين أريها صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به"، فاستعمل ابن عباس الرؤيا "بالألف" في البصرية، "وزاد سعيد بن منصور عن سفيان" بن عيينة راويه عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، "في آخر الحديث وليس منام"، فهو دليل قوي على استعمال كل منهما موضع الآخر.
قال الحافظ: وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال: الإسراء منام، ومن قال: يقظة فالأول أخذه من لفظ الرؤيا لاختصاصها برؤيا المنام، والثاني من قوله: أريها ليلة الإسراء إذ لو كان منامًا كذبه الكفار ولا فيما هو أبعد منه، وإذا كان يقظة والمعراج تلك الليلة تعين كونه يقظة أيضًا إذ لم ينقل أنه نام لما وصل بيت المقدس، ثم عرج به وهو نائم، "ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي"، بل لفظه ما قدمه المصنف.
قال الحافظ عقب ما نقلته عنه: وإذا كان يقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله في القرآن رؤيا القلب، فقال:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] الآية، ورؤيا العين، فقال:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى} [النجم: 17-18] .
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه مرتين ومن وجه آخر قال: نظر محمد إلى ربه، جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤيا العين جميع ما ذكره صلى الله عليه وسلم من الأشياء في تلك الليلة.
"وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس" مما يأتي بعضه، "وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة"، كما تطلق على رؤيا المنام، "وهو يرد من خطا المتنبي"، ولا عبرة بإنكار ذلك
اليقظة، وهو يرد على من خطأ المتنبي.
على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية.
فقيل: أن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج، قال البيضاوي: ففسر الرؤيا بالرؤية.
وقيل: رؤيا عام الحديبية، حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس.
وقيل: رؤيا وقعة بدر، وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس القرطبي فقال:
إذ من حفظ حجة خصوصًا وابن عباس من فصحاء بني هاشم وأئمة اللسان.
وفي كلام الأشموني إفادة أن مصدر رأي: حلمية، أو بصرية أو علمية بالدليل، أو السمع يجيء بالألف في لغة، وأن المشهور كونها مصدرًا للحلمية؛ "على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية" على هذه للاستدراك، وقيل: تتعلق بما قبلها من الكلام، وقيل: لا تتعلق بشيء، "فقيل: إن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج" كما مر عن ابن عباس.
"قال البيضاوي:" وتعلق به من قال في المنام، ومن قال: كان في اليقظة، "ففسر الرؤيا""بالألف""بالرؤية""بالتاء"، "وقيل: رؤيا عام الحديبية حين رأى أنه دخل" المسجد الحرام، فسافر قاصدًا "مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس"، أي: تحيروا من ذلك؛ لأن رؤياه وحي حتى قال صلى الله عليه وسلم: "أقلت لكم في هذا العام"، وفي الفتح قال هذا القائل والمراد بقوله: فتنة للناس ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام، وهذا وإن أمكن أنه مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى.
"وقيل: رؤياه وقعة بدر، وسأل ابن النقيب" الإمام المفسر العلامة المفتي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن حسن البلخي، ثم المقدسي الحنفي مدرس العاشورية بالقاهرة، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، قدم مصر فسمع بها من يوسف المخلي، وأقام مدة بالجامع الأزهر، وصنف بها تفسيرًا كبيرًا إلى الغاية، وكان إماما ابدًا زاهدًا، أمارًا بالمعروف، كبير القدر، يتبرك بدعائه وزيارته، مات بالقدس في المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة، ذكره الذهبي في العبر "شيخه أبا العباس" أحمد بن عمر بن إبراهيم "القرطبي" الأنصاري، المالكي، الفقيه المحدث، نزيل الإسكندرية، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير وقدم الإسكندرية، فأقام بها يدرس، وصنف المفهم في شرح صحيح مسلم، واختصر الصحيحين، مات في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، وليس المراد بابن النقيب هنا شهاب الدين بن النقيب أحمد أبو العباس، أحد علماء الشافعية؛ لأنه ولد بالقاهرة سنة اثنين وسبعمائة، ومات بها في رمضان
الصحيح أنها رؤية عين، أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم التي أراه جبريل، فتسامعت به قريش فاستخروا منه. انتهى.
واستدل القائلون بأنها رؤيا منام أيضًا بقول عائشة: "ما فقد جسده الشريف".
وأجيب بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذا ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف في الإسراء متى كان.
سنة تسع وستين، كما ذكر السيوطي فلم يدرك القرطبي، "فقال: الصحيح أنها رؤية عين أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأري النبي صلى الله عليه وسلم الناس" أصحابه الحاضرين "مصارعهم،" أي: القوم الهالكين ببدر من المشركين "التي أراه جبريل،" فصار يقول قبل الوقعة واضعًا يده على الأرض: "هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان"، "فتسامعت به قريش
فاستخروا" مثل سخروا، أي: هزؤوا "منه،" فلما التقى الجمعان كان كما قال "انتهى".
لكن ما صححه خلاف ما صححه الشامي أنها رؤيا عين ليلة الإسراء، ونحوه للحافظ في الفتح قائلًا: وما روى ابن مردويه عن ابن عباس؛ أن المراد رؤيا الحديبية، وعن الحسن بن علي مرفوعًا، "إني أريت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: دنيا تنالهم"، ونزلت الآية، فكلاهما إسناده ضعيف.
"واستدل القائلون بأنها منام أيضًا عائشة" المروي عند ابن إسحق، حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول:"ما فقد جسده الشريف" ولكن أسري بروحه.
قال الشامي: كذا فيما وقفت عليه من نسخ السير فقد بالبناء للمفعول، والذي وقفت عليه من نسخ الشفاء ما فقدت بالبناء للفاعل وإسناد الفعل لتاء المتكلم، كذا قال وقد حكاهما في الشفاء، روايتين، فقال أولًا: وأما قول عائشة: ما فقد جسده، فهي لم تحدث به عن مشاهدة
…
إلخ" ثم قال بعد أسطر، وأيضًا قد روي حديث عائشة: ما فقدت، يعني بالبناء للفاعل، قال: ولم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة، وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح قولها: إنه بجسده الشريف لإنكارها رؤيته لربه رؤية عين، ولو كانت عندها لم تنكره، وحديثها هذا ليس بالثابت عنها انتهى، يعني لما في متنه من العلة القادحة، وفي سنده من انقطاع وراو مجهول.
وقال ابن دحية في التنوير: إنه حديث موضوع عليها، وقال في معراجه الصغير: قال إمام الشافعية أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح، وإنما وضع ردًا للحديث الصحيح.
"وأجيب" على تقدير صحته؛ "بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط"؛ لأنها سنة الهجرة، وكانت بنت ثمان سنين، "أو لم تكن
وقال التفتازاني: أي ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعًا، انتهى.
واحتج القائون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
ولدت بعد،" بالناء على الضم، أي: بعد هذه القصة، وهي ضد قبل، ويستعملان في التقدم والتأخر المتصل والمنفصل، والمراد هنا الأول، أو المراد زمن وقوعه للمحاورة والتضاد، وهو استعمال شائع "على الخلاف في الإسراء متى كان"، فعلى أنه كان بعد المبعث بعام لم تكن ولدت، وعلى أنه قبل الهجرة بعام تكون ابنة سبع، وعلى أنه قبلها بأكثر تكون أصغر من سبع.
قال عياض: وإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل على أنها حدثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها، وكان الظاهر أن يقول: فرجح خبر غيرها على خبرها، أي: لعدم ثبوته عنها كما أفصح به بعد، وقد قدمت كلامه لا لروايتها عن مجهول إذ لو ثبت لكان مرسل صحابي وهو حجة.
"وقال التفتازاني" في الجواب على تقدير الصحة، "أي: ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه وكان المعراج للجسد والروح جميعًا. انتهى"، وهو جواب حسن على ما فيه من كونه خلاف المتبادر من اللفظ.
"واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح،" فالإسراء يقظة، والمعراج منام، "بقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به"، من الكفاء تعجب استحالة، ومن المؤمنين تعجب تعظيم "بعظيم القدرة" بالباء الجارة، وفي نسخة بالفوقية منصوب على أنه مفعول له، أي: لتعظيم قدرة الله الباهرة "والتمدح بتشريف النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى" مكان "زائد عن المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح،" فلما لم يقع ذكر المعراج في هذا الموضع من كون شأنه أعجب وأمره أغرب بكثير من الإسراء دل على أنه كان
وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الامتحان على ما شاهدوه وعرفوه، من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى في السماء، ولا عهد لهم بذلك.
وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء به عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة.
وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضي أبي بكر بن العربي،
منامًا، وأما الإسراء فلو كان منامًا، لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس.
"وأجيب" كما ذكر ابن المنير؛ "بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الأمتحان على ما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه فيجيبهم بما عاين"، كما يأتي بيانه؛ "ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما أرى في السماء، ولا عهد لهم بذلك"، عطف علة على معلول، أي: لأنه لا عهد أي: لا علم لهم به.
وفي الشامي، وأجب الأئمة عن ذلك، بأنه استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء، فلما ظهرت أمارات صدقه، ووضحت له براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج فحدثهم به، وأنزله الله في سورة النجم.
قال الحافظ: ويؤيد وقوع الإسراء عقب المعراج في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس"، فذكر القصة إلى أن قال:"ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا"، وحديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، فلما فرغ مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج.
"وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة"، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري، وحكاه عن طائفة، وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعد في شرف المصطفى قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم معاريج، منها ما كان في اليقظة، ومن ما كان في المنام.
"وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخ القاضي أبي بكر بن العربي" واختاره؛ "وأن مرة النوم توطئة له" وتمهيد "وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة"،
وأن مرة النون توطئة وتيسير عليه، كما كان بدء نوبته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء سهلت عليه بالرؤيا؛ لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه.
وقد جوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك في روايته:"وذلك قبل أن يوحى إليه"، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
واحتج القائلون بأنه أربع إسراءات يقظة بتعدد الروايات في الإسراء، واختلف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكر الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر.
وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى
كما قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة، وفي رواية: الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، "ليسهل عليه" بالرؤيا "أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية"، فقد ذكر أبو ميسرة التابعي الكبير، وغيره؛ أن ذلك وقع في المنام، وجمعوا بينه وبين حديث عائشة؛ بأن ذلك وقع مرتين كما في الفتح، "وكذلك الإسراء سهلت" قصته عليه "بالرؤيا" في النوم قبل اليقظة؛ "لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه".
"وقد جوز بعض قائلي ذلك؛ أن تكون قصة المنام قبل المبعث لأجل قول شريك" بن أبي نمر "في روايته" عن أنس؛ "وذلك قبل أن يوحى إليه، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى" قريبًا مع الجواب عن إشكاله بالإجماع، على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل الوحي.
"واحتج القائلون، بأنه أربع إسراءات يقظة،" كما ذهب إليه جماعة "بتعدد الروايات في الإسراء واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر، وأجيب بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به أو ينساه،" أو ما يذكر هو الأهم عنده، أو ينشط تارة فيسوقه كله، وتارة يحدث المخاطب با هو أنفع له.
مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب، ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته، بذلك ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى.
وقد وقع في رواية عبثر بن القاسم الزبيدي -بموحدة ثم مثلثة بوزن جعفر- في روايته عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد، الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا
"وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالقت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب"، جاء بشيء غريب لا يعرف، "وهرب إلى غير مهرب"، يعني أن ذلك لا يجد به نفعًا في دفع التعارض، "ولم يحصل على مطلب"، حذف من كلام ابن كثير في تاريخه تعليله بقوله؛ لأن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء، وفي كلها تفرض عليه الصلاة، فكيف يدعي تعدد ذلك، هذا في غاية البعد، ووصله بقوله:"ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بذلك، ولنقله الناس على التعدد والتكرار،" ولم يقع ذلك. "انتهى".
ونحوه في الفتح، وزاد: ويلزم أيضًا وقوع التعدد في سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك؟، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح.
وقال ابن القيم: هذه طريقة ضعفاء الظاهرية الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الرواة عددوا لهم الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبًا لهؤلاء الذين زعموا أنه وقع مرارًا كيف ساغ أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى تصير خمسًا، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين، ثم يحطها عشرًا عشرًا.
"وقد وقع رواية عبثر بن القسم الزبيدي""بضم الزاي" أبو زبيد، كذلك الكوفي الثقة من رجال الجميع، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وعبثر بفتح العين المهملة، و"بموحدة" ساكنة، "ثم مثلثة" مفتوحة، ونسخحة فمثناة تحريف، فالذي في التقريب: وفتح المثلثة "بوزن جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرحمن" السلمي، الكوفي، ثقة، روي له الجماعة وتغير حفظه في الآخر، مات سة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
"عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد
…
كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا غير الذي وقع بمكة.
قال في فتح الباري: والذي يتحرر في هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابًا، ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها صلى الله عليه وسلم فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام والله أعلم. انتهى.
الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا" إسراء "غير الذي وقع بمكة"، فغير صفة محذوف.
"قال في فتح الباري: والذي يتحرر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه وما وقع بمكة من استفتاح أبوب السماء بابًا بابًا" بالتكرير، "ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفروض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها النبي صلى الله عليه وسلم فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام" ضد اليقظة، "والله أعلم، انتهى".
وفي فتح الباري أيضًا: وجنح الإمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارًا، واستند إلى ما أخرجه البزار، وسعيد بن منصور عن أنس رفعه: بينا أنا جالس إذ جاء جبريل، فوكز بين كتفي، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما، وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين.. الحديث، وفيه: ففتح لي باب من السماء، فرأيت النور الأعظم، وإذا حجاب رفرف الدر والياقوت، ورجاله لا بأس بهم، إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال، فهي قصة أخرى، الظاهر أنها وقعت بالمدينة، لا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج الذي وقع سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المخلتفة إلى بعض، أو الترجيح، إلا أنه بعد في وقوع جميع ذلك في المنام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه كما قدمته، ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: وكان الإسراء في النوم واليقظة ووقع بمكة والمدينة، فإن أراد تخصيص المدينة بالنوم،
وقال بعض العارفين: إن له صلى الله عليه وسلم أربعة وثلاثين مرة، والذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه رؤيا رآها. انتهى.
فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، في القصة كلها.
وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، لا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله.
ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب، فيحتمل، ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج، وفرضت فيه الصلاة بمكة، والآخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء بالمنام تكرر بالمدينة النبوية.
"وقال بعض العارفين؛ أن له صلى الله عليه وسلم أربعة وثلاثين مرة" من الإسراءات "الذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه" دون جسده "رؤيا رآها انتهى".
"فالحق" وهو الصحيح "أنه إسراء واحد برروحه وجسده يقظة في القصة كلها، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول": الرجوع والميل "عن ذلك" الظاهر، "إذ ليس في العقل ما يحيله" حتى يعدل عنه، وإنما عده محالًا صدر من كفار قريش وبعض ضعفاء المسلمين، لتوهمهم أن قطع مثل هذه المسافة ذهابًا وإيابًا في بعض ليلة محال لبعدها، فتقطع في أيام كثيرة، ومن بعض أرباب علم الهيئة، الزاعمين أن الأفلاك لا فرجة فيها ولا تقبل الخرق والالتئام، وكلاهما خطا عقلًا ونقلًا. ألاى ترى نقل عرش بلقيس في طرفة عين مع بعد مسافته، وقد نطقت النصوص بأن للسماء أبوابًا تفتح وتغلق، فلا عبرة بأوهام الفلاسفة.
قال التفتازاني: ادعاء استحالة المعراج باطل؛ لأنه إنما ينبني على أصول الفلاسفة من امتناع الخرق والالتئام على السموات، وإلا فلخرق والالتئام على السموات واقع عند أهل الحق، والأجسام العلوية والسفلية متماثلة مركبة من الجواهر الفردة المتماثلة ما يصح على كل من الأجسام ما يصح على الآخر ضرورة التماثل المذكور، فإن أمكن خرق الأجسام السفلية أمكن خرق الأجسام العلوية، والله قادر على الممكنات كلها، فهو قادر على خرق السموات وقد ورد به السمع، فيجب تصديقه.
وقال البيضاوي تبعًا للرازي الاستحالة مدفعوة بما ثبت في الهندسة، أما ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل ليصل لموضع طرفها الأعلى في أقل من درجة، والأجسام كلها متساوية في قبول الإعراض، والله قادر
قال الرازي: قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر.
أما القرآن فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ، وتقرير الدليل: أن "العبد" اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلًا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه قوله:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح، وأيضًا: قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، والمردج: جميع الروح والجسد وكذا ههنا، في قوله:{أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ، انتهى.
واحتجوا أيضًا: بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى تدل دليل على خلافه.
على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما حمله، والتعجب من لوازم المعجزات.
"ال الرازي" الإمام فخر الدين: "قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجسده" معا يقظة "من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر" أي: الحديث، "أما القرآن، فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، إلا بعد، "وتقرير الدليل أن العبد اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح" إذ لو كان مناما لقال بروح عبده.
"ويدل عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] الآية، ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح"؛ لأن العبد هنا محمد صلى الله عليه وسلم والناهي له عن الصلاة أبو جهل، وهو لا ينهاه عن الصلاة بروحه، "وأيضا قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: وأنه بالفتح عطفا، وبالكسر استئنافا، والضمير للشأن {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {يَدْعُوهُ} ، يعبده ببطن نخلة، "والمراد" في تينك الآيتين "جميع الروح والجسد، وكذلك ههنا" في قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] الآية، إذ الآيات تحمل على نظيرها. انتهى.
وأما الخبر فأشار إليه بقوله: "واحتجوا أيضا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه" عقلي أو شرعي.
وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استعبده الأغبياء.
ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسري به على البراق.
فإن قلت: ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا؟
أجيب: بأنه إنما جعل ليلًا تمكينًا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى اتخذه صلى الله عليه وسلم حبيبًا وخليلًا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة
قال عياض وتبعه غيره: الحق والصحيح أنه إسراء بالجسد في القصة كلها، وتدل عليه الآية نصًا، وصحيح الأخبار إلى السموت استفاضة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده حال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان منامًا لقال بروح عبده ولم يقل بعبده، وقوله:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية، أي: ما عدل عن رؤية ما أمر به من عجائب الملكوت، وما جاوزها لصراحة ظاهره في أنه بجسده يقظه؛ لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده، بشهادة لقد رأى من آيات ربه الكبرى، ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة، دالة على صدقه وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيًا، وليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة على أن ذلك إنما يعرف من صدقه وصدق خبره، "وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء" الذين كانوا أسلموا فارتدوا فوقعوا في فتنة، أي: بلية عظيمة توقعهم في العاب لردتهم وتكذيبهم وإنكارهم لخبر الصادق بما هو خارق للعادة، "ولا استبعده الأغبياء": جمع غبي بمعجمة، أي: الكفار ولا كذبوه، فيه؛ لأن مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن إسرائه بجسده وحال يقظته؛ "ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار، بأنه أسري به على البراق" وهو دابة، فوجب كونه بالجسد والروح معًا.
"فإن قلت ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا،" مع أن غالب الفرائض كالصوم والجهاد والصبح والظهر والعصر والابتغاء من فضل الله، إنما هو بالنهار، وإن وقع جهاد ليلًا فنادر لنحو غارة، وفيه الصلاة الوسطى، والصوم الذي قال الله فيه:"كل عمر ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، ومن ثم صحح الشرف المناوي أنه أفضل من الليل، وصحح غيره تفصيل الليل.
"أجيب بأنه إنما جعل ليلًا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى أتخذه عليه السلام حبيبًا وخليلًا"، فجمع له من بين المقامين، وهذا دليل لما أفهمه قوله بمقام المحبة، "والليل أخص زمان للمحبين" بفتح الباء المشددة تثنية محب، أي: أولى زمان يلخلو فيه
بالحبيب متحققة بالليل.
وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد، انتهى.
وفي ذلك حكمة أخرى على طريق أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهي: أنه قيل؛ لأن الله تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيه بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: افتخر النهار على الليل
المحب بحبيب "لجمعهما فيه"، فليس المراد بأخص هنا مقابل الأعم، ثم المحب لغة من وقعت منه المحبة، والحبيب والمحبوب من وقت عليه فغلب المحب على المحبوب، فقال المحبين، أو إشارة إلى أن المتحابين إذا صدقت محبة كل منهما لصاحبه كان محبًا ومحبوبًا باعتبارين، "والخلوة بالحبيب متحققة" بالليل من تحقق الأمر إذا ثبت، ويجوز فتح القاف اسم مفعول أي: مثبتة، والأول أولى.
"وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار"، فما وقع فيه لا يطلع عليه غالبًان فكان من الغيب، وما وقع نهارًا يطلع عليه غالبًا لمشاهدته، فإذا أخبر صلى الله عليه وسلم عما وقع له ليلًا صدقه المؤمنون فزادوا به إيمانًا، وكذبه الكافرون فزادت فتنتهم.
"قال ابن المنير": ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن من فضيلة الإيمان بالغيب"، وقد أثنى الله على الذين يؤمنون بالغيب، ففيه فضل عظيم، "ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد"، عطف علة على معلول أي: شقي بجحوده "انتهى".
"وفي ذلك حكمة أخرى" ثالثة "على طريق أهل الإشارات"، وهم المحققون من الصوفية، والإشارات الحقائق التي يأخذونها من نص القرآن وغيره، ولا يقصدون أن ما أخذوه تفسير صريح النص، كما قاله العز بن عبد السلام وغيره.
"ذكرها العلامة" محمد "بن مرزوق، وهي أنه قيل: لأن الله تعلى لما محا آية الليل" طمس نورها بالظلام لنكسن فيه، والإضافة للبيان، "وجعل آية النهار مبصرة"، أي: مبصرًا فيها بالضوء، وفائدة إضافة البيان تحقيق مضمون الجملة السابقة، "انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيها بمحمد صلى الله عليه وسلم" وذلك أعظم الجبر، "وقيل: افتخر النهار على الليل بالشمس، فقيل له:
بالشمس فقيل له: لا تفتخر، فإن كانت الشمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء، وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد:
قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ
…
ـل على بهجة النهار المنير
قال: لا أستطيع تغيير رسمي
…
هكذا الرسم في طلوع البدور
إنما زرت في الظلام لكيما
…
يشرق الليل من أشعة نوري
فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أم ليلة القدر؟
فالجواب: كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش -أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر، وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها لهم خير لهم
لا تفتخر، فإن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء،" وهذا أيضًا من كلام أهل الإشارات، "وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم سراج"، كما قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] الآية، "والسراج إنما يوقد بالليل"، أي: إنما يحصل الانتفاع بإيقاده ليلًا، ويذم بإيقاده نهارًا.
قال الفرزدق:
فك والد لك يا جرير كأنه
…
قمر المجرة أو سراج نهار
"وأنشد" في ذلك المعنى يقول:
"قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ
…
ـل على بهجة النهار المنير
قال: لا أستطيع تغيير رسمي
…
هكذا الرسم في طلوع البدرو
إنما زرت في الظلام لكيما
…
يشرق الليل من أشعة نوري"
وحاصل معنى الأبيات أنه سأل محبوبه عن حكمة زيارته ليلًا دون النهار، فقال: أنا بدر، وهو إنما يظهر أثره ليلًا ولا يستطيع تغيير ذلك الأثر، وإن في زيارته ليلًا فائدة لا تظهر لو زاره نهارًا، وهي إشراق الليل بنوره، فصار الليل في حقه كالنهار في الإضاءة والإشراق.
"فإن قلت: إيما أفضل ليلة الإسراء أم ليلة القدر" التي هي خير من ألف شهر؟، "فالجواب كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش، أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر،" لما أكرم به فيها من خوارق العادات التي أجلها رؤيته لله تعالى على الصحيح.
"وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها" أي: العمل فيها "خير لهم من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم"، بإلغاء الكسر، وهو ثلاث سنين وثلث سنة، بناء على أن المراد حقيقة العدد
من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شيء، ومن قال فيها شيئًا فإنما قال من كيسه لمرجع ظهر له استأنس به، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شيء، ولو تعلق بها نفع للأمة، ولو بذرة، لبينه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وهو ألف شهر، وصدر البيضاوي، بأن المراد التكثير.
"وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح،" أراد به ما يشمل الحسن بدليل قوله، "ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن، ولا" يصح "إلى أن تقوم الساعة فيها شيء"؛ لأنه إذا لم يصح من أول الزمان، لزم أن لا يصح في بقيته، لعدم إمكان تجدد واحد عادة يطلع على ذلك بعد الزمن الطويل، وهذا لا يشكل عليه ما قيل أنه كان ليلة سبع عشرة، أو سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول، أو سبع وعشرين من رمضان، أو من ربيع الآخر، أو من رجب، واختير وعليه العمل؛ لأن ابن النقاش لم ينف الخلاف فيها من أصله، وإنما نفى تعيين ليلة بخصوصها للإسراء وأنها أصح.
"ومن قال فيها شيئًا، فإنما قال من كيسه"، أي: من عند نفسه دون استناد لنص يعتمد عليه "لمرجع ظهر له، استأنس به" لما جزم به، "ولهذا" أي: عدم إتيان شيء فيها "تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شيء ولو تعلق بها نفع للأمة ولو بذرة"، أي: شيئًا قليلًا جدًا "لبينه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم"؛ لأنه حريص على نفعهم. "انتهى" كلام أبي أمامة.
زاد الشامي عقبه: ويؤخذ من قول الإمام البلقيني في قصيدته التي مدخ فيها المصطفى:
فأولاك رؤيته في ليلة فضلت
…
ليالي القدر فيها الرب رضاكا
إن ليلة الإسراء أفضل من لية القدر، قال في الاصطفاء: ولعل الحكمة في ذلك اشتمالها على رؤيته تعالى التي هي أفضل كل شيء، ولهذا لم يجعلها ثوابًا عن عمل من الأعمال مطلقًا بل من بها على عباده يوم القيامة تفضلًا منه تعالى انتهى، لكن هذا لا يصادم كلام ابن النقاش، إذ ليس في النظم أنها أفضل في حق الأمة وإن كان فضل الزمان، والمكان لا يختص بالعمل فيهما عل ما رجحه الشهاب القرافي وغيره، فهو خاص بتلك الليلة، لا يتعداها لمماثلها كل سنة لعدم ورود شيء فيه.
وفي الهدى لابن القيم، أن ابن تيمية سئل هل ليلة الإسراء أفضل أم ليلة القدر؟ فأجاب،
فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء؟
أجاب العارف عبد العزيز المهدوي: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية لم تكن لأحد من الأنبياء، إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم انتهى.
وإنما قال تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِه} إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به، ليعلم أن الإسراء من عبده هبة إلهية، وعناية ربانية، سبقت له عليه السلام، مما لم يخطر بسره، ولا اختلج في ضميره.
بأن القائل ليلة الإسراء أفضل إن أراد أنها ونظائرها كل عام أفضل، فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاضطرار، وإن أراد أنها بخصوصها أفضل؛ لأنه حصل له صلى الله عليه وسلم فيها ما لم يحصل له في غيرها، وما لم يحصل لغيره، فهو صحيح إن سلم إن إنعام الله على نبيه ليلة الإسراء أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر، وهذا لا يعلم إلا بوحي، ولا يجوز التلم فيه بلا علم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة، أنه خص ليلة الإسراء بأمر من الأمور.
"فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء" أم هو من خصائصه عليهم؟، "أجاب العارف عبد العزيز المهدوي: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات:" "بفتح الضاد" جمع حضرة، أي: المراتب "العلية لم تكن لأحد من الأنبياء إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم انتهى".
وعبارة الأنموذج في الخصائص التي اختص بها على الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله لفظها، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين، ووطئه مكانًا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وإحياء الأنبياء له، وصلاته إمامًا بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار، عد هذه البيهقي، ورؤيته آيات ربه الكبرى وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، ورؤيته للباري تعالى مرتين، وبركوب البراق في أحد القولين، "وإنما قال تعالى:{أَسْرَى} مأخوذ من السرى، وهو سير الليل، تقول: أسرى وسرى إذا سار ليلًا، هذا قول الأكثر.
وقال الحوفي: أسرى: سار ليلًا، وسرى: سار نهارًا، وقيل: أسرى: سار من أول الليل، وسرى: سار من آخره، وهذا أقرب {بِعَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم اتفاقًا، والضمير لله تعالى، والإضافة للتشريف، والمراد جعل البراق يسري به كما يقال: أمضيت كذا، أي: جعلته يمضي، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه؛ ولأن المراد ذكر المسرى به لا ذكر الدابة، قاله في الفتح "إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به ليعلم أن الإسراء من عبده هبة إلهية، وعناية ربانية سبقت له عليه اسلام مما لم يخطر بسره ولا اختلج في ضميره،" ولعل وجه الإعلام بذلك، إنه إذا كان تعالى هو المسافر به أفاد أنه لم يكن منه فعل في الإسراء بل هو من ونعمة منه عليه،
وأدخل "باء" المصاحبة في قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} ليفيد أنه تعالى صحبه في مسراه، بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية، ويشهد له قوله عليه الصلاة والسلام:"اللهم أنت الصاحب في السفر".
وتأمل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]، وقوله:{أَسْرَى بِعَبْدِه} تلح لك خصوصية مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام الحق سبحانه وتعالى دون عموم الخلق.
وقرن سبحانه وتعالى "التسبيح" بهذا الإسراء، ولينفي عن قلب صاحب الوهم
"وأدخل باء المصاحبة" على قول المبرد والسهيلي؛ لأن الفعل اللازم، إذا تعدى بالباء غيرت الباء معناه، بخلاف بقية الحروف إذا تعدى بها الفعل، فلا يغير شيء منها معناه، فلذا جعلت للمصحابة "في قوله:{بِعَبْدِه} ليفيد أنه تعالى صحبه في مسراه بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية"، بيان لمعنى صحبة الله لعبده لاستحالة المصاحبة الحقيقية عليه، هكذا جزم المبرد والسهيلي، أن الباء تقتضي مصاحبة الفعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة، حتى قال السهيلي: إذا قلت قعدت به، فلا بد من مشاركة ولو باليد، وبه جزم ابن دحية وابن المنير.
زاد ابن دحية، "ويشهد له،" أي: لوصفه تعالى بالصحبة "قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أنت الصاحب في السفر"،" والجمهور أن الباء للتعدية وترادف الهمزة، ولا تقتضي المصاحبة، ورد على المبرد وأتباعه بقوله تعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} [البقرة: 17] الآية؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالذهاب مع النور، وبقول الشاعر:
ديار التي كانت ونحن على منى
…
تحل بنا لولا نجاء الركائب
أي: تحلنا، فالباء هنا للتعدية، ولم يقتضي المشاركة؛ لأن الديار لم تكن حرامًا فتصير حلالًا، ولكن الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، "وتأمل قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر} [يونس: 22] الآية، وقوله:{أَسْرَى بِعَبْدِه} تلح لك خصوصية مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام الحق سبحانه وتعالى دون عموم الخلق؛" لأنه أتى بباء المصاحبة في "بعبده"، وأتى بـ"في" في العموم إشارة إلى الفرق بين لطفه بعبده وبين غيره من الخق، "وقرن سبحانه وتعالى التسبيح بهذا الإسراء"، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} وأصلها التنزيه، ويطلق في موضع التعجب، فعلى الأول المعنى تنزه الله عن أن يكون رسوله كذابًا، وعلى الثاني عجب الله عباده بما أنعم به على رسوله، ويحتمل أنه بمعنى الأمر، أي: سبحوا الذي أسرى، قاله في الفتح "ينفي عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من
ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه، والتجسيم ما يتخيله في حق الحق سبحانه من الجهة والحد والمكان، ولذا قال:{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} يعني ما رأى في تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه سبحانه وتعالى يقول: ما أسريت به إلا لرؤيته الآيات، لا "إلي" فإني لا يحدني مكان، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسري به إلي، وأنا عبده، وأنا معه أينما كان، ولله در القائل لا محا معنى ما ذكر:
سبحان من أسرى إليه بعبده
…
ليرى الذي أخفاه من آياته
كحضوره في غيبة وكسكره
…
في صحوه والمحو في إثباته
ويرى الذي عنه تكون سره
…
في منعه إن شاءه وهباته
أهل التشبيه والتجسيم ما يتخليه في حق الحق سبحانه من الجهة والحد والمكان" حملًا لقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ} ، على ظاهره، فيكون معناه صاحبه في سيره من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولذلك محال في حقه.
وفي البيضوي تصديره بالتسبيح للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد.
"ولذا قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، ويعني ما رأى في تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه سبحانه وتعالى، يقول: ما أسريت به إلا لرؤيته الآيات، لا إلي فإني لا يحدني مكان؛" لأنه الخالق له وموجده فكيف يحده "ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسري
به" "بضم الهمزة مضارع من أسرى"، أي: كيف أنقله من المكان الذي هو به لأحضره "إلي، وأنا عنده وأنا معه أينما كان،" أي: في أي مكان حل به، "ولله در القائل: لا محا معنى ما ذكر:"
"سبحان من أسرى إليه بعبده
…
ليرى الذي أخفاه من آياته"
أي: ستره عن عامة خلقه، ويرى مبني للفاعل بفتح أوله أو بضمه وحذف المفعول، أي: ليريه، ومثل لذلك على طريق أهل الإشارات بقوله:"كحضوره في غيبة" يعنون بها غيبة القلب عن علم ما يجري من أحكام الخلق لشغل الحس بما ورد عليه من الحق حتى إنه قد يغيب عن إحساسه بنفسه فضلًا عن غيره، والغيبة بإزاء الحضور، والغيب بإزاء الشهادة، فيقال: الغيب عن عالم الشهادة حضور في عالم الغيب، والحضور في عالم القدس غيبة عن عالم الحس، "وكسكره"، وهو غيبة بوارد قوي "في صحوه"، وهو الرجوع إلى الإحساس بعد الغيبة بوارد قوي، وذلك أن العبد إذا كوشف بنعت الجمال سكر وطرب وهام قلبه، فإذا عاد من سكره سمى صاحيًا، "والمحو" رفع أوصاف العادة "في إثباته" وهو إقامة أحكام العادة مقابل للمحو.
"ويرى الذي عنه تكون سره،" السر يعني به عن حصة كل موجود من الحق بالتوجه
ويريه ما أبدى له من جوده
…
بوجوده والفقد من هيآته
سبحانه من سيد ومهيمن
…
في ذاته وسماته وصفاته
وأكد الله تعالى بقوله: {لَيْلًا} مع أن الإسراء لا يكون في اللسان العربي إلا ليلًا، لا نهارًا، "ليدفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط، ويزيل من خاطر من يعتقد من الناس أن الإسراء ربما يكون نهارًا، فإن القرآن وإن كان نزوله بلغة العرب، فإنه خاطب به الناس أجمعين، أصحاب اللسان العربي وغيرهم.
الإيجادي المنبه عليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [النحل: 40] الآية، "في منعه إن شاءه"، أي: المنع "وهباته": جمع هبة، ذكره كله في لطائف الأعلام، "ويريه" من الإراءة "ما أبدى": أظهر "له من جوده" تعالى عليه صلى الله عليه وسلم "بوجوده والفقد من هيئاته".
"سبحانه من سيد" من أسمائه تعالى، كما في حديث "ومهيمن"، كما في التنزيل، المهيمن، أي: الشاهد الحافظ، أو المؤمن، أو الرقيب، أو القائم على خلقه، "في ذاته وسمائه""بتثليث السين" لغة
في الأسماء، وهو ما دل على الذات باعتبار صفة "وصفاته": جمع صفة، وهي المعنى القائم بالذات، "وأكد الله تعالى بقوله ليلًا مع أن الإسراء لا يكون في اللسان العربي إلا ليلًا لا نهارًا" وكذا سرى عند الأكثر كما مر.
قال الحافظ: "ولم تختلف القراء في {أَسْرَىْ} بخلاف قوله تعالى في قصة لوط {فَأَسْر} [هود: 81] ، فقرئت بالوصل والقطع، ففيه تعقب على من قال سرى وأسرى بمعنى واحد.
قال السهيلي: السرى من سريت إذا سرت ليلًا، يعني فهو لازم، والإسراء يتعدى في المعنى، لكن حذف مفعوله حتى ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معنى {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} جعل البراق يسري به، كما تقول: أمضيت كذا، أي: جعلته يمضي، لكن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه والاستغناء عن ذكره، إذ المقصود بالذكر المصطفى لا الدابة التي سارت به.
وأما قصة لوط، فالمعنى سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا معنى قراءة القطع، ومعنى الوصل سر بهم ليلًا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء؛ لأنه لا يجوز أن يقال: سرى بعبده بوجه من الوجوه.
قال الحافظ: والنفي الذي جزم به إنما هو من هذه الحيثية التي قصد فيها الإشارة قصد فيه الإشارة إلى أنه سار ليلًا على البراق، وإلا فلو قال قائل: سرت بزيد، بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحًا "ليدفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط" دون جسده "ويزيل من خاطر من يعتقد من
وقال البيضاوي تبعًا لصاحب الكشاف: وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ "من الليل" أي بعضه: كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} [الإسراء: 79] وتعقبه القطب في حاشيته على الكشاف كما نبهت عليه في حاشية الشفاء.
والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السموات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام في تصاريف
الناس أن الإسراء ربما يكون نهارًا، فإن القرآن وإن كان نزوله بلغة العرب، فإنه خاطب به الناس أجمعين أصحاب اللسان العربي وغيرهم".
وهذا على قول الأكثر من اختصاصه بالليل وإلا ففي الفتح ليلًا ظرف للإسراء للتأكيد، وفائدته دفع توهم المجاز؛ لأنه قد يطلق على سير النهار أيضًا.
"وقال البيضاوي تبعًا لصاحب الكشاف" الزمخشري، "وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء" أي: أنه وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول: سرى فلان ليلًا إذا سار بعضه، وسرى ليلة إذا سار جميعها، كما في الفتح، "ولذلك قرئ" في الشواذ": من الليل، أي: بعضه، كقوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} [الإسراء: 79] الآية".
وقيل: يقال: أسرى ليلًا إذا سار أثناء الليل، وإذا سار في أوله، ويقال: أدلج منه، ومنه قوله تعالى في قصة موسى:{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [الدخان: 23] الآية، أي: من وسط الليل، "وتعقبه القطب في حاشيته على الكشاف، كما نبهت عليه في حاشية الشفا،" أي: نقل القطب التعقب عن غيره وأقره، فلذا نسبه إليه، وعبارته قال بعضهم، وفيه نظر؛ لأن التنكير للتقليل لا يكون إلا فيما يقبل القلة والكثرة، والليل لا يقبلهما ولا يسلم له أيضًا على تقدير أنه بالاعتبار؛ لأن هذا
المعنى وهو البعض حاصل ولو لم ينكر، فإن قولك: دخل زيد البلد الليل، أو ليلًا، يفيد هذا المعنى، إذ ليس الدخول في كل الليل انتهى.
قال النعماني: وفيه نظر، إذ لا نسلم أن هذا وزانه، وإنما وزانه طاف الأمير البلد ليلًا، فإن طوافه قد يكون مستغرقًا لكل الليلة، ولما استشعر صاحب الكشاف هذا استشهد بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل، ولا يسلم أيضًا كونها تبعيضية، بل يجوز أنها ابتدائية، فالسؤال باق انتهى.
"والمعارج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السموات" السبع، "والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام:" تصويتها "في تصاريف
الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسمع الخطاب المكافحة، والكشف الحقيقي.
وقد وقع له عليه السلام في سني الهجرة العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة بهذه المعاريج العشرة، ولهذا ختمت سني الهجرة، بالوفاة، وهي لقاء الحق جل جلاله، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق، وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهي المنزلة الرفيعة. كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس.
وقد أفاد الإمام الذهبي أن الحافظ عبد الغني جمع أحاديث الإسراء في جزأين، ولم يتيسر لي الوقوف عليهما بعد الفحص الشديد.
وقد صنف الشيخ أبو إسحاق النعماني رحمه الله في الإسراء والمعراج كتابًا جامعًا لإطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق، ولم أقف عليه
الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية" لله عز وجل، "وسمع الخطاب" منه "بالمكافحة": المخاطبة "والكشف الحقيقي، وقد وقع له عليه الصلاة والسلام في سني الهجرة": بكسر السين، جمع سلامة لسنة، وبسكون الياء، فحذفت النون للإضافة، فالتقى ساكنان الياء واللام، فحذفت الياء لفظًا لالتقاء الساكنين، فبقي هكذا سني خطأ فتكتب الياء ولا تقرأ "العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة بهذه المعاريج العشرة"، ويأتي ذكرها للمصنف، "ولهذا ختمت سني الهجرة"، كذا في جميع النسخ بالياء والصواب سنو بالواو؛ لأنه جمع مذكر سالم نائب فاعل، ختمت "بالوفاة، وهي لقاء الحق جل جلاله والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق"، مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وأريد به الجنس، وقرئ مقاعد صدق، والمعنى أن مجالس الجنات سالمة من اللغو والتأثيم بخلال مجالس الدنيا، فقل أن تسلم من ذلك، "وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهي المنزلة الرفيعة، كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس، وقد أفاد الإمام الذهبي" محمد الحافظ، العالم الشهير، نسبة إلى الذهب "أن الحافظ عبد الغني" المقدسي "جمع أحاديث الإسراء في جزأين، ولم يتيسر لي الوقوف عليهما بعد الفحص" الطلب "الشديد، وقد صنف الشيخ أبو إسحاق" إبراهيم "النعماني،" تلميذ الحافظ ابن حجر "رحمه الله في الإسراء والمعراج كتابًا جامعًا للإطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق،" أي: بزيادة بيانها، "ولم أقف عليها حال كتابتي هذا المقصد الشريف"، وقد
حال كتابتي هذا المقصد الشريف.
والله تعالى يرحم شيح الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلاني، فإنه جمع في كتابه "الفتح" كثيرًا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث، مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معاني كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه.
وكل من صنف في شيء من المنح النبوية، والمناقب المحمدية لا يستغني عن استجناء معارف اللطائف من رياض "عياض" والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء "شفائه" والمبرئ لمعضل الأمراض.
والله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء الأمة سجال رحمته ورضوانه، ويسكننا معهم في بحبوحة جنانه.
وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس، وأبي بن كعب، وجابر بن
وقفت عليه، "والله تعالى يرحم شيخ الإسلام، والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلاني فإنه جمع في كتابه الفتح كثيرًا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معاني كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه"، وأكثر ما ذكره المصنف هنا منه، "وكل من صنف في شيء من المنح": العطايا: "النبوية والمناقب المحمدية لا يستغني عن استجناء معارف اللطائف من رياض عياض"، أي: فوائده المذكورة في الشفا، سماها رياضًا لكثرة نفعها، كنفع الأشجار المثمرة للعامة، "والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء شفائه المبرئ لمعضل" بكسر الضاد، أي: شديد "الأمراض، والله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء الأمة سجال رحمته ورضوانه، ويسكننا معهم في بحبوحة" بضم الباءين، "جنانه"، أي: وسطها.
"وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس" بن ملك في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، رواه أحمد ومسلم عن ثابت، والشيخان عن شريك، وابن مردويه عن كثير بن خنيس، والنسائي وابن مردويه عن يزيد بن أبي مالك، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي عن عبد الرحمن بن هاشم، وعبد العزيز بن صهيب والطبراني عن ميمون بن سيار، وابن جرير عن كثير بن سليم، وابن مردويه عن أبي هاشم، وعلي بن زيد، وثمامة، وابن سعد، وسعيد بن منصور، والبزار عن أبي عمراني الجوني، الأحد عشر عن أنس عن المصطفى بلا واسطة، "وأبي بن كعب" رواه عن ابن مردويه عن طريق عبيد بن عمير، ومن طريق مجاهد عن ابن عباس،
عبد الله، وبريدة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عمرو، وحذيفة بن اليمان، وشدبد بن أوس، وصهيب، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبي أمامة، وأبي أيوب، وأبي حبة، وأبي
وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، بلفظ حديث عن أبي ذر حرفًا حرفًا.
قال الحافظ في أطراف المسند، أنه وقع فيه تحريف، وكان في الأصل عن أبي ذر، فسقط من النسخة لفظة ذر، فظن أنه ابن كعب فأدرج في مسند أبي بن كعب غلطًا.
قال الشامي: نبه الدارقطني في العلل على أن الوهم فيه من أبي حمزة أنس بن عياض، "وجابر بن عبد الله" عند الشيخين، ورواه الطبراني وابن مردويه بلفظ آخر بسند صحيح، "وبريدة""بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية" ابن الحصيب" "بمهملتين مصغر"، رواه الترمذي والحاكم وصححه، "وسمرة بن جندب" عند ابن مردويه، "وابن عباس" عبد الله رواه أحمد، والشيخان، وأبو يعلى، وأبو نعيم، وابن مردويه، والنسائي، والبزار بطرق كلها مختصرة "وابن عمر" رواه أبو داود والبيهقي، "وابن مسعود" رواه مسلم، وابن عرفة، وأحمد، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي بطرق عندهم عنه، "وابن عمرو" بفتح العين" ابن العاصي عند ابن سعد، وابن عساكر، "وحذيفة بن اليمان" عند ابن أبي شيبة، وأحمد والترمذي وصححه، "وشداد بن أوس" عند البزار، والطبراني والبيهقي وصححه، "وصهيب" بن سنان عند الطبراني وابن مردويه، "وعلي بن أبي طالب" عند أحمد وابن مردويه، "وعمر بن الخطاب" رواه أحمد وابن مردويه، "ومالك بن صعصعة" رواه أحمد، والشيخان، وابن جرير، والبيهقي وغيرهم، "وأبي أمامة" عد ابن مردويه في تفسيره، "وأبي أيوب" الأنصاري، رواه الشيخان في أثناء حديث أبي ذر، "وأبي حبة""بموحدة على الصحيح" الأنصاري، الألوسي، البدري، رواه ابن مردويه.
قال في الإصابة: وقع ذكره في الصحيح من رواية الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبي حبة البدري، عقب حديث الزهري، عن أنس، عن أبي ذر في الإسراء، وروي عنه أيضًا عمار بن عمار وحديثه عنه في مسند ابن أبي شيبة، وأحمد، وصححه الحاكم، وصرح بسماعه منه، وعلى هذا فهو غير الذي ذكر ابن إسحاق أنه استشهد بأحد.
قال أبو حاتم: اسمه عامر بن عبد عمرو بن عمير بن ثابت، وقال أبو عمر: يقال بالموحدة وبالنون وبالياء والصواب بالموحدة، وقيل: اسمه عامر، وقيل: مالك، وبالنون ذكره ابن عقبة وابن أبي خيثمة، وأمكر الواقدي أن يكون في البدري من يكنى أبا حبة بالموحدة، وقد خلطه غير واحد بأبي حبة بن غزية بن عمرو الخزرجي، النجاري، وفرق بينهما غير واحد، وصوبه ابن عبد
ذر، وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وفي تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفي ويشفي.
وبالجملة: حديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة
البر، فقال: هذا خزرجي، وذاك أوسي، وهذا لم يشهد بدرًا، وذاك شهدها، "وأبي ذر" رواه الشيخان، "وأبي سعيد الخدري" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق هارون العبدي، وهو متكلم فيه.
وقد روى البيهقي عن أبي الأزهر، قال: حدثنا زيد بن أبي حكيم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله رجل من أمتك يقال له: سفين لا بأس به، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا بأس به".
حدثنا عن أبي هارون عن أبي سعيد، عنك؛ أمك ليلة أسري بك قلت: رأيت في السماء، فحدثته بالحديث، فقال: نعم، فقلت: إن إناسًا من أمتك يحدثون عنك في الإسراء بعجائب فقال: ذاك حديث القصاص.
"وأبي سفيان بن حرب" عند أبي نعيم في الدلائل، "وأبي هريرة" رواه مطولًا ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي، والحاكم، وصححه مختصرًا الشيخان، وأحمد، وابن ماجه، وابن مردويه، وابن سعد، والطبراني، وسعيد بن منصور بطرق عنه، "وعائشة" عند الحاكم وصححه، والبيهقي وابن مردويه" وأسماء بنت أبي بكر" روه ابن مردويه، "وأم هانئ" عند الطبراني، "وأم سلمة" عند الطبراني، وأبي يعلى، وابن عساكر، وابن إسحاق "وغيرهم،" فأخرجه ابن عساكر عن سهل بن سعد، والبزار، والبغوي، وابن قانع عن عبد الله أسعد بن زرارة، والطبراني عن أبي الحمراء، وابن مردويه والطبراني عن أبي ليلى الأنصاري، وسعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن قرط، وذكره ابن دحية عن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن بن عابس، وأبي سلمة وعياض.
وذكره أبو حفص النسفي عن العباس بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان، وأبي الدرداء، وأبي سلمى راعي النبي صلى الله عليه وسلم وأم كلثوم بنت المصطفى، وبلال بن حمامة، وبلال بن سعد، وابن الزبير، وابن أبي أوفى، وأسماة بن زيد.
ال الشامي: ولم أقف على حديثه، فهؤلاء خمسة وأربعون صحابة رووا القصة "رضي الله تعالى عنهم أجمعين".
"وفي تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفي ويشفي، وبالجملة حديث الإسراء
الملحدون، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] .
وقد روى البخاري، عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثه عن ليلة أسري به.
"بينما أنا نائم في الحطيم" -وربما قال: في الحجر- "مضطجعًا"، إذ أتاني آت فقد -قال: سمعته يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه. قال: فقلت للجارود وهو
أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة الملحدون،" لاستحالته في زعمهم الكاذب، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} منصوب بأن مقدرة، واللام مزيدة {نُورَ اللَّهِ} "، وشرعه وبراهينه " {بِأَفْوَاهِهِمْ} "، بأقوالهم فيه، " {وَاللَّهُ مُتِمُّ} " مظهر " {نُورِهِ وَلَوْ كَرَِ الْكَافِرُونَ} " [الصف: 8] الآية، ذلك وقد، ساق البرهان النعماني غالب ألفاظ الصحابة الذين رووا القصة، والمصنف اقتصر على حديث البخاري في باب المعراج، وتكلم بعده بما غالبه في فتح الباري، فقال:"وقد روى البخاري" بسنده، وهو حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام "عن قتادة" بن دعامة، وليس هذا من التعليق في شيء، "عن أنس بن مالك،" وكذا رواه مسلم والنسائي، وأخرجه البخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن قتادة، حدثنا أنس، فزال ما يخشى من تدليس قتاده لتصريحه بالتحديث، "عن مالك بن صعصعة" بن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري، من بني النجار ما له في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس قاله في الفتح.
وذكر في الإصابة الخلاف في أنه من بني عدي بن النجار، وبه جزم ابن سعد أو من بني مازن بن النجار، وبه جزم البغوي، وقال: سكن المدينة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين، وذكر الخطيب في المبهمات أنه الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أكل تمر خيبر هكذا"؟، "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثه عن ليلة أسري به" فيها صفة الليلة، هكذا رواه الكشميهني والنسفي، ورواه الأكثر عن ليلة الإسراء وبين ما حدثه به بقوله، "بينما"، أي: فقال المصطفى: "بينما" وثبت في بعض نسخ البخاري قال: "بينما" بالميم، "أنا نائم في الحطيم، وربما قال: في الحجر" بكسر فسكون، والشك من قتادة كما يأتي، والمراد بالحطيم الحجر، "مضطجعًا" نصب على الحال "إذا أتاني آت" هو جبريل، "فقد" بالقاف والدال الثقيلة، "قال" قتادة:"سمعته" أي: أنسا "يقول:" فالقائل قتادة، والمقول عنه أنس، ولأحمد قال قتادة: وربما سمعت أنسا يقول: قاله الحافظ، فلم يصب من قال الظاهر أن ضمير قال لمالك بن صعصعة، "فشق ما بين هذه إلى هذه، قال" قتادة: "فقلت للجارود:" بفتح الجيم فألف فراء مضمومة فواو فدال مهملة.
"إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغره نحره إلى شعرته. فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد".
قال الحافظ: لم أر من نسبه من الرواة ولعله ابن أبي سبرة البصري، صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته، عن أنس حديثًا غير هذا انتهى، وجزم المصنف بما تراجاه، "وهو إلى جنبي ما يعني" أنس "به"، أي: بقوله: فشق ما بين هذه إلى هذه، "قال:" يعني "من ثغره نحره" بضم المثلثة وسكون المعجمة: الموضع المنخفض بين الترقوتين "إلى شعرته" بكسر المعجمة، أي: شعر العانة، ووقع السؤال: هل كان شق صدره الشريف بآلة أم لا؟، ولم يجب عنه أحد، ولم أر من تعرض له بعد التتبع، وظاهر قوله: فشق أنه كان بآلة، ويدل له قول الملك في حديث أبي ذر خط بطنه فخاطه، وفي لفظ عتبة بن عبد حصه فحاصه.
وفي حديث أنس: كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم ذكره الشامي، وزعم بعض أن الشق في المرات كلها لم يكن بآلة، ولم يسل منه دم، ولم يجد لذلك ألما، كما صرح في بعض الروايات؛ لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات، "فاستخرج قلبي، ثم أتيت""بضم الهمزة""بطست""بفتح الطاء وبكسرها وسكون السين المهملة وبمثناة وقد تحدف"، وهو الأكثر إثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها، قاله الحافظ "من ذهب" قبل تحريم استعماله، "مملوءة" بالجر على الصفة والتأنيث على لفظ الطست؛ لأنها مؤنثة "إيمانًا" نصب على التمييز ملئًا حقيقة، وتجسد المعاني جائز، كتمثيل الموت كبشًا، ووزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب، أو مجازًا، من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالحسي، ثم هذا لفظ البخاري في المعراج، وله في بدء الخلق بطست ملئ حكمة وإيمانًا بالتذكير باعتبار الإناء، وللمستملي والحموي ملآن بفتح الميم وسكون اللام وهمزة ونون، وللكشميهني ملأى بفتح الميم وسكون اللام وفتح الهمزة مؤنث على لفظ الطست، فزاد في هذه الرواية حكمة.
قال ابن أبي جمرة فيه، إن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذا قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] الآية، وأوضح ما قيل فيها، أنها وضع الشيء في محله أو الفهم في كتاب الله، وعلى الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان، وقد لا توجد وعلى الأول قد يتلازمان؛ لأن الإيمان يدل على الحكمة، "فغسل" بضم الغين، أي: غسل جبريل "قلبي".
وفي مسلم والبخاري في الصلاة بماء زمزم؛ لأنه أفضل المياه ويقوي القلب، "ثم حشي" بضم المهملة، وكسر المعجمة إيمانًا وحكمة، "ثم أعيد" موضعه من الصدر المقدس، وللبخاري
"ثم أتيت بدابة، دون البغل وفوق الحمار أبيض" -فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم -يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاسفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال:
"في الصلاة: ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه""ثم أتيت" بضم الهمزة، "بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض"، ذكر باعتبار كونه مركوبًا أو نظرًا للفظ البراق، وحكمة كونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك عادة.
"فقال له الجارود: هو البراق" استفهام حذفت أداته "يا أبا حمزة" بمهملة وزاي، كنية أنس، "قال أنس "نعم": هو البراق بضم المواحجة وتخفيف الراء، ضبطه الحافظ وغيره، وكثيرًا ما يخطئ المتشدقون، فيقرؤنه بكسر الباء، "يضع خطوه" بفتح المعجمة المرة الواحدة وبضمنا الفعلة "عند أقصى طرفه" بسكون الراء، وبالفاء، أي: نظره، أي: يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره.
قال الحافظ: والتعبير بالخطو مجاز؛ لأنه مصدر وهو لا يتصف بالوضع، "فحملت عليه" بضم الحاء مبنيًا للمفعول، "فانطلق بي جبريل أتى السماء الدنيا"،ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وليس بمراد، بل هذا اختصار من الراوي، ويأتي بسطه للمصنف.
وقال النعماني: ما المانع من أنه صلى الله عليه وسلم رقي المعراج فوق ظهر البراق بظاهر هذا الحديث انتهى، والمانع من ذلك ربطه ببيت المقدس، كما يأتي بيانه، "فاستفتح"، أي: طلب فتح باب السماء بقرع أو صوت، والأِشبه الأول؛ لأن صوته معروف، قاله الحافظ، وصرح به في رواية مسلم عن ثابت عن أنس بلفظ: "فقرع الباب.
وفي حديث أبي ذر: قال جبريل لخازن السماء: افتح، فيجمع بينهما بأنه فعل القرع والصوت معًا، والتعليل بمعرفة صوته لا ينهض مع كون السماء شفافة.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في ذكر الأنبياء إلى باب من أبواب السماء الدنيا، يقال له باب الحفظة، وعليه مالك يقال له: إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.
وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي أيضًا: يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في الدلائل وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف.
"قيل: من هذا" الذي يقرع الباب؟، "قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد"،
"ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح النبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فاسفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم
وهذا يشعر بأنهم أحسوا معه برفيق إما بمشاهده؛ لأن السماء شفافة، وإما بأمر معنوي، كزيادة أنوار ونحوها، تشعر بتجدد أثر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة، وإلا كان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟، "قيل: وقد أرسل إليه" للعروج إلى السماء على الأظهر لقوله إليه؛ لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى، كما يأتي في المتن، "قال: نعم، قيل: مرحبًا به"، أي: لقي رحبًا "بضم الراء وفتحها وسكون الحاء وبفتحها" وسعة، وكني بذلك عن
الانشراح، "فنعم" لفظ البخاري في المعراج، وله في بدء الخلق، ولنعم "المجيء جاء".
قال ابن مالك: فيه شاهد على الاستغناء
بالصلة عن الموصول، أو الصفة ن الموصوف في باب نعم؛ لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء وإلى مخصوص، بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم، وفاعلها، فهو في هذا وشبهه موصول أو موصوف بحاء، والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاء، وكونه موصولًا أجود؛ لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة انتهى، فلا حذف فيه ولا تقديم خلافًا لقول المظهري المخصوص المدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير تقديره جاء، فنعم المجيء مجيئه، "ففتح" الباب، "فلما خلصت" بفتح اللام، أي: وصلت، "فإذا فيها آدم".
وفي حديث أنس عن أبي ذر عند البخاري في الصلاة: "فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقلت لجبريل: من هذا"؟، "قال: هذا أبوك"، ووقع ذكر الاسم هنا في بعض النسخ، والصواب إسقاطه، إذ ليس في حديث أنس عن مالك بن صعصعة الذي هو في سياق لفظه، وإنما هو في حديث أنس عن أبي ذر، كما في البخاري، "فسلم عليه"، لأن المار يسلم على القاعد، وإن كان المار أفضل، "فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح"، فيه إشارة إلى افتخاره، بأبوة "النبي صلى الله عليه وسلم "والصالح" القائم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق
العباد، فلذا كانت كلمة جامعة لمعاني الخير وتوارد الأنبياء على وصفة بها، وكررها كل منهم عند كل صفة.
"ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فاستفتح" جبريل بابها، "وقيل: من هذا؟ قال: جبريل: قال: ومن معك؟ قال: محمد، "قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به،
"المجيء جاء ففتح لنا، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
"فنعم المجيء" مجيء جاء، أو الذي "جاء، ففتح لنا" الخازن الباب، "فلما خلصت إذا يحيى" بن زكريا "وعيسى" ابن مريم.
زاد في حديث أبي سعيد عن ابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما، وإذا عيسى جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، كأنوما خرج من ديماس، أي: حمام شبهه بعروة بن مسعود الثقفي، "وهما ابنا الخالة"؛ لأن أم يحيى إيشاع، بنت فاقود أخت حنة بمهملة ونون شديدة، بنت فاقود أم مريم، وذلك أن عمران بن ماثان تزوج حنة، وتزوج زكريا إيشاع، فولدت إيشاع يحيى، وولدت حنة مريم، فتكون إيشاع خالة مريم، وحنة خالة يحيى، فهما ابنا خالة بهذا الاعتبار وليس عمران هذا أبا موسى، إذ بينهما فيما قيل ألف وثمانمائة سنة.
قال ابن السكيت: يقال: ابنا خالة ولا يقال: ابنا عمة، ويقال: ابنا عم ولا يقال: ابنا خال.
قال الحافظ: والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما بخلاف ابني العمة، "قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فلسمت عليهما فردا" علي السلام، "ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح" جبريل الباب، "قيل: من هذا؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت، إذا يوسف قال" لي جبريل:"هذا يوسف فسلم عليه"، ولعل حكمة أمره بالسلام على كل من ورد عليه، ولم يكتف بالأمر الأول مع حصول العلم بطلب السلام على كل من مر عليه منهم، الإشارة إلى استحقاق كل منهم للتعظيم، وإن من مر على جماعة مترتبين يطلب منه السلام على كل منهم بخصوصه، "فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح"، زاد في مسلم في رواية ثابت عن أنس: "فإذا هو قد أعطى شطر الحسن، أي: الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، كما
"ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
قال ابن المنير، أو المراد غير المصطفى بالمرة، ويأتي بسطه للمصنف، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء" الذي "جاء، فلما خلصت، فإذا إدريس"، زاد في حديث أبي سعيد عند ابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي: قد رفعه الله مكانًا عليًا، واستشكل بأنه رأى هرون وموسى وإبراهيم في مكان أرفع منه، واجيب بأن وجهه ما ذكر كعب الأحبار؛ أن إدريس خص من بين جميع الأنبياء برفعه حيًا، رفعه الملك الموكل بالشمس، وكان صديقًا له، وكان إدريس يسأله أن يريه الجنة، فأذن له الله في ذلك، فلما كان في السماء الرابعة، رآه ملك الموت، فعجب، وقال: أمرت أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فقبضه هناك، فرفعه حيًا إلى ذلك المقام، خاص به دون الأنبياء، قاله السهيلي، وتعقبه الحافظ في كتاب الأنبياء، فقال: فيه نظر؛ لأن عيسى أيضًا رعف وهو حي على الصحيح، وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية.
وروى الطبري، أن كعبًا قال لابن عباس: إن إدريس سأل صديقًا له من الملائكة، فحمله بين جناحيه، ث صعد به، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت، فقال له: أريد أن تعلمني كم بقي من أجل إدريس؟، قال: وأين إدريس؟، قال: هو معي، قال: إن هذا لشيء عجيب، أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة: فقلت: كيف ذلك وهو في الأرض، فقبض روحه، فذلك قوله تعالى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] الآية، وهذا من الإسرئيليات، والله أعلم بصحته انتهى.
والجواب عن السهيلي؛ أنه قيد خصوصية إدريس برفعه حيًا إلى السماء الرابعة، فلا يرد عيسى؛ لأنه رفع حيًا إلى السماء الثانية، وذكر ابن قتيبة، أن إدريس رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.
"قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح"، قيل: فيه رد على النسابة في قولهم: إدريس جد نوح، وإلا لقال: والابن الصالح، كما قال آدم، ولا رد فيه؛ لأنه خاطبه بالأخوة نادبًا وتلطفًا، وإن كان أبا، والمؤمنون إخوة وكان وجه الخطاب بذلك لرفعه مكانًا عليًا، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة،
"ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا، به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى".
"فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا هارون" زاد في حديث أبي سعيد عند ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي، ونصف لحيته بيضاء، ونصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرته من طولها.
وفي حديث أبي هريرة عند ابن جرير، والبيهقي وغيرهما: وحوله قوم من بني إسرائيل، وهو يقص عليهم، "قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبيرل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم"، هكذا ثبت في البخاري في باب المعراج هنا، وفي السابعة قال: نعم أيضًا وسقط في الموضعين في بدء الخلق، وهو الذي وقف عليه الشارح فتجرأ وقال: لم يذكر البخاري، قال: نعم، لا في السادسة ولا في السابعة، "قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا موسى" بن عمران، رجل آدم طوال، كأنه من رجال شنوأة، كما في البخاري عن أبي هريرة، ومسلم عن ابن عباس.
وفي حديث أبي سعيد: كثير الشعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دونهما، "قال: هذا موسى، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت"، بجيم وزاي حذف الضمير المنصوب، "بكى" موسى، "فقيل له: ما يبكيك؟، قال: أبكي؛ لأن غلامًا" صغير السن بالنسبة إليه، وقد أنعم الله عليه بما لم ينعم به عليه من طول عمره، "بعث من بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي"، وليس بكاؤه
"ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل"
حسدًا، معاذ الله، فإنه منزوع عن آحاد المؤمنين في ذلك العالم، فكيف بمن اصطفاه الله، بل لا وجه تأتي في المتن.
"ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قال: مرحبًا، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال" جبريل: "هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال":بالفاء وحذفها روايتان في البخاري "مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح"، زاد في حديث أبي أيوب عند ابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، وأحمد، وقال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأخرج الترمذي وقال: حسن، والطبراني عن ابن مسعود رفعه؛ أن إبراهيم قال: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال لنووي: وقد من الله الكريم، فجعل لنا سندًا متصلًا بخليله إبراهيم.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو، أي: المصطفى، أشبه ولد إبراهيم به، ويأتي في المتن توجيه روايته لهؤلاء الأنبياء في السموات، ولهم ولغيرهم في بيت المقدس مع أن أجسادهم في قبورهم.
"ثم رفعت" كذا للأكثر بضم الراء وسكون العين، وضم التاء من رفعت بضمير المتكلم، وبعده حرف الجر، وهو "إلى سدرة المنتهى"، وللكشميهني رفعت بفتح العين، وسكون التاء أي: من أجلي، وسدرة المنتهى بالرفع نائب فاعل رفعت، وكذا في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين، بأن المراد أنه رفع إليها، أي: ارتقى به، وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَة} [الواقعة: 34] الآيةأي: تقرب لهم، "فإذا نبقها" بفتح النون، وكسر الموحدة وبسكونها أيضًا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي: التحريك المعروف، وهو ثمر السدر، "مثل قلال"، قال الخطابي: بالكسر، جمع قلة
"آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، و"أما الظاهران، فالنيل والفرات.
ثم رفع إلى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت".
"بالضم" هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين فلذا وقع التمثيل بها، وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله:"إذا بلغ الماء قلتين"، "هجر" بتفح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف، "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء، وفتح التحتية بعدها لام: جمع فيل، وفي بدء الخلق مثل آذان الفيول، وهو جمع فيل أيضًا، قاله كله في فتح الباري، وقول الزركشي: الفيلة بفتح الفاء والياء سهو، قاله في المصابيح، "قال" جبريل:"هذه سدرة المنتهى"، ووجه تسميتها بذلك بينه صلى الله عليه وسلم بقوله:"وإليها انتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها، ينتهي ما يبسط من فوقها فيقبض منها": رواه مسلم من حديث ابن مسعود.
قال الحافظ: وأورده النووي بصيغة التمريض، فقال: وحكي عن ابن مسعود، أنها سميت بذلك
…
إلخ، فأشعر بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع انتهى، ويأتي بعض هذا في المتن، "وإذا أربعة أنهار" تخرج من أصلها "نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة"، ويجريان في أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها، وقال مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر، كذا في شرح المصنف، ويأتي في المتن أبسط منه، "وأما الظاهران فالنيل" نهر مصر "والفرات" بالفوقية خطا ووقفًا، لا بالهاء نهر بغداد.
قال الحافظ: هذه في القراءات المشهورة، وجاء في قراءة شاذة، أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت، والتابوه، "ثم رفع إلى البيت المعمور"، زاد الكشميهني "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك"، وتقدمت هذه الزيادة في بدء الخلق بزيادة إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم، كذا وقع مضمومًا إلى رواية قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، وهو مدرج من رواية قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة؛ لأن البخاري عقب الحديث في بدء الخلق بقوله، وقال عمام عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في البيت المعمور. قال الحافظ: ثمة يريدان هما ما فصل في سياقه قصة البيت المعمور من قصة الإسراء، فروي أصل الحديث عن قتادة، عن أنس، وقصة البيت عن الحسن البصري، وأما سعيد، وهو ابن أبي عروبة، وهشام وهو الدستوائي، فأدرجا قصة البيت المعمور في حديث أنس، والصواب رواية همام، وهي
"بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال جبريل: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك".
موصولة هنا عن هدبة عنه، ووهم من زعم أنها معلقة، فقد روى الحسن بن سفيان الحديث بطوله عن هدبة إلى قوله: فرفع لي البيت المعمور.
فقال: قال قتادة: فحدثنا الحسن عن أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون فيه، وعرف بذلك مراد البخاري بقوله في البيت المعمور.
وأخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيت المعمور مسجد في السماء بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا، وهذا وما قبله يشعر بأن قتادة كان يدرج قصة البيت المعمور في حديث أنس، وتارة يفصلها، وحين يفصلها تارة يذكرها سندها، وتارة يبهمه انتهى".
"ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن،" فشربت منه، "فقال جبريل: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك".
وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في الأشربة: ولو أخذت الخمر غوت أمتك، وفي حديث أنس عند البيهقي: ولو شربت الماء غرقت وغرقت أمتك.
وفي مسلم من حديث ثابت عن أنس: أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ولفظه:"ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر، وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة، ثم عرج بي إلى السماء، وجمع الحافظ بحمل، ثم على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، أو بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المدس، وسببه ما وقع له من العطش، ففي حديث شداد: فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما اللبن، والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله، فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي، يعني لجبريل، أخذ صاحبك الفطرة، ومرة عند وصوله إلى سدة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة".
وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة أشياء من الأنهار التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، وهي الماء واللبن والعسل والخمر، كما في حديث أبي هريرة عند الطبري، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء.
وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان.
"ثم فرضت علي الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع".
وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ بعد ذكر إبراهيم: "ثم انلطقنا فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال لي جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك، فتناولت أحدها فإذا هو عسل، فشربت منه قليلًا، ثم تناولت الآخرن فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟، قلت: قد رويت، قال: وفقك الله".
وفي رواية البزار: أن الثالث كان خمرًا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل، ويأتي مزيد لذلك في كلام المصنف.
"ثم فرضت" بالبناء للمفعول "علي الصلاة" بالإفراد، وفي رواية:"الصلوات بالجمع"، "خمسين صلاة كل يوم"،أي: وليلة، وللنسائي عن أنس:"وأتيت سدرة المنتهى، فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدًا، فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك، قال صلى الله عليه وسلم: "فرجعت".
وفي حديث أنس عند ابن أبي حاتم، فمر علي إبراهيم، فلم يقل شيئًا، "فمررت على موسى"، زاد في حديث أبي سعيد: ونعم الصاحب كان لكم، "فقال: بما" ولأبي ذر: بم، "أمرت" بضم الهمزة مبني للمفعول، وفغي حديث أنس عند النسائي وغيره: ما فرض ربك عليك وعلى أمتك، "قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم"، ولمسلم عن ثابت عن أنس قال: "فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة".
"قال" موسى: "إن أمتك لا تستطيع" أن تصلي، "خمسين صلاة كل يوم" وليلة "وإني والله قد جربت".
وفي رواية: خبرت "الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة"، مثل المزاولة، يعني مارستهم ولقيت الشدة فيما أردت منهم.
وفي رواية النسائي: فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان، فما قاموا بها.
وفي الصحيحين من رواية شريك عن أنس: وبلوت بني إسرائيل، وعالجتهم أشد المعالجة على أدنى من هذا، فضعفوا وتركوه، وأمتك أضعف أجسادًا، وأبدانا وأبصارًا وأسماعًا، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيسره فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، "فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله:" إن أمتك لا
"عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم.
قال: فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي".
تستطيع إلى آخره. " فرجعت فوضع عني عشرًا" من الأربعين، "فرجعت إلى موسى"، فأخبرته، "فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا" من الثلاثين "فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات"، بالإضافة.
وفي رواية بتنوين عشر، "كل يوم" وليلة، "فرجعت إلى موسى، فقال مثله: فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم"، كما في لفظ الحديث، أي: وليلة، "فرجعت إلى موسى، فقال: بم"؟ "بلا ألف" رواية أبي ذر، ولغيره بما، بألف بعد الميم، "أمرت؟، قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك".
وفي رواية: فسله، والأصل فسأله؛ لأنه أمر من السؤال، فنقلت حركة الهمزة إلى السين، فحذفت تخفيفًا، واستغنى عن همزة الوصل فحذفت، "قال" صلى الله عليه وسلم لموسى:"سألت ربي حتى استحييت، ولكني" رواية أبي ذر عن الكشميهني وغيره، ولكن "أرضى وأسلم".
"قال" الحافظ: فيه حذف وتقدير الكلام، سألت ربي حتى استحييت، فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضى وأسلم، "فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتني، وخففت عن عبادي". قال الحافظ: هذا من أقوى ما استدل به على أنه تعالى كلم نبيه محمدًا ليلة الإسراء بلا واسطة.
وفي رواية النسائي عن أنس: "فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى، فقال: ارجع، فلم أرجع".
وفي الصحيح من طريق شريك عن أنس، فقال:"اهبط باسم الله"، قال المصنف، أي: قال جبريل لا موسى، وإن كان ظاهر السياق.
"وفي رواية له"، أي: للبخاري، وكذا مسلم، كلاهما من حديث أنس عن أبي ذر: أن
وفي رواية له: "ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه".
وفي رواية شريك: فحشى به صدره ولغاديده وهي بلام مفتوحة وغين معجمة، أي عروق حلقه، وفي النهاية: جمع لغدودة: وهي لحمة مشرفة عند اللهاة.
والشك في قوله: وربما قال في الحجر من قتادة، كما بينه أحمد بن عفان، ولفظه:"بينما أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة: في الحجر والمراد بالحطيم هنا: الحجر".
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، "ففرج" بفتحان، أي: شق "صدري".
وفي رواية: عن صدري، بزيادة عن لمجرد التأكيد، أو فرج مضمن معنى كشف، والمراد بالصدر القلب، أي: كشف عن قلبي ما منع الوصول إليه، وذلك بشق الصدر، "ثم غسله بماء زمزم"، قال ابن أبي جمرة: إنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك برقاء بركة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، وقال السهيلي: لما كانت زمزم حفرة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جده ناسب أن يغسل بها عند دخوله حضرة القدس لمناجاته، "ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأغرفعه في صدري، ثم أطبقه"، أي: الصدر الشريف.
وفي رواية مسلم: "فاستخرج قلبي، فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانًا وحكمة".
"وفي رواية شريك" بن أبي نمر عن أنس عند الشيخين، "فحشى به صدره ولغاديده وهي"، أي: هذه اللفظة "بلام مفتوحة وغين معجمة، أي: عروق حلقه".
"وفي النهاية" لابن الأثير: "جمع لغدودة، وهي لحمة مشرفة عند اللهاة والشك في قوله، وربما قال في الحجر" كائن "من قتادة، كما بينه" الإمام "أحمد" في روايته هذا الحديث، "عن عفان" بتشديد الفاء" ابن مسلم بن عبد الله الباهلي، البصري، ثقة، ثبت روي له الجميع، مات في سنة تسع عشرة ومائتين، "ولفظه: "بينما أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة في الحجر"، أي: أنه كان يحدث به تارة، فيقول: في الحطيم، وتارة يقول: في الحجر، لشكه في خصوص اللفظ الذي سمعه من أنس، وإن كان المعنى واحدًا كما قال، "والمرد بالحطيم هنا الحجر،" زاد الحافظ، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر،
ووقع عند البخاري في أول بدء الخلق بلفظ: "بينما أنا عند البيت" وهو أعم.
وفي رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة".
وفي رواية الواقدي بأسانيده: "أنه أسري به من شعب أبي طالب".
وفي حديث أم هانئ -عند الطبراني- أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال:"إن جبريل أتاني".
والجمع بين هذه الأقوال -كما في فتح الباري- أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه؛ لأنه كان يسكنه فنزل منزله الملك، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك فأخرجه من المسجد إلى باب
وهو وإن كان مختلفًا في الحطيم، هل هو الحجر أم لا؟، لكن المراد هنا البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد؛ لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها.
"ووقع عند البخاري في أول بدء الخلق" أولية نسبة، إذ هو في باب ذكر الملائكة بعد خمسة أبواب من كتاب بدء الخلق من طريق قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة أيضًا، "بلفظ:"بينا"،بإسقاط ما المذكورة في باب المعراج، "أنا عند البيت، وهو أعم" من قوله: في الحطيم، وربما قال: في الحجر، أي: أنه محتمل لهما، ولمحل آخر من المسجد بقرب البيت.
"وفي رواية الزهري عن أنس، عن أبي ذر،" عند البخاري ومسلم: "فرج" بضم الفاء وكسر الراء أي: فتح، "سقف بيتي وأنا بمكة" جملة حالية إسمية.
"وفي رواية الواقدي بأسانيده، أنه أسري به من شعب أبي طالب" بكسر الشين المعجمة.
"وفي حديث أم هانئ" فاخته، أو هند، أو عاتكة شقيقة علي، لها أحاديث في الكتب الستة وغيرها، "عند الطبراني؛ أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل،" فسألته لما رجع ذهب إلى أي: محل في الوقت الذي فقدته فيه، "فقال: إن جبريل أتاني"، فذكر الحديث
…
"والجمع بين هذه الأقوال،" أي: الروايات، "كما في فتح الباري، أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب" أبيها، "ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه"، في رواية أبي ذر:"لأنه كان يسكنه، فنزل منزلة الملك:" والإضافة تكون بأدنى ملابسة؛ ولأن البيت ينسب لساكنه، "فنزل منه الملك" جبريل، "فأخرجه من البيت إلى المسجد" الحرام، "فكان به مضطجعًا، به وأثر النعاس" فلذا قال: "أنا نائم في الحطيم، مضطعجًا"، "ثم أخرجه
المسجد، فأركبه البراق، قال: وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع.
فإن قيل: لم فرج سقف بيته عليه الصلاة والسلام ونزل منه الملك، ولم يدخل من الباب، مع قوله تعالى:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] .
أجيب: بأن الحكمة من ذلك أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة على جهة الاستقامة، ولم يعرج على شيء سواه، فكان نزوله على السقف مبالغة في المفاجأة، وتنبيها على أن الطلب وقع على غير ميعاد، كرامة له عليه الصلاة والسلام.
وهذا بخلاف موسى عليه الصلاة والسلام، فكانت كرامته بالمناجاة عن ميعاد واستعداد بخلاف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حمل عنه ألم الانتظار، كما حمل عنه ألم
الملك فأخرجه من المسجد إلى باب المسحد، فأركبه البراق".
"قال" في الفتح: "وقد وقع في مرسل الحسن" البصري "عند ابن إسحاق: أن جبريل أتاه، فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع"، تأييدًا قويًا، "فإن قيل: لم فرج سقف بيته عليه الصلاة والسلام، ونزل منه الملك، ولم يدخل من الباب مع قوله تعالى:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]"أجيب" كما قال ابن دحية: "بأن الحكمة في ذلك أن الملك انصب"، أي: نزل "من السماء، انصبابة واحدة على جهة الاستقامة، ولم يعرج على شيء سواه"، أي: من غير تعريج عن الجهة التي نزل منها إلى غيرها؛ "فكان نزوله على السقف مبالغة في المفاجأة، وتنبيها على أن اللب وقع على غير ميعاد، كرامة له عليه الصلاة والسلام"، كما أفهمه قوله: بينما أنا نائم، إذ مجيئه له فجأة يشعر بأنه لا موعد بينهما، وكذا قوله: فرج سقف بيتي، إذ لو كان بينهما موعد لانتظر مجيئه له فيه، ولأتاه من الباب على عادة الجائي لمن ينتظره، وفيه إشارة إلى طلب الاستقامة في الأمور وإلى المبادرة إليها، وأخذها من أقرب الطرق، "وهذا بخلاف موسى عليه الصلاة والسلام، فكانت كرامته بالمناجاة" لله سبحانه وتعالى، "عن ميعاد واستعداد" بالصوم قال تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ، قال الجلال: أي؛ نكلمه عند انتهائها بأن يصومها، وهي ذو القعدة، فلما تمت أنكر خلوف فمه، فاستاك، فأمره الله تعالى بعشرة أخرى ليكلمه بخلوف فمه، كما قال تعالى:{وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] الآية، أي: من ذي الحجة، "بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، فإنه حمل عنه ألم الانتظار" الواقع لموسى مدة الصوم، حتى كلمه ربه، "كما حمل
الاعتذار، ويؤخذ من هذا: أن مقام نبينا عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى مقام موصى عليه الصلاة والسلام مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد، ويحتمل أن يكون توطئة وتميهدًا لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التئام السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمثال المشاهد في بيته، لطفًا في حقه عليه الصلاة والسلام وتثبيتًا لصبره، والله أعلم بحقيقة السر.
وقوله: مضطجعًا، زاد في بدء الخلق بين النائم واليقظان.
وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق، استمر في يقظته.
وأما ما وقع في رواية شريك عنده أيضًا فلما استيقظت فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد استيقظت: أفقت: يعني أنه أفاق مما كان فيه
عنه ألم الاعتذار" الذي اعتذر به موسى، أنه إنما استاك لإنكار رائحة فمه، "ويؤخذ من هذا أن مقام نبينا صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مقام موسى عليه الصلاة والسلام مقام المراد" حيث طلب للمناجاة بلا سؤال، "بالنسبة إلى مقام المريد" بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} [الأعراف: 143] ، "ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيد لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف، ثم التئام السقف على الفور كيفية" أي: صفة "ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمثال المشاهد في بيته لطفًا في حقه عليه السلام وتثبيتا لبصره" وفي الفتح قيل: الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجآته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو، "والله أعلم بحقيقة السر" في ذلك، "وقوله: مضطجعًا، زاد" البخاري "في بدء الخلق بين النائم واليقظان"، أي: أن نومه قريب من اليقظة، "وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد، فأركبه البراق استمر في يقظته" التي لا يخالطها نوم.
وفي نسخة: لما أخرج به بزيادة الباء في المفعول، والأصل أخرجه فهو مبني للفاعل، "وأما ما وقع في رواية شريك عنده،" أي: البخاري أيضًا" في كتاب التوحيد في آخر الحديث، "فلما استقظت" لفظ الحديث في الصحيح: واستيقظ وهو بالمسجد الحرام، "فإن قلنا بالتعديد" للمعاريج، "فلا إشكال"؛ لأنه معراج آخر في النوم، "وإلا حمل على أن المراد استيقظت أفقت، يعني أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت"، باطن
من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي، فالمراد: الإفاقة البشرية من الغمرة الملكية.
وقوله: "إذ أتاني آت هو جبريل عليه السلام"، وفي رواية شريك أنه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم وكانت تلك الليلة -أي كانت تلك القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا- فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما
الملك، "ورجع إلى العلام الدنيوي فالمراد: الإفاقة البشرية" التي يكون البشر عليها عادة "من الغمرة الملكية" التي كان عليها.
وقال ابن أبي جمرة: لو قال صلى الله عليه وسلم أنه كان يقظانًا لأخبر بالحق؛ لأن نومه ويقظته سواء، وعينه أيضًا لم يكن النوم تمكن منها، ولكن تحرى الصدق في الأخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يعدل عن حقيقة اللفظ إلا لضرورة.
"وقوله: إذ أتاني آت، وهو جبريل عليه السلام"، ووقع في بدء الخلق، وذكر بين الرجلين وهو مختصر، أوضحته رواية مسلم بلفظ: إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت، فانطلق بي، والمراد بالرجلين حمزة وجعفر، كان صلى الله عليه وسلم نائمًا بينهما.
قال ابن أبي جمرة: وفيه تواضعه وحسن خلقه، إذ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك كان يضطجع مع الناس، ويقعد معهم، ولم يجعل لنفسه مزية عليهم، وفيه جواز نوم جماعة في موضع واحد، لكن بشرط أن يكون لكل واحد منهم ما يستر به جسده.
"وفي رواية شريك،" عن أنس في الصحيحين: "أنه جاءه" بكسر الهمزة، وللكشميهني: إذ بدل أنه، والأولى أولى، وللحموي والمستملي؛ أنه بفتح الهمزة، وجاء بلا ضمير، "ثلاثة نفر".
قال الحافظ: لم أقف على أسمائهم صريحًا، لكن في رواية الطبري: فأتاه جبريل: وميكائيل انتهى.
وكذا رواه ابن جرير وأبو يعلى، ويقال: إن الثالث إسرافيل، "قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم" جبريل، "أيهم هو؟ "؛ لأنه كان نائمًا بين حمزة وجعفر كما علم، "قال: أوسطهم"، أي: الثلاثة الذين جاوه وهو ميكائيل، "هو خيرهم، فقال آخرهم:" الثالث.
ولأبي ذر عن الكشميهني: أحدهم بالدال، أي: أحد الثلاثة، "خذوا خيرهم، وكانت تلك الليلة، أي: كانت تلك القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا" بالضمير المستتر في كانت
يرى قلبه وتنام عليه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه
…
وقد أنكر الخطابي قوله: قبل أن يوحى إليه ولذلك قال القاضي عياض والنووي، وعبارة النووي: وقع في رواية شريك -يعني هذه- أوهام أنكرها العلماء، أحدها قوله: قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه، وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، قبل الوحي. انتهى، فقد صرح هؤلاء بأن شريكًا تفرد بذلك.
لكن قال الحافظ ابن حجر: في دعوى التفرد نظر، وافقه كثير بن خينس -بالمعجمة ونون مصغرًا- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب المغازي له من طريقه. قال: ولم يقع التعيين بين المجيئين،
المحذوف، وكذا خبر كان، وهذا شرح من المصنف لقوله، وكانت تلك الليلة، "فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى" هي ثالثة على ما يفيده رواية ابن مردويه عن أنس بلفظ: حتى أتوه ليلة أخرى، فقال الأول: هو هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم: فرجعوا عنه، حتى إذا كانت الليلة الثالثة رآهم، فقال الأول: هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين، فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم، فاستلقوه عن ظهره، وكان مجيء الملائكة له، "فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم،" الثابت في الروايات أنه كان يقظة، فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أنه كان في طرفي القصة نائمًا، وليس في ذلك ما يدل على كونه نائمًا في كلها، "فلم يكلموه" صلى الله عليه وسلم "حتى احتملوه،" فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل، كما في نفس حديث شريك.
"وقد أنكر الخطابي قوله قبل أن يوحى إليه، ولذلك قال القاضي عياض، والنووي"، وابن حزم وعبد الحق، "وعبارة النووي: وقع في رواية شريك، يعني هذه أوهام،" أزيد من عشرة، فصلها الافظ، وأجاب عن بعضها، "أنكرها العلماء أحدها" مبتدأ خبره "قوله: قبل أن يوحى إليه، وهو غلط" من شر يك، "لم يوافق عليه، وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء"، فكيف يكون الإسراء "قبل الوحي. انتهى" كلام النووي.
"فقد صرح هؤلاء" الخطابي ومن بعده، "بأن شريكًا تفرد بذلك، لكن قال الحافظ ابن حجر في دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير من خنيس "بالمعجمة ونون مصغرًا" عن أنس كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد" بن أبان بن سعيد بن العاصي، "الأموي" أبو عثمان
فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد الوحي، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج، وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة، أو ليالي أو عدد سنين، وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة وسقط تشنيع الخطابي وغيره بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة، قوله في هذا الحديث نفسه: إن جبريل قال لبواب السماء إذ قال: أبعث؟ قال: نعم، فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة.
ووقع في رواية ميمون بن سياه -عند الطبراني-: فأتاه جبريل وميكائيل،
البغدادي، ثقة، روى له الشيخان وغيرهما، وربما أخطأ، مات سنة تسع وأربعين ومائتين،"في كتاب المغازي له من طريقه".
"قال" الحافظ مجيبًا عن إشكال قوله: قبل أن يوحى إليه، "ولم يقع التعيين بين المجييئين" أي: زمن، "فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد الوحي، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج،" فقوله: قبل أن يوحى إليه ظرف للمجيء الأول، لا لهما الذي هو منشأ التغليظ، "وإذا كان بين المجيئين مدة، فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة، أو ليالي" كثيرة، "أو عدد سنين، وبهذا" التقرير "يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق" على "أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة، وقبل الهجرة،" وفي ليلته فرضت الصلاة، "وسقط تشنيع الخطابي وغيره؛ بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة".
وقال الحافظ أبو الفضل بن طاهر تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم؛ أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكًا قبله أئمة الجرح والتعديل، ووثقوه ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به قال: وحديثه هذا رواه عنه سليمان بن بلال، وهو ثقة، وعلى تقدير تفرد بقوله: قبل أن يوحى إليه، فلا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو ترك حديث من وهم في تاريخ، لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين انتهى.
"وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة قوله في هذا الحديث نفسه، أن جبريل قال لبواب السماء: إذ قال: أبعث" إليه لم يقع في لفظ الحديث إليه، لكن حملها على المصنف كغيره، فقال إليه للاستواء وصعود السماوات وليس الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة؛ لأنه لا يخفى إلى هذه المدة، ولاشتهار أمر النبوة في الملكوت الأعلى، "قال:
فقال: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤه وهم ثلاثة نفر، وفي رواية مسلم: سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي، والمراد بالرجلين: حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا بينهما.
وقوله: "فقد" بالقاف والدال الثقيلة وفي رواية فشق.
"من ثغره" بضم المثلة وسكونة الغين المعجمة بعدها، راء الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين.
إلى شعرته بكسر الشين المعجمة، أي شعر العانة الشريفة، وفي رواية مسلم: إلى أسفل البطن.
نعم، فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة"، ولفظه: ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء من هذا؟، فقال: جبريل قالوا: ومن معك؟، قال: محمد، قال وقد بعث؟، قال: نعم.
"ووقع في رواية ميمون بين سياه" بكسر السين المهملة وخفة التحتية، البصري، أبي بجر التابعي، صدوق، عابد، يخطئ، روى له البخاري والنسائي "عند الطبراني، فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا:" المطلوب "أيهم؟،" أي: الثلاثة حمزة، وجعفر والمصطفى، "وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال": الملك الآخر الذي لم يسم، "أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤه وهم ثلاثة نفر،" كما جاؤه أولًا، وكون هذا يقتضي أن الجائين جاؤه أولًا اثنان فقط، ليس بمراد؛ لأن الثالث لم يسم كما مر.
"وفي رواية مسلم" من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس، "سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت، فانطلب بي، والمراد بالرجلين حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا بينهما"، من مزيد تواضعه، وأجيب أيضًا؛ بأن المراد قبل أن يوحى إليه في شأن الصلاة، ومنهم من أجراه على ظاهره، ملتزمًا أن الإسراء كان مرتين قبل النبوة وبعدها، حكاه في المصابيح.
"وقوله: فقد -بالقاف والدال الثقيلة- وفي رواية: فشق" وأخرى فرج والمعنى واحد، "من ثغرة": نحره، "بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة بعدها راء" الموضع المنخفض الذي بين الرقوتين" تثنية ترقوة، بزنة فعلوة بفتح الفاء وضم اللام، وهي العظم الذي بين ثغره النحر والعاتق من الجانبين، والجمع التراقي.
قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان، خاصة "إلى شعرته
وفي رواية البخاري: إلى مراق البطن.
وفي رواية شريك: فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته -بفتح اللام وتشديد الموحدة- وهو موضع القلادة من الصدر.
وقد أنكر القاضي عياض في "الشفاء" وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبي قبل الوحي في بني سعد.
ولا إنكار في ذلك -كما قاله الحافظ أبو الفضل العسقلاني رحمه الله فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم
"بكسر الشين المعجمة، أي: شعر العانة الشريفة،" أي: الشعر النابت عليها، من إضافة اسم الحال للمحل.
قال الأزهري: وجماعة العانة منبت الشعر فوق قبل المرأة، وذكر الرجل والشعر النابت عليها يقال له: الإسب بكسر الهمزة، وسكون المهملة وموحدة، وقال الجوهري: هي شعر الركب بالتحري: أي: فتح الراء والكاف، منبت العانة للمرأة خاصة عند الخليل، وللرجل أيضًا عند الفراء.
وقال ابن السكيت وابن الأعرابي: استعان واستحد حد عانته، وعلى هذا فالعانة الشعر النابت، وذكر الكرماني؛ أنه وقع في رواية إلى ثنته، بضم المثلثة وتشديد النون، أي: ما بين السرة والعانة.
"وفي رواية مسلم إلى أسفل البطن، وفي رواية البخاري" في بدء الخلق "إلى مراق" بفتح الميم وخفة الراء فألف فقاف ثقيلة، وأصله مرافق بقافين، فأدغمت الأولى في الثانية، أي: ما سفل من بطنه ورق من جلده.
"وفي رواية شريك" عن أنس، "فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته" حتى فرغ من صدره وجوفه "بفتح اللام وتشديد الموحدة -وهو موضوع القلادة من الصدره" وفيه تنحر الإبل، "وقد أنكر القاضي عياض في الشفاء"، وسبقه إلى الإنكار ابن حزم "وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبي، وقبل الوحي" يعني "في بني سعد" بن بكر، وهو عند مرضعته حليمة، وادعى ابن حزم وعياض؛ أن ذلك من تخليط شريك.
قال الحافظ العراقي: وليس كذلك، فقد ثبت في الصحيحين من غير طريق شريك، وقال في المفهم: لا يلتفت لإنكاره؛ لأن رواته ثقات مشاهير، "ولا إنكار في ذلك كما قاله الحافظ أبو الفضل" أحمد بن حجر "العسقلاني رحمه الله" في الفتح، "فقد تواترت الروايات به"، فقد
في الدلائل، ولكل منها حكمة:
فالأول: وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس: فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ولعل هذا الشق كان سببًا في إسلام قرينه المروي عند البزار من حديث ابن عباس، ويحتمل أن يكون الإشارة إلى حظ الشيطان المباين كالعفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه.
وأما شق الصدر عند البعث، فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب
ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة، وفي مسلم وغيره عن أنس في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وفي الصحيحين من رواية أنس عن أبي ذر وله طرق أخرى.
"وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل"، والطيالسي والحارث بن أبي أسامة، والبيهقي في الدلائل من حديث عائشة، وقدمته في المقصد الأول في المبعث النبوي، "ولكل منها،" أي: المرات الثلاث المذكورة في بني سعد، ثم عند المبعث، ثم ليلة الإسراء، "حكمة، فالأول" الذي وقع، وهو عند حليمة "وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس"؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه، فشق عن قلبه، واستخرج القلب، ثم شقه، "فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان،" أي: الموضع الذي يتوصل منه إلى وسوسة الناس، ولا ينافيه قوله:"منك" لجواز تقدير مضاف، أي: من مثلك من بني آدم، وبقية خبر مسلم، ثم غسله من طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، فأعاده مكانه، وجعل الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظئره، فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فجاؤوا وهو منتقع اللون.
قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره، "وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكل الأحوال من العصمة من الشيطان" وغيره، وخلقت هذه العلقة؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملة للخلق الإنساني، ونزعها كرامة ربانية أبلغ من خلقه بدونها، قاله التقي السبكي، وقال غيره: لو خلق سليمًا منها لم يطلع الآدميون على حقيقته، فأظهره الله على يد جبريل ليتحققوا كمال باطنه، كما برز لهم مكمل الظاهر.
"ولعل هذا الشق كان سببًا في إسلام قرينه،" أي: صاحبه الموكل به من الجن، "المروي عند البزار من حديث ابن عباس،" رفعه: فضلت على الأنبياء بخصلتين: "كان شيطاني كافرًا، فاعانني الله عليه، فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى، "ويحتمل أن يكون" قوله هذا حظ الشيطان منك، "الإشارة إلى حظ الشيطان المباين،" أي: خلاف القرين، "كالعفريت الذي
قوي على أكمل الأحوال من التطهير.
وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء فللتهيؤ للترقي إلى الملأ الأعلى، والثبوت في المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء الأسماء الحسنى، ولهذا لما لم ينفق لموسى عليه السلام مثل هذ التهيؤ لم تتفق له الرؤية، وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل؟!.
ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل، لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر في شرعه عليه السلام.
ثم أن جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من
أراد أن يقطع عليه صلاته، وأمكنه الله منه،" وقدمت لفظ الحديث قريبًا في الخصائص، وإن لفظ عفريت ظاهر في أن المراد غير إبليس، كما قال الحافظ.
"وأما شق الصدر عند البعث فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي على كمل الأحوال من التطهير،" وكذلك كان.
"وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء، فللتهيؤ للترقي إلى الملأ الأعلى والثبوت في المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء" بالجيم، "الأسماء الحسنى،" يعني رؤية الله سبحانه، بدليل قوله، "ولهذا لما يتفق لموسى عليه السلام مثل هذا التهيؤ، لم تتفق له الرؤية" مع كونه سألها، "وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل" المذكور في قوله:{لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، والحافظ قال حكمة ذلك ليتأهب للمناجاة، "ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثلاثة، كما تقرر في شرعه عليه السلام،" كذا أبدى هذا الاحتمال تبعًا للحافظ، مع أنه قال في المقصد الأول.
روى أبو نعيم الشق أيضًا، وهو بن عشر قال: وروى خامسة، ولا تثبت، وحكمته أن العشر قريب من سن التكليف، فشق قلبه وقدس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، إلا أن يكون جعل مرتي الصبا بمنزلة المرة الواحدة.
قال النعماني: وقد سن لداخل الحرم الغسل، فما ظنك بداخل الحضرة المقدسة، فلما كان الحرم من عالم الملك، وهو ظاهر الكائنات نيط الغسل له بظاهر البدن في عالم المعاملات، ولما كانت الحضرة الشريفة من عالم الملكوت، وهو باطن الكائنات، نيط لها الغسل بباطن البدن في التحقيقات، وقد عرج به لتفرض عليه الصلوات، وليصلي بملائكة السماوات، ومن شأن الصلاة الطهور، فقدس ظاهرًا وباطنًا قال: وقد رأيت في بعض المعاريج أن
الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك.
قال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن قدرة الله تعالى لا يعجزها ممكن، ولا تتوقف لعدم شيء ولا لوجوده، وليست مربوطة بالعادة إلا حيث شاءته القدرة؛ لأنه على ما يعهد ويعرف أن البشر مهما شق بطنه كله وانجرح القلب مات ولم يعش، وهذ النبي صلى الله عليه وسلم قد شق بطنه المكرمة، حتى أخرج القلب وغسل،
جبريل وضأه بعد غسل قلبه قلت: ليصير مطهرًا متطهرًا انتهى.
"ثم إن جميع ما ورد،" وبينه بقوله: "من شق الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة" كاختراق السماوات "مما يجب التسليم له،" أي: تسليمه، فاللازم زائدة للتقوية "دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك؛" لأن القدرة إنما تتعلق بالممكن دون المستحيل، هكذا قاله القرطبي في المفهم، والطيبي، والتوربشتي والحافظ في الفتح، والسيوطي وغيرهم، ويؤيده الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره.
قال السيوطي: وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك، وحمله على الأمور المعنوي، وإلزام قائله القول بقلب الحقائق، فهو جعل صراح، وخطأ قبيح، نشأ من خذلان الله تعالى لهم، وعكوفهم على العلوم الفلسفية، وبعدهم عن دقائق السنة، عافانا الله من ذلك انتهى.
"قال العارف ابن أبي جمرة" بجيم وراء، "فيه دليل على أن قدرة الله تعالى لا يعجزها ممكن"، أي: لا يمنعها من التعلق به، بل يجوز تعلقها بسائر الممكنات، لا بالمستحيلات، فلا تتعلق بها أصلا، ولذا قي بممكن، فلا يفهم منه أنها تعجز عن التعلق بالمستحيل؛ لأنها لا تتعلق به أصلا، فلا يلتفت إلى مثل هذا الإيهام، "ولا تتوقف"، أي: لا تتخلف عن إيجادها إرادة، "لعدم" وجود "شيء" يؤثر فيها تعلقت به، "ولا لوجوده"، أي: شيء يمنع تأثيرها فيما تعلقب به، "وليست مربوطة بالعادة"، أي: ليس تأثيرها قاصرا على ما جرت به العادة، بل عام في جميع الممكنات، "إلا حيث شاءته"، أي: ربط التأثير بالعادة "القدرة،" ونسبة المشيئة إلى القدرة تسمح، إذ المشيئة إنما تنسب للقادر لا لشيء من صفاته فهو إما على حذف مضاف، أي: ذو القدرة أو مصدر بمعنى القادر؛ "لأنه على ما يعهد ويعرف أن البشر""بفتحتين" ذكروا أو أثنى، واحد أو جمعا، وقد يثنى ويجمع أبشارا، كما في القاموس.
وفي المصباح؛ أن العرب ثنوه ولم يجمعوه من التثنية، أنؤمن لبشرين، "مهما شق بطنه كله، وانجرح القلب مات ولم يعش"، وكذا سائر الحيوان واقتصر على البشر لكون
وقد شق بطنه كذلك أيضًا وهو صغير وشق قلبه وأخرج منه نزغة الشيطان، ومعلوم أن القلب مهما وصل له الجرح مات صاحبه، وهذا النبي عليه الصلاة والسلام شق بطنه في هاتين المرتين، ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أن أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما أجرى به العادة، أن يؤثر بها موت صاحبها، فأبطل تلك العادة، وقد رمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار فلم تحرقه، وكانت عليه بردًا وسلامًا. انتهى.
وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه عليه السلام بتحقيق ما أوتي من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدًا وكتفًا وتلا للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر فقال: {سَتَجِدُنِي إِن
المصطفى منهم لا لإخراج غيره، "وهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد شق بطنه المكرمة"، أنثه باعتبار الجارحة، وإلا فالبطن خلاف الظهر مذكر، "حتى أخرج القلب وغسل" وهو حي، "وقد شق بطنه كذلك"، كهذا الشق الواقع في المعراج "أيضًا، وهو صغير، وشق قلبه، وأخرج منه نزغة الشيطان"، أي: محل نزغته، أي: وسوسته الحاملة على خلاف ما أمر به كاعتراه غضب وفكر، ومعلوم أن القلب مهما وصل له الجرح، مات صاحبه، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم شق بطنه في هاتين المرتين" وأخرج قلبه وشق، "ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما"، أي: شيئًا، أو الذي "أجرى به العادة أن يؤثر بها موت صاحبها، فأبطل تلك العادة"، جواب لما، ودخول فيه قليل قاله شيخنا، والأظهر أن اللام في لما تعليلية لعدم موته، فالفاء للتفريع على التعليل.
"وقد رمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار، فلم تحرقه، وكانت عليه بردًا وسلامًا"، أي: إن شق الدر الشريف، وإن كان خارقًا للعادة، لا بعد فيه؛ لأنه ممكن، وقد وقع مثله للخليل حيث فعل به ما هو مهلك عادة، ولم يؤثر فيها شيء، فذكره للتقريب. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة.
"وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه عليه السلام بتحقيق ما أوتي من الصبر"، بجعله صفة قائمة به، وكان ذلك تحقيقًا له لبروزه إلى الوجود الخارجي، "فهو من جنس ما أكره به إسماعيل الذبيح" على أحد القولين الشهيرين، والثاني إسحاق، وليت شعري، أي: اقتضاء فيمن حكى هذين القولين في الذبيح أن إبراهيم ليس له غيرهما من الأولاد، مع أن أولاده ثلاثة عشر، كلهم ذكور، كما في تاريخ ابن كثير، أو خمس منهم أناث على ما في الروض "بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدًا وكتفًا، وتلا" إلقاء "للجبين، وأهواء بالمدية" السكين، "إلى
شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات: 102] ، ووفي بما وعد الله تعالى، فأكره الله بالثناء على صبره إلى الأبد.
ولا مرية أن الذي حصل من صبر نبينا صلى الله عليه وسلم أشد وأجل؛ لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم واستخراج قلبه، ثم شقه ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر.
فإن قلت: إنما يتحقق الصبر أن لو كانت هناك مشقة، فلعل العادة لما
النحر"، يعني أنه لما تله للجبين بأن ألقاه على جنبه انقلب على جبهته، أو أنه فعل ذلك بإشارته لئلا يرى فيه تغيرًا فيرق له فلا يذبحه، "فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ، على الذبح، أو على قضاء الله، وترتيب ما ذكر على ما قبله يقتضي أن قوله ذلك بعده، وسوق الآية صريح أنه قال ذلك جوابًا لقول أبيه:{يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ، إلا أن تجعل الفاء في المصنف بمعنى الواو، ولفظ ابن المنير متبوع المؤلف، وقد قال: ستجدني بالواو، "ووفي بما وعد الله تعالى" بقوله:{سَتَجِدُنِي} الآية "فأكرمه الله بالثناء على صبره إلى الأبد، ولا مرية" بكسر
الميم، أي: لا شك، "أن الذي حصل من صبر نبينا -صلى الله عليه وسم- أشد وأجل؛ لأن تلك" الأحوال الواقعة لإسماعيل من الشد والكتف والتل "مقدمات" للذبح، "وهذه" الواقعة للمصطفى "نتيجة" ما يفعل بمن أريد ذبحه، أو نحوه من الأثر الذي قصد ترتبه على الفعل.
"وتلك معاريض"، أي: مقدمات لا حقائق، وتسميتها معاريض تجوز، إذ هي لغة التورية فشبه المقدمات بالمعاريض، واستعار له اسمه لما سبق في علم الله، أن حقيقة ما أمر به أبوه من الذبح لا يقع، "وهذه حقيقة، والمنحر مقتل"، أي: يصدق عليه، وليس مفهومهما واحدًا، إذ المنحر موضع النحر من الحلق، ويكون مصدرًا أيضًا، "وما أصابه"، أي: المنحر "من إسماعيل" ظاهره أنه أمر السكين على منحره، مع أن الفداء وقع قبل مرور السكين إليه، فقوله:"إلا صورة القتل لا فعله"، أي: الصورة التي تحصل عند إرادة القتل، "وشق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم واستخراج قلبه ثم شقه، ثم كذا"، أي: نزع العلقة منه وغسله، ونحو ذلك، "مقاتل عديدة": جمع مقتل "وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر".
انخرقت في إبقاء الحياة انخرقت في دقع المشاق وحمل الآلام.
أجيب: بأنه ورد في حديث شق صدره: فأقبل وهو منقع اللون أو ممتقع، بالميم بدل النون، وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعالجة المذكورة محقق. انتهى.
قال القاضي عياض: وأصل "انتقع" صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة.
وأما قول ابن الجوزي: فشقه وما شقه عليه، فيحمل على أنه صبر صبر من لا يشق عليه. انتهى.
وكذلك الابتلاء أيضًا من حيث الشق، فإن ذلك وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم بعيد ما
وفي المصباح: المقتل الموضع الذي إذا أصيب لا يكاد صاحبه يسلم، والواقع للمصطفى أسباب تفضي إلى القتل، فلعل المقاتل في المصنف جمع: مقتل، بمعنى القتل، وأطلقه على سببه مجازًا، "فإن قلت: إنما يتحقق الصبر أن لو كانت هناك مشقة، فلعل العادة لما انخرقت في إبقاء الحياة"، أي: لم تؤثر إزالتها، بل استمرت بعدما يوجب إزالتها عادة، وفي نسخ في بقاء، وهي أظهر؛ لأن البقاء استمرار الحياة، وهو أثر الإبقاء، "انخرقت" أيضًا "في دفع المشاق وحمل الآلام"، فلا تتم المفاضلة المذكورة بينه وبين الذبح، "أجيب"، أي: أجاب ابن المنير، "بأنه ورد في حديث شق صدره" في بني سعد وهو صغير، "فأقبل، وهو منتقع اللون" بنون فوقية فقاف مفتوحة، أي: متغير، "أو ممتقع بالميم بدل النون" روايتان قاله ابن المنير.
قال الكسائي: انتقع مبنيا إذا تغير من حزن أو فزع، قال: وكذا ابتقع بالموحدة، وامتقع بالميم أجود، قاله الجوهري، أي: مبنيا للمفعول، صرح به المجد وغيره، وفي المصباح ما يفيد بناءه للفاعل، "وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعالجة المذكورة محقق" فتتم المفاضلة. "انتهى: ما أجيب به.
"قال القاضي عياض: وأصل انتقع صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة"، إذ لا يصير كلون الأموات إلا بعد مشقة شديدة، "وأما قول ابن الجوزي: فشقه وما شق عليه"، أي ما آلمه ذلك الشق، "فيحمل على أنه صبر صبر من لم يشق عليه"، ويحمل أيضًا على أنه ما شق عليه المشقة التي تحصل مثلها عادة من ذلك الفعل، فلا ينافي حصول مشقة دون المعتاد فنزلها منزلة العدم، "انتهى" كلام ابن المنير.
فطم، وأيضًا: فإنه كان منفردًا عن أمه ويتيما من أبيه، واختطف من بين الأطفال، وفعل به ما فعل من الأهوال تسهيلًا لما يلقاه في المآل، وتعظيمًا لما يناله على الصبر من الثواب والثناء، ولهذا لما شج وجهه الشريف وجرح وكسرت رباعيته قال:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، زاده الله شرفًا وفضلًا.
وقوله: "ثم أتيت بطست من ذهب" إنما أتي بالطست؛ لأنه أشهر آلات الغسل عرفًا.
فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام في شرعه عليه السلام فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟.
أجاب العارف ابن أبي جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به
وفي الشامي: اختلف هل وقع له مع ذلك مشقة أم لا؟، فقال الحافظ: من غير مشقة، وبه جزم ابن الجوزي، فقال: فشقه وما شقه عليه، وقال ابن دحية، بمشقة عظيمة، ولهذا انتقع لونه أي: صار كلون النقع، قلت: رواية انتقع لونه حكاية لما وقع في المرة الأولى وهو صغير في بني سعد، وأما ما وقع بعدها، فلم ينقل أنه تأثر لذلك. انتهى.
"وكذلك الابتلاء أيضًا من حيث الشق، فإن ذلك وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم بعيد"، بلفظ التصغير، "ما فطم" بشهرين أو ثلاثة، وكان فطامه بعد عامين، "وأيضًا كان منفردًا عن أمه" في بني سعد، وأمه بمكة، "ويتيمًا من أبيه"، لموته وهو حمل على الصحيح، "واختطف من بين الأطفال" الذين كان معهم في البرية، "وفعل به ما فعل من الأهوال تسهيلًا لما يلقاه في المآل، وتعظيمًا لما يناله على الصبر من الثواب والثناء" من الكبير المتعال، "ولهذا لما شج وجهه الشريف" في أحد، "وجرح وكسرت رباعيته" بفتح الراء الموحدة وخفة التحتية، "قال:"اللهم اغفر لقومي" مغفرة
تصرف عنهم عذاب الاستئصال، "فإنهم لا يعملون" رفع قدري عندك، فأعتذر عنهم بالجهل الحكمي، وإن كان عد الآيات البينات ليس بعذر، ولم يقل: يجهلون تحسينا للعبارة ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخهلم بعظيم عفوه، حرم الأمان، "زاده الله شرفًا وفضلًا" صلى الله عليه وسلم.
"وقوله: "ثم أتيت بطست من ذهب"، إنما أتى بالطست؛ لأنه أشهر"، أي: أظهر "آلات الغسل عرفًا" من حيث إن استعماله للغسل أكثر من استعمال غيره، "فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام في شرعه عليه السلام"، بنصه على حرمته، "فكيف استعمل الطست الذهب
في هذه الدار، وأما الآخرة فهو للمؤمنين خالصًا، لقوله عليه السلام:"هو لهم في الدنيا وهو لنا في الآخرة"، قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه عليه الصلاة والسلام وإنما كان غيره في السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعت في القلب المبارك.
فسوقان الطست من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفى التعارض بدليل ما قررنا. انتهى.
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لا يكفي أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك لمن الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يحرم عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم، ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، ولعل ذلك كان قبل أن يحرم الذهب في هذه
هنا"، قلت: "أجاب العارف ابن أبي جمرة، بأن تحريم الذهب"، أي: علته، "إنما هو لأجل الاستمتاع به في هذه الدار" الدنيا، "وأما الآخرة فهو للمؤمنين خالصًا لقوله عليه السلام: "هو لهم في الدنيا" الفانية، "وهو لنا في الآخرة" " الباقية، وما هنا كان الغالب أنه من أحوال الآخرة.
"قال" ابن أبي جمرة: "ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه عليه الصلاة والسلام" حتى يجيء السؤال، "وإنما كان غيره في السائق"، أي: الحامل "له" حتى أحضره له، يقال: ساق الصداق إلى امرأته: حمله إليها، "والمتناول لما كان فيه حتى وضعه في القلب المبارك فسوقان" مصدر على فعلان هذا ظاهره، ولم يذكره الجوهري، ولا المجد ولا غيرهما، وإنما قالوا في مصدر ساق سوقًا، وسياقة ومساقًا، فينظر سند المصنف "الطست من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام"، أي: إعلائه، "فانتفى التعارض بدليل ما قررنا، انتهى" جواب ابن أبي جمرة، وهو مشتمل على جوابين، أحدهما مسلم وهو الأول.
"و" الثاني: تعقبه الحافظ ابن حجر؛ بأنه لا يكفي أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم"؛ لأنه صين عما يخالف شرعه حتى قبل النبوة، يمكن أن يقال" في الجواب: "إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب": ما غاب من مشاهدة الناس، "فيلحق بأحوال الآخرة"، وهذا مستفاد من الجواب الأول لابن أبي جمرة، فأشار إلى توافقهما عليه، والحافظ لم ينقل كلامه إنما قال:
الشريعة، ويظهر ههنا مناسبات: منها أنه من أواني الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، ومنها أنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهي ثقل الوحي فيه. انتهى.
قلت: قوله: "ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة"، قد جزم هو في أول الصلاة من كتابه فتح الباري: بأنه تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة.
قال السهيلي: وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهابه
"ولعل ذلك كان قبل أن يحرم الذهب في هذه الشريعة"، ولا يكفي أن يقال إلى آخر ما ذكر المصنف، فقوله: ولعل جواب مستقل فهي ثلاثة، وقال: أعني الحافظ في أول كلامه: خص الذهب لكونه أعلى الأواني الحسنة، وأصفاها؛ ولأن فيه خواص ليست لغيره، ووصل هذا بقوله:"ويظهر" لها "ههنا مناسبات" للناظر في المقام، لا من خصوص ما قدمه "منها، أنه من أواني الجنة"، كما قال تعالى:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] ، "ومنها أنه لا تأكله النار"، وكذلك القرآن لا تأكله النار، ولا قلبنا وعاه، ولا بدنا عمل به يوم القيامة، ففيه مناسبة له، "ولا التراب" لا يأكله، ولا يغيره، وكذلك القرآن لا يستطاع تغييره، كذا في الروض.
"ومنها أنه لا يلحقه الصدأ" بفتح المهملتين مهموز.
ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة"، أي: من الأواني التي تستعمل في الأحوال التي تقع في الجنة وتحتاج إلى إناء، وعبارة الحافظ: ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب ثقل الوحي، "ولا تأكله النار ولا التراب كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" "، ولا يلحقه الصدأ، بخلاف غيره، كما قال: إن القلوب لتصدأ.
"وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى، وهو ثقل الوحي فيه. انتهى" كلام الحافظ.
"قلت قوله: ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة"، يشعر أنه لم يطلع فيه على شيء، وإنما ترجاه من نفسه، وينافيه أنه قد جزم هو في أول الصلاة من كتابه فتح الباري، بأنه تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة"، حيث قال: أبعد من استدل به، أي: حديث المعراج على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب؛ لأن المستعمل له الملك، فيحتاج إلى
الرجس عنه ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفاته. انتهى.
والمراد بقوله: ملئ حكمة وإيمانًا أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسمي حكمة وإيمانًا مجازًا.
والملء يحتمل أن يكون حقيقة وبجسد المعاني جائز، كما جاء أن سورة البقرة
ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به وراء ذلك أن ذلك كان على أصل الإباحة؛ لأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة كما سيأتي واضحًا في اللباس انتهى.
"قال السهيلي و" تلميذه "ابن دحية: أن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهابه الرجس الإثم والسوء عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه فلوضاءته ونقائه وصفائه"، ولثقله ورثوبته، والوحي ثقيل، قال الله تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]{مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102] الآية؛ ولأنه أعز الأشياء في الدنيا، والقرآن هو الكتاب العزيز. "انتهى" كلام السهيلي بهذا الذي زدته.
زاد ابن دحية: ولأنه رأس الإيمان وقيمة المتلفات، فهو إذا أصل الدنيا، والإيمان أصل الدين، فوقع التنبيه على أن أصل الدنيا آلة لأصل الدين، وخادم له ووسيلة إليه، وأنه إذا قضيت الحاجة منه عدل عنه.
قال بعض: ومن المناسبات خلق سرور القلب عند رؤيته، كما قال تعالى في البقرة، {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] الآية، ويكون جعل الذهب آنية الإيمان من جنس قوله:"الدنيا مطية الآخرة""والمراد بقوله: ملئ حكمة وإيمانًا، أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسمي حكمة وإيمانًا مجازًا".
وأورد السهيلي كيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب، والإيمان عرض من الأعراض لا يوصف بها إلا محلها الذي تقوم به، ولا يجوز فيها الانتقال؛ لأنه صفة الأجسام لا الأعراض، وأجاب؛ بأنه إنما غبر عما في الطست بهما، كما عبر عن اللبن الذي شربه وأعطى فضله عمر بالعلم، فكان تأويل ما أفرغ في قلبه إيمانا وحكمة، ولعل الذي كان في الطست ثلجًا، وبردًا، كما في الحديث الأول، فعبر في المرة الثانية بما يؤول إليه، وعبر عنه في الأولى بصورته التي رآها؛ لأنه كان طفلًا فلما رأى الثلج في طست الذهب، اعتقده ثلجا حتى عرف تأويله بعد، وفي المرة الأخرى كان نبيًان فلما رأى طست الذهب مملوءة ثلجًا علم التأويل لحينه، أي: لوقته، واعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانًا، فكان لفظه في الحديثين على حسب اعتقاده في المقامين، انتهى.
تجئ يوم القيامة، كأنها ظلة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك.
وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس.
"و" هذا "الملء يحتمل أن يكون حقيقة، وبجسد المعاني جائز، كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها ظلة"، كما قال صلى الله عليه وسلم:"اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف"، الحديث رواه مسلم، وأو للتنويع وتقسيم القارئين، فالأول لمن قرأهما بلا فهم معناهما، والثاني لمن قرأهما مع فهمه، والثالث لمن ضم إليهما تعليم المستفيد، وإرشاد الطالب، وبيان حقائقهما، وكشف ما فيهما، الأول عام في كل أحد، والثاني يختص بمثل الملوك، والثالث أرفع كما كان سليمان، وغمامتان "بالميم"، وغيايتان "بتحتية": كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها، كما في النهاية.
قال البيضاوي: ولعله أراد ما يكون له صفاء وضوء، إذ الغيابة ضوء شعاع الشمس، "والموت"، وهو عرض يمثل "في صورة كبش" كما قال صلى الله عليه وسلم:"يؤتى بالموت كأنه كبش أملح، حتى يوقف على السور بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، ويا أهل النار، هل تعرفون هذا؟، فيقولون: نعم، هذا الموت، فيضجع ويذبح، فلولا أن الله قضى لأهل الجنة الحياة والبقاء لماتوا فرحًا، ولو أن الله قضى لأهل النار الحياة فيها لماتوا ترحًا".
وفي رواية: "فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحدًا مات فرحًا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدًا مات حزنا لمات أه النار"، رواهما الترمذي عن أبي سعيد، والقول: إن الموت جسم لا يصح.
قال الحافظ: من الأخبار الواهية في صفة البراق ما ذكره الماوردي عن مقاتل، وأورده القرطبي في التذكرة، ومن قبله الثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: الموت والحياة جسمان، فالموت ليس يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها، لا تمر بشيء، ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، "وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك" من أحوال الغيب.
"وقال البيضاوي" في شرح المصابيح: "لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط" بضم العين، أي: جانبه، وهذا تنظير؛ لأن الجنة والنار ليستا من المعاني التي تنتقل في الذهن، ولا صور لها خارجية، فلا يصح
وقال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معاني؛ لأنه عليه السلام قال عن الطست: "إنه أتي به مملوءا حكمة وإيمانًا"، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعاني ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يملأ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع عليه الصلاة والسلام بضد ما ذهب إليه المتكلمون في قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض.
والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هي غلبة ظن؛ لأن للعقل -بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدًا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها؛ لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي ذكرها الشارع صلى الله عليه وسلم في الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة
جعلهما مثالين للمعاني، لكنه قصد تقريب تعقل تصور المعاني بتصوير الجنة والنار، فإنهما مع عظمهما صور له في عرض الحائط، فكما وقع خرق العادة بذلك كذلك لا بعد في تصوير المعاني بصور محسوسة خرقًا للعادة "وفائدته كشف المعنوي"، إظهاره وتصويره "بالمحسوس" أي: تصويره بصورته للتقريب.
"وقال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن الإيمان، والحكمة جواهر محسوسات، لا معاني؛ لأنه عليه السلام قال عن الطست: "إنه أتى به مملوء حكمة وإيمانًا، ولا يقع الخطاب إلى على ما يفهم ويعرف" للمخاطبين، فالمتبادر منه أنها جواهر، "والمعاني ليس لها أجسام حتى تملأ" الطست، "وإنما يلمأ الإناء بالأجسام والجواهر"، لا بالأعراض، "وهذا نص من الشارع عليه الصلاة والسلام بضد ما ذهب إليه المتكلمون في قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض، والجمع بين الحديث" المذكور الدال على أنها جواهر قائمة بأنفسها، "وما ذهبوا إليه" من أنها أعراض تقوم بغيرها لا بأنفسها، "هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس فيها إدراك، ولا" ثبت من "جهة النبوة أخبار عن حقيقتها"، فلم يخبر بها أحد من الأنبياء "غير محققة، وإنما هو غلبة ظن؛ لأن للعقل بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق حدًا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها؛ لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي كذرها الشارع عليه السلام في الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل
التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم فيكون الجمع بينهما أن يقال: ما قاله المتكلمون حق؛ لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذي يدرك بالعقل، والحقيقة ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث.
ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذي قررناه وما أشبهه، ثم مثل بمجيء الموت في هيئة كبش أملح، ثم بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات؛ لأنها توزن، ولا يوزن في الميزان إلا جواهر.
قال: وفي ذلك دليل لأهل الصوفية وأصحاب المعاملات والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم جواهر
إلى هذه الحقيقة التي أخبر بها عليه السلام، فيكون الجمع بينهما أن يقال ما قاله المتكلمون حق؛ لأنه الصادر عن الجواهر، وهو الذي يدرك بالعقل والحقيقة ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث" المفيد، أنها جواهر محسوسات؛ لأنه شاهدها، والتمكلمون لم يشاهدوها، فوقفوا على ما أدركته عقولهم، "ولهذا نظائر كثيرة" واقعة "بين المتكلمين، و" ناشئة عن "آثار النبوة"، بأن تكلم بها الأنبياء، أو أخذت مما جاء عنهم، "ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذي قررناه وما أشبهه" فيحمل كل من الكلامين المتخالفين على وجه لا يخرج عن قواعد الشرع، "ثم مثل" ابن أبي جمرة للنظائر، "بمجيء الموت في هيئة"، أي: صورة "كبش أملح، ثم" مثل "بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا" في دار الدنيا "معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات؛ لأنها توزن، ولا يوزن في الميزان إلا جواهر"، لاستحالة وزن المعاني، "قال: وفي ذلك دليل لأهل الصوفة"، واحدة الصوف، أي: القطعة منه، وهم السادة الصوفية، سموا بذلك للبسهم الصوف، أو لصفاء قلوبهم، أو لغير ذلك مما هو معلوم، "وأصحاب المعاملات"، وهي عند الطائفة توجه النفس الإنساني إلى باطنها الذي هو الروح الروحاني والسر الرباني، واستمدادها منهما ما يزل به الحجب عنها، فيحصل لها قبول المراد في إزالة كل حجاب، ومنازل هذه المعاملات عشرًا: الرعاية، والمراقبة، والحرمة، والإخلاص، والتهذيب، والاستقامة، والتوكل، والتفويض، والثقة، والتسليم، سميت هذه المنازل بالمعاملات؛ لأن العبد لا تصلح له المعاملة للحق حتى يتحقق بهذه المقامات، كما في اللطائف، وقول شيخنا: هم الذين يعاملون الله تعالى بالتمادي في
محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح، ومنهم من يعاينه مثل الشمعة، ومنهم من يعاينه مثل المشعل وهو أقواها. ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققًا، حتى يعاين قلبه بعين بصيرته، كما يعاين كفه بعين بصره فيعرف الزيادة فيه من النقصان.
فإن قلت: ما الحكمة في شق صدره الشريف ثم ملئه إيمانًا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل به ما فعل؟
أجاب العارف ابن أبي جمرة: بأنه صلى الله عليه وسلم لما أعطي كثرة الإيمان وقوي
الطاعات، واجتناب المنهيات، سمي ذلك معاملة أخذًا من قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] .
قال البيضاوي: إقراضه مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، أي: إقراضصا حسنًا مقرونًا بالإخلاص وطيب النفس، أو مقرضًا حلالًا طيبًا، وقيل: القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله، صحيح في نفسه، لكنه غير ما يعنيه الصوفية، وإن رجع إلى بعض ما قالوا.
"والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم": جمع بصيرة، وهي قوة للقلب المنور بنور القدس، يرى بها حقائق الأشياء، وبواطنها بمثابة البصر للعين، يرى به صور الأشياء وظاهرها قاله ابن الكمال.
"جواهر محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح"، أي السراج، أي: الفتيلة الموقودة، "ومنهم من يعانيه مثل الشمعة" واحدة الشمع بفتح الميم وتسكن تخفيفًا، وقيل: الفتح، لغة العرب والسكون لغة المولدين، "ومنهم من يعاينه مثل المشعل"، كمقعد القنديل، كما في القاموس، والمراد هنا معناه العرفي، وهو الشعلة العظيمة، وإلا ساوى المصباح، ونافى قوله:"وهو أقواها"، أي: أكثر من ضوء المصباح والشمعة.
"ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققًا حتى يعاين قلبه بعين بصيرته" قلبه، فله عين، كما أن للجسد عينًا، "ما يعاين كفه بعين بصره، فيعرف الزيادة من النقصان"، وحينئذ يكون محققًا.
"فإن قلت: ما الحكمة في شق صدره الشريف، ثم ملئه"؟ بكسر الميم وسكون اللام، من عطف الاسم على الاسم، هكذا في نسخة صحيحة، وهي ظاهرة.
وفي نسخة: ثم ملئ وينبغي تأويله بالمصدر ليحصل التناسب بين المتعاطفين "إيمانًا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك" المذكور من الإيمان والحكمة "فيه"، أي: القلب،
التصديق إذ ذاك، أعطي برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف في جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له عليه السلام قوة الإيمان، من ثلاثة أوجه: بقوة
التصديق، والمشاهد، وعدم الخوف من العادات المهلكات فكمل له عليه الصلاة والسلام بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل، وعدم الخفو مما سواه.
ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان عليه السلام في العالمين أشجعهم، وأثبتهم وأعلاهم حالًا ومقالًا.
ففي العلوى: كان -كما أخبر عليه السلام أن جبريل لما وصل إلى مقامه قال: ها أنت وربك، وهذا مقامي لا أتعداه، فزج به في النور زجة، ولم يتوان ولم
"من غير أن يفعل به ما فعل" من الشق قلت: "أجاف العارف ابن أبي جمرة: بأنه عليه السلام ولما أعطى كثرة الإيمان" أي: خصاله وشعبه، أو الأسباب المحصلة لكماله، فلا يرد أن الإيمان هو التصديق، هو شيء واحد لا تعدد فيه ولا تكثر، وإنما التكثر في متعلقاته من صلاة وصوم ونحوهما.
"وقوي" بضم القاف أولى من فتحها، لاحتياجه لتقدير قوي "التصديق" منه بذلك، لكل ما ورد عليه من قبل الله، "إذ ذاك" ليس هذا من الإضافة إلى المفرد، بل إلى الجملة الإسمية أو الفعلية، والتقدير إذا ذاك، كذلك، أو إذ كان ذاك كذلك "أعطي برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف في جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له عليه السلام قوة الإيمان من ثلاثة أوجه، بقوة التصديق"،: أي: الحاصلة بزيادة الإيمان، والحكمة، "وبالمشاهدة" لشق الصدر وغسل القلب، "وعدم الخوف" المترتب على عدم حصول أذى له بعد فعل ما يهلك به عادة "من العادات"، أي: مما تجري به العادات "المهلكات": جمع عادة، وتجمع أيضًا على عادة وعوائذ، وجعل المشاهدة وعدم الخوف من قوة الإيمان بناء على أنه يزيد وينقص، فلا يرد أنهما خارجان عن التصديق الذي هو مسمى الإيمان، "فكمل له عله الصلاة والسلام بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل وعدم الخوف، مما سواه، ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه، كان عليه السلام في العالمين أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالًا ومقالًا"، أي: قولًا مصدر، قال كقولًا ومقالة، "ففي" أي: فرفعة حاله وشأنه في العالم "العلوي": بضم العين وكسرها مع سكون اللام، المكان المرتفع من نسبة الكلي، وهو المكان العالي من حيث هو إلى جزئية، وهو ما وصل إليه تلك الليلة، فإنه جزئي، من جزئيات مطلق المكان.
"كان كما أخبر عليه السلام أن جبريل لما وصل إلى مقامه"، أي: جبريل المشار إليه
يلتفت، فكان هناك في الحضرة كما أخبر عنه ربه عز وجل بقول:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] .
وأما حاله عليه السلام في هذا العالم: فكان إذا حمي الوطيس في الحرب ركض بغلته في نحر العدو، وهم شاكون في سلاحهم، ويقول:"أنا النبي لا كذب".
ثم إن في العناية بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة، فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة في أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر أو
بقوله: "وما منا إلا له مقام معلوم، وهو سدرة" المنتهى التي لم يتجاوزها أحد إلا نبينا، صلى الله عليه وسلم، قاله النووي، "قال: ها أنت وربك وهذا مقامي" بفتح الميم، أي: موضعي، "لا أتعداه، فزج به في النور زجة، ولم يتوان، ولم يلتفت"، أي: ألقى نفسه بلا توقف لما عنده من الثبات وقوة القلب، "فكان هناك في الحضرة، كما أخبر عنه ربه عز وجل بقوله:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ} "، ما مال بصره -صلى اله عليه وسلم- عما رآه، "{وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية، ما تجاوزه، بل أثبته إثباتا صحيحًا متيقنا، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها، وما جاوزها، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا كله بقوله في الفتح.
قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق بطنه مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانًا وحكمة بغير شق، الزيادة في قوة اليقين؛ لأنه أعطى بشق بطنه وعدم تأثره بذلك، م أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذا كان أشجع الناس وأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وصف بقوله تعالى:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية.
"وأما حاله عليه السلام في هذ العالم: فكان إذا حمي الوطيس" التنور، أي: اشتد الحرب كما فسر به حديث: "الآن حمي الوطيس"، فالأولى إسقاط قوله:"في الحرب" اللهم إلا أن يجرد عن معناه، بأن يقال: المعنى إذا اشتد الأمر "ركض بغلته"، أي: ضربها لتعدو "في نحر العدو"، أي: صدورهم فلا يهاب أحدًا منهم، ولا يمنعه من ذلك كثرتهم ولا شدتهم في الحرب، "وهم شاكون" أي: داخلون "في سلاحهم" دروعًا وغيرها، فهي محيطة بكل بدنهم، وفيه مسامحة، إذ لا يتأتى أن تكون الأسلحة لهم غير الدروع ظروفًا، فالظرفية اعتبارية فيه كما في جذوع النخل بالغ في جعل السلاح ظرفًا لهم، كأنهم لشدة تمكنهم منها واستيلائهم عليها مظروفون فيها.
"ويقول: "أنا النبي لا كذب": لأن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب، أنا ابن عبد المطلب، فركوبه البلغة مزيد ثبات؛ لأنها
الفكر إنما هو القلب لا الدماغ، خلافًا للمعتزلة والفلاسفة.
وأما الحكمة في غسل قلبه المقدس عليه الصلاة والسلام بماء زمزم، فقيل: لأنه ماء زمزم يقوي القلب ويسكن الروع، قال الحافظ الزين العراقي: ولذلك غسل به قلبه عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت، واستدل شيخ الإسلام السراج البلقيني، بغسل قلبه الشريف به على أنه أفضل من ماء الكوثر.
ليست من مراكب الحرب، بل الأمن، فالحرب عنده كالسلم، وكذا إشهار نفسه مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، ومر بسط هذا في حنين ثم إن في العناية"، أي: الاهتمام "بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة، في أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر أو الفكر، إنما هو القلب لا الدماغ، خلافًا للمعتزلة والفلاسفة" وبعض أهل السنة كالحنفية، وعبد الملك بن الماجشون من المالكية، لكن مذهب الأكثرين ظاهر على إثبات القوى الباطنية، ولم يقولوا بها، فوصفها بأن لها محلًا تسمح، والمراد أنه جعل للقلب حالة يدرك بها الأمور المعقولة، وفي قوله: من أسباب الإدراك إشعار بأن المدرك هو العقل، وما عداه طريق لإدراكه، وفي العقل تعاريف نقل المجد منا جملة، وقد نقل كلامه المصنف في الفصل الثاني من المقصد الثالث.
"وأما الحكمة في غسل قلبه المقدس عليه الصلة والسلام"، كما مر في رواية البخاري: ففرج صدري ثم غسله "بماء زمزم فقيل: لأن ماء زمزم يقوي القلب ويسكن الروع" بالفتح، الفزع.
"قال الحافظ الزين العراقي: ولذلك غسل به قلبه عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، ليقوى على رؤية الملكوت": باطن الملك.
وقال ابن أبي جمة: إنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض.
وقال السهيلي: لما كانت زمزم حفرة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ناسب أن يغسل عند دخوله حضرة القدس لمناجاته.
وقال غيره: لما كان ماء زمزم أصل حياة أبيه إسماعيل، وقد ربي عليها ونما قلبه وجسده وصار هو صاحبه وصاحب البلدة المباركة، ناسب أن يكون ولده الصادق المصدوق، كذلك ولما فيه من الإشارة إلى اختصاصه بذلك بعد وفاته، فإنه قد صارت الولاية إليه في الفتح، فجعل السقاية للعباس وولده، وحجابة البيت لعثمان بن شيبة، وعقبه إلى يوم القيامة.
"واستدل شيخ الإسلام السراج البلقيني بغسل قلبه الشريف به"، بماء زمزم، "على أنه
قال: لأنه لم يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه، وإليه يومئ قول العارف ابن أبي جمرة في كتابه "بهجة النفوس".
أفضل من ماء الكوثر، قال: لأنه لم يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه"، وتوقف السيوطي فيه بأن كونه لا يغسل إلا بأفضل المياه مسلم، ولكن بأفضل مياه الدنيا، إذ الكوثر من متعلقات دار البقاء، فلا يستعمل في دار الفناء، ولا يشكل بكون الطست الذي غسل منه صدره صلى الله عليه وسلم من الجنة؛ لأن استعمال هذا ليس فيه ذهاب عين بخلاف ذاك.
وأجاب في الإيعاب، بأنه إذا سلم أنه لا يغسل إلا بأفضل المياه لزمه تسليم قول البلقيني، وتخصيصه بأفضل مياه الدنيا، لما ذكره لا دليل عليه، وكون ماء الكوثر من الجنة لا يقضي عدم الغسل به؛ لأن المناسب لحاله صلى الله عليه وسلم أن يستعمل له الأفضل مطلقًا لا بالنسبة لدار الدنيا، إذ لا أصل في الأفضل على الإطلاق أن لا يستعمل له إلا الأفضل، كذلك والفرق بينه وبين الطست بما ذكره لا تأثير له؛ لأن ذلك الوقت وقت إظهار كرامته وخرق العادة له وإلا لحرم استعمال الذهب، فلما جاز علمنا أن القصد به خرق العادة لمزيد إظهار الكرامة، وهذا مقتضى استعمال الذهب، فلما جاز علمنا أن القصد به خرق العادة لمزيد إظهار الكرامة، وهذا مقتضى لاستعمال ماء الكوثر، لو كان أفضل، فلما نزل إلى ماء زمزم اقتضى ذلك بقرينة المقام أنه أفضل منه.
قال: وبهذا يرد على من نازع البلقيني أيضًا، يعني السيوطي، بخبر لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وأجاب عن الغسل به دون مائها؛ بأنه قد ألفه ونشأ عليه كجده إسماعيل، إذ هو أول ماء نبع بمكة لأجله، ووجه رد أن الخبر مخصوص والألفة لا تقتضي ما ذكر، سيما في مقام إظهار شرفه.
ونازعه أيضًا بأن الحكمة الغسل به، قول الزين العراقي: إنه يقوى به على رؤية الملكوت؛ لأن من خواصه أنه يقوي القلب، ويسكن الروع، فإذا ثبت هذا لم يكن في الغسل به دلالة على أفضليته؛ لأن سلب هذا المعنى عن ماء الكوثر لا يقتضي أن ماء زمزم أفضل منه؛ لأن سبب انتفائه عنه أنه من مياه الجنة وهي لا روع فيها حتى يحتاج لسلبه، فسلبه عنده لعدم المحل القابل، لا لعجز الفاعل، وبأن الكوثر مما من الله به على نبيه، وأنزل فيه القرآن وزمزم من عطاء إسماعيل، ولم ينزل فيها ما نزل من القرآن فيه، ومن خصوصياته أن من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، وغير ذلك انتهى.
ووجه رده أن ما ذكر من الحكمة لم يثبت على أنه يكفي في تقوية قلبه، وتسكين روعه، ما وقع له من تكرر شق الصدر المنبئ عن بلوغه في قولة القلب، وسكون الروع إلى الغاية القصوى، فلا يحتاج لشيء آخر، وعلى التنزل، فكونه غسل به لأجل ذلك لا يقتضي أنه غسل به لذلك، بل يحتمل أنه لذلك، ولإظهار شرفه، فالأمران يحتمل أنهما مقصودان، فما الليل على
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: $"فغسل صدري" فالظاهر أن المراد به القلب كما في الرواية الأخرى، وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بأن يقال: أخبر عليه الصلاة والسلام مرة بغسل صدره الشريف ولم يتعرض لذكر قلبه، وأخبر مرة أخرى بغسل قلبه ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما معًا مبالغة في تنظيف المحل المقدس، ولا شك أن المحل الشريف كان طاهر مطهرًا، وقابلًا لجميع ما يلقى إليه من الخير، وقد غسل أولًا
وهو عليه السلام طفل، وأخرج من قلبه نزغة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظامًا وتأهبا لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك في غير موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفًا؛ لأن الوضوء في حقه إنما هو إعظام، وتأهب للوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته، فكذلك
قصره على أحدهما، وكون الكوثر مما من الله به على نبينا بخلاف زمزم لا يكون صريحًا في الأفضلية، وما ذكر فيه من الخصوصية ورد في زمزم أعظم منه، وهو أن من شرب منها للأمن من العطش يوم القيامة أعطيه، كما يصرح به الحديث الصحيح، خلافًا لمن نازع فيه ماء زمزم لما شرب له، وقول ابن الرفعة والماء النابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أشرف المياه، لا يرد على البلقيني؛ لأن قوله إلا بأفضل المياه، أي: الموجودة إذ ذاك، والنابع لم يكن موجودًا إذ ذاك، ولا يرد على ابن الرفعة الحديث الصحيح خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم؛ لأن ما نبع من أصابعه لم يكن موجودًا عند قوله ذلك انتهى.
"وإليه يومئ قول العارف ابن أبي جمرة في كتابه بهجة النفوس"، اسم شرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري.
"وأما قوله عليه الصلاة والسلام: $"فغسل صدري" فالظاهر أن المراد به القلب، كما في الرواية الأخرى" في البخاري عن مالك بن صعصعة: فغسل قلبي، وفي رواية مسلم: فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، "وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع"، أي: يحصل، "الجمع" بينهما، "بأن يقال: أخبر عليه الصلاة والسلام مرة بغسل صدره الشريف، ولم يتعرض لذلك قلبه، وأخبر مرة أخرى بغسل قلبه، ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما" مرة لقلبه بعد إخراجه، ومرة لصدره بعد شقه، "معًا مبالغة في تنظيف المحل المقدس، ولا شك أن المحل الشريف كان طاهرًا مطهرًا، وقابلًا لجميع ما يلقى إليه من الخير"، ومنه الإيمان والحكمة، "وقد غسل أولًا وهو عليه السلام طفل، وأخرج من قلبه نزغة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظامًا وتأهبًا لما يلقى هناك" لا لإزالة أمر مستقذر فيه لكمال خلقه، والعلقة التي أخرجت منه لم يكن للشيطان عليها لو لم تخرج سبيل، وإنما قصد
غسل جوفه الشريف هنا، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، فكان الغسل له عليه السلام من تعظيم شعائر الله، وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم شعائر الله، كما نص عليه بالقول.
وأما قوله: " ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا"، وفي رواية عنده في الصلاة ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء.
فظاهره: أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء.
قال العارف ابن أبي جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون في الهواء، وقد
بإخراجها المبالغة في إظهار تعظيمه، وتكميله من بين أفراد أنواعه.
"وقد جرت الحكمة بذلك في غير موضع"، وفي نسخة بزيادة ما للتأكيد، "مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفًا"، ولو نظافة حسية، بأن غسل بدنه، وبالغ في تنظيفه، ولم يأت بأفعال الوضوء على الوجه المعتبر فيه شرعًا؛ "لأن الوضوء" الشرعي "في حقه، إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته"؛ لأن المصلي يناجي ربه، والقصد بالوضوء إعظامه، إذ ليس ثم دنس محسوس يزيله الوضوء، ولا ينافي هذا قول الفقهاء أن الحدث أمر اعتباري يقوم بالأعظاء يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص لجواز أنهم أرادوا بالاعتباري معنى أراده الشارع منافيًا لكمال التعيظم مع خلو الأعضاء من الدنس الحسي، "فكذلك غس جوفه الشريف هنا" ليس لعدم القابل، بل للإعظام والتأهب للمناجاة.
"وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] "، أي: فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من، وذكر القلوب؛ لأنها منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما، قاله البيضاوي.
"فكان الغسل له عليه السلام من تعظيم شعائر الله وإشارة لأمته بالفعل"، من الملك معه بتعظيم شعائر الله كما نصل عليه بالقول" في الآية المذكورة.
"وأما قوله: "ثم أتيت بدابة دون البلغ وفوق الحمار أبيض"، ذكر باعتبار أنه مركوب أو نظر اللفظ البراق: "يضع خطوه عند أقصى طرفه" براء ساكنة وفاء، أي: نظره، "فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا".
"وفي رواية عنده": أي: البخاري "في الصلاة، "ثم أخذ بيدي فعرج بي السماء، فظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء"، وهذا الظاهر ليس بمراد لما ثبت أنه ربط البراق ببيت المقدس، ورقي السماء على المعراج كما يأتي بيانه، ومشى على ظاهره ابن
جرت العادة بأن البشر لا يمشي في الهواء، سيما وكان راكبًا على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط تعهالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشيهم في الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية، وقد سئل عليه السلام حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة كيف يمشون فقال عليه السلام:"الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم". انتهى.
وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليه لم يذكر هنا.
فأما المعراج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقي في المعراج وهو السلم، كما وقع التصريح به في حديث عن ابن إسحاق
أبي جمرة في قوله، والقدرة كانت صالحة؛ لأن يصعد بنفسه من غير براق، لكن ركوب البراق كان زيادة في تشريفه؛ لأنه لو صعد بنفسه كان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي.
"قال العارف ابن أبي جمرة" عقب هذا: "أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون في الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشي في الهواء، سيما وكان راكبًا على دابة من ذوات الأربع"، يعني البراق، "لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان"، أي: شاء ذو القدرة، ففيه مضاف، أو مصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي القادر، وأنث الفعل نظرًا للفظ، فلا يرد أن القدرة صفة لا تنسب لها المشيئة، وإنما تنسب لله تعالى، "فكما بسط تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشيهم في الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية"، أي: لا يتوقف تأثيرها على موافقة عادة، بل تؤثر في كل ممكن أراد تأثيرها فيه وإن خالف العاد.
"وقد سئل عليه السلام حين أخبر عن الأشقياء" الكفار، "الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة، كيف يمشون؟ فقال عليه السلام": "إن الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم" في رواية: "على أرجلهم"، "قادر على أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم"، والحديث في الصحيحين عن أنس. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة.
"وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج، كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليه لم يذكر هنا"، إذ ظاهر قوله: فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، أنه استمر سائرًا به إليها، ثم إلى حيث شاء الله، ولم ينزل بيت المقدس، "فأما المعراج ففي غير هذه الرواية من الأخبار" ما يدل على "أنه لم يكن على البراق، بل
والبيهقي في الدلائل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ويموكن أن يقال: ما وقع هنا اختصار من الراوي، والإتيان بـ"ثم" المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما: الانطلاق والعروج.
وحاصله: أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وثابت البناني قد حفظ الحديث، ففي روايته عند مسلم: أنه أتى بيت المقدس فصلى به ثم عرج إلى السماء كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد قيل: إن الحكمة في الإسراء به راكبًا، مع القدرة على طي الأرض له، إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسًا له بالعادة، في مقام خرق العادة؛ لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سني يحمله عليه في
رقي في المعراج، وهو المسلم كما وقع التصريح به في حديث عند ابن إسحاق، والبيهقي في الدلائل" النبوية، من حديث أبي سعيد "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" قريبًا "ويمكن أن يقال" في الجمع "ما" الذي "وقع هنا اختصار من الراوي"، فيرد ما هنا إلى تلك الرواية، كأن يقال قوله: "حتى أتى السماء الدنيا"، ذكر غاية ما وصل به جبريل، ولم ينظر لتفاصيل، ما دون ذلك، "والإتيان بثم المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما الانطلاق" المذكور في قوله:"فانطلق بي جبريل"، "والعروج" المذكور بقوله:"حتى أتى السماء"، وفي نسخة: الإطباق "بكسر الهمزة فطاء ساكنة فموحدة ثم قاف"، أي: إطباق صدره كما كان، وفيه تعسف، "وحاصله"، أي: هذا الجمع "أن بعض الرواية ذكر ما لم يذكره الآخر".
وقال النعماني: ما المانع من أنه صلى الله عليه وسلم رقي المعراج فوق ظهر البراق لظاهر الحديث
…
انتهى، والمانع موجود، وهو أحاديث ربطه البراق بالحلقة كما يأتي.
"وثاب البناني""بضم الموحدة وبالنون"، "قد حفظ الحديث، ففي روايته عند مسلم" عن أنس، "أنه أتى إلى بيت المقدس، فصلى به، ثم عرج إلى السماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى"، ومن قواعد المحدثين تقديم رواية من حفظ القصة وفصلها، فيرد إليه رواية من أجمل أو نقص فيها.
"وقد قيل: إن الحكمة في الإسراء به راكبًا مع القدرة على طي الارض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة"، حيث أسرى به راكبًا مع إمكان إيصاله بلا ركوب، بل لو أراد حضوره بغير شيء كان "في مقام العادة"، حيث قطع تلك المسافات الكثيرة ذهابًا وإيابًا في أقل زمن؛ "لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى"، أي: طلب من يختص به بعث إليه
وفادته إليه.
وفي كلام بعض أهل الإشارات: لما كان صلى الله عليه وسلم ثمرة شجرة الكون، ودرة صدقة الوجود، وسر معنى كلمة "كن" ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها رفعها إلى حضرة قدسه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعزل خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادمًا، وافاه على فراشه نائمًا، فقال له:"قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم، قال: "يا جبريل إلى أين"؟ قال: يا محمد ارفع "الأين" من البين، إنما أنا رسول للقدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة،
بمركوب سني"، أي: شريف، "يحمله عليه في وفادته إليه"، فعامله بذلك تأنيسًا وتعظيمًا.
"وفي كلام بعض أهل الإشارات"، أي: محقق الصوفية، "لما كان صلى الله عليه وسلم ثمرة شجرة الكون"، يعنون بالشجرة في اصطلاحهم الإنسان الكامل المشار إليه في آية النور، وهو الشجرة المباركة الزيتونة، التي لا شرقية ولا غربية، لاعتدالها بين طرفي الإفراط والتفريط في الأقوال والأحوال، "ودرة صدقة الوجود وسر معنى كلمة كن" السر، يعني به حصة كل موجود من الحق بالتوجه الإيجادي المنبه عليه، بقوله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، فقولهم: لا يحب الحق إلا الحق، ولا يطلب الحق إلا الحق، ولا يعلم الحق إلا الحق؛ إنما أشاروا بذلك إلى السر المصحب من الحق للخلق على الوجه الذي عرفت، فإنه هو الطالب للحق، والمحبب له، والعالم به، كذا في الأعلام بإشارات أهل الإلهام، "ولم يكن بد" فراق ومحالة، "من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها، رفعها إلى حضرة قدسه والطواف": الدوران "بها على ندمان حضرته، أرسل إليه" جبريل، "أعز خدام الملك""بكسر اللام" سبحانه "عليه، فلما ورد عليه قادمًا وافاه على فراشه نائمًا، فقال": بلسان الحال، "قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم": جمع غنيمة، "فقال" بلسان حاله:"يا جبريل إلى أين؟، فقال: يا محمد ارفع الأين من البين، إنما أنا رسول للقدم"، أي: لذي القدم، وهو الحق تعالى، "أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة" المراد عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم كلها، والمقامات من غير مكابدة وهزاهز، وهذا مراد شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري بقوله: المراد هو المختطف من وادي التفرق إلى ربوة الجمع، وهذا هو الإنسان الذي اجتباه الحق واستخلصه "الكل"، أي: كل المخلوقات "مراد لأجلك" كما قال تعالى لآدم: لولا محمد ما خلقتك، رواه الحاكم مرفوعًا.
أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعرف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمي ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روق كأس المحبة إلا لشربك.
فقال عليه السلام: "يا جبريل فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل"؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي وأطفالي؟ قال:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6]، قال: الآن طاب قلبي ها أنا
وروى أبو الشيخ والحاكم، وصححه عن ابن عباس:"أوحى الله إلى عيسى؛ آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار"، وذكر ابن سبع وغيره عن علي: أن الله قال لنبيه: من أجلك أسطح البطحاء، وأموج الموج، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب، "وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف"، هي في اصطلاح القوم عبارة عن إحاطة العبد بعينه، وإدراك ما له وعليه، كما قال الإمام الجنيد: أن تعرف ما لك وما له، "أنت بدر اللطائف": جمع لطيفة، وهي كل إشارة دقيقة المعنى، تلوحك في الفهم لا تسعها العبارة، "ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، ما روق كأس المحبة إلا لشريك"، فسر شيخ الإسلام الهروي في منازل السائرين المحبة؛ بأنها تعلق القلب بين الهمة والأنس في البذل والمنع، أي: بذل النفس للمحبوب، ومنع القلب من التعرض إلى ما سواه، وإنما يكون ذلك بإقرار المحب لمحبوبه بالتوجه إليه، والأعرض عما عداه، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه، فتذهب ملاحظته الثنوية، وإلى هذا المعنى أشار القائل: بقوله:
شاهدته وذهلت عني غيرة
…
مني عليه فذا المثنى مفرد
وإنما كانت المحبة حالة بين الهمة والأنس، كما أشار إليه الشيخ؛ لأن المحب لما كان أشد الراغبين طلبًا صارت الهمة من جملة أوصافه، إذ المراد بالهمة شدة طلب القلب للحق، طلبًا خالصًا عن رغبة في ثواب، أو رهبة من عقاب، ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس، ومن شرط المحب كونه مستأنسًا بمحاسن محبوبه مستغرقًا، وجب أن يكون المحب موصوفًا بالأنس، فلذا اكتفت المحبة بالهمة الأنس.
"فقال عليه السلام" بلسان الحال: "يا جبريل، فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل؟، قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، أي: يستر الذنب عنك، فلا تلابسه، "قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي": أمتي "وأطفالي" أصحابه وآلي، "قال:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6] الآية، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذن لا أرضى ووالاحد من أمتي في النار". روى البيهقي عن ابن عباس في هذ الآية قال: رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة.
ذاهب إلى ربي، ثم قال جبريل: يا محمد إنما جيء بي إليك الليلة لأكون خادم دولتك، وحاجب حاشيتك، وحامل غاشيتك، وجيء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك؛ لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبًا، أو استدعوا قريبًا وأرادوا ظهور كرامته واحترامه أرسلو أخص خدامهم وأعز قوامهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه يصل إليه بالخطا فقد وقع بالخطأ، ومن ظن أنه محجوب بالغطا فقد حرم العطا. انتهى.
والحكمة في كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن
وفي مسلم عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عن إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وعن عيسى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك} [المائدة: 118]، ثم رفع يديه فقال:"اللهم أمتي"، وبكى، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك "قال: "الآن طاب قلبي": لذ وزكا، "ها أنا ذاهب إلى ربي، ثم قال جبريل: يا محمد، إنما جيء بي إليك الليلة لأكون خادم دولتك وحاجب حاشيتك"، جانبك.
قال المصباح: حاشية الثوب: جانبه، والجمع الحواشي، وحاشية النسب كأنه مأخوذ منه، وهو الذي يكون على جانبه كالعم وابنه، "وحامل غاشيتك" بغين وشين معجمتين، اسم لشيء نفيس يحمل أمام الأكابر، ويمشي به بين يديهم عرفًا والغشاء في الأصل الغطاء وزنًا ومعنى، "وجيء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك؛ لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبًا": طلبوا زيارته، "أو استدعوا قريبًا، وأرادوا ظهور كرامته واحترامه، أرسلوا أخص خدامهم، وأعز قوامهم لنقل أقدامهم"، أي: الذين أرسل إليهم، وجمعه حملًا على أن المراد بالحبيب الجنس الصادق بالواحد والمتعدد، "فجئناك على رسم عادة الملوك"، تأنيسًا بالعادة "وآداب السلوك"، وهو في اصطلاح الطائفة عبارة عن الترقي في مقامات القرب إلى حضرات الرب فعلًا وحالًا، وذلك بأن يتحد باطن الإنسان وظاهره فيما هو بصدده، مما يتكلفه من فنون المجاهدات، وما يقاسيه من مشاق المكابدات، بحيث لا يجد في نسفه حرجًا من ذلك، "ومن اعتقد أنه يصل إليه بالخطأ": بالضم، جمع خطوة، ما بين القدمين، "فقد وقع في الخطأ": بالفتح خلاف الصواب، "ومن ظن أنه محجوب بالغطاء" بغين معجمة، "فقد حرم العطاء انتهى".
"والحكمة في كون البراق"، الذي أعد له وتعلق علمه تعالى بأنه سيسري به عليه، "دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض" أو فيه حذف، أي: الحكمة في المجيء له بالبراق
على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراء الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة، وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوبًا، أو عطفًا على لفظ البراق.
واختلف في تسميته بذلك، فقيل: من البريق، وقال القاضي عياض: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود، وقيل: من البرق؛ لأنه وصف بسرعة السير، ويحتمل أن يكون مشتقًا.
ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه -بسكون الراء وبالفاء- أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره، وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره في
الموصوف بما ذكر، فلا يدر أنه ليس المراد بيان حكمة خلق البراق على هذه الصورة، فحق العبارة الحكمة في المجيء له بالبراق دون فرس مثلًا، "ولم يكن على شكل الفرس" التي هي أشرف الدواب المركوبة، "إشارة" خبر الحكمة، "إلى أن الركوب كان في سلم وأمن، لا في حرب وخوف"، فإن الحرب هي التي يعتد لها نحو الفرس، وصورة البراق لم يعهد عليه قتال البتة، "أو لإظهار المعجزة"، أي: المبالغة في إظهارها "بوقوع الإسراء الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة"، لكن البياض لا دخل له فغي الحكمتين، فلعل ذكره لبيان الواقع، أو لإظهار السرور؛ لأن البياض يختار عادة لإظهاره، "وذكره بقوله: أبيض باعتبار كونه مركوبًا أو عطفًا" لغويا، أي: ميلًا، يقال: عطفت على كذا، ملت له، "على لفظ البراق"، على بمعنى إلى، ولفظ الفتح أو بالنظر للفظ البراق.
"واختلف في" اشتقاق "تسميته بذلك" لقوله الآتي، ويحتمل أن لا يكون مشتقًا، "فقيل" مشتق "من البريق" اللمعان، أي: سمي بذلك للمعان بدنه لصفاء بياضه، "وقال القاضي عياض: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود".
قال الحافظ: ولا ينافيه وصفه في الحديث بأنه أبيض؛ لأن البرقاء من الغنم معدودة في البيض. انتهى.
ولكن اعترض بأن هذا الوصف لم يثبت للبراق، وما يأتي أن صدره ياقوتة حمراء ضعيف.
"وقيل": مشتق "من البرق" ما يلمع من السحاب؛ "لأنه وصف بسرعة السير" فأشبه البرق في سيره، "ويحتمل أن لا يكون مشتقًا"، فلا يلاحظ في تسميته أخذه من مادة أصلًا، وإنما هو اسم له، "ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه بسكون الراء وبالفاء" أي: نظره، "أي: يضع رجله"، بيان للمراد بخطوه، فليس المراد نفس المصدر "عند منتهى ما يرى بصره"،
خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة؛ لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السماوات في سبع خطوات. انتهى.
وفي حديث ابن مسعود عد أبي يعلى والبزار -كما أفاده في الفتح-: "إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه".
وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده: "له جناحان"، قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره.
فالطرف بمعنى البصر، فقوله: أقصى طرفه، في المكن الذي هو غاية منتهى ما يصل إليه بصره.
"وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره في خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة؛ لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السموات في سبع خطوات"، أخبار عما وصف به في حالة عروجه؛ لأنه يرى كل سماء، وهو فيما دونها. "انتهى" كلام ابن المنير، وهو مبني على أنه عرج به على البراق أخذا بظاهر الحديث، والصحيح خلافه.
"وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار، كما أفاده في التح ما لفظه: "إذا أتى"، بمعنى أقبل، "على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه"، فلا مشقة على راكبه في صعود ولا هبوط.
"وفي رواية لابن سعد" محمد، "عن الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، "بأسانيده: له جناحان".
"قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره"، وهو عجب مع قول الشامي قوله:"له جناحان في فخذيه يحفز بهما"، رواه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن البصري مرسلًا، ورواه ابن سعد من طريق الواقدي، وابن عساكر من حديث جماعة من الصحابة، ويحفز بفتح التحتية وسكون المهملة وكسر الفاء فزاي: يحث بهما رجليه على سرعة السير.
قال ابن الأثير: الحفز الحث والإعجال، ولعل سر كونهما في فخذيه لثقل مؤخر الدابة، أو؛ لأن ذلك جار على هذا الأمر في خرق العادة، أو؛ لأنهما لو كانا في جنبيه على العادة لكانا تحت فخذي الراكب، أو فوقهما، ويحصل له مشقة بضمهما ونشرهما خصوصًا مع السرعة العظيمة انتهى.
وعند الثعلبي -بسند ضعيف- عن ابن عباس في صفة البراق: له خد كخد إنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء.
وفي رواية أبي سعد في "شرف المصطفى"، فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل.
وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجًا ملجمًا، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما
"وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق له خد كخد إنسان، وعرف""بضم المهملة وإسكان الراء وقد تضم وبالفاء""كعرف الفرس"، وهو شعره النابت في محدب رقبته، "وقوائم كالإبل"، أي: كقوائمها، "وأظلاف": بمعجمة: جمع ظلف بالكسر، للبقرة والشاة بمنزلة القدم لنا، "وذنب كالبقر" عائد لهما، أي: لها أظلاف كالبقر وذنب كالبقر، "وكان صدره ياقوتة حمراء" تشبيه بليغ، أي: كياقوتة لا أن ذاته ياقوتة بالفعل، هذا إن قرئ كان بالفعل، فإن قرئ بالتشديد والهمز، فهو تشبيه حقيقي، لكن ظاهر السياق الأول.
"وفي رواية أبي سعد" هكذا في نسخة صحيحة بأداة الكنية وإسكان العين، واسمه عبد الرحمن بن الحسن الأصفهاني، النيسابوري، الحافظ المشهور، الثقة، المتوفى سنة سبع وثلاثمائة، وقد وصفه الذهي في تاريخه الحافظ، وأغفله من طبقات الحفاظ، والسهيلي يكنيه أبا سعيد بالياء، ورده مغلطاي بأنه إنما هو سعد بسكون العين، ويقع في نسخ ابن سعد، وهي خطأ لقوله:"في شرف المصطفى"، إذ هذا الكتاب إنما هو لأبي سعد عبد الرحمن، لا لابن سعد محمد، والذي في التفح وغيره أبي سعد، "فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام": بكسر الزاي مقود "البراق ميكائيل"، ولا ينافي ذلك أن جبريل كان راكبًا معه كما يأتي؛ لأنه أمسك ركابه حتى ركب، فركب أمامه.
نعم يعارضه رواية: وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، رواه سعيد بن منصور والطبراني وابن مردويه، فإنه ظاهر في عدم الركوب، إلا أن يكون ذلك إخبارًا عن مبدأ سيره، ثم ركب جبريل قدامه رفقًا به، والعلم لله.
"وفي رواية معمر عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به مسرجًا ملجمًا" حالان من البراق، "فاستصعب عليه"، أي: عسر وامتنع، "فقال له جبريل: ما حملك على هذا"؟، يعني أي: شيء أغراك بهذا، أي: ما منعك من الانقياد له، مع أنه أعظم من يستحق غاية التعيظم؛ لأنه "ما ركبك خلق"، أي: مخلوق، "أكرم على الله منه"، بل هو
ركبك خلق أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقًا، أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب وصححه ابن حبان.
وذكر ابن إسحاق عن قتادة: أنه لما شمس وضع جبريل عليه السلام يده على معرفته وقال: أما تستحيي وذكر نحوه، لكنه مرسل؛ لأنه لم يذكر أنسا.
وفي رواية وثيمة عند ابن إسحاق: "نعست حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها".
في رواية للنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولًا، وزاد: وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق.
أكرم من ركبك على مفاد النفي عرفًا، وإن صدق لغة بالمساواة، "قال: فارفض" سال وجرى، "عرقا" منصوب على التمييز من الفاعل، ولهذا ورد مخففًا، والمعنى خجل من الاستصعاب وعرق من خجل العتاب، قاله في الآيات الباهرة، "أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان" من حديث أنس، وأخرجه أبو داود، والطبراني والبيهقي، وصححه من حديث شداد بن أوس.
"وذكر ابن إسحاق" حيث قال: حدثت "عن قتادة؛ أنه لما شمس" بفتح المعجمة والميم فسين مهملة، أي: منع ظهره من ركوبه بامتناعه، "وضع جبريل عليه السلام يده على معرفته": بفتح فسكون ففتح موضع نبات العرف، أي: الشعر النابت على عنقه، "وقوال: أما تستحيي" وذكره نحوه"، فقال:"أما تستحيي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبكك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه، فاستحيا حتى ارفض عرقًا، ثم قر حتى ركبته"، "لكنه مرسل؛ لأنه لم يذكر أنسا"، إنما قال قتادة: حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما دنوت منه لأركبه شمس فذكره.
"وفي رواية وثيمة" بمثلثة وتحتية وميم "عند ابن إسحاق: نعست" الدابة، كذا في النسخ، وهو تصحيف فالذي في الفتح وغيره، فارتعشت "حتى لصقت بالأرض، فاستويت عليها".
"وفي رواية للنسائي وابن مردويه" بفتح الميم ويكسر، كما مر "من طريق يزيد" بتحتية فزاي، "ابن أبي مالك" عبد الرحمن الهمداني بالسكون، الدمشقي، القاضي، صدوق ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه "عن أنس نحوه موصولًا، وزاد وكانت تسخر للأنبيء قبله ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق"
وفيه دلالة على أن البراق كان معدًا لركوب الأنبياء، خلاف لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأول قول جبريل:"فما ركبك أكرم على الله منه" أي: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ فيكون مثل قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي لمناره
فيفهم أن له منارًا لا يهتدي له، وليس المراد: إلا أنه لا منار له البتة، فتأمله.
وقد جزم السهيلي بأن البراق إنما استصعب عليها لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله.
قال النووي: قال صاحب مختصر العين، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق، قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، انتهى وقد تقدم النقل بذلك.
قال في الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء.
محمد صاحب السيرة، "وفيه دلالة على أن البراق كان معدًا لركوب الأنبياء خلافًا لمن نفى ذلك كابن دحية، وأول قول جبريل: فما ركبك أكرم على الله منه، أي: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه"، فيكون من نفي الموصوف، فينتفي ذلك الوصف بانتفائه، وهي طريقة معلومة خرجوا عليها قوله تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، أي: لا سؤال، فلا إلحاق، ولم يرد إثبات السؤال، ونفي الإلحاف بدليل يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، إذ التعفف لا يجامع المسألة، وقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] : لا شافع، فلا شفاعة بغير عمد ترونها، أي: لا عمدة، فلا رؤية، "فيكون مثل قول امرئ القيس على لاحب" بمهملة وموحدة، طريق واضح، "لا يهتدي لمناره"، أي: عمله، "فيفهم أن له منارًا لا يهتدي له، وليس المراد إلا أنه لا منار له البتة"، فالمراد نفي المنار من أصله لا إثبات منار انتفى عنه الاهتداء "فتأمله"؛ لأن شرط التخريج على هذا إذا وجد ما يدل عليه، وليس كذلك هنا، كيف "وقد جزم السهيلي؛ بأن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله"، فصرح بأنه ليس خاصًا به، وهو من الحفاظ الكبار، وهو مثبت فيقدم على نفي تلميذه ابن دحية وإن وافقه ما "قال النووي: قال صاحب مختصر العين" الزبيدي، "وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق".
"قال" النووي متعقبًا لهما، "وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. انتهى. وتقدم النقل بذلك قريبًا".
"قال في الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: فربطته"، أي: شددته "بالحلقة التي تربط" بكسر
انتهى، فليتأمل فإنه ليس فيه فربطته التي تربطه بها الأنبياء، وإنما قال: تربط بها الأنبياء وسكت عن ذكر المربوط ما هو؟ فيحتمل -كما قال ابن المنير- أن يكون غير البراق، ويحتمل أن يريد ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أي تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى، انتهى.
ولكن وقع التصريح بذلك في حديث أبي سعيد عند البيهقي ولفظه: "فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه". وقد وقع عند ابن إسحاق من رواية وثيمة في ذكر الإسراء أيضًا: "فاستصعب البراق وكانت الأنبياء تركبها قبلي وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة".
وفي مغازي ابن عائذ، من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: البراق هي الدابة التي كان يزور إبرهيم عليها إسمعيل، وعلى ذلك فلا يكون ركوب
الباء وضمها لغة "بها الأنبياء، انتهى، فليتأمل، فإنه ليس فيه، فربطته بالحلقة التي تربطه بها الأنبياء" بالضمير، "وإنما قال: تربط بها الأنبياء، وسكت عن ذكر المربوط ما هو، فيحتمل كما قال ابن المنير أن يكون غير البراق"، ويصير تقديره ترتبط بها الأنبياء دوابهم، وذلك لا يستلزم كون البراق مركوبًا لهم، وهذا لا يرد على الحافظ؛ لأنه لم يقل: يؤيده قوله، إنما قال: ظاهر قوله، ولا شك أن ظاهره ربط البراق؛ لأنه المحدث عنه، وأما هذا الاحتمال فبعيد وأبعد منه قوله.
"ويحتمل أن يريد ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أي: تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى"، وهو متمسك المححق من النظر الصحيح؛ والرأي: القويم، كما في البيضاوي. "انتهى" كلام ابن المنير، ثم استدرك المصنف تعقبه على الحافظ؛ بأن الروايات يفسر بعضها بعضًا، فتعين أن المراد تربط بها البراق لا الدواب ولا أنفسهم، قال:"لكن وقع التصريح بذلك في حديث أبي سعيد عند البيهقي، ولظفه: "فأوثقت"، أي: ربطت "دابتي بلحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه، وقد وقع عند ابن إسحاق" في المبتدأ "من رواية وثيمة في ذكر الإسراء أيضًا، فاستصعب البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة" التي بينه وبين عيسى، وهي ستمائة على الصحيح.
"وفي مغازي ابن عائذ من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، قال البراق: هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل".
وفي أوائل الروض للسهيلي: أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها
البراق من خصائصه صلى الله عليه وسلم. نعم قيل: ركوبه مسرجًا ملجمًا لم يرو لغيره من الأنبياء عليهم السلام.
فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه؟
أجيب: بأنه تنبيه على أنه لم يذلل قبل ذلك، إن قلنا: إنه لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد إن قلنا: إنه ركب قبله.
ويحتمل أن يكون استصعابه تيها وزهوًا بركوبه صلى الله عليه وسلم وأراد جبريل "أبمحمد تستعصب"؟ استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة وإنما تاه زهوًا لمكان الرسول عليه السلام منه، ولهذا قال: فارفض عرقًا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبريًا
وبولدها.
وفي كتاب مكة للفاكهي والأزرقي: أن إبراهيم كان يحج على البراق، فهذه آثار يشد بعضها بعضًا، وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها قاله الحافظ، "وعلى ذلك" كله، "فلا يكون ركوب البراق من خصائصه صلى الله عليه وسلم".
قال النعماني: ولعل النافي ركوب غيره لم يستحضر هذه الأحاديث والآثار؛ لأنه اقتصر على الحديثين، ولم أر نصًا ينفي ركوب غيره من الأنبياء عليه، ومعارضه النص بتأويل قول جبريل فيه نظر، بل ورد ما يدل على أن غير الأنبياء ركبه.
ففي أوائل روض السهيلي: أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها، وفيه أيضًا عن الطبري أوحى إلى أرمياء أن اذهب إلى بختنصر، فأعلمه أني قد سلطته على العرب، فاحمل معدًا على البراق، كي لا تصيبه النقمة، فإني مستخرج من صلبه نبيًا كريمًا أختم به الرسل، فحمله معه على البراق إلى أرض الشام انتهى.
"نعم، قيل: ركوبه مسرجًا ملجما لم يروا لغيره من الأنبياء عليهما السلام"، فيحمل القول بأن ركوبه من خصائصه على ركوبه مسرجًا ملجمًا لا مطلقًا، فلا ينافي أن غيره ركبه لا بهذه الصفة، "فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه، أجيب"، أي: أجاب ابن المنير، "بأنه"، أي: وجهه، "تنبيه": إعلام، "أنه لم يذلل قبل ذلك إن قلنا: إن لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد به، إن قلنا: إنه ركب قبله"، وهم قولان، أرجحهما الثاني كما علم، "ويحتمل أن يكون استصعابه تيهًا" بكسر الفوقية، وسكون التحتية، تكبرًا "وزهوا" عطف تفسير.
ففي القاموس: الزهو: التيه والفخر "بركوبه صلى الله عليه وسلم وأراد جبريل" بقوله: "أبمحمد تستصعب استنطاقة بلسان الحال، أنه لم يقصد الصعوبة، وإنما تاه زهوًا لمكان الرسول عليه
من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، ومثل هذا رجفة الجبل به حتى قال:"أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان"، فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب.
وكذا البراق لما قال له جبريل: اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه أقر فاستقر وخجل من ظاهر الاستصعاب، وتوجه الخطاب فعرق حتى غرق.
ووقع في حديث حذيفة عند الإمام أحمد قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس، وهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاده، ويحتمل أن يكون قوله:"هو وجبريل" متعلقًا مرافقته في السير، لا في الركوب. وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق بمرافقته في السير، لا في الركوب، وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك؛ لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا مدخل لغيره فيها.
السلام منه"، أي: لوجوده عنده وإرادته ركوبه، "ولهذا قال: فارفض عرقًا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبريًا من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب"، أي: عتاب جبريل له، "ومثل هذا رجقه الجبل" تحركه "به، حتى قال": كما في الصحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدًا، وأبو بكر، وعمر وعثمان، فرجع بهم، فقال:"أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق" أبو بكر، "وشهيدان" عمر وعثمان، "فإنهما هزة الطرب": الفرح، "لا هزة الغضب"، فلذا قر الجبل وسكن، "وكذا البراق لما قال له جبريل: أسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه أقر فاستقر": سكن "وخجل من ظاهر الاستصعاب، وتوجه الخطاب" إليه بالعتاب، "فعرق حتى غرق" أي: عمه العرق، فشبه عمومه له بالغرق في الماء.
"ووقع في حديث حذيفة" بن اليمان "عند الإمام أحمد، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، فلم يزل على ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا إلى بيت المقدس، وهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد"، ولم تبلغه الأحاديث التي فيها نزوله في أماكن قبل بيت المقدس.
"ويحتمل أن يكون قوله: "هو وجبريل" متعلقًا بمرافقته في السير، لا في الركوب" إلى بيت المقدس دون نزول قبله، فلا يخالفه أحاديث نزوله قبله في أماكن، "وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق، أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك؛ لأن قصة المعراج كانت كارمة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا مدخل لغيره فيها"، وتبعه ابن المنير وغيره، والتعليل لا ينهض، فإن من جملة كرامته إكرام صاحبه.
وقد تعقب الحافظ ابن حجر التأويل المذكور: بأن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفًا له، وفي رواية الحارث في مسنده: أتي بالبراق فركبه خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه، والله أعلم. انتهى.
وقد وقع غير هذه الرواية بيان ما رآه في ليلة الإسراء، فمن ذلك:
ما وقع في حديث شداد بن أوس -عند البزار والطبراني، وصححه البيهقي في الدلائل- أنه أول ما أسري به مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل
"وقد تعقب الحافظ ابن حجر"، فقال: يرد "التأويل المذكور؛ بأن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود، أن جبريل حمله على البراق رديفًا له"، أي: جاعلًا له خلفه.
"وفي رواية الحارث" بن أبي أسامة "في مسنده" عن ابن مسعود: "أتي بالبراق فركبه خلف جبريل"، وكأنه لسرعة السير، وكونه ليلًا، وكونها دابة غير مألوفة، فخفف عليه لئلا ينزعج، فلم يجعله أمامه، "فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه، والله أعلم انتهى".
ومعلوم تقديم صريح المنقول على مقتضى العقول، "وقد وقع في غير هذه الرواية بيان ما رآه ليلة الإسراء"، قبل إتيانه بيبت المقدس، فلا يحسن إبقاء قول حذيفة استمرا على ظهر البراق حتى انتهيا إلى بيت المقدس على ظاهره، وكذا قوله في حديث مالك بن صعصعة:"ثم أتيت بدابة، فحملت عليها، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا"، لا يليق بقاؤه على ظاهره؛ لأنه مجمل، فيقضي عليه المفصل الأحاديث المذكور فيها ما رآه في ذهابه وإيابه وفي السماوات، ولما كانت ما صيغة عموم تغيد استيعاب جميع ما رآه، أتى بقوله:"فمن ذلك" لإفادة أنه لم يستوعب ذلك.
"ما وقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني، وصححه البيهقي في الدلائل؛ أنه أول ما"، أي: شيء رآه ليلة "أسري به، مر بأرض ذات نخل"، فهو أول المرئيات، أو سماه أول باعتبار قطع المسافة سريعًا، فلا يقال: بين مكة ويثرب مسافة طويلة، فلا يصدق الخبر على المبتدأ، وهو أول فعلى هذا فالخبر جملة قوله مر.. إلخ، بتقدير أنه واسمها ضمير الشأن، أو يجوز نصب أول على أنه ظرف متعلق بمر، فما مصدرية، واسم إن ضمير للنبي صلى الله عليه وسلم أي: أنه مر أول إسرائه بأرض، والأولية نسبية أي: إنه عد المرور أول إسرائه مع تأخره لقصر سيره فيه، وقرر شيخنا أن هذا أحسن.
"فقال له جبريل": أنزل فصل"، فنزل، "فصلى"، ثم ركب "فقال له: أتدري أين
فصل، فصلى، فقال له: أتدري أين صليت؟ صليت بيثرب، ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فصلى، فقال له جبريل: صليت بمدين، ثم مر ببيت لحم فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى، فقال صليت حيث ولد عيسى.
صليت"؟، فقلت: الله أعلم، هكذا في حديث شداد نفسه قبل قوله: "صليت بيثرب"، صليت بطيبة، هكذا جمع بينهما في حديث شداد، فيثرب؛ لأنها إنما كانت مشهورة بهذا الاسم، فقصد إخباره بالمحل وطيبة، للإشارة إلى أنها تسمى به بعد حلوله فيها.
وفي حديث أنس عند النسائي: أتدري أين صليت؟، صليت بطيبة وإليها المهاجر "بفتح الجيم"، فجبريل تبرع بإخباره بذلك بعد سؤاله، هل يدري المحل صلى فيه أولًا قاصدًا إدخال السرور عليه، ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنه على الظاهر المتبادر.
"ثم مر بأرض بيضاء، فقال: انزل فصل، فصلى"، ثم ركب، "فقال له جبريل": أتدري أين صليت؟، قال:"لا"، قال:"صليت بمدين" عند شجرة موسى، كما في خبر شداد، ومدين:"بفتح الميم، والتحتية، وإسكان المهملة بينهما" بلد ابالشام، تلقاء غزة، سميت باسم بانيها مدين بن إبراهيم ويحتمل أن المراد بشجرة موسى الشجرة التي كلمه الله عندها لما خرج من عند شعيب، بعد انقضاء الأجل، قاصدًا مصر، فنودي منها:{أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القص: 30]، أو المراد الشجرة التي أوى بعد سقي الغنم للمرآتين المذكورة في قوله:{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 24] ، فإنه كان ظل سمرة، قاله ابن عطية عن ابن عباس، وعلى هذا، ففي إطلاق مدين على بقعتها تجوز؛ لأنها بالطور، وليس هو مدين، لكنه لقربه منه سماه بذلك.
وفي حديث شداد تلو قوله: عند شجرة موسى، ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال له: انزل فصل، ففعل، ثم ركب، فقال: أتدري أين صليت؟، قال:"لا"، قال: صليت بطور سيناء، حيث كلم الله موسى، فصرح بأنه صلى في الموضعين عند الشجرة وعند الجبل، وكلمه الله عندهما معًا، لكن بين التكليمين لموسى مدة طويلة، فالتكليم الأول الذي نبئ فيه كان عمره أربعين سنة، كما في ابن عطية، والثاني كان بعد غرق فرعون واستقرار الأمر لموسى بعد الأمر بالصوم وانقضاء مدة الوعد المذكورة في قوله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، "ثم مر ببيت لحم: بلام مفتوحة، فمهملة ساكنة، قرية من الشام، بلقاء بيت المقدس، والمصنف اختصر الحديث، وإلا فلفظ حديث شداد عند من عزاه لهم عقب قوله:"حيث كلم الله موسى" الآية، ثم بلغ أرضًا بدت له قصور، "فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى"، ثم ركب، وانطلق البراق يهوي به، "فقال" له جبريل: أتدري أين صليت؟،
وفي حديث أنس عند البيهقي في الدلائل: لما جاء جبريل بالبراق إليه صلى الله عليه وسلم فكأنها أصرت أذنيها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فوالله ما ركبك مثله، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جنب الطريق، فقال:"ما هذه يا جبريل"؟ قال: سر يا محمد، فسار ما شار الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه منحنيًا متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر، وأنه مر بجماعة فسلموا عليه فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: أردد عليهم السلام، فرد، الحديث، وفي آخره فقال له جبريل: أما العجوز التي رأيت جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز،
قال: "لا"، قال:"صليت" ببيت لحم، "حيث ولد عيسى" بن مريم.
"وفي حديث أنس عند البيهقي في الدلائل: لما جاء جبريل بالبراق إليه صلى الله عليه وسلم استصعب عليه، "فكأنها" بسبب ذلك "أطرت أذنيها"، أي: جمعت بينهما، فهو مفرع على محذوف، وأصل الصر الجمع والشد، كما في النهاية، "فقال لها جبريل: معه"، أي: انكفي عن هذا واتركيه وانقادي له، "يا براق، فوالله ما ركبك مثله" "بكسر الكاف" ليناسب أصرت، وإن جاز فتحها، "فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جنب الطريق": ناحيتها، سقط من البيهقي عن أنس، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، "فقال: "ما هذه يا جبريل:، قال: سر يا محمد"، أمره بالسير خشية أن يسمع سؤالها رقة عليها لسنها، لما جعل الله في قلبه من الرأفة والرحمة، "فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه منحنيًا" من شدة الكبر "متنحيا"، مصروفًا، مباعدًا "عن الطريق، يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر" يا محمد، لئلا يرق له لسنه، فيقبل عليه.
"و" في حديث أنس المذكور: "أنه بجماعة" في مسيره ذلك. ولفظه: وبينما هو يسير، إذ لقيه خلق من خلق الله تعالى، "فسلموا عليه، فقالوا: السلام عليك يا أول" من أسمائه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول الأنبياء خلقًا، وأول من قال: بلى يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} ، والأول عودًا، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وأول شافع، وأول مشفع، "السلام عليك يا آخر"؛ لأنه آخر الأنبياء بعثًا، "السلام عليك يا حاشر"؛ لأنه يحشر الناس على قدميه، أي: يقدمهم وهم خلفه، أو يسبقهم، فيحشر قبلهم، والثلاثة من أسمائه، كما مر في مقصدها، "فقال: له جبريل: أردد عليهم السلام، فرد
…
الحديث""، أسقط منه، ثم لقيه الثانية، فقال له مثل ذلك، ولقيه الثالثة، فقال له مثل ذلك.
"وفي آخره، فقال له جبريل: أما العجوز التي رأيت جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا
والذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، أما لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، قال الحافظ عماد الدين بن كثير: في ألفاظه نكارة وغرابة.
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم مر بموسى عليه السلام، وهو يصلي في قبره، قال أنس: ذكر كلمة فقال: أشهد أنك رسول الله، ولا مانع أن الأنبياء عليهم السلام يصلون في
إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، والذي دعاك إبليس"، أراد أن تميل إليه، كما في نفس الحديث، "والعجوزالدنيا"، أي: أنها صورت لها بصورة عجوز إشارة إلى قرب انقضائها، وإلا فهي نقيض الآخر، لا صورة لها يرى فيها.
"أما""بالتخفيف""لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة"، تجعلها نصب أعينهم، وعبادتهم دون الله، فلا يرد الله، فلا يرد أن كثيرًا من أمته، بل أكثرهم يبتغون الدنيا، ويتهالكون عليها؛ لأنهم وإن فعلوا ذلك، لكن لأغراض قامت عندهم مع اعتقاد كمال قدرة الله ووحدانيته، فلا يصدق عليهم اتباعهم للدنيا، "وأما الذين سلموا عليك، فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام"، سلموا عليه ثلاثًا، زيادة في المحبة.
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير في ألفاظه"، أي: هذا الحديث: "نكارة وغرابة"، لمخالفته لما في حديث أبي سعيد: أن جبريل أجابه بقوله: لو أجبتها
…
إلخ، لما تمثلت بامرأة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة، خلقها الله، وأما حين تمثلها بعجوز -فأجابه بأنه لم يبق من الدنيا
…
إلخ، ومن جهة تفرده بذكر لقائه لهؤلاء الثلاثة في ذهابه إلى بيت المقدس قبل دخوله.
"وفي رواية" عند أبي يعلى الموصلى عن أنس، بلفظ:"أنه صلى الله عليه وسلم مر بموسى عليه السلام، وهو يصلي في قبره".
"قال أنس" روايه، "ذكر كلمة، فقال: أشهد أنك رسول الله"، بيان لكملة، ويحتمل أن الجملة غيرها، وقوله: أشهد
…
إلخ، ناشئ عنها، والحديث في مسلم والنسائي وغيرهما عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره".
وفي حديث ابن مسعود عند الحسن بن عرفة، والطبراني وأبي نعيم وغيرهم، رجل طوال سبط آدم، كأنه من رجال شنوأة، وهو يقول برفع صوته: أكرمته وفضلته، فدفعنا إليه، فسلمنا عليه، فرد السلام، وقال: من هذا معك يا جبريل؟، قال: هذا أحمد، قال: مرحبًا بالنبي الأمي العربي، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، ودعا له بالبركة، وقال: سل لأمتك اليسر، ثم أبعد
قبورهم؛ لأنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [ألاعراف: 169] ، فهم يتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر، وسيأتي الإشارة إلى ذلك في حجة الوداع إن شاء الله تعالى.
وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني والبزار: أنه عليه الصلاة والسلام مر علي قوم يزرعون ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون، في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين، ثم أتى على قوم ترضخ
عنا، فقلت:"ما هذا يا جبريل": قال: هذا موسى بن عمران، قلت:"ومن يعاتب"؟ قال: يعاتب ربه، قلت:"أيرفع صوته على ربه"؟، قال: إن الله قد عرف له حدته، فذكر الحديث، وفيه: أنه لقي إبراهيم في طريقه، ثم دخل الأقصى، وصلى بالأنبياء.
قال النعماني: وفيه غرابة، "وبلا مانع أن الأنبياء عليهم السلام يصلون في قبورهم" الصلاة الشرعية، التي كانوا يصلونها في الحياة الدنيا؛ لأنهم إلى الآن في الدنيا؛ لأنهم إلى الآن في الدنيا، وهي دار تعبد، وقيل: المراد الصلاة اللغوية، أي: يدعون الله ويذكورنه ويثنون عليه، وجزم القرطبي الأول؛ لأنه ظاهر الحديث.
"لأنهم {أَْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [الأعراف: 169] حياة حقيقة، والصلاة تستدعي جسدًا حيًا، سواء قلنا: إنها الشرعية، أو اللغوية، ولا يلزم من كونها حقيقة أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب ونحوهما من صفات الأجسام التي نشاهدها؛ لأن ذلك عادي لا عقلي، وهذه الملائكة أحياء ولا يحتاجون إلى ذلك.
"فهم يتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم"، فتعبدهم بذلك لذة، أي: لذة، "لا بما"، أي: شيء، "يلزمون به"؛ لأنه لا تكليف بعد الموت، "كما يلهم أهل الجنة الذكر"، ويجدون اللذة القوية، ولا تكليف في الجنة، "وسيأتي الإشارة" القليلة "إلى ذلك في حجة الوداع إن شاء الله تعالى"، وسبق في الخصائص بأبسط مما في الموضعين.
"وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني، والبزار"، والبيهقي، وابن جرير، وأبي يعلى؛ "أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم يزرعون ويحصدون" بكسر الصاد وضمها "في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل: "ما هذا"؟، قال: هؤلاء المجاهدون، في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء، فهو يخلفه"، إخبار عن حالهم، ولم يقصد القرآن، فلا بد أن التلاوة:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ"، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] "، والمراد أن ما يتنعمون به من فواقكه وغيرها، إذا نفذ في ذلك الوقت،
رؤسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال:"ما هذا يا جبريل"؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، قال:"ما هؤلاء يا جبريل"؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم نيئ في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من
جيء لهم بغيره على التوالي، وبذلك يتميزون عن غيرهم من أهل الجنة، أو أنه إخبار بأنه ما أنفقه المجاهدون يعوضون به في الدنيا سريعًا، ولا يؤخر ثوابهم للآخرة.
"ثم أتى على قوم ترضخ"، أي تشدخ، كما في التقريب، وفي المصباح: تكسر "رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم" بضم أوله وفتح الفاء وشد الفوقية، أي: لا يخفف عنهم "من ذلك" الرضخ "شيء"، أو هو بفتح الياء وضم الفوقية مخففًا، أي: لا يرتفع عنهم ذلك، ولا يسهل، "فقال:"ما هذا يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة"، بالتساهل فيها، إما بتركها أصلًا، أو بإخراجها عن وقتها، كلا أو بعضها، "ثم أتى على قوم أقبالهم رقاع": جمع قبل، كأعناق وعنق، وهو من كل شيء خلاف دبره، قيل: سمي قبلًا؛ لأن صاحبه يقابل به غيره، "وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام" الذي في رواية البزار، والبيهقي وغيرهما، كما تسرح الإبل والغنم، "يأكلون الضريع": الشوك اليابس، أو نبات أحمر، منتن الريح، يرمي به البحر، "والزقوم": ثمر، شجر كريه الطعم، قيل: لا يعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يكره أهل النار على أكلها، كما قال تعالى:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64]، وفي القاموس: الزقوم كتنور الزبد بالتمر، وشجرة بجنهم، ونبات بالبادية، له زهر ياسميني الشكل، وطعام أهل النار.
وأخرج ابن جرير عن قتادة، قال: قال أبو جهل: زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد، فأنزل الله: حين عجبوا أن يكون في النار شجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} . "ورضف جهنم": بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء الحجارة المحماة، واحدها رضفة بسكون الضاد وتفتح:"قال: "ما هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله" شيئًا، "وما الله بظلام"، أي: بذي ظلم "للعبيد"، فيعذبهم بلا ذنب.
"ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج": مستو "في قدر، ولحم نيئ"، بالهمز،
النيئ الخبيث، ويدعون النضيج، فقال:"ما هؤلاء يا جبريل"؟ قال جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالًا طيبا، فتأتي رجلًا خبيثًا فتبيت عنده حتى تصبح، ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، قال:"ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها، ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال:"ما هذا يا جبريل"؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، قال: ثم أتى على
وزان حمل كل شيء شأنه أن يعالج بطبخ، أو شيء لم يطبخ، فيقال: لحم نيئ والإبدال والإدغام عامي "في قدر خبيث" بالرفع نعت لحم، "فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟، قال جبريل: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح"، ولعله قيد بأمته؛ لأن لغيرهم عذابًا أعظم من هذا، أو؛ لأن الغرض إعلامه بما أعد لمرتكبي ذلك لينكفوا عنه، "والمرأة تقم من عند زوجها حلالًا طيبًا، فتأتي رجلًا خبيثًا عنده، حتى تصبح"، ولعل التقييد بذلك؛ لأنه الأغلب، والمراد الزنا، وإن لم يكن بيات حتى الصباح، ويؤيده أن الحافظ اختصر الحديث بقوله: قال: هؤلاء الزناة.
"ثم أتى على رجل قد جمع حزمة": بضم فسكون ما حزم من أي شيء، وفي فتح الباري: حزمة حطب، "عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها" أي: بضم إليها غيرها، "قال:"ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده"، أي: في جهته، "أمانات الناس، لا يقدر على أدئها"، أي: الخروج من عهدتها، فدخل فيها ما تحت يده كوديعة، وما وكل على بيعه، وما تحت يده من مال يتيم ونحوه، وما فوض إليها كإمامة، وخطابة وغيرهما من المناصب الشرعية، مما لا يوصف بكونه تحت يده حسا، "وهو يريد أن يحمل"، أي: يزيد "عليها" ما يحتاج إلى حمله معها، مع عدم قدرته على حمل الأولى.
"ثم أتى على قوم تقرض": تقطع "ألسنتهم وشفاههم": جمع شفة مخففة "بمقاريض": حمع مقراض بكسر الميم، "من حديد، كلمات قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: "ما هذا يا جبريل"؟:، قال: هؤلاء خطباء الفتنة"، أي: الذين يقولون ما لا يفعلون، فيفتنون الناس بذلك لعدم مطابقة قولهم لفعلهم، وأسقط من الرواية خطباء أمتك، يقولون ما لا يفعلون، والمراد بالخطباء كل من تصدى لتعليم العامة ما طلب منهم، ونهيهم عما نهوا،
جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال:"ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد فيه ريحًا طيبة باردة، كريح المسك، وسمع صوتًا، فقال:"ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول: رب آتني بما وعدتني، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي، ومرجاني وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي، ومراكبي، وعسلي
فدخل العالم الواعظ وغيرهما.
"قال: ثم أتى على جحر": بضم الجيم وسكون المهملة، ثقب مستدير، "صغير يخرج منه ثور عظيم": بمثلثة، ذكر البقر، "فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج، لا يستطيع، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة"، من سخط الله، "ثم يندم عليها، فلا يستطيع أن يردها" لعدم إمكانه.
"ثم أتى على واد، فودد فيه ريحًا طيبة باردة، كريح المسك، وسمع صوتًا، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول" بلاسان القال على الظاهر المتبادر، فلا مانع من أن يخلق لها إدراك ونطق، "رب آتني" بالمد، "بما وعدتني"، بزيادة الباء في المفعول، كقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] ؛ لأن آتى يتعدى بنفسه، كقوله:{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك} [البقرة: 251]، "فقد كثرت غرفي": بالضم، جمع غرفة، وهي العلية، "واستبرقي" ثخين الديباج، وفي البيضاوي: ثخين الحرير، "وحريري" عطف عام على خاص، "وسندسي" رقيق الديباج، "وعبقري"، قيل: هو الديباج، أو البسط الموشية، أو الطنافس الثخان، وأصله فيما قيل: إن عبقر قرية يسكنها الجن، فيما يزعمون، فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريبًا، مما يصعب علمه ويدق، أو شيئًا عظيما في نفسه، نسبوه إليها، فقالوا: عبقري.
وفي القاموس: العبقري الكامل في كل شيء، والسيد الذي ليس فقوه شيء، وعليه فالمراد هنا، وكثرت نفائسي الكاملة من ثياب وغيرها، ويكون من ذكر العام بعد الخاص، "ولؤلؤي" بهمزتين، وبحذفهما، وبإثبات الأولى دون الثانية، "ومرجاني"، قال الأزهري وغيره: هو صغار اللؤلؤ.
قوال الطرسوسي: هو عروق حمر، تطلع من البحر كأصابع الكف، قال: وهكذا شاهدناه بمغارب الأرض، "وفضتي، وذهبي وأكوابي": جمع كوب إناء لا عروة له ولا خرطوم، "وصحافي": جمع صحفة إناء كالقصعة، "وأباريقي" جمع أبريق إناء له عروة وخرطوم،
ومائي ولبني وخمري، فائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا، ولم يشرك بي شيئًا، ولم يتخذ من دوني أنددًا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جازيته، ومن توكل علي كفيته، إنني أنا الله، لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتًا منكرًا، ووجد ريحا منتنة فقال:"ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حري، فآتني بما وعدتني، قال: لك كل
"ومراكبي": ما يركب، "وعسلي، ومائي، ولبني وخمري" بالأنهار الأربعة، "فأتني بما وعدتني".
"قال: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي، وبرسلي، وعمل صالحًا" الطاعات، "ولم يشرك بي شيئًا"، بل لا يرائي أحدًا بعبادته لي، وحلمناه على هذا ليغاير قوله:"ولم يتخذ من دوني اندادًا" شركاء يخصهم بالعبادة، "ومن خشيني"، خافني مع الإجلال، "فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني" بإنفاقه في سبيلي لأجلي، "جازيته" جزاء مضاعفًا، كما قال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] ، "ومن توكل علي كفيته، إنني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد"، الوعد بالبعث والجزاء، "وقد" للتحقيق "أفلح" فاز "المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين"، أي: المقدرين، بزنهة اسم الفاعل، ومميز أحسن محذوف للعلم به، أي: خلقًا "قلت" الجنة: "قد رضيت ثم أتى على واد، فسمع صوتًا منكرًا" ينكره سامعه لعدم سماع نظيره في الأصوات المعتادة لشناعته وقبحه، "ووجد ريحًا منتنة": بضم الميم وكسر التاء اسم فاعل من أنتن كذا، ويجوز كسر الميم للاتباع، وضم التاء اتباعًا للميم، قليل كما في المصباح، "فقال:"ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا صوت جهنم تقول" بلسان القال: "رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي": جمع سلسلة، "وأغلالي": قيودي، "وسعيري": ناري، وسعرتها وأسعرتها: أوقدتها، وحميمي": مائي الحار غاية الحرارة، "وغساقي": بخفة السين وتثقيلها، أي: ما يسيل: ويخرج مني، لشدة حرارتي.
وفي البيضاوي وغيره: الغساق أن يسيل من صديد أهل النار، فإنهم يذوقونه، "وعذابي وقد بعد قعري، واشتد حري، فآتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة"، عطف عام على خاص؛ لأن المشرك إذا جمع مع الكافر أريد به من جعل لله
مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت، قال: فسار حتى أتى بيت المقدس.
وفي رواية أبي سعيد عند البيهقي: "دعاني داع عن يميني: انظرني أسألك، فلم أجبه، ثم دعاني آخر عن يساري كذلك فلم أجبه، وفيه: إذا امرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه أن جبريل قال له: أما الداعي الاول فهو داعي اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك، وأما الثاني فداعي النصارى ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا، وفيه: أنه صعد إلى السماء الدنيا ورأى فيها آدم، وأنه رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم نتن عليها ناس يأكلون، قال
شريكًا كعباد الأوثان، والكافر يشمل ذلك وغيره، "وكل جبار" كافر "لا يؤمن بيوم الحساب" يوم القيامة"، "قالت: قد رضيت، قال: فسار حتى أتى بيت المقدس"، وفي نسخة: أتيت، أي: فسار بي حتى أتيت.
"وفي رواية أبي سعيد" الخدري سعد بن مالك بن سنان، "عند البيهقي"، وابن جرير، وابن أبي حاتم، مردويه:"دعاني آخر عن يساري": يا محمد، انظر لي أسألك، كما في الرواية، واختصرها بقوله:"كذلك، فلم أجبه، وفيه"،أي: حديث أبي سعيد المذكور، وبينما هو يسير "إذا امرأة حاسرة": كاشفة "عن ذراعيها" اسم فاعل من حسر، إذا كشف، "وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه"، أي: الحديث المذكور، "أن جبريل قال له: أما الداعي الأول" الذي هو عن يمينه، "فهو داعي اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك"، لعل حكمة ذلك لو وقع أن الله جعل إجابته سببًا لذلك في سابق علمه، وكذا يقال في قوله.
"وأما الثاني فداعي النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا"، أما أنك لو أجبتها، اختارت أمتك الدنيا على الآخرة، هكذا في حديث أبي سعيد، المذكور وتصورت له أيضًا بصورة عجوز، إشارة إلى قلة ما بقي منها كما مر.
"وفيه": أي: الحديث المذكور، "أنه صعد إلى السماء الدنيا، ورأى فيها آدم، وأنه" بعد اجتماعه، بآدم، مضى هنيهة، و"رأى أخونة": جمع خوان بكسر المعجمة وضمها، الذي يؤكل عليه، وقال الخليل: هو المائدة "عليها لحم طيب، ليس عليها أحد" يأكل منها،
"يا جبريل: ما هذا"؟ قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام، وفيه: أنه مر بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر، وأن جبريل قال له: هم أكلة الربا، وأنه مر بقوم مشارفهم كالإبل يلتقمون حمرًا، فيخرج من أسافلهم، وأن
"وأخرى عليها لحم نتن، عليها ناس يأكلون"منها، "قال: يا جبريل ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام"، وفي لفظ عند البيهقي أيضًا وغيره: فإذا هو بأقوام على مائدة لحم عليها شوى كأحسن ما رؤي من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف، يأكلون منها، ويدعون اللحم، فقال: "من هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الزناة، يحلون ما حرم الله عليهم، وتركوا ما أحل الله لهم.
"وفيه"، أي: حديث أبي سعيد المذكور؛ "أنه مر بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر": سقط من قيام، "وأن جبريل قال له" جوابًا لقوله:"يا جبريل من هؤلاء"؟، قال:"هم أكلة الربا"، أي: الذين يتناولون من الأموال ما أخذوه على وجه الربا، وهو خاص بالمطعومات والنقود، إذا أخذت بالعقد المسمى بعقد الربا، بأن اشتمل أحد العوضين يه على زيادة، أو تأخير في البدلين، أو أحدهما، وخرج بذلك المأخوذ بعقود فاسدة، كفقد رؤية، أو شرط فاسد مع انتفاء الربا عنها، فلا يكون لفاعها ذلك الوصف، وإن أثم، ولم يملك ما أخذه.
وقد أفاد المصنف أنه اختصر الحديث، وهو كذلك، ولفظه في هذه الجملة، ثم مضى هنيهة، فإذا هو بقوم بطونهم مثال البيوت، فيه الحيات ترى من خارج بطونهم، كلما نهض أحدهم خر، يقول: اللهم لا تقم الساعة، وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى، فقال:"يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: هؤلاء من أمتك، الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، والسابلة أبناء السبيل المختلفة، وجعلوا بطريق آل فرعون يمرون عليهم غدوا وعشيًا؛ لأن آل فرعون هم أشد الناس عذابًا، يطؤنهم فضلًا عن غيرهم من الكفار، وهم لا يستطيعون القيام، ومعنى ذلك؛ أن الله وقف أمرهم بين أن ينتهوا، فيكون جزاء لهم، وبين أن يعودوا ويصروا، فيدخلهم النار واستشكل بأن هذه الحالة إن كانت عبارة عن حالهم في الآخرة، فآل فرعون قد دخلوا أشد العذاب، وإنما يعرضون على النار غدوا وعشيًا في البرزخ، وإن كانت هذه الحال التي رآهم عليها، فأي: بطون لهم، وقد صاروا عظامًا ورفاتا، ومزقوا كل ممزق، وأجيب بأنه إنما رآهم في البرزخ؛ لأنه حدث عما رأى، وهذه الحال هي حال أرواحهم بعد الموت، وفيه تصحيح لمن قال: الأرواح أجسادًا لطيفة، قابلة للنعيم والعذاب، فخلق الله تعالى في تلك الأرواح من الألم ما يجده من انفتخ بطنه حتى وطئ بالأقدام، ولا يستطيع معه قيامًا، ولا دليل فيه على أنهم أشد عذابًا من آل فرعون، بل
جبريل قاله له: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، وأنه مر بنساء يعلقن بثديهن وأنهن الزواني، وأنه مر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون، وأنهم الغمازون اللمازون.
فيه دليل على أن آل فرعون وغيرهم من الكفار الذين لا يأكلون الربا يطؤونهم ما داموا في البرزخ إلى أن يقوموا يوم القيامة، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم ينادي منادي الله:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، ذكره السهيلي؛ "وأنه مر بقوم مشافرهم": بفتح الميم، وخفة المعجمة، فألف ففاء مكسورة فراء، أي: شفاههم، "كالإبل"، لفظ الرواية: كمشافر الإبل، وعبر عن شفاههم بذلك مجازًا، إذ يقال: شفة الإنسان، ومشفر البعير: وجحفل الفرس، "يلتقمون جمرًا، فيخرج من أسافلهم".
وفي رواية: يجعل في افواههم صخر من جهنم، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى؛ "وأن جبريل قال له" جوابًا لقوله:"يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: "هؤلاء: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، كما في بقية جواب جبريل.
"وأنه مر بنساء يعلقن بثديهن": بضم المثلثة، ويقال بكسرها وكسر المهملة، جمع ثدي يذكر ويؤنث، فيقال: هو الثدي، وهي الثدي، وهو معروف، "وأنهن الزواني"، يجوز أنه رأى أرواحهن، وقد خلق فيها من الآلام ما يجده من هذه حاله، وأن يكون مثلث له حالهن في الآخرة، قاله السهيلي.
ولفظ الحديث: ثم مضى هنيهة، فإذا هو بنساء معلقات بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعهن يضججن إلى الله، فقال:"من هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء اللاتي يزين ويقتلن أولادهن.
"وأنه مر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم، فيطعمون، وأنهم الغمازون"، كذا في نسخ بغين معجمة، أي: المشيرون بأعينهم أو حواجبهم لمعايب الناس، ولما فيه ضررهم، لكن لفظ الرواية: الهمازون، بالهاء بدل الغين، وهم الذين يغتابون الناس بلا مواجهة، "اللمازون": العيابون، كما في الشامي، أي: الذين يكسرون من أعراض الناس.
قال البيضاوي: اللمز: الكسر كالهمز، شاعا في كسر أعراض الناس، والطعن فيهم.
ولفظ الحديث: ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمون، فيقال له: كل كما كنت تأكل لحم أخيك، فقال:"يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: هؤلاء الهمازون، من أمتك اللمازون.
وفي حديث أبي هريرة -عند البزار والحاكم- أنه صلى الله عليه وسلم صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتي هناك بأرواح الانبياء فأثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم: لقد فضلكم محمد.
وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس: ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة.
وفي حديث أم هانئ عند أبي يعلى: ونشر لي رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى.
وفي رواية أبي سملة ثم حانت الصلاة فأممتهم، أخرجه مسلم.
"وفي حديث أبي هريرة عند البزار، والحاكم" والبيهقي: "أنه صلى الله عليه وسلم صلى ببيت المقدس" قبل صعوده كما هو، سياق الحديث عند الثلاثة ولفظه: ثم صار إلى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى صخرة بيت المقدس، ثم دخل، فصلى "مع الملائكة"، ويأتي أنه صلى بالأنبياء أيضًا، "وأنه أتى هناك بأرواح الأنبياء، فأثنوا على الله -وفيه"، أي: الحديث، "قول إبراهيم"، لما أثنى نبينا على ربه، بعد ثناء الأنبياء، "لقد فضلكم محمد"، أي: زاد عليكم، وتميز بما أثنى به على ربه، قال ذلك إبراهيم إظهارًا لشرف المصطفى وفضله، وليس ضميرًا فيه عائدًا لما أثنوا به كما توهم؛ لأن ثنائهم إنما كان على الله، والمصنف، اختصر الحديث هنا، وسنذكره تامًا عن قريب.
"وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم، عن أنس"، عند الطبراني والبيهقي، "ثم بعث له آدم"، أي: أمر بالمجيء إليه، "فمن دونه" من الأنبياء، كما في نفس حديث أنس، "فأمهم تلك الليلة"، أي: صلى بهم إمامًا.
"وفي حديث أم هانئ عند أبي يعلى، ونشر"، أي: سيق "لي رهط من" جملة "الأنبياء"، وجمعوا حولي، عبر عن ذلك بالنشر إشارة إلى كثرتهم وتفرقهم، "منهم: إبراهيم وموسى وعيسى"، أو المعنى: أخرجوا من قبورهم عبر عنه بالنشر، تشبيهًا له ببعثهم من قبورهم وسعيهم إلى المحشر وحضورهم فيه، ويحتمل أن المراد جميع الأنبياء، مأخوذ من نشر الراعي غنمه نشرًا، من باب قتل إذا بثها، ولا ينافيه لفظ رهط من الأنبياء، لجواز أن من للبيان، وسماهم رهطًا، نظرً لقلتهم بالنسبة لغيرهم من الناس، هذا وإن كان بعيدًا لكن الحامل عليه الجمع بينه وبين قوله في الحديث: قبله آدم، فمن دونه من الأنبياء.
"وفي رواية أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل عن
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية ثابت البناني عن أنس عند مسلم قال: "فربطته"، يعني البراق، بالحلقة -وهي بإسكان اللام على الأشهر- التي تربط به الأنبياء بتذكير الضمير، إعادة على معنى الحلقة وهو الشيء، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير- قال عليه السلام: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم
أبي هريرة، رفع، "ثم حانت الصلاة"، أي: دخل وقتها، ويأتي للمصنف الخلاف في أنها الصبح، أو العشاء، ويأتي تضعيفهما، وأن الأظهر أنها من النفل المطلق، أو من الفرض الذي كان قبل الخمس، فالمراد بحانت الصلاة، دخل الوقت المأمور بالصلاة فيه، "فأممتهم": صليت بهم إمامًا، "أخرجه مسلم".
"وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: ثم أقيمت الصلاة"، أي: تهيؤا وقاموا لها، لا الإقامة المشروعة الآن؛ لأنها إنما شرعت بالمدينة، "فتدافعوا"، أي: منع كل نفسه الإمامة بعد أن طلب منه أن يكون إمامًا، وطلب من غيره التقدم عليه، "حتى قدموا محمدً صلى الله عليه وسلم"، لا ينافيه حديث ابن مسعود الآتي: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل بيدي، فقدمني، فصليت بهم المفيد، ظاهره أنهم لم يتدافعوا، ولم يقدموه؛ لأن انتظار من يؤم لا ينافي تدافعهم، أي: قول بعضهم لبعض تقدم أنت مثلًا، ولما قدمه جبريل رضوا به، فنسب هنا تقديمه إليهم لرضاهم به وسرورهم.
وفي رواية ثابت البناني عن أنس"، رفعه "عن مسلم"، قال: "أتيت بالبراق"، فوصفه، "قال": "فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته" "فربطته، يعني البراق"، تفسير من المصنف لإسقاطه أول الحديث كما ترى، "بالحلقة، وهي بإسكان اللام على الأشهر"، وقد تفتح لامها وتكسر، أو ليس في الكلام حلقة بفتح اللام، إلا جمع حالق، أو لغة ضعيفة، حكاه القاموس: "التي تربط به الأنبياء" البراق، كما رواه البيهقي لأدوابهم، كما توهمه بعض، وقد تقدم.
قال النووي: قوله به كذا في الأصول، "بتذكير الضمير إعادة"، أي: إرجاعًا للضمير، مذكرًا حملًا "على معنى الحلقة، وهو"، أي: المعنى "الشيء"، وإلا فكان الظاهر أن يقول بها؛ لأن الحلقة مؤنثة تأنيثًا لفظيًا.
وقال غيره: روي بالتأنيث والتذكير في مسلم والشفاء، "والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير"، أي: بابه المعهود المعروف، وإن كان للمسجد أبواب متعددة.
"خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة".
أي اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة، وبه نبت اللحم ونشز العظم،
وعند البيهقي، والطبراني والبزار من حديث شداد: ودخل المدينة، من بابها اليمني، ودخل المسجد من باب يميل فيه الشمس والقمر.
وروى الواسطي في فضائل بيت المقدس عن الوليد بن مسلم، قال: حدثني بعض أشياخنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عن يمين المسجد، وعن يساره نورين ساطعين، فقال:"يا جبريل ما هذان النوران"؟، قال: أما الذي عن يمينك فإن محراب أخيك داود، وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم.
"قال عليه السلام" في رواية مسلم، عن ثابت، عن أنس:"ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين"، غير الصلاة التي صلاها بالأنبياء: كما صرح به في حديث ابن مسعود الآتي، ومن ثم قيل: يحتمل أنها تحتية المسجد وأنها غيرها، "ثم خرجت" بعد صلاته بالأنبياء، الواقعة بعد هذين الركعتين، كما صرح به حديث أبي هريرة، ثم حانت الصلاة، فأممتهم، رواه مسلم.
وعند ابن إسحاق، عن أبي سعيد، فصلى بهم، أي: الأنبياء ثم أتي بإناء فيه لبن
…
إلخ، فعرض الأواني إنما كان بعد صلاته بالأنبياء، ففي هذا السياق اختصار، فليس المراد أنه خرج من المسجد بعد صلاة الركعتين، بل بعد صلاته بالأنبياء.
"فجاءني جبيل عليه اللام بإناء من خمر، وإناء من لبن"، فلم يقع في رواية مسلم هذه، وإناء من عسل، خلاف ما يوجد في نسخ سقيمة من المصنف، وإناء من عسل بعد قوله: من خمر، نعم هو ثابت في غير ما رواية، فلس النزاع في أنه أتي بإناء فيه عسل، إنما هو في العز.
ولمسلم ما ليس فيه في روايته من طريق ثابت عن أنس مرفوعًا بلا وسطة، "فاخترت"، وفي رواية، فأخذت، "اللبن، فقال جبيل: اخترت" وفي رواية: أخذت "الفطرة""بكسر الفاء".
قال ابن دحية: تطلق الفطرة على الإسلام، كخبر كل مولود يولد على الفطرة، وتطلق على أصل الخلقة، كقوله تعالى:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، و {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يوسف: 101] ، أي: مبدئ خلقهما، وقول جبريل: اخترت الفطرة، "أي: اخترت اللبن الذي عليه"، أي: بسببه، "بنيت الخلقة"، وبين بناءها عليه بقوله: "وبه نبت اللحم ونشز": "بزاي منقوطة" أي: ارتفع "العظم" وغلظ، "واخترته؛ لأنه الحلال الدائم"، هو "في دين
واخترته؛ لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام بخلاف الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر.
وقال النووي: المراد بالفطرة هنا، في قول جبريل: أخذت الفطرة الإسلام والاستقامة، قال: ومعناه -والله أعلم-: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلًا طيبًا طارهًا سائغًا للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة الأنواع الشر في الحال والمآل. انتهى.
الإسلام" فاستتر الضمير الفاعل، وحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي الدائم حله كـ {عِيشَةٍ رَاضِيَة} [الحاقة: 21] ، "بخلاف الخمر، فحرام فيما يسقر عليها الأمر".
وقد روى أبو يعلى، والبزار من حديث أبي هريرة: أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء، فشرب منه قليلًا، وفي لفظ: فلم يشرب منه شيئًا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فشرب منه حتى روي منه، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقيل له: اشرب، قال:"لا أريده قد رويت"، فقال جبريل: أما إنها ستحرم على أمتك".
قال ابن دحية أيضًا: وقد تكون الإشارة بتقديم اللبن إلى أنه شعار العلم في التعبير، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت كأني أتيت بقدح من لبن، فشربت حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: يا رسول الله ما أولته، قال: العلم" والإسراء، وإن كان يقظة، إلا أنه ربما وقعت في اليقظة إشارة إلى حكم الفأل، فيعبر كما يعبر في المنام، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، فكأنه لما لمئ قلبه إيمانا وحكمة، أردف ذلك بالعلم مطلقًا ويجعل الله تعالى شرب ذلك اللبن سببًا في ترادف العلوم، وإشحان القلب النبوي بأنوارها.
"وقال النووي: المراد بالفطرة هنا في قول جبريل: أخذت الفطرة الإسلام والاستقامة"، وبه فسرت الآية، أي: بملة الإسلام، فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه، لأدى بهم إليها، وفسرت أيضًا بخلقته التي خلقهم عليها، وهي قبولهم للحق، وتمكنهم من إدراكه، وبالعهد المأخوذ من آدم وذريته.
"قال: ومعناه، والله أعلم، اخترت علامة الإسلام، و"علامة "الاستقامة" بالجر، ففيه حذف مضاف، إذ شرب اللبن ليس هو هما، "قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلًا طيبًا" لذيذًا، "طاهرا" لا يشوبه شيء من الفرث والدم من لون، أو طعم أو ريح، وهو بينهما "سائغا للشاربين" سهل المرور في حلقهم، لا يغص به، "سليم العاقبة" في الحالة والمآل، وهذا كله تعليل لجعله علامة الإسلام والاستقامة.
"أما الخمر، فإنها أم الخبائث" كما ورد مرفوعًا عند القضاعي، بلفظ الخمر أم
وقال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لكون أول شيء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه مألوفًا له أولًا، انتهى.
وإذا كانت الخمرة مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة والإسراء كان بمكة، فما وجد تعيينه عليه السلام لأحد المباحين، وما وجه عد ذلك صوابًا وعد الآخر خطأ، وهما سواء في الإباحة؟
فيحتمل أن يكون توقاها تورعًا وتعريضًا بأنها ستحرم، وأنه لما وافق الصواب في علم الله تعالى قال له جبريل: أصبت الفطرة، أو أصبت أصاب الله
الخبائث، أي: أصلها الذي تنشأ عنه لحملها الشارب على مجاوزة الحدود، "وجالبة لأنواع الشر في الحال والمآل. انتهى".
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته"، رواه الطبراني.
"وقال القرطبي" شارح مسلم في المفهم: "ويحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة، لكونه أول شيء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر"، أي: السبب "في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه مألوفًا أولًا"، ولكونه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، "انتهى" كلام القرطبي بما زدته.
وحقيقة السر ما يكتم، وهو خلاف الإعلان، فإطلاقه على السبب مجاز مرسل من تسمية الجزئي باسم الكلي، "وإذا كانت الخمر مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة، والإسراء كان بمكة"، وجواب إذا الشرطية قوله:"فما وجه تعيينه عليها سلام لأحد المباحين"، باختياره الشرب منه، "وما وجه عد ذلك صوابًا، وعد الآخر خطأ، وهما سواء في الإباحة"، وفرع على ذلك بجواب شرط هو، وإذا أردت بيان الوجه، "فيحتمل أن يكون توقاها تورعًا" لما في تنافي تناوله الغائلة المتوقعة، وإن كان مباحًا، ولا خلاف أن مثل هذا الورع يثاب عليه، قال ابن المنير، "وتعريضًا بأنها ستحرم"، ولعل سبب التعريض، انه أوحى إليه بذلك، ولو بالإلهام، فتركها تنبيهًا على أن حلها لا يستمر، "وأنه لما وافق الصواب في علم الله تعالى، قال له جبريل: أصبت الفطرة، أو أصبت، أصاب الله بك، كما رويا" الأول في الصحيح، والثاني في غيره.
قال ابن المنير: فدل قول جبريل ذلك على أن اختيار الخمر خطأ عصم منه صلى الله عليه وسلم، وأن
بك، كما رويا، وإن قلنا: أنها كانت من خمر الجنة، فيكون سب تجنبها صورتها ومضاهاتها الخمر المحرمة، أي في علم الله تعالى، وذلك أبلغ في الورع.
ويستفاد منه: أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره، ولو ماء قراحًا، وضاهى به الخمر في الصورة وهيأه في الهيآت التي يتعاطاها أهل السماعات الشهوات من الاجتماعات فقد أتى منكرًا، وإن كان لا يحد عليه، قاله ابن المنير.
المسألة اجتهادية؛ لأن الخمر لم تكن حرمت، قال: وفيه دليل على المذهب المشهور لمالك والشافعي، وغيرهما أن المسائل الاجتهادية لله فيها حكم معين، من أصابه فقد أصاب الحق، ومن أخطأه الحق، خلافًا للقول؛ بأن حكم الله على كل مجتهد ما غلب على ظنه انتهى.
وفيه إفادة وجه، كون اختيار الخمر خطأ، وهو أن حكم الله فيها تحريمها بعد أبدًا، وإن كانت مباحة حينئذ لأمور خفيت علينا، ثم الخمر المحضرة، أنها من خمر الدنيا، وأنها من خمر الجنة التي لا يصدعون عنهان ولا ينزفون، فإذا قلنا: من خمر الدنيا، فوجه تجنبها ما تقدم.
"وإن قلنا: إنها"، أي الخمر المحضرة له، "كانت من خمر الجنة، فيكون سبب تجنبها، صورتها، ومضاهاتها" مشابهتها "الخمر المحرمة، "أي: في علم الله تعالى، وذلك أبلغ في الورع"، فإن قلت: فيلزم اجتنابها في الجنة تورعًا من صورتها، قلت: لا يلوم؛ لأن الجنة ليست دار تكاليف، قاله ابن المنير.
"ويستفاد منه؛ أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره" شيئًا يستعمله على الصفة المعتادة بين شربة الخمر، "ولو ماء قراحًا": صرفا، "وضاهى به الخمر في الصورة وهيأه في الهيئات التي يتعاطاها أهل السماعات"، لفظ ابن المنير أهل الشهوات من الاجتماعات، فقد أتى منكرًا، وإن كان لا يحد عليه".
قال، أعني ابن المنير: وقد نص العلماء على هذا، فينبغي أن يؤخذ من حديث الإسراء كما بيناه، "قاله ابن المنير" في المقتفى فيما لخصه المصنف منه فأحسن، وإلا فهو قد أتى بعبارة طويلة استطرد فيها فوائد نفيسة على عادته، وأورد قبل ذك إحضار الخمر واللبن، هل أريد إباحتها معًا أو أحدهما؟، لا بعينه، وعلى كل فمشكل؛ لأنه إن كان المراد إباحتهما معًا، كما لو أحضرت طعامين لضيف، وأبحتهما له، فما معنى اختياره لأحدهما، وتصويت جبريل له، وإن كان في أحدهما لا بعينه، بحيث يكون الآخر ممنوعًا، لزم التخيير بين ممنوع ومباح، وذلك لا يتصور.
وينظر فيما يعمله كثير من فقراء اليمن بمكة المشرفة وجدة وغيرهما من ماء قشر اللبن ويسمونه بالقهوة، وهو اسم من أسماء الخمر.
وفي حديث ابن عباس -عند أحمد-: فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدها لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن.
وفي رواية البزار: بثلاث أوان، وأن الثالث كان خمرًا، وأن ذلك وقع ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل.
وفي حديث شداد بن أوس: "فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني
قال: والذي يرفع الإشكال؛ أن المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحم، وتحليل ما يحل إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وسداد نظره المعصوم، فلما نظر فيهما أداه اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن، فوافق الصواب في حكم الله تعالى، فقال له جبريل: أصبت، وفيه اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، وهي مسألة خلاف، وهذا الحديث يحقق الجواز مع اتفاق المسلمين على أن اجتهاده معصوم، من الخطأ بخلاف غيره من العلماء.
"وينظر فيما يعلمه كثير من فقراء اليمن بمكة المشرفة وجدة": بضم الجيم، ساحل البحر بمكة، "وغيرهما من ماء قشر البن"، ثم صاروا بعد ذلك يعملونه من البن أيضًا، ويسمونه بالقهوة، وهو اسم من" أشهر "أسماء الخمر"، هل يحرم تناوله لتسميتهم بالخمر، فكأنهم شهبوه بها، وجوابه لا حرمة؛ لأنه لا يشرب على الهيئة التي يشرب عليها الخمر، ومجرد تسميته قهوة لا يقتضي أن يعطى حكمها.
"وفي حديث ابن عباس عند أحمد؛ فلما أتى المسجد الأقصى، قام يصلي، فلما انصرف" من صلاته بالأنبياء، "جيء بقدحين، في أحدهما لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن"، وهاذ موافق لرواية مسلم؛ أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ومر لفظه قريبًا.
"وفي رواية البزار" من حديث أبي هريرة، أنه جيء له "بثلاث أوان، وأن الثالث كان خمرًا، وأن ذلك وقع ببت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل"، وأخرجه ابن عائذ من هذا الوجه في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال:"ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال لي جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك، فتناولت إحداها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر، فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، قال: ألا تشرب من الثالث، قلت: قد رويت، قال: وفقك الله".
"وفي حديث شداد بن أوس" عند البزار، والطبراني، والبيهقي:"فصليت" في جانب
"من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي -يعني لجبريل-: أخذ صاحبك الفطرة".
وقد كان إتيانه بالأواني مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة.
وممن صرح بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير، وعلى هذا فيكون
"من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن، والآخر عسل"، فعدلت بينهما، هكذا في الحديث قبل قوله:"ثم هداني الله، فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدين" أسقط من الرواية، متكئ على منبر له، "يعني لجبريل: أخذ صاحبك الفطرة"، وإنه لمهدي، كما في بقية حديث شداد.
وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر، وإناء فيه لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وفي حديث أنس عند البيهقي: فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، لو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغويت أمتك.
قال الحافظ: ويجمع بين هذا الاختلاف في عدد الآنية وما فيها، بحمله على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة آنية، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء، انتهى، وسيأتي هذا في كلام المصنف.
وأما الاختلاف، أن عرض الأواني في بيت المقدس، أو بعد سدرة المنتهى، والبيت المعمور، فالجمع بينهما ما ذكره بقوله:
"وقد كان إتيانه بالأواني مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة" ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش، قاله الحافظ، "ومرة عند وصله إلى سدرة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة" التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، وفي هذا أعمال لجميع الروايات لصحتها كلها، وهو أولى من جمع الحافظ أيضًا بحمل، ثم في رواية مالك بن صعصعة؛ أنه أتى بالأواني بعد سدرة المنتهى. ورفع البيت المعمور له على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا.
"وممن صرح" على طريق الترجي؛ "بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير"، لا الجزم كما يوهمه المصنف، فعبارة الشامي.
تكرار جبريل عليه السلام بالتصويب حيث اختار اللبن تأكيدًا للتحذير مما سواه.
وقد أنكر حذيفة ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ وكذا أنكر حذيفة أيضًا صلاته عليه السلام ببيت المقدس.
وتعقبه البيهقي وابن كثير: بأن المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على من نفي ذلك، فهو أولى بالقبول.
قال السيهلي، وابن دحية، وابن المنير، وابن كثير والحافظ: ولعله قدم مرتين، أي: جمعا بين الروايات، "وعلى هذا، فيكون تكرار جبريل عليه السلام للتصويب، حيث اختار اللبن تأكيدًا للتحذير مما سواه"، أي: اللبن، وذلك السوي هو الخمر خاصة، "وقد أنكر حذيفة"، بن اليمان رضي الله عنهما "ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه"، أي: البراق، "أخاف أن يفر منه"، كذا في النسخ الصحيحة، بهمزة الإنكار، ومثلها في الفتح، والنعماني، والشامي والغيطي، فيما في نسخ: خاف بحذفها سهو من قلم المصنف أو نساخه.
"و" الحال أنه "قد سخره له عالم الغيب والشهادة" فكيف يخاف أن يفر منه، وتجويز أن خاف بلا همزة، حكاية عن كلام المحدث عنهم، وأنه رد عليهم بقوله، وقد ممنوع، إذ جميع الذين حدثوا بأنه ربطه، لم يقل أحد منهم أنه خاف أن يفر منه، والجواب عما وجه به إنكار ربطه؛ أنه لم يفعل ذلك خوفًا.
قال النووي في ربط البراق: الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، إذا كان الاعتماد على الله.
وقال السهيلي: فيه من الفقه التنبيه على الأخذ بالحزم مع صحة التوكل، وأن الإيمان بالقدر لا يمنع الحزم من توقي المهالك.
كما روي عن وهب بن منبه، "وكذا أنكر حذيفة أيضًا" في هذا الحديث "صلاته عليه السلام ببيت المقدس"، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتبت عليكم الصلاة في البيت العتيق.
"وتعقبه البيهقي وابن كثير، بأن المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت لمقدس"، وهم جمهور الصحابة "معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول" من النافي؛ لأنه لم يصحبه دليل نفيه.
ووقع في رواية بريدة عند البزار: "لما كان ليلة أسري بي، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد البراق"، ونحوه للترمذي.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: "حتى أتيت ببيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء ترطبها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس،
قال الحافظ: والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله: كتب عليكم الفرض، وأن أراد التشريع، فنلتزمه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحل، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث.
"ووقع في رواية بريدة عند البزار: "لما كان ليلة أسري بي، فأتى جبريل الصخرة"، بالفاء، في جواب لما، وهو قليل، أجازه ابن مالك ورده ابن هشام "التي ببيت المقدس" التي كانت قبلة.
قال البرقي في غريب الموطأ: هي من غرائب الدنيا، فإن جميع المياه تخرج من تحتها، وهي صخرة صماء في وسط المسجد الأقصى، كجبل بين السماء والأرض، معلقة لا يمسكها إلا الله، وفي أعلاها موضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق ليلة الإسراء، فمالت من تلك الجهة من هيبته، وفي الجهة الأخرى أثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذا مالت، وكان بعضها أبعد من الأرض من بعض، وتحتها غاز عليه باب يفتح لمن يدخله للصلاة والدعاء.
"فوضع أصبعه فيها، فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذي"، وابن حبان والحاكم، وصححه عن بريدة، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لما أنتهينا إلى بيت المقدس ليلة أسري بي، قال جبريل: بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق"، والمراد بالحجر صخرة بيت المقدس: كما في رواية البزار، فلذا اختار سياقه لصراحته، والجمع بين هذا وبين قوله في حديث أنس عند مسلم:"فربطته بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء"، ما قاله بعضهم؛ أنه صلى الله عليه وسلم ربطه أولًا بالحلقة تأدبًا واتباعًا للأنبياء، فأخذه جبريل وحله من الحلقة، وخرق الصخرة وشده بها، كأنه يقول: أنت لست ممن يكون مركوبه بالباب، بل أنت أعلى وأغلى، قلا يكون مركوبك إلا في داخل المحل، وهذا أمر مشاهدج في العادة بين الكبراء، وأما جواب الطيبي؛ بأن المراد بالحلقة الموضع الذي كان فيه الحلقة، وقد اشتد، فخرقه جبريل فرده النجم؛ بأن الحلقة وموضعها الباب، والذي خرقه جبريل بأصبعه إنما هو الصخرة، وهي داخل المسجد بعيدة عن الباب انتهى.
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل
فصل كل واحد منا ركعتين.
وفي رواية ابن مسعود نحوه، وزاد:"ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم".
وفي حديث ابن مسعود أيضًا -عند مسلم-: "وحانت الصلاة فأممتهم".
وفي حديث ابن عباس، عند أحمد: لما أتى صلى الله عليه وسلم الأقصى قام يصلي، فإذا
واحد منا ركعتين" غير الصلاة التي صلاها بالأنبياء كما هو صريحه.
قال بعضهم: يحتمل أنهما تحية المسجد، ويحتمل غير ذلك، أي: ككونهما من صلاة الليل، أو القصد بهما شغل البقعة.
قال ابن دحية: وفيه دليل على أن الصلاة لم تزل معهودة قبل أن تفرض، ومعهودة مثنى مثنى.
قال النعماني: وقد فرضت الصلاة قبل الهجرة ركعتين.
"وفي رواية ابن مسعود" عند الحسن بن عرفة وأبي نعيم "نحو، وزاد" ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم دخلت المسجد، فعرفت النببين ما بين قائم وراكع"، أي: خاشع كخشوع الراكع، فلا يرد أن الركوع من خصائص الأمة، وما صلاه المصطفى قبل الإسراء لا ركوع فيه، وكذا ظهر عقب الإسراء، وأول صلاة بركوع العصر بعدها، "وساجد، ثم أذن" كذا في النسخ، وفيها سقط، فليس هذا من رواية ابن مسعود، إنما هو عن أنس، ففي فتح الباري بعد قوله:"وساجد، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم"، وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم:"فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن -أي: أعلم بطلب الصلاة- فأقيمت الصلاة"، أي: تهيئوا لها، وشرعوا فيها، فلا يرد أن الأذان والإقامة إنما شرعًا بالمدينة، والإسراء كان بمكة، "فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا"، وفي نسخة: ننتظر وهي بمعنى ننتظر، كقوله تعالى:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، أي: ما ينتظرون، "فأخذ بيدي جبريل، فقدمني، فصليت بهم" إمامًا.
"وفي حديث ابن مسعود أيضًا عند مسلم: "وحانت الصلاة"، دخل وقت طلبهم بها، "فأممتهم": صليت بهم إمامًا.
"وفي حديث ابن عباس عند أحمد: فلما أتى صلى الله عليه وسلم" المسجد "الأقصى، قام يصلي" بعد انتظارهم من يؤمهم، وتقديم جبريل للمصطفى، "فإذا النبيون أجمعون يصلون معه"، كما
النبيون أجمعون يصلون معه.
وفي حديث أبي سعيد: "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا
في الحديث قبله، فليس المراد ظاهره؛ أنه قام يصلي وحده، فاقتدوا به؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، فإن قيل: كيف يصلي الأنبياء وهم أموات في الدار الآخرة، وليست دار عمل، أجاب عياض، وتبعه السبكي؛ بأنهم كالشهداء، بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يستبعد أن يحجوا ويصلوا، وأن يتقربوا إلى الله ما استطاعوان؛ لأنهم وإن ماتوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبها الآخرة التي هي دار الجزاء انطقع العمل، وحاصله أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وبأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها والخضوع لله، ولذا أصح عن أهل الجنة أنهم يسبحون ويدعون ويقرؤون القرآن، كما في الحديث:"إنهم يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس"، وهو معنى قوله:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الآية، وانظر إلى سجوده صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة، أليس ذلك عبادة وعملًا، وعلى كلا الجوابين لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدة البرزخ، وقد صح عن ثابت البناني التابعي أنه قال: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا أن يصلي في قبره، فأعطني ذلك، فرأي بعد موته يصلي في قبره، وتكفي رؤيته صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلي في قبره؛ ولأن جميع الأنبياء لم يقبضوا حتى خيروا في البقاء في الدنيا وبين الآخرة، ولا شك أنهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة، ثم انتقلوا إلى الجنة، فلو لم يعلموا أن انتقالهم إلى الله أكمل لما اختاروه، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوت عليهم زيادة فيما يقوب إلى الله لما اختاروه. انتهى.
"وعن أبي سعيد" الخدري، "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه"، أي: البراق، سماه فرسًا، تجوزًا لقرب صورته منها، ولا؛ لأن الفارس يطلق على مقابل الماشي، سواء ركب فرسًا، أو بغلًا، أو حمارًا؛ وتجويز أن جبريل ركب معه فرسًا لا يصح لحديث؛ أنه ركب معه على البراق، وقد جاء تسمية البراق فرسًا في ر واية أخرى؛ أنه أتى بفرس؛ فحمل عليه، وضمن ربط معنى ضم، فعداه بإلى في قوله "إلى صخرة"، أو إلى بمعنى الباء، أو عند كقوله:
أشهى إلي من الرحيق السلسل
والمراد بالصخرة هنا الحلقة التي بالباب، لا التي بداخل المسجد، بدليل قوله:"ثم دخل، فصلى مع الملائكة"، إمامًا بهم على المتبادر، فضمير صلى للنبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاته ركعتين، وهو وجبريل كما مر قريبًا.
معك؟ قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم.
فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلًا، وأعطاني ملكًا عظيمًا، وجعلني أمة قانتًا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردًا وسلامًا.
وترجيح ضمير صلى بجبريل، وأن المعنى صلى مع الملائكة لما وجدهم يصلون بعيد جدًا، بل يمنعه ما رواه الواسطي عن كعب، فأذن جبريل، ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالملائكة والمرسلين، "فلما قضيت الصلاة"، بالنباء للمفعول، أي: تمت، وفرغوا منها، "قالوا: يا جبريل من هذا معك"؟، خبر بعد خبر، أو حال، "قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين" والرسل، "قالوا: وقد أرسله إليه"، أي: طلب للحضور، لا أرسل إليه بالوحي، أم لا لقوله لهم رسول الله، "قال: نعم، قالوا: حياه الله"، أي: أبقاه، وسلمه وملكه ما أعظمه وأكرمه "من أخ"، فمن متعلق بمحذوف، أو مبنية للضمير، أو زائدة، وجعلواه أخا لهم؛ لأن المراد أخوة الإيمان، "ومن خليفة" لله تعالى لعمارة الأرض وسياستها، وتكميل النفوس البشرية، وتنفيذ الأوامر الإلهية، لا لاحتياجه تعالى، بل لقصور الخلق عن التلقي بلا واسطة فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ثم لقوا"، أي: المصطفى واملائكة ببيت المقدس بعد انقضاء الصلاة "أرواح الأنبياء" متشكلة بصور أجسادهم، "فأثنوا"، أي: الأنبياء "على ربهم"، وتجويز أن المثنى الملائكة لملاقاتهم الأنبياء، كما يقول: من رأى صالحًا، الحمد لله الذي من علي بلقائك، يمنعه قوله، "فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلًا" صفيًا خالص المحبة له، "وأعطاني ملكًا عظيمًا".
قال ابن دحية: لا يعهد لإبراهيم ملك عرفي، فإما أن يراد بالملك الإضافة إليه نفسه، لقهره عظماء الملوك، وناهيك بنمروذ وقد قهره الله لحليله وعجزه عنه، وغاية الملك العظيم قهر الملك العظيم، فالقاهر أعظم من المقهور قطعًا، أو يراد الإضافة إلى بنيه وذريته نحو ملك يوسف، ولهم جرًا، كملك داود وسليمان، والكل من ولد إبراهيم، وفي التنزيل:{آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] ، والإشارة هنا إلى ذريته، وإما أن يراد ملك النفس في مظنة الاضطرار مثل ملكه لنفسه، وقد سأله جبريل: ألك حاجة؟ قال: "أما إليك فلا"، "وجعلني أمة": إمامًا جامعًا لخصال الخير، وفضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة، والجامع لذلك أمة لقيامه مقام الجماعة، كأنه اجتمع فيه ما تفرق في غيره، كقوله:
ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد الله الذي كلمني تكليمًا، واصطفاني، وأنزل علي التوراة، وجعل هلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قومًا يهدون بالحق وبه يعدلون.
ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن معي والطير وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.
وليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
"قانتًا" مطيعًا، "ثؤتم": يقتدى "بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردًا": ذهبت حرارتها: فلم تحرق غير وثاقه، وبقيت إضاءتها، "وسلامًا" سلم من الموت ببردها، "ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليمًا" بلا واسطة "واصطفاني"، واختارني على أهل زماني.
قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ، "وأنزل علي التوراة" فيها هدى ونور، وسماها الله تعالى الفرقان لفرقها بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وبصائر للناس، وهدى ورحمة، "وجعل هلاك فرعون" على يدي، "ونجاة بني إسرائيل على يدي"، يتنازعه هلالك ونجاة، "وجعل من أمتي قومًا يهدون" الناس "بالحق، وبه يعدلون" ويحكمون، "ثم إن داود أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا" في بني إسرائيل، ولم يجتمعوا على نبي قبله، "وعلمني الزبور": كتاب الله المنزل عليه، "وألان في الحديد"، فكان في يدي كالعجين، "وسخر لي الجبال، يسبحن معي" بالعشي، وقت صلاة العشاء، والإشراق وقت صلاة الضحى، وهو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها.
وفي التنزيل: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10]، أي: سبحي معه، قاله مجاهد: رواه الفريابي، وعن الضحاك: هو التسبيح، بلغة الحبشة، قال ابن كثير: فيه نظر، فالتأويب لغة الترجيح، وقال وهب: نوحي معه، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها، أو بحملها إياه على التسبيح، إذا تأمل فيها، وقيل: سيري معه حيث سار والتضعيف للتكثير، "والطير"، قال تعالى:{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] ، للتسبيح معه لأمره به، إذا وجد فترة لينشط للتسيبح، "وآتاني الحكمة" النبوة والإصابة في الأمور، "وفصل الخطاب"، البيان الشافي في كل قصد.
وفي البيضاوي: وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل، أو الكلام الملخص الذي ينبه
ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد الله الذي سخر لي الرياح، وسخر لي الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلًا، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والجن، والطير وآتاني ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل لي ملكًا طيبًا ليس علي فيه حساب.
المخاطب على المقصود من غير التباس، يراعى في مظان الفصل والوصل، والعطف والاستئناف، والإضمار والإظهار، والحذف والتكرار، ونحوها.
"ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح"، ذللها لطاعتي إجابة لدعوتي، تجري بأمره رخاء: لينة من الرخاوة، لا تزعزع، أو لا تخالف إرادته، كالمأمور المنقاد حيث أصاب، أي: أراد، "وسخر لي الشياطين يعملون" لي "ما شئت من محاريب": أبنية مرتفعة يصعد إليها بردج كالقصور، سميت بها؛ لأنها يذب عنها ويحارب عليها، "وتماثيل": جمع تمثال، وهو كل شيء مثلثه بشيء، أي: صورًا من نحاس وزجاج ورخام، ولم يكن اتخاذ الصور حرامًا في شريعته.
وأسقط المصنف من حديث أبيس سعيد: وجفان كالجوابي وقدور راسيات، وكذا هو ثابت في حديث أبي هريرة عند البيهقي وغيره، وهو موافق للقرآن، فكأنه سقط من قلم المصنف سهوًا، والجوابي: جمع جابية وهي حوض كبير: يجتمع على الجفنة ألف رجل يأكلون منها، وقدور راسيات ثابتات لها قوائم، لا تحرك عن أماكنها: تتخذ من الجبال باليمن يصعد إليها بالسلاليم.
"وعلمني منطق الطير"، أي: فهم أصواته، "وآتاني من كل شيء" يؤتاه الأنبياء والملوك "فضلًا" مبينًا ظاهرًا، "وسخر لي جنود الشياطين، أي: أعوانا هم الشياطين، فهو من إضافة الأعم إلى الأخص، أو إضافة بيانية، "والإنس والجن" ظاهره أنهم غير الشياطين، وهو كذلك باعتبار الإيمان، فمن كفر من الجن يقال له: شيطان، كما في حياة الحيوان وغيرها، "والطير" أسقط من الحديث: وفضلني عل كثير من عباده المؤمنين، قبل قوله "وآتاني ملكًا لا ينبغي"، لا يكون "لأحد من بعدي"، أي: سواء، ولو في حياتي، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] ، أي: سواء، "وجعل لي ملكًا طيبًا ليس علي فيه حساب" ولا عقاب، كما في الرواية، لعصمته من الظلم المؤدي إلى ذلك، فهو وإن اتسع ملكه بحيث تجري العادة في مثله بترتب الحساب والعقاب، لم يحصل فيه شيء يقتضيهما للملوك، لا سيما الجبابرة.
ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعلني مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
قال: وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم على ربه فقال: كلكم أثنى على ربه وأنا أثني على ربي: فأٌول الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرًا
"ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد الله الذي جعلني كلمته"، أي: مكونًا بها، وهي قوله تعالى: كن من غير واسطة أب ولا نطفة، "وجعلني مثل آدم"، كشأنه في خلقه من غير أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس "خلقه"، أي: آدم، أي: قالبه "من تراب، ثم قال له: كن" بشرًا، "فيكون"، أي: فكان، وكذلك عيسى قاله له: كن من غير أب، فكان، والجملة مفسرة للتمثيل، مبينة لما به الشبه، "وعلمني الكتاب" الخط، أو جنس الكتب الإلهية، "والحكمة"، أي: العلوم وتهذيب الأخلاق، "والتوراة" النازلة قبله على موسى، "والإنجيل" المنزل على عيسى، "وجعلني أخلق"، أصور "من الطين كهيئة الطير"، مثل صورته والكاف اسم مفعول، "فأنفخ فيه"، الضمير للكاف، أو للطين، أو للطير، وهكذا بالتذكير في آل عمرا، وبالتأنيث في المائدة، عائدًا للهيئة، وهنو تفنن على عدة العرب في التفنن في الكلام، "فيكون طيرًا بإذن الله"، أي: بإرادته، "وجعلني أبرئ": أشفي "الأكمه" الذي ولد أعمى: "والأبرص": وخصا؛ لأنهما داء أعياء، وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء، بشرط الإيمان، "وأحيي الموتى بإذن الله"، بإرادته، فأحيا عاذر صديقا له، وابن العجوز، وابن العاشر، فعاشوا وولد لهم، وسام بن نوح، ومات في الحال، "ورفعني" إليه من الدنيا بلا موت، "وطهرني": بعدني من الذين كفروا، "وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم" المطرود، "فلم يكن للشيطان علينا سبيل": قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد: فيستهل صارخًا إلا مريم وابنها"، رواه الشيخان.
"قال: وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، فقال: "كلكم" يا هؤلاء الذين أثنوا، "أثنى على ربه، وأنا أثني على ربي، فأقول: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين" المسلمين، لسعادتهم في الدارين في معاشهم ومعادهم، والكافرين، بأمنهم من الخسف، والمسخ والاستئصال، "وكافة للناس"، بيان لعموم رسالته، فهو إما صفة مصدر، أي: إرساله كافة، أي:
"ونذيرًا، وأنزل علي الفرقان، فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي أمة وسطًا، وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحًا وخاتمًا".
عامة كفتهم عن الخروج منها، فهو مفعول مطلق لأرسلني، أو اسم فاعل حال من الياء، أي: حال كوني كافا للناس، فالتاء للمبالغة وكونه حالًا من الناس، مقدمًا على صاحبها المجرور قول ضعيف، "بشيرًا"، أي: مبشرؤًا بالخير لمن آمن وأتقى، "ونذيرًا": منذرًا، محذرًا من كفر وعصى، وهو حال مترادفة، أو متداخلة حمدًا، لا على ما أنعم عليه، ثم ثنى بماله من المنافع والفوائد، وبعبارة كافة، أي: جامعًا في الإنذار والإبلاغ من الكف، بمعنى الجمع، ومنه كف الثواب، وهو جمعه بالخياطة، والهاء للمبالغة، كعلامة ونحوها، وقيل: معناه مانعًا ورادعًا من الكفر، وسائر المعاصي من الكف، بمعنى المنع، والهاء للمبالغة أيضًا، ونصب كافة على الوجهين حال من المفعول في أرسلني، "وأنزل علي الفرقان": من أسماء القرآن؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، وهذا عام لغة، وعليه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] ، ثم خص عرفًا بالقرآن، فصار علمًا له بالغلبة، وأصله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده، وهو مصدر بمعنى الفارق، أو المفرق آياته، أو إنزاله "فيه تبيان كل شيء": بكسر التاء البيان الشافي، كما قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، أي: يحتاج إليه من الأمور المهمة الشرعية، تفصيلًا في بعض، وإجمالًا في بعض، وأحاله على الرسول عغليه السلام في أمره باتباعه بقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وعلى الإجماع بقوله، ويتبع غير سبيل المؤمنين وهو شامل للقياس والاجتهاد، كما في الكشاف وغيره.
"وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس" كم في الكتاب العزيز: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] ، "وجعل أمتي أمة وسطًا"، أي: خيارًا عدولًا، جامعين بين العمل والعلم، وسائر الصفات التي بين التفريط والإفراط.
"وجعل أمتي هم الأولون" في دخول الجنة، "والآخرون" في الوجود، وهم ضمير مبتدأ مفيد للحصر، لا ضمير فصل؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: الأولين، "وشرح لي صدري": وسعه بالعلم والإيمان والحكمة واليقين: بحيث لا أحزن على أمر من أمور الدنيا، أو شقه وملأه بالأنوار، كما مر، "ووضع عني وزري": طهر قلبي من حظ الشيطان، وعصمني فلا أرتكب ذنبًا، ولذا قال:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [القلم: 2] ، فسوى بينهما لعدم وقوعهما، أو خفف أعباء النبوة والتبليغ بإفاضة منته علي، والجملتان في غاية التناسب، "ورفع لي ذكري": جعلني مذكورًا في الملأ الأعلى، وجعل اسمي طراز الجنان، ومقرونا باسمه تعالى على كل
فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء، ذكره القاضي عياض في "الشفاء" مختصرًا من حديث أبي هريرة من غير عزو.
ورواه البيهقي من حديث أبي سعيد الخدري، وهذا لفظه.
لسان، وعلى المنابر في إقامة وأذان، قال حسان:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
…
إذا قال في الخمس المؤذن: أشهد
"وجعلني فاتحًا" لأبوب الإيمان والهداية إلى الصراط المستقيم، ولبيان أسباب التوفيق، وما استغلق من العلم، أو هو من الفتح بمعنى الحكم، فجعله حاكمًا كما في خلقه، ففتح ما انغلق بين الخصمين، بإحيائه الحق وإيضاحه، وإماتته الباطل وإدحاضه، أو فاتحًا بالشفاعة يوم القيامة، "وخاتمًا" للنبيين، أي: آخرهم بعثًا.
"فقال إبراهيم: بهذا"، أي: بمجموع ما ذكر، وبكل واحدة منها لا بالأولى فقط، كما زعم "فضلكم محمد"، أي: زاد فضله عليكم، وقدم المعمول للحصر، وقال هذا إبراهيم خطابًا للأنبياء إذاعة لفضله لما سمع ثناءه، "ثم ذكر" في هذا الحديث؛ "أنه عرج به إلى السماء الدنيا": القريبة إلينا من بين السبع سموات، "ومن سماء إلى سماء، ذكره القاضي عياض في الشفاء مختصرًا"، بمعنى أنه لم يذكر ثناء الأنبياء، بل قال: فأثنوا على ربهم، وذكر كلام كل واحد منهم، وهم: إبراهيم وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان؛ ثم ذكر كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلكم".... فذكره بلفظ المصنف هنا "من حديث أبي هريرة من غير عزو" لمخرج، وقد أخرجه أبو يعلى، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي، كلهم من حديث أبي هريرة، فما يوهمه قول المصنف، "ورواه"، أي: الحديث الذي ذكره أولًا بقوله.
وعن أبي سعيد: ثم سار حتى أتى بيت المقدس إلى هنا، لا قوله: ثم عرج به إلى السماء، كما زعمه من لم يقف على شيء.
"البيهقي من حديث أبي سعيد" الخدري، "وهذا لفظه": من أن البيهقي لم يروه عن أبي هريرة، وأن عياضًا، وهم في نسبته له، ليس بمراد، وروى أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، مرفوعًا: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم، وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى، فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى، فقال: أما وجبتها، فلا يعلم بها أحد إلى الله، وفيما عهد إلى ربي أن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني، ذاب كما يذوب الرصاص، فيهكله الله إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر ليقول: يا مسلم إن تحتي كافرًا، فتعال فاقتله، فيهلكهم الله، ثم ترجع الناس
وفي رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أنس: لما بلغ بيت المقدس، فبلغ المكان الذي يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذي به فغمز جبريل بأصبعه فثقبه ثم ربطها، ثم صعدا، فلما استويا في سرحة المسجد قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال:"نعم"، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة
إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم لا يطؤون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم ترجع الناس إلي فيشكونهم، فأدعوا الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، فينزل الله المطر، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم، ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك، فإن الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها، ليلًا أو نهارًا، وتجوى "بالجيم": أي تنتن وقوله: فيهلكه الله إذا رآني، أي: على يدي، بقتلي له بعد هروبه، لا بمجرد رؤيته، وقوله: حتى إن الشجر غاية لمقدر، ففي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، مرفوعًا:"فإذا انصرف، أي: من الصلاة خلف المهدي، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون وراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى، وساج، فإنا نظر إليه الدجال ذاب، كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هارًا، ويقول عيسى: إن لي فيك ضربة لن تسبقني، فيدركه عند باب لد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل، تتوافى به دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم، لا تنطق، إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله".
"وفي رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أنس: لما بلغ بيت المقدس، فبلغ"، أي: فسار حتى بلغ، "المكان الذي يقال له باب محمد" الآن بعد دخوله صلى الله عليه وسلم منه، ويحتمل أنه كان معروفًا عندهم قبل المعراج، وبهاذ الاسم من الأنبياء والكتب القديمة، "أتى إلى الحجر" جواب لما "الذي به" وهو الصخرة المعروفة، "فغمز جبريل بإصبعه، فثقبه، ثم ربطها" أي: الدابة، وهو البراق، وفي نسخة: ثم "صعدا" أي: مرا بعد ربط البراق، وإلا فلا معنى للصعود هنا، وأكثر النسخ بإسقاطها وهي ظاهرة.
"فلما استويا في سرحة" بسين مهملة وراء وحاء، أي: فناء "المسجد"، أي ساحته التي في وسطه، وفي نسخة: صراحة المسجد بصاد مهملة، وهي ظاهرة، أي: ساحته وفي نسخة: عرضه المسجد، أي: ساحته التي لا بناء فيها، ونقل الشامي هذا الحديث بعينه، بلفظ: في صخرة المسجد، أي: عندها.
"قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين": بكسر العين جمع عيناء، حسنة العينين واسعتهما، والحور: النساء البيض، اللواتي بأعينهن حور، وهو شدة بياض بياضها،
"فسلم عليهن: قال: فسلمت عليهن فرددن علي السلام، فقلت: لمن أنتن؟ ققلن: خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرًا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، قال: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل عليه السلام بيدي فقدمني فصليت بهم، فلما انصرفت قال لي جبريل: أتدري من صلى خلفك؟ قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله".
قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السماء من ذكر أنه عليه السلام رآه في السماوات ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضًا، والأظهر أن
وسواد سوادها، وقيل: الحور اسوداد المقلة كلها، كعيون الظباء، قالوا: ولا حور في الإنسان وإنما قيل ذلك في النساء على التشبيه، "قال:"نعم"، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة"، فإنهن من الحور العين، "فسلم عليهن، قال" صلى الله عليه وسلم: فانطلقت، "فسلمت عليهن، فرددن علي السلام، فقلت: لمن أنتن؟، فقلن: خيرات" أخلاقًا، "حسان" وجوها: جمع حسناء، وقيل: خيرات: جمع خيرة بفتح فسكون، وهي الحوارء، "نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا" بفتح الياء والراء، أو بضم الياء وكسر الراء، أي: لم يصبهم درن، وهو الوسخ، "وأقاموا، فلم يظعنوا"، يرتحلوا من محل لآخر، فتصيبهم مشقة الظعن، "وخلدوا، فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت" من عند الحور، "فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة"، تقدم المراد بهما؛ "قال: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل عليه السلام بيدي، فقدمني، فصليت بهم، فلما انصرفت" من السلاة، "قال لي جبريل: أتدري من صلى خلفك؟، قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله" تعالى، أي: أوحي إليه بشرع، فشمل الأنبياء والمرسلين لقوله في الحديث السابق: "فإذا النبيون أجمعون يصلون معه"، ثم ظاهر سياق هذا الحديث يخالف قوله في الرواية السابقة، ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة، فأممتهم.
"قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس قبل العروج.
قال الشامي: وهو الذي تظافرت به الروايات، واستظهره الحافظ "ثم صعد منهم إلى السماء من ذكر أنه عليه السلام رآه في السموات" آدم، فيحيى وعيسى، فيوسف، فإدريس، فهارون فموسى فإبراهيم، "ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء فهبطوا أيضًا"
صلاته بهم في بيت المقدس كان قبل العروج. انتهى.
وقال ابن كثير: صلى بهم ببيت المقدس قبل العرج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى.
وقد اختلف في هذه الصلاة، هل هي فرض أو نفل؟ وإذا قلنا: إنها فرض، فأي صلاة هي؟
قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون العشاء، وإنما يتأتى على قول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم قبل عروجه إلى السماء، وأما على قول من قال:
للصلاة معه.
قال الشامي: وصححه ابن كثير، وقوله: والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العوج، انتهى" ظاهره أنه من كلام عياض، وليس كذلك.
إنما هو للحافظ، ذكره في فتح الباري بعد كلام عياض، وكذا عزاه له تلميذه النعماني، ثم الشامي، ثم الغيطي.
"وقال ابن كثير: صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى"، وهذا منابذ لنقله عن ابن كثير نفسه، ومن قوله: الظاهر أنه بعد رجوعه إلى ما يأتي بعد أسطر، وقد نسب النعماني ما هنا لنفسه، وتبعه الشامي فعزا له.
"وقد اخلتف في هذه الصلاة"؛ هل هي الشرعية المعروفة، أو اللغوية؟، وصواب الأول؛ لأن النص يحمل على حقيقته الشرعية قبل اللغوية ما لم يتعذر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا، فوجب حمله على الشرعية، وعلى هذا اختلف "هل هي فرض"؟، ويدل عليه، كما قال النعماني حديث أنس عند ابن أبي حاتم المتقدم قريبًا للمصنف، "أو نفل، وإذا قلنا: إنها فرض، فأي: صلاة هي؟، قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون العشاء، وإنما يتأتى على قول من قاله: إنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم قبل عروجه إلى السماء.
وفي النعماني: إنما يتأتلى على أن الإسراء من أول الليل، لكن قال بعض رواة حديث الإسراء: إنه بعد صلاة العشاء، "وأما على قول من قال: صلى بهم بعد العروج، فتكون الصبح"؛ والاحتمالان، كما قال الشامي ليسا بشيء، سواء قلنا: صلى بهم قبل العروج أو بعده؛ لأن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس مطلقًا الظهر بمكة باتفاق، ومن حمل الأولية على مكة، فعليه الدليل، قال: والذي ظهر أنها كانت من النفل المطلق، أو كانت من الصلاة المفروضة عليه قبل ليلة الإسراء، وفي فتاوى النووي ما يؤيد الثاني.
صلى بهم بعد العروج فتكون الصبح.
قال ابن كثير: ومن لناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، والظاهر أنه بعد رجوعه إليهم؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل من يسأل جبريل عنهم واحدًا بعد واحدًا، وهو يخبره بهم، ثم قال: وهذا هو اللائقق؛ لأنه أولًا كان مطلوبًا إلى الجناب العلوي، ليفرض الله عليه وعل أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه عليهم بتقدمه في الإمامة.
وفي رواية ابن إسحاق: أنه عليه السلام قال: "لما فرغت مما كان في بيت
"قال ابن كثير: ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس"، فهو الواجب القبول، "والظاهر أنه بعد رجوعه إليهم؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم" من السماوات "جعل من يسأل جبريل عنهم واحدًا بعد واحد، وهو يخبره بهم"، فلو رآهم قبل العروج ما حسن السؤال ولا الجواب، ولكن هذا عقلي يدفعه قوله: ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين ما بين قائم، وراكع وساجد، والسؤال عنهم بعد ذلك في السماوات لا يستلزم أنه لم يرهم قبل، لجواز اختلاف الصفة.
وقد نقل الحافظ، أن رؤيته الذين صلوا ببيت المقدس تحتمل الأرواح خاصة، والأرواح بأجسادها، وأما في السماء، فمحمولة على الأرواح إلا عيسى، لما أثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك، ويأتي ذلك للمصنف.
"ثم قال" ابن كثير: "وهذ هو اللائق؛ لأنه أولًا كان مطلوبًا إلى الجناب العلوي، ليفرض الله عليه وعلى أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين"، وهذا أيضًا عقلي لا ينهض حجة في المدعي؛ لأنه قدم على هذا الأمر العظيم الذي ليس في طوق بشر يناسبه بالانتقال من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وما رآه في سيره من الآيات، ثم دخوله الأقصى وصلاته ركعتين، فناسب أن يجتمع بإخوانه ليزيد إيناسه بالاجتماع بجنسه "ثم أظهر شرفه عليهم بتقديمه في الإمامة"، ثم ثناء من أثنى منهم على ربه، وزيادة ثنائه عليهم، وقول إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، فيتلقى المعراج بقلب قوي، فلا يكون عنده وحشة في العالم العلوي.
"وفي رواية ابن إسحاق"، عن أبي سعيد، "أنه عليه السلام قال:"لما فرغت مما كان في بيت المقدس" من صلاته الركعتين، وصلاته بالأنبياء وثنائهم على الله، "أتي بالمعراج"
"المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر قط شيئًا أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدني صاحبي جبريل فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء".
وفي روياة كعب: "فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل".
وفي "شرف المصطفى" أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد باللؤلؤ عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة.
وفي رواية أبي سعيد -عند البيهقي- "ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق
الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، كما في الرواية الآتية، "ولم أر قط شيئًا أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر"، ولو كان الميت أعمى، كما في شرح الصدور، فالميت يكشف له إذا احتضر عن المعراج، فيراه، فيمد عينه إليه، فإذا قبضت روحه، صعدت فيه إلى حيث شاء الله، "فأصعدني صاحبي جبريل فيه، حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء"، أي: الدنيا، كما مر في الحديث.
"وفي رواية كعب" عند الواسطي في فضائل بيت المقدس؛ "فوضعت له مرقاة من فضة، ومرقاة من ذهب"، وهو المعراج، "حتى عرج هو وجبريل" عليها، والمرقاة موضع الرقي، ويجوز فتح الميم على أنه موضع الارتقاء، وكسرها تشبيها باسم الآلة، كالمطهرة، وأنكره أبو عبيد وقال: لم تقله العرب.
"وفي" رواية لابن سعد في كتاب "شرف المصطفى؛ أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس"، قال صلى الله عليه وسلم:"الفردوس أعلى الجنة ووسطها، وفوقه عرض الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس" رواه ابن ماجه، وصححه الحاكم.
"وأنه منضد اللؤلؤ"، أي: جمع عليه بحيث عمه بجعل بعضه فوق بعض، "وعن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة".
"وفي رواية أبي سعيد عند البيهقي: ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت"، استفهام قصد به تقرير المبالغة في حسنه، "حين يشق بصره"، أي: تنفتح عيناه عند الاحتضار انفتاحًا لا يرتد عما رآه، قال المجد: شق بصر الميت، نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، ولا تقل شق الميت بصره فأفاد أنه لازم، وفسره الفقهاء بيشخص بصره، ولعله إشارة إلى أنه صار كالشاخص الذي لا يتحرك من
"بصره طامحًا إلى السماء، فإن ذلك عجبه بالمعراج".
وقد تقدم في حديث البخاري السابق: "فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاسفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم".
ولم يقل جبريل عليه السلام: أنا، حيث قال له: من هذا؟ إنما سمى نفسه فقال: جبريل؛ لأن لفظ "أنا" فيه إشعار بالعظمة، وفي الكلام السائر: أول من قال: "أنا" إبليس فشقي، وأيضًا فقوله:"أنا" مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان.
وعلى هذا ف ينبغي للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟ لا يقول: "أنا"، بل
شدة نظره للمعراج الذي تعرج روحه عليه، وترى بصرية حالة كونه، "طامحًا"، أي: رافقًا بصره إلى السماء، "فإن ذلك"، أي: سببه "عجبه بالمعراج، وقد تقدم في حديث البخاري السابق" عن مالك بن صعصعة "فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل: من هذا؟، قال: جبريل: قيل: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟، قال: نعم، ولم يقل جبريل عليه السلام: أنا حيث قال له: من هذا؟، إنما سمى نفسه، فقال جبريل"، واقتصر عليه؛ لأنه ليس في الملائكة من تسمى بهذا الاسم غيره؛ "لأن لفظ أنا فيه إشعار بالعظمة" التي لا تخلو عن نوع تكبر، كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر سمي لسمو مقامي، قاله ابن الجوزي.
قال بعضهم: وعادة العارفين المتقنين، أن يذكر أحدهم اسمه بدل قوله أنا، ولا في نحو إقرار، بحق، فالضمير أولى، "وفي الكلام السائر" الجاري بين الناس، "أول من قال أنا إبليس، فشقي"، وقال فرعون: أنا ربكم الأعلى فتعس، "وأيضًا، فقوله أنا مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان"، والضمير إذا عاد وتعين مضمره كان أعرف المعارف، والمستأذن محجوب عن المستأذن عليه، غير متعين عنده، فكأنه أحاله على جهالة، كما في ابن المنير وغيره.
"وعلى هذا فينبغي للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟، أن لا يقول: أنا، بل يقول: فلان"، ويصف نفسه بما يميزه عن غيره، فلا يكفي أن يقول محمدًا مثلًا، إلا إذا كان معروفًا للمخاطب بذلك الاسم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الذي استأذن عله، فقال:"من هذا؟، فقال: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أنا" إنكارًا عليه، قاله ابن المنير وغيره.
وقال بعض المحققين: ذهبت طائفة من العلماء، وفرقة من الصوفية إلى كراهة إخبار الرجل
يقول: فلان.
وفي رواية للبخاري ومسلم: فعرج، وهو بفتح العين بمعنى صعد.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه مالك يقال له: إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.
عن نسفه بأنا، تمسكا بظاهر الحديث حتى قالوا: كلمة أنا لم تزل مشؤومة على أصحابها، وزادوا أن إبليس إنما لعن بقولها، وليس كما قالوا، بل النهي عنه لما صحبه من النظر إلى نفسه بالخيرية: ولا تنكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم، وإشاراتهم في التبري من الدعاوي الوجودية، لكن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون ما فيه من التعلق بالقول، كيف وقد ناقض أقوالهم نصوص كثيرة، وهم أشد الناس فرارًا من مخالفتها، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، {أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأعراف: 143] ، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} [ص: 86] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم"، والحاصل كما قال بعض الأفاضل؛ أن ذلك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمقامات، فالمتردد في الأحوال، المتحول في الفناء والتلوين ينافي حاله أن يقول أنا، ومن رقي إلى مقام البقاء بالله، وتصاعد إلى درجات التمكين فلا يضره.
"وفي رواية البخاري" ففي الصلاة وغيرها، "ومسلم" في الإيمان من حديث أنس، عن أبي ذر:"فعرج" بي جبريل إلى السماء الدنيا، بدل قوله في رواية ابن صعصعة: فانطلق، "وهو بفتح العين" والفاء والراء، "بمعنى صعد".
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي" وابن إسحاق: "حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء، يقال له: بال الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل"؛ وهو صاحب سماء الدنيا، كما في رواية البيهقي عن أبي سعيد.
وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي معضلًا أيضًا: يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن علم ذلك بإخباره عليه السلم به قبل موته؛ لأن هذا لا مدخل فيه للرأي.
"تحت يده اثنا عشر ألف ملك"، ينقادون لأمره ونهيه كالجند، زاد في رواية ابن إسحاق: مع كل ملك اثنا عشر ملك، وروى ابن جرير والبيهقي في الدلائل من حديث أبي سعيد: وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مائة ألف.
وفي رواية للبزار: تحت يده سبعون ألف ملك، تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك، ولعل المراد التكثير، فلا يخالف مائة ألف، ولعل الإثني عشر ألفًا رؤساء السبعين ألفًا، وكذا الإثنا
وفي رواية شريك -عند البخاري أيضًا- ثم عرج به إلى سماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل سماء الدنيا: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا وأهلًا، فيستبشر به اهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، أي على لسان من شاء كجبريل.
ووقع في هذه الرواية أيضًا أنه رأى في سماء الدنيا النيل والفرات عنصرهما.
وظاهرها يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: وإذا في أصلها أربعة أنهار.
ويجمع بينهما: بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض.
عشر ألفًا الذين مع كل ملك رؤساء على باقي المائة ألف، فلا خلف، والله أعلم.
"وفي رواية شريك" بن عبد الله المدني، عن أنس، "وعند البخاري أيضًا، ثم عرج" جبريل "به"، بالنبي صلى الله عليه وسلم "إلى سماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل سماء الدنيا"، أي: جنسهم الصادق بالحفظة للباب: "من هذا"؟، الذي يدق الباب.
وفي حديث أبي ذر: فلما جئت إلى السماء، قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح قال: من هذا؟، "قال: جبريل قالوا: ومن معك؟، قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟، قال: نعم، قالوا: مرحبًا وأهلًا، فيستبشر به أهل السماء"، سقطت الفاء من رواية الأصيلي، وزاد الدنيا، "لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعملهم، أي: على لسان من شاء، كجبريل" عليه السلام، "ووقع في هذه الرواية"، أي: رواية شريك عن أنس "أيضًا، أنه رأى في سماء الدنيا النيل والفرات، عنصرهما" بضم المهملتين، بينهما نون ساكنة أصلهما الذي تميزا به عن نهري الجنة، فينزلان إلى سمءا الدنيا، ثم ينزلان إلى الأرض بدل مما قبله.
ولفظ رواية شريك: فإذ هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان: فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟، قال: هذا الني والفرات عنصرهما، "وظاهرها"، أي: هذه الرواية "يخالف حديث مالك بن صعصعة، فإن فيه بعد ذكر سدرة المتنتهى، وإذا في أصلها أربعة أنهار"، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، "ويجمع بينهما؛ بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض" وجمع ابن دحية، بأنه رأى هذين عند سدرة المنتهى
ووقع في هذه الروياة أيضًا: ثم مضى به في السماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، وأنه الكوثر.
وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر من الجنة، والجنة فوق السماء السابعة، ويحتمل أن يكون تقديره: ثم مضى في سماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر.
ثم إن قوله في الحديث: "استفتح" دلالة على أنه صادف أبواب السماء مغلقة، والحكمة في ذلك -والله أعلم- التنويه بقدره عليه السلام، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتحة لم يتحرر أنها فتحت
مع نهري الجنة، ورآههما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعنصر عنصر انشتارهما السماء الدنيا، وكان الحافظ لم يرتضه لقوله، كذا قال ابن دحية انتهى، وتبعه المصنف فيما يأتي وجمع غيره بأن منبعهما من السدرة، وإذا نزلا إلى الأرض، يسلكان أولًا على الجنة، فيدخلانها، ثم ينزلان إلى الأرض بعد ذلك، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله قريبًا.
"ووقع في هذه الروياة أيضًا: ثم مضى به في السماء الدنيا، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، وأنه" فسره جبريل بقوله: هذا "الكوثر"، ولفظه عقب زبرجد، فضرب يده، فإذا هو مسك، قال:"ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الكوثر الذي خبا لك ربك، "وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر في الجنة، والجنة فوق السماء السابعة، ويحتمل الجمع برد رواية شريك إلى هذا، وهو "أن يكون" هناك حذف "تقديره: ثم مضى في سماء الدنيا إلى السابعة، فإذا هو بنهر"، كذا ذكره الحافظ، واستبعده تلميذه القطب الخيضري في الخصائص، بأن بين الأولى والسابعة خمس سماوات، كل منها له صفة غير صفة الأخرى، ولها أبواب وخدام غير الأخرى، فإطلاق المسير إليها بعيد، وذكرها بعد السادسة مما يبعده أيضًا لكن قد يقال من غير استبعاد؛ أن أصل الكوثر في الجنة، وجعل الله تعالى منه فرعًا في السماء الدنيا، عجل لنبيه رؤيته استبشارًا؛ لأنها أول المراتب العلوية بعد السفلية، ويؤيد هذا قول جبريل: خبا لك ربك انتهى.
"ثم إن قوله في الحديث: استفتح، دلالة" صريحة "على أنه صادف أبواب السماء مغلقة"، وأصرح منه قوله في حديث أبي ذر: قال جبريل لخازن السماء: افتح، وكذا ضربه الباب.
"والحكمة"، كما قال ابن المنير "في ذلك، والله أعلم، التنويه بقدره"، أي: إظهاره ورفعه "عليه السلام، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتحة
لأجله، فلما فتحت له تحقق غليه السلام أن المحل مصون، وأن فتح له كرامة وتبجيل.
وأما قوله في الحديث: "أرسل إليه"؟ وفي رواية وقد "بعث إليه"؟ فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله:"إليه"؛ لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى.
وقيل: سألوا تعجبًا من نعمة الله تعالى عليه بذلك، أو استبشارًا به، وقد علموا أن بشرًا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن من الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه.
قيل: إن الله تعالى أراد أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى،
لم يتحرر"، أي: لم يعلم "أنها فتحت لأجله"، ولا بد، بل كان يحتمل أنها مفتوحة دائمًا، وأنها فتحت لغيره، تصادف مجيئه بعده، "فلما فتحت له تحقق عليه السلام أن المحل مصون، وأن فتحه له كرامة وتبجيل": تعظيم وقال ابن دحية: وإنما لم تهيأ له بالفتح قبل مجيئه، وإن كان أبلغ في الإكرام؛ لأنه لو رآها مفتحة لظن أنها لا تزال كذلك، ففعل ذلك ليعلم أن ذلك فعل من أجله؛ ولأن الله تعالى أراد أن يطلعه على كونه معروفًا عند أهل السماوات.
"وأما قوله في الحديث: أرسل إليه"، بهمزة واحدة، ولأبي ذر: أأرسل بهمزتين، الأولى للاستفهام، والثانية للتعدية، وهي مضمومة، وللكشميهني أوأرسل، بواو مفتوحة بين الهمزتين.
"وفي رواية" لشريك عن أنس: "وقد بعث إليه، فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعرود إلى السماء" والإسراء، "وهو الأظهر لقوله: إليه"، إذ لو كان المراد أصل البعثة، لم يحتج لقوله إليه؛ "لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى"، فلا يخفى عليهم إلى هذه المدة.
قال الحافظ: بعدها استظهر هذا تبعًا لابن المنير وغيره: ويحتمل أن يكون خفي عليه أصل إرساله لاشتغاله بعبادته، قال: ويؤيده رواية شريك: وقد بعث إليه. انتهى، وقد يقال: لا تأييد فيه؛ لأن المراد البعث الخاص للإسراء وصعود السماوات، لا عن أصل البعثة.
"وقيل: سألوا تعجبًا من نعمة الله تعالى عليه بذلك، أو استبشارًا به، وقد علموا أن بشرًا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى"، إذ لا قدرة له على ذلك حتى يأذن، "وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه"، فليس سؤالًا حقيقيًا.
"وقيل: إن الله تعالى أراد اطلاع نبيه على انه معروف عند الملأ الأعلى؛ لأنهم
لأنهم قالوا: وقد بعث إليه؟ أو: أرسل إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلًا؟ ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته؛ ولأن هذا أحسن ما يكون من حسن الخطاب والترفيع، على المعروف من عادة العرب.
وأما قوله: "من معك"؟ فيشعر بأنهم أحسوا به عليه الصلاة والسلام، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما لأمر معنوي كزيادة أنوارها ونحوه، قاله الحافظ ابن حجر.
ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبي جمرة، حيث قال في "بهجته": الثاني أن يكون سؤالهم له لما رأوا حين رأوا إقبالهم عليه من زيادة الأنوار وغيرها من
قالوا: وقد بعث إليه"، بحذف همزة الاستفهام، للعلم بها، "أو أرسل إليه"، بحذفها وإثباتها روايتان كما علم، "فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له" صلى الله عليه وسلم "وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلًا، ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته؛ ولأن هذا أحسن ما يكون من حسن الخطاب والترفيع": المبالغة في إظهار قدره وشرفه بين الملائكة، بناء "على المعروف من عادة العرب"، فيمن خاطبوه بذلك، وهذا ذكره ابن أبي جمرة.
وذكر ابن المنير: أن موقع قول الخازن، وقد بعث إليه استنطاق جبريل بالسبب الموجب للإذن، والفتح؛ لأن مجرد قوله: معي محمد، لا يوجب الإذن إلا بواسطة البعث من الله تعالى، ويلزم منه الإذن في إزالة الموانع وفتح أبواب السماء، فلم يتوقف الخازن على أن يوحى إليه بالفتح؛ لأنه لزم عنده من البعث الإذن.
"وأما قوله: من معك، فيشعر بأنهم أحسوا به عليه الصلاة والسلام"، لفظ الحافظ؛ بأنهم أحسوا عه برفيق، "وإلا لكان السؤال بلفظ أمعك أحد؟، وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة" لا تحجب ما وراءها، "وإما لأمر معنوي، كزيادة أنوار ونحوها، قاله الحافظ ابن حجر" في فتح الباري: "ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبي جمرة، حيث قال في بهجته"، أي: كتابه بهجة النفوس وتحليلها بمعرفة ما لها وعليها، وهو اسم شرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري.
"الثاني: أن يكون سؤالهم له" لجبريل، "لما رأوا حين رأوا إقبالهم عليه" على جبريل "من
المآثر الحسان زيادة على ما يعهدونه منه، قال: وهذا هو الأظهر، كأنهم قالوا: من الشخص الذي من أجله هذه الزيادة التي معك؟ فأخبرهم بما أردوا وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه، انتهى.
وقد قال بعض العلماء: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] أنه صلى الله عليه وسلم رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت فإذا هو عروس المملكة.
وأما قولهم له: "مرحبًا به ولنعم المجيء جاء" فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته عليه السلام التي سبقته للسماء مبشرة بقدومه، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء فنعم المجيء مجيئه، وإنما لم يقل الخازن: مرحبًا بك،
زيادة الأنوار وغيرها"، بيان لما رأوا "من المآثر الحسان، زيادة على ما يعهدونه منه، قال: وهذا هو الأظهر" من احتمال أن ذلك؛ لأن السماء شفافة، "كأنهم قالوا: من الشخص الذي من أجله هذه الزيادة التي معك فأخبرهم بما أرادوا، وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه. انتهى.
"و" يؤيده أنه "قد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] ، أنه صلى الله عليه وسلم رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت، فإذا هو عروس المملكة" لشدة أنواره "وأما قولهم له: مرحبًا به"، أي: أصاب رحبًا وسعة، كنى بذلك عن الانشراح، وأخذ منه ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظه، وتعقب بأن مرحبًا به ليس ردًا؛ لأنه كان قبل فتح الباب، والسياق يرشد إليه وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة.
"ولنعم المجيء جاء، فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته عليه السلام التي سبقته للسماء مبشرة بقدومه"، وفيه دللة على أن للحاشية إذا فهموا من سيدهم عزمًا إكرام وافد أن يبشروه بذلك، وإن لم يأذن لهم فيه، ولا يكون إفشاء سر؛ لأن الخازن أعلم النبي صلى الله عليه وسلم حال استدعاء؛ أنه استدعاء إكرام وإعظام، فعجل بالبشرى والفراسة الصادقة عند أهلها، وفي محلها تحصل العلم، كما يحصله الوحي، قاله ابن المنير.
"وفيه تقديم وتأخير، والتقدير جاء، فنعم المجيء مجيئه" كذا قاله بعض الشراح وخرجه ابن مالك في التوضيح على وجه لا تقديم فيه ولا تأخير، فقال: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة عن الموصوف في باب، نعم؛ لأنها تحتاج إلى فاعل على المجيء وإلى مخصوص بمعناها، وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها فهو في هذا الكلام، وشبهه موصول أو موصوف بجاء والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء
بصيغة الخطاب، بل قال به بصيغة الغيبة؛ لأنه حياة قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم خطاب، ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيمًا له؛ لأن "هاء" الغيبة ربما كانت أهم من كاف الخطاب.
وأما قوله في الحديث: فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت: لجبريل: "من هذا"؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة التي عن
مجيء جاء، وكونه موصولًا أجود؛ لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة، نقله في الفتح، وقدمته في شرح الحديث.
"وإنما لم يقل الخازن: مرحبًا بك، بصيغة الخطاب، بل قال به بصيغة الغيبة؛ لأنه حياه قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم خطاب"، ولهذا قال الملك لجبريل: ومن معك؟، فخاطبه بصيغة الخطاب؛ لأن جبريل خاطب الملك، فارتفع حكم الغيبة بالتخاطب من الجانب، قاله ابن المنير.
"ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيمًا له؛ لأن هاء الغيبة ربما كانت أهم من كاف الخطاب"، لما فيها من إجلال المخاطب على مخاطبه؛ لأنه لم ينزل نفسه أهلًا لخطابه، لجلالته عليه، وهذان الاحتمالان ذكرهما ابن المنير.
"وأما قوله في الحديث" ليس يعني به حديث مالك بن صعصة الذي قدمه؛ لأنه ليس فيه ذكر النسم، كما في البخاري ومسلم، وإنما عني به حديث أنس عن أبي ذر عند البخاري أول كتاب الصلاة، ولفظه:"فلما فتح علونا السماء الدنيا، "فإذا"" بالفاء وللأصيلي وابن عساكر بدونها، "رجل قاعد عن يمينه أسودة" أشخاص: جمع سواد، كأزمنة جمع زمان، "وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة "يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال" ذلك الرجل القاعد: "مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح".
وفي رواية شريك: فقال: مرحبًا وأهلًا يا بني، نعم الابن أنت، والصالح القائم بما يلزمه من حقوق الله، وحقوق العباد فهي صفة جامعة لمعاني الخير، فوصفه بها مكررًا مع النبوة، والبنوة إشارة إلى أنه جمع بين صلاح الأنبياء وصلاح الأبناء، كأنه قال مرحبًا بالنبي التام في نبوته، والابن البار في نبوته وفيه افتخار بأبوته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولجمع الصلاح لخلال الخير، اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح وتواردوا على ذلك، وكررها كل منهم عند كل صفة، ولم يقولوا بالنبي الصادق، أو الأمين، قال بعضهم: وصلاح الأنبياء غير صلاح الأمم، فصلاح الأنبياء صلاح كامل؛ لأنهم يزول بهم كل فساد، فلهم صلاح خاص لا يتناول عموم الصالحين؛ لأن كثيرًا من
يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى.
فالأسودة: بوزن أزمنة، مفرد سواد، هي الأشخاص.
والنسيم: بالنون والسين المفتوحتين جمع نسمة، وهي الروح.
وقد قال القاضي عياض: جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة، يعني: فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا؟
الأنبياء تمنى أن يلحق بالصالحين، ولا يتمنى الأعلى أن يلحق بالأدنى، فهذا يحقق أن صلاح الأنبياء غير صلاح الأمم، ومن دونهم الأمثل فالأمثل، فكل واحد يستحق اسم الصلاح على قدر ما زال به، أو منه من الفساد.
"قلت لجبريل: "من هذا"؟، قال: هذا آدم"، ظاهره أنه سأله عنه بعد أن قاله له آدم مرحبًا ورواية مالك بن صعصعة بعكس ذلك، وهي المعتمدة فتحمل هذه عليها، إذ ليس في هذه أداة ترتيب كذا في فتح الباري، وتبعه الشامي، أي: لأنه لم يقل هنا، فقلت لجبريل، بالفاء، إنما قال قلت: فيحمل على أن القول وقع قبل قول آدم مرحبًا، والمراد بالعكس المخالفة، فلظ رواية ابن صعصعة:"فلما خلصت، فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح".
"وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسيم بنيه": أرواحهم، "فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك" سرورًا، "وإذ نظر قبل شماله بكى" حزنًا، "فالأسودة بوزن أزمنة مفرد سواد" بوزن زمان، "هي الأشخاص" من كل شيء وتطلق بمعان آخر، "والنسيم: بالنون والسين المفتوحتين، جمع نسمة" بزنة قصب وقصبة "وهي الروح" بيان للمراد بها هنا، وإلا ففي المصباح النسم والنسمة نفس الريح، ثم سميت به النفس بالسكون.
قال الحافظ: وحكى ابن التين؛ أنه رواه شيم: "بكسر الشين المعجمة وفتح الياء آخر الحروف بعدها ميم"، وهو تصحيف وظاهره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وهو مشكل.
"وقد قال القاضي عياض: جاء أن أرواح الكفار في سجين": مكان يعذبون فيه أسفل السافلين، كما في ابن المنير وفي المصنف: في سجين الأرض السابعة، وفي القاموس: سجين موضع فيه كتاب الفجار، وواد في جهنم.
"وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة"، روى الطبراني والبيهقي بسند حسن عن أم
وأجاب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتًا، فوافق عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم ويدل على كونهم في النار في أوقات دون أوقات، قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] .
واعتراض: بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن.
والجواب عنه: ما أبداه هو احتمالًا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار كانت في جهة شماله: وكان يكشف له عنهما، ولا يلزم من رؤية آدم لها -وهو في السماء- أن تفتح لها أبواب السماء ولا تلجها.
وفي حديث أبي هريرة عند البزار: فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر وإذا نظر عن
مبشر، وكعب بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت، ونسمة الكافر في سجين"، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنين، فقال:"في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت"، قالوا: وأرواح الكفار، قال:"محبوسة في سجين"، رواه الطبراني "يعني: فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا" مع أرواح الكفار في سجين الأرض السابعة.
"وأجاب"عياض: "بأنه يحتمل أنها تعرض على آجم أوقاتًا، فوافق": صادف "عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن كونهم في النار في أوقات دون أوقات قوله" تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر: 46] صباحًا ومساء، "واعترض بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص اقرآن" في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} "والجواب عنه ما أبداه هو، احتمالًا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار كانت في جهة شماله، كان يكشف له عنهما"، وحين مر المصطفى على آدم كشف له عن ذلك، فرأى ما رآه آدم، وإلى هنا جواب عياض، كما في الفتح.
زاد المصنف: "ولا يلزم من رؤية آدم لها، وهو في السماء؛ أن تفتح لها أوبا السماء ولا تلجها"، فلا اعتراض على عياض، وإن كان الحافظ في الفتح، إنما ذكر هذا عقب احتمال؛ أن المراد من خرجت من أجسادها حين خروجها، لا أنها مستقرة ولا يلزم إلى آخر ما هنا، ويأتي كلامه.
"وفي حديث أبي هريرة عند البزار"،وأبي يعلى، وابن جرير والبيهقي:"فإذا عن يمينه"، أي: آدم، "باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه
شماله حزن، وهذا -لو صح- لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم، ولكن سنده ضعيف، قاله الحافظ ابن حجر.
استبشر، وإذا نظر عن شماله حزن، وهذا لو صح لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم"، لعدم احتياجه لتأويل؛ لأن المستفاد منه رؤية البابين حين مروره على آدم، وهو لا يستلزم أن عنده شيئًا من النسم التي رآها عند آدم، لجواز أنه رآها من الأبواب، "ولكن سنده ضعيف، قاله الحافظ ابن حجر" في كتاب الصلاة ببعض تصرف من المصنف.
وفيه أيضًا قبل ذكر هذا الحديث الضعيف، ويحتمل أن النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلم بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من على يمينه، ويحزن إذا نظر إلى من على يساره، بخلاف التي في الأجساد، فليست مرادة قطعًا، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد إلى مستقرها، فليست مرادة أيضًا فيما يظهر، وبهذا يندفع الإيراد، ويعرف أن قوله: نسم بنيه عام مخصوص، أو أريد به الخصوص انتهى، وهو مبني على أن الأرواح كلها خلقت قبل الأجساد، كما جزم به، ثم إذا أراد الله إحياء شخص أرسل الروح التي سبق في علمه أنها معدة لذلك الجسد.
وقال في الفتح هنا في باب المعراج: وظهر لي الآن احتمال آخر، وهو أن يكون المراد من خرجت من الأجساد حين خروجها إلا أنها مستقرة، ولا يلزم من رؤية آدم لها، وهو في السماء أن تفتح لها أبواب السماء، ول تلجها.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي ما يؤيده ولفظه: "فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليها أرواح ذريته الفجار، فيقول: روح خبيثة، اجعلوها في سجين"، ويظهر منه ومن حديث أبي هريرة عدم اللزوم المذكور، وهذا أولى مما جمع به القرطبي في المفهم؛ أن ذلك حالة مخصوصة. ا. هـ، وهو مخصص للأرواح بالخارجة من الأجساد حين الموت لا مطلقًا، فهو أيضًا عام مخصوص، أو أريد به الخصوص، وأجاب بعضهم عن الإشكال بحمل الأسودة التي عن شماله على العصاة من الموحدين، لا على الجاحدين، وعضده ببكاء آدم رحمة لهم، ولا يرحم الكفار.
وتعقبه ابن المنير، بأن المؤمنين، برهم وفاجرهم، مطيعهم وعاصيهم من أهل اليمين، وقد فسر الله أصحاب الشمال بالكفار، فقال:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 41] ، وهذا إنما هو لكافر لا حظ له في الإيمان، ولا حجة في بكاء آدم؛ لأنه ليس فيه استغفار لهم، ولا خلاف أن من مات أبوه كافرًا، وهو مسلم، لا يحمر عليه البكاء عليه، لا سيما الطبيعي والرقة الطبيعية.
وأما قوله في الحديث: "ثم صعد بي، حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، فقيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردًا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى قوله: ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد
وقال ابن دحية: فإن قيل: كيف يكون نسم السعداء كلهم في السماء، وقد كان حين الإسراء جماعة من الصحابة في الأرض وهم من السعداء، فالجواب أن آدم إنما رآهم في مواضعهم ومقارهم في الأرض، ولكنه يراهم من الجانب الأيمن، فالتقييد للنظر لا للمنظور. ا. هـ، وتبعه ابن المنير وهو واضح.
وقال السهيلي: فإن قيل: كيف رأى عن يمينه أرواح أصحاب اليمين، ولم يكن إذا ذاك منهم إلا نفر قليل، ولعله لم يكن مات تلك الليلة منهم أحد.
وظاهر الحديث يقتضي أنهم جماعة، فالجواب أن الإسراء إن كان منامًا، فتأويله أن ذلك سيكون وإن كان يقظة، فمعناه أن أرواح المؤمنين رآها هنالك؛ لأن الله يتوفى الخلق في منامهم، فصعد بالأرواح إلى هنالك، فرآها، ثم أعيدت إلى أجسادها انتهى، وهو مبني على تخصيص الأرواح بالخارجة من الأجساد بالموت، ولو بالنوم.
"وأما قوله في الحديث"، أي: حديث مالك بن صعصعة، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية"، كذا في رواية أبي ذر، للبخاري ولغيره:"ثم صعد بي إلى السماء"،وهي التي قدمه المصنف، "فاستفتح فقيل: من هذا؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال: محمد، قيل وقد أرسله إليه؟، قال: نعم"، أرسل إليه، "فقيل: مرحبًا بن، فنعم المجيء جاء، ففتح" الخازن الباب، "فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابن الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلمت عليهما، فردا" علي السلام، "ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، إلى قوله: ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟: قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟، قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء فلما خلصت" "فتح اللام، وصلت "فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه، قال: فسملت عليه، فرد السلام، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن
"السلام وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح".
فهذه الرواية موافقة لروية ثابت عن أنس عن مسلم: أن في السماء الأولى؛ آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم.
وخالف ذلك ابن شهاب الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر -كما في أول الصلاة من البخاري أيضًا- أنه لم يثبت كيف منازلهم، وقال فيه: وإبراهيم في السماء السادسة.
وفي رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة، بتفضيل
الصالح"، وقصد المصنف زيادة البيان لطول العهد لفظ الحديث، وإلا فالأوجز لو قال، وأما ما ذكره في الحديث من أماكن الأنبياء في السماوات.
"فهذه الرواية موافقة لرواية ثابت" البناني، "عن أنس عند مسلم" وفيه:"أن في السماء الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم" فهذا بيان للموافقة محكي بالمعنى.
"وخالف ذلك ابن شهاب الزهري في روايته، عن أنس، عن أبي ذر، كما في أول الصلاة من البخاري أيضًا".
وقد خرج مسلم حديثه أيضًا في الإيمان، وذكر "أنه لم يثبت" من الإثبات، أبو ذر، "كيف منازلهم"، أي: لم يعين أبو ذر، لكل نبي سماء، والمراد منازل الجميع، فلا ينافي أنه قال آدم في السماء الدنيا.
"وقال فيه: وإبراهيم في السماء السادسة"، ولفظ البخاري، قال أنس: فذكر، أي: أبو ذر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة.
"وفي رواية شريك، عن أنس" في الصحيحين: ثم عرج به إلى السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء، قد سماهم وعيت منهم "أن إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة، ولم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى"، أي: بسبب أن له فضل كلام الله إياه، وفيه دلالة على أن شريكا
كلام الله تعالى، وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضًا كما صرح به الزهري.
ورواية من ضبط أولى، لا سيما من اتفاق، قتادة وثابت، وقد وافهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال:"هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة".
ووافقهم أبو سعيد الخدري إلا أن في روايته: يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة.
والمشهور في الروايات: أن الذي في السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك في حديث مالك بن صعصعة: بأنه كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور.
ضبط كون موسى في السابعة، فيتعين أحد الجموع الآتية.
"وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم"، أي: جميعهم، وإلا فقد صرح بقوله: وعيت، أنه ضبط أربعة، "أيضًا، كما صرح به الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب في حديث أبي ذر.
"ورواية من ضبط أولى"، أحق بتقديمها على من لم يضبط، "لا سيما" مع ما حصل فيها من القوة "من" أجل "اتفاق"، ولفظ الفتح مع اتفاق فلا يحتاج لهذا التعسف "قتادة" بن دعامة عند الشيخين، "وثابت" البناني عند مسلم، "وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك"، هو ابن عبد الرحمن، نسب إلى جده الهمداني "بالسكون" الدمشقي، القاضي، صدوق، ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها، ولنه أكثر من سبعين سنة، روى له أبو داود، والنسائي وابن ماجده، "عن أنس: إلا أنه خالف في إدريس وهارون، فقال:"هارون في الرابعة"، فوافق شريكا في ذلك، "وإدريس في الخامسة"، فخالف قتادة وثابتًا في أنه في الرابعة، وشريكا في أنه في الثانية، "ووافقهم أبو سعيد الخدري" عند ابنه مردويه، وكان الأولى وافقهما بتثنية الضمير، عائدًا على قتادة وثابت وجمعه قد يوهم موافقه أبي ذر، وشريك، وليس بمراد، فإن رواية أبي سعيد إنما وافقت رواية قتادة وثابت "إلا أن في روايته يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة"، وجمع باحتمال الانتقال لا التعدد؛ لأنه خلاف الصحيح.
"والمشهور في الروايات" كلها، غير روايتي أبي ذر وشريك، "أن الذي في السابعة هو إبراهيم.
قال الحافظ: وهو الأرجح، "وأكد": قوى "ذلك في حديث مالك بن صعصعة، بأنه كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور".
فمع التعدد: فلا إشكال.
ومع الاتحاد فقد جمع: بأن موسى كان حالة العروج في السادسة وإبراهيم في السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط: كان موسى في السابعة؛ لأنه لم يذكر في القصة أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة، كما كلمه موسى عليه السلام، والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها؛ لأنه هو الذي خاطبه في ذلك، كما ثبت في جميع الروايات.
ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلًا
قال الحافظ: وهو في السابعة، بلا خلاف، وما جاء عن علي أنه في السادسة عند شجرة طوبى، فإن ثبت، حمل على البيت الذي في السادسة بجانبه شجرة طوبى، لأنه جاء عنه؛ أن في كل سماء بيتا يحاذي الكعبة، وكل منهما معمور بالملائكة، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره، أن البيت المعمور في السماء الدنيا، فإن محمول على أول بيت يحاذي الكعبة من بيوت السماوات، "فمع التعدد"، أي: مع القول بتعدد المعراج، "فلا إشكال" بين الثابت المشهور في الروياات أنه في السابعة، وبين روايتي أبي وشريك؛ أذرنه في السادسة يحمل كل على مرة، "ومع الاتحاد" الذي هو الصحيح وقول الجمهور.
"فقد جمع بأن موسى كان حالة العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط كان موسى في السابعة"؛ بأن يكون صعد معه أو بعده، لأجل المراجعة في مر الصلاة؛ "لأنه لم يذكر في القصة، أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة"، لكن لا يلزم من عدم الكلام أن يكون في السادسة حين الرجوع الذي هو تمام الجمع بين الروايتين، إذ تركه وإن كان في السابعة؛ لأن الخليل شأنه التسليم لخليله، "كما كلمه موسى عليه السلام"، وجزاه عنا خيرًا، "والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط"، مما هو أعلى منها.
"فناسب أن يكون موسى بها؛ لأنه هو ال ذي خاطبه في ذلك"، أي: أمر الصلاة، "كما ثبت في جميع الروايات"؛ لأن شأن الكليم التكلم، ولا بأس بهذا الجمع، لكن قد علمت أن تمامه بوجوده إبراهيم حين رجع في السادسة، وأن تعليله بعدم تكلمه في الصلاة لا ينهض بل قد يخدش فيه قوله في حديث أنس عند أبن أبي حاتم ثم انجلت عنه السحابة، وأخذ بيده، فانصرف سريعًا، فأتى على إبراهيم، فلم يقل شيئًا، فظاهر هذا أنه مر على إبراهيم قبل موسى.
"ويحتمل" في الجمع أيضًا، "أن يكون لقي موسى في السادسة، فأصعد معه إلى
له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك في كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة، قاله في فتح الباري، وقال: إن النووي أشار إلى شيء من ذلك.
وفي رواية شريك عن أنس في قصة موسى: "لم أظن أن أحدًا يرفع علي".
قال ابن بطال: فهم موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى له في الدنيا دون غيره من البشر: لقوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدًا عليه الصلاة والسلام بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك.
السابعة، تفضيلًا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك مع كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة"، وهو قريب من الاحتمال قبله، ولم يعرج في هذا أيضا على رواية: وإبراهيم في السادسة: "قاله في فتح الباري".
"وقال: إن النووي أشار إلى شيء من ذلك"، وجمع الكرماني في كتاب الصلاة، بأنه رأى إبراهيم في السادسة: ثم ارتقى إبراهيم إلى السابعة، ليراه في مكانين تعظيمًا له، وتبعه شيخ الإسلام زكريا، وهو عندي أولى من الاحتمالين.
"وفي رواية شريك، عن أنس في قصة موسى": تلو قوله بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب "لم أظن" فيما مضى، "أحدا يرفع علي"، لا في الماضي ولا في المستقبل، ولفظ الصحيح: لم أظن أن يرفع على أحد.
قال المصنف: بضم التحتية وفتح الفاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أن ترفع على أحدًا بالنصب وفتح الفوقية.
"قال ابن بطال: فهو موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى له في الدنيا دون غيره من البشر، لقوله تعالى": تعليل لفهم اختصاصه، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ، أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم"، من في زمنه ومن تقدمه ومن تأخره، "وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدًا عليه الصلاة والسلام بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك"، فكان المراد بالناس ناس زمانه، لا جميع البشر.
وفي حديث أبي سعيد قال موسى: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم الخلق على الله، وهذا أكرم على الله مني، زاد الأمور في روايته: ولو كان هذا وحده لهان علي، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله.
وفي حديث مالك بن صعصعة: "ولما جاوزته -بقي موسى- يبكي، فنودي: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي".
ولم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان اسفًا على ما فاته من
"وفي حديث أبي سعيد" عند البيهقي وغيره، "قال موسى: تزعم بنو إسرائيل إني أكرم الخلق على الله، وهذا أكرم على الله مني"، وأخرج البزار، والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال موسى: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله، وهذا رجل من بني آدم خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبي أمته.
"زاد" سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي بن أمية، "الأموي" بفتح الهمزة، على غير قياس، وضمها على القياس وهو الأشهر عندهم، كما في المصباح نسبة لجده الأعلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وجزم الجوهري بالفتح، ثم قال: وربما ضموا "في روايته" لحديث المعراج في مغازيه، "ولو كان هذا وحده لهان علي، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله"، ومعلوم أن هذا من الغبطة لا الحسد، معاذ الله.
"وفي حديث مالك بن صعصعة: "ولما جاوزته بقي موسى يبكي، فنودي" لفظ الحديث، كما مر: فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك"؟، وكذا هو لفظ البخاري في المعراج، وبدء الخلق وكذا لفظ مسلم وغيره، "ما يبكيك"؟، قال": قال ابن أبي جمرة: الظاهر أن قائل ذلك له الباري تبارك وتعالى، يدل على هذا قوله في الجواب، "رب هذا غلام بعثته من بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي"، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنه مر بموسى عليه السلام يرفع صوته، فيقول:"أكرمته وفضلته، فقال جبريل: هذا موسى قلت: من يعاتب؟ قال: يعاتب ربه، قلت: ويرفع صوته على ربه؟، قال: إن الله قد عرف له حدته".
قال العلماء: "ولم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله"، مفعول مطلق حذف عامله، أي: أعوذ، أي: أعتصم بالله معاذا من توهم أن بكاءه حسدًا، "فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفًا على ما فاته من الأجر.
الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره؛ لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.
وقال العارف ابن أبي جمرة: قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "هذا رحمة وإنما يرحم الله من عباه الرحماء"، والأنبياء
الذي يترتب عليه رفع الدرحات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزمة لتنقيص أجره؛ لأن لكل نبي مثل أجر كل من تبعه"، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، "ولهذا كان من أتبعه في العدد دون من أتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة، وقال العارف ابن أبي جمرة: قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرأفة والراحمة لأمتهم وركبهم"، أي: ركب بنيتهم في أصل خلقتهم، مجبولة "على ذلك"، حتى كأنهم خلوقا من الرأفة والرحمة، "وقد بكى نبينا فقيل له: ما يبكيك"؟.
روى الشيخان عن أسامة: أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن ابني قد احتضر، فأشهدنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول:"إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ورجال: فدفع إليه الصبي، فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟، "قال: "هذا رحمة" جعلها الله في قلوب عباده، "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"، روي بالنصب مفعول يرحم، على أن ما في إنما كافة، أو أداة حصر، وبالرفع خبر أن على أنها موصولة بمعنى الذين، والرحماء جمع رحيم من صيغ المبالغة، فمقتضاه أن رحمة الله تختص بالمتصف بالرحمة الكاملة، لخلاف من فيه رحمة ما.
لكن قضية خبر أبي داود الراحمون يرحمهم الله، شموله له، ورجح، وإنما بولغ في الأول؛ لأن ذكر الجلالة دال على العظمة، فناسب فيه التعيظم والمبالغة.
وقال شيخنا: لعل مراد الحديث أنه يرحم، كثير الرحمة رحمة تامة، بحيث تمنع من قامت به من العذاب، فلا يرد أن يرحم الكافر بتخفيف العذاب عنه، وبتأخيره في سعة عيش وصحة، وغيرهما إلى وقت قبض روحه، وقد يخفف عنه عذاب غير الكفر.
عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان بموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته؛ لأن هذا وقت إفضال وكرم وجود لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة.
فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو من قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذي مات على الإيمان لا بد له من دخول الجنة، والذي مات على الكفر لم يدخل الجنة أبدًا فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ؛ لأن الحكم فيهم قد مر ونفذ.
قيل: إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرًا وقدر أن ينفذ على كل الأحوال، وقدر قدرًا وقدر أن لا ينفذ، ويكون رفعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك، فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف
…
"والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم فلأجل ما كان بموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته؛ لأن هذا وقت إفضال وكرم وجود، فرجًا" حصول ما يتمناه من الثواب لأمته، فقال:"لعل أن يكون"، والرجاء يستعمل بمعنى التمني والخوف؛ لأن الراجي يخاف أن لا يدرك ما يترجاه، "وقت القبول والإفضال"، أي: الزيادة من النعم والخير على العباد، فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة"؛ لأن لله أوقاتًا يتجلى فيها بالرحمة على العباد، فلا يرد فيها سائلًا ولا يمنع راجيًا "فإن قال قائل: كيف يكون هذا": الواقع من موسى "وأمته لا تخلو من قسمين" جملة حالية، مقررة للإشكال، "قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذي مت على الإيمان لا بد له من دخول الجنة"، وإن كثر عصيانه في الدنيا، "والذي مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدًا" {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، "فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ؛ لأن الحكم فيم قد مر ونفذ"، عطف تفسير، "قيل" في الجواب: "إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرًا، وقدر أن ينفذ على كل الأحوال"، فلا بد من وقوعه، "وقد قدرًا، وقدر أن لا ينفذ"، أي: أن لا يوجد خارجا، ولكن "يكون رفعه بسب دعاؤه أو صدقه، أو غير ذلك" مما علق عليه في الأول، وحصل ذلك المعلق عليه، "فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف والرحمة بالأمة، طمع" في ذلك، وقال: "لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي
والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي قدره الله تعالى، وقدر ارتفاعه بسب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى؛ لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم، ليخلع عليه خلع القرب والفضل العميم، فطمع الكليم لعل أن يحلق لأمته نصيبًا من هذا الخير العظيم وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"إن لله نفحات فتعرضوا لنفحات الله"، وهذه نفحة من النفحات فتعرض لها موسى، فكان أمرًا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت
قدره الله تعالى، وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى؛ لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم ليخلع عليه خلع": بكسر ففتح، جمع خلعة، بزنة سدرة وسدر:"القرب والفضل العميم، فطمع الكليم، لعل أن يلحق لأمته نصيبًا من هذ الخير العظيم".
"وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: إن لله نفحات، فتعرضوا"، أي: تصدوا، أو من التعرض، وهو الميل إلى الشيء من أحد جوانبه، "لنفحات الله"، أي: اسلكوا طرقها حتى تصير عادة، وطبيعة وسجية، وتعاطوا أسبابها، وهو فعل الأوامر، وتجنب المناهي، رجاء أن تهب من رياح رحمته نفحة بسعدكم، أو المعنى تعرضوا لها بطلبكم منه.
قال الصوفية: التعرض للنفحات: الترقب لورودها بدوام اليقظة والانتباه من سنة الغفلة، حتى إذا مرت، نزلت بفناء القلوب.
قال بعضهم: ومقصود الحديث إن لله فيوضًا ومواهب، تبدو لموامعها من أبواب خزائن الكر والمنن في بعض الأوقات، فتهب فورتها ومقدماتها، كالأنموذج لما وراءها من مدد الرحمة، فمن تعرض لها مع الطهارة الظاهرة والباطنة، بجمع همة وحضور قلب، حصل له منها في دفعة واحدة، ما يزيد على النعم الدارة في الأزمنة الطويلة على طول الأعمال، فإن خزائن الثواب بمقدار على طريق الجزاء، وخزائن المنن، النفحة منها تفوق، فما يعطى على الجزاء له مقدار ووقت معلوم، ووقت النفحة مبهم في الأزمنة، والساعات ليداوم على الطلب بالسؤال، كما في ليلة القدر، وساعة الجمعة، فقصد أن يكونوا متعرضين له في كل الأوقات قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، وفي وقت التصرف في أشغال الدنيا، فإنه إذا دام أوشك أن يوافق الوقت الذي ينفخ فيه فيسعد بسعادة الأبد، فقال صلى الله عليه وسلم:"اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات، تصيب من يشاء من عباده"، الحديث، أخرجه البيهقي من حديث أنس وأبي هريرة.
"وهذه نفحة من النفحات"، عطية من العطيات، قال المصباح: النفحة: العطية، وقيل: مبدأ شيء قليل من كثير، وفي المصباح: نفح الطيب: فاح، ونفحت الريح: هبت، "فتعرض لها
القدرة بأنها فيه تؤثر، وما كان قضاء نافذا لا تؤثر فيه ولا ترده الأسباب، حتم قد لزم.
وفي بكائه عليه الصلاة والسلام وجه آخر، وهو البشارة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وإدخال السرور عليه، وذلك قول موسى عليه السلاة والسلام - الذي هو أكثر الأنبياء أتباعًا: إن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما يدخلها من أمتي.
وأما قول موسى عليه الصلاة والسلام: لأن غلامًا ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنه بالنسبة إليه.
وفي القاموس: الغلام، الطار الشارب، والكهل ضد.
وقال الخطابي: العرب تسمي الرجال المستجمع السن غلامًا، ما دامت فيه
موسى، فكان أمرًا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت القدرة؛ بأنها فيه تؤثر" من تعليقه على سبب وقوعه، "وما كان قضاء نافذًا لا تؤثر فيه، ولا ترده الأسباب"؛ لأنه "حتم قد لزم"، ومثال ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، أن يظهر عليهم عدو من غيرهم، وأن لا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما، وأن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها، فأستجيب له في الاثنتين دون الثالثة، وقيل له: هذا أمر قدرته، أي: أنفذته، فكانت الاثنتان من القدر الذي قدره الله، وقدر أن لا ينفذه بسبب الدعاء، والثالثة من القدر الذي قدره، وقدر إنفاذه على كل الأحوال لا يرده راد.
"وفي" حكمة "بكائه"، أي: موسى، "عليه الصلاة والسلام: وجه آخر: وهو البشارة لنبينا صلى الله عليه وسلم وإدخال السرور عليه"، بكثرة أمته المستلزمة لكثرة أجره، "وذلك قول موسى عليه الصلاة والسلام، الذي هو أكثر الأنبياء أتباعًا، أن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما يدخلها من أمتي"، فكباؤه حين جاوزه المصطفى، وقبل أن يبعد عنه، لأجل أن يسمعه هذه البشارة، إذ لو لم يكن لذلك لترك لبكاء حتى يبعد عنه، فلا يسمعه، ولم يبك حين كان معه، بل رحب به وأثنى عليه، ودعا له بخير لئلا يشوش عليه.
"وأما قول موسى عليه الصلاة والسلام: لأن غلامًا، ولم يقل غير ذلك من الصيغ"، كرجلًا، أو نبيًا، "فإشارة إلى صغر سنه"، أي: المصطفى، "وبالنسبة إليه"، إلى موسى، "وفي القاموس: الغلام الطار"، أي: النابت، "الشارب، والكهل ضد"، فيحتمل أنه استعمله بمعنى الكهل لاستعماله فيه وفي الكهل.
"وقال الخطابي: العرب تسمى الرجال المستجمع السن"، أي: البالغ مبلغ الرجال، بأن بلغ أشده، واستوت لحيته "غلامًا، ما دامت فيه بقية من القوة في الكهولة"، إشارة إلى مدحه
بقية من القوة في الكهولة.
قال في فتح الباري: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليه السلام من استمرار القوة في الكهولة إلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه في قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة لما رأوه مردفًا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر والله أعلم. انتهى.
وقد ذكرت ذلك في الهجرة من المقصد الأول.
بقوة الشاب مع أنه كهل.
وقال ابن أبي جمرة: العرب إنما يطلقون على المرء غلامًا إذا كان سيدًا فيهم، فلأجل ما في هذا اللفظ من الاختصاص على غيره من ألفاظ الأفضلية، ذكره موسى دون غيره تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
"قال في فتح الباري: ويظهر لي أن موسى عليه السلام، أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليه السلام، من استمرار القوة في الكهولة، إلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه في قوته نقص"، وهذا غير كلام الخطابي؛ لأنه قال بقية من القوة، وهذا صرح ببقاء قوته كلها، "حتى أن الناس في قدومه المدينة لما رآوه مردفًا أبا بكر" على راحلته، وإن كان له راحلة، إكرامًا له، أو على راحلة أخرى، قال تعالى:{بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} [الأنفال: 9]، أي: يتلو بعضهم بعضًا، قاله الداودي.
ورجح ابن التين الأول، وقال: لا يصح الثاني؛ لأنه يلزمه منه أن يمشي أبو بكر بين يديه صلى الله عليه وسلم ورده الحافظ؛ بأنه إنما يلزم ذلك لو جاء الخبر بالعكس، فأما، ولفظه وهو مردف أبا بكر فلا.
وفي البخاري من وجه آخر، عن أنس، فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه، "أطلقوا عليه اسم الشاب، وعلى أبي بكر اسم الشيخ".
قال أنس: أقبل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي -صلى الله عليه وسل- شاب لا يعرف، الحديث في البخاري، "مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر"، بأزيد من عامين؛ لأنه استكمل بمدة خلافته عمر المصطفى، "والله أعلم انتهى. وقد ذكرت ذلك"، أي: حديث أنس المذكور "في الهجرة من المقصد الأول".
قال الحافظ: وقد وقع من موسى في هذه القصة من مراعاة جانب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمسك
وقد وقع في حديث أبي هريرة عند الطبري في ذكر إبراهيم: "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي".
وفي رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فإذا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذ هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، إلى يوم القيامة وفيه، فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي
عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم أدبًا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى، وقال ما قال. انتهى.
"وقد وقع في حديث أبي هريرة عند الطبري" محمد بن جرير، "في ذكر إبراهيم"، فإذا هو برجل أشمط"، أي: أبيض الرأس يخالط سواده، "جالس عند باب الجنة على كرسي"، وفي حديث أبي سعيد: "فإذا بإبراهيم خليل الرحمن مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال".
"وفي رواية مسلم من حديث ثابت" البناني، "عن أنس، ثم عرج" بالبناء للفاعل وضمير، "بنا" للمصطفى، وجبريل، ويجوز بناؤه للمفعول، "إلى السماء السابعة، فإذا إبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور".
قال أبو عبيدة: معنى المعمور: الكثير الغاشية، ويقال له الضراح "بضم المعجمة"، واهمًا لها غلط بين، كما في ربيع الأبرار، سمي به؛ لأنه ضرح عن الأرض، أي: بعد.
قال الحافظ: فيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وبغيره؛ لأن البيت المعمور كالكعبة في أنه قبلة من كلة جهة، وقد أسند إبراهيم ظهره إليه. انتهى.
وقال التلمساني قيل: فيه دلالة على أن الأفضل في غيره الصلاة إسناد الظهر للقبلة، وقيل: الأفضل استقبالها، ولعل إبراهيم أسند ظهره ليتوجه للمصطفى ويخاطبه. انتهى.
وقد يقال: إنما دل على الجواز لا على أنه أفضل، كيف وفي الحديث:"أشرف المجالس ما استقبل به القبلة" رواه الطبراني.
"وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك"، للعبادة، "ثم لا يعودن إليه"؛ لأن حجة مرة، كفرض الحج علينا، أو لإشغال غير دخوله، هذا في مسلم، وزاد ابن إسحاق من حديث أبي سعيد إلى يوم القيامة، هكذاب بينه في الفتح، فما أوهمه قوله:"إلى يوم القيامة" من أنه في رواية مسلم خطأ نشأ عن سقط، ثم وجدت في نسخ صحيحة عدمها، ووقعت هذه الزيادة عند البخاري في بدء الخلق، مضمومة إلى رواية قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، بلفظ:"إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم"، وهي مدرجة من رواية قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة، كما
شطر الحسن.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وأبي هريرة عند الطبري:"فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله: قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب".
وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى
بينه في الفتح، وإليه أشار البخاري، وقد قدمته، وآخر روي بالرفع بتقدير ذلك آخر، والنصب على الظرف.
قال عياض: والرفع أجود، قال الحافظ: واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات؛ لأنه لا يعرف من جميع العوالم من يتحدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفًا، غير ما ثبت من الملائكة في هذا الخبر. انتهى.
ويأتي مزيد لهذا في المصنف، وسئل علي عنه، فقال:"بيت في السماء السابعة بحيال البيت، حرمته كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه"، أخرجه ابن راهويه، وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيا.
"وفيه"، أي: حديث ثابت، المذكور عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فذكر مثل الأول، "ففتح لنا"، "فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن"، أي: نصفه، والناس كلهم بعده شركاء في النصف الآخر، هذا ظاهر ببادي الرأي، لكن الحقيقة والمراد منه أنه أوتي شطر الحسن الذي أوتي المصطفى جملته، قاله ابن المنير.
وقال بعض شراح المصابيح: المراد بالشطر البعض؛ لأن الشطر، كما يراد به نصف الشيء قد يراد به بعضه مطلقًا.
قال الطيبي: وقد يراد به الجهة أيضًا، نحو:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 150]، أي: جهة من الحسن، ومسحة منه، كما يقال على وجهه مسحة ملك، ومسحة جمال، أي: ظاهر، ولا يقال ذلك إلا يقال ذلك إلا في المدح.
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وأبي هريرة عند الطبري" محمد بن جرير: "فإذا أنا برجل"، يعني يوسف، "أحسن ما خلق الله، قد فضل"، زاد، "الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر"، أربعة عشر، وهو أعلى ما يكون البدر "على سائر الكواكب، وهذا ظاهره؛ أن يوسف عليه السلام، كان أحسن من جميع الناس، لكن" هذا الظاهر ليس بمراد، إذ لا نزاع أن المصطفى أحسن منه.
وقد "روى الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت،
الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيًا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا"، فعلى هذا يحتمل حديث المعراج على أن االمراد غير النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه.
وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد: أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله في الحديث عن إدريس: ثم قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والولد، وقال ابن المنير: وفي طريق شاذة: مرحبًا بالابن الصالح، وهذه هي القياس؛ لأنه جده الأعلى.
وكان نبيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا"، فصرح بأنه أحسن من يوسف وغيره.
"فعلى هذا يحمل حديث المعراج"، المذكور من رواية أبي سعيد، وأبي هرير، "على أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم"، فلا تعارض بينه وبين حديث أنس المذكور.
"ويؤيده قول من قال" من أهل الأصول، "أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامهن وحمل ابن المنير حديث الباب"، المروي في مسلم، "على أن المراد، أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا"، أي: أوتي جملته، كما عبر به ابن المنير قائلًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية، ويوسف عليه السلام بلغ نصفها، قال: ويحقق هذا حديث ما بعث الله نبيًا، فذكره أو المراد به البعض، أو الجهة، كما مر عن الطيبي وغيره.
"وأما قوله في الحديث عن إدريس، ثم قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح"، فسماه بالأخ، مع أنه جد له أعلى؛ لأنه إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، فكان قياسه أن يقول بالابن، كما قال إبراهيم وآدم، "فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والد"، فلا إشكال في خطابه له بالأخوة؛ لأنه، كما هو والده نسبًا أخوه في النبوة والإسلام، وعدل للأخوة تلطفًا وتأدبًا.
"وقال ابن المنير: وفي طريق شاذة: مرحبًا بالابن الصالح"، هكذا ذكره في الفوائد من معراجه، وقال قبل ذلك في أوائله أكثر الطرق على أنه خاطبه بالأخ، وقال لي ابن أبي الفضل: صحت لي طريق أنه خاطبه بالابن الصالح، انتهى وكأنه بين مراه أولًا، فالشاذ ما خلف فيه الثقة غيره، "وهذه هي القياس"، وإن قال بعضهم: في صحتها نظر؛ "لأنه جده
وقيل: إن إدريس الذي لقيه ليس هو الجد المشهور، ولكنه إلياس، فإن كان كذلك ارتفع الإشكال.
فإن قلت: لم يكن هؤلاء الانبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟
وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟
ولم كان في السماء الثانية بخصوصها اثنان؟
أجيب عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، بأنهم أمروا بملاقاة
الأعلى"، إذ هو سبط شيث، كما علم، وجد أبي نوح بن لمك "بفتح اللام وإسكان الميم وكاف"، ابن متوشلخ "بفتح الميم، وشد الفوقية مضمومة وسكون الواون وفتح المعجمة، واللام آخره معجمة"، ابن خنوخ، وهو إدريس، سمي به لكثرة درسه للحف؛ على أنه عربي مشق من الدراسة، وقيل: سرياني.
"وقيل: إن إدريس الذي لقيه ليس هو الحد المشهور، ولكنه إلياس" بن ياسين، سبط هارون أخي موسى، بعث بعده، ويسمى إدريس أيضًا؛ لأنه قرئ إدريس وإدراس مكان إلياس.
وفي البخاري، يذكر عن ابن مسعود، وابن عباس؛ أن إدريس هو إلياس، واختار هذا القول ابن العربي وتلميذه السهيلي، لحديث المعراج حيث سماه أخا، "فإن كان كذلك ارتفع الإشكال"، وإن كان هو الجد الأعلى، فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والولد، وإنما خص إبراهيم ونوح، وآدم بالأبوة لعرف خاص، كما يشتهر الإنسان بأحد أجداده دون من سواه من الأعلين والأدنين، كاشتهار محمد بن إدريس بالشافعي، نسبة إلى أحد أجداده شافع، وهكذا أسماء القبائل كلها، يشتهر واحد من طبقة الأجداد، فينسب إله الأولاد دون من فوقه وتحته، هذا بقية كلام ابن المنير.
"فإن قلت: لم كان هؤلاء الأنبياء" الثمانية، المذكورون في حديث مالك بن صعصعة: آدم فيحيى وعيسى، فيوسف، فإدريس، فهارون، فموسى، فإبراهيم "عليهم الصلاة والسلام في السماوات دون غيرهم من الأنبياء"، لعل المراد أنه إنما وجد هؤلاء دون غيرهم في السموات وإلا، فكونه مر على هؤلاء لا يلزم منه أن لا يكون فيها غيرهم، ولا يأتي نص بنفي كون غيرهم فيها.
"وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه، ولم كن في السماء الثانية بخصوصها اثنان" يحيى وعيسى، "أجيب عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء بأنهم أمروا بملاقاة نبينا صلى الله عليه وسلم فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم
نبينا صلى الله عليه وسلم فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم من فاته.
وقيل: إشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه، من مظير ما وقع لكل منهم:
فأما آدم عليه السلام فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذي خرج منه.
من فاته" على عرف الناس، إذا تلقوا الغئب مبتدرين للقائه، فلا بد غالبًا أن يسبق بعضهم بعضًا، ويصادف بعضهم اللقاء، ولا يصادف بعضهمن وإلى هذا أشار ابن بطال.
قال السهيلي: فلم يصنع شيئًا، انتهى لكن هذا الجواب لا يطابق سؤال المصنف إلا بتقدير مضاف، أي: لم كان انتظار هؤلاء لملاقاة النبي في السماوات، فحذف المضاف لفهمه من الجواب.
وفي فتح الباري اختلف في حكمة اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي، فأصاب، انتهى، فلو أتى المصنف بهذا كان أفيد مما ذكره، وأسلم من الإيراد.
"وقيل": الحكمة في الاقتصار على المذكورين، "إشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم"، ووجه الإشارة؛ أن رؤيته لصورهم كالفال، فتفسر رؤية كل واحد بما يشبه ما وقع له، فهو تنبيه على الحالات الخاصة بهم، وتمثيل بما سيقع للمصطفى مما اتفق لهم مما قصه الله عنهم في كتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل الحسن، ويستدل به على حسن العاقبة، وبالضد من ذلك، والفأل في اليقظة نظير الرؤيا في المنام، وهل التعبير يقولون: من رأى نبيًا من الأنبياء بعينه في المنام، فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي من شدة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث، أشار إلى هذا ابن المنير وغيره.
"فأما آدم عليه السلام، فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة" التي كان فيها في أمن الله وجواره، "إلى الأرض بما سيقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الهجرة" من مكة، وهي حرم الله وأمنه، وقطانها جيران الله؛ لأن فيها بيته "إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه
وبعيسى ويحيى على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود، وتماديهم على البغي عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه.
وبيوسف، على ما وقع له مع إخوته على ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من قريش، من
الذي خرج منه"، فآدم رجع إلى السماء بعد أن أهبط منها، والمصطفى رجع إلى مكة لما فتحها وصارت في يده، وهذا معنى كلام السهيلي، وزاد تلميذه ابن دحية، وتبعه ابن المنير؛ أن فيه تنبيهًا على أنه يقوم مقامه في مبدأ الهجرة؛ لأن مقام آدم التهيئة، والنشأة وعمارة الدنيا بأولاده، وكذا كان مقام المصطفى أول سنة من الهجرة مقام تنشئة الإسلام، وتربية أهله، واتخاذ الأنصار لعمارة الأرض كلها بهذا الدين الذي أظهره الله على الدين كله، وزوي الأرض لنبيه حتى أراه مشارقها ومغاربها.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن ملك أمتي ما زوى لي منها"، واتفق في ذلك في زمن هشام بن عبد الملك، جيء إليه خراج الأرض شرقًا وغربًا، وكان إذا نشأت سحابة يقول: أمطري حيث شئت، فسيصل إلي خراجك "وبعيسى ويحيى على ما وقع له أول الهجرة"، وهي ثاني حاله له، والأولى بمكة "من عداوة اليهود وتماديهم" بالدال، أي: استمرارهم.
وفي نسخ: تماليهم باللام، أي: تعاونهم أو اجتماعهم "على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه"، وهذا لفظ الفتح قائلًا: إنه لخصه من السهيلي، وهو محتاج لبيان، ولفظ السهيلي واضح، وهو: ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى، وهما الممتحنان باليهود، أما عيسى، فكذبته اليهود وآذوه، وهموا بقتله، فرفعه الله، أما يحيى، فقتلوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان، وكانت محنته فيها باليهود آذوه، وظاهروه عليه، وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه، فنجاه الله، كما نجى عيسى، ثم سموه في الشاة، فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره.
وقال ابن دحية: كانت حالة عيسى ومقامته معالجة بني إسرائيل والصبر على معالجة اليهود وحيلهم ومكرهم، وطلب عيسى الانتصار عليهم بقوله:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} ، أي: مع الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله، فهذه كانت حالة نبينا صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة، ففيها طلب الأنصار إلى بدر العظمى، فأجابوه ونصروه، فلقاؤه لعيسى في السماء الثانية، تنبيه على أنه سيلقى مثل حاله ومقامه في السنة الثانية من الهجرة.
"وبيوسف على ما وقع له مع أخوته، على ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من قريش": أقاربه، "من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك يوم
نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار عغليه السلام إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: كما قال يوسف: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، أي العتقاء.
الفتح، بقوله لقريش" بعد الخطبة:"يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟، قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال:"أقول كما قال" أخي "يوسف لا تثريب": عتب "عليكم اليوم"، خصه بالذكر؛ لأنه مظنة التثريب، فغيره أولى، "يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء""بضم المهملة وفتح اللام وقاف" جمع طليق.
قال المصنف في فتح مكة أي: الذين أطلقوا فلم يسترقوا، ولم يؤسروا، والطليق الأسير إذا أطلق، فتفسيره هنا بقوله، "أي: العتقاء": جمع عتيق بمعنى معتوق، فيه تجوز؛ لأن حقيقة العتيق من أزيل عنه الرق، وهؤلاء لم يسترقوا، لكن لما كان المصطفى متمكنا منه، ورفعه عنهم، شبههم بمن أزيل عنه الرق، وأطلق عليه اسمه، ثم هذا الذي ذكره المصنف إلى قوله: "اليوم يغفر"، هو ما ذكر في الفتح؛ أنه لخصه من السهيلي.
وأما لفظه في الروض، فهو: وأما لقاؤه ليوسف في الثالثة، فيؤذن بحالة ثالثة تشبه حال يوسف، وذلك أنه ظفر بأخوته بعد إخراجه من بين ظهرانيهم، فصفح عنهم، وقال:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم} [يوسف: 92] ، وكذا نبينا أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه، فيهم عمه العباس، وابن عمه عقيل، فمنهم من أطلق، ومن من فدى، ثم ظهر عليهم عام الفتح، فقال: أقول، كما قال أخي يوسف:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم} . انتهى.
وال ابن دحية: مناسبة لقائه ليوسف في الثالثة، أن الثالثة من الهجرة اتفقت فيها غزوة أحد، وكانت على المسلمين، لم يصابوا بنازلة قبلها ولا بعدها مثلها، فإنها كانت وقعة أسف وحزن، وأهل التعبير يقولون: من رأى أحدًا اسمه يوسف، آذن ذلك من حيث الاشتقاق، ومن حيث قصة يوسف بأسف يناله.
قال ابن دحية: فإن كان يوسف النبي، فالعاقبة حميدة والآخرة خير من الأولى، ومما اتفق في أحد من المناسبة شيوع قتل المصطفى، فناسب ما حصل للمسلمين من الأسف على فقد نبيهم، ما حصل ليعقوب من الأسف على يوسف، لاعتقاد أنه فقد إلى أن وجد ريحه بعد تطاول الأمد.
ومن المناسبة أيضًا بين القصتين؛ أن يوسف كيف وألقي في غيابة الجب حتى أنقذه الله على يد من شاء.
وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى.
وبهارون إذ رجع قومه إلى محبته بعد إن آذوه.
قال ابن إسحاق: وأكبت الحجارة على جبهته صلى الله عليه وسلم من قريش حتى سقط لجنبه في حفرة، كان أبو عامر الفاسق حفرها مكيدة للمسلمين، فأخذ علي بيده صلى الله عليه وسلم، واحتضنه طلحة حتى قام، "وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى"، لفظ الروض، ثم لقاؤه لإدريس في الرابعة، وهو المكان الذي سماه الله مكانًا عليًا، وهو أول من خط بالقلم، فكان ذلك مؤذنا بحالة رابعة، وهو علو شأنه صلى الله عليه وسلم حتى أخاف الملوك، وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ما رأى من خوف هرقل، لقد أمر ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر، وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض، فمنهم من أتبعه على دينه، كالنجاشي وملك عمان، ومنهم من هادنه، وأهدى إليه وأتحفه، ما أوتي إدريس. انتهى، ولا يفهم من قوله بحالة رابعة وقوع الكتابة إلى الملوك في رابعة الهجرة، كما ظن ابن المنير، فقال: فلعل ذلك صادف السنة الرابعة، مطابقًا للقاء إدريس في السماء الرابعة.
انتهى، فإنه سهو عجيب، فإن كتابته للملوك كانت أو السنة السابعة، كما تقدم في المكاتبات.
قال ابن المنير: واختلف هل رفع إدريس بعد الوفاة، أو رفع حيًا كعيسى، وفي المكان العلي هل هو السماء الرابعة، أو الجنة، فإن كان هو الجنة فقد شاركه المصطفى بلقائه فيها، وزاد عليه في الارتفاع إلى أعلى الجنان، وأرع الدرجات انتهى ملخصًا.
"وبهارون إذ رجع قومه إلى محبته بعد أن آذوه"، ولفظ الروض: ولقاؤه في الخامسة لهارون المحبب في قومه، يؤذون بحب قريش وجميع العرب له بعد بغضهم فيه.
وقال تلميذه ابن دحية: ما نال هارون من بني إسرائيل من الأذى، ثم الانتصار عليهم، والإيقاع بهم، وقصر التوبة فيهم على القتل دون غيره من العقوبات المنحطة عنه، وذلك أن هارون عندما تركه موسى في بني إسرائيل، وذهب للمناجاة، تفرقوا على هارون وتحزبوا عليه، وداروا حول قتله، ونقضوا العهد، وأخلفوا الموعد، واستصغروا جانبه، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم، وكانت الجناية العظمى الصادرة منهم عبادة العجل، فلم يقبل الله منهم التوبة إلا بالقتل، فقتل في ساعة واحدة سبعون ألفًا، كان نظير ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم ما لقيه في خامسة الهجرة من يهود قريظة، والنضير وقينقاع، فإنهم نقضوا العهد وخربوا الأحزاب، وجمعوها، وحشدوا، وحشروا، وأظهروا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله، وذهب إليهم قبل الوقعة بزمن يسير، يستعينهم
وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله:" لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".
وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور، بما ختم الله له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره من إقامة نسك الحج، وتعظيم البيت الحرام.
في دية قتيلين، فأظهروا إكرامه، وأجلسوه تحت جدار، ثم تواعدوا أن يلقوا عليه رحى، فنزل جبريل، فأخبره بمكرهم الذي هموا به، فمن حينئذ عزم على حربهم وقتلهم، وفعل الله تعالى ذلك، وقتل قريظة بتحكيمهم سعد بن معاذ، فقتلوا شر قتلة، وحاق المكر السيئ بأهله، ونظير استضعاف اليهود لهارون استضعافهم للمسلمين في غزوة الخندق.
"وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله": "لما آثر ناسًا ليؤلفهم في قسمة غنائم حنين"، فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فتغير وجهه، ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله، ورسوله ثم قال:"لقد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر"، رواه الشيخان.
ولفظ السهيلي: ولقاؤه في السادسة لموسى يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزو الشام، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم، وكذلك غزا صلى الله عليه وسلم تبوك من أرض الشام، وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيرًا وافتتح مكة، ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه.
وقال ابن دحية: يؤذن لقاؤه له في السادسة بمعالجة قومه، فإن موسى ابتلي بمعالجة بني إسرائيل، والصبر على أذاهم، وما عالجة المصطفى في السنة السادسة: لم يعالج قبله ولا بعده مثله، ففيها افتتح خيبر وفدك وجميع حصون اليهود، وكتب الله عليهم الجلاء، وضربهم بسوط البلاء، وعالج صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، كما عالج موسى من قومه، أراد أن يقيم الشريعة في الأرض المقدسة، وحمل قومه على ذلك، فتقاعدوا عنه، وقالوا:{إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} ، وفي الآخر سجلوا بالقنوط:{إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} ، فغضب الله عليهم، وحال بينهم وبينها، وأوقعهم في التيه، وكذلك أراد صلى الله عليه وسلم في السادسة أن يدخل بمن معه مكة، يقيم بها شريعة الله وسنة إبراهيم، فصدوه فلم يدخلها في هذا العام، فكان لقاؤه لموسى تنبيهًا على التأسي به، وجميل الأثر في السنة القابلة.
"و" وقع التنبيه "بإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم الله له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره في إقامة نسك الحج وتعظيم البيت الحرام" ولفظ الروض: ثم لقاؤه في السابعة لإبراهيم لحكمتين إحداهما: أن البيت المعمور بحيال الكعبة، وإليه تحج الملائكة، كما أن إبراهيم هو
وأجاب العارف ابن أبي جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء:
بأن الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء، وأول الآباء،
الذي بنى الكعبة، وأذن في الناس بالحج إليها، والثانية؛ أن آخر أحواله صلى الله عليه وسلم حجه إلى البيت الحرام، وحج معه ذلك العام نحو من تسعين ألفًا، ورؤية إبراهيم عند أهل التأويل تؤذن بالحج؛ لأنه الداعي إليه، والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة.
وقال ابن دحية: مناسبة لقيه لإبراهيم في السابعة: أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة، ودخل مكة وأصحابه، ملبين معتمرين محييًا لسنة إبراهيم، ومقيمًا لرسمه الذي كانت الجاهلية أماتت ذكره وبدلت أمره، ورؤيته لإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، إشارة إلى أنه يطوف بالكعبة في السابعة، وهي أول دخلة دخل مكة بعد الهجرة، والكعبة في الأرض قبالة البيت المعمور.
قال: وفي قوله: فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفًا، لا يرجعون إليه، إلى آخر الدهر، إشارة إلى أنه إذا دخل البيت الحرام لا يرجع إليه؛ لأنه لم يدخله بعد الهجرة إلا عام الفتح، ثم لم يدخله في حجة الوداع، واعلم أن ما ذكره المصنف تبع فيه الحافظ، وقال في آخرها: هذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي، فأوردتها منقحة ملخصة.
وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها، إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء، والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. انتهى، وقال ابن دحية: لا بأس بما ذكه هذا الإمام، يعني شيخ السهيلي، لكن يحتاج إلى تنبيهات، منها إجراؤه لذلك، كالتعبير، فإنه يوهم أن الإسراء كان منامًا، والصحيح أنه يقظة، والذي يرفع الإشكال، أن الفأل في اليقظة: نظير الأحلام، فيكون تعبير الفألأ ببيان ما يدل عليه يقظة، كتعبير الأحلام بما تدل عليها منامًا، فعلى هذا يصح كلامه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، ويستدل به على حسن العاقبة، وبالضد من ذلك.
ومنها أنه لم يذكر للمستوى ولا لما بعده نظيرًا، إما لتعذر استنباط المناسبة، أو لانقطاع الفكرة دون، ذلك انتهى، أو؛ لأن الأولى ترك ذلك، كما أفصح به السهيلي نفسه عقب ذكر المناسبات، إذ قال: وكان الحزم ترك التكلف لتأويل ما لم يرد فيه نص عن السف، ولكن عارض هذا ما يجب من التفكر في حكم الله وتدبر آياته، قال: ولولا مسارعة للناس إلى إنكار ما جهلوه، وغلظ الطباع عن فهم كثير من الحكمة، لأبدينا من سر هذا السؤال أكثر مما كشفنا.
"وأجاب العارف ابن أبي جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء"، الذي هو ثاني أسئلة المصنف، وفيه جواب الثالث، وهو لم كان في الثانية بخصوصها اثنان: "بأن
وهو الأصل، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة.
وأما عيسى فإنما كان في السماء الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا انمحت شريعة عيسى عليه السلام إلا بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه ينزل في آخر الزمان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال عليه السلام:"أنا أولى الناس بعسيى"، فكان في الثانية لأجل هذا المعنى.
وإنما كان يحيى عليه السلام معه هناك؛ لأنه ابن خالته، وهما كالشيء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معًا.
الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء وأول الآباء"، فناسب مقام الأولية، "وهو الأصل"، فكان الأول في الأولى، "ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة" في مبدأ العالم العلوي.
"وأما عيسى، فإنما كان في السماء الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء" من حيث الزمن "إلى النبي صلى الله عليه وسلم و"؛ لأنه "لا انمحت شريعة عيسى عليه السلام إلا بشريعة سيدنا محمد؛ ولأنه ينزل في آخر الزمان، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على شريعته، ويحكم بها"، ووجه جعل هذا حكمة كونه في الثانية، أن عيسى لما شابه المصطفى في ثاني أحواله، وهي حكمه بشريعته، وكونه واحدًا من أمته، ناسب أن يكون في السماء الثانية، وأول أحوال عيسى كونه رسولًا إلى بني إسرائيل، "ولهذا" المذكور من الحكم الثلاث.
"قال عليه السلام" في الصحيحين وغيرهما: "أنا أولى الناس"، أي: أخصهم "بعيسى" ابن مريم، وأقربهم إليه؛ لأنه بشر بأنه يأتي من بعده، فالأولوية هنا من جهة قرب العهد، كما أنه أولى الناس بإبراهيم؛ لأنه أبوه، ودعا به، وأشبه الناس به خلقًا وملة، وبين وجه الأولوية بقوله في بقية الحديث: ليس بيني وبينه نبي، كأنه قال: لأنه ليس
…
إلخ، وضعف هذا الحديث ما ورد؛ أن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى؛ لأن في إسنادهما مقالًا، وهذا صحيح بلا شك، إلا أن يجاب بأنها بعثا بتقرير شريعة عيسى لا شريعة مستقلة، ذكره الحافظ وغيره.
"فكان في الثانية لأجل هذا المعنى"، وفي فتح الصفا؛ لأنه خلق ثان كخلق آدم، أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، "وإنما كان يحيى عليه السلام معه هناك؛ لأنه ابن خالته، وهما كالشيء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معًا"، أدق من هذا قول ابن المنير: السر في ذلك أن عيسى لم يلقه بعد موته لرفعه حيًا صيانة له، وذخيرة إلى وقت عوده إلى الأرض قائمًا بشرع المصطفى، غير مجدد شرعًا، فهو في حكم الأحياء، ومقامه في السماء ليس على معنى السكنى الدائمة، بخلاف غيره من الأنبياء، ويحيى هو المقيم في السماء أسوة غيره من الأنبياء، واختص مقامه عند عيسى؛ لأنهما ابنا الخالة، وكانا لدتين، وكانت أم يحيى تقول
وإنما كان يوسف عليه السلام في السماء الثالثة؛ لأن على حسنه تدخل أمة النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، فأري له هناك لكي يكون ذلك بشارة له عليه السلام فيسر بذلك.
وإنما كان إدريس عليه السلام في السماء الرابعة؛ لأنه هناك توفي ولم تكن له تربة في الأرض على ما ذكر.
وإنما كان هارون عليه الئلام في السماء الخامسة؛ لأنه ملازم لموسى عليه
لأم عيسى وهما حاملتان: إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، أي: سجود تحية، فكان بينهما اتحاد منذ كانا، فلما عرض لعيس الصعود إلى السماء جعل عند يحيى.
"وإنما كان يوسف عليه السلام في السماء الثالثة؛ لأن على حسنه تدخل أمة النبي صلى الله عليه وسلم الجنة"، وهي ثالث دورها، الدنيا، فالبرزخ، فالجنة، فناسب كونه في الثالثة، "فأري له هناك لكي يكون ذلك بشارة له عليه السلام، فيسر بذلك"، وفي فتح الصفا: ويوسف في الثالثة، باعتبار أن جعله في خزائن الأرض كان مرتبة ثالثة له؛ لأنه بعد خروجه من السجن، وذلك بعد رفعه من الجب.
"وإنما كان إدريس عليه السلام في السماء الرابعة؛ لأنه هناك توفي، ولم تكن له تربة في الأرض على ما ذكر" عن كعب الأحبار: أن الملك الموكل بالشمس، كان صديقًا لإدريس، فسأله أن يريه الجنة، فإذن الله له في ذلك، فرفعه فلما كان في السماء الرابعة رآه ملك الموت فعجب، وقال: أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة، ققضبه.
قال السهيلي: ولكون رفعه حيًا إلى ذلك المقام خاصا به، قال تعالى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] ، فلا ينافي رؤيته إبراهيم وموسى في مكان أعلى منه، ومر عن الحافظ؛ أن هذا من الإسرائيليات، والله أعلم بصحته، وأن رفعه وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية.
وقال ابن المنير: اختلف في إدريس هل رفع إلى السماء بعد موته كغيره من الأنبياء، أو إنما رفع حيًا، وهو إلى الآن حي كعيسى، وجاء في القصص، أن إدريس أحبته الملائكة لكثرة عبادته، فسأل ملك الموت أن يذيقه الموت ليهون عليه، فأذاقه، ثم حيي، فسأل أن يورده الناء ليزداد رهبة، فأوردها، ثم أخرج، فسأل أن يدخل الجنة ليزيد رغبة، فأدخلها، فقيل له: اخرج، قال: لا يارب إني ذقت الموت ووردت النار ودخلت الجنة، وقد وعدت من دخلها على ذلك أن لا يخرج منها أبدًا، فأوحى الله إلى الخازن أن دعه، فبإذني فعل ما فعل، فبقي في الجنة في السماء الرابعة على هذا الوجه انتهى، فتأمله.
"وإنما كان هارون عليه السلام في السماء الخامسة؛ لأنه ملازم لموسى عليه السلام،
السلام، لأجل أنه أخوه وخليفته في قومه، فكان هناك لأجل هذا المعنى، وإنما لم يكن مع موسى في السماء السادسة؛ لأن لموسى مزية وحمرة وهي كونه كليمًا واختص بأشياء لم تكن لهارون فلأجل هذا المعنى لم يكن معه.
وإنما كان موسى في السماء السادسة لأجل ما اختص به من الفضائل؛ ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء أتباعًا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
وإنما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة؛ لأنه الخليل والأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي عليه السلام بلقياه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وهو اختراق الحجب، وأيضًا؛ لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل لأجل ما اختص مما زاد به عليهم، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ
لأجل أنه أخوه" ووزيره "وخليفته في قومه"، لما ذهب إلى المناجاة، "فكان هناك لأجل هذا المعنى، وإنما لم يكن مع موسى في السماء السادسة؛ لأن لموسى مزية وحرمة، وهي كونه كليمًا، واختص بأشياء لم تكن لهارون، فلأجل هذا المعنى لم يكن معه" تكرار لزيادة البيان.
"وإنما كان موسى في السادسة، لأجل ما اختص به من الفضائل؛ ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء اتباعًا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم"، فكان فهيا للإشعار بالقرب.
"وإنما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة؛ لأنه الخليل والأب الأخير" للمصطفى، "فناسب أن يتجدد للنبي عليه السلام بلقياه أنس لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وهو اختراق الحجب"، كما أنس بأبيه آدم في أول عالم السماوات، ثم في وسطها بأبيه إدريس؛ لأن الرابعة من السبع وسط معتدل، "وأيضًا؛ لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام، فكان الخليل فوق الكل، لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل، لأجل ما اختص مما زاد به عليهم"، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا بقوله، وأيضًا، فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين، أو أدنى.
"قال الله تعالى: "{تِلْك} " مبتدأ "{الرُّسُل} " صفة، والخبر "{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} " بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، "{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه} " كموسى، "{وَرَفَعَ بَعْضَهُم} " أي: محمدًا "{دَرَجَات} " [البقرة: 253] "، على غيره بعموم الدعوة، وختم النبوة
بَعْضَهُمْ دَرَجَات} [البقرة: 253] فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة وهي درجة الرسالة، والنبوة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة ترفيعًا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول، انتهى فليتأمل.
وقد اختلف في رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام، فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى، لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك.
وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل: الأجساد بأرواحها.
به، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة، والخصائص العديدة، "فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة، وهي درجة الرسالة والنبورة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة" الإلهية، "ترفيعًا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول"، وفي نسخة: للمنزول بلام بدل الموحدة، أي: النازل عن غيرة في الفضل "انتهى، فليتأمل".
"وقد اختلف في" صفة "رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام" في السماوات ولهم ولغيرهم في بيت المقدس، مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض، "فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم" متشكلة بصور أجسادهم، "إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده"، سواء قلنا رفع حيا عند الأكثرين، أو بعد أن توفي على ظاهر:{إِنِّي مُتَوَفِّيك} ، للاتفاق على رفعه بجسده.
"وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك"، أي: رفع بجسده حيًا، ثم مات أم لا على قولين تقدمًا، "وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل الأرواح خاصة"، دون الأجساد ويؤيده حديث أبي هريرة عند الحاكم والبيهقي، فلقي أرواح الأنبياء وفي دليل على تشكل الأرواح بصور أجسادها في عالم الله، "ويحتمل الأجساد بأرواحها"، بأن يكون أسرى بأجسادهم من قبورهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفًا وتكريمًا، ويؤيده حديث أنس عند البيهقي، وبعث له آدم، فمن دون من الأنبياء، فأمهم.
وعند البزار والطبراني: فنشر لي الأنبياء من سمى الله تعالى، ومن لم يسم، فصليت بهم.
قال الحافظ: واختاره بعض شيوخنا، واحتج بما في مسلم، مرفوعًا:"رأيت مسوى ليلة أسرى بي قائمًا يصلي في قبره". فدل على أنه أسري به لما مر به، وقلت، وليس ذلك بلازم، بل يجوز أن لروحه اتصالًا بجسده في الأرض، ولذلك تمكن من الصلاة فيها، وروحه مستقرة في السماء.
وقيل: يحتمل أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبر في الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصرة، والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته عليه الصلاة والسلام رآهما من ذلك الموضع، أو مثل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما.
وقيل: يحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا، رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكرامًا لنبيه عليه السلام وتعظيمًا له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن.
"وقيل": أي: قال ابن أبي جمرة رؤيته لهؤلاء الأنبياء "يحتمل" وجوها: أحدها: أنه يحتمل "أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبر الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدراك به ذلك"، لكن قد يبعده، فإذا فيها آدم إلخ
…
لا سيما قوله: "فإذا أنا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور"، فإن الأصل الحقيقة، وكون المعنى، فإذا في وجودي في السماء عاينت آدم في قبره، ثم يقال مثله في البقية، مجاز بعيد جدًا بلا داعية، وكيف يقال: عاينت وأنا في السماء السابعة إبراهيم في قبره، وهو مسنده ظهره إلى البيت المعمور.
"ويشهد له رؤيته عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في عرض الحائط": "بضم العين وإسكان الراء" جانبه وناحيته، "وهو محتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام رآهما في ذلك الموضع" حقيقة، بأن كشف له عنهما، وأزيلت الحجب التي بينه وبينهما.
قال ابن أبي جمرة: كما يقال: رأيت الهلال من منزلي من الطاق، والمراد من موضع الطاق، "أو مثل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما"، لكن هذان الاحتمالان ظاهران في ذا الحديث، وإجراء مثلهما في حديث المعراج لا يظهر لبعده.
"وقيل": أي: قاب ابن أبي جمرة أيضًا، "يحتمل" أن يكون صلى الله عليه وسلم عاين أرواحهم هناك في صورهم، "وأن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكرامًا لنبيه عليه السلام، وتعظيمًا له حتى يحصل له من قبلهم" بكسر ففتح، جهتهم، "ما أشرنا إليه من الإنس والبشارة وغير ذلك، مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن"،
وكل هذه الوجوه محتملة، ولا ترجيح لأحدها على الآخر إذ القدرة صالحة لكل ذلك. انتهى.
وأما قوله في الحديث: "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال
وهذا الاحتمال هو عين قوله أولًا، ويحتمل الأجساد بأرواحها غايته أنه مبسوط عنه، فهو كالشرح له، وبقي احتمال رابع، وبه جزم أبو الوفاء بن عقيل، أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي رآها المصطفى فيها متشكلة بصور أجسادهم، لكنه إنما يظهر في الذين رآهم في السماوات، لا في بيت المقدس.
"وكل هذه الوجوه محتملة""بضم الميم الأولى وفتح الثانية"، أي: قريبة، "وإما بكسر الثانية"، فالواقعة نفسها، كما صرح به بعضهم، "ولا ترجيح لأحدها على الآخر"، من حيث الاحتمال في حد ذاته، "إذ القدرة صالحة لكل ذلك"، أما بالنظر لما يشهد له من خارج، فيرجع. "انتهى"، يعني كلام ابن أبي جمرة، وإن لم يفصح به، وأوله ما قد علمته، وما قبله أتى به المصنف من فتح الباري، وفيه رد على ما أطال به ابن القيم في كتاب الروح من ترجيح أن رؤيته إنما هي لأرواحهم فقط، إذ الأجساد في الأرض قطعا إنما تبعث يوم القيامة، ولو بعثت قبل ذلك لكانت انشقت عنهم الأرض قبلها، وكانت تذوق الموت عند نفخ الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعًا، وبأنها لو بعثت الأجساد لم تعد إلى القبور، بل كانت في الجنة مع أنها محرمة على الأنبياء حتى يدخلها نبينا، وهو أول من يستفتح باب الجنة، ولا تنشق الأرض عن أحد قبله إلى آخر ما أطال به، مما لا حجة له فيه، وجوابه كما أملاني شيخنا أنه إنما يتم ما قاله، لو كانت أرواحهم مفارقة لأجسادهم في قبورهم، وليس كذلك، بل هم أحياء في قبورهم بحياة حقيقية يأكلون ويشربون ويتمتعون فيها، وخروجهم من قبورهم، ومجيئهم لها ليس الخروج المقتضي للبعث، بل هو كخروج الإنسان من منزله لحاجة يقضيها، ويعود إليه، فلا يعد بذلك مفارقًا له، والذي يعد به مفارقًا هو الذي بحيث لا يعود إليه، بل يقوم للقيامة، وبهذا سقط كلامه.
"وأما قوله في الحديث: ثم رفعت"، رواه الأكثر بضم الراء، وسكون العين وضم التاء، ضمير المتكلم بعده حرف الجر، وهو "إلى سدرة المنتهى"، وللكشميهني: رفعت، بفتح العين وسكون التاء، أي: السدرة لي، أي: من أجلي.
وكذا في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين بأنه رفع إليها، أي: ارتقى به، وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَة} [الواقعة: 34]، أي: تقرب لهم، "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وبسكونها أيضًا.
هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران فقلت: وما هذا يا جبريل: قال: أما الباطنان فنهران في
قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي: التحريك، وهو ثمر السدر، "مثل قلال"، قال الخطابي: بالكسر، جمع قلة بالضم، هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين "هجر": بفتح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف، كما في الفتح، وقدمته.
قال النعماني: وأما ثمرها، فهل هو كالثمار المأكولة، وأنه يزول، ويعقبه غيره، وهل الزائل يؤكل أو يسقط، لم أر من ذكر هذا، ولا يمنته أن يكون كذلك، وأنه تأكله الطيور التي تسرح في الجنة، والروح على قول من يقول: إنهم صنف على صورة الإنسان، لهم أيد وأرجل ورؤوس، وأنهم يأكلون الطعامن وليسوا من الملائكة.
قال ابن عباس: ما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح، وقال أبو صالح: وليسوا بناس، ولا بالملائكة، وعن بعضهم: أن الملائكة لا يرونهم، وليس بينه وبين قول ابن عباس هذا تناف، فإنه لا يلزم من نزولهم معهم رؤيتهم لهم انتهى.
"وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتحها غلط زاعمه، وفتح التحتية: جمع فيل، وفي بدء الخلق الفيول: جمع فيل أيضًا، والتشبيه في الشكل فقط لا في الكبر ولا في الحسن، فلا تنافي رواية تكاد الورقة تغطي هذه الأمة.
"قال" جبريل: "هذه سدرة المنتهى"، ولعل سبب إخباره أنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بوجودها قبل الرؤية، فكأنه قال هذه سدرة المنتهى التي علمت بوجودها.
قال الرازي: وإضافته إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه كقولك: أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك أو روح من الأرواح، أو من إضافة المحل إلى الحال فيه، ككتاب الفقه، فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم، أو من إضافة الملك إلى مالكه، كشجرة زيدن فالمنتهى إليه محذوف، تقديره سدرة المنتهى إليه.
قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] ، فالمنتهى إليه هو الله تعالى، وإضافتها إليه كإضافة البيت للتشريف والتعظيم.
"وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران"، قال ابن أبي جمرة: يحتمل الحقيقة، فهذه الأنهار تنبع من أصل الشجرة نفسها، فتكون الشجرة طعمها نبق، وأصلها ينبع منه الماء، والقدرة لا تعجز عن هذا، ويحتمل أنه تسمية الشيء، بما قاربه، فتكون الأنهار تنبع قريبًا من أصل الشجرة. انتهى.
الجنة"، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.
وفي رواية عند البخاري أيضًا: "فإذا في أصلها -أي سدرة المنتهى- أربعة أنهار".
وعند مسلم: "يخرج من أصلها".
وعنده أيضًا من حديث أبي هريرة: "أربعة أنهار من الجنة، النيل والفرات وسيحان وجيحان".
فيحتمل: أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة.
ووقع في رواية شريك، كما عند البخاري في التوحيد: أنه رأى في سماء
"فقلت: وما هذا يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة"، قال ابن أبي جمرة فيه: إن الباطن أجل من الظاهر؛ لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
"وأما الظاهران فالنيل" نهر مصر، "والفرات" بالفوقية في حال الوصل والوقف نهر الكوفة.
"وفي رواية عند البخاري أيضًا" في بدء الخلق: "فإذا في أصلها، أي: سدرة المنتهى، أربعة أنهار"، فيفسر قوله في المعراج: وإذا أربعة أنهار، أي: في أصلها، إذ الحديث واحد.
"وعند مسلم: "يخرج من أصلها" فقوله في أصلها، معناه يخرج منه، "وعنده"، أي: مسلم، "أيضًا من حديث أبي هريرة: "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان" من السيح، وهو جري الماء على وجه الأرض، وهو نهر العواصم بقرب مصيصة، وهو غير سيحون نهر بالهند، أو السند، "وجيحان" نهر أذنة وجيحون نهر بلخ، وينتهي إلى خوارزم، وزعم أنهما هما وهم.
فقد حكى النووي الاتفاق على أنهما غيرهما، لكن نازعه السيوطي في دعوى الاتفاق، "فيحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة" بهذا الاعتبار، فلا يعارض حديث المعراج.
"ووقع في رواية شريك، كما عند البخاري في" كتاب "التوحيد" من صحيحه "أنه رأى في سماء الدنيا نهران يطردان": بالتشديد يجريان: "فقال له جبريل": جوابًا لقوله: "ما
الدنيا نهران يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما.
والجمع بينهما: أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في سماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بـ"العنصر" عنصر انتشارهما بسماء الدنيا كذا قال ابن دحية.
وروى ابن أبي حاتم عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي
هذان النهران يا جبريل؟، قال:"هما النيل والفرات، عنصرهما"": بضم العين والصاد المهملتين، أصلهما بدل من النيل والفرات، "والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة"، الباطنين، "ورآهما في سماء الدنيا دوزن نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر انتشارهما بسماء الدنيا"، لا أصلهما الحقيقي، فإنه من أصل السدرة، فلا تنافي بين الأحاديث، "كذا قال ابن دحية": كأنه تبرأ منه لعدم تعين ما قال: لجواز أن يراد أصل نبعهما من تحت السدرة، ومقرهما في سماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض، كما تقدم للمصنف، وهو في المعنى قريب من جمع ابن دحية، أو عينه.
وقال النعماني: يجوز أن عنصرهما مبتدأ يتعلق به خبر سابق لم يتقدم له ذكر من حيث اللفظ، لكن من حيث العهد، فيكون المعنى هذا النيل والفرات، فيتم الكلام، ثم يكون عنصرهما ما كنت رأيت عند سدرة المنتهى يا محمد، فاكتفى بهذا العهد السابق عن إعادة الكلام، انتهى وهو مع تعسفه لا يصح؛ لأن رؤيته ذلك في سماء الدنيا قبل رقيه للسدرة فلا عهد هنا.
"وروى ابن أبي حاتم عن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى إبراهيم، قال: "ثم انطلق" جبريل "بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت" بخاء معجمة، جمع خيم، كسهم وسهام، وهو مثل الخيمة.
وفي نسخة: جام بالجيم، بلا ياء، أي: إناء والمراد الجنس، فيصدق بالأواني الكثيرة "واللؤلؤ والزبرجد": بفتح الزاي ودال مهملة، جوهر معروف، ويقال: هو الزمرد، "وعليه طير خضر" هو "أنعم"، فهو خبر مبتدأ محذوف، "طير رأيت"، وهو اسم تفضيل من نعم بالضم نعومة؛ لأن ملمسه، يعني أن ملمس هذه الطيور ألين من ملمس سائر الطيور، وفي رواية: أنعم طير أنت راء.
"قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على
أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك".
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: وإذا فيها عين تجري يقال لها: السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، وسيأتي
رضراض": بفتح الراء، وسكون الضاد المعجمة، آخره مثلها، حصى صغار، "من الياقوت والزمرد": بزاي، فميم، فراء ثقيلة مضمومات، آخره ذال معجمة ومهملة، كما في القاموس، وقال: إ نه الزبرجد معرب، "ماؤه أشد بياضًا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء، فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك"، فجمع الأوصاف الثلاثة الحسنة.
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: وإذا فيها"، أي: السماء السابعة، "عين تجري يقال لها: السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: نهر الرحمة".
قال الحافظ: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان، المذكوران، في الحديث، وكذا روي عن مقاتل، قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. انتهى، وفيه مسامحة؛ لأن ما روي عن مقاتل صريح في أن أحد النهرين السلسبيل، والآخر الكوثر.
وحديث أبي سعيد صريح في أن السلسبيل هو الأصل، ويخرج منه نهران، أحدهما الكوثر، فهو فرع منه لا قسيم له، فحق العبارة.
وروي عن مقاتل: بإسقاط لفظ كذا، ويكون مقابلًا لتفسيرهما بما في حديث أبي سعيد، ثم قال الحافظ عقب ما نقلته عنه: وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان، والنيل والفرات، من أنهار الجنة"، فلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار، أصلها من الجنة، وحيئذ لم يثبت لسيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل صدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان، فهما غير سيحان وجيحان.
قال النووي في هذا الحديث: إن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل السدرة، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد، وقول عياض الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لقوله:"إن النيل والفرات يخرجان من أصلها"، وهما يخرجان من الأرض، فليزم منه أن أصل السدرة في الأرض متعقب؛ لأن خروجهما من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، والحاصل أن أصلهما من الجنة، ويجران أولًا من أصلها، ثم يسيران إلى أن