الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند أولي الألباب.
ولا يقدح في هذا نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بعده؛ لأنه إذا نزل من السماء كان على دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، مع أن المراد: أنه آخر من نبئ.
قال ابن حبان: من ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله والله أعلم.
والطلاسم، والنيرنجيات" "بكسر النون وإسكان التحتية وفتح الراء فنون ساكنة فجيم فتحتية فألف ففوقية".
قال المجد: النيرنج "بالكسر" أخذ كالسحر، وليس به، "فكلها محال" باطل، "وضلالة" زوال عن الحق، "عند أولي الألباب" العقول، "ولا يقدح في هذا نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بعده؛ لأنه إذا نزل من السماء كان على دين نبينا محمد" صلى الله عليه وسلم، "ومنهاجه" طريقه في شرعه، فهو واحد من أمته، "مع" أنه لا يرد هذا أصلًا، إذ "أن المراد أنه آخر من نبئ" وأرسل، فلا يضر وجود واحد بعد، أو أكثر ممن نبئ، أو أرسل قبله.
"قال ابن حبان: من ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله" لتكذيب القرآن، وخاتم النبيين، "والله أعلم".
النوع الرابع: في التنويه به صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة
كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] .
"النوع الرابع في التنويه به":
أي: التعظيم ورفعة شأنه "صلى الله عليه وسلم" بذكره "في الكتب السالفة، كالتوراة والإنجيل؛ بأنه صاحب الرسالة والتبجيل" متعلق بقوله في التنويه، أي: رفع ذكره بأنه صاحب، وهذا أظهر من كونه بدلًا منه.
"قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} باسمه وصفته، بحيث لا يشكون أنه هو، ولذا عدل عن يجدون اسمه أو وصفه مكتوبًا، فتضمن ذلك إخباره تعالى بذكره في الكتابين قبل وجوده، تعظيمًا له وحثًا على
وهذا يدل على أنه لو لم يكن مكتوبًا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول مقاله، فلما قال لهم عليه السلام هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورًا في التوراة والإنجيل. وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.
لكن أهل الكتاب كما قال الله تعالى: {يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [البقرة: 146]، و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] ، وإلا فهم -قاتلهم الله- قد عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم كما عرفوا أبناءهم، ووجدوه عندهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل، لكن حرفوهما وبدلوهما ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
اإتباعه إذا وجد.
روى أبو نعيم في الحلية عن وهب بن منبه، قال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله مائتي سنة، ثم مات فأخذوه، فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى أن أخرج فصل عليه، قال: يا رب بنو إسرائيل يشهدون أنه عصاك مائتي سنة، فأوحى الله إليه، هكذا كان إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد صلى الله عليه وسلم قبله، ووضعه على عينيه، وصلى عليه، فشكرت له ذلك، وغفرت هل وزوجته سبعين حوراء، "وهذا يدل على أن لو لم يكن مكتوبًا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات" لهم عن اتباعه، "والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله" بل في الزيادة، "و" لا فيما "ينفر الناس عنه قبول مقاله" فكيف بأرجح الخلق عقلًا، "فلما قال لهم عليه السلام: هذا" المذكور من كتابة اسمه، وصفه بالنبي الأمي، "دل على أن ذلك النعت" أي: الوصف الذي وصف لهم به نفسه "كان مذكورًا في التوراة، والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته، لكن أهل الكتاب، كما قال تعالى:{يَكْتُمُونَ الْحَق} نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه الحق، {يُحَرِّفُونَ} يبدلون {الْكَلِمَ} الذي في التوراة من نعت محمد وغيره، {عَنْ مَوَاضِعِهِ} التي وضعه الله عليها، "وإلا فهم قاتلهم الله قد عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما عرفوا أبناءهم" كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [البقرة: 146] .
قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لقد عرفته صلى الله عليه وسلم حين رأيته، كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد أشد، "ووجدوه عندهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل، لكن حرفوهما وبدلوهما" عطف تفسير {ْلِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} بأقوالهم، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} يظهره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ذلك، "فدلائل نبوة نبينا في كتابيهما بعد تحريفهما طافحة".
فدلائل نبوة نبينا في كتابيهما -بعد تحريفهما- طافحة، وأعلام شرائعه ورسالته فيهما لائحة، وكيف يغني عنهم إنكارهم، وهذا اسم النبي بالسريانية "مشفح"، فمشفح، محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد، شفحا، فمشفح: محمد؛ ولأن الصفات التي أقروا بها هي وفاق لأحواله وزمانه، ومخرجه ومبعثه وشريعته صلى الله عليه وسلم، فليدلونا على من هذه الصفات له، ومن خرجت له الأمم من بين يديه، وانقادت له
أي: ظاهرة، مالئة لكتابيهما من طفح الإناء امتلأ "وأعلام شرائعه ورسالته فيهما لائحة" فالباقي بعد التحريف كافٍ في بيان صدقه وإظهاره رسالته عليه السلام، "وكيف يغني عنهم إنكارهم وهذا اسم النبي بالسريانية" كما جزم به عياض وغيره.
"مشفح" بضم الميم وشين معجمة وفاء شديدة مفتوحتين، ثم حاء مهملة، مرفوع في النسخ الصحيحة، وفي كثيرها مشفحًا، بالنصب على الحال، أي: جاء حال كونه مشفحًا أو بتقدير يرى مشفحًا، لكن قال الدلجي: مشفح ممنوع الصرف للعلمية والعجمة.
وبالفاء جزم ابن دحية، وقال: أنه بوزن محمد، ومعناه وروى، كما قال المصنف بالقاف، وبه جزم الشمني والدلجي، وقال: القاف مفتوحة أو مكسورة، واقتصر المجد على الفتح، فقال: مشفح، كمعظم.
قال الحافظ البرهان: لا أعرف صحته ولا معناه، أي: سواء كان بالفاء أو بالقاف، وقال الدلجي: لا أعرف له معنى، ولعل مرادهما لا يعرفان هل معناه شافع، أو صاحب الحوض، أو اللواء، أو نحو ذلك، فلا ينافي قول عياض وابن دحية وغيرهما.
وتبعهم المصنف بقوله: "فمشفح محمد بغير شك" أي: معناه محمد، وهو ثابت في كتبهم بهذا الوصف، "واعتباره" أي: دليله؛ "أنهم يقولون "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا الحمد لله، وإذا كان الحمد" أي: معناه في لغتهم "شفحا، فمشفح محمد"، وقد يقال: لا يلزم من التعبير عن الحمد لله بشفحا لاها أنه مشفح اسم لمحمد، لجواز أن يراد به اسم آخر، كمحمود أو ممدوح ونحوه.
إلا أن يقال: وجه الملازمة أنه إذا ثبت أن الحمد معناه الشفح، كان مصدرًا واسم المفعول المأخوذ من الحمد مصدرًا، هو محمد، فيكون مشفح بمعنى محمد؛ "ولأن الصفات التي أقروا بها" أيك بورودها في كتبهم "هي وفاق" أي: مطابقة "لأحواله وزمانه ومخرجه ومبعثه وشريعته صلى الله عليه وسلم" فإن أنكروا أنه هو، "فليدلونا على من هذه الصفات له" قامت به هذه الصفات هو النبي صلى الله عليه وسلم.
واستجابت لدعوته، ومن صاحب الجمل الذي هلكت بابل وأصنامها به؟
إذ لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، لم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك؟ وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره -وهو يقرعهم به- دليل على اعترافهم له؟ فإنه يقول:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} ، ويقول حكاية عن المسيح:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] . ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، ويقول:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [البقرة: 146] ، وكانوا يقولون لمخالفيهم
ولزمتهم الحجة، "ومن خرجت له الأمم"، أي: جاءت له طائعة مذعنة "من بين يديه" وقوله: "وانقادت له واستجابت" أجابت "لدعوته"، بيان للمراد به، "ومن صاحب الجمل الذي هلكت بابل" بلد في سواد العراق، ينسب إليه السحر والخمر، "وأصنامها به إذ" وفي نسخة على أنا "لو لم نأت بهذه الأنباء" الأخبار "والقصص من كتبهم" وجواب لو قوله:"لم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك" وفي نسخ: ألم يك بهمزة الاستفهام الإنكاري، وعليها، فجواب لو محذوف، أي: لا يضرنا ذلك، أو كنا في غنية عنه، لكن حذف الهمزة أولى؛ لأن ذكرها لا يحصل المقصود من إلزامهم الحجة.
وقد يقال: بل يحصله بضميمة قوله: "وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره" بالنصب، "وهو يقرعهم": يثربهم ويوبخهم "به دليل على اعترافهم له، فإنه يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} باسمه وصفته، ويقول حكاية عن المسيح، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا} في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة، وبتذكيري {بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال لا الجار؛ لأنه لغو إذ هو صلة للرسول، فلا يعمل، قاله البيضاوي، "ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُون} تخلطون {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} بالتحريف والتزوير، {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: نعت النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق، "ويقول:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} أي: محمد عليه السلام، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} بنعته في كتبهم.
قال ابن سلام: بل معرفتي لمحمد أشد، "وكانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا
عند القتال: هذا نبي قد أظل مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون في كتابهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدًا وخوفًا على الرياسة.
ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بني إسرائيل، فلما بعثه الله من العرب، من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم، وأظهروا التكذيب، فلعنة الله على الكافرين.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما في أيديهم، ويقول:"من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدونني عندكم مكتوبًا" وهم لا يجدونه كما ذكر؟! أوليس ذلك مما يزيدهم عنه بعد استفهام إنكاري، وقد كان غنيًا أن يدعوهم بما ينفرهم، وأن يستميلهم بما يوحشهم. وقد أسلم من أسلم من علمائهم كعبد الله بن سلام،
نبي قد أظل" أي: قرب "مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون في كتابهم".
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء، وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا نبي نعرفه، وما هو الذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، "فلما جاءهم ما عرفوا كروا به حسدًا وخوفًا على الرياسة" وجواب لما الأولى دل عليه جواب الثانية، "ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بني إسرائيل، فلما بعثه الله من العرب من نسل إسماعيل، عظم" شق "ذلك عليهم وأظهروا التكذيب" بغيًا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، "فلعنة الله على الكافرين" أي: عليهم، وأتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم، فاللام للعهد، ويجوز أنها للجنس، ويدخلون فيه دخولًا، أوليًا؛ لأن الكلام فيهم، "وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم، وما في أيديهم، ويقول: "من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدونني عندكم مكتوبًا" باسمي وصفتي، "وهم لا يجدونه كما ذكر" في كتبهم، "أو ليس ذلك مما يزيدهم عنه بعد استفهام إنكاري، وقد كان غنيًا" عن "أن يدعوهم بما ينفرهم" عن اتباعه، "و" عن "أن يستميلهم بما يوحشهم".
"وقد أسلم من أسلم من علمائهم، كعبد الله بن سلام" بالتخفيف، الإسرائيلي أبي
وتميم الداري، وكعب، وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوي.
وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، خرج فلقيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت ابن سلام عالم أهل يثرب"؟ قال نعم: قال: "ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد
يوسف حليف بني الخزرج، قيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، له أحاديث وفضل، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين، "وتميم" من أوس بن خارجة "الداري" أبي رقية بقاف مصغر، صحابي مشهور سكن بيت المقدس بعد عثمان، مات سنة أربعين، "وكعب" بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، كان يهوديًا من أحبارهم، من أهل اليمن، وأدرك الزمن النبوي، قيل: وأسلم فيه، وقيل: في خلافة أبي بكر، وقيل: عمر، وهو الراجح، وسكن الشام، ومات في خلافة عثمان، وقد زاد على المائة، وفي نسخة: وكم أسلم، ومعناها التكثير، لكن الثلاثة الذين ذكرهم قليل، فالمراد أن المسلمين من علمائهم كثير، لكن ليسوا من أضراب ابن سلام فلم يذكرهم، واقتصر على عظمائهم، "وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوي" واعترفوا بثبوتها في كتبهم، "وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق" والطبراني وأبو نعيم في الدلائل، كلهم "من طريق محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الل بن سلام" صدوق، من السادسة، ومنهم من زاد بين حمزة ويوسف محمدًا، روى له ابن ماجه "عن أبيه" حمزة بن يوسف، ويقال أن يوسف جده، واسم أبيه محمد، مقبول من السابعة.
روى له ابن ماجه، كما في التقريب "عن جده" يوسف بن عبد الله بن سلام الإسرائيلي، المدني، أبي يعقوب، صحابي صغير.
وقد ذكره العجلي في ثقات التابعين، وقوله:"عبد الله بن سلام أنه" يقتضي أن المراد جده الأعلى فيكون منقطعًا؛ لأنه لم يدركه.
وفي رواية الطبراني وأبي نعيم، عن أبيه: ان عبد الله بن سلام، وهو منقطع أيضًا، "لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، خرج فلقيه" ولأبي نعيم والطبراني: أنه قال لأخبار يهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم عهدًا، فانطلق إلى رسول الله وهو بمكة، فوافاه بمنى والناس حوله، فقام مع النبي، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم" لما نظر إليه:"أنت" عبد الله "بن سلام، عالم أهل يثرب" فهو من معجزاته حيث أخبره بذلك بمجرد رؤيته له، "قال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم:"$ادن"، فدنا منه كما في الطبراني وأبي نعيم، فقال:"ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد صفتي في كتاب الله" التوراة، وفي رواية: "أنشدك بالله، أما تجدوني في التوراة رسول الله
"صفتي في كتاب الله"؟ قال: انسب ربك يا محمد، فارتج النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} " [الإخلاص: 1-4]، فقال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وإن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
"قال: انسب ربك يا محمد" وفي رواية: انعت لنا ربك "فارتج" بالبناء للمفعول ومخففًا، أي: لم ينطق "النبي صلى الله عليه وسلم" بجواب، ويقال: ارتج بهمزة وصل وتثقيل الجيم، وبعضهم يمنعها، وربما قيل: ارتتج، وزان اقتتل بالبناء للمفعول أيضًا، كما في المصباح.
وفي رواية: فارتعد صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشيًا عليه، "فقال له جبريل:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خبر ثان {اللَّهُ الصَّمَدُ} المقصود في الحوائج على الدوام، أو الذي لا جوف له، كما للطبراني عن بريدة، وبه قال كثير من المفسرين، قال ابن عطية: كأنه بمعنى المصمت.
وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب، وفي هذا التفسير كله نظر؛ لأن الجسم في غاية البعد عن صفات الله تعالى، فما الذي تعطينا هذه العبارات، قال: والصمد في كلام العرب السيد الذي يصمد ئغليه في الأمور ويستقل بها، وأنشدوا:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد
…
بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد
وبهذا تفسر هذه الآية؛ لأن الله موجود الموجودات، وإليه يصمد، وبه قوامها، ولا غنى بنفسه إلا هو تبارك وتعالى. انتهى.
{لَمْ يَلِدْ} ؛ لأنه لم يجانس، ولم يفتقر إلى ما يعينه، أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة والفناء عليه، {وَلَمْ يُولَدْ} ؛ لأنه لا يفتقر إلى شيء، ولا يسبقه عدم، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} مكافئًا ومماثلًا، فله متعلق بكفؤا قدم عليه؛ لأنه محط القصد بالنفي، وأخر أحد، وهو اسم يكن عن خبرها رعاية للفاصلة، "فقال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان" كلها، بإبطال باطلها، ونسخ حقها.
وفي رواية الطبراني وأبي نعيم؛ فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم انصرف إلى المدينة، وكتم إسلامه، وقضية هذا؛ أنه أسلم بمكة قبل الهجرة، لكن هذا حديث ضعيف، متكلم فيه، معارض بما في البخاري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر أتاه ابن سلام، وقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فسأله، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائله، فقال: أشهد أنك رسول الله.
الحديث، وفيه قد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فسلهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، وأنه سألهم عنه، فاعترفوا بما قال: فلما قال لهم: إني أسلمت
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس
كذبوه، وقالوا يه ما ليس فيه، ومن ثم لم يعرج الحافظ على رواية ابن عساكر ومن معه، هذه بل جزم في الفتح والإصابة؛ بأنه أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وغلط من قال: أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين.
وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس لقدومه، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول:"أفشوا السلام، وأطعموا الطعام"، الحديث، ومحال على من أسلم قبل ذلك أن يشك بعد ذلك، وأنه يسأله امتحانًا ليعلم، أهو نبي أم لا؟، وقد اختلف في أن سورة الإخلاص مكية أو مدينة، وأخرج الترمذي والحاكم وابن خزيمة، عن أبي ابن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، إلى آخرها.
وأخرج الطبراني وابن جرير، مثله من حديث جابر، فاستدل به على أنها مكية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، فقالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، وروى ابن جرير عن قتادة، وعن المنذر عن سعيد بن جبير مثله، فاستدل بهذا على أنها مدنية، ولابن جرير عن أبي العالية، قال: قال قادة الأحزاب: انسب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه السورة، قال في اللباب: وهذا يبين المراد بالمشركين في حديث أبي: فتكون السورة مدنية، كما دل عليه حديث ابن عباس، وينتفي التعارض بين الحديثين، لكن روى أبو الشيخ في العظمة، عن أنس أتت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النهار والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك، فلم يجبهم فأتاه جبريل بهذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} انتهى.
نعم بقية الحديث ثابتة عن ابن سلام، علقها البخاري تلو حديث ابن عمر، والآتي، وأخرجها الدارمي، ويعقوب بن سفيان، والطبراني، وهو قوله:"وإني لأجد صفتك في كتاب الله" يعني التوراة، ففي رواية الجماعة عنه: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على أمتك بما يفعلون لهم وعليهم، مقبولًا عند الله، {وَمُبَشِّرًا} لمن أجابك بالثواب {وَنَذِيرًا} ، مخوفا لمن عصاك بالعذاب، "أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل" أي: على الله، لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله في السر والجهر، والصبر على انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق، واليقين بتمام وعد الله، فتوكل على الله، فسماه الله المتوكل، "ليس بفظ" سيئ الخلق جاف.
وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، إذ لو جرى على نسق الأول، لقال: لست بفظ
بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا.
وقوله: "ليس بفظ ولا غليظ" موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ولا
"ولا غليظ" قاسي القلب، "ولا سخاب""بسين مهملة وخاء معجمة ثقيلة" لغة أثبتها الفراء وغيره بالصاد، أشهر من السين، بل ضعفها الخليل، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وفيه ذم أهل السوق، الذين يكونون بالصفة المذمومة من صخب ولغط، وزيادة مدحه لما يبيعونه، وذم لما يشترونه، والإيمان الحانثة، ولذا كانت شر البقاع لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة، وقيد بالأسواق، والمراد نفيه عنه مطلقًا؛ لأنه إذا انتفى في المحل المعتاد فيه، انتفى في غيره بالطريق الأولى، وهذا أبلغ وأفصح من الإطلاق؛ لأنه نفي بدليل نحو قوله: لا ترى الضب بها ينحجر، فهو من نفي المقيد دون قيده، "ولا يجزي بالسيئة مثلها" أي: السيئة، "ولكن يعفو ويصفح" يعرض ما لم تنتهك حرمات الله، "ولن يقبضه" يميته "الله حتى يقيم به الملة العوجاء" ملة إبراهيم، فإنها اعوجت في الفترة، فزيدت، ونقصت، وغيرت عن استقامتها، وأميلت بعد قوامها، وما زالت كذلك حتى أقامها صلى الله عليه وسلم بنفي الشرك وإثبات التوحيد، كما قال:"حتى يقولوا: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله، فالمراد كلمة التوحيد.
هكذا فسر شراح الحديث قاطبة: الملة العوجاء بملة إبراهيم، وكذا ابن الأثير في النهاية، قائلًا: إن العرب كانوا يزعمون أنهم على ملته، وأبعد من قال؛ أنها الملة التي رآها خارجة عن الحق، فأزال اعوجاجها، وإن لم تنسب إلى إبراهيم، كملة اليهود والنصارى، فإنهم حرفوا وبدلوا، ولم يتركوا ما نسخ من شرعهم، فجاهدهم حتى اهتدى من اهتدى، وقتل من قتل، "ويفتح به" بالنبي.
وفي رواية البخاري بها، أي: بكلمة التوحيد "أعينا عميًا""بضم العين وسكون الميم صفة لا عين، أي: عن الحق، "وآذانًا صمًا" عن استماع الحق، "وقلوبًا غلفًا" "بضم المعجمة وسكون اللام صفة قلوبًا جمع أغلف، أي: مغطى ومغشى، "وقوله: ليس بفظ ولا غليظ، موافق لقوله تعالى:{فَبِمَا} زائدة، أي: فبـ {رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: سهلت أخلاقك حيث خالفوك {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} جافيًا، فأغلظت لهم {لَانْفَضُّوا} تفرقوا {مِنْ حَوْلِكَ}
يعارض قوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة: 73] ؛ لأن النفي محمول على طبعة الكريم الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفي بالنسبة إلى المؤمنين والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين كما هو مصرح به في نفس الآية.
"وقلوبًا غلفًا": أي مغشاة مغطاة، واحدها: أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن أم الدرداء -أو امرأة أبي الدرداء- قالت: قلت لكعب، كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: كنا نجده موصوفًا فيها: محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في
[آل عمران: 159]"ولا يعارض" هذا "قوله" تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] ؛ "لأن النفي محمول على طبعه الكريم الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة" لنفسه، على خلاف ما طبع عليه، "أو النفي بالنسبة إلى المؤمنين، والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين، كما هو مصرح به في نفس الآية" ذكر الجوابين الحافظ والثاني، كما قاله شيخنا أظهر لموافقة الآية، وإن كان الأول من حيث عمومه شاملًا لعصاة المؤمنين إذا فعلوا منكرًا، ولا سيما إذا ظهر منهم التصميم عليه، "وقلوبًا غلفًا، أي: مغشاة مغطاة، واحدها أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره" والمعنى: أن قلوبهم كانت محجوبة عن الهداية، فأزال صلى الله عليه سولم حجابها وكشف غطاءها.
"وأخرج البيهقي وأبو نعيم، عن أم الدرداء، أو امرأة أبي الدرداء" شك من الراوي في اللفظ الذي قاله شيخه، وإن اتحد المعنى، ولأبي الدرداء زوجتان، تكنى كل منهما بذلك إحداهما الكبرى واسمها خيرة بنت أبي حدود، صحابية، من فضلاء النساء وعقلائهن، وذوات الرأي: منهن، مع العبادة والنسك، ماتت قبل زوجها بالشام في خلافة عثمان، والثانية الصغرى اسمها هجيمة أو جهيمة، ثقة، فقيهة، ماتت سنة إحدى وثمانين، وهي التي روى لها أصحاب الكتب الستة، لا صحبة لها ولا رؤية، وذكر في الإصابة للكبرى حديثين، سمعتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما يحتمل أنها التي "قالت: قلت لكعب بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار:"كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟، قال: كنا نجده موصوفًا فيها محمد رسول الله" كما في القرآن، "اسمه المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله، فإذا أمره بشيء نهض بلا جزع، وفي التنزيل:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، "ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق" التي هي محل السخب وارتفاع الأصوات، ففي
الأسواق، وأعطي المفاتيح، ليبصر الله به أعينًا عورًا، ويسمع به آذانًا صمًا، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف.
وفي البخاري: عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ،
غيرها أولى، "وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينًا عورًا" وهو الفاقد إحدى عينيه، ولكون الفتح والأبصار مجازًا عن الهداية، عبر تارة بعميًا، وأخرى بعورًا: جمع أعور، صفة أعينًا، "ويسمع به آذانًا صمًا" عن سماع الحق، "ويقيم به ألسنة معوجة" جمع لسان "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له" أي: ومحمد رسول الله، ففيه اكتفاء نحو سرابيل تقيكم الحر، أي: والبرد "يعين المظلوم" على الظالم، "ويمنعه من أن يستضعف" بأن ينصره، بحيث يصير فيه قوة تحمله على أن يدفع عن نفسه، "وفي البخاري" في البيوع، ثم في تفسير الفتح، طعن عطاء بن يسار" الهلالي، أبي محمد المدني، مولى ميمونة.
ثقة، فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة أربع وتسعين، وقيل: بعدها، روى له الستة، "قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي" الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، "فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: في التوراة بدليل الجواب، فإن السؤال يعاد في الجواب صراحة، أو ضمنًا، وهو من القواعد الأصولية، "قال" عبد الله: "أجل" "بفتح الهمزة والجيم، وباللام حرف جواب كنعم، فيكون تصديقًا للمحبر، وإعلامًا للمستخبر، ووعدًا للطالب، فيقع بعد نحو قام زيد، ونحو أقام زيد، واضرب زيدًا فيكون بعد الخبر، وبعد الاستفهام والطلب.
وقيل يختص بالخبر، وهو قول الزمخشري وابن مالك، وقيد المالقي الخبر بالمثبت، والطلب بغير النهي.
وفي القاموس: أجل كنعم، إلا أنه أحسن منه في التصديق، ونعم أحسن منه في الاستفهام، وهذا قاله الأخفش، كما في المعنى، وغيره قال الطيبي: أجل في الحديث جوابًا للأمر على تأويل: قرأت التوراة هي وجدت صفة رسول الله فيها، فأخبرني، قال: أجل "والله إنا لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن" أكده بمؤكدات الخلف بالله، والجملة الإسمية، ودخول أن عليها، ودخول لام التأكيد على الخبر، وإنما سأله عما في التوراة؛ لأنه كان يحفظها.
وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا
وقد روى البزار من حديث ابن لهيعة، عن وهب: أن عبد الله بن عمرو بن العاصي رأى في المنام في إحدى يديه عسلًا، وفي الأخرى سمنًا، وهو يلعقهما، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: له تقرأ الكتابين التوراة والقرآن فكان يقرؤهما، فالنهي عن قراءتها ليس على إطلاقه لوقوعه في الزمن النبوي لكثير من الصحابة بلا إنكار، فهو مقيد بمن لم يميز المنسوخ والمحرف منها، ويضيع وقته في الاشتغال بها، أما غيره فلا يمنع، بل قد يطب لإلزامهم فيما أنكروه منها.
وقد أخرج الدارمي ويعقوب بن سفيان في تاريخه، والطبراني عن عطاء بن يسار عن ابن سلام مثله، وعلقمة البخاري، قال الحافظ: ولا مانع أن يكون عطاء حمله عن كل منهما، فقد أخرجه ابن سعد عن زيد بن أسلم، قال: بلغنا أن عبد الله بن سلام، كان يقول: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} بدل من بعض، أو بيان له {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} لأمتك المؤمنين بتصديقهم، على الكافرين بتكذيبهم، وانتصاب شاهدًا على الحال المقدر من الكاف أو من الفاعل أي: مقدرًا أومقدرين شهادتك على من بعثت إليهم وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي: مقبولًا عند الله لهم وعليهم، أو شاهدًا للرسل قبله بالبلاغ {وَمُبَشِّرًا} للمؤمنين {وَنَذِيرًا} للكافرين، أو مبشرًا للمطيعين بالجنة، ونذيرًا للعصاة بالنار، "وحرزًا" بكسر المهملة، وإسكان الراء، ثم زاي، أي: حصنًا "للأميين" أي: للعرب؛ لأن أكثرهم لا يقرؤون ولا يكتبون، يتحصنون به عن غوائل الدهر، أ، سطوة العجم وتغلبهم، فخصهم لذلك أولًا رسالة بين أظهرهم، أو لشرفهم، أو من مطلق العذب ما دام فيهم، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، أو من عذاب الاستئصال، فلا يرد أن دعوته عامة، وجعله نفسه حرزًا، مبالغة لحفظه لهم في الدارين، "أنت عبدي" الكامل في العبودية "ورسولي" فقدم العبودية لشرفها، فإن له بها مزيد اختصاص، ولذا اقتصر عليها في الإسراء وإنزال الكتاب، وليست بالمعنى العام الذي يتصف به كل مخلوق، بل بالخاص الذي رضيه له حتى أطلعه على حظائر قدسه، وجعله رسولًا مبلغًا عنه، وكفاء جميع مؤناته، فقال: أليس الله بكاف عبده، فإن الملك لا يرضى بوقوف عبده بباب غيره، واحتياجه لسواه، وإهانة أحد له، فإنه هو الذي يؤدبه، كما قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي، فلذا قال:"سميتك المتوكل" دون جعلتك أو وصفتك، المنادى بشدة توكله الذي صيره علمًا له، ففيه أشعار بشدة توكله، الساري في أمته صلى الله عليه وسلم، وخطابه بما في التوراة خطاب للحاضر في العلم، وبالماضي في أرسلناك لتحققه، أو حكاية لما يقال في المستقبل؛ أو لاستحضار الآتي، وعبر بما يعبر به عنه في الآتي:"ليس بلفظ" سيئ الخلق، جاف، "ولا غليظ" قاسي القلب،
سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسية السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا
بل ملته سمحة، ولا ينافيه وقوع الغلظة اللائقة أو الواجبة أحيانًا؛ لأنها لا تنافي حسن الخلق أو المراد نفيهما، بحسب الخلقة أو في غير محلهما، وقول النسوة لعمر: أنت أفظ أغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس القصد به التفضيل، بل أصل الفعل، أو من قبيل العسل أحلى من الخل، أي: غلظتك يا عمر أشد من رقته صلى الله عليه وسلم، واختاره في المصابيح، ثم يحتمل أن يتكون هذه آية أخرى في التوراة، لبيان صفته، وأن تكون حالًا من المتوكل، أو من الكاف في سميتك، ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة حتى لا يواجهه بمثله، وإن كان منفيًا، "ولا سخاب" بشد الخاء بعد السين، ويقال: بالصاد، وهو أفصح، وادعى بعض أنه روى بهما، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وهو من نفي المقيد بدون قيده، ففيه دخوله صلى الله عليه وسلم الأسواق تواضعًا وتركًا لعادة الجبارين من الملوك، وردًا لقول الكفرة: ما لهذا الرسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويحتمل أنه من نفي القيد والمقيد معًا، كما قال الطيبي: المراد نفي السخابية وكونه في الأسواق.
انتهى على معنى نفي اعتياد دخوله في الأسواق، كأرباب الدنيا، بل إنما يدخلها لحاجة، فلا يشكل ما قاله بأنه خلاف الواقع والمبالغة للنسبة، كخياط أو بذي سخب، كما في: وما ربك بظلام في أحد الوجوه أو على بابها، لثبوت أصل الخسب له في محله، كخطبة وتلبية ونحوهما، "ولا يدفع" هكذا الرواية في البخاري في المحلين، فنسخة: ولا يجزي تصحيف "بالسيئة السيئة" هو كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة} [المؤمنون: 96] ، وخلقه القرآن.
وقد قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ولذا قال: "ولكن يعفو" يمحو ويزيل السيئة من ظاهر وخاطره، "ويغفر" يستر السيئة، ولا يلزم منه إزالتها، أو يعفو تارة، ويستر أخرى، فلا يفضح، فيقول في خطبته: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو هما متساويان، فالثاني تأكيد، ونقل القرطبي عن بعضهم؛ لأن الغفر ستر، لا يقع معه عقاب ولا عتاب، والعفو إنما يكون بعد عقاب أو عتاب، فإن استعمل في غيره فهو مجاز.
وفي نسخة: ويصفح، "ولن يقبضه" يميته "الله" وأصله أخذ المال واستيفاؤه، أطلق على الموت بتشبيه الحياة والروح بالمال، كما قيل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس
…
عليه من الإنفاق في غير واجب
أو هو من استعمال المقيد في المطلق، ثم شاع حتى صار حقيقة فيه، "حتى يقيم به
صمًا وقلوبًا غلفًا.
وعند ابن إسحاق: ولا صخب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال
الملة العوجاء"، ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها؛ لأنهم ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وكانوا يزعمون؛ أنهم على ملته الحنيفية، والحنيف من يوجد الله تعالى ويعبده؛ لأن الحنف في اللغة الاستقامة، قاله ابن الأثير "بأن يقولوا" أي: أهلها: "لا إله إلا الله" اقتصر عليها، وجعلها إقامة الملة؛ لأن العوج الواقع عموده الشرك وعبادة الأصنام، يستقيم بها، أو أنهم يأتون بكلمة التوحيد التي هي عبارة عن لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، أو اكتفاء، كسرابيل تقيكم الحر، "ويفتح به"، أي: بالنبي، كذا وقع بتذكير الضمير هنا تبعًا للشفاء مع عز، وكليهما للبخاري، والذي فيه في الموضعين بها، أي: كلمة التوحيد "أعينًا عميًا" "بضم فسكون".
وفي رواية القابسي: أعين عمي بالإضافة، ولا تنافي بين هذا وبين قوله: وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم؛ لأنه دل إيلاء الفاعل المعنوي، حرف النفي على أن الكلام في الفاعل، وذلك أنه تعالى نزله لحرصه على إيمانهم منزلة من يدعي استقلاله بالهداية، فقال له: أنت لست بمستقل بها، بل إنك لتهدي إلى صراط مستقيم بإذن الله وتيسيره، وعلى هذا، فيفتح معطوف على يقيم، أي: يقيم الله بواسطته الملة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بواسطة هذه الكلمة أعينًا عميًا، "وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا""بضم وسكون".
وفي رواية أبي ذر: ويفتح بها أعين عمي، وآذان صم، وقلوب غلف "بضم أوله مبني للمفعول، ورفع أعين وآذان وقلو على النيابة".
"وعند" محمد "بن إسحاق بن يسار: بدل قوله ولا سخاب "ولا صخب" "بكسر الخاء". صفة مشبهة تفيد المبالغة، باعتبار إفادة الثبوت هكذا في عدة نسخ صحيحة، موافقة لما عند ابن إسحاق والشفاء عنه، فلا عبرة بنسخ ولا صخاب "في الأسواق" وعنده زيادة هي:، "ولا متزين" بزاي منقوطة من الزينة.
وروى بدال من الدين، وروى متزي بلا نون من الزي، والهيئة "الفحش": القبح وزنا ومعنى فعلًا كان أو قولًا، أي: لا يتجمل، أو لا يتدين، أو لا يتلبس به، ولا يرد أن ظاهره يوهم أنه قد يأتي به غير متجاوز، أو غير متزين به؛ لأنه لا مفهوم له لحرية، على عادة أرباب الفحش في المباهاة، به، أو هو استعارة تهكمية، أو التزين بمعنى الاتصاف تجريدًا، أو المراد: لا يرى الفحش زينة، فهي مكنية، وهذا من آياته؛ لأنه نشأ بين قوم يتزينون بالفواحش، كالقتل والزنا والطواف عراة، فأتى بما يخالف عادتهم، "ولا قوال" فعال صيغة مبالغة، أي: كثير لقول "للخنا" "بمعجمة
للخنا، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، التقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته،
ونون مقصورة" قبيح الكلام، وهذا مع ما قبله يفيد أنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم شيء منه قليل ولا كثير؛ لأن الفحش بمعناه، أو فعال للنسبة، كتمًا رأى ليس بذي قول للخنا، ولما ذكر صفات التخلية، بقوله: ليس بفظ، إلى هنا ذكر صفات التحلية بطريق وعد من لا يخلف وعده، مستأنفًا لمقصد أعلى مما قبله، ولذا لم يعطفه، أو في جواب سؤال هو، فما تفعل به بعد أن صنته عن النقائص، فقال: "اسدده" أوفقه للسداد، وهو الصواب، واقصد من القول والعمل "بكل جميل" حسن صورة كان، أو معنى يليق به، "وأهب" بفتحتين" أعطي "له كل خلق "بضمتين وتسكن اللام" السجية والطبيعة، "كريم" عزيز نفيس، "ثم اجعل" مضارع المتكلم، وهو الله "السكينة" "بالفتح والتخفيف" الوقار والطمأنينة، وفيها لغة بالكسر والتشديد، حكاها في المشارق، وبها قرئ شذا "لباسه"، أي: ما يظهر عليه من الخشوع والتثبت، فشبه المعقول بالمحسوس تقريبًا للفهم، ومبدأ هذا الوقار يلوح للقلب في مراقبته، فلذا قال تعالى: {أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلوبِ الْمُؤْمِنِين} [الفتح: 4] ، فلكل وجهة، "و" اجعل "البر" الطاعة والإحسان، أي: زيادته، والخير والرحمة "شعاره": لباسه الذي يلي جسده، سمي به؛ لأنه لابس شعره وبدنه، ويقابله الدثار، وهو ما يتغطى به، ولما كانت السكينة ظاهرة فيه صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، ويراها كل أحد، برًا وفارجًا، جعلها لباسًا، والبر والخير والرحمة، وإن لازمه أيضًا وعم أحواله إنما يقف عليه المؤمنون ببصائرهم، جعله شعارًا، فانظر حسن موقعه مع ما قبله وما بعده أيضًا، وهو "والتقوى ضميره"؛ لأن الضمير ما يضمر في القلب وينوي في الخاطر، بحيث لا ينسى، فتأمل كيف انتقل من الظاهر للخفي، ثم الأخفى مع ما فيه من شبه اللف والنشر مع الأمور السلبية والتقوى ما بقي العذاب في الآخرة، ولها مراتب: أولها التبري عن الكفر، والثاني: التنزه عن كل ما يؤثم، والثالث: التنزه عما يشغل السر عن الله، وبهذا علم التئامها مع الضمير "والحكمة" كل كلام جامع لما يرشد إلى الحق، فيشمل المواعظ والأمثال لانتفاع الناس بها، وتطلق على القرآن والعلوم الشرعية، والقضاء بالعدل، وبه فسر ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، "معقوله" مصدرًا واسم مفعول، فالمراد إنها تعقله وإدراكه، أو ما يعقله، كان حكم ومواعظ وعلوم نافعة؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، "واجعل "الصدق والوفاء طبيعته" أي: إن الله جبله أنه لا ينطلق بغير ما وافق الواقع، وإذا عاقد أحدًا أو عدلًا يخلفه، "والعفو والمعروف" ما يعرفه ويألفه العقلاء.
وأحمد، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة،
ولذا قيل: المعروف كاسمه "خلقه" وفي المصباح: المعروف الخير والرفق والإحسان، ومنه قولهم: من كان آمرًا بالمعروف فليأمر بالعروف، أي: من أمر بخير فليأمر برفق، "والعدل" القصد في الأمر ضد الجور "سيرته" طريقته الحميدة.
وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل: 90]، قال ابن عطية: العدل فعل كل مفروض من العقائد والعبادة، وأداء الآمانات، والإنصاف والإحسان فعل المندوب.
وفي البغوي: العدل بين العبد وربه إيثار حقه على حظ نفسه، واجتناب الزواجر، وامتثال الأوامر، وبينه وبين نفسه منعها عما فيه هلاكها والتصبر، وبينه وبين غيره بذل النصيحة وترك الخيانة، وإنصافهم من نفسه، والصبر على أذاهم، وجعل العدل سيرته صلى الله عليه وسلم، لا ينافي أن يكون الإحسان سيرته فيم حل يليق به، ولا أن يكون العفو طبيعة له أيضًا لمصحلة تليق بالمقام "والحق شريعته" بنصبهما عطف على مفعول اجعل، كما هو في نسخ الشفاء الصحيحة المقروءة، لا يرفعهما لاقتضاء تعريف الطرفين الحصر، فيفهم أن شرائع غيره باطلة، وليس كذلك، وأنه وجه؛ بأن المراد الحق الكامل الذي لا ينسخ، أو في زمانه لا غيرها لنسخها بشريعته وبغير ذلك؛ لأن هذا إنما يحتاج إليه لو ثبت رواية.
"والهدى إمامه""بكسر الهمزة"، كما ضبطه الحافظ البرهان، أي: مقتداه ومتبعه، وهو كناية عن ملازمته له وعدم انفكاكه عنه، ويجوز أن يراد بالإمام الطريق، كما قيل في قوله: وإنهما لبإمام مبين، وضبطه بعضهم "بفتح الهمز"، بمعنى قدام، فالمراد بطريق الكناية؛ أنه ملاحظ له، كما يقال: في ضده أنه ظهري وخلف ظهري، والهدى الدلالة بلطف، ولذا اختصت بالخير، وقيل: تعريفه للعهد، أي: هدى الأنبياء، لقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، أي: ما اتفقوا عليه من التوحيد والأصول للفروع، "والإسلام ملته" بنصبهما على الصحيح، أي: أنه اسم لملته، أي: دينه خاصة دون الأمم على أحد القولين، وعلى الآخر بالعموم، لكل دين حق، فالمراد الكامل ليكون من خصائصه التي تميز بها عن غيره وكماله بنسخ غيره، وكونه سمحًا بين اللين والشدة، وغير ذلك.
وفي التنزيل: هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، "واجعل "أحمد" اسمه، وبه سماه في الكتب قبل وجوده، ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، ولما ذكر صفاته الموصوف بها في نفسه ذكر صفاته التي لوحظ فيها غيره، جوابًا لسؤال: هل تنفع بهذا الطاهر المطهر، الكامل في نفسه غيره؟، فقال: "أهدى" "بفتح الهمزة" مضارع هدى "به" بسببه، أو هديه "بعد الضلالة" بمعنى الضلال سلوك غير الطريق الموصلة، وقيل: إنما فصله لعلو رتبة الهداية، سواء
وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير
كانت الإيصال أو الدلالة الموصلة، وفيه تقوية لمدحه السابق، والمراد الهداية إلى ما به النجاة، وإلى ما به يكمل الناجي، فلذا قال:"واعلم""بضم الهمزة وشد اللام"، كما في المقتفى "به بعد الجهالة""بفتح الجيم مصدر"، كالجهل ضد العلم، وهو الاعتقاد الذي لا يطابق الواقع، "وأرفع به بعد الخمالة""بفتح الخاء المعجمة والميم"، أي: الخفاء، وادعى بعض أنه لا يقال خمالة، بل خمولة.
وفي الصحاح: الخامل: الساقط الذي لا نباهة له، وقد خمل يخمل خمولًا.
وفي الجمهرة: رجل خامل الذكر بين الخمول والخمولة، وهو ضد النبيه والنابه.
وفي القاموس: خمل ذكره وصوته خمولًا: خفي، وأخمله الله، فهو خامل، ساقط، لا نباهة له، جمعه خمل محركة.
وأجيب بأن ثبوت الخمالة في هذا الحديث الصحيح شاهد لصحتها، وإن كانت على غير قياس أو لمشاكلة الضلالة والازدواج معها، والمراد برفعه جعل الدين والتوحيد بعد ما ترك في الفترة، لغلبة الجهل مشهورًا شائعًا، فهو مجاز، كقوله:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الانشراح: 4]، "وأسمي": روى "بضم الهمزة وفتح السين والتشديد"، وبه ضبطه في المقتفى، وروى بضم الهمزة وسكون السين به" بسببه "بعد النكرة" "بضم فسكون وبفتح فكسر" خلاف المعرفة، وتطلق بمعنى المجهول، أي: أعرف الناس بسببه، أو بما أوحيه إليه الناس المجهولين، أو أعرفهم ما جهلوه من التوحيد، أو أعرف الناس ما لم يعرفوه من الأنبياء وقصصهم، والأولى التعميم، كما قيل: "وأكثر" "بضم الهمزة وسكون الكاف وكسر المثلثة مخففة وبفتح الكاف وشد المثلثة يتعدى بالهمزة والتضعيف"، "به بعد القلة" أي: أكثر به الأرزاق مطلقًا، أو على من اتبعه، أو أكثر أمته بعد قلتها، أو بعد عدمها، لورود القلة بمعنى العدم، لكنه بعيد هنا، أو المراد قواعد الملة بعد اعوجاجها، فأعاد منها ما نقص بكلمة التوحيد، وهو تكلف مستغنى عنه لتقدم معناه، "وأغني": أعطى الغني "به بعد العيلة" "بفتح فسكون": الفقر، أي: ما كانوا عليه في الابتداء، ففتح لهم الفتوحات والممالك، وأحل لهم الغنائم، "وأجمع به" الناس "بعد الفرقة" الافتراق، وتنافر القلوب، والعداوة المؤدية للحروب وترك الديار، كما كان بين الأوس والخزرج من الحروب قبل الإسلام، فلما جاء الله به ألف بين قلوبهم، وسل أحقادهم وضغائنهم، وصيرهم أخوة، "وأؤلف" أجمع "به بين قلوب مختلفة" وذلك يستلزم التأليف بين الذوات، وكونه بسبب المصطفى؛ لأنه السبب الظاهري، والمؤلف الحقيقي هو الله، فلا ينافي إسناد التأليف إليه
أمة أخرجت للناس.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قدم الجارود فأسلم وقال: والذي بعثك
سبحانه في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] ، "وأهواء" جمع هوى، وهو ميل النفس لما تحبه وتشتهيه "متشتتة" متفرقة، أي: اجعل مهويهم واحدًا، متفقًا محمودًا، وإن غلب إطلاقه على المذموم، كما قال: ولئن اتبعت أهواءهم، "وأمم" جمع أمة، فرقة من الناس "متفرقة" بتقديم التاء على الفاء من التفرق، وبتقديم الفاء على التاء من الافتراق روايتان: يعني أن كل أمة كانت على دين واعتقاد وطريقة، منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم يهودي ونصراني، ومنهم غير ذلك، فنسخ الله بشرعه صلى الله عليه وسلم جميع الشرائع، وجعل الدين دينًا واحدًا قيمًا، من حاد عنه هلك وشقي في الدارين، وإن حمل قوله وأجمع به بعد الفرقة على جميع العقائد والملل على التوحيد، أو الأعم كان ما بعده عطف تفسير له، "وأجعل أمته": الذين أجابوه "خير أمة أخرجت": أوجدت وخلقت أو أخرجت من العدم "للناس".
وفي التنزيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة} ، أي: أنه تعالى قضى بذلك وقدره أزلًا، وفي عالم الذر، وقيل: المراد كنتم مذكورين في الأمم الذين قبلكم، موصوفين بذلك لخيرية نبيكم ودينكم، أو لما بينه، بقوله: تأمرون. إلخ.
ومر الكلام فيه، "وأخرج البيهقي عن ابن عباس، قال: قدم الجارود" بن المعلى، ويقال: ابن عمرو بن المعلى العبدي أبو المنذر، ويقال: أبو غثان، بمعجمة ومثلثة على الأصح، ويقال:"بمهملة وموحدة"، اسمه بشر بن خنش "بمهملة ونون مفتوحتين، ثم معجمة" وقيل: مطرف، وقيل: غير ذلك لقب الجارود؛ لأنه غزا بكر بن وائل، فاستأصلهم، قال الشاعر:
فدسناهم بالخيل من كل جانب
…
كما جرد الجارود بكر بن وائل
وحكى ابن السكن: أن سبب تلقيبه بذلك أن إبل عبد القيس جريت، وبقيت للجارود بقية من إبله، فتوجه بها إلى قديد بن سنان وهم أخواله، فجربت إبل أخواله، فقال: الناس جردهم بشر، فلقب الجارود، "فأسلم".
قال ابن إسحاق: وكان نصرانيًا وحسن إسلامه، وكان صلبًا على دينه، قال في الإصابة: قدم الجارود سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
روى الطبراني عن أنس: لما قدم الجارود وافدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرح به وقربه وأدناه وروى الطبراني أيضًا عن الجارود، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن لي دينًا، فلي إن تركت ديني ودخلت في دينك أن لا يعذبني الله، قال:"نعم"، "وقال" الجارود: "والذي بعثك بالحق
بالحق لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول.
وأخرج ابن سعد قال: لما أمر إبراهيم الخليل بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر إبراهيم بأرض عذبة سهلة إلا قال: أنزل ههنا يا جبريل، فيقول: لا، حتى أتى مكة فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع ولا زرع، قال: نعم ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك الذي تتم به الكلمة العليا.
لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول" عيسى ابن مريم، وقتل الجارود بأرض فارس بعقبة الطير، فصار يقال لها: عقبة الجارود، وذلك سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وقيل: قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان، قال أبو عمر: من محاسن شعره:
شهدت بأن الله حق وشاء بي
…
ثبات فؤادي بالشهادة والنهض
فأبلغ رسول الله عني رسالة
…
بأني حنيف حيث كنت من الأرض
فإن لا تكن داري سرت بي فيكم
…
فإني بكم عند الإقامة والخفض
واجعل نفسي عند كل ملمة
…
لكم خصة من دون عرضكم عرضي
وابنه المنذر كان من رؤساء عبد القيس بالبصرة، مدحة الأعشى وغيره، وحفيده الحم هو الذي يقول فيه الأعشى:
يا حكم بن المنذر بن الجارود
…
سرادق المجد عليك ممدود
أنت الجواد ابن الجواد المحمود
…
نبت في الجود وفي بيت الجود
والعود قد ينبت في أصل العود
قال: وكان الحجاج يحسد الحكم على هذه الأبيات، "وأخرج ابن سعد، قال: لما أمر إبراهيم الخليل بإخراج هاجر" بالهاء، ويقال: بالألف والجيم من أرض الشام حين غارت منها سارة زوجه، "حمل على البراق، فكان لا يمر إبراهيم بأرض عذبة"، أي: عذب ماؤها، "سهلة" لينة، يمكن زرعها، "إلا قال: انزل" "بصيغة المضارع وحذف همزة الاستفهام" أي: انزل "ههنا يا جبريل، فيقول: لا" ولم يزل كذلك "حتى أتى مكة" فالغاية لمقدر، "فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع" "بفتح الضاد وسكون الراء" وهو لذات الظلف، كالثدي للمرأة، "ولا زرع" قال ذلك تعجبًا من أمره له، بنزوله في موضع قفر، أي: كيف أنزل في أرض لا أنيس بها، ولا ما يتأتى به المعيشة، "قال" جبريل: "نعم: ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك إسماعيل، "الذي تتم به الكلمة العليا" وهي كلمة الله، وفي ذلك تسلية له وترغيب بنزول تلك
وفي التوراة -مما اختاروه بعد الحذف والتحريف والتبديل، مما ذكره ابن ظفر في "البشر" وابن قتيبة في "أعلام النبوة": تجلى الله من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
فسينا هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى.
و"ساعير" هو الجبل الذي كلم الله فيه عيسى، فظهرت فيه نبوته.
وجبال "فاران" وهو اسم عبراني -وليست ألفه الأولى همزة- هي جبال بني هاشم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في أحدها وفيه فاتحة الوحي، وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها: أبو قبيس، والمقابل له قعيقعان إلى بطن الوادي، والثالث:
الأرض، "وفي التوراة مما اختاروه" أي: العلماء "بعد الحذف والتحريف والتبديل" الواقع من اليهود، يحرفون الكلم عن مواضعه، "مما ذكره" العلامة محمد "بن ظفر""بفتح الظاء المعجمة والفاء""في" كتاب "البشر""بكسر ففتح" بخير البشر "بفتحتين"، وابن قتيبة في كتاب "أعلام النبوة تجلى" ظهر "الله من سينا" بالقصر جبل بالشام.
كذا في القاموس: "وأشرق" بالقاف" "من ساعير".
قال ابن ظفر: كناية عن ظهور أنوار كلامه، "واستعلن من جبال فاران""بفاء فألف فراء فألف فنون".
قال ابن ظفر: أي: ظهر أمره وكتابه وتوحيده وحمده، وما شرعه رسوله من الأذان والتلبية، "فسينا هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى" واصطفاه وأرسله، "وساعير هو الجبل الذي كلم الله في عيسى" بمعنى أنزل عليه الإنجيل ونبأه فيه، كما يأتي عن ابن قتيبة، لا أنه كلمه فيه، ككلامه لموسى في الجبل، كما يوهمه هذا الكلام وعبارة البشر، وساعير جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح، وإليه بشير قوله:"فظهرت فيه نبوته، وجبال فاران" الإضافة من إضافة الكل إلى الجزء، كأن هذه الجبال اشتهرت بذلك، وإلا فلا معنى للإضافة هنا، مع أن فاران أحدها، "وهو اسم عبراني""بكسر العين المهملة" نسبة إلى العبرانية، وهي لغة اليهود "وليست ألفه الأولى"، التالية للفاء "همزة، هي جبال بني هاشم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث""بفتح التحتية والفوقية والحاء المهملة والنون الثقيلة ثم مثلثة، يتعبد الليالي ذوات العدد "في أحدها، وفيه فاتحة الوحي" ابتداء إنزاله عليه، فهو جبل حراء، "وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها أبو قيس" "بضم القاف وفتح الباء" "والمقابل له قعيقعان" "بقافين بعد كل عين مهملة، وبعد الأولى تحتية، آخره نون بعد ألف" بصيغة التصغير، جبل يشرف على الحرم من جهة
الشرقي فاران، ومنفتحه الذي يلي قعيقعان إلى بطن الوادي، وهو شعب بني هاشم، وفيه مولده صلى الله عليه وسلم على أحد الأقوال.
قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض؛ لأن تجلي الله من سينا، إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، ويجب أن يكون إشراقه من "ساعير" إنزاله على المسيح الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى، فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهي جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب في
الغرب "إلى بطن الوادي، والثالث: الشرقي فاران" المعروف بحراء، "ومنفتحه" بميم فنون ففاء ففوقية فمهملة فهاء، أي: المحل الذي يصعد منه إليه، ويهبط "الذي يلي قعيقعان إلى بطن الوادي، وهو شعب بني هاشم، وفيه مولده صلى الله عليه وسلم على أحد الأقوال" والثاني: بردم بني جمح بمكة، والثالث: بزقاق المدكك بمكة، والرابع: وهو شاذ، أنه ولد بعسفان، والصحيح الذي عليه الجمهور؛ أنه ولد بمكة، واختلف في عين المحل على الأقوال الثلاثة، "قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض" "بمعجمتين أوله وآخره"، أي: خفاء؛ "لأن تجلي الله من سينا إنزاله التوراة على موسى بطور سينا"، قال: في الأنوار جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، وقد يقال له طور سينين، ولا يخلو أن يكون الطور اسمًا للجبل، وسينا اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منها علم له، كامرئ القيس، ومنع صرفه للتعريف والعجمة، أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف؛ لأنه فيعال، كديماس من السنا بالمد، وهو الرفعة، وبالقصر، وهو النور، "ويجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل" إبراهيم، "بقرية تدعى" تسمى "ناصرة" وبها ولد على ما في البشر، "باسمها تسمى من اتبعه نصارى" جمع نصران، كندامى: جمع ندمان، "فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح" الإنجيل والنبوة، "فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهي جبال مكة" الثلاثة المتقدمة، "وليس بين المسلمين وأهل الكتاب في ذلك اختلاف في أن فاران هي مكة" بدل من قوله في ذلك لبيان اسم الإشارة، لكن هذا يخالف ما قدمه أن فاران ليس مكة، بل جبل من جبالها إلا أن يقال: هو اسم للجبل وسميت مكة باسمه لقربها منه، وفي البشر، وفاران هي مكة، لا يخالف في ذلك أحد من أهل الكتاب، وفي التوراة: وربي، أي: إسماعيل في برية فاران، فمكة هي منشأ
ذلك اختلاف في أن فاران هي مكة.
وإن ادعى أنها غير مكة قلنا: أليس في التوراة: إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح، أوليس "استعلن" و "علن" بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينًا ظهر ظهور الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه.
وفي التوراة أيضًا -مما ذكره ابن ظفر- خطابًا لموسى، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه الذين أخذتهم الرجفة خصوصًا، ثم بني إسرائيل عمومًا: والله ربك يقيم نبيًا من إخوتك، فاستمع له كالذي سمعت ربك في حوريت يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود أسمع صوت الله ربي لئلا أموت، فقال الله تعالى:
إسماعيل وحيث ربي، وفي جبال فاران أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، "وإن ادعى"، عن معاند "إنها غير مكة، قلنا: أليس في التوراة إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران" فإن قالوا: بلى، طلبنا منهم تعيين ذلك المحل، "وقلنا" لهم:"دلونا على الموضع الذي استعلن الله"، أي: أظهر النبوة "منه، واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح" ابن مريم، "أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد"، وسين الأول للتأكيد، "وهو ما ظهر وانكشف، فهل تعلمون دينًا ظهر ظهور الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه" أيك انتشر واتسع، وبهذا غاير: ظهر، "وفي التوراة أيضًا مما ذكره ابن ظفر" في الصنف الذي لاينكر أهل الكتاب مجيئه في التوراة، "خطابًا لموسى، والمراد به" أي: الخطاب، "الذين اختارهم" موسى ممن لم يعبد العجل "لميقات ربه" بأمره، أي: للوقت الذي وعده بإتيانهم فيه ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل، "الذين أخذتهم الرجفة" الزلزلة الشديدة.
قال ابن عباس: لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، قال: وهو غير الذين سألوا الرؤية وأخذتهم الصاعقة "خصوصًا، ثم" خاطب "بني إسرائيل عمومًا، والله ربك يقيم نبينا من أخوتك، فاستمع له" ما يخاطبه قومه تعنتًا، كما قال تعالى: إخبارًا عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118]، أي: هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة، أو يوحي إلينا أنك رسوله، أو تأتينا آية حجة على صدقه، والأول استكبار، والثاني جحود، كما في الأنوار، فهو تسلية لموسى عليه السلام، "كالذي سمعت ربك في حوريث""بحاء مهملة أوله وفوقية آخره".
قال في القاموس: موضع ولا نظير لها، أي: لهذه الكلمة "يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود
نعم ما قالوا: وسأقيم لهم نبيًا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه لهم كل شيء أمرته به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمي فإني أنتقم منه.
قال: وفي هذا الكلام أدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
فقوله: "نبيًا من إخوتهم"، وموسى وقومه من بني إسحاق، وإخوتهم من بني إسماعيل، ولو كان هذا النبي الموعود به من بني إسحاق لكان من أنفسهم لا من إخوتهم.
وأما قوله: "نبيًا مثلك" وقد قال في التوراة: لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى، وفي ترجمة أخرى، مثل موسى لا يقوم في بني إسرائيل أبدًا. فذهبت اليهود إلى أن هذا النبي الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل؛ لأن يوشع لم يكن كفؤًا لموسى عليه السلام، بل كان خادمًا له في حياته، ومؤكدًا لدعوته بعد
أسمع صوت الله ربي لئلا أموت، فقال الله تعالى: نعم، ما قالوا، وسأقيم لهم نبيًا مثلك من أخوتهم واجعل كلامي في فمه، لهم كل شيء أمرته".
وفي نسخة: آمره "به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمي، فإني أنتقم منه" وجوز شيخنا في التقرير، أن يكون هذا من باب، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّين} ، أي: استمتع له إذا وجد وأنت حي، كسماعك لربك، وهذا بعيد جدًا، ولذا لم يذكره في الشرح.
"قال" ابن ظفر: "وفي هذا الكلام أدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم" من ثلاثة أوجه بينها، فقال:"فقوله" لفظه منها قوله: "نبينا من أخوتهم، وموسى وقومه من بني إسحاق، وإخوتهم من بني إسماعيل، ولو كان هذا النبي الموعود به من بني إسحاق لكان من أنفسهم لا من أخوتهم" كما قال عز وجل إخبارًا بدعوة إبراهيم لولد إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وكما قال سبحانه مخاطبًا لعرب {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم} ، هذا تركه المصنف من كلام ابن ظفر، "وأما" لفظه، ومنها "قوله: نبيًا مثلك، وقد قال في التوراة: لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى" من أنفسهم، فلا ينافي أنه قام فيهم مثل موسى، بل أجل، وهو محمد عليه السلام لعموم دعوته؛ لأنه من بني إسماعيل أخوتهم لا من أنفسهم، فلا خلف بين هذا وقول التوراة السابق، وسأقيم لهم نبيًا مثلك.
"وفي ترجمة أخرى مثل موسى لا يقوم في بني إسرائيل أبدًا" من أنفسهم، "فذهبت اليهود إلى أن هذا النبي الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل؛ لأن يوشع لم يكن كفؤًا لموسى عليه السلام، بل كان خادمًا له في حياته، ومؤكدًا لدعوته" وداعيًا إليها "بعد
وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه كفؤ موسى؛ لأنه يماثله في نصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة.
وقوله تعالى: "اجعل كلامي في فمه" فإنه واضح في أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل صحفًا ولا ألواحًا؛ لأنه أمي، لا يحسن أن يقرأ المكتوب.
وفي الإنجيل -مما ذكره ابن طغر بك في "الدر المنتظم" قال يوحنا في إنجيله عن المسيح أنه قال: أنا أطلب لكم من الأب أن يعطيكم "فار قليط" آخر يثبت
وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه كفؤ موسى؛ لأنه يماثله في نصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام"، أي: إظهارها والمجيء بها، وإن كان أصلها من الله، "وإجراء النسخ على الشرائع السالفة و" منها "قوله تعالى: "اجعل كلامي في فمه" فإنه واضح في أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو" زائدة لم تقع في ابن ظفر، إنما قال على "ما سمعه، ولا أنزل صحفًا ولا ألواحًا" كما أنزلت عليك يا موسى؛ "لأنه أمي، لا يحسن أن يقرأ المكتوب" مدة حياته.
وبقية كلام ابن ظفر، وقوله: أيما رجل لم يطع من تكلم باسمي، فإني أنتقم منه، دليل على كذب اليهود في قولهم: إن الله أمرنا بمعصية كل نبي دعانا إلى دين يتضمن نسخًا لبعض ما شرعه موسى، هكذا مع قطعنا أنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فإن أهل الكتابين عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما عرفوا أبناءهم، وجدوه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وإنما يذكر ما أظهروه، ورضوا التفسير له بما حكيناه عن تراجمهم، بلفظهم الذي اختاروه وأثبتوه في كتبهم، ليكون ذلك أقطع لعذرهم، وأحسم لروغانهم، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم أتى اليهود، فقال: أخرجوا إلى أعلمكم، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور، فقال له صلى الله عليه وسلم:"أنشدك الله الذي أطعم أسباطكم المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، أتعلم أني رسول الله"، فقال ابن صوريا: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون من هذا ما أعرف، وإن نعتك لبين عندهم، ولكن القوم حسدوك؛ لأنك عربي، قال: فأسلم، قال: إني أكره خلاف قومي، وعسى أن يسلموا فأسلم، انتهى.
"وفي الإنجيل -مما ذكره ابن طغر بك""بضم الطاء المهملة وسكون المعجمة وضم الراء وفتح الموحدة"، ثم كاف علم مركب عن طغرو بك الإمام، العلامة، المحدث سيف الدين عمر بن أيوب الحميري، التركماني، الدمشقي، الحنفي "في" كتاب "الدر المنتظم" في مولد النبي صلى الله عليه وسلم "قال يوحنا في إنجيله" أضافه إليه؛ لأن عيسى لم تظهر دعوته في عصره، وإنما
معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقتلوه.
وهو عند ابن ظفر بلفظ: إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي فيعطيكم "فار قليط" آخر يكون معكم الدهر كله.
قال: فهذا تصريح بأن الله تعالى سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منا به، وتكون شريعته باقية مخلفة أبدًا، فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟ انتهى.
ولم يذكر فصول "الفارقليط" -كما أفاده ابن طغر بك- سوى يوحنا، دون غيره من نقلة الإنجيل.
وقد اختلف النصارى في تفسير "الفارقليط".
فقيل هو: الحامد، وقيل: هو المخلص.
أخذ الإنجيل عنه أربعة من الحواريين متى ويوحنا وقيسر ولوقا، فتكلم كل واحد من هؤلاء بعبارة لملاءمة الذين تبعوا دعاءهم، ولذا اختلفت الأناجيل الأربعة اختلافًا شديدًا، قاله في المنتقى "عن المسيح أنه قال: أنا أطلب لكم من الأب أن يعطيكم فارقليط".
قال المصنف في المقصد الثاني: وأما البارقليط والفارقليط "بالموحدة وبالفاء بدلها وفتح الراء والقاف وبسكون الراء مع فتح القاف" وبفتح الراء مع سكون القاف وبكسر الراء وسكون القاف غير منصرف للعلمية والعجمة، "آخر يثبت معكم إلى الأبد" آخر الدهر، ببقاء دينه إلى القيامة، "روح الحق" أضافه إليه ليميز روحه عن سائر المخلوقات بما خصه الله به من الكمالات، "الذي لن يطيق العالم أن يقتلوه" وإن أراد بعضهم ذلك، "وهو عند ابن ظفر" في البشر "بلفظ"، ومما ترجموه في الإنجيل؛ أن عيسى قال:"إن أجبتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي" أي: ربي، كما يأتي "فيعطيكم فارقليط آخر، يكون معكم الدهر كله" ببقاء شريعته إلى انقضاء الدهر.
"قال" ابن ظفر: "فهذا تصريح بأن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه"، أي: عيسى، "وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منا به، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدًا" إلى يوم القيامة، كما هو مفاد قوله الدهر كله، "فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم" صاحب النبوة الخاتمة. "انتهى، ولم يذكر فصول" أي: أنواع المسائل التي ذكر فيها "الفارقليط، كما أفاده ابن طغر بك سوى يوحنا دون غيره، من نقلة الإنجيل" ومن حفظ حجة.
"وقد اختلف النصارى في تفسير الفارقليط" قال ابن ظفر: والذي صح عندي من ذلك عنهم؛ أنه الحكيم الذي يعرف السر، "فقيل: هو الحامد، وقيل: هو المخلص" "بشد اللام
فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتي لخلاص العالم، وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح في الإنجيل: إني جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل الأب أن يعطيهم "فارقليط" آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر.
وإن تنزلنا معهم على القول بأنه: الحامد، فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا.
قال ابن ظفر: وفي الإنجيل -مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط: الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذي يسمعونه ليس هو لي، بل الأب الذي أرسلني بهذا الكلام لكم، وأما "البارقليط" روح القدس الذي يرسله أبي باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم.
فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحًا في أن "الفارقليط" رسول يرسله الله
اسم فاعل"، "فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتي لخلاص العالم" من الهلاك، بإخراجهم من الكفر إلى الإيمان، "وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح في الإنجيل: إني جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل الأب أن يعطيهم "فارقليط" آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر" وهو محمد صلى الله عليه وسلم، "وإن" "بكسر فسكون شرطية" "تنزلنا معهم" ووافقناهم "على القول بأنه: الحامد" وجواب الشرط هو: "فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا" الذي هو الحامد.
"قال ابن ظفر" محمد في البشر: "وفي الإنجيل -مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط: الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذي يسمعونه ليس هو لي، بل الأب" أي: الرب "الذي أرسلني بهذا الكلام لكم" لفظ ابن ظفر: كلمكم بهذا وأنا معكم، "وأما البارقليط" روح القدس، الذي يرسله أبي باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم" "بالتثقيل" "كل ما قلته لكم" لفظه جميع ما أقول لكم، فهذا يفهم منه أن الفارقليط الرسول، "فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحًا في أن "الفارقليط رسول يرسله الله تعالى، وهو روح
تعالى، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شيء، ويذكرهم كل ما قاله المسيح عليه السلام، وكل ما أمرهم به من توحيد الله.
وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة. وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين، إشارة إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم عتزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون: نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى.
وأما قوله: "يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه عما افتري في أمره.
القدس، وهو يصدق" بشد الدال المكسورة "بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله" وعبده "وليس بإله"، كما زعموا فضلوا، "وهو يعلم الخلق كل شيء، ويذكرهم كل ما"، أي: شيء "قاله" لهم "المسيح عليه السلام، وكل ما أمرهم به" المسيح "من توحيد الله" بنحو قوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] ، فهل جاء بهذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
"وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة، و" ومع ذلك "ليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين" يقولها المتكلم "إشارة إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم" وهو شيخه، "ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية""بضم الراء"، "ولم عتزل بنو إسرائيل" يعقوب "وبنو" "عيصو" "بكسر العين المهملة وإسكان الياء ومهملة" "يقولون: نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى".
زاد ابن ظفر: واختلال بصائرهم في التلقي عن أنبيائه، وقد قرأت في التوراة مما أساؤوا الترجمة عنه، فنظر الرب وسخط حين أغضبه بنوه وبناته، وقال: سأعرض بوجهي عنهم، وأنظر إلى ما يصير عاقبتهم؛ لأنهم خلف أعوج، أبناء ليس لهم إيمان.
"وأما قوله يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى له" لعيسى، "بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه" وتنزيهه "عما افترى في أمره" لفظ ابن ظفر، عما افتراه في أمره اليهود، وعبارة المصنف أشمل.
وفي ترجمة أخرى للإنجيل، أنه قال:"الفارقليط" إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث.
وهو عند ابن طغر بك بلفظ: فإذا جاء روح الحق، ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بل ما يسمع من الله، ويخبرهم بما يأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم.
فقوله: "ليس ينطق من عنده" وفي الرواية الأخرى: "ولا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بكل ما يسمع" أي: من الله الذي أرسله، وهذا كما قال تعالى في صفته صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] .
وقوله: "وهو يمجدني" فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه عليهما السلام مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك.
قال ابن ظفر: فمن ذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق، وتحريف الكلم
"وفي ترجمة أخرى للإنجيل أنه قال: الفارقليط إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه" واستأنف قوله "ما" أي: الذي "يسمع" من ربه بواسطة الوحي في أغلب الأحوال هو الذي "يكلمهم به ويسوسهم" يدبرهم ويقوم بأمرهم "بالحق، ويخبرهم بالحوادث" والغيوب التي كانت وتكون إلى يوم القيامة، "وهو عند ابن طغر بك، بلفظ: فإذا جاء روح الحق ليس ينطق من عنده"، بجر الظرف بمن، "بل يتكلم بكل ما يسمع" أي:"يسمعه "من الله" بالوحي، "ويخبرهم بما يأتي وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم، فقوله: ليس ينطق من عنده" مبتدأ وعطف عليه قوله.
"وفي رواية الأخرى" التي فوق هذه، "ولا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بكل ما يسمع من الله الذي أرسله، وهذا كما قال تعالى" في القرآن "في صفته صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} هوى نفسه {إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} جملة معترضة لبيان أن ما في الإنجيل موافق للقرآن وعطف على المبتدأ أيضًا، فقال: "وقوله: وهو يمجدني" وحذف الخبر، وهو دليل على أن المقول فيه ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم، وعلل هذا الخبر المقدر، بقوله: "فلم يمجده حق تمجيده إلا" بمعنى غير "محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه" مريم "عليهما السلام مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك".
قال ابن ظفر" محمد في البشر، "فمن ذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق
عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، من ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولله در أبي محمد عبد الله الشقراطسي حيث قال في قصيدته المشهورة:
توراة موسى أتت عنه فصدقها
…
إنجيل عيسى بحق غير مفتعل
أخبار أحبار تلك الكتب قد وردت
…
عما رأوا ورووا في الأعصر الأول
ويعجبني قول العارف الرباني أبي عبد الله بن النعمان حيث قال:
هذا النبي محمد جاءت له
…
توراة موسى للأنام تبشر
وكذاك إنجيل المسيح موافق
…
ذكرًا لأحمد معرب ومذكر
ويرحم الله ابن جابر محمدًا حيث قال:
لمبعثه في كل جيل علامة
…
على ما جلته الكتب من أمره الجلي
فجاء به إنجيل عيسى بآخر
…
كما قد مضت توراة موسى بأول
وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس" من عرض الدنيا، وانتصابهم أربابًا من دون الله، "ومن ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم" فوقعت كما قال: وما لم يقع لا بد من وقوعه، كما قال: "ولله در أبي محمد عبد الله الشقراطسي حيث قال في قصيدته" اللامية "المشهورة":
توراة موسى أتت عنه فصدقها
…
إنجيل عيسى بحق غير مفتعل
أخبار أحبار تلك الكتب قد وردت
…
عما رأوا ورووا في الأعصر الأول
ويعجبني قول العارف الرباني أبي عبد الله بن النعمام حيث قال:
هذا النبي محمد جاءت له
…
توراة موسى للأنام تبشر
وكذاك إنجيل المسيح موافق
…
ذكرًا لأحمد معرب ومذكر
ويرحم الله ابن جابر محمدًا حيث قال:
لمبعثه في كل جيل علامة
…
على ما جلته الكتب من أمره الجلي
فجاء به إنجيل عيسى بآخر
…
كما قد مضت توراة موسى بأول
والأبيات الستة غنية عن الشرح، وقد اعترض على المصنف وغيره ممن أكثر النقل عن التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب المنسوخة، فالاشتغال بها ينافي الغرض من نسخها، وقد حرم الفقهاء قراءتها والنظر فيها، وأنها محرفة مبدلة، ثم اختلفوا هل التحريف بالزيادة والنقص بتأويلها وتفسيرها بغير المراد منها، وأجيب؛ أنه لا مانع من قراءتها للعارف الفطن لمعرفة
وفي الدلائل للبيهقي عن الحاكم -بسند لا بأس به- عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث، وأنه أرسل إليهم ليلًا، قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا آدم عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر
النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ولا لزامهم بما أنكروه وكيف يحرم لمثل هذا.
وقد قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [المائدة: 43]، ووقع في أحاديث النقل عنها وقال التجاني في شرح الشفاء: إذا وجد فيها ما يقوم النظر على عدم تبديله، وأفاد النظر فيه مقصدًا شرعيًا، فلا يبعد أن يباح النظر فيه والاشتغال به.
"وفي الدلائل للبيهقي عن" شيخه "الحاكم" أبي عبد الله، المشهور "بسند لا بأس به عن أبي أمامة الباهلي"، صدى بالتصغير ابن عجلان، الصحابي، المشهور، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين، "عن هشام بن العاص الأموي""بضم الهمزة" نسبة إلى أمية على القياس، وبفتحها على خلافه، وهو الأشهر عندهم، تقدم مرارًا، "قال: بعثت أنا ورجل آخر" من قريش، كما في نفس رواية البيهقي، أي: في زمن الصديق "إلى هرقل" "بكسر الهاء وإسكان الراء وفتح القاف" على المشهور "صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث" وهو فنزلنا على جملة فدعوناه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود، فسألناه عن ذلك، قال: حلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، فقلنا له: والله لنأخذن مجلسك هذا، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، أخبرنا بهذا نبينا، قال: لستم بهم، ثم ذكر قصة دخولهم على هرقل، "وأنه أرسل إليهم ليلًا" واستخلى بهم "قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج" أي: أخرج "حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل" أي: وإذا تلك الصورة صورة رجل، "ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان""بالضاد المعجمة" خصلتان من الشعر، "أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟، قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر،
وأخرج حريرة فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها -والله- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، والله إنه قام قائمًا ثم جلس وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما والله إنه لآخر البيوت، ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم. الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم. قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.
فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة" عظيم الرأس، "حسن اللحية، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر وأخرج حريرة، فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها -والله- رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: أتعرفون هذا"؟ أسقط من رواية البيهقي، فبكينا، "قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، والله إنه" أي: هرقل "قام قائمًا، ثم جلس" تعظيمًا لصورته، "وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة" مدة من الزمن "ينظر إليها، ثم قال: أما" بالفتح والتخفيف، "والله إنه لآخر البيوت، ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم" من العلم بنبيكم "الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم".
"قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم" إجابة لسؤاله، "فكان في خزانة آدم" أي: ذلك المنزل من صورهم مع صورة آدم "عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس
فدفعها إلى دانيال" النبي عليه السلام، ثم تنقلت إلى أن وصلت إلى هرقل.
وفي بقية خبر البيهقي: ثم قال هرقل، لو طابت نفسي بالخروج من ملكي لوددت أني كنت عبدًا لأميركم حتى أموت، قال: فلما رجعنا حدثنا أبا بكر، فبكى، ثم قال: لو أراد الله به خيرًا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يعرفون نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال في الإصابة: وقد تقدم فيترجمة عدي بن كعب نحو هذه القصة، لكن فيها أنه هشام بن العاصي السهمي، فالله أعلم، وقال فيما تقدم: لا أعرف نسب عدي بن كعب، روى المعافى في الجليس عن عبادة بن الصامت، قال: بعثني أبو بكر ومعي عمرو بن العاصي وأخوه هشام بن العاصي وعدي بن كعب ونعيم بن عبد الله إلى ملك الروم، فدخلنا على جبلة، فذكر قصة طويلة نحو ورقتين، وإسناده ضعيف.
وفي زبور داود عليه السلام، من مزمور أربعة وأربعين: فاضت النغمة من شفتيك، من أجل هذا باركك الله إلى الأبد، تقلد أيها الجبار سيفك، فإن شرائعك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك.
فهذا المزمور ينوه بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالنعمة التي فاضت من شفتيه هي القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه والسنة التي سنها.
وفي قوله: "تقلد سيفك أيها الجبار" دلالة على أنه النبي العربي، إذ ليس يتقلد السيف أمة من الأمم إلا العرب، وكلهم يتقدلونها على عواتقهم.
وقد أخرجها البيهقي عن هشام بن العاصي الأموي، "وفي زبور داود عليه السلام من مزمور": مفرد مزامير، كمزمار "أربعة وأربعين" أي: المتمم لها، وهي ما كان يتغنى به من الزبور وضروب الدعاء، "فاضت النغمة من شفتيك، من أجل هذا باركك" أي: جعلك "الله" مباركًا، وفي ابن ظفر، عن الزبور مخاطبًا المصطفى لتنزيله منزلة الموجود، لتحققه عنده: فاضت الرحمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك "إلى الأبد تقلد" أمر "أيها الجبار" من أسمائه صلى الله عليه وسلم، لجبره الخلق على الحق وصرفهم عن الكفر، أو لإصلاحه أمته بالهداية والتعليم، أو لقهر أعدائه، أو لعلو منزلته على الخلق وعظيم خطره، ونفى تعالى عنه جبرية التكبر، فقال: وما أنت عليهم بجبار "سيفك" أي: اجعل حمائله على عاتقك، واجعله كالقلادة، وفيه إشارة إلى أنه سيؤمر بالجهاد، "فإن شرائعك": جمع شريعة "وسنتك".
كذا في النسخ، والذي قدمه المصنف في الأسماء، ومثله في الشفاء، وابن ظفر وابن دحية؛ فإن ناموسك وشرائعك، والمراد بالناموس الوحي النازل عليك، ويحتمل أن شرائع عطف تفسير، ولذا وحد الخبر في قوله: مقرونة بهيبة يمينك" أي: بالخوف من سيفك، فكنى عنه بذلك، أو تجوز باليمين عما فيه، "وسهامك مسنونة، وجمع الأمم يخرون تحتك"، باملعجمة من الخرور، وهو السقوط، أي: يخضعون ويذلون لك، "فهذا المزمور ينوه يرفع "بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالنعة التي فاضت من شفتيه هي القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه" أي: القرآن "والسنة التي سنها"، إذ لا ينطق عن الهوى.
"وفي قوله: تقلد سيفك أيها الجبار دلالة على أنه النبي العربي، إذ ليس يتقلد السيف أمة من الأمم إلا العرب، وكلهم يتقلدونها على عواتقهم" بخلاف غيرهم، فيجعلونها في أوساطهم.
وفي قوله "فإن شرائعك وسنتك" نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه.
و"الجبار" الذي يجبر الخلق بالسيف على الحق ويصرفهم عن الكفر جبرًا.
وعن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي، لأنزلن على جبال العرب نورًا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إساعيل نبيًا عربيًا أميًا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بي ربًا، وبه رسولًا، ويكفرون بملل آبائهم ويفرون منها، قال موسى: سبحانك وتقدمت أسماؤك، ولقد كرمت هذا النبي وشرفته، قال الله: يا موسى، إني أنتقم من عدوه في الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وأذل من خالف شريعته، وبالعدل زينته، وللقسط أخرجته، وعزتي لأستنقذن به أممًا
"وفي قوله: فإن شرائعك وسنتك نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه" قهرًا على من خالف، "والجبار الذي يجبر الخلق بالسيف على الحق" وهو التوحيد، "ويصرفهم عن الكفر"، وهو ما خالف الإيمان والتوحيد، "جبرًا" عليهم، كما قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، "وعن وهب بن منبه""بضم الميم وفتح النون وكسر الموحدة الثقيلة" ابن كامل اليماني، أبي عبد الله الأبناري "بفتح الهمزة وسكون الباء بعدها نون"، تابعي، ثقة، رواه له الشيخان وغيرهما، مات سنة بضع عشرة ومائة، "قال: قرأت في بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي، لأنزلن على جبال العرب" أهل مكة وما حولها "نورًا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إسماعيل" بن إبراهيم "نبيًا" رسولًا، "عربيًا أميًا" لا يقرأ ولا يكتب، "يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بي ربًا، وبه رسولًا، ويكفرون بملل" "بامين: جمع ملة "آبائهم، ويفرون منها" من الفرار، أي: يهربون.
"قال موسى" بن عمران عليه السلام: "سبحانك" تنزيهًا لك عما لا يليق بك، "وتقدمت أسماؤك، ولقد كرمت": فضلت "هذا النبي وشرفته" على من سواه، "قال الله: يا موسى، إني أنتقم من عدوه": الكفار "في الدنيا"، بالقتل والأسر، والإجلاء والقحط، والسنين وغير ذلك "و" في "الآخرة" بالعذاب المخلد، "وأظهر دعوته على كل دعوة"، وسلطانه ومن اتبعه على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، هذا تركه المصنف من البشر قبل قوله:"وأذل من خالف شريعته" ولو كان له سلطان، فهو أبدًا ذليل، خائف من سطوة الإسلام وعزه، "وبالعدل" الإنصاف "زينته وللقسط" أي: العدل "أخرجته" فلا يحكم ولا يأمر إلا به، "وعزتي لأستنقذن