الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني: في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين
فضلًا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية [آل عمران: 81] .
أخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يصدق بعضهم بعضًا، قال الحسن وطاوس وقتادة.
"النوع الثاني":
"في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين"، عداه بعلى، إشارة إلى أنه ألزمهم به، وعداه فيما يأتي بمن، إشارة إلى أنهم التزموه "فضلًا" أي: إحسانًا "ومنة" أي: إنعامًا، "ليؤمنن به إن أدركوه، ولينصرنه" على عدوه، "قال الله تعالى:{وَإِذْ} أي: حين متعلق بمقدر، أي: اذكر، وقيل: بأقررتم وإن أخر عنه {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} عهدهم كلهم، أو مع أممهم وأنبياء بني إسرائيل {لَمَا} "بفتح اللام للابتداء"، أو توكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وكسرها متعلقة بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي {آتَيْتُكُم} إياه، وفي قراءة: آتيناكم، {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب والحكمة، وتنوين رسول، وإبهامه للتعظيم، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، أو للتميم على القولين الآتين للمصنف، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] جواب القسم إن أدركتموه، وأممهم تبع لهم في ذلك.
"أخبر تعالى" في الأزل، كما حكاه المصنف أول الكتاب، "أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه" صفة نبي، ولا يرد أنه قاصر على الرسل، مع أن المتبادر العموم، لجواز أن معناه: أوحى إليه، والبعث يطلق على الإيحاء، "من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يصدق بعضهم بعضًا" على نبوته، ومعناه، كما في البغوي: أنه أخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده، وينصره إن أدركه وأن يأمر قومه بنصره، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، انتهى. فليس معنى هذا القول يصدق بعضهم بعضًا على نبوة المصطفى، وأنهم من أتباعه ومؤمنون به كما توهم، إذ لو كان كذلك ما صح قول المصنف الآتي: أن ذا القول لا يخالف قول علي وابن عباس، إذ هو عينه على ذا الفهم، "قاله الحسن" البصري، "وطاوس"
وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم.
وعن علي بن أبي طالب وابن عباس: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم -وهو حي- ليؤمنن به ولينصرنه. وما قاله قتادة والحسن وطاوس لا يضاد ما قاله علي وابن عباس، ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه.
وقيل معناه: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه، واحتج له بأن الذين
اليماني، "وقتادة" السدوسي، الثلاثة من التابعين.
"وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم"؛ لأنهم تبع لهم، فهو من الاستغناء بذكر الملزوم عن لازمه، ولا يراد أنه خاص بالرسل؛ لأنهم هم الذين لهم أمم، أم النبيون فلا أمم لهم، لجواز أن يراد بأممهم الأناس الموجودون في زمانهم، وأطلق عليهم أممهم من حيث وجودهم في زمانهم، وإن لم يرسلوا إليهم، فالنبي وإن لم يأمر بشرع، يجب عليه أن يخبر بنبوته، لئلا يحتقر ولا يمتنع عليه الوعظ ونحوه، ومنه أخباره للناس بالإيمان بمحمد إذا جاء، أو الأنبياء.
"وعن علي بن أبي طالب"، عند ابن جرير وغيره، "وابن عباس" عند ابن جرير وابن عساكر، ووقع للزركشي، وابن كثير، والحافظ في الفتح في كتاب الأنبياء: أنهم عزوه لصحيح البخاري.
قال الشامي: ولم أظفر به، فيه "ما بعث الله نبيًا من الأنبياء" وفي رواية: لم يبعث الله نبيًا من آدم، فمن بعده، "إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهو" أي: ذلك النبي "حي ليؤمنن به ولينصرنه"، ويأخذ العهد بذلك على قومه، هذا بقية المروي عن علي وابن عباس، كما قدم، ثم هو موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا؛ لأنه إخبار عن غيب، فلا مجال للرأي، فيه، ويحتمل أنهما قالاه فهمًا للآية، والظاهر الأول، ولذا اقتصرت عليه أول الكتاب، "وما قاله قتادة والحسن وطاوس" من أن المعنى أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن بعده "لا يضاد" لا يخالف "ما قاله علي وابن عباس، ولا ينفيه، بل يستلزمه"؛ لأنه صدق بعضهم بعضًا، لزم أن يكونوا مأمورين بالإيمان بالمصطفى ونصره، "ويقتضيه" عطف تفسير.
"وقيل معناه: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم، بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه" وعلى هذا، فإضافة الميثاق إلى النبيين إضافته للفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، قاله البيضاوي.
أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأموات، والميت لايكون مكلفًا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذًا على الأمم، قالوا: ويؤكد هذا، أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم.
وأجاب الفخر الرازي: بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ونظيره قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، وقال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] وقال في
"واحتج له بأن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأموات" لا يرد عيسى وإدريس على حياتهما، والخضر على حياته ونبوته؛ لأن الحكم للأكثر، "والميت لا يكون مكلفًا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذًا على الأمم، قالوا: ويؤكد" أي: يقوى "هذا" القول؛ "أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين" بقوله تعالى بعد ذلك: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [آل عمران: 82]، "وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء" أي: لا يجوز عليهم، "وإنما يليق بالأمم" لجوازه عليهم.
"وأجاب الفخر الرازي" وفي نسخة: وأجاب القفال، والظاهر فسادها، وفي أخرى: وأجيب، "بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم" كما قال:"لو كان موسى حيًا ما وسعه"، إلا اتباعي، "ونظيره قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم الله تعالى؛ أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض" والمراد به تهييج الرسل، وإقناط الكفرة والإشعار على حكم الأمة، والخطاب باعتبار كل واحد.
"وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّل} النبي، {عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} بأن قال علينا ما لم نقله، سمي الافتراء تقولًا؛ لأنه قول متكلف، والأقوال المفتراة أقاويل، تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كأضاحيك، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44]، أي: نياط قلبه بضرب عنقه، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك ممن يغضبون عليه، وهو أن
الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]، مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} [الأنبياء: 27] وبأنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} [النحل: 50] ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير. وإذا نزلت هذه الآية على أن الله أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا في جملة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجبًا على أممهم من باب أولى. فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء، أقوى في تحصيل المقصود.
وقال السبكي في هذه الآية: إنه عليه الصلاة والسلام على تقدير مجيئهم في زمانه يكون مرسلًا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام:"وبعثت إلى الناس كافة" لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم
يأخذ القتال بيمينه، ويكفحه بالسيف، ويضرب جيده، وقيل: اليمن بمعنى القوة، قال البيضاوي.
"وقال في الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي: الله، أي: غيره، "فذلك نجزيه جهنم" كذلك، كما جزيناه نجزي الظالمين، "مع أنه تعالى أخبر عنهم؛ بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} لا يأتون بقولهم إلا بعد قوله: وبأنهم {يَخَافُون} أي: الملائكة حال من ضمير يستكبرون، {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} حال من هم، أي: عاليًا عليهم بالقهر، "فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير، وإذا نزلت هذه الآية"{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّين} ، "على أن الله أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد، لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك" فرضًا وتقديرًا: "لصاروا في جملة الفاسقين" حاشاهم، "فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجبًا على أممهم من باب أولى"؛ لأنه إذا أمر المتبوع بذلك، فكيف بالتابع، "فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المقصود" بالتعظيم له، لشموله للأمم بالأخروية، بخلاف حمله على الأمم.
"وقال السبكي" الكبير في رسالة صغيرة، سماها التعظيم والمنة في:{لَيُؤْمِنَنَّ بِه} [آل عمران: 81]، "في هذه الآية" أفادت "إنه عليه الصلاة والسلام على تقدير مجيئهم" أي: النبيين "في زمانه، يكون مرسلًا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته" مع بقاء الأنبياء على نبوتهم، "ويكون قوله عليه الصلاة والسلام" في حديث رواه الشيخان وغيرهما: "وبعثت
القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا، وإنما أخذ المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم.
وفي أخذ المواثيق -وهي في معنى الاستحلاف، ولذلك دخلت "لام" القسم في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} - لطيفة: وهي كأنها أيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا.
فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى، فإذا عرف هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء، ولهذا ظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه،
إلى الناس كافة" قومي وغيرهم من العرب والعجم، "لا يختص به الناس" الكائنون "من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا" وذكر نحوه البارزي في توثيق عرا الإيمان، وادعى بعض أن ما ذكره السبكي غريب، لا يوافقه عليه من يعتد به، والجمهور على أن المراد بالكافة ناس زمنه، فمن بعدهم إلى يوم القيامة، ودفعه شيخنا لما ذكرته له بأنه لا ينافي كلام الجمهور، إلا إذا أريد التبليغ بالفعل، أما إذا أريد بالبعث اتصافه بكونهم مأمورين في الأزل؛ بأن يتبعوه إذا وجد، كما هو صريح كلامه، فلا يخالفه واحد فضلًا عن الجمهور.
"وإنما أخذ المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم" مع بقائهم على النبوة والرسالة، ولذا لما أثنى على ربه في المعراج، قال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، "وفي أخذ المواثيق" خبر مقدم، "وهي في معنى الاستحلاف""بحاء مهملة"، أي: طلب اليمين، قال ذلك؛ لأن الميثاق لغة العهد، "ولذلك دخلت لام" جواب "القسم في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّه} وجواب الشرط محذوف إن جعلت ما بمعنى الشرط، وقرئ بفتح اللام، أما على قراءة لما بكسرها، وجعل ما مصدرية، فهو جواب القسم في:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّه} ، إلخ.
"لطيفة "مبتدأ مؤخر، "وهي كأنها إيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء" على الناس بالطاعة، "ولعل إيمان الخلفاء أخذت من هنا، فانظر" نظر تدبر وتأمل، "هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى، فإذا عرف هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنياء" أي: مبعوث إليهم لأخذ الميثاق عليهم بإيمانهم به، أن أدركوه، والمراد بالنبوة هنا الرسالة، أي: أنه رسول إلى جميع الأنبياء، أي: أوحي إليه بتبليغهم عن الله تعالى حتى لو اجتمع بواحد منهم في زمانه كان مرسلًا إليه، مع بقائه على رسالته ونبوته، "ولهذا ظهر ذلك في الآخرة" أي: كونه نبي الأنبياء، "جميع الأنبياء" بالرفع بدل من ذلك، أو بيان له "تحت لوائه"، كما قاله في أحاديث، "و" ظهر "في
وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليه السلام عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل لهم في حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فههنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من جهة ذات النبي الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى عليه السلام في آخر الزمان على شريعته، وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أن يأتي واحدًا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لمال قلنا من اتباعه للنبي، وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهي، فهو متعلق
الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم" إمامًا، "ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى" وباقي الأنبياء والمرسلين، "وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليه السلام عليهم ورسالته إليهم، معنى حاصل لهم في حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه، وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل" وهو ذاته صلى الله عليه وسلم من حيث قابلة للرسالة؛ بأن يوحى إليها، "وتوقفه على أهلية الفاعل" وهو أمر بالتبليغ؛ لأنه يفعل ما أمر به من تبليغ ما أمر به، ويأمر وينهى، وهي ذاته، فتطلق عليها محلًا وفاعلًا باعتبارين، "فههنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من جهة ذات النبي الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر" الزمن "المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم، لزمهم إتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته" أي: نبينا، بمعنى أنه مأمور بالعمل بها، كلونه مأمورًا بأتباعه، "وهو نبي كريم على حاله لا كما يظن بعض الناس؛ أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة" ليس متصفًا بنبوته، وحذف هذه الصفة تأدبًا، قال السيوطي: وسبب هذا الظن تخيله ذهاب صفة النبوة منه، وهو فاسد؛ لأنه لا يذهب أبدًا ولا بعد موته.
"نعم، هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبي، وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة" وأخذه لها من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة؛ لأنه اجتمع به غير مرة، فلا مانع أنه تلقى منه أحكام شريعته، المخالفة لشرع الإنجيل، لعلمه بأنه ينزل في أمته، ويحكم فيهم بشرعه، وإلى هذا أشار جماعة من العلماء، أو يتلقاها عنه، إذا نزل؛ لأنه يجتمع به في
به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء.
وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، أو في زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم، وتتفق مع شرائعهم في الأصول؛ لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذا الأمة هذه الشريعة، والأحكام تختلف باختلاف
الأرض، كما صرح به في أحاديث، فلا مانع أن يأخذ عنه ما احتاج إليه من أحكام شرعه، ذكره السيوطي، وتقدم له مزيد في خصائص الأمة.
"وكل ما فيهما من أمر ونهي، فهو متعلق به، كما يتعلق بسائر الأمة" من حيث كونه مأمورا بهما كغيره، وفي نسخة: لا، كما يتعلق بلا النافية، أي: لأن تعلقه به قطعي من حيث إنه إذا اجتهد في أخذ شيء منهما كان قطعيًا مطابقًا للواقع، بخلاف أخذ غيره من الأمة، فظني قد لا يصيب فيه، "وهو نبي كريم على حاله، لم ينقص منه شيء" إذ النبوة لا تذهب بالموت فكيف بمن هو حي، "وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، أو في زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم، كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم، ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم"، لكونها للأنبياء والأمم جميعًا، بخلاف غيره، فكل إلى أمته.
"وتتفق مع شرائعهم في الأصول؛ لأنها لا تختلف" كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث:"والأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شيء ودينهم واحد" رواه الشيخان، وعلات بفتح المهملة وشد اللام وفوقية، أي: ضرائر من رجل واحد.
"وتقدم شريعته فيما عساه" يختلف، أو "يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو لا نسخ ولا تخصيص، بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة" التي جاء بها عليه السلام.
الأشخاص والأوقات، وبهذا بان لنا معنى حديثين كانا خفيًا عنا.
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه جميع الناس أولهم وآخرهم".
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد"، كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك، وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده الشريف
"والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات" كعادم الماء لمرض أو سفر فرضه التيمم، واعترض بأن النصوص العقلية والنقلية ناطقان بخلافه، كقوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، وما هي معناها من الآيات، والأنبياء مع تعظيمهم له، ومحبتهم ليسوا مكلفين بأحكام شرعه، وإلا لم يكونوا أصحاب شرع، فالمحبة والتعظيم معنى، والتعبد بشرعه معنى آخر، ولا عبرة بظنهما أمرًا واحدًا، وقوله:{لَتُؤْمِنُنَّ بِه} ، دون بشرعه، مناد عليه، فما تبجح به السبكي واستحسنه هو ومن بعده لا وجه له عند من له أدن بصيرة نقادة، وكيف يتأتى ما قاله مع قوله تعالى:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فإن عكسه، وقد طلب موسى أن يكون من أمته، فأجابه الله بقوله: استقدمت واستأجر ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال. انتهى، وتعسفه لا يخفى، فإن قوله ذلك من جملة مدخول له في قوله: لو بعث في زمان عيسى أو موسى إلى آخره، فسقط جميع ما قاله، ومن أقوى تعسفه قوله: ليسوا مكلفين بأحكام شرعه، فإنه لم يدع تكليفهم به، بل إن شعائرهم على تقدير وجوده في أزمانهم شرع له فيهم.
"وبهذا بان" ظهر واتضح "لنا معنى حديثين كانا خفيا" أي: بعد إدراكهما "عنا، أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة"، كنا نظن أنه في زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه جميع الناس أولهم وآخرهم.
"والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد والبخاري في التاريخ، وأبو نعيم وغيرهم: "كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك" على ما شرحناه يعني بقوله أولصا أنه قد جاء أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد يكون قوله: "كنت نبيًا" إشارة إلى روحه وحقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفته، وإنما يعلمها خالقها، ومن أمده بنور إلهي، ويؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقته صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم، أتاها ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وإفاضة عليها من ذلك الوقت، فصار نبيًا، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت، وإن تأخر جسده المتصف بها، إلى أن قال: فقد علم أن من فسره بعلم الله؛ بأنه سيصير نبيًا لم يصل إلى هذا المعنى؛ لأن علمه
وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم، لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فههنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه.
وهذا كما يوكل الأب رجلًا في تزويج ابنته إذا وجدت كفؤًا، فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل التوقف أي توقت التصرف على وجود الكف، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح في صحة الوكالة وأهلية التوكيل، انتهى.
محيط بجميع الأشياء، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يعلم منه أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولو كان المارد مجرد العلم لم تكن له خصوصية؛ بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد؛ لأن جميع الأنبياء يعلم الله نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية له لأجلها، أخبر بهذا الخبر ليعرف قدره عند الله. انتهى.
"وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده الشريف وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم، وتأهلهم لسماع كلامه، لا بالنسبة إليه، ولا إليهم لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف، فههنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم، وقولهم سماع الخطاب، والجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه، وهذا كما يوكل الأب رجلًا في تزويج ابنته إذا وجدت كفؤًا، فالتوكيل صحيح، وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل التوقف، أي: توقف التصرف" الأظهر في التعبير بقوله، والتصرف متوقف، "على وجود الكفء، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح في صحة الوكالة وأهلية التوكيل" وهذا المثال ظاهر في حديث: "بعثت إلى الناس كافة". "انتهى"، كلام السبكي في رسالته، وهي نحو ورقتين، كما ذكر المصنف سواء بسواء، فمن كتب على قوله والأوقات، إلى هذا انتهى كلام السيوطي، لم يقف على رسالته فرجم بالغيب، والله تعالى أعلم.