المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع السابع: في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٨

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌النوع السابع: في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته

لكن التفسير الأول في هذه الآية هو المختار؛ لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 34] . فإذا كان المراد بقوله: {مَثَلُ نُورِه} أي مثل هداه كان مطابقًا لما قبله.

وقال نفطويه: يكاد ذريتها يضيء هذا مثل ضربه الله لنبيه، يقول: يكاد نظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنًا، كما قال ابن رواحة: وذكر هذا البيت، "لكن التفسير الأول في هذه الآية هو المختار؛ لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] الآية، بفتح الياء وكسرها في هذه السورة، بين فيها ما ذكر أو بينته، "فإذا كان المراد بقوله:{مَثَلُ نُورِه} [النور: 35]، أي: مثل هداه كان مطابقًا لما قبله" بخلافه على ما بعده من التفاسير، فلا يطابق ما قبله ونحن في غنية عن ذلك، فقد سماه الله نورًا في قوله:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] وسماه سراجًا منيرًا في آية الأحزاب كما أشار إلى ذلك عياض يذكر هاتين الآيتين بعد آية النور، وبعض تلك التفاسير والله أعلم.

ص: 504

‌النوع السابع: في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] .

وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] .

النوع السابع:

"في" ذكر "آيات تتضمن"، أي: تدل لا التضمن المنطقي "وجوب طاعته"، أي: الانقياد له بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فطاعة اسم مصدر أطاعه إذا انقاد له فيما أمر به قولًا أو فعلًا إذا كان الأمر بصيغة أفعل، وأما مادة، أمر فتحتمل الوجوب والندب، فتكون طاعته في المندوب مندوبة، فوجوبه على هذا الانقياد إلى أمره ولو مندوبًا والعمل به، فقوله:"واتباع سنته" بالجر عطفًا على طاعته، والنصب على وجوب من عطف الخاص على العام.

"قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20]، قال عطاء: باتباع الكتاب والسنة، رواه ابن أبي حاتم، وقدم طاعة الله تمهيدًا لوجوب طاعة رسوله، وإشارة إلى أن طاعته تعالى بطاعة رسوله، وهما شيء واحد، ولذا أفرد الضمير في قوله:{وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] .

"وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} " الآية، أتبع الوعيد، بقوله:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، بالوعد بقوله:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] الآية،

ص: 504

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] .

قال القاضي عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب.

وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] .

يعني: من أطاع الرسول لكونه رسولًا مبلغًا إلى الخلق أحكام الله فهو في

ترهيبًا عن المخالفة وترغيبًا في الطاعة، ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل على عزة المطلوب، وأن العبد دائر بين الرجاء والخوف.

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} فيما يأمركم به من التوحيد، {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الطاعات، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] ، من إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: لا يحبهم، بمعنى أنه يعاقبهم.

"قال القاضي عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله" تشبيه بليغ، وجعل عينه ادعاء، فلا ينافي الآية؛ لأن الشرط والجزاء متغايران نظرًا لما في نفس الأمر، ولكل مقام مقال، والأولى تأخير هذا عن الآتية؛ لأنها التي صرح فيها بأن طاعته طاعته، ولفظ عياض: وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80]، "وقرن طاعته بطاعته" في قوله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، ونحوه مما أمر فيه بطاعة الله ورسوله معًا، "ووعد على ذلك بجزيل"، أي: عظيم أو كثير "الثواب" بنحو قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} ، "وأوعد على مخالفته بسوء العقاب" أي: أشده: "وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} .

روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله". فقال المنافقون: لقد قارف الشرك، وهو ينهي عنه ما يريد إلا أن تتخذه ربًا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم، فنزلت.

كذا في الكشاف، قال الحافظ ولي الدين العراقي في حواشيه، لم أقف عليه، هكذا ونقله السيوطي عن البيضاوي ولم يزد عليه، "يعني من أطاع الرسول لكونه رسولًا مبلغًا"، علة غائية، أي: وغاية أمر الرسول كونه مبلغًا، "إلى الخلق أحكام الله"؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فلا مفهوم لهذه العبارة، "فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله"، أي: هو مبلغ حقيقة، والآمر هو الله، كما في الكشاف قال الطيبي: هذا التعليل يفيده لفظ الرسول؛ لأنه من وضع المظهر موضع

ص: 505

الحقيقة ما أطاع إلا الله، وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله. {مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فإن أحدًا من خلق لا يقدر على إرشاده.

وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم في جميع الأوامر والنواهي، وفي كل ما يبلغه عن الله؛ لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة لله، وأيضًا وجب أن يكون معصومًا في جميع أحواله؛ لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله:{وَاتَّبِعُوه} [الأعراف: 158] . والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة له، وانقياد لحكم الله تعالى.

المضمر للإشعار بعلية إيحاب الطاعة له، ويدل عليه السياق، وهو قوله:{وَمَنْ تَوَلَّى} وكان مقتضى الظاهر، ومن تولى فقد عصى الله في مقابلة قوله: فقد أطاع الله، فوضع ذلك موضعه، ليدل على المبالغة، "وذلك" المذكور من الطاعة "في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله"، إذ لو أخذ له ما أطاع رسوله، {وَمَنْ تَوَلَّى} أعرض عن طاعته فلا يهمنك {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] الآية، حافظًا لأعمالهم، بل نذيرًا وإلينا أمرهم فنجازيهم، وهذا، قبل الأمر بالقتال، كما في الجلال فشار إلى أن جواب الشرط محذوف، والمذكور دليل عليه، وهذا أحد وجهين، الثاني: إنه المذكور باعتبار ما دل عليه، "فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق" المستقيم، "فإن أحدًا من خلق الله لا يقدر على إرشاده"، جواب الشرط، وجملة الشرط وجوابه علة لكونه ما جعل عليهم حفيظًا في أعمالهم، بحيث يلجئهم للطاعة، ويمنعهم عن العصيان، وأشار إلى تحقق ذلك وعدم احتمال خلافه، بالتأكيد بأن، "وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله؛ لأنه لو أخطأ في شيء منها" وأقر عليه، فأمر به أو نهى عنه، ولم يكن كذلك في نفس الأمر، "لم تكن طاعته طاعة لله" بل مخالف لأمره أو نهيه "وأيضًا وجب أن يكون معصومًا في جميع أحواله؛ لأنه تعالى أمر بمتابعته" الأنسب أن يقول باتباعه ليطابق دليله "في قوله:{وَاتَّبِعُوه} لكنه أشار إلى أن المفاعلة قد ترد لأصل الفعل، فقال:"والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير" ومنه المتابعة في علوم الحديث، "فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وأفعاله" وجودًا أو عدمًا، "إلا ما خصه الدليل" به "طاعة له" بالآية منطوقا ومفهومًا؛ لأن مفهوم من يطع الرسول، من عصاه فقد عصى الله، "وانقياد لحكم الله تعالى" عطف تفسير.

ص: 506

وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} الآية [النساء: 69] .

وهذا عام في المطيعين لله تعالى من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام في المعية في هذه الدار، وإن فاتت فيها معية الأبدان.

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن ثوبان، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

"وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فيما أمرا به، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق "{وَالشُّهَدَاءِ} القتلى في سبيل الله " {وَالصَّالِحِينَ} "[النساء: 69] الآية، غير من ذكر "الآية" أي:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} .

أي: رفقاء في الجنة؛ بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم.

قال البيضاوي: قسمهم أربعة أقسام: باعتبار منازلهم في العلم والعمل، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل، ثم صديقون صعدت نفوسهم تارة إلى مراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى إلى معارج القدس بالرياضة والتصفية، حتى اطلعوا على ما لم يطلع عليه غيرهم، ثم شهداء بذلوا نفوسهم في إعلاء كلمة الله وإظهار الحق، ثم صالحون صرفوا أعمارهم في طاعته، وأموالهم في مرضاته. انتهى.

"وهذا عام في المطيعين لله تعالى من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام في المعية في هذه الدار" الدنيا لعموم اللفظ، "وإن فاتت فيها معية الأبدان"، وذلك فيمن آمن في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم يره، ومن آمن بعده إلى يوم القيامة بقيد الطاعة، "وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن ثوبان" بفتح المثلثة والموحدة، ابن بجدد بضم الموحدة وسكون الجيم، وضم الدال المهملة الأولى، وقيل: ابن جحدر، بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة، "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال في الإصابة: يقال: إنه من العرب من حكم ابن سعد بن حمير، وقيل: من السراة، اشتراه ثم أعتقه، فخدمه إلى أن مات، ثم تحول إلى الرملة، ثم حمص، ومات بها سنة أربع وخمسين، قاله: ابن سعد وغيره.

وروى ابن السكن، عن يوسف بن عبد الحميد، حدثني ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأهله، فقلت: أنا من أهل البيت، فقال: في الثالثة نعم، ما لم تقم على باب سدة، أو تأتي أميرًا فتسأله.

وروى أبو داود، عن أبي العالية عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لي أن

ص: 507

شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يومًا وقد تغير وجهه ونحل جسمه، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال: يا رسول الله، ما بي وجع، غير أن إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة بحيث لا أراك هناك؛ لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية.

وذكر ابن أبي حاتم الضحى عن مسروق، قال أصحاب محمد: يا رسول الله

"لا يسأل الناس وأتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، وكان لا يسأل أحدًا شيئًا، "كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه" ولذا ألزمه حضرًا وسفرًا، "فأتاه يومًا وقد تغير وجهه ونحل جسمه" بفتح الحال، وفي لغة بكسرها، وأخرى بضمها مبنيًا للفاعل، فهو لازم، أي: قام بجسمه المرض، ويعدىء، بالهمزة، فيقال: أنحله المرض.

وفي القاموس: نحل، كمنع وعلم ونصر وكرم نحولًا ذهب من مرض أو سفر، "فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله، فقال: يا رسول الله ما بي وجع" حصل به نحولي، وتغير وجهي، "غير أني إذا لم أرك اشتقتك" ضمنه معنى طلب فعداه بنفسه، وإلا فاشتاق، إنما يتعدى بحرف الجر، وبالتضعيف على أن المنقول في غيره عن ثوبان اشتقت إليك، "واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة" أي: فكرت في أمرها، "بحيث" الذي في غيره: فخفت "لا أراك هناك"؛ لأنه ظهر لي بالفكر، أما عدم رؤياك بالمرة أو قلتها؛ "لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين" فتتعذر رؤيتي لك أو تقل، "وإن أنا لم أدخل الجنة، فحينئذ لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية".

قال الشيخ ولي الدين: هذا ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسناد ولا راوٍ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول عن اللبي.

وروى الطبراني في معجمه الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن الشعبي، وابن جرير عن سعيد بن جبير، كل منهم يحكي عن رجل، فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه. انتهى.

فإن ثبت، فالرجل المبهم ثوبان، وذكر ابن ظفر عن مقاتل بن سليمان أن المبهم عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، فإن ثبتا، فلعلهما معًا ذكرصا ذلك والعلم لله، "وذكر"، أي: روى "ابن أبي حاتم" الحافظ، ابن الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، "عن أبي الضحى" مسلم بن صبيح، بالتصغير الهمداني، الكوفي، العطار، مشهور بكنيته، تابعي، ثقة، فاضل، من رجال الجميع، مات سنة مائة، "عن مسروق" بن الأجدع بن مالك الهمداني،

ص: 508

ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو قد مت لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية.

وذكر عن عكرمة مرسلًا: أتى فتى صغير السن لرسول الله فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة، لا نراك؛ لأنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت معي في الجنة".

فيها أيضا روايات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام.

لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات، إلا أن سبب نزول هذه

الوداعي، أبي عائشة الكوفي، ثقة فقيه، عابد مخضرم، مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين، من رجال الجميع، قال:"قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك" اعتذارًا عن كثرة ملازمتهم له، المقتضية للملال عادة، "فإنك لو قد""بفتح فسكون "مت" بضم الميم"، ضبطه بعض العلماء الموثوق بهم، وتجويز ضم القاف وشد الدال مكسورة وسكون الميم، أي: قدمت علينا، أي: سبقتنا تحاشيا عن خطابه، بلفظ مت أدبًا، وأنه أولى خلاف المتبادر "لرفعت فوقنا ولم، نرك، فأنزل الله": {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "الآية" وفي هذا إن قائلي ذلك جمع كثير لقوله أصحاب محمد، "وذكر" بالبناء للفاعل، أي: ابن أبي حاتم أيضًا بسنده "عن عكرمة" مولى ابن عباس "مرسلًا، قال: أتى فتى" أي: "صغير السن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا"، أي: إنا نراك ونتمتع برؤيتك فيها، وعبر بالوحدة لقصر المدة، "ويوم القيامة لا نراك؛ لأنك في الجنة، في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية" وللطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به، عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت إنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزل جبريل بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول} ، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت معي في الجنة" إن شاء الله، كما هو بقية رواية عكرمة.

وأخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن المسيب ومسروق والربيع وقتادة والسدي، "وفيها أيضًا روايات أخر" بنحوها "ستأتي إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام" وهو السابع التالي لهذا.

"لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن، سبب نزول هذه الآية

ص: 509

الآية يجب أن يكون شيئًا أعظم من ذلك، وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عنده تعالى.

ثم إن ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول} أنه يكتفي بالطاعة الواحدة؛ لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة، لكن لا بد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الكفار والفساق؛ لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة.

قال الرازي: قد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة مشرع بكون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، وإذا ثبت هذا فنقول قوله: {وَمَنْ

يجب أن يكون شيئًا أعظم من ذلك"، أي: أنه لا ينحصر في تسلية المحبين له والتخفيف عنهم، بل يشمل ذلك وغيره، "وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ"، أي: لا يكون قاصرًا عليه خلافًا لزاعمه، "فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين"، خصهم لوقوع الثواب بعد الأمر المستفاد من قوله: {مَنْ يُطِع} ، إذ لا طاعة فرع الأمر أو النهي، وكلاهما خاص بالمكلف، إذ لا خطاب يتعلق بفعل غيره، وصحة عبادة الصبي وإثابته عليها لا لأمره بها، بل ليعتادها، فلا يتركها إن شاء الله ذلك، "وهو" أي: الأمر الأعظم، "أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز": ظفر "بالدرجات اعالية، والمراتب": المنازل "الشريفة عنده تعالى، ثم إن ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، أنه يكتفي بالطاعة الواحدة؛ لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في جانب الثبوت حصول ذلكا لمسمى مرة واحدة"، فإذا قيل: صل مثلًا برئ من عهدة الطلب بصلاة واحدة؛ لأن الأمر بالشيء لا يقتضي فورًا ولا تكرارًا، أو خرج بالثبوت النهي، فامتثاله إنما يحصل بترك جمع المنهيات، "لكن لا بد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الكفار والفساق؛ لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة" وذلك غير مراد، فوجب حمله على غير ظاهره.

"قال الرازي" الإمام فخر الدين: "قد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة" كقوله هنا: فأولئك مع الذين

إلخ، بعد قوله: ومن يطع "مشروع بكون ذلك الحكم،

ص: 510

يُطِعِ اللَّهَ} أي في كونه إلهًا، وطاعة الله في كونه إلهًا هي معرفته والإقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه الآية تنبيهًا على أمرين عظيمين من أحوال المعاد.

فالأول: أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراف الروح بأنوار معرفة الله، فكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب، وإلى الفوز بالنجاة أوصل.

والثاني: أن الله تعالى ذكر في الآية السابقة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجسيم، ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فهذا هو المراد من هذه المعية وقد ثبت

معللًا بذلك الوصف، وإذا"، أي: حيث "ثبت هذا" وتقرر في الأصول، "فنقول قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} ، أي: في كونه إلهًا، وطاعة الله في كونه إلهًا هي معرفته" بالآية الدالة عليه، "والإقرار" الاعتراف "بجلاله": عظمته "وعزته": غلبته "وكبريائه" عظمته.

قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، "وصمديته" احتياج الخلق إليه على الدوام، "فصارت هذه الآية تنبيهًا" أي: منبهة "على أمرين عظيمين من أحوال المعاد، فالأول أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله"، المؤدية إلى الإيمان به وطاعة أمره، "فكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل" أكثر وصولًا، "والثاني: إن الله تعالى ذكر في الآية السابقة" على هذه اآية، "وعد" مصدر "أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجسيم".

وفي نسخة الجزيل، بقوله: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا، وإذا لآتيناهم الآية، "ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كون الكل في درجة واحدة؛ لن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز" بدلالة النصوص الكثيرة، فالمراد كونهم في الجنة "بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم

ص: 511

وصح بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية، وقد ثبت وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المرء مع من أحب"، وثبت أيضًا أنه قال: "إن المدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا نزلتم منزلًا إلا وهم معكم حبسهم

بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك"، إذ لو عجزوا عنه لتحسروا، ولا حسرة في الجنة، "فهذا هو المراد من هذه المعية" لا المساواة في المنزلة، "وقد ثبت وصح" أتى به ليبين أن مراده بالثبوت الصحة للخلاف في علوم الحديث: هل لفظ ثبت يختص بالصحيح أو يشمل الحسن؟ قال السيوطي:

وهل يخص بالصحيح الثابت

أو يشمل الحسن نزاع ثابت

وزعم أن الثبوت لا يستلزم الصحة، لجواز أنه مع ثبوته ضعيف، أو حسن عقلي، لم يقله أحد "عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال" كما أخرجه الشيخان من حديث أنس وابن مسعود وأبي موسى: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تقول في رجل أحب قومًا ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"المرء مع من أحب"، زاد الترمذي من حديث أنس:"وله ما اكتسب"، وفي لفظ قال رجل: يا رسول الله متى قيام الساعة؟، قال:"إنها قائمة، فما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها من كثير إلا أني أحب الله ورسوله، قال:"فأنت مع من أحببت ولك ما اكتسبت"؟، قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام ما فرحوا به، فقيل: المراد من أحب قومًا بإخلاص فهو في زمرتهم، وإن لم يعمل عملهم، لثبوت التقارب مع قلوبهم، وقيل: بشرط عمله بمثله أعمالهم، لحديث:"من أحب قومًا على عملهم لثبوت التقارب مع قلوبهم"، وقيل: بشرط عمله بمثله أعمالهم، لحديث:"من أحب قومًا على أعمالهم حشر معهم يوم القيامة".

وروى العسكري عن الحسن: لا تغتر يا ابن آدم، بقوله: أنت مع من أحببت، فمن أحب قومًا اتبع آثارهم، واعلم أنك لن تلحق بالأخيار حتى تتبع آثارهم، وحتى تأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتصبح وتمسي على مناهجهم، حرصًا على أن تكون منهم.

وقال ابن العربي: يريد صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي، وفي الآخرة بالمعاينة والقرب الشهودي، فمن لم يتحقق بهذا وادعى المحبة، فهو كاذب، "وثبت أيضًا" في البخاري، عن أنس؛ "أنه" صلى الله عليه وسلم "قال" حين رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة:"إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا نزلتم منزلًا" وفي رواية: "ولا قطعتم وادي "إلا وهم معكم" بالقلوب والنيات، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟، قال: "وهم بالمدينة،

ص: 512

العذر، فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هي بالسر والروح لا بمجرد البدن، فهي بالقلب لا بالقالب، ولهذا كان النجاشي معه صلى الله عليه وسلم وهو أقرب الناس إليه، وهو بين النصارى بأرض الحبشة، وعبد الله بن أبي من أبعد الخلق عنه، وهو معه بالمسجد، وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرًا من طاعة أو معصية أو شخص من الأشخاص فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه، فالأرواح تكون يوم القيامة مع الرسول صلى الله عليه سولم وأصحابه رضي الله عنهم، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية والمكانية بعد عظيم.

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] .

وهذه الآية الشريفة تسمى: آية المحبة، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة

"حبسهم العذر" عن الغزو معكم، "فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هو بالسر والروح" وفي شرحه للبخاري بالسير بالروح، "لا بمجرد البدن، فهي بالقلب لا بالقالب"، ونية المؤمن خير من عمله، فتأمل هؤلاء كيف بلغت بهم نيتهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهو على فرشهم في بيوتهم، فالمسابقة إلى الله تعالى وإلى الدرجات العوالي بالنيات والهمم، لا بمجرد الأعمال، "ولهذا كان النجاشي""بفتح النون والجيم" أصحمة ملك الحبشة "معه صلى الله عليه وسلم، وهو من أقرب الناس إليه، وهو" أي: النجاشي "بين النصارى بأرض الحبشة وعبد الله بن أبي" ابن سلول رأس المنافقين، "من أبعد الخلق عنه، وهو معه بالمسجد" النبوي، لكونه معه قالبًا لا قلبًا، "وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرًا من طاعة أو معصية، أو" أراد أمرًا من "شخص من الأشخاص، فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه" إذ كل مهتم بشيء منجذب إليه بطبعه شاء أو أبى، وكل امرئ يصبوا إلى مناسبة، رضا أم سخط، فالنفوس العلية تنجذب بذاتها وهمها وعملها إلى أعلى، والنفوس الدنية تنجذب بذاتها إلى أسفل، ومن أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين هو، ومع من هو في هذا العالم، "فإن الروح إذا فارقت البدن تكون مع الرفيق الذي كانت تنجذب إليه، "فالأرواح" العلية كلها "تكون يوم القيامة"، وفي الدنيا "مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية" بتأخر وجودها عن وجودهم، "والمكانية" بطول المسافة "بعد عظيم" في الزمان والمكان، ولا يكون ذلك مانعًا من المعية في الدارين، والله أعلم.

"وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، أي: يثبكم "{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " [آل عمران: 31] ، "وهذه الآية الشريفة تسمى آية المحبة".

ص: 513

الله فأنزل الله آية المحبة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} وقال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فلا محبة لكم حاصلة، ومحبته لكم منتفية، فجعل سبحانه اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون متابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ودل على

بدليل أنه "قال بعض السلف"، زعم أنه الحسن البصري، لقوله: قال أقوام على عهد نبينا: والله يا محمد إنا لنحب ربنا، فأنزل الله الآية.

رواه ابن المنذر، وليس فيه، فأنزل آية المحبة، فلا يصح أنه المراد "ادعى قوم محبة الله" قيل: هم وفد نجران لما قالوا: إنما نعبد المسيح حبًا لله.

رواه ابن إسحاق، وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل: هم اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: قريش لما قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله لفى، وبه جزم الجلال.

وروى ابن جرير، وابن المنذر عن الحسن مرسلًا؛ أنهم أقوام زعموا على عهد نبينا حب الله، فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقًا من العمل، "فأنزل الله آية المحبة:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، وقال:{يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، بالجزم في جواب الطلب، والراجح فيه أنه في جواب شرط مقدر تقديره هنا:"إن اتبعتموني يحببكم الله"، "إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها أو فائدتها"، أي: باتباع الرسول، فإن اتباعه علامة على حبه لله تعالى، وثمرة محب الله للعبد مغفرته له، كما أفاده قوله:"فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل""بكسر السين" أي: الله تعالى نبيه ليبلغ الخلق "لكم" متعلق بمحبة، "فما" مصدرية ظرفية "لم تحصل المتابعة" أي: مدة انتفاء حصولها، "فلا محبة لكم حاصلة" منكم لله، "ومحبته لكم منتفية"، أي: لايحبكم بمعنى: لا يثيبكم، "فجعل سبحانه اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه"، وهو اتباع الرسول، "فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة"؛ لأنها مشروطة بمتابعة رسوله، "فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون

ص: 514

أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يكون شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفر لصاحبه البته ولا يهديه الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم" لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه "ودل" جعله اتباع الرسول مشروطًا بمحبتهم "على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره" أي: علامة عليه، أو جعلها نفس المحبة مبالغة، "ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، كما في الحديث:"فلا يكون شيء أحب إليه من الله ورسوله".

قال الطيبي: فسر المتكلمون محبة العبد لله؛ بأنها محبة طاعته أو ثوابه وإحسانه، وأما العارفون، فقالوا: العبد يحب الله لذاته، وأما حب طاعته وثوابه فدرجة نازلة، والقول الأول ضعيف، وذلك لا يمكن أن يقال في كل شيء، أنه إنما محبوبًا لأجل معنى آخر، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبًا لذاته، فكما يعلم أن اللذة محبوبة لذاتها، كذلك يعلم أن الكمال محبوب لذاته، وأكمل الكمالات لله تعالى، فيقتضي كونه محبوبًا لذاته من ذاته.

قال صاحب الفرائد: وهذا أبلغ أنواع الحب، فعى هذا حب العبد لله حقيقة، بل المحبة الحقيقية مستحقة لله، إذ كل ما يحب من المخلوقات، فإنما يحب لخصوص أثر من آثار وجوده، وفي الأحياء الحب ميل الطبع إلى الشيء المستلذ، فإن قوي سمى عشقًا، ولا يظن قصره على مدركات الحواس الخمس، حتى يقال: إن الله تعالى لا يدرك بها ولا يتمثل في الخيال، فلا يحب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمي الصلاة قرة عين، وجعلها أبلغ المحبوبات، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ، والبصيرة الباطجنة أقوى من البصر الظاهر، والقلب أشد إدراكًا من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار، فيكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية، التي تجل عن أن تدركها لحواس أتم وأبلغ، فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلا ما في إدراكه لذة، فلا ينكر إذن حب الله إلا من قعد به القصور في درجة البهائم. انتهى.

وأما محبة الله للمتبعين، فهي رضاه عنهم، وإثباتهم، وكشف الحجب عن قلوبهم، والتجاوز عما فرط منهم، كما أشار إليه بقوله:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} الآية، وعبر عن ذلك بالمحبة استعارة أو مشاكلة لاستحالة المعنى الحقيقي عليه، "ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما، فهذا هو الشرك الذي لا يغفر لصاحبه البتة، ولا يهديه الله" واستدل على هذا، بقوله:

ص: 515

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ، فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم أو رجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة احد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه. انتهى ملخصًا من كتاب "المدارج"، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام.

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ

"قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} أقرباؤكم، وفي قراءة وعشيراتكم، "{وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} " عدم نفاقها، "{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} "، فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد، "{فَتَرَبَّصُوا} ": انتظروا "{حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} " تهديد لهم، "{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} " [التوبة: 24] .

"فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء" غلب العقلاء على غيرهم، وسمي من اقترن بالعاقل باسمه تجوز الان أحدًا إنما يستعمل في العاقل "على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم، أو رجاءه والتوكل": الاعتماد "عليه على خوف الله ورجائه، والتوكل عليه، أو معاملة أحد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه" أنهما أحب، "فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه" عطف تفسير، وفيه إشارة إلى أن محبة غيرهما، المنهي عنها هي المحبة الاختيارية دون الطبيعية، فإنها لا تدخل تحت التكليف. "انتهى ملخصًا من كتاب المدارج" أي: مدارج السالكين لابن القيم إلى منازل السائرين لشيخ الإسلام الأنصاري الهروي، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام".

فذكر الحديث وتكلم عليه مبسوطًا هناك، "وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ

ص: 516

وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .

أي إلى الصراط المستقيم، فجعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، الإيمان بالرسول واتباعه، تنبيهًا على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو من الضلالة، فكل ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب علينا اتباعه إلا ما خصه الدليل.

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] يعني القرآن، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب متعين على كل أحد، لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه، قال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13] أي ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين، وإنا أعتدنا للكافرين سعيرًا.

وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .

الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته" القرآن، "{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} " [الأعراف: 158] الآية، ترشدون، "أي: إلى الصراط المستقيم" صراط الله، "فجعل رجاء الاهتداء" من العبا؛ لأن صيغ الرجاء الواقعة في القرآن مصروفة إلى العباد، يعني أن المؤمن يرجو أنه من المهتدين، "أثر" عقب "الأمرين الإيمان بالرسول واتباعه تنبيهًا على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو في الضلالة، فكل ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام" من قول أو فعل أو غيرهما "يجب علينا اتباعه، إلا ما خصه الدليل" به، فلا يجب، بل يجزم تارة، كالزيادة على أربع، وتارة يكره كالوصال.

"وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّ ُرِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] ، يعني القرآن"، سماه نورًا؛ لأنه بإعجازه طاهر بنفسه، مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه، فيستضاء به من ظلمات الجهل ويقتبس منه أنوار الهداية والفضل، "فالإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب متعين على كل واحد لا يتم إيمان إلا به، ولا يصح إسلام إلا معه"، لاستحالة وجود إيمان أو إسلام بدون ذلك شرعًا.

"قال الله تعالى: {مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا "{لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} " [الفتح: 13] ، نارًا شديدة، "أي: ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فهو من الكافرين، وإنا اعتدنا للكافرين سعيرًا"، إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف، والمذكور علة له؛ لأن الاعتاد لا يترتب على عدم الإيمان بهما، بل الكفر وجزاؤه السعير، "وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .

ص: 517

معناه: فوربك، كقوله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين} و"لا" مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما في {لِئَلَّا يَعْلَم} ، ولا يؤمنون جواب.

أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أموره، ويرضى بجميع ما حكم به، وينقاد له ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الحكم بما يوافئق أهواءهم أو يخالفها، كما ورد في الحديث:"والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، وهذا يدل على

روى الشيخان وأصحاب السنن عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلًا في شراج الحرة، فقال صلى الله عليه وسلم:"اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعي للزبير حقه"، وكان أشار إليهما بأمر، لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في، نزلت في ذلك:{فَلا وَرَبِّك}

إلخ.

"معناه: فوربك، كقوله تعالى: {فََرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين} [الحجر: 92] الآية، "ولا مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما في {لِئَلَّا يَعْلَم} [الحديد: 29] الآية، أهل الكتاب أي: ليعلم لا لتظاهر لا في قوله لايؤمنون؛ لأنها تزاد أيضًا في الإثبات، كقوله:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] ، قاله في الكشاف.

قال التفتازاني: إن قيل: لا يجوز أن تكون مزيدة لمظاهرة، لا في لا يؤمنون، ومعاونتها والتنبيه من أول الأمر على أن المقسم به نفي، فالجواب أن مجيئها قبل القسم، سواء كان الجواب، نفيًا أو إثباتًا، يدل على أنها لتأكيد القسم، لا لمظاهرة النفي في الجواب، وذلك؛ لأن الأصل إجراء المحتمل على المحقق، والمشكوك على المقطوع، واتحاد منهج اللفظ على اتحاد منهج المعنى، وترك التصرف في الحرف، وبهذا يندفع اعتراض صاحب التقريب، بجواز أن يكون في النفي لمظاهرة النفي، وفي المثبت لتأكيد معنى القسم، وتجويز أنه في النفي لتأكيده، وفي الإثبات لتأكيده ليس على ما ينبغي. انتهى.

"ولا يؤمنون جواب" للقسم، "أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة؛ أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أموره"؛ لأنه عبر بما شجر وما من صيغ العموم، "ويرضى بجميع ما حكم به" بقوله:{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} الآية، "وينقاد له ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها" هذا المقصود.

وذكر الموافق للتعميم، "كما ورد في الحديث:"والذي نفسي بيده" قسم كان صلى الله عليه سولم يقسم به كثيرًا، "لا يؤمن أحدكم" إيمانًا كاملًا، ونفي اسم الشيء بمعنى الكمال مستفيض في كلامهم، فالمراد نفي بلوغ حقيقته ونهايته، وخصوا بالخطاب؛ لأنهم الموجودون حينئذ والحكم

ص: 518

أن من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنًا، وعلى أنه لا بد من حصول الرضى بحكمه في القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن في القلب بأن الذي يحكم به عليه الصلاة والسلام هو الحق والصدق، فلا بد من الانقياد باطنًا وظاهرًا، وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام.

ثم إن ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس؛ لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه، وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره.

وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} مشعر بذلك؛ لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضي ضد مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين الله تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يتلفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص تسليمًا كليًا، قاله الإمام فخر الدين.

عام، "حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" الهوى بالقصر ما يهواه العبد ويحبه ويميل إليه، فحقيقته شهوة النفس، وهو ميلها لملائمها، ويستعمل في عرف الشرع في الميل إلا خلاف الحق، كقوله: ولا تتبع الهوى فيضلك، "وهذا" الحديث "يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنًا" أصلًا، بل كافرًا إن اعتقد بطلانه، أو أنه ليس من الله، أما إن اعتقد حقيقته وتألم منه في نفسه لمشقته فمؤمن ناقص، "وعلى أنه لا بد من حصول الرضا بحكمه في القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن في القلب بأن الذي يحكم به عليه الصلاة والسلام هو الحق والصدق، فلا بد من الانقياد باطنًا وظاهرًا.

ذكر هذا وإن تقدم معناه قريبًا؛ لأن شرح للحديث، فمراده أنه دل على ما دلت عليه الآية، "وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام" وهو السابع، "ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس"، سواء كان جليًا أو خفيًا، كما أجازه الرازي، وقيل: المنع في الخفي لضعفه بخلاف الجلي؛ "لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه" بالخفض، "وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره، وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} ضيقًا أو شكا "{مِمَّا قَضَيْتَ} " به "مشعر بذلك؛ لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضي ضد مدلول النص، فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين الله تعالى؛ أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص": ينقاد لحكمه "تسليمًا كليًا" من غير معارضة، "قاله الإمام فخر الدين" الرازي بعدما كان يقول

ص: 519