الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثالث: في وصفه تعالى له بالشهادة وشهادته له بالرسالة
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند بناء البيت الحرام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا ُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127-129] .
فاستجاب الله دعاءهما، وبعث في أهل مكة منهم رسولًا بهذه الصفة من
"النوع الثالث":
"في" بيان ما يدل على "وصفه تعالى له" صلى الله عليه وسلم، "بالشهادة" على وحدانية الله وغيرها، مما يأتي في:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45]، "وشهادته" تعالى "له بالرسالة" أي: إخباره بذلك، فالشهادة خبر قاطع، كما في القاموس، وغيره.
"قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام" أي: ما وقع منهما من الألفاظ الحادثة، المنزلة على المصطفى، وإيجادها متأخر عن بعثته، فلا يرد أن كلامه تعالى قديم سابق على قولهما، فكيف يكون حكاية لما قالاه "عند" تمام "بناء البيت" إذ الدعاء إنما كان بعد أن فرغا من بنائه "الحرام"، أي: الكعبة، إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} للقول، {الْعَلِيمُ} بالفعل، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} منقادين {لَكَ} اجعل {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} أولادنا {أُمَّةً} جماعة
{مُسْلِمَةً لَكَ} ومن للتبعيض، وأتى به لتقدم قوله له:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124] الآية، {وَأَرِنَا} علمنا {مَنَاسِكَنَا} شرائع عبادتنا، أو حجنا، {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعًا وتعليمًا لذريتهما، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي: أهل البيت، {رَسُولًا مِنْهُمْ} من أنفسهم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} القرآن، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب {الْحَكِيمُ} في صنعه، "فاستجاب الله دعاءهما" بقولهما:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، "وبعث في أهل مكة منهم رسولًا بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء" أفاد أن المبتدئ بالدعاء إبراهيم، فوافقه إسماعيل، فلذا خص إبراهيم في الخبر الآتي، لكونه المبتدئ به، وزعم أن الدعاء كان من إبراهيم وضم إليه إسماعيل لمشاركته له في الدعاء، بتأمينه عليه أو غيره فاسد؛ لأن التأمين من خصوصية هذه الأمة،
ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء.
فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا المراد به محمد صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة.
الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى"، قالوا: وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى هي ما ذكر في سورة الصف من قوله تعالى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ،
الثالث: إن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما
كما مر في الخصائص، قال صلى الله عليه وسلم:"وأعطيت آمين، ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا أن يكون الله أعطاها نبيه هارون، فإن موسى كان يدعو الله ويؤمن هارون"، رواه ابن مردويه وغيره.
"فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا، المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، فالجواب من وجوه" ثلاثة.
"أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة" قوية.
"الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام" في حديث أخرجه الطيالسي والحارث والديلمي وابن عساكر: "أنا دعوة أبي إبراهيم" أي: صاحب دعوته، إذ لا يصح الإخبار بالمصدر، "وبشارة" أخي "عيسى" وفي رواية ابن عساكر: وكان آخر من بشر بي عيسى بن مريم، وفائدة إخبار المصطفى بذلك بعد علمه ثبوت وقوعه، مقدرًا له بذلك في الأزل، التنويه بشرفه وكونه مطلوب الوجود، تاليًا للآيات، معلمًا للكتاب والحكمة، مطهرًا للناس من الشرك، معروفًا عند جميع الأنبياء، "قالوا": ليس مراده التبري، بل الحكاية عن كل العلماء، "وأراد بالدعوة هذه الآية" وخصه؛ لأنه المبتدئ كما مر، "وبشارة عيسى هي" هكذا في النسخ الصحيحة خبر بشارة، وفي نسخة سقيمة وهي بزيادة واو، ولا يحس عطف بشارة على قوله هذه الآية؛ لأن المعنى عليه يصير حاصله أراد ببشارة عيسى ولا يخفى ما فيه "ما ذكر في سورة الصف من قوله تعالى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] سماه به؛ لأنه مسمى به في الإنجيل؛ ولأنه أبلغ من محمد، بشر عيسى قومه بذلك، ليؤمنوا به عند مجيئه، أو ليكون معجزة لعيسى عند ظهوره.
"الثالث: أن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة" من ذرية إبراهيم وإسماعيل "إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم" فتعين أنه المراد،
حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد امتن الله تعالى على المؤمنين ببعث النبي منهم على هذه الصفة فقال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} الآية، [آل عمران: 164] ، فليس لله تعالى منه على المؤمنين أعظم من إرسال محمدًا صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم؛ لأن النعمة به صلى الله عليه وسلم تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله تعالى الذي رضيه لعباده.
وقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحي.
وقرئ في الشوا من أنفسهم -بفتح الفاء- يعني من أشرافهم؛ لأنه من بني
"وقد امتن الله تعالى"، وفي نسخة: من، وهما بمعنى أنعم مطلقًا، أو على من لا يطلب، ويكون بمعنى تعداد النعم "على المؤمنين، ببعث النبي منهم على هذه الصفة، فقال:{لَقَدْ مَن} أنعم {اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولا يحمد المن إلا من الله تعالى؛ لأنه بمنه بذكر العبد، فيبعثه على الشكر، فيثيبه، ومن الخلق قبيح مطلقًا، ولذا قال لنبيه:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} [المدثر: 6] ، فالمن إذا حرام عليه، مكروه لغيره، وقيل بحرمته أيضًا، {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} من جنسهم يعرفون حاله، وأنه ما قرأ ولا درس، وقد جاءه العلم دفعة، فقص سير الأولين والآخرين على ما هي عليه، فيعلم العاقل أنه أمر خارق من عند الخالق، كل ذلك إبلاغ في ظهور حجته ووضوح معجزته، فكيف يليق أن يجعل المقتضى مانعًا، فيلحدون ويجحدون، قاله ابن المنير في تفسيره.
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} ، يطهرهم من الذنوب، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن، بالنصب، أي: اقرأ أو اذكر، "فليس لله تعالى منة على المؤمنين أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق" الإسلام، أو العقائد، "وإلى طريق مستقيم" من الشرائع، "وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم؛ لأن النعمة به صلى الله عليه وسلم تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله تعالى" أحكامه وفرائضه، "الذي رضيه" اختاره "لعباده" كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، وقوله:{مِنْ أَنْفُسِهِم} ، يعني أن بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحي" لا ملك ولا أعجمي، "وقرئ في الشواذ: من أنفسهم "بفتح الفاء"، يعني من أشرافهم" وإذا كان من أشرفهم كان منهم ضرورة؛ "ولأنه من بني هاشم وبنو هاشم، أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم" وقد مر تفاصيل ذلك في المقصد الأول، وكذا
هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم.
ثم قيل: لفظ المؤمنون عام، ومعناه خاص في العرب؛ لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون به أكثر، فالنعمة عليهم أعظم.
فإن قلت: هل العلم بكونه صلى الله عليه وسلم بشرًا، ومن العرب، شرط في صحة الإيمان، وهو من فروض الكفاية.
أجاب الشيخ ولي الدين بن العراقي: أنه شرط في صحة الإيمان. قال: فلو قال شخص: أؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، ولكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة، أو من الجن، أو لا أدري أو هو من العرب أو العجم،
قرئ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية، "بفتح الفاء"، كما مر أيضًا.
"ثم قيل: لفظ المؤمنون عام، ومعناه خاص في العرب"؛ لأن المراد المؤمنين منهم، وفي الظرفية تسمح، إذا التخصيص إنما هو بكون المؤمنين من العرب، لا بكون المؤمنين فيهم، ولو من غيرهم، ويمكن تعلق في العرب بمقدر، كالدليل معناه خاصًا، أي: وإنما كان مخصوصًا بالعرب؛ لأن بعثه فيهم، ويحتمل تعلقه بمعناه تجوزًا لا حقيقة، إذ العموم والخصوص من عوارض الألفاظ دون المعنى؛ "لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده""بفتحات"، أي: له عليه ولادة، إما بكونه جدة، أو جدًا.
وفي البغوي قيل: أراد العرب؛ لأنه ليس حي منهم إلا وله فيهم نسب إلا بني تغلب، دليله هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم، وقيلك أراد جميع المؤمنين، ومعنى قوله من أنفسهم بالإيمان، والشفقة بالنسب، دليله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، "وخص المؤمنين بالذكر" مع أن نعمة البعثة عامة؛ "لأنهم هم المنتفعون به أكثر، فالنعمة عليهم أعظم" فلا ينافي قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأحزاب: 45]، "فإن قلت: هل العلم بكونه صلى الله عليه وسلم بشرًا، ومن العرب شرط في صحة الإيمان، وهو من فروض الكفاية" على الأبوين مثلًا، فإذا علم أحدهما ولده المميز ذلك سقط طلبه عن الآخر.
"أجاب الشيخ ولي الدين" أحمد "بن" عبد الرحيم "العراقي"، الحافظ، ابن الحافظ:"أنه شرط في صحة الإيمان، قال: فلو قال شخص أؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، ولكن لا أدري هل هو من البشر، أو من الملائكة، أو من الجنن أو لا أدري، أو هو من العرب، أو العجم، فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن" لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفًا عن سلف، وصار معلومًا بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فلو كان غبيًا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره. انتهى.
فإن قلت: هل هو عليه الصلاة والسلام باق على رسالته إلى الآن؟
أجاب أبو المعين النسفي: بأن الأشعري قال: إنه عليه الصلاة والسلام الآن
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، وقال تعالى:{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك} [هود: 31] ، "وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفًا عن سلف، وصار معلومًا بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فلو كان غبيًا""بمعجمة فموحدة" جاهلًا قليل الفطنة، "لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده" أي: المعلوم بالضرورة "بعد ذلك حكمنا بكفره"؛ لأن إنكاره كفر، أما إنكاره أليس ضروريًا، فليس كفرًا، ولو جحده بعد التعليم على ما اقتضاه شراح البهجة لشيخ الإسلام زكريا. "انتهى" جواب الولي.
وتعقبه بعض شراح مسلم بقول الحليمي في منهاجه الإيمان به صلى الله عليه وسلم، أي: التصديق بأنه رسول إلى الإنس والجن إلى قيام الساعة، يتضمن الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، فلذا اكتفي به في المقارنة للإيمان بالله تعالى، ومن آمن به صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أدري أكان بشرًا، أم ملكًا، أم جنيًا، لم يضره ذلك إن كان ممن لم يسمع شيئًا من أخباره سوى أنه رسول الله، كما لو يعلم أنه كان شابًا، أو شيخًا مكيًا، أو عراقيًا، أو أعجميًا؛ لأن شيئًا من ذلك لا ينافي الرسالة، لإمكان اجتماعهما، بخلاف ما لو قال: آمنت بالله، ولا أدري أجسم هو أم لا؟؛ لأن الجسم لا يمكن أن يكون إلهًا، فتبين بذلك أن معرفته صلى الله عليه وسلم ليست شرطًا في صحة ابتداء الإيمان، وإنما هي واجبة بعد ذلك لأجل أن لا يقع في شيء ما ينقص مقامه الشريف، فليتأمل. انتهى.
"فإن قلت: هل هو عليه الصلاة والسلام باق على رسالته إلى الآن"، بعد الموت إلى الأبد؟.
"أجاب أبو المعين" ميمون بن محمد بن سعيد بن مكحول "النسفي" الحنفي، صاحب التبصرة، في علم الكلام والتمهيد لقواعد التوحيد وغيرهما، وهو غير صاحب الكنز عبد الله بن أحمد، وغير صاحب التفسير عمر بن محمد، وغير صاحب العقائد البرهان محمد بن محمد، وكلهم حنفيون من نسف:"بفتح النون والمهملة وبالفاء" مدينة بما وراء النهر، "بأن الأشعري قال: إنه عليه الصلاة والسلام الآن في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى" قضيته أن وصفه بأنه رسول
في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى.
وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية بعد موته عليه الصلاة والسلام حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته؛ لأن المتصف بالنبوة والرسالة، والإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن بإجماع انتهى.
وتعقب: بأن الأنبياء أحياء في قبورهم، فوصف النبوة باق للجسد والروح معًا.
وقال القشيري: كلام الله تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أو بلغ عني، وكلامه تعالى قديم، فهو عليه الصلاة والسلام قبل أن يوجد كان رسولًا. وفي حال كونه وإلى الأبد رسولًا، لبقاء الكلام وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذي هو
انقطع بموته، لكن بقاء حكمها نزل منزلة بقائها، فهي باقية حكمًا لا حقيقة.
"وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية" كل منهما، أو لاتحادهما في صفة الإيحاء فكأنهما شيء واحد، أو بناء على اتحادهما، فلا يرد أن الأولى للمطابقة باقيتان، "بعد موته عليه الصلاة والسلام حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته؛ لأن المتصف بالنبوة والرسالة والإيمان هو الروح، وهي باقية لا تتغير بموت البدن بإجماع. انتهى".
"وتعقب" هذا التعليل، "بأن الأنبياء أحياء في قبورهم" كما صرحت به الأحاديث "فوصف النبوة باق للجسد والروح معًا" أي: الاتصاف بالنبوة مع الرسالة، وإن انقطع العمل بشرائعهم سوى شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
"وقال القشيري: كلام الله تعالى" النفسي، الأزلي، لا الألفاظ الدالة عليه، "لمن اصطفاه أرسلتك، أو بلغ عني، وكلامه تعالى قديم، فهو عليه الصلاة والسلام قبل أن يوجد كان رسولًا"، بقوله:"أرسلتك" أبو بلغ عني، "وفي حال كونه" أي: وجوده خارجًا بعد تكوينه وإيجاده رسولًا، وإن تأخر الأمر بالتبليغ إلى بعد الوحي، وتقدم تقريبه، بأن من أقر لولده الصغير بشيء يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء، مع أن الصبي في هذا الحال ليس أهلًا للتصرف، وفي نسخة: وفي حال موته، وعليها يكون ساكتًا عن حال وجوده للعلم به، "وإلى الأبد رسولًا لبقاء الكلام، وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذي هو كلام الله تعالى" وهذا ظاهر على ما هو الراجح من أن كلامه تعالى الأزلي، يتنوع حقيقة إلى أمر ونهي، وخبر واستخبار وغير ذلك.
كلام الله تعالى.
ونقل السبكي في طبقاته، عن ابن فورك أنه قال: إنه عليه السلام حي في قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة لا المجاز.
والمراد بالأميين: العرب، تنبيهًا لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شيء من آثار النبوة، كما كان عند أهل
"ونقل السبكي في طبقاته عن ابن فورك""بضم فسكون""أنه عليه السلام حي في قبره، رسول الله أبد الآباد" أي: في جميع الأزمنة، الصادق بما بعد موته إلى قيام الساعة، "على الحقيقة لا المجاز"، لحياته في قبره، يصلي فيه بأذان وإقامة.
قال ابن عقيل الحنبلي: ويضاجع أزواجه ويستمتع بهن أكمل من الدنيا. وحلف ذلك، وهو ظاهر ولا مانع منه.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} نسبًا محمدًا صلى الله عليه وسلم، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القرآن، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام، {وَإِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي: وإنهم {كَانُوا مِنْ قَبْلُ} قبل مجيئه {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} بين.
"والمراد بالأميين العرب" سموا بذلك؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، وكانت الكتابة معدومة فيهم إلا نادرًا لا حكم له، ثم أطلق على من كتب منهم، ومن لم يكتب تغليبًا، والأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ الخط، وإن قرأ ما حفظه بالسماع من غيره، وقيل: الذي يقرأ ولا يكتب.
"تنبيهًا لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شيء من آثار النبوة"، لا يراد أنه كان عندهم بقايا من شرع إبراهيم، كالحج والغسل من الجنابة؛ لأنهم لهما اشتغلوا عنها بعبادة الأصنام، وغيروا البقايا عن وجهها، كأنها لم تكن عندهم، "كما كان عند أهل الكتاب" بقايا قليلة، "فمن الله عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم" أي: الذين آمنوا منهم.
الكتاب، فمن الله عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم. وفي كونه عليه الصلاة والسلام منهم فائدتان:
إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضًا أميًا كأمته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابًا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لو يزل أميًا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذي اعترف حذاق الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفي هذا برهان عظيم على صدقه.
"وفي كونه عليه الصلاة والسلام منهم فائدتان: إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضًا أميًا، كأمته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابًا قط، ولم يخطه": يكتبه "بيمينه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} تقرأ {مِنْ قَبْلِهِ} أي: الكتاب المذكور في قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [العنكبوت: 47] الآية، أي: القرآن، {من الْكِتَابَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، الجارحة التي يكتب بها، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكناية، "ولا خرج عن ديار قومه" عطف على قوله: لم يقرأ، أي: خروجًا يقتضي تعلم شيء من غيره، كما أفاده قوله: "فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم" فلا يرد خروجه مع عمه، وفي تجارة خديجة؛ لأنه لم يقم فيهما إقامة تقتضي التعلم منهم، "بل لم يزل أميًا بين أمة" طائفة "أمية" لا تقرأ ولا تكتب، كيوم ولدتها أمهاتها على جبلتها، وتطرف من قال:
من أعجب الأشياء إني امرؤ
…
عمي خالي وأبي أمي
"لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك"، أي: حضرا، وظهر، وبعث "بهذا الكتاب المبين" اسم فاعل من أبان، بمعنى البين الواضح، أو بمعنى المظهر للشرائع وما فيها، والموضح لها، "وهذه الشريعة الباهرة" الغالبة، الفاضلة، على غيرها من الشرائع، "وهذا الدين القيم" هو أبلغ من المستقيم، باعتبار الوزن؛ لأنه صفة مشبهة تدل على الثبوت والدوام، والمستقيم أبلغ باعتبار صيغته الدالة على الطلب، فكأنه نفسه الذي يطلب قوامه، "الذي اعترف حذاق الأرض ونظارها؛ أنه لم يقرع" أي: يصل "العالم ناموس" رسول صاحب سر يبلغهم ما جاء به عن الله "أعظم منه، وفي هذا برهان عظيم على صدقه" وامتنان وثناء عظيم.
"الفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم، وهم الأميون، خصوصًا أهل مكة
الفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم وهم الأميون، خصوصًا أهل مكة، يعرفون نسبة وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفًا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على الله عز وجل؟ هذا هو الباطل. ولهذا سأل هرقل عن هذه الأوصاف واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة.
يعرفون نسبه وشرفه وصدقه، وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفًا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع"، أي: يترك "الكذب على الناس، ثم يفتري" يقول "الكذب على الله عز وجل" من تلقاء نفسه، "هذا هو الباطل" والاستفهام إنكاري، "ولهذا سأل هرقل" "بكسر الهاء وفتح الراء، وإسكان القاف على المشهور" لا ينصرف للعلمية والعجمة.
وحكى الجوهري وغيره: سكون الراء وكسر القاف "عن هذه الأوصاف، واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة"، فقال: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، إلى أن قال: وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا، فسيملك موضع قدمي هاتين.
"وقد قال الله تعالى خطابًا له"، خطاب شفقة وتسلية {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] ، واستشكل ظاهره؛ لأن كذب القول يستلزم كذب قائله إلا أن يكون ناقلًا غير ملتزم للصحة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكره على أنه حق من عند الله، وأجيب بأن المراد ليس قصدهم تكذيبك؛ لأنك عندهم موسوم بالصدق، وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، أو لا يعتقدونك كاذبًا، وإنما ينسبون الكذب، لما جئت به عنادًا، أو لا يقولون عادتك الكذب لكننا ننكر النبوة، فلا يلزم أن تكون كذابًا، أو أنك غير متعمد للكذب، بل تخيلت أمرًا باطلًا، فالتكذيب المنفي بالنسبة لافتعاله وتعمده، فلا يكون عيبًا، قيل: وهذا أحسن التأويلات، وقيل: لا يخصونك بالتكذيب، وقيل: لا يكذبونك في السر ونقل ابن الجوزي عن قتادة: لا يكذبونك بحجة، بل بهتانًا وعنادًا.
وقال عياض: ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ، من تسليته تعالى له صلى الله عليه وسلم وألطافه في القول؛ بأن قرر عنده أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، معترفين بصدقه قولًا واعتقادًا، وكانوا يسمونه قبل النبوة الأمين، فدفع عنه بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب، ثم جعل الذم
وقد قال الله تعالى خطابًا له: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} [الأنعام: 33] . ويروى أن رجلًا قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب.
وروى أن المشركين كانوا إذا رأوه عليه السلام قالوا: إنه لنبي.
وعن علي: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت
لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين، فحاشاه من لو صم، وطوقهم بالمعاندة، بتكذيب الآيات حقيقة الظلم، إذا الجحد إنما يكون ممن علم الشيء، ثم أنكره، كقوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] . انتهى.
"ويرو N أن رجلًا" هو الحارث بن عامر بن نوفل، كما عند النسائين عن ابن عباس.
وروى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن أناسًا من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبعك تتخطفنا الناس، فنزلت، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى} ، فلعل الحارث هو المبتدي، "قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط، فنتهمك اليوم، ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية"، ظاهره أن المراد؛ فإنهم لا يكذبونك، وقد علم من رواية النسائي وابن جرير، أنها: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] ، "رواه أبو صالح" مشهور بكنيته، واسمه ميزان البصري، مقبول من أواسط التابعين، خرج له الترمذي "عن ابن عباس رضي الله عنهما".
"وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر" بن نوفل بن عبد مناف: ووقع في الأنوار تسمية أبيه عثمان، وهو خلاف الروايات؛ أنه عامر، "يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب" ووقع في الأنوار؛ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا، فرد الله عليهم بقوله:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57] .
"وروي أن المشركين كانوا إذا رأوه عليه السلام، قالوا: إنه لنبي" ويتعللون بالأنفة عن اتباعه حتى لا يكونوا تابعين، ويأتي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
"و" روى الترمذي والحاكم "عن علي، قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به" وفي نسخة مصححة من الشفاء: ما جئت بدون الباء، "فأنزل الله تعالى"
به، فأنزل الله تعالى الآية.
والمعنى: أنهم ينكرونه مع العلم بصحته. إذ الجحد لغة هو الإنكار مع العلم.
فإن قلت: فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [الأنعام: 34] .
أجيب: بأنه على طريق الجحد، وهو يختلف باختلاف أحوالهم في الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله، فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرًا وعنادًا كأبي جهل. فيكون المراد بقوله:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، قومًا مخصوصين منهم لا
لفظ روايتهما، فأنزل الله تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، "والمعنى أنهم ينكرونه مع العلم بصحته، إذ الجحد لغة" كما صرح به الجوهري والمجد وغيرهما، "هو الإنكار مع العلم" فهو محض عناد وبغي، "فإن قلت: فما الجمع بين هذا" {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، وبين قوله تعالى: تلو هذه الآية {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِك} ، فإن مفادها أنهم كذبوا؛ لأنها تسلية له، إذ قوله:{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]، معناه: فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا بإهلاك من كذبك، كما أهلكنا من كذب الرسل من قبلك، ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين، أي: ما فيه تسلية لك، قيل: كان الأولى المعارضة بقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] الآية، لصراحتها في التكذيب، دون هذه، ورده شيخنا تقريرًا؛ بأن ما سلكه المصنف أولى؛ لأن هذه الآية صرح فيها بالقضية الشرطية، فلا تستلزم التكذيب بالفعل بخلاف، ولقد كذبت تستلزمه.
"أجيب بأنه" أي: التكذيب الصادر منهم "على طريق الجحد" لعلمهم بصدقه، وكذبوه عنادًا واستكبارًا عن الاتباع، فهم مصدقون في نفس الأمر، وإن كذبوا ظاهرًا، "وهو يختلف باختلاف أحوالهم في الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله" لا جحدًا، "فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرًا وعنادًا، كأبي جهل، فيكون المراد بقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} قومًا مخصوصين منهم" وهم الذين كذبوا جهلًا، ثم آمنوا، أو المكذبون عنادًا، إذ هم مصدقون باطنًا، "لا كلهم، وحينئذ فلا تعارض" بين الآيتين. وفي الشفاء: من قرأ لا يكذبونك بالتخفيف، معناه لا يجدونك كاذبًا.
وقال الفراء والكسائي: لا يقولون: إنك كاذب، وقيل: لا يحتجون على كذبك ولا يثبتونه،
كلهم، وحينئذ فلا تعارض.
وروي أن أبا جهل لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج مكة فصافحه فقيل له: أتصافحه؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعًا لبني عبد مناف؟ فأنزل الله الآية، رواه ابن أبي حاتم.
والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته، وكيف يليق بكمال الله تعالى أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده. ويعلي كلمته ويرفع شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة
ومن قرأ بالتشديد، فمعناه لا ينسبونك إلى الكذب، وقيل: لا يعتقدون كذبك. انتهى، ومر له مزيد.
"وروي؛ أن أبا جهل لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج مكة، فصافحه، فقيل له: أتصافحه" وأنت تعاديه، "فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعًا لبني عبد مناف، فأنزل الله الآية" {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} ، والجمع بين هذا وحديث علي؛ أنه صافحه وقال: له: إنا لا نكذبك. إلخ، وقال لسائله: والله إني.. إلخ، "رواه ابن أبي حاتم".
ونقل البغوي وغيره عن السدي، قال التقي الأخنس بن شريق: وأسلم بعد ذلك وأبو جهل، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟، فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسبقاية، والحجابة، والندوة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش، فأنزل الله هذه الآية، وفي الشفاء: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه حزن، فجاءه جبريل، فقال: ما يحزنك، قال:"كذبني قومي، فقال: إنهم يعلمون أنك صاد"، فأنزل الله هذه الآية، قال السيوطي: لم أجد هذا.
"والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته" نبوتها "وكيف" استفهام إنكاري على من ينسب الكذب للنبي، أي: لا "يليق بكمال الله تعالى أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب"، مع قوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] ، "ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصروه على ذلك، ويؤيده" ويقويه، "ويعلي كلمته، ويرفع شأنه" أمره "ويجيب دعوته" أي: جنسها، "ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة": ألفاظ متقاربة، "ما يضعف عنه قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر، ساع في الأرض بالفساد، ومعلوم أن شهادته" اطلاعه
ما يضعف عنه قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر ساعٍ في الأرض بالفساد.
ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى على كل شيء، وقدرته على كل شيء وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء، ومن ظن ذلك به وجوازه عليه فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة.
والقرآن كله مملوء من هذه الطريق، وهذه طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله. وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك وبيديه ويعيده لمن له فهم وقلب واع عن الله تعالى. قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ
"سبحانه على كل شيء"، كما قال:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [سبأ: 47] ، "وقدرته على كل شيء، وحكمته، وعزته، وكماله المقدس"، المطهر عما لا يليق به، "يأبى ذلك كل الإباء" أشد الامتناع، "ومن ظن ذلك به، وجوزه عليه، فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته، كصفة القدرة وصفة المشيئة" أي: أن جميع الناس يدركون كثيرًا من صفاته ويقرون بها، ومن حق من عرف شيئًا منها أن يعترف بما ظهر له من الأدلة باتصافه صلى الله عليه وسلم بجميع صفات الكمال اللائقة بالأنبياء.
"والقرآن كله مملو من هذه الطريق، وهذه طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله" أي: بذاته وصفاته، "على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله" وليس الحكم مقصورًا على الذات من غير اعتبار، صفة زائدة عليها، كما تقول المعتزلة، "وإذا تدبرت القرآن" أي: تأملت معانيه وتبصرت ما فيه، "رأيته ينادي على ذلك، ويبديه ويعيده لمن له في وقلب واع عن الله تعالى" يتفكر به في حقائقه، فالمنتفع بالقرآن المتأهل لأمره ونهيه هو الجامع بين الحفظ والفهم، وإتعاب النفس في تأمل ألفاظه ومعانيه.
"قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّل} الرسول الكريم {عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} بأن قال عنا ما لم نقله، {لَأَخَذْنَا} لنلنا {مِنْهُ} عقابًا {بِالْيَمِينِ} بالقوة والقدرة، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} نياط القلب، وهو عرق متصل به إذا انقطع مات صاحبه، {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} هو اسم ماء ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد، وهو في الأصل نعت له، فلما قدم عليه أعرب حالًا {عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44] ، مانعين، خبر ما، وجمع؛ لأن أحدًا في سياق النفي، بمعنى
لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ، أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سننه في المتقولين عليه.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ههنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرًا جازمًا غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق.
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ
الجمع وضمير عنه للنبي، أي: لا مانع لنا عنه من حيث العقاب، "أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل"، ثم يقر من يكذب عليه، لا "بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سنته" عادته "في المتقولين عليه" فذلك دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم.
"وقال تعالى: {أَمْ} بمعنى بل، {يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة القرآن إلى الله، {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ، ههنا انتهى جواب الشرط" وهو فإن يشأ الله، والقصد به كما في البيضاوي استبعاد الافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختومًا على قلبه، جاهلًا، بربه، وأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك تجترئ بالإفتراء عليه، وقيل: يختم على قلبك، يمسك القرآن والوحي عنه، أو يربط عليه بالصبر عليه، فلا يشق عليه إذا هم انتهى.
"ثم أخبر خبرًا جازمًا غير معلق، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24] ، فهو كما في البيضاوي استئناف لنفي الافتراء عما يقول؛ بأنه لو كان مفتري لمحقه، إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه، أو بقضائه لا مرد له.
"وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظموه حق عظمته، أو ما عرفوه حق معرفته، {إِذْ قَالُوا} للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد خاصموه في القرآن، {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 92] .
قال ابن عباس: قائل ذلك اليهود، وقال مجاهد: مشركو قريش، وقال السدي: فنحاض اليهودي، وقال سعيد بن جبير: مالك بن الصيف، أخرجهما ابن أبي حاتم، "فأخبر أن من نفي عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي، ولا عظمه كما يستحق" في
مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟
وهذا في القرآن كثير يستدل تعالى بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسوله، وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك.
وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ
الرحمة والإنعام على العباد، فإن الوحي والبعث من عظائم رحمته وجلائل نعمته، أو ما قدروه في السخط على الكفار، وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة.
"فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة، وهذا" أي: تعظيمه صلى الله عليه وسلم بالآيات الدالة على كماله "في القرآن كثير" وذلك؛ لأنه "يستدل" بزيادة السين والتاء، أي: يدل "تعالى" خلقه" "بكماله المقدس، وأوصافه، وجلاله على صدق رسوله" فيما جاء به، "وعلى وعده ووعيده" مثلًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] ، دل بكونه خالقًا للناس، منعمًا عليهم، بجعل الأرض فراشًا، والسماء بنا.. إلخ، على أن من قدر على ابتداء هذه الأحوال لا يعجز عن بعثهم بعد فناء أجسادهم، ومن لازم ذلك صدق الرسول في أخباره عن الله بالبعث والإعادة، "ويدعو عباده إلى ذلك" أي: تصديقه فيما جاء عليه الصلاة والسلام، أو الإشارة راجعة للصدق بتقرير مضاف، أي: إلى اعتقاد صدق رسوله.
"وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله" مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، وهم الذين قالوا:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7]، فرد عليهم بقوله:{قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} فيما طلبوا {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَاب} القرآن {يُتْلَى عَلَيْهِم} فهو آية مستمرة لا انقضاء لها، بخلاف ما ذكر من الآيات، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الكتاب {لَرَحْمَةً} لنعمة عظيمة {وَذِكْرَى} عظة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] الآية، لمن همه الإيمان دون التعنت.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي عن يحيى بن جعدة، قال: جاء ناس من المسلمين يكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال صلى الله عليه وسلم:"كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء بهم نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره" إلى غيرهم، فنزلت:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا} ، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} بصدقي، وقد صدقني بالمعجزات، أو بتبليغ
كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 51-52] ، فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله يكفي من كل آية، ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله تعالى، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب، ثم قال:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإذا كان سبحانه عالمًا بجميع الأشياء كانت شهادته أعظم شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به، وهو سبحانه وتعالى يذكر علمه عند شهادته وقدرته، وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده. فتأمل ورود
ما أرسلت به إليكم، ونصحي، ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلا يخفى عليه حالي وحالكم {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِل} ، وهو ما يعبد من دون الله {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} منكم {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [العنكبوت: 52] في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
"فأخبر سبحانه؛ أن الكتاب الذي أنزله يكفي من" أي: بدل، "كل آية" لانقضائها بخلافه، "ففيه الحجة، والدلالة على أنه من الله تعالى، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب" بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، "ثم قال:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فإذا كان سبحانه عالمًا بجميع الأشياء" المعبر عنها بما في السموات والأرض "كانت شهادته أعظم شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام، محيط بالمشهود به" بخلاف شهادة غيره، فليس لها هذا الوصف، إذ قد يخفى عليه ما يمنعه من الشهادة بما شاهده لو علمه، "وهو سبحانه وتعالى، يذكر علمه عند شهادته" فهذا حكمة قوله:{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، بعد قوله:{شَهِيدًا} مع أنه مقطوع، محقق الحصول عند كل أحد.
"و" يذكر "قدرته وملكه عند مجازاته" لإفادته أنه لا يعجزه شيء، "وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده" تنبيهًا لهم على التوبة، وأن لا يقنطوا، "فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر، والثواب والعقاب" يظهر لك من أسرارها العجب العجاب، وحاصله أن من عادته تعالى إذا ذكر أمرًا تقصر عن إدراكه العقول، ذكر أنه إنما أخبر عنه بعلم تام وقدرة كاملة، فليس إخباره عن شيء،
أسمائه الحسنى في كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب.
وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] .
كإخبار بعض البشر عما شاهده؛ لأنه قد يخفي عليه ما يمنعه الشهادة لو علمه، أو من المجازة عليه.
"وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الحج: 8] تيسيره أطلق له؛ لأنه من أسبابه، وقيد به إشارة إلى أنه أمر صعب، لا يتأتى إلا بمعونته تعالى، قاله البيضاوي وغيره.
وقال العز بن عبد السلام في مجاز القرآن: إذنه مشيئته وإرادته؛ لأن الغالب في الإذن أن لا يقع إلا بمشيئة، واعتبار الملازمة الغالبة تصحيح المجاز، أو بأمر التكوين، فإن الأمر يلازمه مشيئة الآمر غالبًا.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه} بأمره [البقرة: 251]، وقوله:{كُنْ} ، وهو من مجاز التمثيل، شبه سهولة الأشياء في قدرته بسهولة هذه الكلمة على الناطق بها، تفهيمًا لسرعة نفوذ مشيئته وقدرته فيما يريده، ويعبر بالإذن عن التيسير والتسهيل، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221]، أي: بتيسيره وتسهيله، إذ لا يحسن أن يقال دعوته بإذني، ولا قمت وقعدت بإذني، ولذا قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالإذن هنا الأمر، أي: يدعوكم إلى الجنة والمغفرة، بأمره إياكم بطاعته، وكلاهما من مجاز الملازمة. انتهى.
{سِرَاجًا} أحوال مقدرة {مُنِيرًا} قال عياض: جمع الله له في هذه الآية ضروبًا من رتب الأثرة، وجملة أوصاف من المدحة، فجعله شاهدًا على أمته، بإبلاغهم الرسالة، وهي من خصائصه، ومبشرًا لأهل طاعته، ونذيرًا لأهل معصيته، وداعيًا إلى الله بإذنه إلى توحيده وعبادته وسراجًا منيرًا يهتدى به إلى الحق.
وقال ابن عطية: هذه أرحى آية في القرآن؛ لأنه أمره بتبشير المؤمنين بالفضل الكبير، وقد فسره في آية أخرى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22] الآية، "أي: شاهدًا على الوحدانية" أي: اتصافه تعالى؛ بأنه واحد أحد، لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولم يقيد الشهادة، فشملت الشهادة بها في الدنيا والآخرة.
وفي البيضاوي: شاهدًا على من بعثت إليهم، بتصديقهم وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم،
أي شاهدًا على الوحدانية، وشاهدًا في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهدًا في الآخرة بأحوال الدنيا، وبالطاعة وبالمعصية والصلاح والفساد، وشاهدًا على الخلق يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُول
وكذا تقدم عن عياض؛ فجعلا ذلك صلة الشهادة، وجعلا صلة داعيًا إلى الإقرار بالله وتوحيده، وما يجب الإيمان به من صفاته، وهو خلاف ما ذكر المصنف.
"وشاهدًا في الدنيا بأحوال الآخرة" أي: بما يكون فيها ذاتًا، أو صفة، "من الجنة والنار، والميزان والصراط، وشاهدًا في الآخرة بأحوال الدنيا، و" ذلك بأن يشهد للمطيع "بالطاعة" وعلى العاصي، "بالمعصية" فهو بيان للمراد بالشهادة، "والصلاح" الواقع من المطيع "والفساد" من العاصي، وعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن أعمال أمته تعرض عليه، كما ثبت في الحديث، واستشكل مع حديث الصحيح:"ليذاد رجال عن حوضي، كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم بدلوا وغيروا بعدك، فأقول سحقًا سحقًا".
وفي رواية: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وأجيب بأنها إنما تعرض عليه عرضًا مجملًا، فيقال: عملت أمتك شرًا عملت أمتك خيرًا، أو أنها تعرض عليه دون تعيين عاملها، قاله الأبي.
"وشاهدًا على الخلق يوم القيامة" بإبلاغ أنبيائهم وتزكية أمته، "كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية.
روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد، مرفوعًا:"يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟، فيقول: نعم، أي: رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟، فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، والوسط العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم".
وروى أحمد والنسائي وابن ماجه، عن أبي سعيد، رفعه:"يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيقال له: هل بلغت قومك؟، فيقول: نعم، فيدعي قومه، فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: من يشهد لك؟، فيقول: محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟، فيقولون: نعم فيقال: وما علمكم؟، فيقولون: جاء نبينًا، فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا وصدقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} "[البقرة: 143] .
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرف من قبلنا، إنا أرسلناك شاهدًا بوحدانيتنا ومشاهدًا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتنذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا، وداعيًا الخلق إلينا، وسراجًا يستضاء بك، وشمسًا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من اتبعك وخدمك وقدمك، فبشر بفضلنا وطولنا عليهم وإحساننا لديهم.
ولما كان الله تعالى قد جعله عليه الصلاة والسلام شاهدًا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيًا، فالله تعالى لم يجعل النبي في مسألة الوحدانية مدعيًا
قال البيضاوي: وهذه الشهادة وإن كانت لهم، لكن لما كان الرسول كالرقيب المؤتمن على أمته عدي بعلي، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدًا عليهم، وطالبهم بالبينة، وهو أعلم إقامة للحجة على المنكرين. انتهى، ولإظهار فضل هذه الأمة على رؤوس الأشهاد.
قال أبو الحسن القابسي: أبان الله فضل نبينا وفضل أمته بهذه الآية، وفي قوله:{وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]، وكذلك قوله:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] الآية.
"كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرف""بالفاء" بالنبوة "من قبلنا إنا أرسلناك شاهدًا بوحدانيتنا، ومشاهدًا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتنذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا"، وهي المعاصي، "وداعيًا الخلق إلينا"، أي: إلى ما يجب إلينا، "وسراجًا يستضاء بك" من ظلمات الجهل، ويقتبس من نورك أنوار البصائر، "وشمسًا تبسط شعاعك يستضاء بك" من ظلمات الجهل، ويقتبس من نورك أنوار البصائر، "وشمسًا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من أتبعك وخدمك وقدمك" على جميع الخلق، بأن علم كمالك الذي تتميز به على غيرك، وأذن له، "فبشر" يا أيها المشرف من قبلنا المؤمنين "بفضلنا" أنعامنا عاجلًا وآجلًا، "وطولنا" أي: إحساننا "عليهم" بترك عقابهم، فتغاير العطف، لكن يصير "وإحساننا لديهم" تفسيريًا، وفي نسخة: فبشره بضمير عائد على لفظ من، وحذفه أولى.
"ولما كان الله تعالى قد جعله عليه الصلاة والسلام شاهدًا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيًا، فالله تعالى لم يجعل النبي في مسألة الوحدانية مدعيًا لها؛ لأن المدعي من يقول شيئًا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أدعى النبوة" قبل نزول هذه الآية، حيث أخبر أن الله بعثه، ولم يعرف بها قبل الدعوة، فأتى بخلاف
لها؛ لأن المدعي من يقول شيئًا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ادعى النبوة، فجعل الله تعالى شاهدًا له في مجازاة كونه شاهدًا له تعالى فقال سبحانه:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1]، ومن هذا قوله تعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] ، فاستشهد على رسالته بشهادة الله
ظاهر حاله قبل، "فجعل" جواب لما أدخل عليه الفاء، "الله تعالى شاهدًا له في مجازاة كونه شاهدًا له تعالى، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} التلاوة، يعلم {إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ولا يصح أن يشهد تفسير ليعلم؛ لأن علم الشيء لا يستلزم الشهادة به، لكن في القاموس شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي: علم الله، أو قال، أو كتب، "ومن هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قيل: هم رؤساء اليهود، {لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها، {وَمَنْ عِنَْهُ عِلْمُ} مرتفع بالظرف، لاعتماده على الموصول، أو مبتدأ، والظرف خبره {الْكِتَابِ} القرآن [الرعد: 43] ، وما ألف عليه من النظم المعجز، أو علم التوراة، وهو ابن سلام وأضرابه.
قال سعيد بن جبير: هو جبريل، وقال عكرمة: هو عبد الله بن سلام، رواهما ابن أبي حاتم، وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، وقال قتادة: كنا نتحدث أن منهم ابن سلام، وسلمان الفارسي، وتميمًا الدارمي، أخرجهما ابن جرير، وقيل: المراد علم اللوح المحفوظ، وهو الله.
قال الطيبي: فيلزم عطف الشيء على نفسه، فأول الزمخشري وغيره اسم الذاب بما يعطيه من معنى استحقاق العبادة، لكونه جامعًا لمعاني الأسماء، فقال:"كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيدًا بيننا"، فيخزي الكاذب منا، ويؤيده قراءة من قرأ ومن عنده بالكسر خبر، والمبتدأ علم.
قال الأزهري: لا يكون إلهًا حتى يكون معبودًا وخالفًا ورازقًا ومدبرًا، فأتى بالموصول ليتوافق المعطوف والمعطوف عليه.
"فاستشهد على رسالته بشهادة الله له"، وأمره بقول ذلك، إذ لا يجحد باطنًا، "وكذلك قوله تعالى" حين قالت قريش: يا محمد لقد سألنا عنك أهل الكتاب، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا ما يشهد لك أنك رسول الله، فنزلت على ما قال الكلبي، وتبعه البغوي وغيره.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس: أن ثلاثة من اليهود جاءوا، فقالوا: يا محمد
له. وكذلك قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]، وقوله تعالى:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه} [المنافقون: 1]، وقوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه} [الفتح:
ما نعلم مع الله إلهًا غيره، فقال: لا إله إلا الله بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعوا، فأنزل لله في قولهم:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ} آي: موجود {أَكْبَرُ شَهَادَةً} ، تمييز محول عن المبتدأ، {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 9] ، على صدقي، فهو الجواب؛ لأنه تعالى إذا كان التشهد كان أكبر شيء شهادة.
قال الطيبي: فهو من أسلوب الحكيم، يعني فشهادته معلومة لا كلام فيها، وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم، مبين لدعواي، وإذا ثبت أنه شيهد له، لزم أن أكبر شيء شهادة شهيد له.
ونحوه قوله التفتازاني، كأنه قيل: معلوم أن الله هو الأكبر شهادة، ولكن الأنسب بالمقام هو الإخبار بأن الله شهيد لي، لينتج مع قولنا: الله أكبر شهادة أن الأكبرة شهادة شهيد لي.
قال أبو حيان: هذا الوجه أرجح مما قدمه الزمخشري؛ أن المعنى قل الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ شهيد، أي: هو؛ لأن فيه إضمارًا وآخرًا، والأول لا إضمار فيه مع صحة معناه.
"وقوله تعالى" روى ابن إسحاق عن ابن عباس: دخل جماعة من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إلي والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعم ذلك، فأنزل الله:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} يبين نبوتك {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} من القرآن المعجز،
{أَنْزَلَهُ} ملتبسًا {بِعِلْمِهِ} أي: عالمًا به، أو فيه علمه، {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أيضًا لك، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] ، على ذلك.
قال البيضاوي: استدرك على مفهوم ما قبله، وكأنه لما تعنتوا عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، واحتج عليهم بقوله:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} [النساء: 163]، قال: إنهم لا يشهدون، ولكن الله يشهد، أو أنهم أنكروه، ولكن الله يثبت، ويقرره بما أنزل إليك من القرآن المعجز، الدال على نبوتك.
روى ابن جرير عن ابن عباس لما نزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} قالوا: ما نشهد لكن فنزلت، "وقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه} [المنافقون: 1] ، فلا يضرك قول المنافقين ذلك بألسنتهم، مخالفًا لما في قلوبهم، وقوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] جملة مبينة للمشهود به، ويجوز أن يكون رسول الله صفة، ومحمد خبر محذوف، أو مبتدأ، والذين معه معطوف عليه، وخبرهما أشداء على الكفار رحماء بينهم، كما في الأنوار.
29] ، فهذا كله معه تعالى شهادة لرسوله قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم بكونه سبحانه شاهدًا لرسوله.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] .
فيظهر ظهورين: ظهورًا بالحجة والبيان، وظهورًا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورًا.
ومن شهادته تعالى أيضًا ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن الله فطر القلوب على قبول الحق
"فهذا كله معه تعالى شهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم، قد أظهرها وبينها وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع العذر""بسكون الذال وتضم" للاتباع، أي: منع الأشياء التي تكون سببًا لطلب ما يزل اللوم عن الفاعل "بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم، بكونه سبحانه شاهدًا لرسوله" صلى الله عليه وسلم.
"وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ملتبسًا به، أو بسببه، ولأجله، {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى} جنس {الدِّينِ كُلِّهِ} ينسخ ما كان حقًا، وإظهار فساد ما كان باطلًا، وتسليط المسلمين على أهله، إذا ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] الآية" على أن ما وعده كائن، أو على نبوته بإظهار المعجزات، أو على أنك مرسل، كما قال محمد رسول الله، "فيظهر ظهورين: ظهورًا بالحجة والبيان" بحيث لا يستطيع المعاند ردهما، بل يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والإفتراء والمباهتة والرضا بالدنية، كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْف} [البقرة: 88] الآية، وفي أكنة مما تدعون إليه وغير ذلك، "وظهورًا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخاليفه ويكون منصورًا" كما قال: "هو الذي أيدك بنصره لينصرك الله نصرًا عزيزًا" [الفتح: 3] .
"ومن شهادته تعالى أيضًا ما أودعه في قلوب عباده، من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه" سبحانه، "ووحيه" إلى أنبيائه، "فإن الله فطر" خلق "القلوب" مشتملة "على قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة، والسكون إليه، ومحبته وفطرها على" أعاد العامل تنبيهًا على أن كلًا من قبول الحق، و "بغض الكذب والباطل" مقصود بالذات "والنفور
والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علمًا ضروريًا ويقينًا جازمًا أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًا كسائر الأمور الوجدانية كاللذة والألم أنه من عند الله، تكلم به حقًا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصًا من مدارج السالكين.
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:
عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة" "بالكسر" الخلقة "على حالها لما آثرت" قدمت "على الحق سواء، ولما سكنت" اطمأنت "لا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيرهن ولهذا ندب" دعا "الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علمًا ضروريًا، ويقينًا جازمًا أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن} يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي، {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، لا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر، وقيل: أم منقطعة، والهمزة للتقرير ونكر قلوب؛ لأن المراد قلوب بعض منهم، أو للإشعار بأنها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها، كأنها مبهمة منكورة، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها، مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة، وقرئ أقفالها على المصدر، قاله البيضاوي.
"فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًا، كسائر الأمور الوجدانية""بكسر الواو" كاللذة والألم، إنه من عند الله، كلم به حقًا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصًا من مدارج السالكين" للعلامة ابن القيم في شرح منازل السائلين لشيخ الإسلام الهروي. "وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، حال من الضمير في إليكم.
158] .
ففي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الثقلين.
وقالت العيسوية من اليهود وهم أتباع عيسى الأصفهاني: إن محمدًا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بني إسرائيل.
ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية؛ لأن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب يتناول كل الناس، ثم قال:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وهذا يقتضي كونه مبعوثًا إلى جميع الناس.
وأيضًا: فلأنًا نعلم بالتواتر أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى الثقلين. فإما أن
قال المفتي: لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلى الله عليه وسلم، وشرف من يتبعه من أهلهما ونيلهم لسعادة الدارين، أمر عليهالصلاة والسلام ببيان أن تلك السعادة غير مختصة بهم، بل شاملة لكل من تبعه كائنًا من كان، ببيان عموم رسالته للثقلين مع اختصاص سائرالرسل بأقوامهم، وإرسال موسى إلى فرعون، وملئه بالآيات التسع، إنما كان لأمرهم بعبادة رب العالمين، وترك العظمة التي كان يدعيها الطاغية، ويقبلها منه الفئة الباغية، وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر، وأما العمل بأحكام التوراة، فمختص ببني إسرائيل. انتهى.
"ففي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الثقلين" الإنس والجن، سيما بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهم وقدرهم، أو؛ لأنهما مثقلان بالتكليف، ووجه الدلالة أن الناس وإن غلب استعماله في الإنس، لكنه اسم للإنس والجن؛ لأنه مشتق من ناس ينوس، إذا تحرك فيطلق عليهما وبهما، فسر في صدور الناس.
"وقالت العيسوية من اليهود، وهم أتباع عيسى" المنقول لغيره أبي عيى "الأصفهاني"، زاد في نسخة: النصراني، ولا ينافيها قوله أولا من اليهود، لجواز أنه كان نصرانيا، ثم تهود، فتبعته تلك الطائفة:"إن محمدا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بني إسرائيل، ودليلنا على إبطال قولهم في هذه الآية؛ لأن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب عام "يتناول كل الناس" العرب، وبني إسرائيل وغيرهم، فتخصيصه بالعرب من أين، "ثم قال" بأمر الله تعالى قل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وهذا يقتضي كونه مبعوثا إلى جميع الناس، اقتضاء ظاهرا، لا سيما مع قوله جميعا، فهو قريب من الصريح.
"وأيضا" دليل ثان في الرد على العيسوية: "فلأنا نعلم بالتواتر أنه كان يدعي"، أي: يذكر "أنه مبعوث إلى الثقلين، فإما أن نقول أنه كان رسولا حقا، أو كان كذلك" من
نقول: إنه كان رسولًا حقًا، أو ما كان كذلك، فإن كان رسولًا حقًا امتنع الكذب عليه، ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقًا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} من الناس من يقول: إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك.
أما الأولون فقالوا: دخله التخصيص من وجهين:
الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين، فإذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولًا إليهم، وذلك؛ لأنه عليه السلام قال: "رفع القلم
إرخاء العنان للخصم للزوم الحجة له، "فإن كان رسولٌا حقًا" كما اعترفت به أيها الخصم، "امتنع الكذب عليه"، لاستحالته على الرسول، "ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه" ومنه أنه رسول إلى بني إسرائيل، "فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية" لما يقل بصريحها، لاحتمال أن أل فيها للجنس، ولكن يمنعه، أو يبعد التأكيد بقوله جميعًا؛ "أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقًا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل" وعبر بيدعي؛ لأن الإدعاء قول يخالف الظاهر، كما قدمه، وهذا وإن طابق الواقع بحسب نفس الأمر، لكنه مخالف للظاهر، فلذا أتى بالأدلة والبراهين لإثبات رسالته.
"وإذا ثبت هذا، فنقول قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم جَمِيعًا} ، من الناس من يقول: إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك".
"أما الأولون" ترك عديله إما لظهوره، أي: وأما المنكرون، فقالوا: هو باق على عمومه، والتكليف، ووصول خبر الرسالة ليس شرطًا في الرسالة، وإنما هو شرط في المؤاخذة بما بلغه.
"فقالوا: دخله التخصيص من وجهين: الأول: أنه رسول الله إلى الناس، إذا كانوا من جملة المكلفين" لا مجانين وصبيانًا، "فإذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولًا إليهم، وذلك؛ لأنه عليه السلام قال" كما رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، عن علي وعمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاث" كناية عن عدم التكليف؛ لأنه يلزم منه الكناية، وعبر برفع إشعارًا؛ بأن التكليف لازم لبني آدم، لا ينفك
"عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستقيظ، وعن المجنون حتى يفيق".
والثاني: أنه رسول الله إلى كل من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
عنهم إلا عن ثلاثة، "عن الصبي" الطفل، ولو مراهقًا "حتى يبلغ" وفي رواية: حتى يكبر، وأخرى: حتى يشب، وأخرى: حتى يحتلم.
قال السبكي: ليس في روايتي "حتى يكبر"، وحتى يبلغ من البيان ما في رواية حتى يحتلم، فالتمسك بها لبيانها أولى؛ لأن حتى يبلغ مطلق، وحتى يحتلم مقيد، فيحمل عليه، فإن الاحتمال بلوغ قطعًا، وعدم بلوغ السن ليس ببلوغ قطعًا، "وعن النائم حتى يستيقظ" من نومه، "وعن المجنون" زاد في رواية: المغلوب على عقله "حتى يفيق" وفي رواية: حتى يبرأ، أي: بالإفاقة، وفي أخرى: حتى يعقل، وفي أخرى: وعن المبتلى حتى يبرأن أي: المبتلي بداء الجنون.
قال ابن حبان: والمراد برفع القلم ترك كتابة الشر عليهم دون الخير.
قال الزين العراقي: وهو ظاهر في الصبي دون المجنون والنائم؛ لأنهما في حيز من ليس قابلًا لصحة العبادة منهم لزوال الشعور، فالمرفوع عن الصبي قلم المؤاخذة، لا قلم الثواب، لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة لما سألته:"ألهذا حج؟، قال: "نعم" واختلف في تصرف الصبي، فصححه أبو حنيفة ومالك بإذن وليه مراعاة للتميز، وأبطله الشافعي مراعاة للتكليف.
"والثاني: أنه رسول الله إلى كل من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا" قد يشعر بعدم وجوده والمصرح به في الفروع والأصول، خلافه "حصول قوم في طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره، وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته، فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته" ويكونون من الناجين في الآخرة لعذرهم بعدم بلوغ الدعوة، ولكن لا يصلي عليهم؛ لأنه إنما يصلى على المحقق إسلامه، ولا يجوز لعنهم؛ لأنهم لعدم تكذيبهم في معنى المسلم، كما قال الغزالي: أنه التحقيق لا مسلم، كما عبر به بعض، أو على الفطرة، كما عبر به آخر، واختار السبكي التعبير بناج.
"وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "والذي نفسي بيده" أقسم تقوية للحكم، "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة" التي وجد فيهم إلى قيام الساعة، "ولا يهودي، ولا
"والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم. ومفهومه: أنه من لم يسمع به ولم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، على ما تقرر في الأصول أنه لا حكم قبل الشرع على الصحيح، وفي هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ
نصراني" عطف خاص على عام، لإفادة عموم بعثته، "ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" الخالدين فيها، "رواه مسلم" وأحمد.
"ومفهومه أن من لم يسمع به، ولم تبلغه دعوة الإسلام، فهو معذور" فيكون ناجيًا "على ما تقرر في الأصول أنه لا حكم قبل الشرع على الصحيح"، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ؛ ولأن الغافل لا يكلف، لقوله تعالى:{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ، ثم اختلف هل نجاة من لم تبلغه الدعوة ودخوله الجنة غير متوقفة على الامتحان، أو متوقفة عليه، لورود أحاديث كثيرة؛ بأنهم يمتحنون يوم القيامة ببعث رسول إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها.
"وفي هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم" لجعله من لم يؤمن برسالته من أهل النار، وإنما يكون كذلك بموته كافرًا، وكفره يستدعي نسخ الشريعة التي هو متمسك بها، والله أعلم.
"وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد صلى الله عليه وسلم {يُبَيِّنُ لَكُمْ} الدين، وحذف لظهوره أو ما كتمتم من الكتاب، كآية الرجم، وصفته صلى الله عليه وسلم، وحذف لتقدم ذكره، ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان، والجملة في موضع الحال، أي: جاءكم رسولنا مبينًا {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل} ، متعلق بجاء، أي: على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، فتعلق على فترة بجاءكم تعلق الظرفية، كقوله:{أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} كراهة أن تقولوا ذلك، وتعتذروا به، فهو في موقع المفعول له، {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف، أي: لا تعتذروا بما جاءنا بأن تقولوا ذلك، قاله الكشاف.
قال التفتازاني: أي: بمحذوف تفصح عنه الفاء، وتفيد بيان سببه، كالتي تذكر بعد الأوامر
الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19] .
خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول. بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال تعالى:{عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي من بعد مدة متطاولة، ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا في مقدار هذه المدة، فقال النهدي وقتادة في رواية عنه:
والنواهي بيانًا لسبب الطلب، لكن كمال حسنها وفصاحتها أن تكون مبنية على التقدير، منبئة عن المحذوف، بخلاف قولك: أعبد ربك، فالعبادة حق له، ولكون مبنى الفاء الفصيحة على الحذف اللازم، بحيث لو ذكر لم يكن بتلك الفصاحة، تختلف العبارة في تقدير المحذوف، فتارة أمرًا أو نهيًا، كما في هذه الآية، وتارة شرطًا، كقوله:{فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْث} [الروم: 56] ، وتارة معطوفًا عليه، كقوله: فانفجرت {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [المائدة: 19] فيقدر على الإرسال تترًا، كما فعل بين موسى وعيسى إذا كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وعلى الإرسال على الفترة، كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، "خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول" بيان لخاتم النبيين، "بل هو المعقب لجميعهم"، أي: الجائي بعدهم، "ولهذا قال تعالى:{عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل} ، أي: من بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم" والفترة لغة من فتر الشيء إذا سكنت حدته، سميت المدة التي بين الأنبياء فترة، الفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع.
"وقد اختلفوا في مقدار هذه المدة، فقال النهدي""بفتح النون وإسكان الهاء" أبو عثمان عبد الرحمن بن مل "بلام ثقيلة، والميم مثلثة"، مشهور بكنيته، من كبار التابعين، مخضرم، ثقة، عابد، روى له الجميع، مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر، "وقتادة" بن دعامة الأكمة التابعي، المشهور "في رواية عنه ستمائة سنةن ورواه البخاري" من حديث أبي عثمان النهدي "عن سلمان الفارسي" قال: فترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة.
قال الحافظ: أي: المدة التي لم يبعث فيها رسول من الله، ولا يمتنع أن ينبأ فيها نبي يدعو إلى شريعة الرسول الأخير.
ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وعن قتادة: أنها خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة ويضع وثلاثون سنة، وعن الشعبي -فيما ذكره ابن عساكر- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة، قال: وكانت هي الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد آخر النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما في البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أنا أولى الناس
"وعن قتادة: أنها خمسمائة وستون سنة" أخرجه عبد الرزاق بن معمر عنه، لكن لم يقل: وستون سنة، كما في الفتح، قال: وعن الكلبي: خمسمائة وأربعون، "وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة. وعن الشعبي" عامر بن شراحيل، "فيما ذكره ابن عساكر"، عنه: "تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة".
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة" خلافًا لنقل ابن الجوزي الإتفاق على ذلك، فإنه تعقب بوجود الخلاف، "قال: وكانت هي الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد آخر النبيين من بني آدم"، بيان للواقع، "على الإطلاق، كما في البخاري" في أحاديث الأنبياء، وكذا مسلم، كلاهما "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا" بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم".
وفي رواية للبخاري: "بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة"، ولفظ مسلم:"في الأولى، والآخرة"، قال الحافظ: أي: أخصهم به، وأقربهم إليه؛ لأنه بشر بأنه يأي من بعده، فالأولوية من جهعة قرب العهد، كما أنه أولى الناس إبراهيم من جهة قوة الاقتداء، زاد السيوطي: ولأنه أبوه ودعا به، وأشبه الناس به خلقًا وملة. انتهى.
وقول الكرماني: التوفيق بين الحديث، وبين قوله تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [الأعراف: 68] ، إن هذا الحديث وارد في كونه صلى الله عليه وسلم متبوعًا، والآية واردة في كونه تابعًا، رده الحافظ؛ بأن مساق الحديث كمساق الآية، فلا دليل على هذه التفرقة، والحق أن لا منافاة ليحتاج إلى الجمع، فهو أولى بكل منهما من جهة، وأسقط المصنف من هذه الرواية عند البخاري ومسلم، والأنبياء، أولاد علات؛ "لأنه ليس بيني وبينه نبي" لم تقع لفظه؛ لأنه في الصحيحين، ولذا قال السيوطي: ليس.. إلخ، بيان لجهة الأولوية.
وقال الحافظ: قوله: ليس بيني وبينه نبي، هذا أورده كالشاهد لقوله: إنه أقرب الناس إليه، وتبعه المصنف.
وفي رواية لهما: والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، والعلات: "بفتح
بابن مريم؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي" وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القاضي وغيره.
والمقصود: أن الله بعث محمدًا على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم والنفع به أعم.
وفي حديث عند الإمام أحمد مرفوعًا: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" وفي لفظ مسلم: "من أهل الكتاب" فكان
المهملة" الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة، ثم أخرى، كأنه عل منها بعدما كان ناهلًا من الأخرى، والعلل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات الأخوة من الأب وأمهاتهم شتى، فقوله: أمهاتهم إلخ، من باب التفسير كقوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19] ، ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلف فروع الشرائع، وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة.
"وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي، يقال له: خالد بن سنان" العبسي، "كما حكاه القاضي" عياض، وفي نسخة: القضاعي "وغيره".
ومن فتح الباري: استدل به على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر؛ لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية، المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وإن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين وكانا بعد عيسى، والجواب أن هذا احديث يضعف ما ورد من ذلك، فإنه صحيح بلا تردد، وفي غيره مقال، أو المراد أنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة، وإنما بعث بعده بتقرير شريعة عيسى.
"والمقصود أن الله بعث محمدًا على فترة من الرسل، وطموس" مصدر طمس، محى ودرس "من السبل" أي: ذهاب الشرائع وعدم العلم بشيء منها، "وتغير الأديان" بتحريف ما يدل عليها وتبديله، "وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان" جمع صليب للنصارى، "فكانت النعمة به أتم، والنفع به أعم".
"وفي حديث عند الإمام أحمد، مرفوعًا: "إن الله نظر إلى أهل الأرض" نظر غضب، "فمقتهم" أبغضهم أشد البغض، لقبح ما ارتكبوه، والمراد من هذا ونحوه غايته "عجمهم" "بفتحتين"، وفي لغة بضم فسكون، خلاف العرب، "وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" فلم يمقتهم لتمسكهم بالحق. "وفي لفظ مسلم: من أهل الكتاب" بدل قوله: من بني إسرائيل، ومعناهما واحدًا، "فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا
الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فهدى به الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] .
صلى الله عليه وسلم، فهدى به الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات" الكفر "إلى النور" الإيمان "وتركهم على المحجة" "بفتح الميم" "البيضاء"، أي: الطريقة الواضحة بنيانه لهم الحق من الباطل، "والشريعة الغراء، صلوات الله وسلامه عليه".
قال الإمام الرازي: كان العالم مملوء من الكفر والضلال، أما اليهود، فكانوا في المذاهب الباطلة من التشبيه والإفتراء على الأنبياء وتحريف التوراة، وأما النصارى، فقالوا بالتثليث، والابن والأب والحلول والاتحاد، وأما المجوس، فأثبتوا الهين، وأما العرب، فانهمكوا في عبادة الأصنام والفساد في الأرض، فلما بعث صلى الله عليه وسلم انقلت الدنيا من الباطل إلى الحق، ومن الظلمة إلى النور، وانطلقت الألسنة بتوحيد الله، فاستنارت العقول بمعرفة الله، ورجع الخلق من حب الدنيا إلى حب المولى. انتهى.
"وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} "بضم الفاء"، في قراءة الجمهور، أي: منكم، وقرئ شاذًا "بفتح الفاء" أي: من خياركم وأشرفكم.
وأخرج ابن مردويه عن أنس، قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} "بفتح الفاء"، وقال:"أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح"، {عَزِيزٌ} شديد {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أن تهتدوا {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} شديد الرحيم {رَحِيمٌ} يريد لهم الخير والرأفة مع الرحمة حيث وقعت مقدمة لا للفاصلة، كما قال البيضاوي ومن تبعه لوقوعه كذلك في غير الفواصل.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] ، بل؛ لأن أصل معنى الرأفة التلطف والشفقة، كما صرح به القرطبي في شرح الأسماء، فقال: قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الآية، حيث ذكر الوصفان، قدم الرؤوق على الرحيم في الذكر، وسببه أن الرحمة في الشاهد إنما تحصل بمعنى المرحوم من فاقته وضعفه وحاجته، والرأفة تطلق عندنا على ما يحصل الرحمة من شفقة على المرحوم".
وقال المشايخ: الرؤوق المتعطف، والذي جاد بلطفه ومن يعطفه. انتهى، "أي: عزيز عليه عنتكم، أي: إثمكم بالشرك والمعاصي" بيان للمراد بالعنت، وإلا فهو لغة المشقة
أي: عزيز عليه عنتكم، اي إثمكم بالشرك والمعاصي. قال الحسن: عزيز عليه أن تدخلوا النار، حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، ومن حرصه صلى الله عليه وسلم علينا أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، وفهمنا إياه على قدر منزلته، بل على قدر منزلتنا، وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله:
لم يمتحنا بما تعيا العقول به
…
حرصًا علينا فلم نرتب ولم نهم
أي لم نتحير ولم نشك فيما ألقاه إلينا. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم.
ومن حرصه عليه السلام على هدايتنا أنه كان كثيرًا ما يضرب المثل بالمحسوس ليحصل الفهم، وهذه سنة القرآن، ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من
والخطأ، "قال الحسن" البصري:"عزيز عليه أن تدخلوا النار" من عزا إذا صعب وشق، قال الشاعر:
يعز علينا أن نفارق من نهوى
"حريص عليكم أن تدخلوا الجنة" والحرص فرط الشدة، أو الشح على الشيء، أن يضيع، والمراد هنا شدة الطلب لما يريده ويحبه، "ومن حرصه صلى الله عليه وسلم علينا" على الرفق بنا "أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، و" يريد "فهمنا إياه على قدر منزلته" بأن يأتي بالألفاظ المتناهية في البلاغة والقرابة خشية عدم فهمنا للمراد منهما، "بل على قدر منزلتنا" بالألفاظ المتداولة بين الناس، وإن نزلت في الرتبة عن غيرها ليسهل فهمها علينا، ويتضح المراد منها.
"وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله: لم يمتحنا" لم يبتلنا "بما" أي: بخطاب، "تعيا العقول" أي: تقصر عن فهمه لغموضه، فلا نهتدي إلى المراد "به، حرصًا علينا" أن لا نضل، "فلم نرتب ولم نهم، أي: لم نتحير" تفسير لنرتب، "ولم نشك فيما ألقاه إلينا" بل تحققناه لسهولته، "وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} أي: للرحمة، {لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، والإنس والجن وغيرهم "ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم" بل هو عقاب.
"ومن حرصه عليه السلام على هدايتنا أنه كان كثيرًا ما يضرب المثل بالمحسوس، ليحصل الفهم" كقوله: $"لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم".
"وهذه سنة القرآن" عادته المستمرة أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما، "ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من ذلك العجب العجاب" البالغ فيما يتعجب منه، لاشتماله على الأشياء البالغة في زيادة البيان والإيضاح والرفق بالمؤمنين، "ولما ساوى سبحانه وتعالى بين الناس"
ذلك العجب العجاب، ولما ساوى الله سبحانه وتعالى بين الناس في حرص رسوله عليه السلام على إسلامهم، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم.
وقال: {مِنْ أَنْفُسِكُم} ولم يقل: من أزواجكم، فقيل: يحتمل أن يكون مراده: أنه منا بجسده المنفس، لا بروحه المقدس، ويرحم الله القائل:
إذا رمت مدح المصطفى شغفًا به
…
تبلد ذهني هيبة لمقامه
فأقطع ليلي ساهر الجفن مطرقًا
…
هوى فيه أحلى من لذيذ منامه
إذا قال فيه الله جل جلاله
…
رؤف رحيم في سياق كلامه
فمن ذا يجاري الوحي والوحي معجز
…
بمختلفيه نثره ونظامه
مؤمنهم، وكافرهم، "في حرص رسوله عليه السلام على إسلامه، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم" المستفادة من التقديم، كأنه قيل: بالمؤمنين لا بغيرهم.
"وقال: {مِنْ أَنْفُسِكُم} ولم يقل: من أرواحكم، فقيل: يحتمل أن يكون مراده" على مغايرة النفس للروح، "أنه منا بجسده المنفس""بالتشديد" للمبالغة، أي: المكرم، ولرعاية "لا بروحه المقدس" المطهر، وإن كان أصل المنفس "بالتخفيف"، "ويرحم الله القائل: إذا رمت": قصدت "مدح المصطفى شغفًا": ولوعًا طبه" ومحبة له "تبلد" من البلادة: عدم الذكاء والفطنة، أي: انكسرت حدة "ذهني" ويرد عن الأوصاف اللائقة بمقامه.
وفي نسخة: تبدد، أي: تفرق، "هيبة لمقامه"؛ لأني أرى الأوصاف قاصرة عنه، فيعلوني الخجل عند إرادة مدحه، "فأقطع ليلى ساهر الجفن" أي: جنسه "مطرقًا""بكسر الراء وفتحها""هوى" القصر، أي: ميلًا، "فيه أحلى من لذيذ منامه"، إذ السهر في هوى المحبوب ألذ، "إذا قال فيه الله جل جلاله: رؤوف رحيم" وهما من أسمائه "في سياق كلامه" ومعنى إذا الظرفية المجردة لا الشرط؛ لأن القول تحقق من الله، فلا يليق جعله مستقبلًا، ويجوز أن إذا منون، أي: لأجل هذا، فمن ذا يجاري" يأتي بما يشابه "الوحي" بثنائه على المصطفى نثرًا، أو نظمًا، "والوحي معجز بمختلفيه" "بالفاء متعلق بيجاري" "نثره ونظامه" أي: نظمه، والمعنى أن الوحي معجز للكلام نثرًا كان، أو نظمًا، فلا يمكن مشابهته لأحد.
"تنبيه": إيقاظ وتبيين، "وأما قول القاضي عياض بعد ذكره الآية"{لَقَدْ جَاءَكُمْ} في الشفاء، بما لفظه، أعلم الله تعالى المؤمنين، أو العرب، أو أهل مكة، أو جميع الناس على اختلاف المفسرين من المواجه بهذا الخطاب؛ أنه بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، يعرفونه ويتحققون مكانته، ويعلمون صدقه وأمانته، ولا يتهمونه بالكذب، وترك النصيحة لهم لكونه منهم،
تنبيه: وأما قول القاضي عياض بعد ذكره الآية.
"ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد كثيرة، من حرصه على هدايتهم، ورشدهم وإسلامهم، وشدة ما يعنتهم ويضربهم في دنياهم وأخراهم،
وأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولادة، أو قرابة، وكونه من أنفسهم وأرفعهم وأفضلهم على قراءة الفتح، "ثم وصفه بعد"، أي: بعد الإعلام المذكور، "بأوصاف حميدة"، أي: محمودة عند الله والناس، أو حامدة على التجوز في النسبة، "وأثنى عليه بمحامد" جمع محمدة "كثيرة" والنثاء بها، لا يغاير الوصف بصفات حميدة، ولا يعاب مثله في مقام الخطابة، مع أنه لما كانت أوصاف جمع قلة، عقبه بجمع الكثرة دفعًا للإيهام، والأول مطابق لظاهر الآية، والثاني لما تضمنته مما لا يحصى، "من حرصه" بيان لما قبله من الأوصاف وما بعده، أي: من فرط شدته "على هدايتهم" أي: دلالتهم، والمراد طلب تأثيرها لا مجردها، "ورشدهم" أي: صلاحهم ظاهرا وباطنًا ليغاير الهداية، كما يقتضيه ظاهر العطف، فلا يفسر بضد الغي؛ لأنه الهداية، "وإسلامهم" مغاير لما قبله، فلذا عطف بالواو، وجعل ذلك كله متعلق الحرص، لدلالة السياق عليه ولقوله:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُم} [النحل: 37] ، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، والحرص لا يتعلق بالذوات، فإن قيل: لم قدم عياض هذه الصفة، وهي حريص عليكم مع تأخرها في الآية، أجيب: بأنه لما كانت العزة منشأ لحرصه قدمت في الآية على وفق الواقع لبيان حاله في ابتداء أمره، فلما حكاه عياض بيانًا لمحامده، قدم المقصود بالذات الذي هو الحمد، أو؛ لأن المقام مقام مدح، وهو في الحرص أتم وأكمل، وسياق الآية للامتنان، وهو كونه يعز عليه حالهم، فأشار إلى تفاوت المقامين، ولا يرد أن المنة في الحرص أتم؛ لأن مسلك الآية على الترقي، وما هنا بخلافه للتفنن.
"وشدة ما يعنتهم" روي بسكون العين وخفة النون من الإعنات، قال الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} ، وروي بفتح العين وتثقيل النون، وهما لغتان، أعنت وعنت، بمعنى المشقة والوقوع فيها، ويجيء بمعنى الإثم والفساد والهلاك.
"ويضربهم""بفتح الياء وضم الضاد" وروي بضم الياء وكسر الضاد، مضارع أضر؛ لأنه يقال: ضره وأضر به، ومعناهما أوقعه في الضرر، "في دنياهم وأخراهم" الدنيا تقال في مقابل آخره، وأخرى، كما عبر به، "وعزته عليه" عطف تفسير على شدة، كقوله:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} [يوسف: 86] ، وكان المناسب لعطف التفسير تأخير الأشهر الأظهر، فيقول: عزته وشدته، لكنه عكس للمبادرة، للمراد حتى يسلم السامع من عنت الانتظار، ولا حاجة لجعل الشدة غير العزة للتنازع في عليه، فإن التفسير لا ينافي التنازع، وبقية كلام عياض: ورأفته ورحمته
وعزته عليه".
فهو وإن كان المقصد منه صحيحًا، ففي ظاهره شيء؛ لأنه يوهم أن قوله:"وشدة ما يعنتهم" معطوف على متعلق المصدر الذي هو "الحرص" فيكون مخفوضًا به.
ومما يقوي هذا التوهم قوة إعطاء الكلام، أن الضمير الأول من قوله:"وعزته عليه" عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير الثاني عائد على الله تعالى، فلا تبقى "الشدة" إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر. ولا يخفى ما في هذا.
وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف أي: وكراهة شدة ما يعنتهم، ونحو ذلك من المضافات.
والأولى أو الصواب، إن شاء الله تعالى أن تكون "الشدة" معطوفة على
بمؤمنيهم.
"فهو وإن كان المقصد منه صحيحًا، ففي ظاهره شيء؛ لأنه يوهم أن قوله: وشدة ما يعنتهم، معطوف على متعلق المصدر الذي هو الحرص" بيان للمصدر، ومتعلقه قوله على هدايتهم، "فيكون مخفوضًا به" فيصير المعنى من حرصه على شدة ما يعنتهم، وهذا فاسد.
"ومما يقوي هذا التوهم قوة إعطاء الكلام؛ أن الضمير الأول من قوله: وعزته عليه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير الثاني عائد على الله تعالى، فلا تبقى الشدة إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر"، أي: قوله على هدايتهم، "ولا يخفى ما في هذا" من الفساد الموهم خلاف المراد، "وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف" مجرور، معطوف على الحرص المجرور بمن، "أي: وكراهة شدة ما يعنتهم، ونحو ذلك من المضافات" المصححة للمراد.
قال في النسيم: لا حاجة إلى تقدير؛ لأن معنى شدته عليه إنه صعب شاق عليه، فيراد به أنه مكروه تأباه نفسه، فالمعنى من حرصه على هدايته، ومن كراهته لما يضرهم، وصاحب المواهب لم يخف عليه العطف، ولكن أوقعه التقدير فيما وقع فيه. انتهى.
وكأنه لم ير بقية الكلام وهو قوله: "والأولى" من تأويله على حذف مضاف، "أو الصواب" على إبقائه على ظاهره، "إن شاء الله تعالى أن تكون الشدة معطوفة على نفس المصدر الذي هو الحرص"، وكان هذا أولى من تقدير المضاف لما فيه من الاحتياج لتقدير الأصل عدمه، "ويكون قوله: عزته معطوفًا على وشدة، والضمير فيه راجع إلى الموصول،
نفس المصدر الذي هو "الحرص" ويكون قوله: "وعزته" معطوفًا على "وشدة" والضمير فيه راجع إلى الموصول وهو "ما" في قوله: "ما يعنتهم" والهاء الثانية في "عليه" عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
يجوز أن يكون "رحمة" مفعولًا له، أي لأجل الرحمة، ويجوز أن ينصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أي: ذا رحمة، أو بمعنى: راحم. قال السمين.
قال أبو بكر بن طاهر -فيما حكاه القاضي عياض-: زين الله تعالى
وهو ما في قوله: ما يعنتهم" أي: الذي، "والهاء الثانية في عليه عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى".
والمعنى وصفه وأثنى عليه بمحامد من شدة الذي يعنتهم وعزة الذي يعنتهم على المصطفى.
"وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} ، يجوز أن يكون" قوله: "رحمة مفعولًا له أي: لأجل الرحمة"، وللعالمين متعلق به، أي: إلا لترحم بك العالمين، بهدايتك إياهم لسعادة الدارين.
وفي الصحيح قيل: يا رسول الله ادع على المشركين؟، فقال:"وإني لم أبعث لعانًا إنما بعثت رحمة"، "ويجوز أن ينصب على الحال" من الكاف "مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف، أي: ذا رحمة" وليس للعالمين متعلقًا بأرسلنا؛ لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا في الاستثناء المفرغ نحو: ما مررت إلا بزيد، والمعنى إلا لأرحم العالمين بالبناء للفاعل، لا للمفعول كما زعم، "أو بمعنى راحم" اسم فاعل، "قاله السمين" الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي، النحوي، نزيل القاهرة، مات سنة ست وخمسين وسبعمائة، له إعراب القرآن، وأيضًا تفسير كبير في عدة أجزاء.
"قال أبو بكر بن طاهر" بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، الشاطبي، كما جزم به البرهان الحلبي في المقتفى والشمني وغيرهما، "فيما حكاه القاضي عيا" في الشفاء، "زين الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة"، استعارة مكنية، بجعلها كالحلة والخلعة البهية والزينة: ما يتزين به لباسًا وغيره، وإضافته للرحمة بيانية، أو من إضافة الأعم للأخص، كلجين الماء، وقيل: الزينة هنا اللباس، أي: ألبسه الله رحمة رحمانية شاملة له، وفيه إشارة إلى أنها منة من الله بها
محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، انتهى.
وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر؛ لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه. ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة في الدنيا والآخرة.
عليه، غير الحلية البشرية، "فكان كونه" أي: وجوده، فهي تامة لا خبر لها، وتقدير من ربنا قبيح، "رحمة" خبر فكان، والفاء فيه للتفسير والتفصيل، "وجمع شمائله" جمع شمال "بالكسر".
قال الأزهري: الشمال خلقه الرجل، أي: خلقه، وجمعه شمائل، ورجل كريم الشمائل، أي: في أخلاقه ومخالطته. انتهى، فعطف، "وصفاته رحمة" عام على خاص؛ إذا لم يخصص الصفات بالظاهرة، والشمائل بخلافها.
وقال شراح الشفاء: صفاته تشتمل غضبه وظاهر مرآه؛ لأنه لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لله، وغضبه للإصلاح، وهو رحمة في ذاته، وأما مرآة الحسن، فإنه لمحبته والتصديق به، ألا ترى أن عبد الله بن سلام لما رآه آمن به، وقال: لما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، "فمن أصابه شيء من رحمته" أي: اهتدى بهدايته؛ لأن من يهتد، كمن لم تصبه الرحمة، كما أن من شرب الماء ولم يرو، كأنه لم يشرب، "فهو الناجي" أي: السالم، "في الدارين" الدنيا والآخرة "من كل مكروه" يصيب من لم يهتد في الدنيا، كقتل وسبي وأخذ جزية، وفي الآخرة العذاب المخلد، وأما أسقام الدنيا وآلامها التي تصيب المؤمن فلا تعد مكروهة بعد العلم بما فيها من تكفير السيئات ونيل الحسنات، "والواصل فيهما إلى كل محبوب"، أما في الآخرة، فغني عن البيان، وأما في الدنيا، فإن كان ذا غنى ونعمة فظاهر، وإلا فالمؤمن العقال إذا صبر وقام بوظائف العبودية في دنيا سريعة الزوال كان ما أصابه من المكروه لإيصاله للنعم الأخروية محبوبًا عنده. "انتهى" كلام ابن طاهر.
"وقال ابن عباس: رحمة للبر" أي: المؤمن "والفاجر" أي: الكافر؛ "لأن كل نبي" من سبق "إذا كذب""بشد الذال" مبني للمجهول، "أهلك الله من كذبه، ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر من كذبه إلى الموت، أو إلى القيامة" فتأخير عذاب الدنيا عنهم بنحو الاستئصال والخسف والمسخ والعذاب النازل من السماء رحمة، فلا يرد عليه من قتل من الكفار في غزوات المصطفى، "وأما من صدقه"، أي: آمن به، "فله الرحمة في الدنيا والآخرة" وإن عذاب
وقال السمرقندي: رحمة للعالمين يعني: الجن والإنس.
وقيل: لجميع الخلق للمؤمنين رحمة بالهداية، ورحمة للمنافقين بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب لما بعد الموت.
العاصي فمآله إلى الجنة مع خفة عذابه عن الكفار بمراحل، بلا لا مشابهة.
وعن ابن عباس أيضًا عند الطبري وغيره: وهو رحمة للمؤمنين والكافرين، إذا عرفوا مما أصاب غيرهم من الأمم الكاذبة.
"وقال" أبو الليث "السمرقندي" نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الفقيه، الحنفي، الإمام المشهور، له التصانيف، كالتفسير، والنوازل، وخزانة الفتاوى، وتنبيه الغافلين، والبستان توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، منسوب إلى سمرقند، مدينة بفارس بما وراء النهر.
قال التلمساني المصحح في النسخ، بفتح السين والراء وسكون الميم، والمعروف فتح الميم وسكون الراء، وتبع قول المجد إسكان الميم وفتح الراء، لحن، وفيه نظر، وهو معرب شمركند، وشمر اسم رجل، وكندة بمعنى قرية "رحمة للعالمين، يعني الجن والإنس" تفسير للآية بجنس العقلاء من الثقلين، بقرينة جمع المذكر السالم، وإن كان جمع عالم، وهو كل ما يعلم به الصانع من العقلاء وغيرهم، فالمفرد أعم من جمعه، فخص ثم جمع بجعله صفة أو ملحقًا بها؛ لأن فاعل بالفتح اسم آلة، كالخاتم والقالب، وقيل: غلب العقلاء، أو جعل اسمًا لذي العلم من الثقلين، أو هما والملك، أو الإنس.
"وقيل: لجميع الخلق" مقابل لما اختاره.
قال الشريف الجرجاني: يطلق على كل جنس لا فرد، فهو للقدر المشترك بين الأجناس، فيصح إطلاقه على كل جنس وعلى مجموعها، وإذا عرف بلام الاستغراق شمل كل فرد من جنس، كالأقاويل، فمن فسره بجميع الخلق، فعلى الأصل، ومن فسره بالإنس والجن فعلى بعض الوجوه، أو خصه؛ لأنه صلى الله عليه سولم مبعوث إليهما، ومن فسره بالمؤمن والكافر أراد أنه يشملهما، لا أن معناه ذلك. انتهى.
وآخذ في بيان ما به تكون الرحمة على مختاره، فقال "للمؤمنين" بل من للعالمين، أو متعلق بمقدر، أي: أرسله، وعلى الأولن وهو الظاهر هو بيان لمختاره، وعلى الثاني يصلح لهما، وفي نسخة للمؤمن بالإفراد، "رحمة بالهداية" الزائدة على هداية الإيمان، أو لمن قدر إيمانه "ورحمة للمنافقين".
وفي نسخة: للمنافق بالإفراد على إرادة الجنس، "بالأمان من القتل" مطلقًا بخلاف الكفار، فإنما يأمن بجزية، أو أمان، "ورحمة للكافرين".
فذاته عليه السلام رحمة تعم المؤمن والكافر كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]، وقال عليه الصلاة والسلام:"إنما أنا رحمة مهداة" رواه الديلمي والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة.
وقال بعض العارفين: الأنبياء كلهم خلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة، ولقد أحسن القائل:
غنيمة عمر الكون بهجة عيشه
…
سرور حياة الروح فائدة الدهر
هو النعمة العظمى هو الرحمة التي
…
تجلى بها الرحمن في السر والجهر
فبيانه عليه السلام ونصحه رحمة، ودعاؤه واستغفاره رحمة، فرزق ذلك من
وفي نسخة بالإفراد، "بتأخير العذاب لما بعد الموت" وأما عذاب الدنيا بالقحط وغيره، فلا يختص بطائفة، أو المراد الاستئصال والمسخ والخسف والزنديق، سواء أدخل في المنافق، أو الكافر عذابه مؤخر أيضًا، فالظاهر اشتراكهما فيه، وتمييز المنافق بإجراء أحكام الإسلام عليه ظاهرًا، أو يقال: أراد في كل قسم ذكر رحمة مخصوصة من غير تخصيص، "فائدته عليه السلام رحمة تعم المؤمن والكافر، كما قال تعالى:{وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ؛ لأن العذاب إذا نزل عم، ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها.
"وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة مهداة" "بضم الميم" معطاة من الله بلا عوض، "رواه الديلمي والبيهقي في الشعب" للإيمان "من حديث أبي هريرة" ورواه الحاكم، وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي، ومر شرحه في الأسماء الشريفة.
"وقال بعض العارفين: الأنبياء كلهم خلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة" أعلاها وأجلها.
"ولقد أحسن القائل"
غنيمة عمر الكون بهجة عيشه
…
سرور حياة الروح فائدة الدهر
هو النعمة العظمى هو الرحمة التي
…
تجلى بها الرحمن في السر والجهر
ومعنى البيتين ظاهر، "فبيانه" أي: ظهوره أو تبيينه "عليه السلام ونصحه رحمة" أي: كل واحد منهما، "ودعاؤه واستغفاره" كل منهما "رحمة" سواء في حياته وبعد مماته، كما قال صلى الله عليه وسلم:"حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، أما حياتي فأبين لكم السن وأشرع لكم الشرائع، وأما موتي، فإن أعمالكم تعرض علي، فما رأيت منها حسنًا حمدت الله، وما رأيت منها سيئًا استغفرت الله لكم" رواه البزار وغيره بسند جيد.
قبله، وحرمه من رده.
فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله تعالى: الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ثم قد يكون سببًا للفساد.
وثانيهما: أن كل نبي من الأنبياء قبل نبينا إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وقد أخر الله عذاب من كذب نبينا إلى
"فرزق ذلك من قبله"، بأن آمن به، وإن عاصيًا، "وحرمه من رده"، فلم يؤمن به نسأل الله الثبات على الإيمان، "فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف"؟ قال تعالى:{جَاهِدِ الْكُفَّار} [التوبة: 73]، أي: بالسيف، "واستباحة الأموال" بالغنائم التي لم تحل لأحد قبله، ومنها استرقاق الذراري والنسائي، "فالجواب من وجهين".
"أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر" فعذابه إنما جاء من نفسه، كعين جرت فانتفع بها قوم وكسل آخرون، فهي رحمة لهما، وهو صلى الله عليه وسلم لم يرد ضررًا لأحد، وقد اجتهد في نفع كل أحد، وإيصال تلك الرحمة إليه، ولكن من يضلل الله فما له من هاد.
"ومن أوصاف الله تعالى الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة"، ولا تنافي بين الوصفين، فكذا لا تنافي بين بعثه بالسيف وكونه رحمة، "وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاء} مطرًا {مُبَارَكًا} [ق: 9] ، كثير البركة والمنافع، "ثم قد يكون سببًا للفساد" بإهلاك الزرع وغيره، والقصد أنه لا مانع من وصف الشيء بالشيء، وضده لاختلاف من يقع عليه الأمران.
"وثانيهما: أن كل نبي من الأنبياء قبل نبينا، إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف"، كقارون، "والمسخ" قردة، كأصحاب أيلة بدعاء داود، وخنازير، كأصحاب المائدة بدعاء عيسى، قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 71] ، "والغرق" كقوم نوح وفرعون وقومه، وبالريح العاصف فيها حصباء، كقوم لوط، وبالصيحة، كثمود، وقال تعالى:{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40]"وقد أخر الله عذاب من كذب نبينا إلى الموت، إو إلى يوم القيامة" فتأخيره رحمة؛ لأنه لم يجمع
الموت، أو إلى يوم القيامة.
لا يقال: إنه تعالى قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} [التوبة: 14] وقال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِين} [الأحزاب: 73] ؛ لأنا نقول: تخصيص العام لا يقدح فيه.
وفي "الشفاء" للقاضي عياض: وحكى أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت، لثناء الله تعالى علي بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} "[التكوير: 40] . انتهى.
وذكر السمرقندي في تفسيره بلفظ: وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "يقول
عليهم عذابين، كالأمم السابقة، "لا يقال: إنه تعالى قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} بقتلهم {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} أي: يذلهم بالأسر والقهر، "وقال عالى:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73] ؛ "لأنا نقول: تخصيص العام" وهو العالمين من رحمة للعالمين ببعض إفراده، وهو المنافق والمشرك، "لا يقدح فيه"؛ لأنه يكفي في عمومه صدقه على غير ما خصص به.
"وفي الشفاء للقاضي عياضك وحكي" بالبناء للمجهول كما قال البرهان؛ "أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء"؟ فيه إشارة إلى أنه مرحوم مقرب، وإنما السؤال عن رحمة نالته من رحمة المصطفى، كما أفاده اسم الإشارة، قال: نعم، كنت أخشى العاقبة" أي: سوءها، أو المراد بالعاقبة السيئة بجعل التعريف للعهد بقرينة الخشية، فإنها بمعنى الخوف، وإنما يكون في المكروه، والعاقبة ما يعقب الشيء ويحصل منه خيرًا كان أو شرًا، "فأمنت""بفتح الهمزة المقصورة، وكسر الميم الخفيفة، مبني للفاعل من الأمن ضد الخوف"، وضبطه "بضم الهمزة مبني للمفعول"، خلاف المشهور، ثم إن كان بشد الميم، فظاهر، وإن كان بتخفيفها، فركيك جدًا؛ لأنه إن كان من ضد الخيانة، فلا يناسب المقام، أو من الأمن، فكذلك؛ لأن مفعوله الثاني من المعاني، لا الذوات، فيحتاج لتقدير وحذف، أي: أمنت سوء عاقبتي، ولا داعي له "لثناء الله تعالى علي قوله":{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، عند الله في علمه، أو في حكمه وقضائه؛ لأن ثناءه يقتضي رضاه وقبوله، وهو لا يرضى، ويقبل الأمن، كان مرحومًا مقربًا، فلما علم ذلك من القرآن الذي هو رحمة نازلة بالمصطفى اطمأن خاطره وأمن سوء الخاتمة. "انتهى".
نقل عياض: قال السيوطي: ولم أجده مخرجًا في شيء من كتب الحديث.
"وذكر السمرقندي في تفسيره بلفظ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "يقول الله
"الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فهل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك، لثناء الله تعالى علي في قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} "[التكوير: 21] .
وهذا يقتضي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل، وهو الذي عليه الجمهور، خلافًا لمن زعم أن جبريل أفضل واستدل: بأن الله وصف جبريل بسبعة أوصاف من أوصاف الكمال في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ
"تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فهل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم كنت أخشى عاقبة هذا الأمر" أي: خاتمته، "فآمنت بك لثناء الله تعالى علي في قوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 21] ، ولا يعارض هذا ما روي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك؟، قال: وما لي لا أبكي، فوالله ما جفت لي عين منذ خلق الله النار، مخافة أن أعصيه فيقذفني فيها"، أخرجه أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني بلاغًا.
وأخرج ابو الشيخ عن عبد العزيز بن أبي داود، قال: نظر الله إلى جبريل وميكائيل، وهما يبكيان، فقال الله: ما يبكيكما وقد علمتما أني لا أجور؟، قالا: يا رب إنا لا نأمن مكرك، قال: هكذا فافعلا، فإنه لا يأمن مكري إلا كل خاسر"؛ لأنه كلما زاد القرب زاد الخوف، فالمقرب لا يزال خائفًا ممن يهابه، أو؛ لأنه من عظمة الله تعالى قد يذهل عن الأمان.
"وهذا يقتضي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل، وهو الذي عليه الجمهور" بل حكى الرازي عليه الإجماع، وكذا ابن السبكي والبلقيني والزركشي، وقال: إنهم استثنوه من الخلاف في التفضيل بين النبي والملك، "خلافًا لمن زعم" وهو الزمخشري في الكشاف، "أن جبريل أفضل" وقد قال بعض علماء المغاربة: جهل الزمخشري مذهبه، فإن المعتزلة مجمعون على أنه أفضل من جبريل.
نعم قيل: إن طائفة منهم خرقوا الإجماع، كالرماني، فتبعهم الكشاف جهلًا.
"واستدل بأن الله وصف جبريل بسبعة أوصاف من أوصاف الكمال في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي: جامع لأنواع الخبر، ففيه شهادة له بعلو، الرتبة وليس المراد كريم عند مرسله، كما قيل به في {أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وإن أجيز هنا للاستغناء عنه بعند ذي العرش، {ذِي قُوَّة} على تبليغ ما حمله من الوحي، وعلى اقتلاع المدائن والجبال، وإهلاك صيحته كل من سمعها، وهبوطه إلى الأرض، وصعوده في طرفة عين إلى غير ذلك، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} صفة مستقلة عنده؛ لأنه عدها سبعًا، لا متعلقة بما قبله، ولا ربما بعده، وإلا فهي ستة،
مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، ووصف محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله:{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} .
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم مساويًا لجبريل في صفات الفضل أو مقاربًا له لكان وصف محمدًا بمثل ذلك.
وأجيب بأنا متفقون على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى ما ذكر في هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجماع، وإذا ثبت أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل آخر زائدة فيكون أفضل من جبريل.
وبالجملة: فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني، وإذا ثبت بالدليل القرآني أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم، والله أعلم.
وقد عدها الرازي ستة، فعلقها بما قبلها، {مَكِينٍ} أي: متمكن المنزلة عند ربه، رفيع المحل عنده، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في السماء: {أَمِينٍ} على الوحي، "ووصف محمدًا صلى الله عليه وسلم، بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما تبهته الكفرة، "ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم مساويًا لجبريل في صفات الفضل، أو مقاربًا له لكان وصف محمدًا بمثل ذلك".
قال البيضاوي: وهو استدلال ضعيف، إذ المقصود منه نفي قولهم، إنما يعلمه بشر أفترى على الله كذبًا، أم به جنة، لا تعداد فضلهما، والموازنة بينهما.
"وأجيب: بأنا متفقون على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى"، القرآن طافح بها:{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، {إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] ، {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 22] إلى غير ذلك، "سوى ما ذكر في هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجماع"؛ لأنه، لم يقصد المفاضلة بينهما، "وإذا ثبت أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى زائدة" على هذه السبع التي تشبث بها جاهل المعتزلة، "فيكون أفضل من جبريل" وهو إجماع حتى من المعتزلة أيضًا، كما مر.
"وبالجملة، فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة" بقطع الهمزة "على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني"، بل هو موصوف بها ضرورة؛ أنه لا يصح نفيها عنه، "وإذا ثبت بالدليل القرآني؛ أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم" حتى جبريل، "والله أعلم" ولهذا ونحوه حذر جماعة من أكابر العلماء، كالسبكي من قراءة الكشاف.
وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .
وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بطريق الأولى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس، كما قدمنا ذلك في أسمائه الشريفة من المقصد الثاني.
وبذلك وردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم:
فروى الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل
"وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ".
قال ابن عطية: أذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم، من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة دعية زيد بن حارثة؛ لأنهم كانوا استعظموا أن يتزوج زوجة ابنه، فنفى القرآن تلك النبوة، وأعلم أنه عليه السلام ما كان أبا أحد من المعاصرين له حقيقة، ولم يقصد بهذه الآية أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في الحسن والحسين إلى أنهما ابنا بنته، ومن احتج بذلك تأول معنى البنوة على غير ما قصد بها، " {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} وقرئ بالرفع، أي: هو، وقرأ عاصم وأبو عمرو ونافع، بالنصب عطفًا على أبا، ولكن بالتخفيف، وقرأت فرقة، لكن بالتشديد، ورسول اسمها، والخبر محذوف، {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ""بكسر التاء" قراءة الجمهور، بمعنى أنه ختمهم، أي: جاء آخرهم، وقرأ عاصم بفتح التاء، أي: أنهم ختموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم.
"وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بطريق الأولى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس" فليس كل نبي رسولًا، "كما قدمنا ذلك في أسمائه الشريفة من المقصد الثاني، وبذلك وردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم".
"فروى الإمام أحمد" بن حنبل "من حديث أبي بن كعب" الأنصاري الخزرجي، سيد القراء، من فضلاء الصحابة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي" مبتدأ "في النبيين" متعلق به، وفي حديث جابر: "ومثل الأنبياء"، بالعطف والخبر، "كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة" "بفتح اللام وكسر الموحدة ونون"، ويجوز كسر اللام وسكون الموحدة: قطعة طين تعجن، وتعد للبناء من غير إحراق، فإن أحرقت، فهي آجرة "لم يضعها، فجعل الناس يطوفون
"الناس يطوفون بالبنيان ويتعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي حديث أنس بن مالك مرفوعًا: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي". رواه الترمذي وغيره.
وفي حديث جابر مرفوعًا: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، وأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء عليهم السلام". رواه أبو داود الطيالسي،
"بالبنيان ويتعجبون" بفوقية بعد التحتية، "منه" أي: من حسنه وكماله، "ويقولون" وددنا "لو تم موضع هذه اللبنة" فلو للتمني، فلا جواب لها، أو جوابهما محذوف لعلمه من المذكور، أي: أتم حسنها وكمالها، "فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" وفي رواية أحمد عن أبي هريرة:"ألا وضعت ههنا لبنة، فيتم بنيانك".
"ورواه الترمذي عن بندار""بضم الموحدة وإسكان النون ودال مهملة فألف فراء بلا نقط" لقب محمد بن بشار بن عثمان العبدي، البصري أبي بكر، ثقة روى عنه الأئمة الستة وابن خزيمة وغيرهم، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وله خمس وثمانون سنة، "عن أبي عامر" عبد الملك بن عمرو القيسي، "العقدي""بفتح المهملة والقاف" ثقة، مات سنة أربع، أو خمس ومائتين، روى له الجميع.
"وقال" الترمذي: "حديث حسن صحيح" عن أبي بن كعب.
"وفي حديث أنس بن مالك، مرفوعًا: "أن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي" قيل: ومن لا نبي بعده، يكون أشفق على أمته، كوالد ليس له غير ولد، "رواه الترمذي وغيره" كالإمام أحمد، والحاكم بإسناد صحيح.
"وفي حديث جابر، مرفوعًا" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي" مبتدأ، "ومثل الأنبياء" عطف عليه، "كمثل رجل" خبر، "بنى دارًا فأكملها وأحسنها" وفي رواية همام عن أبي هريرة عند مسلم، كمثل رجل ابتنى بيوتًا فأحسنها وأجملها وأكملها، "إلا موضع لبنة" من زاوية من زوايها، "فكان من دخلها فنظر، قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة".
وفي رواية الشيخين: "فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع هذه اللبنة".
وكذا البخاري ومسلم بنحوه.
وفي حديث أبي سعيد الخدري: "فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة". رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة: يقولون: "هلا وضعت هذه اللبنة".
وفي رواية همام: "ألا وضعت ههنا لبنة، فيتم بنيانك" قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء"، ولمسلم:"جئتم، فختمت الأنبياء، عليهم السلام".
وفي حديث أبي هريرة، قال:"فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"، "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود، "الطيالسي""بفتح الطاء والتحتانية" نسبة إلى الطيالسة المعروفة، البصري، الثقة، الحافظ، المصنف، مات سنة أربع، وقيل: ثلاث ومائتين، روى له مسلم والأربعة، "وكذا البخاري ومسلم، بنحوه" عن جابر، وأخرجاه أيضًا من حديث أبي هريرة، وسياقه، أتم، وقدمه المصنف في الخصائص.
"وفي حديث أبي سعيد الخدري: "فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة"، رواه مسلم" فيه شيء؛ لأن مسلمًا لم يسق لفظه، بل أحال به على حديث أبي هريرة الذي رواه من ثلاثة طرق، فقال: حدثنا ابن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين"، فذكر نحوه هذا لفظ مسلم، وقد علمت ثبوتها في حديث أبي هريرة، وأورد أن المشبه به واحد، والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه، وأجيب بأنه جعل الأنبياء كرجل واحد؛ لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذا الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، وبأنه من باب التبيه التمثيلي، وهو أن يوجد وصف من أوصاف المشبه، ويشبه بمثله من أحوال المشبه به، فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس بيت أسست قواعده ورفع بنيانه، وبقي منه موضع يتم به صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي؛ أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لا نقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور.
قال الحافظ: وهذا إن كان منقولًا فحسن، وإلا فليس يلازم.
نعم ظاهر السياق أن اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها.
وفي رواية مسلم: "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها"، فظهر أن المراد أنها مكملة محسنة، وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها ناقصًا، وليس كذلك؛ فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة، وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للإفهام.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون".
فمن تشريف الله تعالى له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيفي له، وقد أخبر الله في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة عنه، أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال، ولو تحذلق وتشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات، فكلها محال وضلالة
"وفي حديث أبي هريرة عند مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرساله عامة محيطة بهم؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، "وختم بي النبيون" أي: أغلق باب الوحي والرسالة وسد لكمال الدين، وتصحيح الحجة، فلا نبي بعده، ومر الحديث في الخصائص.
"فمن تشريف الله تعالى له ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيفي"، المائل عن الباطل للحق "له، وقد أخبر الله تعالى في كتابه ورسوله في السنة المتواترة عنه؛ أنه لا نبي بعده، ليعلموا"، أي: المخبرون، "أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذاب" كثير الكذب، "أفاك" كذاب مبالغ فيه، "دجال" كذاب، قال ثعلب: الدجال: هو المموه، يقال: سيف مدجل، إذا طلي مذهب.
وقال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته، واشتقاق الدجال من هذا؛ لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، "ضال" لم يهتد، فالألفاظ الأربعة متقاربة، وقد علم صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبر به.
ففي الصحيحين، مرفوعًا:"لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون، كذابون، قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله"، "ولو تحذلق""بفوقية فمهملة فمعجمة" أظهر الحذق، وادعى أكثر مما عنده، ومثله حذلق بلا تاء "وتشعبذ""بالذال المعجمة بعد الموحدة" أتى بما يرى لإنسان منه ما لا حقيقة له، كالسحر، ويقال له أيضًا شعوذ:"بالواو" بدل الموحدة، "وأتى بأنواع السحر".
قال ابن فارس: وهو إخراج الباطل في صورة الحق، ويقال: هو الخديعة، وسحره بكلامه، استمالة برقته وحسن ترتيبه.
وقال الإمام فخر الدين: هو في عرف الشرع كل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع.
قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] ، وإذا أطلق ذم فاعله.