المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الأول: في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٨

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌النوع الأول: في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره

لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويرحم الله ابن الخطيب الأندلسي حيث قال:

مدحتك آيات الكتاب فما عسى

يثني على علياك نظم مديحي

وإذا كتاب الله أثنى مفصحًا

كان القصور فصار كل فصيح

وهذا المقصد -أكرمك الله- يشتمل على عشرة أنواع:

دالًا دلالة ظاهرة بكثرة، بمعنى ناطقًا، فلذا عداه بالباء في قوله:"بتعظيم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ويرحم الله ابن الخطيب" أبا عبد الله محمد بن جابر "الأندلسي، حيث قال: مدحتك آيات الكتاب" كلها صريحًا، أو استلزامًا بذمها لمخالفه، ودلالتها على إكرامه بنزولها عليه مع اشتمالها على ما فات به غيرها من الكتب السماوية، "فما عسى، يثني على علياك" أي: شرفك، "نظم مديحي" أي: فأي: شيء يترجى به أن يليق الثناء به على شرفك التام بالنسبة لما أثنى الله عليك، "وإذا كتاب الله أنثى مفصحًا" عليك، "كان القصور" أي: العجز، "فصار":"بضم القاف" أي: غاية "كل فصيح" أنه يعترف عن الإتيان ببعض وصافك، "وهذا المقصد أكرمك الله" جملة دعائية "يشتمل على عشرة أنواع".

ص: 274

‌النوع الأول: في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره

وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته

قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] .

قال المفسرون: يعني موسى عليه الصلاة والسلام، كلمه بلا واسطة، وليس

النوع الأول

في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره، وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته" هي والرتبة متقاربان بمعنى علو القدر، "قال الله تعالى: {تِلْكَ} مبتدأ {الرُّسُلُ} صفة والخبر {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بتخصيصه بمنقبه ليس لغيره {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] .

"قال المفسرون" أي: جمهورهم: "يعني موسى عليه الصلاة والسلام كلمه بلا واسطة" وقيل: المصطفى كلمه ليلة المعراج، "وليس نصًا في اختصاص موسى بالكلام".

ص: 274

نصًا في اختصاص موسى بالكلام، وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا كما مر.

فإن قلت: إذا ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق منه لموسى؟

أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله

لأنه إنما قال منهم، فلا يفهم منه؛ أنه لم يكلم غيره، ""وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا أيضًا، كما مر" ليلة المعراج.

وقد قال السيوطي: من جملة من كلم من الأنبياء آدم، كما في الحديث، "فإن قلت إذا" بمعنى حيث "ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة، وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم" بمعنى المكالم، كالجليس بمعنى المجالس، والأنيس بمعنى المؤانس، والنديم بمعنى المنادم، وهو كثير، "كما اشتق منه لموسى، أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق، كاسم الفاعل" مثل القائم والضارب، فيطرد بمعنى: أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم، "وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة، فلا يطرد" وحاصله مع الإيضاح، كما قال شيخنا: إن المشتق، وهو ما دل على ذات مبهمة، باعتبار حدث معين قد يكون اشتقاقه لما فهم فيه من المصدر الذي اشتق منه ذلك اللفظ، فلاحظ أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، فإذا اشتق على هذا الوجه وجب إطلاقه على كل ما صدق عليه الضارب والقائم، فإن كلًا منهما يصدق على من اتصف بالضرب والقيام، وقد يكون إطلاقه على معنى، وتخصيصه به؛ باعتبار أثر قام به حمل المستعمل على ملاحظته في أصل وضع اللفظ لذلك المعنى، فوضعه، وهذا من الأسماء المشبهة للصفات، وليس منها، والكليم من هذا النوع، فلا يلزم من إطلاقه على موسى لكلام الله إطلاقه على غيره ممن كلمه الله تعالى.

"وحينئذ، فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين" عبد الرحمن بن أحمد إلا يجيء المحقق التحرير، يروي تصانيف

ص: 275

المولى سعد الدين التفتازاني.

وقوله: رفع بعضهم درجات يعني محمدًا صلى الله عليه سولم رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه:

بالذات في المعراج.

وبالسيادة على جميع البشر.

وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله.

قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، انتهى.

البيضاوي عن زين الدين الهنكي، عنه، وروى عنه محمد بن يوسف الكرماني، شارح البخاري، "وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله" تلميذه "المولى سعد الدين التفتازاني" بفتح الفوقيتين والزاي وسكون الفاء، نسبة إلى تفتازان: قرية بنواحي نسا، ولعل حكمة عدم إطلاقه على المصطفى مع ظهور دلالته على كلامه؛ أن قومه أنكروا الإسراء أصلًا، فلم يسم كليمًا حذرًا من إنكارهم، إذ سمعوه، وتكلمهم بما لا يليق في حقه، ولا دليل قطعي يرد عليهم، فاقتصر على ما ظهر لهم كالإسراء، فإنه وصف لهم بيت المقدس وغيره، فتحققوا صدقه وإن أنكروه عنادًا.

"وقوله: ورفع بعضهم درجات، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه بالذات في المعراج" إلى مقام لم يصل إليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، "وبالسيادة على جميع البشر" لقوله:"أنا سيد الناس يوم القيامة"، "وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله" قال عياض: ولأنه بعث إلى الأحمر والأسود، أي: لعموم بعثته.

"قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام" بقوله بعضهم، "من تفخيم فضله وإعلاه قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس" فهو وإن عبر عنه بالبعض المقتضى لإبهامه، معلوم متميز عن سائر من عداه، ومتعين فيه.

قال التفتازاني: في التعبير عنه باللفظ المبهم تنبيه على أنه من الشهرة بحيث لا يذهب الوهم إلى غيره في هذا المعنى، ألا ترى أن التنكير الذي يشعر بالإيهام كثيرًا ما يجعل علمًا على الإعظام والإفخام، فكيف اللفظ الموضوع لذلك، "انتهى" كلام الزمخشري، وقد أحسن فيه، لكنه أساء في قوله بعده، ويجوز أن يريد إبراهيم، أو غيره من أولي العزم من الرسل.

ص: 276

وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] أن مراتب الأنبياء والرسل متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين رد عليهم: وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة.

وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل.

والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما.

وقد قال بعض المحققين: لم يصب الزمخشري في تجويزه، أن المراد بالبعض غيره؛ لأن المستحق للتفضيل على الوجه المذكور هو أفضل الأنبياء بإجماع المسلمين، وتأييده بخبر ابن عباس تذاكرنا فضل الأنبياء، فذكرنا نوحًا، وإبراهيم، وموسى وعيسى، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا ينبغي لأحد أن يكون خيرًا من يحيى بن زكريا" مدفوع بأن المراد؛ أن في كل نبي نوع فضيلة تخصه، فلا وجه لتخصيص بعضهم بالامتياز من تلك الجهة، فالمنفي في قوله:"لا ينبغي" إلخ، الخيرية من جميع الوجوه.

"وقد بنيت هذه الآية، وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، بتخصيص كل منهم بفضيلة، كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد بالإسراء، وسليمان بالملك، "أن مراتب الأنبياء والرسل" وفي نسخة: الرسل والأنبياء، أي: الذين ليسوا برسل أو هو عطف عام على خاص، "متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين؛ بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين" {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] ، و {لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، "رد عليهم" على سبيل الصراحة، وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة" وليس بشيء؛ لأنها بمجردها لا تقتضي فضله عليهم مطلقًا، وكم من فرع فضل أصله لخصوصيات شرف بها على الأصل، بل كثيرًا ما تشرف الأصول بفرعها:

وكم أب قد علا بابن ذوي شرف

كما علا برسول الله عدنان

"وتوقف بعضهم" لتعارض الأدلة عليه، "فقال: السكوت أفضل" لعدم القاطع عند ذا البعض، "والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلئف، أن الرسل أفضل من الأنبياء"؛ لأن الرسالة تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي، كالعلم والعبادة، خلافًا لمن قال: النبي أفضل؛ لأن النبوة الوحي بمعرفته تعالى وصفاته، فهي متعلقة به من طرفيها، والرسالة: الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة به من أحد الطرفين، وأجيب بأنها تستلزم النبوة، فهي مشتملة عليها؛ لأنها كالرسول، وأخص من النبوة التي هي أعم، كالنبي.

ص: 277

قال بعض أهل العلم -فيما حكاه القاضي عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظزهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون في ذاته أفضل وأظهر، وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه، وتحف ولايته واختصاصه، انتهى.

فلا مرية أن آيات نبينا صلى الله عليه وسلم ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع

"وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما، قال بعض أهل العلم" بالكتاب والسنة، "فيما حكاه القاضي عياض" في الشفاء:"والتفضيل المراد لهم هنا" عطف على مقدار وعلى ما تقدم، وهنا إشارة لما ذكر قبله "في الدنيا" متعلق بالتفضيل، "وذلك بثلاثة أحوال" وفي نسخة أوجه، "أن تكون آياته ومعجزاته أظهر" وفي نسخة أبهر، أي: أقوى، وأغلب من بهر ضوء القمر الكواكب عليها، أو هو بمعنى أظهر "وأشهر" كانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا حية، "أو تكون" بالنصب "أمته أزكى" أتقى وأطهر لبعدهم عن التلبس بما لا يليق، "وأكثر" من غيرهم، "أو يكون في ذاته أفضل" بزيادة علمه وخصاله المحمودة، "وأظهر" بمعجمة، أي: أشهر، وبمهملة أتقى وأنقى، "وفضله في ذاته" ونفسه "راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته" أي: إكرام الله له بما آثر، ومناقب عظيمة وهبها له، "واختصاصه" بالجر معطوف على مدخول إلى "من كلام" بلا واسطة لموسى والمصطفى، وهو بيان لاختصاصه بمعنى ما خصه به، "أو خلة" لإبراهيم والمصطفى، "أو رؤية" عيانًا لنبينا صلى الله عليه وسلم، "أو ما شاء الله" أراده لهم غير ما ذكر "من ألطافه" بفتح الهمزة، أي: عطاياه، "وتحف" بفاء، آخره "ولايته" أي: تحف أولاها لهم، هكذا في الشفاء، بالفاء فقط، وفسرها شارحها بما ذكر.

وقال شيخنا: كان المراد بها ما ميز به تعالى ولايته عن ولاية غيره من الخواص والمزايا التي لم تثبت لغيره.

وفي بعض نسخ المصنف: وتحقق ولايته بقافين، أي: ثبوتها بلا ريبة ولا تردد، لكثرة الأدلة المثبتة لها، "واختصاصه" بما اختصهم به من قرة أعين لا يعلمها إلا هو. "انتهى".

"فلا مرية""بالكسر"، لا شك "أن آيات نبينا ومعجزاته أظهر وأبهر" بموحدة، أغلب، "وأكثر وأبقى" بالموحدة، "وأقوى" أشد، "ومنصبه" حسبه وشرفه "أعلى، ودولته أعظم وأوفر، وذاته أفضل وأظهر" بالمهملة، "وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر".

ص: 278

الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين، وتأمل حديث الشفاعة في المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة"، رواه ابن ماجه، وفي حديث أنس عند الترمذي:"أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر".

لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف.

فقد جمعت فيه الأحوال الثلاثة وزيادة، "فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين" إنسًا وملكًا، "وتأمل حديث الشفاعة" إضافة لأدنى ملابسة لذكرها فيه "في المحشر""بفتح الشين وكسرها"، "وانتهائها إليه" بعد تنصل رؤساء الأنبياء منها " "وانفراده هناك بالسؤدد" أي: السيادة، "كما قال صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد" يكون جمعًا، وواحدًا، والمراد الأول "آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة" أي: أول من يعجل أحياؤه، مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا بتعجيل جزيل إنعامه، "رواه ابن ماجه" محمد القزويني.

"وفي حديث أنس عند الترمذي" مرفوعًا: "أنا أول الناس خروجًا، إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي""وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي" إخبار بما منحه من السودد والإكرام، وتحدث بمزيد الفضل والإنعام "ولا فخر" حال مؤكدة، أي أقول ذلك غير مفتخر به فخر تكبر، أتى به دفعًا لتوهم إرادة الافتخار به.

قال القرطبي: إنما قال ذلك؛ لأنه مما أمر بتبليغه لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، وليرغب في الدخول في دينه، ويتمسك به من دخل فيه، ولتعظيم محبته في قلوب متبعيه، فتكثر أعمالهم وتطيب أحوالهم، ويحصل لهم شرف الدنيا والآخرة؛ لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع.

"لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف" تبع التفتازاني في شرح العقائد، وقد تعقب بأن المراد سيد جنس الآدميين، فلا يخرج آدم؛ لأن المراد من ولد آدم كافة البشر، بدليل قوله في حديث أبي هريرة:"أنا سيد الناس"، وقوله في حديث أبي سعيد: آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي، وقد لوح المصنف بعد قليل بمعنى هذا التعقب بقوله، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم، وبأن دخول آدم أولوي؛ لأن في ولده من هو أفضل منه، وبأن ذلك من الأسلوب العربي على

ص: 279

واستدل الشيخ سعد الدين التفتازاني لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه.

واستدل له الفخر الرازي -في المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا فيكون تاركًا للأمر، وإذا

حد {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ، لدخول داود لزومًا، أو قصدًا، وعبر عنه بذلك لإرادة التنصيص على دخول آله معه.

"واستدل الشيخ سعد الدين" مسعود بن عمر بن عبد الله "التفتازاني" الشافعي، قال الحافظ في الدرر الكامنة: ولد سنة ست عشرة وسبعمائة، وأخذ عن القطب والعضد، وتقدم في الفنون، واشتهر ذكره وطار صيته، وله تصانيف انتفع بها الناس، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، "لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام" عى جميع الأنبياء، "بقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه" وهذا إنما ذكره التفتازاني سندًا للإجماع على فضل المصطفى، وتعقب، بأنه لا يصح سندًا له؛ لأن خيريتهم في الدنيا بزيادة نفعهم، للغير لحديث: "خير الناس أنفعهم للناس"، وهذا هو الظاهر لحديث البخاري، عن أبي هريرة، قال في الناس: "ناس يأتون بهم والسلاسل في أعناقهم حتى يدخلون الإسلام"، وخيريتهم في الآخرة، بكثرة ثوابه لحديث البخاري: "لكم الأجر مرتين"، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء"، والسر في ذلك؛ أنهم صدقوا الأنبياء كلهم بخلاف جميع الأمم، فإنما صدق كل منهم نبيه ومن قبله، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله لهرقل:"أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين".

قال الكرماني وغيره: مرة للإيمان بنبيهم، ومرة للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والخيرية بأحد هذين المعنيين للأمة لا تدل على أفضلية رسولهم. انتهى، وفيه تأمل.

"واستدل له الفخر الرازي في المعالم" أي: معالم التنزيل، اسم تفسيره، "بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة" في سورة الأنعام، "ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى} هم {اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ} طريقهم التوحيد والصبر، {اقْتَدِهِ} "بهاء السكت" وقفًا ووصلًا وفي قراءة بحذفها وصلًا، "فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا

ص: 280

أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى.

وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلا

فيكون تاركًا للأمر" وهو محال، "وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة، فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم"؛ لأن الواحد إذا فعل مثل فعل الجماعة كان أفضل منهم، قيل عليه: لا شك أنه أفضل من كل واحد منهم، ومن الجميع أيضًا، لكن في هذا الدليل خفاء؛ لأنه لا يلزم من إتيانه بكل ما أتى به كل واحد منهم إلا مساواته للمجموع، لا أفضليته عليهم، وكأنه الداعي للعز بن عبد السلام على قوله: "إنه أفضل من كل واحد منهم، لا من جميعهم، فتمالأ جماعة من علماء عصره على تكفيره، فعصمه الله، بل قد يتوقف في المساواة أيضًا؛ لأنك لو أنعمت على أربعة فأعطيت واحدًا دينارًا، وآخر دينارين، وآخر ثلاثة، وآخر أربعة، لزاد صاحب الأربعة على كل واحد دون جميع ما لغيره، ولو أعطيته ستة لساواهم، ولو أعطيته عشرة زاد عليهم، فينبغي أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم ساواهم في العمل، وزاد عليهم، بأنه أعلم منهم بالله، وأكثر من جميعهم خصائص ومعجزات، وهذا التفضيل في القرب والمنزلة، وهو أكثر ثوابًا، وأمته أكثر من جميع الأمم، وأجرهم له إلى يوم القيامة، ولو كانت للناس مساكن بعضها فوق بعض، لكان الذي فوق الأخير أعلى من الجميع، وفي آية تلك الرسل إيماء لهذا، حيث أبهم وعبر برفع الدرجات دون أن يسميه، ويقول: إنه أعظم وأفضل. انتهى.

"وبأن دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة، وصلت إلى أكثر بلاد العالم، بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى" استدلال الرازي.

"وقد روى الترمذي" وقال: حسن صحيح، وأحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم "عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه؛ لأنه يوم مجموع له الناس، فيظهر سودده لكل أحد عيانًا ووصف نفسه بالسودد، المطلئق المفيد، للعموم في المقام الخطابي، فيفيد سيادته على جميع أولاد آدم حتى أولي العزم واحتياجهم إليه، وتخصيص ولد

ص: 281

تحت لوائي.

وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا -عند البخاري-: "أنا سيد الناس يوم القيامة"، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم.

وروى البيهقي في فضائل الصحابة، أنه ظهر علي بن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم:"هذا سيد العرب" فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟ قال: "أنا سيد العالمين وهو سيد العرب"، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.

آدم ليس للاحتراز، فهو أفضل حتى من خواص الملائكة بإجماع من يعتد به، "ولا فخر" بل إنما قلته شكرًا، كقول سليمان:{عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، أي: لا أقوله تكبرًا وتعاظمًا على الناس في الدنيا، وإن كان فيه فخرًا الدارين، أولًا افتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الرتبة، "وبيدي لواء" بالكسر والمد، علم "الحمد" والعلم في العرصات مقامات لأهل الخير والشر، نصب في كل مقام لكل متبوع لواء، يعرف به قدره وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلائق أعطى أعظم الألوية، لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي ولا وجه لحمله على لواء المال والكمال، "ولا فخر" لي بذلك فخر تكبرًا، ولا فخر بالعطاء، بل بالمعطي، "وما من نبي" يومئذ "آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي".

قال الطيبي: آدم فمن سواه اعتراض بين النفي والاستثناء، وآدم بالرفع يدل، أو بيان من محله، ومن موصولة، وسواه صلته، وصح؛ لأنه ظرف، وآثر الفاء التفصيلية في، فمن للتريب على منوال الأمثل فالأمثل، وبقية هذا الحديث:"وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أو شافع ولا فخر".

"وفي حديث أبي هريرة، مرفوعًا عند البخاري" ومسلم والترمذي وأحمد": "أنا سيد الناس يوم القيامة" وهل تدرون مم ذلك؟، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فذكر حديث الشفاعة بطوله، "وهذا" المذكور من حديثي أبي سعيد وأبي هريرة، "يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده، بل أفضل من الأنبياء" إضراب انتقالي لدفع توهم، أن المراد بأولاده من عد الأنبياء، "بل أفضل الخلق كلهم"؛ لأنه من ناس، إذا تحرك، فشمل الملائكة حتى أمين الوحي بإجماع حتى من المعتزلة، وجهل الزمخشري مذهبه، كما حققه جماعة من المحققين.

"وروى البيهقي في فضائل الصحابة؛ أنه ظهر على ابن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟، قال: "أنا سيد

ص: 282

وقد روى هذا الحديث -أيضًا- الحاكم في صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ:"أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب"، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه.

وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين بن علوان -وهما ضعيفان- عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ:"ادعوا لي سيد العرب"، قالت: فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال": وذكره.

وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهي -وهو ضعيف أيضًا- عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب" فقالت عائشة: ألست سيد العرب"؟ وذكره.

العالمين، وهو سيد العرب، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء" والملائكة؛ لأن العالم ما سوى الله.

"وقد روى هذا الحديث أيضًا الحاكم في صحيحه" المستدرك من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، "عن ابن عباس" مرفوعًا، "لكن بلفظ:"أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب".

"وقال" الحاكم: "إنه صحيح ولم يخرجاه" أي: البخاري ومسلم، مع أن إسناده على شرطهما، "وله شاهد من حديث عروة" بن الزبير، "عن" خالته "عائشة، وساقه" أي: رواه الحاكم، "من طريق أحمند بن عبيد بن ناصح" أبي جعفر النحوي، يعرف بأبي عصيدة، قيل: إن أبا داود حكى عنه، مات بعد السبعين ومائتين.

"قال: حدثنا الحسين بن علوان، وهما ضعيفان" لكن اقتصر في التقريب على أن أحمد بن عبيد، لين الحديث، "عن هشام بن عروة، عن أبيه، عائشة" مرفوعًا "بلفظ: "ادعوا لي سيد العرب"، قالت" عائشة: "فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟، فقال: وذكره، وكذا أورده" الحاكم "من حديث عمر بن موسى الوجيهي" بفتح الواو وكسر الجيم، نسبة إلى وجيه، "وهو ضعيف أيضًا عن أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي، "عن جابر، مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟، وذكره" ورواه أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي، رفعه:"ادع سيد العرب"، يعني عليًا، فقالت له عائشة: ألست سيد العرب؟، فقال: أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب".

ص: 283

قال شيخنا: وكلها ضعيفة، بل جنح الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع. انتهى.

ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه، حاشاه الله من ذلك، وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه، وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه، وكذلك العبد إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور، فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير عجب ولا فخر، بل هو فرح بفضل الله

"قال شيخنا" السخاوي: "وكله ضعيفة، بل جنح": مال "الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع" انتهى، ولم يتبين لي ذلك، إذ ليس فيها وضاع ولا كذاب ولا متهم، والحاكم إنما أورد حديث عائشة من الطريقين، وإن كان فيهما ضعف، شاهد الحديث ابن عباس الذي صححه؛ لأن زواته من رجال الصحيح.

"ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه والفخر ادعاء العظم والمباهاة، "حاشاه من ذلك" إذ هو سيد المتواضعين، "وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه" لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11] ، "وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه"، وليعتقدوا فضله على من سواه.

قال القرطبي: ولأنه مما أمر بتبليغه، لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، فإن قيل: هذا راجع للاعتقاد، فكيف يحصل القطع به من أخبار الآحاد، قلنا: من سمع شيئًا من هذه الأمور منه صلى الله عليه سولم مشافهة حصل له العلم به، كالصحابة، ومن لم يشافهه حصل له العلم به من طريق التوتر المعنوي، لكثرة أخبار الآحاد به.

"وكذلك العبد" أي: عبد من عباد الله الكاملين، "إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور" وفي نسخة: السرور والنور أولى، "فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل: الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل" مطر شديد "فطل" مطر خفيف، والمعنى أنه يزكو وينمو، كثر المطر، أو قل، "وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير

ص: 284

وبرحمته، كما قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فالافتخار على ظاهره، والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها:

من أنت مولاه حاشًا

علاه أن يتلاشى

والله يا ر وح قلبي

لا مات من بك عاشا

قوم لهم أنت ساق

لا يرجعون عطاشا

لا قص دهر جناحًا

له وفاؤك راشا

بك النعيم مقيم

لمن وهبت انتعاشا

ومن بحولك يقوى

لن يضعف الدهر جاشا

عبد له بك عز

فكيف لا يتحاشى

حاشا وفاؤك يرمي

من أنت مولاه حاشا

عجب ولا فخر، بل هو فحر بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} {فَبِذَلِكَ} الفضل والرحمة، {فَلْيَفْرَحُوا} فالافتخار" كائن "على ظاهره" بحسب اللفظ "والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف": هو من أشهده الحق نفسه، وظهرت عليه الأحوال والمعرفة حاله، هكذا ذكره الشيخ، فالعالم عنده أعلى مقامًا من العارف خلافًا للأكثرين، وقد قرر ذلك في الفتوحات ومواقع النجوم "الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها: من أنت مولاه" ناصره ومعينه "حاشا، علاه" رفعته "أن يتلاشى" يخس بعد رفعته، "والله يا روح" حياة "قلبي، لا مات من بك عاشا" بل يحيا حياة طيبة، "قوم لهم أنت ساق، لا يرجعون عطاشًا" بل غاية من الري "لا قص" بمهملة ثقيلة "دهر جناحًا، له وفاتك راشا" أصلح حاله ونفعه، "بك النعيم مقيم، لمن وهبت انتعاشًا" أي: رفعة وجبرًا وذكرًا حسنًا.

قال المجد: نعشه الله، كمنعه ورفعه، كأنعشه ونعشه، وفلانًا جبره بعد فقره، والميت ذكره ذكرًا حسنًا، "ومن بحولك" قوتك "يقوي، لن يضعف الدهر" بالنصب "جاشا" أي نفسًا.

قال المجد: الجأش نفس الإنسان، وقد لا يهمز "عبد له بك عز" قوة ومنعة، "فكيف لا يتحاشى" يكرم ويعظم "حاشا وفاؤك يرمي، من أنت مولاه حاشا" أي: تنزيها له أن يفعل

ص: 285

ذلك "فإن قلت: ما الجمع بين" كل من "هاتين الآيتين"{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [البقرة: 253] الآية، {لقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] الآية، فإن كلًا منهما صريح في التفضيل وعدم التفريق في قوله تعالى:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] الآية، دال على التسوية، كجملة أحاديث، كما قال:"وبين قوله تعالى" خطايا للمؤمنين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم} من الصحف العشر، {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أولاد يعقوب، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} من التوراة، {وَعِيسَى} من الإنجيل، {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} من الكتب والآيات، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كاليهود والنصارى، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] وأورد أن بين إنما تقع على اثنين، كجلست بين زيد وعمرو، وأحد في الآية مفرد؛ لأنه بمعنى واحد لا بعينه، فكيف صح دخول بين عليه، وأجيب بأ، هـ باعتبار معطوف حذف لظهوره، أي: بين أحد منهم وبين غيره، وفيه دلالة صريحة على تحقيق عدم التفريق بين كل فرد منهم وبين من عداهم، كائنًا من كان، بخلاف ما لو قيل: لا نفرق بينهم، وأجاب الكشاف؛ بأن أحد في معنى الجماعة بحسب الوضع.

قال التفتازاني: لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل، أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد اللذي هو أول العدد في مثل:{قُلْ هُوَ اللَّه} [الإخلاص: 1]، قال: وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي على ما سبق إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم، لا نفرق بين رسول من الرسل، إلا بتقدير عطف، أي: رسول ورسول، وقال في:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ، من زعم أن معنى الجمع في أحد أنه نكرة في سياق النفي، فقد سها، وإنما معناه ما ذكر في كتب اللغة؛ أنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، فحين أضيف بين إليه، أو أعيد ضمير جميع إليه، أو نحو ذلك، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدل عليه الكلام، فمعنى:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ} ، بين جمع من الرسل، ومعنى، "فما منكم من جماعة"، ومعنى:{لَسْتُنَّ كَأَحَد} [الأحزاب: 32] الآية، كجماعة من جماعات النساء، انتهى.

ص: 286

والحديث الثابت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودي وقال: أي خبيث، وعلى محمد؟

"والحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: استب" أي: سب "رجل من المسلمين" قال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق، أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه، وابن أبي الدنيا في كتاب البعث، ويعكر عليه أن في رواية للشيخين من حديث أبي هريرة أيضًا، وأبي سعيد؛ أنه من الأنصار، إلا أن كان المراد، المعنى الأعم، فإن الصديق من أنصاره صلى الله عليه وسلم، بل هو رأس من نصره ومقدمهم وسابقهم، قاله الحافظ في الفتح، زاد في المقدمة: أو يحمل، على تعدد القصة، لكن لم يسم من اليهود غير واحد.

"ورجل من اليهود" أي: سب كل منهما الآخر بمعنى غيره، قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا اليهودي، وزعم ابن بشكوال أنه فنحاص، وهو "بكسر الفاء وسكون النون ومهملتين" وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي بكر في لطمه إياه قصة أخرى في نزوله قوله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، "فقال اليهودي في قسمه" أي: حلفه.

وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم وجه اليهودي.

وفي رواية لهما أيضًا: بينما يهودي يعرض سلعته أعطى فيها شيئًا كرهه، فقال:"لا، والذي اصطفى موسى على العالمين" وفي رواية لهما على البش، فقال ذلك ردًا على المسلم فيما قاله، وأكده بالقسم، "فرفع المسلم يده" عند ذلك، أي: سماعه قوله، لما فهمه من عموم لفظ العالمين، أو البشر، فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أنه أفضل، وقد جاء ذلك مبينًا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال له: أي خبيث أعلى محمد، نفدل على أن لطمه عقوبة له على كذبه عنده، قاله الحافظ. "فلطم اليهودي" وفي رواية لهما: فلطم وجه اليهودي وقال: أتقول هذا ورسول الله بين أظهرنا. وفي رواية للإمام أحمد: فلطم عين اليهودي، وقوله:"وقال: أي خبيث""بفتح الهمزة وسكون الياء" حرف نداء، "وعلى محمد" هذه الجملة أدخلها المصنف في حديث أبي هريرة، وليست منه، فقد أخرجه مسلم في الفضائل، والبخاري في الخصومات، والرقاق، والتوحيد وأحاديث الأنبياء مختصرًا ومطولًا، وليس فيه هذه الجملة، إنما هي عنده في مواضع عن أبي سعيد، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي

ص: 287

فجاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى على المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوني على الأنبياء" وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء".

وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء".

وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم مرفوعًا ما ينبغي لعبد أن يقول: "أنا خير من يونس بن متى".

وحديث أبي هريرة عند الشيخين، من قال: "أنا خير من يونس بن متى فقد

فقال: ضرب وجهي رجل من الأنصار، فقال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث أعلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال:"لا تخيروا بين الأنبياء" الحديث، وأخرجه مسلم بنحوه.

وقد صرح الحافظ، كما رأيت؛ بأن هذه الجملة من حديث أبي سعيد، "فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى" ضمنه معنى اعترض، فعده بقوله:"على المسلم" وهذا نقل بالمعنى، وإلا فلم تقع هذه اللفظة في الصحيحين، لا في حديث أبي هريرة، ولا في حديث أبي سعيد.

ولفظ البخاري في الأشخاص في حديث أبي هريرة: فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بما كان من أمره وأمر المسلم، وكذلك في أولى روايته في أحاديث الأنبياء.

ولفظه في الثانية: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي؟، فقال:"لم لطمت وجهه"، فذكره، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، وكذا أخرجه مسلم في الفضائل باللفظين من طريق، "فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوني على الأنبياء".

"وفي رواية" لهما: "لا تفضلوا بين الأنبياء" وفي رواية: "لا تخبروني على موسى"، "وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري" في التفسير والتوحيد والخصومات، "ومسلم" في الفضائل:"أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء" بأن تقولوا" فلان خير من فلان"، "وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم" أيضًا في الفضائل، "مرفوعًا: "ما ينبغي" ما يصح، ولا يجوز "لعبد" من عباد الله، "أن يقول: أنا خير من يونس" يحتمل أن يكون رجوع أنا إلى القائل، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ في التفسير: والأول أولى، لكنه قال في أحاديث الأنبياء: حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني: "لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا".. إلخ، يؤيد رجوعها للنبي صلى الله عليه وسلم، وللطبراني في

ص: 288

كذب".

أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: في

حديث ابن عباس: "ما ينبغي لأحد"، وللطحاوي، أنه سبح الله في الظلمات، فأشار إلى جهة الخيرية، انتهى.

"ابن متى" بفتح الميم، والفوقية الثقيلة، وألف مقصورة، وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، ورده الحافظ بقوله في بقية هذا الحديث، ونسبه إلى أبيه، ففيه رد على من زعم أنه اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه، وذكره الطبري، وتبعه ابن الأثير في الكامل، والذي في الصحيح أصح، وقيل: سبب قوله ونسبه إلى أبيه؛ أنه كان في الأصل يونس ابن فلان، فنسبه الراوي، وكنى عنه بفلان، وذلك سبب نسبته إلى أمه، فقال الذي نسي يونس بن متى، وهي أمه، ثم اعتذر، فقال: ونسبه، أي: شيخه إلى أبيه، أي: سماعًا، فنسيته، ولا يخفى بعد هذا التأويل، وتكلفه. انتهى، بل يرده ما في الثعلبي عن عطاء: سألت كعب الأحبار عن متى، فقال: هو أبو يونس، واسم أمه برورة، أي: صديقة بارة قانتة، وهي من ولد هارون. انتهى.

فقول السيوطي: التأويل عندي أقوى، وإن استبعده الحافظ، فيه نظر.

قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس.

"وحديث أبي هريرة عند الشيخين: " من قال أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب" هذا لفظ البخاري في التفسير مختصرًا بلا واو أوله، فزيادتها في نسخ خطأ، ولم يخرجه مسلم بهذا اللفظ.

وقد أحسن السيوطي: فعزاه في الزوائد للبخاري، والترمذي وابن ماجه.

نعم أخرجه مسلم والبخاري في آخر الحديث السابق، بلفظ:"ولا أقول: إن أحد أفضل من يونس بن متى"، ورواه البخاري أيضًا مختصرًا، بلفظ:"لا ينبغي للعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".

وفي رواية مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يعني الله: لا ينبغي لعبد لي، وقال ابن المثى: لعبدي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، ومسلم رواه عن شيوخه ابن أبي شيبة، وابن بشار ومحمد بن المثنى، فلذا بين اختلاف لفظهم، فالأولان بلام، والثالث بدونها، والإضافة لياء المتكلم.

"أجاب العلماء؛ بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، يعني في الإيمان، بما

ص: 289

الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه، والتسوية بينهم في هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض.

وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة.

فقال بعضهم: أن نعتقد أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة، ونكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا، قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقيم.

أنزل إليهم، والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه" عطف عام على خاص، على أن الرسول أخص من النبي، ومرادف على تساويهما، وإن كلا منهما إنسان أوحى إليه بشرع، وأمر بتبليغه، أو المعنى التصديق بأن منهم رسلًا وأنبياء ليسوا برسل، "والتسوية بينهم في هذا" المذكور من الإيمان بما أنزل إلخ، "لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض" كما هو نص الآيتين بسبب خواص ترجع من قامت به على غيره بالنظر، لتلك الخصوصية.

"وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة" سبعة أو ثمانية، "فقال بعضهم: أن" مخففة من الثقيلة، "نعتقد" بالرفع، أي: إنا نعتقد "أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة" وجاز حذف اللام مما دخلت عليه لظهور المراد، كقوله: إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة، ولكن عدم الفصل بينها وبين الفعل الغير الناسخ نادر، والمضارع أندر من الماضي، كما في: أن يزينك لنفسك وأن يشينك لهيه، ويحتمل قراءته بفتح الهمزة، "ونكف" نمتنع "عن الخوض في تفصيل" تبيين "التفصيل بآرائنا"؛ لأنه هجوم على عظيم.

"قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا" المجردة عن فهم كتاب، أو سنة، "فصحيح"، وبهذا الإيراد إن هذا عين ما قاله ذلك البعض، فكيف يجعله احتمالًا فيه.

"وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله، وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو رأى أيضًا، لكن في فهم الدليل من غير أن تكون دلالته عليه قطعية، "فسقيم" أي: ضعيف؛ لأن الأخبار على غلبة الظن، وما أدى إليه الاجتهاد لا يمتنع، ومحصله أن التفضيل بالرأي: المحض مجمع على منعه، وبالدليل لا وجه لمنعه، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا بقوله.

ص: 290

وقال آخر: نفضل من رفع الله درجته بخصائص الحظوة والزلفى، ولا نخوض في تفضيل بعضهم على بعض في سياسة المنذرين والصبر على الدين، والنهضة في أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلال، فإن كلا منهم قد بذل في ذلك وسعه الذي لا يكلفه الله تعالى أكثر منه.

وقال الآخر -مما ذكره القاضي عياض-: إن نهيه عليه السلام عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف، وإن من فضل بلا علم فقد كذب.

قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفي هذا نظر. انتهى.

قال العلماء: إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل.

"وقال آخر: نفضل" أي: نعتقد فضل "من رفع الله درجته" منزلته "بخصائص الحظوة" بضم الحاء المهملة وكسرها ومعجمة، المحبة ورفع المنزلة، "والزلفى" القربى مصدر بمعنى التقريب، "ولا نخوض" لا نتكلم "في تفضيل بعضهم على بعض" عبر عن المتكلم بالخوض لما فيه من المشقة بلوم الدنيا، وعقوبة الأخرى.

وفي القاموس: خاض الماء دخله، والغمرات اقتحمها، "في سياسة" أمر ونهي "المنذرين" بفتح الذال، القوم الذين أرسلوا إليهم وبينوا لهم عواقب الفواحش، "والصبر على الدين" أي: القيام به، وهو هنا ما شرع من الأحكام التي من جملتها: وجوب تبليغ ما أمروا به، ومنع المخالفين لهم، الخارجين عن الطاعة، "والنهضة" أي: السرعة "في أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلال" بضم الضاد وشد اللام، جمع ضال، ويجوز فتحها، والتخفيف بتقدير أهل الضلال، والأول أولى، "فإن كلًا منهم قد بذل في ذلك وسعه الذي لا يكلفه الله أكثر منه"؛ لأنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

وقال الآخر مما ذكره القاضي عياض" في الشفاء: "إن نهيه عليه الصلاة عن التفضيل كان قبل أن يعلم" بالبناء للفاعل، أو المفعول، أي: يعلمه الله، "أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل، إذ يحتاج إلى توقيف" أي: إعلام به وأذن فيه، فلا يقدم عليه بالعقل، "وإن من فضل بلا علم" بل بالرأي: المجرد، "فقد كذب"؛ لأنه لا يطابق ما في نفس الأمر، والجملة حالية، أو استئنافية فيه، مقوية لما قبلها.

"قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفي هذا" الذي قاله الجماعة الآخرون "نظر.

ص: 291

ولعل وجه النظر في جهة معرفة المتقدم تاريخًا من ذلك، ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن وجه النظر -من جهة- أن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر، فيبعد أنه لم يعلمه بهذا إلا بعد هذا.

وقال آخر: إنما قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع ونفي التكبر والعجب.

قال القاضي عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض.

وقيل: لا نفضل بعضهم تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص بعضهم أو الغض منه.

انتهى، ولعل وجه النظر من جهة معرفة المتقدم تاريخًا من ذلك" يعني أنه يتوقف على العلم بتقدم النهي على العلم بأنه سيد ولد آدم ولم يعلم التاريخ، أو فيه مضاف، أي: جهة جهل معرفة إلخ، "ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: أن وجه النظر من جهة، إن هذا من رواية أبي سعيد" الخدري، "وأبي هريرة" الدوسي، "وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر" بالمعجمة وراء آخره على الصواب في المحرم سنة سبع، ونسخة حنين تصحيف، "فيبعد أنه لم يعلمه" الله تعالى "بهذا إلا بعد هذا" بل أعلمه فضله قبل ذلك.

قال السبكي: وفي حديث الإسراء ما يدل عليه. انتهى، ومن جملته قول إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، "وقال آخر: إنما قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع" لين الجانب، وخفض الجناح، "ونفي التكبر" إظهارًا لعظمة، "والعجب" بضم فسكون، استحسان النفس والمدح لها.

"قال القاضي عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض"؛ لأنه عد الإخبار بخلاف الواقع الذي هو كذب مذموم تواضعًا، قيل: ولأن نفي التكبر والعجب يقتضي ثبوتهما له، وأنه مع من علم من حاله كيف يتوهم فيه ما لا يتوهم في صالحي أمته، ولا يخفى أنه اعتراض ساقط، فإن التواضع صفة محمودة، وهو من شأنه صلى الله عليه وسلم، كذا في شرح الشفاء.

وقال شيخنا: لأنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يفتخر من باب التحدث بالنعمة، بل المطلوب منه أن يظهر فضله لأمته، ليقوي إيمانهم به، ولئلا يجهلوا مقام فيضلوا.

"وقيل": مما ذكر عياض أيضًا: "لا نفضل بعضهم تفضيلًا يؤدي" بضم التحتية وفتح الهمزة وشد الدال، يجر ويوصل "إلى تنقيص بعضهم" تفعيل من النقص، أي: يقتضي وصفهم بما فيه نقص، "أو الغض منه" بفتح الغين والضاد المعجمتين، أي: انتقاصه، كما في القاموس وغيره، فهو مساو لما قبله، ولا يصلح أنه عطف تفسير؛ لأنه إنما يكون بالواو إلا أن تكون، أو استعملت بمعنى الواو مجازًا، فعوملت معاملتها.

وقد ورد هذا الجواب؛ بأنه إن أريد مطلق النقص، فهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد نقص

ص: 292

وقيل: منع التفضيل إنما هو في حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها على حد واحد، لا تتفاضل، وإنما التفاضل فيزيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب، وأما النبوة نفسها فلا تتفاضل، وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة عليها، ولذلك كان منهم رسل وأولو عزم، انتهى، وهذا قريب من القول الثاني.

بعضهم عن بعض في الفضل، فلا معنى لأفعل التفضيل إلا ذلك.

"وقيل" مما ذكره عياض أيضًا: "منع التفضيل" بين الأنبياء والرسل، "إنما هو في حق النبوة والرسالة" نفسها لا الأنبياء والرسل، "فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها"، أي: النبوة "على حد واحد" فرتبتها وقدرها متحد فيهم، إذ هي شيء واحد، "لا تتفاضل" أي: لا يزيد بعضها على بعض، "وإنما التفاضل في زيادة الأحوال" أي: العوارض الطارئة عليها، "والخصوص"، أي: ما خص به بعضهم دون بعض، "والكرامات" التي أكرم الله بها بعضهم، "والرتب" الدنيوية والأخروية، "وأما النبوة نفسها فلا تتفاضل".

قال السنوسي في شرح عقائده: ويدل عليه منع أن يقال لفلان النبي النصيب الأقل من النبوة، ولفلان النصيب الأوفر منها، ونحوه من العبارات التي تقتضي أن النبوة مقولة بالتشكيك، ولا شك أن امتناع ذلك معلوم من الدين بالضرورة بين السلف والخلف، فدل على أن حقيقة النبوة من المتواطئ المستوى إفراده، ولا يلتفت لمن خالف مقتضاه لوضوح فساده.

"وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة عليها" ليست من نفس حقيقتها، كما تبين، وفي ذكره ذلك في النبوة دون الرسالة إيماء إلى الفرق بينهما.

"ولذلك" المذكور من أن التفاضل لأمر زائد، "كان منهم رسل وأولو عزم" أي: شدة وقوة وتصميم على تنفيذ ما يراد به وبغيره. "انتهى، وهذا قريب من القول الثاني" وليس عينه لاختلاف ملحظهما.

وفي فتح الباري قال العلماء: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلًا إذا قلنا أنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان، وقيل: النهي إنما هو في حق النبوة نفسها لقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، ولم ينه عن تفضيل الذوات لقوله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] .

وقال الحليمي: الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب،

ص: 293

وقال ابن أبي جمرة في حديث يونس: يريد بذلك نفي التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطيب الري؛ لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما في عالم الحس؛ لأن النبي صلى الله عليه سولم أسري به إلى فوق السبع الطباق، ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" وقال عليه السلام: "آدم ومن دونه تحت لوائي"، وقد اختص صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تفضلوني على يونس بن متى" إلا بالنسبة إلى القرب من الله

وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأن المخايرة، إذا وقعت بين دينين لم يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الأزراء بالآخر، فيفضي إلى الكفر، فأما إذا كان التخيير مستندًا إلى مقابلة الفضائل ليحصل الرجحان، فلا يدخل في النهي، ثم قال: أعني في الفتح، في قوله:"ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس".

قال العلماء: إنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعًا، إن كان قاله بعد أن علم أنه أفضل الخلق، وإن قاله قبل علمه، فلا إشكال.

وقيل: خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة. انتهى، وذكرته برمته لحسن تلخيصه، وإن تكرر بعضه مع ما ذكره المصنف.

"وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء، "في حديث يونس، يريد بذلك نفي التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطي الري" الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التميمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، بحر العلوم، ناصر السنة، الورع، الدين، صاحب التصانيف الكثيرة، تفقه على أبيه وغيره، ولد سنة ثلاث، وقيل: أربع وأربعين وخمسمائة، وتوفي بهراة يوم عيد الفطر يوم الاثنين سنة ست وستمائة، مر بعض ترجمته أيضًا، كان أبوه خطيبًا بالري: بفتح الراء وشد التحتية، مدينة مشهورة من أعلام البلاد، كانت أعظم من أصبهان والنسبة إليها بزيادة زاي؛ "لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما في عالم الحس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى فوق السبع الطباق" أي السماوات "ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه؛ لأنه يوم ظهور ذلك كل الظهور.

"وقال عليه السلام: آدم ومن دونه تحت لوائي" فالمراد بولد آدم جنس البشر، كما تقرر، فدخل آدم، "وقد اختص صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله عليه الصلاة

ص: 294

سبحانه، والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى.

وهو مروي عن الإمام دار الهجرة مالك بن أنس وعزي نحوه لإمام الحرمين.

وقال ابن المنير: إن قلت: إن لم يفضل على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين في تفضيل الحق فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى، فكيف لا نفضله عليه

والسلام: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، إلا بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروي عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس" وهو حمل حسن لا يرد عليه شيء، "وعزي نحوه لإمام الحرمين" أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني.

ذكر القرطبي في التذكرة: أن القاضي أبا بكر بن العربي، قال: أخبرني غير واحد أن إمام الحرمين سئل هل الباري في جهة؟، فقال: لا هو متعال عن ذلك، قيل: ما الدليل عليه؟، قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، قيل: ما وجه الدليل منه؟، قال: لا أقول حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينًا، فقام رجلان، فقالا: هي علينا، فقال: لا يتبع بها اثنين؛ أنه يشق عليه، فقال واحد: هي علي، فقال: إن يونس رمى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، كما أخبر الله، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر، وارتقى به صعدًا حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، وناجاه بما ناجاه، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر، فالله سبحانه قريب من عباده، يسمع دعاءهم ولا يخفى عليه حالهم، كيفما تصرفت من غير مسافة بينه وبينهم. انتهى.

"وقال ابن المنير" في معراجه: "إن قلت: إن لم يفضل" نبينا صلى الله عليه سولم "على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين في تفضيل الحق" سبحانه، "فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى" أي: السماوات "على الحضيض الأنى" أي: الأرض عند الأكثرين؛ لأنه لم يعص فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها، أو وقعت نادرة، فلم يلتفت إليها، وقيل: الأرض أفضل؛ لأنها مستقر الأنبياء ومدفنهم، ونسب للأكثر أيضًا،

ص: 295

الصلاة والسلام على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة بلا إشكال.

ثم قال: قلت لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكاني فعلى هذا يحمل جمعًا بين القواعد، انتهى.

واختلف هل البشر أفضل من الملائكة؟

فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بني آدم، وهو الأنبياء، أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، والمقربون.

وصحح الأول، ومحل الخلاف، كما قال السراج البلقيني: فيما عدا قبور الأنبياء فهي أفضل اتفاقًا.

"فكيف لا نفضله عليه الصلاة والسلام على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة" الرفعة وعلو المنزلة، "بلا إشكال، ثم قال" تلو السؤال بلا فاصل "قلت: لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكاني" الذي يتعالى الله منه، "فعلى هذا يحمل جمعًا بين القواعد انتهى"، وهو في معنى ما قال إمام الحرمين ومالك وغيرهما.

"و" قد "اختلف" في جواب قول السائل: "هل البشر أفضل من الملائكة" أم الملائكة أفضل، ثالثها الوقف واختاره الكيا الهراسي، ومحل الخلاف في غير نبينا صلى الله عليه وسلم أما هو فأفضل الخلق إجماعًا، لا يفضل عليه ملك مقرب ولا غيره، كما ذكره الرازي، وابن السبكي، والسراج البلقيني، والزركشي، وما في الكشاف من تفضيل جبريل.

قال بعض المغاربة: جهل الزمخشري مذهبه، فإن المعتزلة مجمعون على تفضيل المصطفى، نعم قيل: إن طائفة منهم خرقوا الإجماع، كالرماني، فتبعهم.

"فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بني آدم، وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة" واختاره الإمام فخر الدين في الأربعين.

وفي المحصل قال ابن المنير: وفضلهم باعتبار الرسالة والنبوة لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية بمجردها، وإلا لكان كل البشر أفضل من الملائكة، معاذ الله.

وذكر الإمام فخر الدين: أن الخلاف في التفضيل بمعنى أيهما أكثر ثوابًا على الطاعات، ورد بذلك احتجاج الفلاسفة على تفضيل الملائكة بأنها نورانية علوية، والجسمانية ظلمانية سفلية، وقال: هذا لم يلاق محل النزاع، وبهذا يزول الإشكال في المسألة، "وهم جبريل

ص: 296

والكروبيون والروحانيون، وخواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم -قال التفتازاني: بالإجماع بل بالضرورة- وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة. فالسجود له أفضل من الساجد، فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص لآدم ثبت تفضيل العوام على العوام، فعوام الملائكة خدم عمال الخير، والمخدوم له.

وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل" ملك الموت، "وحملة العرش" وهم أربعة، أو ثمانية، تقدم تحريره في المعراج، "والمقربون والكروبيون" بفتح الكاف وخفة الراء، كما مر، "والروحانيون" بضم الراء وفتحها، أما الضم؛ فلأنهم أرواح ليس معها ماء ولا نار ولا تراب، ومن قال هذا قال: الروح جوهر، ويجوز أن يؤلف الله أرواحًا، فيجسمها ويخلق منها خلقًا ناطقًا عاقلًا، فيكون الروح مخترعًا، والتجسيم بضم النطق والعقل إليه حادثًا من بعد، ويجوز أن أجساد الملائكة على ما هي عليه اليوم مخترعة، كما اخترع عيسى وناقة صالح، وأما الفتح، فبمعنى أنهم ليسوا محصورين في الأبنية والظلل، ولكنهم في فسحة وبساط، وقيل: ملائكة الرحمة روحانيون بفتح الراء، وملائكة العذاب الكروبيون من الكرب، قاله الحليمي والبيهقي.

"وخواص الملائكة" وهم المذكورون "أفضل من عوام بني آدم" يعني أولياء البشر، وهم من عدا الأنبياء، كما في الحبائك، أي: الصلحاء، كما يأتي "قال التفتازاني: بالإجماع، بل بالضرورة" لعصمتهم جميعهم.

قال السيوطي: لكن رأيت لطائفة من الحنابلة؛ أنهم فضلوا أولياء البشر على خواص الملائكة، وخالفهم ابن عقيل من أئمتهم، وقال: إن ذلك شناعة عظيمة عليهم، "وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة" وهم غير خواصهم في أحد القولين، وجزم به الصفار والنسفي كلاهما من الحنفية.

وذكر البلقيني: أنه المختار عند الحنفية، ومال إلى بعضه، وهو أنه قد يوجد ن أولياء البشر من هو أفضل من غير الخواص من الملائكة، وذهب الأكثرون إلى تفضيل جميع الملائكة على أولياء البشر، وجزم به ابن السبكي في جمع الجوامع، وفي منظومته، فذكر المصنف ثلاث صور استدل لها بقوله:

"فالمسجود له أفضل من الساجد" وهو الملائكة، أي: أن مجموع البشر أفضل من مجموع الملائكة، كما أشار له بقوله:"فإذا ثبت تفضيل الخواص" وهم الأنبياء، "على الخواص" من الملائكة بالسجود "لآدم، ثبت تفضيل العوام على العوام" وهذا صريح في تفضيل المجموع، وأورد الرازي في الأربعين: لم لا يقال: السجدة كانت لله وآدم، كالقبلة سلمنا أنها لآدم، لكن لم لا يكون من السجود التواضع والترحيب، سلمنا أنها وضع الجبهة على

ص: 297

فضل على الخادم؛ ولأن المؤمنين ركب فيهم الهوى والعقل، مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى ولا سبيل للشيطان عليهم.

فالإنسان -كما قاله في شرح العقائد- يحصل الفوائد والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق، والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة وكسب الكمال مع

الأرض، لكنها قضية عرفية، يجوز أن تختلف باختلاف الأزمنة، فلعل عرف ذلك الوقت؛ أن من سلم على غيره وضع جبهته على الأرض، وتسليم الكامل على غيره أمر معتاد، قال: والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن ذلك السجود، لو لم يدل على زيادة منصب السجود له على المساجد لما قال إبليس: أرأيتك هذا الذي كرمت علي، فإنه لم يوجند شيء آخر يصرف هذا الكلام إليه سوى هذاالسجود، فدل على اقتضائه ترجيح المسجود له على الساجد.

"فعوام الملائكة خدم عمال الخير" وهم صلحاء المؤمنين، "والمخدوم له فضل على الخادم"، وهذا استدلال للصورة الثالثة، وعطف على، فالسجود له أفضل من الساجد باعتبار المعنى، أي: فبنو آدم من حيث هم أفضل؛ لأن هذا النوع مسجود له في الجملة؛ "ولأن المؤمنين" من حيث هم "ركب فيهم الهوى" بالقصر، أي: الميل إلى الشيء، ثم استعمل في الميل المذموم نحو:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّك} ، "والعقل" عبر به دون الشهوة، وإن كان أظهر في بيان المشقة الحاصلة للمؤمنين في العبادة، لبيان ما حصل به الاشتراك بين الآدمي والبشر، وقد أوضح ذلك الفخر في الأربعين، فقال: الملائكة لهم عقول بلا شهوة، والبهائم لهم شهوة بلا عقل، والآدمي له عقل وشهوة، فإن رجحت شهوته على عقله كان أخس من البهيمة، قال تعالى:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ، فقياسه لو رجح عقله على شهوته وجب أن يكون أفضل من الملك. انتهى.

وذكر نحوه البيهقي، وزاد: ألا ترى من ابتلى من الملائكة بالشهوة كيف وقع في المعصية، وذكر قصة هاروت وماروت، وساقها من ثلاثة طرق، فكان المصنف عبر عن الشهوة بالهوى لتسببه عنها، "مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى" لعدم الشهوة، "ولا سبيل للشيطان عليهم" لعصمتهم، فهذه الآفة غير حاصلة للملائكة، "فالإنسان، كما قاله" التفتازاني "في شرح العقائد" للنسفي، "يحصل الفوائد والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة، والغضب، وسنوح الحاجات" أي: ظهورها وعروضها "الضرورية" التي لا بد منها، "الشاغلة عن اكتساب

ص: 298

الشواغل والصوارف أشق وأدخل في الإخلاص فيكون أفضل.

والمراد بعوام بني آدم -هنا- الصلحاء لا الفلسفة، كما نبه عليه العلامة كال الدين بن أبي شريف المقدسي، قال: ونص عليه البيهقي في الشعب وعبارته: قد تكلم الناس قديمًا وحديثًا في المفاضلة بين الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من

الكمالات" من علم وعمل، ومع ذلك بحصلهما، "ولا شك أن العبادة وكسب الكمال مع الشواغل والصوارف" أي: الموانع، وهي لازمة للشواغل، وكأنه جمع صارف أو صارفة، أي: أمر صارف، أو خصلة صارفة؛ لأن فواعل يجمع قياسًا على فاعل وفاعلة، والمسموع صروف كفلس وفلوس على ما في المصباح.

"أشق وأدخل في الإخلاص، فيكون" الإنسان "أفضل" وفي الأربعين: لأن طاعة البشر أشق؛ لأن الشهوة والغضب والحرص والهوى من أعظم الموانع عن الطاعات، وهذه صفات موجودة في الشر، مفقودة في الملائكة، والفعل مع المانع أشق منه مع غير المانع؛ ولأن تكاليف الملائكة مبنية على النصوص، قال تعالى:{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} [الأنبياء: 27] ، وتكاليف البشر بعضها مبني على النصوص، وبعضها على الاستنباط، قال تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} [الحشر: 2] وقال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، والتمسك والاجتهاد والاسنباط في معرفة الشيء أشق من التمسك بالنص، والأشق أفضل نصًا وقياسًا، أما النص، فقوله صلى الله عليه وسلم:"أجرك على قدر نصبك"، وحديث:"أفضل العبادات أحمزها" أي: أشقها، وأما القياس، فلو اشتركت الطاعات السهلة والشاقة في الثواب لخلا تحمل الشاقة عن الفائدة، وتحمل الضرر الخالي عن الفائدة محظور قطعًا، فكان يجب حرمة الشاقة فلما لم يكن كذلك علم أن الأشق أكثر ثوابًا.

"والمراد بعوام بني آدم هنا" في هذا المبحث "الصلحاء" لا ما اشتهر أنهم مقابل العلماء، وما في الأصول؛ أنهم خلاف المجتهدين "لا الفسقة" جعلهم في مقابلة الصلحاء، يقتضي أن كل من لم يرتكب كبيرة، ولم يصر على صغيرة من صلحاء المؤمنين، وإن لم يصل درجة الأولياء، وهو قد ينافي تعريف الولي بالقائم بحق الله والعباد، لكن من هذه صفته قليل.

"كما نبه عليه العلامة كمال الدين بن أبي شريف المقدسي، قال: ونص عليه البيهقي في الشعب، وعبارته: قد تكلم الناس قديمًا وحديثًا في المفاضلة بين الملائكة والبشر" الإنسان سمي به لظهور بشرته، يطلق على الإنسان واحده وجمعه، وقد يثني ويجمع على الإبشار، كما في القاموس، "فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر" الذي يدعون الناس

ص: 299

الأولياء من الملائكة. انتهى.

وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي، وتمسكوا بوجوه:

الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالعقل مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولي والصورة، قوية على الأفعال

إلى الحق، ويبلغونهم ما نزل إليهم، "أفضل من الرسل من الملائكة" وهم الذين يتوسطون بين الله وبين الأنبياء، فهم رسل بالمعنى اللغوي، كقوله:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] ، أما الاصطلاحي، وهو إنسان حر ذكر، أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه، فلا يكونون رسلًا، إذ لا شيء من الملائكة بإنسان، "والأولياء من البشر".

قال السيوطي: وهم من عدا الأنبياء.

"أفضل من الأولياء من الملائكة" وهم من عد خواصهم، كما أفاده السيوطي. "انتهى" كلام البيهقي.

وإنما يوافق دعواه بتأويل أولياء البشر بالصلحاء الذين لا كبيرة لهم ولا إصرار على صغيرة، لا بما عرفه التفتازاني؛ أنه العارف بالله، وصفاته حسبما يمكنه المواظب على الطاعات، المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات، "وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة" أي: أهل السنة، كأبي إسحاق الإسفراييني، والحاكم أبي عبد الله، "إلى تفضيل الملائكة، وهو اختيار القاضي أبي بكر" محمد بن الطيب "بن الباقلاني" بتخفيف الللام والنون، نسبة إلى بيع الباقلاء، "وأبي عبد الله الحليمي" واختاره أيضًا الإمام فخر الدين في المعالم، وأبو شامة.

قال البيهقي: وأكثر أصحابنا ذهبوا إلى القول الأول، والأمر فيه سهل، وليس فيه من الفائدة إلا معخرفة الشيء على ما هو به. انتهى.

"وتمسكوا بوجوه" نحو عشرين، اقتصر منها على أربعة:"الأول" وهو أضعفها، "أن الملائكة أرواح مجردة".

قال الآمدي: هذا غير مسلم، بل أجسام ذات أرواح، والتفاوت في هذا المفهوم ليس بمسلم، "كاملة بالعقل" بمعنى أنها "مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات، كالشهوة والغضب" والخيال والوهم، "وعن ظلمات الهيولي".

قال المجد: القطن، وشبه الأوائل طينه العالم به، أو هو في اصطلاحهم موصوف بما يصف به أهل التوحيد الله تعالى، أنه موجود بلا كمية وكيفية، ولم يقترن به شيء من سمات

ص: 300

العجيبة عالمة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط.

والجواب: أن مبنى ذلك على الأصول الفلسفية دون الأصول الإسلامية.

الثاني: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193] ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم.

والجواب: أن التعليم إنما هو من الله والملائكة إنما هم مبلغون.

الحديث، ثم حلت به الصفة، واعترضت به الأعراض، فحدث منه العالم، "والصورة" قالوا: وهذه الصفات هي الحجب القوية عن تجلي نور الله، ولا كمال إلا بحصول ذلك التجلي، ولا نقص إلا بحصول ذلك الحجاب، فلما كان هذا التجلي حاصلًا لهم أبدًا، والأرواح البشرية محجوبة عن ذلك التجلي في أكثر الأوقات، علم أنه لا نسبة لكمالهم إلى كمال البشر، والقول؛ بأن الخدمة مع كثرة العوائق أعلى منها بلا عوائق، كلام خيالي؛ لأن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول ذلك التجلي، فأي: موضع كان فيه التجلي أكثر، وعن المعاوق أبعد كان فيه الكمال والسعادة أتم، ولذا قال تعالى في الملائكة:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، "قوية على الأفعال العجيبة" لا تستثقل حمل الأثقال، ولا تستصعب نقل الجبال، والرياح تهب بتحريكها، والسحاب تعرض وتزول بتصرفاتها، والزلازل تطوى بقوتها، "عالمة بالكوائن، ماضيها وآتيها من غير غلط"؛ لأنهم ناظرون إلى اللوح المحفوظ أبدًا، فيعملون ما وجد في الماضي، وما سيوجد في المستقبل، "والجواب أن مبنى ذلك" الذي احتجوا به "على الأصول الفلسفية" إذ هم القائلون؛ بأنهم أرواح مجردة، "دون الأصول الإسلامية" القائلين بأنهم أجسام ذات أرواح، والتفاوت في هذا غير مسلم عندنا.

وأما في باقي الصفات المذكورة، فغير مسلمة على ما عرف من أصولنا، قاله الآمدي.

"الثاني: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر" باتفاق الفريقين، "يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] أي: جبريل، "وقوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 31] ، ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم، والجواب أن التعليم إنما هو من الله، والملائكة إنما هم مبلغون" فلا يلزم تفضيلهم على الأنبياء؛ لأن مجرد كونهم وسائط في التبليغ لا يقتضي التفضيل، ألا ترى أن السلطان لو أرسل إلى الوزير مثلًا رسالة مع بعض أتباع السلطان، لا يلزم منه أن الرسول أفضل من الوزير، ولا مساو له، ولا يلزم أيضًا كون المعلم أعلم، كما ادعوه.

قال الآمدي: آدم كان أعلم منهم، لقوله:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، الآيات، والمراد.

ص: 301

الثالث: أنه اطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء، وما ذاك إلا لتقدمهم في الشرف والرتبة.

والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود، أو؛ لأن وجودهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى.

الرابع: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة من عيسى، إذ القياس في مثله الترقي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان، ولا الوزير، ثم لا

أصحاب الأسماء، وهي المسميات لقوله:{ثُمَّ عَرَضَهُم} ، ولو أراد الأسماء لقال: ثم عرضها، كما قاله ثعلب، ولو سلم أنهم أعلم، فإنما يدل على اختصاصهم بالأعلمية، ولا يلزم أن يكونوا أفضل عند الله، بمعنى أكثر ثوابًا وأرفع درجة.

"الثالث: أنه اطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على الأنبياء" كقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، "وما ذاك إلا لتقدمهم في الشرف والرتبة"؛ لأن العرف شاهد بفضيلة المتقدم في الذكر، والأصل تنزيل الشرع عليه، ويدل عليه قول عمر للقائل:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا

لو قدمت الإسلام لأعطيتك

"والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود" لا للدلالة على الفضيلة، بدليل أنه تعالى قدم ذكرهم على كتبه، والكتب على الرسل، والكتب إن كانت هي الكلام القديم النفساني، فهي أفضل من الملائكة، وإن كانت العبارات والكتابات الدالة، فالرسل أفضل منها باتفاق وقد أخر الرسل عنها في الذكر، قاله الآمدي. "أو؛ لأن وجودهم أخفى" لعدم رؤيتنا لهم، ولذا استدلوا على وجودهم بالأدلة السمعية، كذكرهم في الكتب السماوية، وأخبار الأنبياء بهم، "فالإيمان بهم أقوى، وبالتقديم أولى"؛ لأن الله أثنى على الذين يؤمنون بالغيب، أي: بما غاب عنهم.

"الرابع: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِف} يتكبر ويأنف {الْمَسِيحُ} الذي زعمتم أنه إله عن {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، عنده، أن يكونوا عبيد الله، "فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة من" أي: على "عيسى، إذ القياس في مثله الترقي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير، ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير" إذ لا يحسن ذلك لاقتضائه زيادته على السلطان، ولا كذلك، فدل

ص: 302

قائل بالفرق بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام.

والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنا له؛ لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ

على فضل الملائكة على الأنبياء، ثم أجابوا عن قصور الدليل على فضلهم على عيسى، فلا يلزم ذلك على بقية الأنبياء بقولهم، "ثم لا قائل بالفرق" وفي نسخ: بالفصل، بصاد مهملة، أي: التمييز "بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام" فثبت الدليل بقياس المساواة، لكن قد اعترض الفخر هذا الاستدلال بوجوه، بأن محمدًا أفضل من المسيح، ولا يلزم من فضل الملائكة عليه فضلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن قوله:{وَلَا الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ} ، صيغة جمع تتناول الكل، فتفيد أن مجموعهم أفضل من المسيح، لا أن كل واحد أفضل منه؛ ولأن الواو حرف عطف، فتفيد الجمع المطلق لا الترتيب، فأما المثال المذكور، فليس بحجة؛ لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي، ثم هو معارض بسائر الأمثلة، كقولك: ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد، فلا يفيد فضل المتأخر في الذكر، ومنه قوله تعالى:{وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} [المائدة: 2] ، فلما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها، ثم تحقيق المسألة، إذا قيل: هذا العالم لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة، وإنما عرفناها بالعقل، لا بمجرد الترتيب، فلا يمكننا أن نعرف أن المراد في:{وَلَا الْمَلَائِكَة} ، بيان المبالغة، إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة أفضل من المسيح، وحينئذ تتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب وهو دور.

"والجواب" على تقدير أن الآية دالة على أن منصب الملك أعلى من المسيح، لكنها لا تدل على أن تلك الزيادة في جميع المناصب، بل في بعضها، فقولك: لا يستنكف من خدمة هذا العالم الوزير، ولا السلطان، إنما يفيد أن السلطان أكمل منه في بعض الأشياء وهي القدرة والسلطة، ولا يفيد زيادته على الوزير في العلم والزهد، فإذا ثبت هذا، فنحن نقول بموجبه، وهو أن الملك أفضل من البشر في القدرة والقوة والبطش، فإن جبريل قلع مدائن قوم لوط، والبشر لا يقدر على ذلك، فلم قلتم بفضل الملك على البشر في كثرة الثواب الذي هو محل الخلاف في المسألة، وكثرته إنما تحصل بنهاية التواضع والخضوع، ووصف العبد بذلك لا يلائم صيرورته مستنكفًا عن العبودية لله، بل يناقضها، فامتنع كون المراد من الآية هذا المعنى، أما اتصافه بالقدرة الشديدة، والقوة الكاملة، فمناسب للتمرد وترك العبودية، وذلك "أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع" وفي نسخة: يرتفع، أي: يتعالى، "من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنًا له" كما قال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 20] الآية،

ص: 303

الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، بخلاف سائر العباد من بني آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن الله تعالى على أفعال أقوى وأصعب وأعجب من إبراء الأكمه، والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى فالترقي والعلو إنا هو في أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا في مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة على الآية على أفضلية الملائكة البتة. انتهى.

"لأنه مجرد لا أب له؛ و" لأنه "كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، بخلاف سائر العباد من بني آدم، فرد" الله "عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك"، أي: عبودية الله، "المسيح، ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى، وهم الملائكة، الذين لا أب لهم، ولا أم، ويقدرون بإذن الله تعالى على أفعال أقوى وأصعب وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله تعالى"، الذي شاهدتموه من المسيح، "فالترقي والعلو إنما هو في أمر التجرد" من الأب والأم، "وإظهار الآثار القوية" كالشدة والقوة والبطش، "لا في مطلق الشرف والكمال" المؤدي إلى كثرة الثواب، ومزيد الرفعة عند الله، "فلا دلالة في الآية على أفضلية الملائكة البتة. انتهى" ما أورده من هذا المبحث، وليس المراد انتهى ما في الشعب؛ لأنه ليس فيها ذلك، وقدم قوله انتهى يعني ما في الشعب قبل قوله وذهبت.

والقول الثالث الوقف، حكاه الكلاباذي عن جمهور الصوفية، قال شارحه القونوي: وهو أسلم الأقوال، والسلامة لا يعدلها شيء، كيف وأدلة الجانبين متجاذبة، وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرف الحكيم فيها، فالصواب تفويض علمها إلى الله، واعتقاد أن الفضل لمن فضله الله ليس بشرف الجوهر، ليقال الملائكة أفضل؛ لأن جوهرهم أشرف، فإنهم خلقوا من نور، وخلق البشر من طين، وأصل إبليس وجوهره، وهو النار أشرف وأصفى من جوهر البشر، وما أفاده ذلك فضلًا، ولا بالعمل، ليقال عمل الملائكة أكثر؛ لأن إبليس أكثر عملًا أيضًا.

وقال في منع الموانع عن والده: المسألة ليست مما يجب اعتقاده ويضر الجهل به، ولو لقي الله ساذجًا منها بالكلية، لم يأثم.

قال القاضي تاج الدين: فالناس ثلاثة: رجل عرف أن الأنبياء أفضل واعتقده بالدليل، وآخر جهل المسألة ولم يشتغل بها، وهذان لا ضرر عليهما، وثالث قضى بأن الملك أفضل، وهذا على خطر، وهل من فضل الأنبياء على خطر: فالساذج أسلم منه، أو؛ لأنه لإصابة الحق إن شاء الله ناج من الخطر، هذا موضع نظر، والذي كنت أفهمه عن الوالد أن السلامة في السكوت، وأن الدخول في التفضيل بين هذين الصنفين الكريمين على الله بلا دليل قاطع دخول في خطر

ص: 304

ثم الملائكة بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم الروح الأمين جبريل، المزكى من رب العالمين، المقول فيه من ذي العزة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20] فوصفه بسبع صفات، وهو أفضل الملائكة الثلاثة -الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق- وهم: ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.

عظيم، وحكم في مكان أسنا أهلًا للحكم فيه، وجاءت أحاديث مشيرة إلى عدم الدخول في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوني على يونس بن متى"، ونحوه، ولا خلاف أنه أفضل منه، فلعله إشارة إلى أنكم لا تدخلوا في أمر لا يعنيكم، وما للسوقة والدخول بين الملوك، أعني بالسوقة أمثالنا، وبالملوك الأنبياء والملائكة انتهى.

وقد بسط في الحبائك المسألة، "ثم إن الملائكة بعضهم أفضل من بعض" فأعلاهم درجة حملة العرش، الحافون حوله، فأكابرهم كالأربعة، فملائكة الجنة والنار، فالموكلون ببني آدم، فالموكلو بأطراف هذا العالم، كذا ذكر الرازي، "وأفضلهم الروح الأمين جبريل المزكى" صفة بمنزلة التعليل، كأنه قال: لأنه المزكى "من رب العالمين، المقول فيه من ذي العزة" سبحانه {إِنَّهُ} أي: القرآن، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} على الله، أضيف إليه القرآن بنزوله به {ذِي قُوَّةٍ} أي: شديد القوة، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} أي: الله {مَكِينٍ} ذي مكانة {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: تطيعه الملائكة في السماوات، وثم إما متعلقة بمطاع، أو بقوله:{أَمِينٍ} [التكوير: 20] ، على الوحي، "فوصفه بسبع صفات" على ما قاله الزمخشري، وهو ظاهر بجعل عند ذي العرش صفة مستقلة لا متعلقة بما قبلها ولا بما بعدها، وعدها الرازي سنة، فجعلها متعلقة بقوله:{ذِي قُوَّة} ، "وهو أفضل الملائكة الثلاثة الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق، وهم ميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل" كما قال كعب الأحبار: جبريل أفضل الملائكة، نقله النعماني، وكأن هذا لم يصح عند السيوطي، فقد قال في الحبائك: سئلت هل الأفضل جبريل، أو إسرافيل؟، والجواب: لم أقف على نقل في ذلك لأحد من العلماء والآثار متعارضة، فحديث الطبراني عن ابن عباس، مرفوعًا: ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل، وأثر وهب أن أدنى الملائكة من الله جبريل، ثم ميكائيل، يدل على تفضيل جبريل، وحديث ابن مسعود، مرفوعًا:"أن أقرب الخلق من الله إسرافيل، صاحب الصور، جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره".

وحديث عائشة، مرفوعًا:"إسرافيل ملك الله، ليس دونه شيء"، وأثر كعب: أن أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل، وأثر الهذلي ليس شيء من الخلق أقرب إلى الله من إسرافيل.

وحديث ابن أبي جبلة: "أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل"، وأثر ابن سابط: "يدبر أمر الدنيا

ص: 305

وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض، ومحمد صلى الله علي وسلم أفضل الأنبياء والرسل، كما تقدم.

وأول الأنبياء آدم وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

فأما نبوة آدم فبالكتاب الدال على أنه قد أمر ونهي، مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا السنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرًا.

أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، إلى أن قال: وأما إسرافيل، فأمين الله بينه وبينهم، أي: وبين الثلاثة، وأثر خالد بن أبي عمران وإسرافيل بمنزلة الحاجب، كل ذلك يدل على تفضيل إسرافيل انتهى.

"وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء" الذين ليسوا برسل لزيادتهم بالرسالة، والأنبياء بعضهم أفضل، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] .

قال الإمام الرازي: أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وأن محمدًا أفضل الكل، "وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض" بنص الآية، "ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والرسل" نصًا وإجماعًا، "كما تقدم" قريبًا، ويليه إبراهيم، كما نقل بعضهم عليه الإجماع، وفي الصحيح: خير البرية إبراهيم، خص منه المصطفى، فبقي على عمومه، كذا في النقاية.

وقال التفتازاني في شرح المقاصد: اختلف في الأفضل بعد المصطفى، فقيل: آدم لكونه أبا البشر، وقيل: نوح لطول عبادته ومجاهدته، وقيل: إبراهيم لزيادة توكله واطمئنانه، وقيل: موسى لكونه كليم الله ونجيه، وقيل: عيسى لكونه روح الله وصفيه. انتهى.

وجزم ابن كثير في تاريخه؛ بأن إبراهيم أفضل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم.

"وأول الأنبياء آدم" أي: والرسل أيضًا، فالصحيح أنه مرسل إلى بنيه، كما دل عليه حديث أبي ذر، "وآخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فأما نبوة آدم فالبكتاب الدال على أنه قد أمر" بنحو: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، "ونهى" بنحو:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} ، "مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا السنة" دلت على نبوته، كحديث أبي ذر الآتي، "والإجماع" من الأمة عليها، "فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرًا" لمخالفة الإجماع والنص.

ص: 306

وقد اختلف في عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك ما في حديث أبي ذر عند ابن مردويه في تفسيره، قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال:"مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال:"ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قال قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال:"آدم"، قال صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيت ونوح وخنوخ -وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم-، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر"،

"وقد اختلف في عدد الأنبياء، والمرسلين، والمشهور في ذلك ما في حديث أبي ذر عند ابن مردويه في تفسيره" وعبد بن حميد، والحاكم في المستدرك، وابن عساكر، والحكيم الترمذي في النوادر.

"قال" أبو ذر: "قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قال: قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟، قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر" هم "جم" أي: جمع "غفير" أي: كثير، "قال: قل: يا رسول الله من كان أولهم"؟ أي: الرسل، "قال: "آدم"، قال صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث" ابنه "ونوح وخنوخ" بفتح المعجمة، وضم النون، وسكون الواو، ثم معجمة، بوزن ثمود عند الأكثر، وقيل: بزيادة ألف في أوله، وسكون المعجمة الأولى، وقيل: كذلك، لكن بحذف الواو، وقيل: كذلك، لكن بدل الخاء الأولى هاء، وقيل: كالثاني، لكن يدل المعجمة مهملة، "وهو إدريس" سرياني، وقيل: عربي مشتق من الدراسة، لكثرة درسه الصحف، ولا يمنع الحديث كون لفظ إدريس عربيًا، إذا ثبت أن له اسمين، "وهو أول من خط بالقلم" وذكر ابن إسحاق؛ أن له أوليات كثيرة، منها أنه أول من خاط الثياب، ذكره كله الحافظ، "وأربعة من العرب: هود" بن عبد الله بن رباح بن حرث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وسماه في التنزيل أخا عاد، لكونه من قبيلتهم، لا من جهة أخوة الدين، هذا هو الراجح في نسبه، وأما ابن هشام، فقال اسمه عابر بن أرفخشد بن سام، "وصالح" بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام، "وشعيب" بن سليل بن يشجن بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم، وقيل: شعيب بن صفور بن عنقاء بن ثابت بن مدين، وقول ابن إسحاق: يشجن بن لاوى بن يعقوب لا يثبت، "ونبيك" محمد صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر"، ففي هذا الحديث؛ أن شعيبًا من العرب العارية، وقيل: إنه من بني عنزة بن أسد، ففي حديث سلمة بن سعيد العنزي؛ أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فانتسب إلى عنزة، فقال: نعم الحي عنزة، مبغي عليهم، منصورون، رهط شعيب، وأختان موسى، أخرجه الطبراني، وفي أسانيده مجاهيل.

"وأول نبي من بني إسرائيل موسى" قد يستشكل هذا، بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن

ص: 307

"وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك يا أبا ذر"، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان في كتابه "الأنواع والتقاسيم" وقد وسعه بالصحيح.

وخالفه ابن الجوزي فذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام.

قال الحافظ بن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث، والله أعلم.

وروى أبو يعلى عن أنس مرفوعًا: "كان من خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله تعالى على أسمائهم في القرآن: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، وموسى وهارون ويونس، وداود وسليمان

قَبْلُ بِالْبَيِّنَات} [غافر: 34]، سواء قلنا: إنه ابن يعقوب، أو ابن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، وكلاهما قبل موسى، وهما من بني إسرائيل، الذي هو يعقوب، إلا أن يقال: المعنى أول نبي أمر جميع من يأتي من أنبيائهم بعده باتباع شرعه والدعاء إليه.

"وآخرهم عيسى، وأول النبيين" على الإطلاق "آدم، وآخرهم نبيك يا أبا ذر". "وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم" محمد "بن حبان" بكسر المهملة وشد الموحدة، "في كتابه الأنواع والتقاسيم، وقد وسعه بالصحيح" وكذا صححه الحاكم، "وخالفه ابن الجوزي، فذكره في الموضوعات، واتهم به إبراهيم بن هشام" الغساني.

"قال الحافظ ابن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه" أي: إبراهيم، "غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث" فقال أبو حاتم: إنه غير ثقة، وكذبه أبو زرعة الرازي، "والله أعلم" بصحته في نفس الأمر وعدمها.

"وروى أبو يعلى" وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف، "عن أنس، مرفوعًا: "كان من خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي" لا يعارض ما قبله بفرض صحتهما؛ لأن الأخبار بالأقل لا ينافي الأكثر لدخوله فيه، ولعله أوحى إليه بهذا، فأخبر به، ثم بالأول، وما ينطق علن الهوى، "ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله على أسمائهم في القرآن: وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق" ولذا إبراهيم،

"ويعقوب" بن إسحاق، "ويوسف" بن يعقوب، وكذا حفيده يوسف بن أفرايم بن يوسف في قوله:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَات} ، في أحد القولين، والثاني: أنه ابن يعقوب، وحكى النقاش والماوردي؛

ص: 308

وإلياس واليسع، وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين والله أعلم.

قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} .

روى ابن جرير من حديث أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل

أنه رسول من الجن بعث إليهم، قال السيوطي: وهو غريب جدًا، "وأيوب".

قال ابن إسحاق: والصحيح أنه من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أبيض.

وقال ابن جرير: هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق.

وحكى ابن عساكر: أن أمه بنت لوط، وأن أباه آمن بإبراهيم، فعلى هذا كان قبل موسى، وقال ابن جرير: كان بعد شعيب.

وقال ابن أبي خيثمة: بعد سليمان ابتلى وهو ابن سبعين سنة سبع وسنين، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: ثلاث سنين.

وروى الطبراني: أن مدة عمره ثلاث وتسعون سنة.

"وشعيب، وموسى، وهارون" أخوه، شقيقه، وقيل: لأمه، وقيل: لأبيه، حكاهما الكرماني في عجائبه، "ويونس، وداود، وسليمان" ابنه، "وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى" ولده، "وعيسى" ابن مريم، "وكذا ذو الكفل" نبي، "عند كثير من المفسرين" وقيل: هو ابن أيوب في المستدرك.

عن وهب: بعث الله بعد أيوب ابنه بشرًا نبيًا، وسماه ذا الكفل، وأمره بالدعاء إلى توحيده، وكان مقيمًا بالشام عمره حتى مات، وعمره خمس وستون سنة، وكفل مائة نبي، فروا إليه من القتل، وتكفل بصيام جميع النهار، وقيام جميع الليل، وأن يقضي بين الناس، ولا يغضب، فوفى بذلك، وقيل: هو إلياس، وقيل: يوشع، وقيل: زكريا، وقيل: اليسع، وإن له اسمين، وقيل: اسمه ذو الكفل، وقيل: لم يكن نبيًا، بل رجلًا صالحًا يتكفل بأمور فيوفي بها، "والله أعلم" بذلك.

ومن جملة المختلف في نبوته لقمان وذو القرنين، وكذا الخضر، لكن لم يفصح باسمه في القرآن.

"قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الإنشراح: 4] ، واستأنف بيانيًا، فقال: "روى ابن جرير" محمد الطبري، الحافظ، أحد الأعلام في تفسيره، وأبو يعلى، والطبراني "من حديث أبي سعيد" الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل، فقال: إن ربي وربك" المحسن إلي

ص: 309

"فقال: إن ربي وربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي". وذكره الطبراني، وصححه ابن حبان.

وإليك، بجليل التربية، المزكي لي ولك بجميل التزكية، وإضافة رب للتشريف، فكما تفيده إضافة العبد إليه تعالى تشريفه، فكذا إضافته إليه تعالى تفيده، بل ذلك أقوى إفادة له، "يقول": زاد في رواية لك تنبيهًا على كمال العناية، ومزيدًا لوجاهة عنده والرعاية، "تدري" استفهام حذفت أداته تخفيفًا لكثرة وقوعها فيه، وفي رواية: أتدري بإثباتها، وهو غير حقيقي لاستحالته على علام الغيوب، بل تقريري ليقر بعدم علمه، فيعلمه من لدنه أي: أتدري جواب "كيف" أي: على أي: حال، ومعنى "رفعت ذكرك" وكيف في محل نصب حال من المفعول على القاعدة المشهورة، إن وقعت بعد كلام تام فحال، وإلا فخبر، وليست منصوبة بتدري؛ لأن لها الصدر، فتدري معلق عن الجملة بعده، كقوله:

وما أدري وسوف أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وزعم أن كيف خرجت عن الاستفهام، أي: أتدري كيفية الرفع، وهذا من الانبساط مع المحبوب لأجل زيادة اتوجه والانتظار، نكتة أعجمية مع أن لفظ كيفية لم تسمع من العرب، كما صرح به أهل اللغة.

"قلت": وفي رواية: فقلت: "الله أعلم"، وكان هذا إخبار من جبريل عما وقع من المخاطبة بينه وبين الله قبل نزوله، والله عالم بأنه يجيب برد العلم إليه، فكأنه قال: إذا أجابك فقل، "قال: إذا ذكرت" "بضم التاء، والضمير لله" "ذكرت" "بفتحها" خطاب للمصطفى والفعل مجهول فيهما.

وفي رواية: لا أذكر إلا ذكرت "معي" بصيغة الحصر، وأي: رفع أعظم من ذلك، وأفادت هذه الرواية الثانية؛ أن الحصر هو المراد في الأولى، أي: إذا ذكرت، فاللائق أو المطلوب أن تذكر معي، فمن لم يذكرك ترك المطلوب، وفيه رد العلم إلى الله، ورد على من كرهه مطلقًا أو عقب ختم نحو الدرس، ولا إيهام فيه خلافًا لزاعمه، بل هو في غاية التفويض المطلوب، وقد قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقال علي: ما أبردها على كبدي، إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم، ولا يعارضه ما في البخاري؛ أن عمر سأل الصحب عن سورة النصر، فقالوا: الله أعلم، فغضب، وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم؛ لأنه فيمن جعل الجواب به ذريعة إلى عدم إخباره عما سئل عنه، وهو يعلم، وفي المعالم أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن الآية، فقال: قال الله، فكأنه بعد السؤال جاء وقال:{إِنَّ رَبِّي} إلخ، وقوله: قال الله، نقل بالمعنى، هكذا قال بعض المحققين، ثم قد وقع في بعض نسخ الشفاء: الله ورسوله أعلم،

ص: 310

وروينا عن الإمام الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح: معناه لا أذكر إلا ذكرت معي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، قال الإمام الشافعي يعني -والله أعلم- ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، قال: ويحتمل أن يكون المراد ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية انتهى.

وقيل: رفعه بالنبوة، قاله يحيى بن آدم الكوفي.

فإن صحت رواية، فالمراد به جبريل؛ لأنه من رسل الملائكة، يرسل بالوحي للأنبياء والرسل، وتفضيله عليه في خصوص هذا العلم؛ لأنه علمه قبل أن يبلغه إليه.

"وذكره" أي: رواه أيضًا "الطبراني" سليمان بن أحمد، وإسناده حسن، وفي نسخة الطبري: ولا فائدة فيها، إذ هو ابن جرير الذي نسبه له أولًا، "وصححه ابن حبان" وكذا صححه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة.

"وروينا عن الإمام الشافعي، قال: أخبرنا ابن عيينة" سفيان، "عن" عبد الله "بن أبي نجيح" بفتح النون وكسر الجيم وحاء مهملة، يسار المكي، أبي يسار الثقفي، مولاهم، ثقة، من رجال الجميع، ورمي بالقدر، وربما دلس، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة أو بعدها، "معناه" أي: ورفعنا لك ذكرك، "لا أذكر" مجهول المتكلم، "إلا ذكرت" مجهول المخاطب "معي" في قول "أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" وفي التفسير بهذا إشارة إلى أن الحصر هو المراد بما قبله.

"قال الإمام الشافعي، يعني والله أعلم، ذكره عند الإيمان" بالله تعالى، "وفي الأذان" كما أشار له ابن أبي نجيح، فلا يرد على الحصر، أن الكافر كثيرًا ما يذكر الله وحده، بل والمؤمن كثيرًا ما يقول: لا إله إلا الله مقتصرًا عليها، وكثيرًا ما يذكر الله، ولا يطلب ذكره صلى الله عليه وسلم كسمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، والتسمية في الوضوء والأكل والشرب.

"قال" الشافعي: "ويحتمل أن يكون المراد ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية" بأن يتذكر في نفسه؛ أن فعلها والكف عن ضده سببه تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الثواب الحاصل للمطيع، والعقاب الحاصل للعاصي، فيصلي عليه جزاء لتبليغه، وتحمل أعباء الرسالة. "انتهى" قول الشافعي.

"وقيل" معناه: "رفعه بالنبوة" الخاصة، وهي رسالته إلى جميع الخلائق، وبقاء شرعه إلى يوم الدين، وكونها رحمة للعالمين، فلا يرد أن وصف النبوة شاركه فيه الأنبياء، فلا يكون مرفوعًا بها عليهم، أو المراد بها سبقه بالنبوة جميع الأنبياء، وكونه أول الأنبياء في الخلق، أو على من

ص: 311

وعن ابن عطاء: جعلتك ذكرًا من ذكري، فمن ذكرك ذكرني، وعنه أيضًا: جعلت تمام الإيمان بذكري معك.

وعن جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية.

في عصره، والفضل للمتقدم، "قاله يحيى بن آدم" بن سليمان، "الكوفي" أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقة، حافظ، فاضل، روى عنه أحمد وغيره، وروى له الستة، ومات سنة ثلاث ومائتين.

"وعن ابن عطاء" بلا إضافة، هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء البغدادي، الزاهد، الآدمي:"بفتحتين" نسبة إلى بيع الأدم، له لسان في فهم القرآن، يختص به صحب الجنيذ وغيره، ومات سنة تسع أو إحدى عشرة وثلاثمائة.

"جعلتك" أي: ذكرك "ذكرًا من ذكري" أو جعلت ذاتك مبالغة حتى كان من رأى ذاته ذكر الله، أو المعنى كان ذكرك عين ذكري، لعدم انفكاكه عنه غالبًا، أو هو مثله في التقرب به والأجر، أو هو معدود من أفراده؛ لأن كل مطيع لله ذاكره، "فمن ذكرك ذكرني" الفاء تفسيرية، أو تفريعية، "وعنه أيضًا: جعلت تمام الإيمان بذكري معك" وفي نسخة من الشفاء: بذكرك معين وهذه واضحة، والأولى مخالفة لقاعدة أن مع تدخل على المتبوع غالبًا، وقد تجيء لمطلق المصحابة، كما هنا، أي: جعلته يحصل بذكر الله مصحوبًا بذكره عليه السلام، بأن يأتي بالشهادتين على الوجه المعروف، وجعله تمام الإيمانن إما؛ لأن الإيمان عنده تصديق القلب واللسان، كما هو قول لأهل السنة، وأما من يقول مجرد التصديق، فباعتبار أنه لا يعتد به بدونه، ولا تترتب عليه الأحكام، ما لم يأت به لسانًا.

"وعن جعفر بن محمد" الباقر بن علي زين لعابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، "الصادق" صفة لجعفر لصدقه في مقاله أبي عبد الله الهاشمي، ففي، إمام، صدوق، روى له مسلم، وأصحاب السنن، ومات سنة ثمان وأربعين ومائة، "لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية" صيغة مصدر من الرب، والياء للمصدرية، فلا بد معها من تاء التأنيث، يعني لا يعترف أحد برسالتك إلا بعد أن يعترف بربوبية الله ووحدانيته، لوجوب معرفة الله عقلًا قبل ذلك، لئلا يلزم الدور، كما ذهب إليه الماتريدية، أو سمعًا، كما ذهب إليه غيرهم، وقيل: المراد أو أراد ذلك، أو عبر بالماضي عن المضارع مبالغة في تحقق وقوعه، ولا يشكل الأول بعدم مقارنة الحال للعامل، لتقدم الإيمان بالله، أو إرادته على الإيمان بالرسول، وأما التلفظ بما يدل على ذلك، فذكره عقبه بلا فاصل بعده، مقارنًا عرفًا، ومثله يكفي عند النحاة، فلا حاجة لجعل الحال مقدرة، ودعوى عدم اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك مدفوعة، بأن هذه المقارنة في الأذان، والإقامة والخطب، والصلاة والإيمان، وهذا كله مختص بهذه الأمة، فتختص المقارنة على هذه الصفة

ص: 312

قال البيضاوي: وأي رفع مثل أن قرن اسمه باسمه في كلمتي الشهادة، وجعل طاعته طاعته، انتهى، يشير إلى قوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه} ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} [آل عمران: 132] .

وقول قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله انتهى.

بنبيها لاختصاصها به، دون من عداه من الأمم والرسل، وهذا في غاية الظهور.

"قال البيضاوي: وأي: رع مثل أن قرن اسمه باسمه في كلمتي الشهادة، وجعل طاعته طاعته"، وصلى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة، وخاطبه بالألقاب، وإنما زاد ذلك ليكون أيها ما قبل إيضاح، فيفيد المبالغة. "انتهى" كلام البيضاوي بما زدته، فاقتصر المصنف على حاجته منه هنا لأجل شرحه بقوله.

"يشير" البيضاوي "إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فجعل طاعته طاعته، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين؛ ولأن الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه، أو؛ لأن التقدير، والله أحق أن يرضوه والرسول، كذلك قاله في الأنوار.

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} [آل عمران: 132] ؛ لأنه بمعنى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُول} ، فجمع بينهما بواو العطف المشتركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه الصلاة والسلام، قاله عياض، واعترض المشركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه الصلاة والسلام، قاله عياض، واعترض بأنه لا مانع أن يقال: أطع الله، والقاضي كقوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] الآية، حتى قال بعض: إنه وهم، وما أظن أحدًا منعه، وأجيب بأنه أراد أنه منهي عنه تنزيهًا وأد بالورود الحديث، بما يدل على رعاية الأدب في اللفظ، وترك ما يوهم خلافه، وأطلق نفي الجواز اعتمادًا على تصريح الخطابي وغيره بالكراهة، ولا دلالة في آية:{وَأُولِي الْأَمْر} ، لاحتمال الجواز بالتبعية، ولذا لم يكرر أطيعوا مرة أخرى، كما لم تكرر اللام في عامتهم في حديث:"الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".

"و" يشير إلى "قول قتادة" بن دعامة، عند ابن أبي حاتم، والبيهقي، "رفع الله ذكره" صلى الله عليه وسلم "في الدنيا والآخرة، فليس خطيب" يخطب على جهة الكمال، وفي الحديث:"كل خطبة ليس فيها شهادة، فهي كاليد الجذماء"، "ولا متشهد" أي: آت بكلمة الشهادة في غير الخطبة والصلاة، "ولا صاحب صلاة" المراد بها الفرد الكامل المتبادر، فلا ترد صلاة الجنازة، "إلا

ص: 313

فهو مذكور معه في الشهادة والتشهد، ومقرون ذكره بذكره في القرآن والخطب والآذان، ويؤذن باسمه في موقف القيامة.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رفعه: "لما نزل آدم عليه السلام بالهند استوحش فنزل له جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين"، الحديث.

يقول" مستثنى من أعم الأحوال، أي: ليس في حال من الأحوال إلا قائلًا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. انتهى" قول قتادة.

وأورد أن أمر الآخرة لا يعلم بالمقايسة، فرفع ذكره في الدنيا لا يستلزم رفعه في الآخرة، وأجيب؛ بأهنه أخذه من إطلاق الآية، والحديث:"ورفع ذكره في الدنيا عنوان رفعه في الأخرى"، ووجه التفريع، أن من رفع ذكره في الدارين حقيق بأن يشهد له بذلك، فهو بيان لبعض الأحوال التي تفعل في الدنيا، وليس فيها شيء من أحوال الآخرة، وإن شمله قوله في الدنيا والآخرة لما ذكره ولغيره، فيندرج فيه ما يفعل في الآخرة، "فهو مذكور معه" تفريع على قول قتادة، "في الشهادة" دخولًا في الإيمان، وثناء عليه بعده، "والتشهد"؛ لأن الشهادة من جملة ألفاظه الواردة فيه، سواء كان بلفظ حديث ابن مسعود:"أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله"، أو بلفظ حديث غيره:"وأن محمدًا رسول الله"، "ومقرون ذكره بذكره في القرآن" أي: مصاحب له، فالمقارنة المصاحبة، كما قيل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

"والخطب" الشرعية الكاملة، "والأذان، ويؤذن باسمه في موقف القيامة" إظهار الرفعة قدرة في ذلك الموطن.

روى ابن زنجويه عن كثير بن مرة الخضرمي، مرفوعًا:"يبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي على ظهرها بالأذان، فإذا سمعت الأنبياء وأممها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قالوا: ونحن نشهد على ذلك".

"وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رفعه: "لما نزل آدم عليه السلام بالهند استوحش": حصل له وحشة لانفراده، "فنزل له جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين"، الحديث ورواه أيضًا الحاكم وابن عساكر، وحكمة ذلك التنويه باسمه في عهد آدم، ومصاحبته لاسم الله، وأن الأذان ينفع المستوحش الحزين.

ص: 314

وكتب اسمه الشريف على العرش، وعلى كل سماء، وعلى الجنان، وما فيها.

رواه ابن عساكر.

وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعًا: "لما عرج بي إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوبًا: محمد رسول الله".

وفي الحلية عن ابن عباس رفعه: "ما في الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله لا الله محمد رسول الله".

وأخرج الطبراني من حديث جابر مرفوعًا: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وعزاه الحافظ ابن رجب في كتاب

وقد روى الديلمي عن علي: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينًا، فقال:"يا ابن أبي طالب ما لي أراك حزينًا، فمر بعض أهلك يؤذن في أذنك، فإنه دواء للهم، فجربته فوجدته كذلك"، وقال كل من رواته: جربته، فوجدته كذلك.

"وكتب اسمه الشريف على العرش"، أي: على ساقه، كما قدمه في الأسماء، أي: قوائمه.

ولابن عدي: لما عرج بي، رأيت مكتوبًا على ساق العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله أيدته بعلي.

"وعلى كل سماء" أي: السماوات السبع، "وعلى الجنان وما فيها" من قصور وغرف، وعلى نحور الحور العين، ورق شجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، "رواه ابن عساكر" عن كعب الأحبار، وهو من الإسرائيليات، وقيل: إنه موضوع، وقدمه في الأسماء والمعجزات، وأعاده هنا لبيان رفع الذكر.

"وأخرج البزار عن ابن عمر، مرفوعًا: "لما عرج بي إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوبًا محمد رسول الله"، وكتب مع أنه مشهور في السماوات بأحمد أكثر ليحصل به الرد ممن علم ذلك على منكري رسالته، وإنما يعرف بينهم بمحمد دون أسمائه.

"وفي الحلية عن ابن عباس، رفعه: "ما في الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها" أي: الورقة، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وكل من هذين شاهد وبيان لقوله في حديث كعب:"على كل سماء وعلى الجنان".

"وأخرج الطبراني من حديث جابر، مرفوعًا: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

ويروى عن عبادة بن الصامت، مرفوعًا عند الطبراني أيضًا: أن فص خاتم سليمان بن داود

ص: 315

أحكام الخواتيم لجزء أبي علي الخالدي، وقال: إنه باطل موضوع.

وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان:

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسمًا، كما بينت ذلك في أسمائه صلوات الله وسلامه عليه، وصلى عليه في ملائكته، وأمرالمؤمنين بالصلاة عليه، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فأخبر عبادة بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر

كان سماويًا، ألقى إليه، فوضعه في أصبعه، وكان نقشه: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، "وعزاه" أي: نسبه "الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن "في كتاب أحكام الخواتيم لجزء أبي علي الخالدي، وقال: إنه باطل موضوع" وتعقب بأنه شديد الضعف لا موضوع، "وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان" بن ثابت، "وشق" بالبناء للفاعل، عطفًا على قوله قبل:

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

أي: أخذ "له" اسمًا، حروفه "من اسمه ليجله"، ليعظمه

"فذو العرش محمود، وهذا محمد، وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسمًا كما بينت ذلك في أسمائه صلوات الله وسلامه عليه" من المقصد الثاني، "وصلى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة" والتسليم "عليه" من جملة ما رفع به ذكره، "فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} ، اختلف المفسرون وغيرهم في أن الواو عائدة على الله تعالى وملائكته، أو على ملائكته فقط، وخبر الجلالة محذوف، أي: أن الله يصلي وملائكته يصلون، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون لعلة التشريك، حكاه عياض، أي: التسوية بين الله وملائكته في لفظ واحد، وهو ضمير الواو لما فيه من عدم رعاية التعظيم {عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] خصه بالتأكيد وتنوين التعظيم، أي: تسليما، عظيما، تعريضا لمن لم يسلم، أو؛ لأن المراد تسليما لا كتسليم غيره من الأمة، والصلاة لا يشاركه فيها الأمة، فيفهم منها في نفسها التعظيم بلا تأكيد، أو؛ لأن التسليم لم يثبت لله والملائكة، فهو في معرض المساهلة في الجملة، "فأخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ العلى؛ بأنه يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تصلي

ص: 316

العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا.

وكتبه نبيًا وآدم بين الروح والجسد، وختم به النبوة والرسالة، وأعلن بذكره الكريم في الأولين والآخرين، ونوه بقدره الرفيع حين أخذ الميثاق على جميع النبيين، وجعل ذكره في فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع على المنابر، وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر، ونشر ذكره في الآفاق شرقًا وغربًا، بحرًا.

عليه، ثم أمر العالم السفلي" أي: المؤمنين، "بالصلاة والتسليم عليه" وكل ذلك إبانة لفضله، ورفعًا لذكره، "فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين": بفتح اللام والميم، تثنية العالم "العلوي، و" والعالم "السفلي جميعًا"، وقد أورد على هذا؛ أن المؤمنين شاركوه في ذلك، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] الآية، ومثله كثير في الأحاديث، كحديث:"إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف"، وأجيب؛ بأن الآية الأولى نزلت أولًا من غير مزاحم فيها، مع التأكيد بأن والاسمية، وتمييزه بمجموع ما ذكر، فبان بها فضله، ورفعه على غيره.

وقد أخرج عبد بن حميد عن مجاهد، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} ، قال أبو بكر: يا رسول الله ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركنا فيه، فنزلت:{هوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} .

وقال الإمام الرازي: صلاة الملائكة على المؤمنين بطريق التبعية لصلاته تعالى عليهم، فتأخر ذكرها، وصلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الأصالة، ففيها تفضيله على غيره، كما إذ قيل يدخل فلان وفلان، فإنه يدل على تقديم الأول، بخلاف فلان وفلان يدخلان. انتهى، ولا يرد بأن الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب؛ لأن ملحظه؛ أن التقديم الذكري يشعر بالاهتمام، والتقديم لا من حيث الواو.

"وكتبه نبيًا وآدم بين الروح والجسد" كما مر مبسوطًا في المقصد الأول، "وختم به النبوة والرسالة" فلا نبي بعده، ولا رسول، "وأعلن بذكره الكريم" أي: أظهره "في الأولين والآخرين، ونوه" رفع "بقدره الرفيع" العالي، "حين أخذ الميثاق على جميع النبيين" كما قال:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] ، "وجعل ذكره في فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع" بالصاد المهملة والقاف، الخطباء الفصحاء البلغاء، جمع مصقع بكسر الميم، "على المنابر" جمع منبر من النبر، وهو الارتفاع، "وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر" جمع محبرة بفتح الميم والباء، أو فتحها وضم الباء، أو كسرها وفتح الباء؛ لأنه آلة،

ص: 317

وبرًا، حتى في السماوات السبع وعند المستوى وصريف الأقلام، والعرش والكرسي، وسائر الملائكة المقربين من الكروبين والروحانيين والعلويين والسفليين، وجعله في قلوب المؤمنين بحيث يستطيبون ذكره فترتاح أرواحهم، وربما من طرب سماع اسمه أشباحهم.

وإذا ذكرتم أميل كأنني

من طيب ذكركم سقيت الراحا

كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم يتمسكون في الفريضة بأمري، وفي السنة بأمرك، وجعلت طاعتي طاعتك، وبيعتي بيعتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك،

أجودها الأولى، "ونشر ذكره في الآفاق" النواحي "شرقًا وغربًا، بحرًا وبرًا، حتى في السموات السبع، وعند المستوى، وصريف الأقلام" تصويتها، "والعرش، والكرسي، وسائر": بمعنى جميع "الملائكة المقربين من الكروبين"، بالتخفيف، سادة الملائكة، "والروحانيين""بفتح الراء وضمها"، "والعلويين"، أي: الملازمين للسماوات، "والسفليين" من عداهم كالموكلين بحفظ بني آدم ومصالحهم، "وجعله في قلوب المؤمنين بحيث يستطيبون ذكره" ويتلذذون به، "فترتاح أرواحهم، وربما تميل من طرب سماع اسمه أشباحهم" أجسادهم، وأنشد لغيره قوله:

وإذا ذكرتم أميل كأنني

من طيب ذكركم سقيت الراحا

قال المجد: الراح: الخمر، كالرياح "بالفتح" والارتياح؛ "كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله" علويه وسفليه، "من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك" وقد قال:"إلا أني أوتيت الكتاب"، ومثله معه، الحديث رواه أحمد وأبو داود، "بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة" مما سنه، كتكبيرة الإحرام معها رفع اليدين، والفاتحة معها السورة، وهكذا "فهم يتمسكون في الفريضة بأمري، وفي السنة بأمرك"؛ لأنه من أمري، "وجعلت طاعتي طاعتك" في نحو قولي:"من يطع الرسول فقد أطاع الله"، "وبيعتي بيعتك" إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، وأتى بهما على القلب للمبالغة، "فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك" على اختلاف القراءات الواردة عنك متواترة وغيرها، ويوجهون ما قد يخفى من جهة اللسان بأوجه متعددة، أو وجه هؤلاء هم القراء.

"والمفسرون يفسرون معاني فرقانك" بما ورد عنك، وعن أصحابك، وتابعيهم، وما

ص: 318

والوعاظ يبلغون بليغ وعظك، والملوك والسلاطين يقفون في خدمتك ويسلمون عليك من وراء الباب، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين.

وقال تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2] .

اعلم أن للمفسرين في قولين، أحدهما: أنها من حروف التهجي، والثاني أنها كلمة مفيدة.

وعلى القول الأول: قيل معناها، يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملة، وقيل:"الطاء" في الحساب بتسعة والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشرة، ومعناها: يا أيها البدر، وهذه الأقوال لا يعتمد عليها إذ هي، كما قال المحققون،

استنبطوه من اللغة، واستخرجوه من علوم البلاغة، "والوعاظ" المذكرون، "يبلغون بليغ وعظك" من إضافة الصفة للموصوف، أي: وعظك البليغ، "والملوك والسلاطين يقفون في خدمتك، ويسلمون عليك من وراء الباب" ادبًا واحتشامًا، "ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين" على ذلك الفضل العظيم.

"وقال تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2] من الشفاء والتعب، أو الشقاوة على ما يأتي.

"اعلم أن للمفسرين في قولين أحدهما: أنها" أي: هذه اللفظة، وإلا فهي حرفان، "من" أسماء "حروف التهجي والثاني: أنها كلمة مفيدة" أي: مركبة، لا مقطعة، من أسماء حروف التهجي.

"وعلى القول الأول: قيل معناها" الذي أريد بها، "يا مطمع"، بزنة مقعد "الشفاعة للأمة" أي: يا من هو محل تطمعها في الشفاعة لها، "ويا هادي الخلق إلى الملة"، يحتمل أن الاسم مركب من مجموع النداءين، وأن كل واحد منهما مسمى لمجموع الطاء والهاء، ومقتضى قول عياض، وقيل: هي حروف مقطعة لمعان الأول، فالطاء للأول، والهاء للثاني.

"وقيل: الطاء في الحساب بتسعة، والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشر، ومعناها: يا أيها البدر" ذكره معرفًا باللام، إشارة إلى أنه الكامل المنير، السالم من العوارض، "وهذه الأقوال" استعمل الجمع في اثنين؛ لأنه الذي قدمه بناء على أنهما أقله، فهو حقيقة، أو مجاز من استعمال الكل في البعض، بناء على أن أقله ثلاثة "لا يعتمد عليها، إذ هي، كما قال

ص: 319

من بدع التفسير، ومثلها قول الواسطي، فيما حكاه القاضي عياض في "الشفاء"، أراد: يا طاهر يا هادي.

وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: أحدهما، أن معناه: يا رجل، وهو مروي عن ابن عباس الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة. قال سعيد بن جبير: بلسان النبطية، وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشة. وقال البيضاوي: إن صح أن معناه: يا رجل فلعل أصله: يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار، انتهى.

قال الكلبي: لو قلت في "عك" يا رجل، لم يجبك حتى تقول: طه.

المحققون من بدع" بكسر، فسكون، أي: غريب "التفسير" الذي لا سند له سوى هذا التوهم العقلي.

وفي نسخة المفسرين: والمعنى واحد، وتجوز قراءته بفتح الدال، جمع بدعة، اسم من الابتداع، وهو الاستخراج والأحداث بلا أصل.

"ومثلها قول الواسطي" أبي بكر محمد بن موسى، الإمام العارف، من كبار أتباع الجنيد، "فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء: أراد يا طاهر، ويا هادي" فالطاء من طاهر، والهاء من هادي، وقيل: الطاء قول القراءة، والهاء هيئاتها، وقيل: طوبى والهاوية، وقيل: قسم بطوله وهدايته عليه السلام، وهي أيضًا من البدع، وقيل: طه اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وقيل: من أسماء الله، حكاهما عياض والمصنف في المقصد الثاني، قائلًا: المعتمد أنها من أسماء الحروف.

"وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: "أحدهما: أن معناه يا رجل" أي: معناه رجل، وحرف النداء مقدر معه، "وهو مروي عن ابن عباس" عند البيهقي، "والحسن" البصري، "ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعكرمة" والكل من التابعين المفسرين.

"قال سعيد بن جبير بلسان النبطية" أي: المنسوبة إلى النبط، قوم كانوا ينزلون سواد العراق، "وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشة" ولا يشكل عليهم قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] ؛ لأن المراد عربي الأسلوب، لا الكلمات، أو هو اسم للجملة، وهي كثيرة، فلا يخرجه لاشتماله وبينهما؛ لأنه لا يلزم من نزوله بها؛ أن جميعه بلغته الجواز اشتهار تلك اللغة في تلك الأماكن، "وقال البيضاوي: إن صح أن معناه يا رجل، فلعل أصله يا هذا، فتصرفوا فيه بالقلب" للياء طاء، والاختصار" أي: الاقتصار على الهاء من هذا. "انتهى".

"قال الكلبي: لو قلت في عك" بفتح العين وشد الكاف، قال الجوهري: هو عك بن

ص: 320

وقال السدي: معنى طه يا فلان.

وقال الزمخشري: لعل "عكا" تصرفوا في "يا هذا" كأنهم في لغتهم قالبون "الياء""طاء" فقالوا: في "يا طا" واختصروا هذا فاقتصروا على "ها" وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به:

إن السفاهة طه في خلائقكم

لا قدس الله أخلاق الملاعين

انتهى.

عدنان، أخو معد، وهو اليوم باليمن، "يا رجل لم يجبك حتى تقول طه"؛ لأنها لغتهم، ولا يعلمون لفظ يا رجل.

"وقال السدي" بضم السين وشد الدال: "معنى طه، يا فلان" كناية عن اسم الإنسان دون قصد واحد بعينه، نحو: رأيت زيدًا، فقلت له يا فلان افعل كذا، بخلاف يا رجل، القصد به يا هذا، لذكره من بني آدم.

"وقال الزمخشري: لعل عكا تصرفوا في يا هذا، كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء" الأحسن أن يقول ياء بلا أل؛ لأن الكلمة المركبة من حرفين فصاعدًا، إنما ينطق بلفظها، لا بحروف هجائها، والياء إنما هي اسم لأحد حروف التهجي.

"فقالوا في يا طا" أي: ذكروا بدل لفظ يا لفظ طا، ففي للبدل، وكذا في الكشاف بني، ويقع في بعض نسخ المصنف بإسقاط في على حذف مضاف، أي: بدل يا طا.

"واختصروا" لفظ "هذا" بحذف الذال، "فاقتصروا على ها" مضمومة إلى طا، فصار طه بالقصر؛ لأن أسماء حروف التهجي ما لم تلها العوامل، موقوفة، خالية من الإعراب، لفقد موجبه، لكنها قابلة إياه، معرضة له، إذا لم تناسب مبني الأصل، ولذا قيل ق وص مجموعًا فيهما بين الساكنين، ولم يعامل معاملة أين وما ولا، قاله في الأنوار.

"وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به" وهو: "إن السفاهة طه" أي: يا رجل "في خلائقكم" أي: طبائعكم، "لا قدس الله أخلاق الملاعين": جمع ملعون، أي: مطرود، كما في القاموس وغيره.

وقول بعض: سموا ملاعين؛ لأنهم يلعنون الناس كثيرًا، لا يناسب اللغة، ولم يذكر المجد أن أخلاق من جموع خليقة، فيحتمل أنه جمع خلق، كعنق وأعناق، فيكون هجاهم أولًا بأن طبيعتهم مجبولة على السفاهة، ثم دعا على خلقهم.

"انتهى" كلام الزمخشري.

ص: 321

قال في البحر: وكان قد قدم أن "طه" في لغة "عك" في معنى يا رجل، ثم تخوض وتجر على "عك" بما لا يقوله نحوي، وهو أنهم قلبوا "الياء""طاء" وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب "الياء" التي للنداء "طاء"، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرار "ها" التي للتنبيه، انتهى.

وقيل: معناه يا إنسان.

وقرئ طه بإسكان الهاء، على أنه أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه.

فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا، وأن الأصل "طاء" فقلبت همزته هاء، كما قالوا "هياك" في:

ورده البيضاوي، فقال: الاستشهاد بالبيت ضعيف، لجواز أن يكون قسمًا، كقولهم:"حم لا ينصرون"، انتهى، أي: أن السفاهة وحق طه، أو وقسمي طه، كقوله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق:"إن لقيتم الليلة، فقولوا: حم لا ينصرون"، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي والحاكم، وصححه عن البراء بن عازب.

"قال" أبو حيان "في البحر" تفسيره الكبير: "وكان" الزمخشري، "قد قدم أن طه في لغة عك في معنى يا رجل، ثم تخوض" تكلف الخوض بمبالغته بما تكلفه، "وتجرأ" أسرع بالهجوم بلا توقف "على عك، بما لا يقوله نحوي، وهو أنهم قلبوا الياء طاء، وهذا لا يوجد في لسان"، أي: لغة "العرب قلب الياء التي للنداء طاء، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرار" أي: إبقاء" "ها التي للتنبيه" كذا في النسخ الصحيحة، وهو ما في النهر، فما في بعض النسخ، وأقرت تصحيف. "انتهى".

"وقيل: معناه يا إنسان" حكاه عياض وغيره، فإن صحبت هذه التفاسير، فهو مشترك، والوجه الثاني أنها كلمة دالة على الطلب، "و" يدل عليه؛ أنه "قرئ" شاذًا "طه" وبه قرأ الحسن البصري، "بإسكان الهاء، على أنه أمر له صلى الله عليه وسلم؛ بأن يطأ الأرض بقدميه، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه" لاستراحة من طول القيام، "فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا" حتى لا يتعب، فيحتاج للاستراحة.

أخرج عبد بن حميد، عن الربيع بن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل، ورفع الأخرى، فأنزل الله:{طه} .

وأخرج ابن مردويه عن علي، قال: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1-2] ، قام الليل كله، حتى تورمت قدماه، فجعل يرفع رجلًا ويضع أخرى، فهبط

ص: 322

إياك، و"هرقت" في: أرقت. ويجوز أن يكون الأصل من وطأ على ترك الهمزة، فيكون أصله "طا" يا رجل ثم أثبت الهاء فيه للوقف. وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل "طه": طاها، والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية عن الأرض. لكن برد ذلك: كتبها على صورة الحرف.

وأما قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فذكروا في سبب نزولها أقوالًا:

أحدها: أنا أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال صلى الله عليه وسلم:"بل بعثت رحمة للعالمين"، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردًا عليهم، وتعريفًا له صلى الله عليه وسلم، بأن دين الإسلام

عليه جبريل، فقال: طه، طا الأرض بقدميك يا محمد، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا، "وأن الأصل طاء، فقلبت همزته هاء، كما قالوا هياك" بكسر الهاء "في إياك، وهرقت في أرقت، ويجوز أن يكون الأصل من وطأ على ترك الهمزة".

قال الطيبي: بأن قلبت ألفًا، وبني الأمر عليه، وإذا بني عليه، "فيكون أصله طا يا رجل، ثم أثبت الهاء فيه للوقف" أي: السكت، فصار طه، "وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل طه طاها، والألف مبدلة من الهمزة، والهاء كناية عن الأرض" أي: الضمير راجع إليها، لعلمها، من قرينة الحال، والضمير يسمى كناية عند النحاة، ويحتمل أنه أراد أن الهاء وحدها ضمير، كما عليه بعض النحاة، أو أن ها اسم لحرف مأخوذ من ها اسم للضمير، فهي كناية اصطلاحية عنه، لا أنه ضمير، "لكن يرد ذلك" كما قال البيضاوي:"كتبهما على صورة الحرف"، وتعقب بأن رسم المصحف غير قياسي، كما رسم المؤمنون بأن ألف في الإمام.

"وأما قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ لْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فذكروا في سبب نزولها أقوالًا" منها ما تقدم.

وأخرج البزوار عن علي، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه، يقوم على كل رجل، حتى نزلت:{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} .

"أحدها" ما عند ابن مردويه، بمعناه عن ابن عباس؛ "أن أبا جهل" فرعون الأمة، "والوليد بن المغيرة، ومطعم بن عدي، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك" ومرادهم ضد السعادة، "فقال صلى الله عليه وسلم:"بل بعثت رحمة للعالمين" فكيف أشقى أنا، "فأنزل الله تعالى هذه، ردًا عليهم وتعريفًا له صلى الله عليه وسلم بأن دين الإسلام والقرآن هو" أي: المذكور "السلم".

ص: 323

والقرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.

وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل: أبق على نفسك، فإن لها عليك حقًا. اي ما أنزلنا عليك القرآن لتنتهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة.

ووي أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام. وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل.

وتعقب: بأنه بعيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن فعل شيئًا من ذلك فلا بد أن يكون فعله بأمر الله تعالى، فإذا فعله عن أمره فهو من باب السعادة لا من باب الشقاء.

وثالثها: قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد، لا تشق نفسك، ولا تعذبها

فلا يرد أن القياس هما السلم "إلى نيل كل فوز، والسبب في إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها" وأي. شقاوة مثل الخلود في جهنم.

"وثانيها: أنه" كما رواه ابن مردويه عن علي، بمعناه أنه "صلى الله عليه وسلم" لما نزل عليه:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} "صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل": بأمر الله "ابق على نفسك، فإن لها عليك حقًا. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتنتهك" تتعب وتؤلم "نفسك بالعبادة" الزائدة، "وتذيقها المشقة العظيمة"، بالسهر وقيام الليل، "وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة" السهلة التي لا تعب فيها، "وروي أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام" مبالغة في امتثال الأمر.

"وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل" في ابتداء أمره، حتى أمر بالتخفيف، "وتعقب بأنه بعيد؛ لأنه صلى الله عليه سولم إن فعل شيئًا من ذلك، فلا بد أن يكون فعله بأمر الله تعالى" وهذا ممنوع؛ لأنه فعل ذلك لتحقق مدلول ما أمر به من قيام الليل على الوجه الأتم، لا للأمر به بخصوصه، ويمنع تعقبه أيضًا بقوله؛ "فإذا فعله عن أمره، هو من باب السعادة لا من باب الشفاء" بل هو التباس، إذ الرد على أنه من باب الشقاء، بمعنى إتعاب النفس على هذا، لا ينافي أن الإتعاب المذكور للسعادة، وإنما يقال من باب السعادة لا الشقاء على الوجه الذي قبله في الرد على أبي جهل ومن معه، هكذا أملاني شيخنا.

"وثالثها: قال بعضهم" ظاهره أنه سبب لنزول الآية، لقوله أولًا: ذكروا في سبب نزلوها أقوالًا ولا كذلك، فإنما هذا فهم في الشقاء، إذ السبب لا يكون احتمالًا، بل نقل مجرد، وقد

ص: 324

بالأسف على كفر هؤلاء، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به من آمن، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، فما عليك إلا البلاغ وهذا كقوله تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} .

ورابعها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفي ذلك الوقت كان صلى الله عليه وسلم مقهورًا مع أعدائه" الكفار" "فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة" بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، أي: لتبقى شقيًا، بل تصير معظمًا مكرمًا، زاده الله تعالى تعظيمًا وتكريمًا.

قال: "يحتمل أن يكون المراد لا تشق نفسك ولا تعذبها بالأسف" الحزن والحسرة "على كفر هؤلاء" فهو كقوله: لا تذهب نفسك عليهم حسرات، "فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر": تعظ "به من آمن فمن آمن وأصلح" عمل الصالحات من الفرائض وغيرها، "فلنفسه"؛ لأن ثمرته عائدة عليه، وإن كان للنبي أجره أيضًا، "ومن كفر فلا يحزنك كفره"، لا تهتم لكفره، "فما عليك إلا البلاغ"، وليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، "وهذا كقوله تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِع} قاتل {نَفْسَكَ} ولعل الإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا، وكقوله:"ولا يحزنك كفرهم".

"ورابعها" وهو من نمط الثالث لا سبب النزول، كما يوهمه المصنف، "أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفي ذلك الوقت كان صلى الله عليه وسلم مقهورًا مع أعدائه" الكفار، "فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة" التي هي قهر الأعداء، "بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإننا ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، أي: لتبقى شقيًا" متعبًا مقهورًا، والشقاء شائع بمعنى التعب، ومنه أشقى من رائض المهر، أي: أن معالجة المهارة شقاوة لما فيها من التعب، "بل تصير معظمًا مكرمًا، زاده الله تعالى تعظيمًا وتكريمًا" كما إلى هذه الإشارة بقوله:{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3]، أي: لكن تذكيرًا لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالأنوار، أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف، فإنه المنتفع به، ومن خشي صار المصطفى لديه معظمًا مكرمًا كما وقع ذلك للصحابة حتى كانوا عنده، كأنما على رؤوسهم الطير، ولا يحدون النظر إليه، وكان أحب إليهم من أنفسهم.

قال البيضاوي: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، خبر طه إن جعلت مبتدأ على أنه مؤول بالسورة، والقرآن فيه واقع موقع العائد، وجواب إن جعلت مقسمًا به، ومنادى له إن جعلت نداء واستئناف إن كانت جملة فعلية او اسمية بإضمار مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكية.

ص: 325

وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1] السورة.

قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: في هذه السورة كثير من الفوائد. منها: أنها كالمتممة لما قبلها من السور، وذلك؛ لأن الله تعالى جعل سورة والضحى في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته وهي قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ

قال تبعًا للكشاف: وانتصاب إلا تذكرة على الاستثناء المنقطع، ولا يجوز أن يكون بدلًا من محل لتشقى لاختلاف الجنسين، يعني أن نصب تذكرة نصبة صحيحة ليست بعارضة، والنصبة التي في لتشقى بعد نزع الخافض عارضة كما قال أبو حيان، ولا يجوز أن يكون مفعولًا له لأنزلنا، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الكاف، أو القرآن، أو مفعول له، على أن لتشقى متعلق بمحذوف هو صفة للقرآن، أي: ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه.

"وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الَْوْثَر} [الكوثر: 1] ، أكده مع ضمير العظمة، إيماء إلى عظمة المعطي والمعطى، وتشويقًا ونفيًا للشبهة فيه "السورة".

"قال الإمام فخر الدين" محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، الطبرستاني، الرازي، "ابن الخطيب" بالري، مر بعض ترجمته غير مرة، "في هذه السورة كثير من الفوائد، منها: أنها كالمتممة لما قبلها من السور" المتعلقة به صلى الله عليه وسلم، وليس القصد بها بيان الأحكام، فلا يرد أن ما ذكره دليلًا على ذلك بعض السور لا جميعها، على أنه، كما قال شيخنا في التقرير: لم تظهر زيادة الكوثر على تفسيره، بما هو أعم من النهر على قوله:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فإنه شامل لما شمله الكوثر، أو أشمل، "وذلك؛ لأن الله تعالى أنزل" وفي نسخة: جعل، "سورة والضحى في مدح نبينا صل الله عليه وسلم وتفصيل أحواله" أي: جنسها، فلا ينافي في أن ما ذكره في هذه السورة مشتمل على جميعها لزومًا، "فذكر في أولها" أي: أحواله "ثلاثة أشياء تتعلق بنوبته" أي: ترتبط بها، وتترتب عليها كالثمرة لهان وليس المراد التعلق النحوي، ولا المعنوي، المقتضي لكون هذه من معنى النبوة، إذ ليست من معناها، "وهو قوله:{مَا وَدَّعَك} أي: تركك {رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أبغضك، حذف مفعوله اختصارًا للعلم به، وللجري على نهج الفواصل، ولئلا يخاطبه بالبغض، وإن كان منفيًا، أو ليعم نفسه وأصحابه وأمته.

روى الشيخان وغيرهما عن جندب بن عبد الله، قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله، {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ

ص: 326

...........................................

إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1] .

وروى سعيد بن منصور والفريابي، عن جندب، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد ودع محمد، فنزلت وهذه المرأة هي العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب.

روى الحاكم برجال ثقات عن زيد بن أرقم، قال: مكث صلى الله عليه وسلم أيامًا لا ينزل عليه، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك، فأنزل الله:{وَالضُّحَى............} الآيات.

وفي الصحيح أيضًا، عن جندب: قالت امرأة: يا رسول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأ عنك، فنزلتك {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .

قال الحافظ: هي زوجته خديجة، كما في المستدرك أيضًا، وأعلام النبوة لأبي داود وأحكام القرآن للقاضي إسماعيل، وتفسير ابن مردويه من حديث خديجة نفسها، فخاطبته كل واحدة منهما بما يليق بها.

وروى سنيد في تفسيره: أن قائل ذلك عائشة، وهو باطل؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجة.

وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت.

وأخرج أيضًا عن عكرمة: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعًا شديدًا، فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما ترى من جزعك، فنزلت وكلاهما مرسل، رجاله ثقات.

قال الحافظ: والذي يظهر أن كلًا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالته شماتة، وخديجة قالته توجعًا.

وروى ابن أبي شيبة والطبراني بسند فيه من لا يعرف عن خولة خادم رسول الله صلى الله عليه سولم أن جروًا دخل بيته تحت السرير، فمات، فمكث صلى الله عله وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال:"يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله، جبريل لا يأتيني"، فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأوهيت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله:{وَالضُّحَى} إلى قوله: {فَتَرْضَى} ".

قال الحافظ: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيح.

{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ؛ لأنها باقية، خالصة من الشوائب، وهذه فانية، مشوبة بالمضار، واللام لابتداء مؤكدة، أو جواب قسم، ففيه تعظيم آخر، أي: كما أعطاك في الدنيا

ص: 327

فَتَرْضَى} ثم ختمها كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا} أي عن علم الحكم والأحكام {فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . ثم ذكر في سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} أنه تعالى

يعطيك في الآخرة ما هو أعلى وأكثر، فلا تبال بما قالوه، فهو وعد فيه تسلية بعد ما نفى عنه ما يكره، فهو تحلية بعد تخلية، وقيل: المعنى لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر، وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه واللام للتأكيد، وقول الزمخشري، وتبعه البيضاوي: اللام للابتداء، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ والتقدير، ولأنت سوف، رده ابن الحاجب وغيره، بأن فيه تكلفين، وهما تقدير محذوف، وخلع اللام عن معنى الحال، لئلا يجتمع دليلان حال، واستقبال قال: وليست للقسم؛ لأنها إنما تدخل على المضارع مؤكدًا بالنون.

قال ابن هشام: وهو ممنوع، بل تارة تجب اللام وتمتنع النون، وذلك مع الفعلين كالآية، ومع تقدم المعمول بين اللام والفعل نحو:{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ، ومع كون الفعل للحال نحو:{لَا أُقْسِم} ، وتارة يمنعان، وذلك مع الفعل المنفي نحو تالله تفتؤ، وتارة يحبان نحو وتالة لأكيدن، "ثم ختمها" أي: الأحوال المتعلقة بنبوته، "كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا" من حيث النبوة، لكن تعلق الثلاثة الأول بالنبوة من حيث كونها حاصلة بها، والثلاثة الثانية بمعنى: أن سببها إكرامه بالنبوة وإن كان أولاها حصل قبل النبوة، والاثنان بعد النبوة، ولو أسقط كذلك، فإن التنبيه على تعلقها بالنبوة، "وهي قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْك} " منت الوجود بمعنى العلم، {يَتِيمًا} مفعوله الثاني، أو المصادفة ويتيمًا حال، أي: لا أب لك، وقيل: لا مثل لك، {فَآوَى} بأن ضمك إلى عمك أبي طالب، {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} ، أي: عن علم الحكم""بكسر ففتح" جمع حكمة، أي: معرفة العلل والأسباب، فقوله:"والأحكام" عطف مسبب على سبب، وليس الحكم مفرد الأحكام؛ لأنه يصير ما بعده مرادفًا، ولا ينافي ذلك أن بعض الأحكام تعبدي؛ لأنه بالنسبة لنا، أما هو صلى الله عليه وسلم، فكان عارفًا بالعلة {فَهَدَى} أي: هداك إلى معرفتها، وهذا أحد تفاسير في الآية، كما يأتي للمصنف، {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} ذا عيال {فَأَغْنَى} [الانشراح: 8] بما حصل لك من ربح التجارة، كذا قصره البيضاوي، ولم يجعله شاملًا لذلك، ولغيره من مبدئه إلى نهاية ما حصل له، أو يقصره على ما حصل له من الغنائم والفتوحات؛ لأن ربح التجارة حصل به أصل الغنى، وما بعده حصل به الزيادة بعد اطمئنان النفس بالأول، فكانت النعمة في الحقيقة هي الربح؛ لأنها التي حصل بها دفع الحاجة، هذا ولم يذكر

ص: 328

شرفه عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشياء وهي: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} أي: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك} أي عناءك الثقيل {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وهكذا سورة سورة، حتى قال:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} أي أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة التي كل واحدة منها

المصنف من أحواله بقية السورة، مع أنها خطاب له لعدم دلالتها على مدحه صريحًا، إذ ليست أوصافًا قائمة به يمدحه بتعدادها، ولا صفات كمالية قائمة به، ولا على تعداد النعم التي أنعم بها عليه، وإنما هي أمر له ونهي، وكلاهما لا يعد من النعم الصريحة، وإن ترتب عليه الامتثال بفعل المأمور وترك المنهي، وهما من أعظم النعم، ولا يرد، قوله أولًا جعل سورة والضحى في مدح نبينا؛ لأن المراد معظمها، أو كلها، ولكن ما تركه هنا مستلزم للكمال؛ لأن كونه منهيًا مأمورًا مقتض لامتثاله، وهو كمال استلزامًا لا صراحة.

"ثم ذكر في سورة: {أَلَمْ نَشْرَح} ، أنه تعالى شرفه عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشياء، وهي:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، استفهم عن الشرح على وجه الإنكار مبالغة في إثبات الشرح، فكأنه قيل: شرحنا، ولذا عطف عليه، ووضعنا اعتبارًا للمعنى، قاله الكشاف.

قال الطيبي: أي: أنكر عدم الشرح، فإذا أنكره ثبت؛ لأن الهمزة للإنكار، ولم نفي إذا دخل عليه النفي عاد إثباتًا، ولا يجوز جعل الهمزة للتقرير. انتهى. أي: لأن التقرير سؤال مجرد، إذ هو حمل المخاطب على الاعتراف بأمر استقر عنده ثبوته، أو نفيه، فلا يحسن، عطف ووضعنا عليه، "أي: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق" فالمراد به ما يرجع إلى المعرفة والطاعة، فكأنه قيل: ألم نفتح ونوسع صدرك بالإيمان والنبوة، والعلم والحكمة، وبه جزم البغوي، وتقدم غير ذلك.

{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك} أي: عناءك" "بفتح المهملة والمد" أي: خضوعك "الثقيل" القوي الذي كنت فيه قبل ظهور أمرك، أو المشقة التي كنت فيها بمعاداة الكفار لك، فوضعنا ذلك بإظهارك عليهم بقتل من قتل، وهداية من اهتدى، فالعناء يكون بمعنى الخضوع، وبمعنى المشقة، {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} : أثقله، ويأتي للمصنف في النوع العاشر معنى الآية {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} مر الكلام عليه، "وهكذا سورة سورة حتى قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، أي: أعطيناك هذه المناقب" جمع منقبة "بفتح الميم" الفعل الكريم، كما في المصباح.

وفي المختار بوزن المتربة ضد المثلثة، انتهى، فالقاف مفتوحة، فقراءته بكسرها على هذا خطأ، "المتكاثرة، التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها" بأسرها، أو

ص: 329

أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، وإذا أنعمنا عليك بهذه النعم فاشتغل بطاعتنا ولا تبال بقولهم.

ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ، وإما بالمال وهو قوله:{وَانْحَرْ} .

وتأمل قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} كيف ذكره بلفظ الماضي، ولم يقل: سنعطيك، ليدل على أن الإعضاء حصل في الزمان الماضي، قال صلى الله عليه وسلم:"كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد". ولا شك أن من كان في الزمان الماضي عزيزًا مرعي الجانب أشرف ممن سيصير كذلك، كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا يا أيها العبد الكريم، إنا لم نعطك هذا الفضل العظيم لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساننا من غير موجب.

بجوانبها: جمع حذفور، كعصفور، كما في القاموس، "وإذ" تعليلية "أنعمنا عليك بهذه النعم".

وفي نسخة: وإذا للظرفية المجردة، والفاء في "فاشتغل بطاعتنا" زائدة على النسختين، والتعليل أظهر، "ولا تبال بقولهم": ساحر، كاهن، مجنون، وغير ذلك، "ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس، وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} أمر بالصلاة مطلقًا، أو التهجد، وكان الظاهر، فأشكر، فعدل عنه؛ لأن مثل هذه النعمة العظيمة ينبغي أن يكون شكرها كذلك، وأعظم ذلك العبادة، وأعظمها الصلاة، "وإما بالمال، وهو قوله:{وَانْحَرْ} أمر بتقريب البدن؛ لأن النحر يختص بها وفي غيرها، يقال: ذبح، "وتمل قوله:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} كيف ذكره بلفظ الماضي، ولم يقل: سنعطيك" بلفظ المضارع، "ليدل" صلة ذكره، "على أن الإعطاء حصل في الزمان الماضي" كما "قال عليه الصلاة والسلام: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد"، رواه أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهما، ومر الكلام عليه أول الكتاب.

"ولا شك أن من كان في الزمان الماضي عزيزًا، مرعي الجانب، أشرف ممن سيصير، كذلك كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا": يسرنا وسهلنا "أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا"، استفهام تفخيم وتعظيم، أي: فاعتقد من الكمالات التي تحصل لك بعد وجودك ما شئت، فإنها لا نهاية لها.

"يا أيها العبد الكريم إنا لم نعطك هذا الفضل العظيم" المعبر عنه بالكوثر، "لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساننا من غير موجب"، مرتب على ما قبل الاستفهام،

ص: 330

واختلف المفسرون في تفسير الكوثر على وجوه.

منها: أنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف، روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بينما أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك إذفر" رواه البخاري.

أي: هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، لا لأجل طاعتك المتأخرة، بل فضلًا، وليس مرتبًا على الاستفهام لئلا يكون فيه بعض تناف.

"واختلف المفسرون في تفسير الكوثر على وجوه" وصلت إلى نحو عشرين قولًا، "منها: أنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور المستفيض عند السلف والخلف" ودليله أنه "روى أنس" بن مالك؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بينما""بالميم""أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر" وللترمذي: إذ عرض لي نهر، أي: ظهر، وللبخاري في التفسير عن أنس، قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر، "حافتاه" "بحاء مهملة وخفة الفاء" جانباه؛ لأنه ليس أخدودًا، أي: شقا مستطيلًا في الأرض، يجري فيه الماء حتى يكون له حافتان، ولكنه سائل على وجه أرض الجنة، ومعلوم أنه ليس عامًا في جميعها، فما جاوز ما انتهى سيلانه إليه هو جانبه.

روى أبو نعيم والضياء عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض، لا والله إنها لسائحة على وج الأرض"، "قباب""بكسر القاف وخفة الموحدة" جمع قبة، وللترمذي: حافتاه فيهما لؤلؤ مثل القباب، فالمراد في جانبيه مثل قباب "الدر المجوف":"بفتح الواو مشددة" صفة للدر، وهو كبار اللؤلؤ حقيقة، وتجويز أن مثله في الحسن والنضارة، خلاف الظاهر بلا داعية، "قلت: ما هذا يا جبريل؟، قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك"، وعطف على مقدر، أي: فنظرت له، "فإذا طينه مسك" إذ المفاجأة إنما تترتب على النظر لا على أعطاك ربك، ويدل له رواية الترمذي عن أنس، قال: أي: المصطفى: ثم ضرب، أي: جبريل، بيده إلى طينه فاستخرج مسكًا، أي: إظهار الشرف المنعم به، وسماه طينًا جريًا على العادة في كون مقر الماء طينًا، كما قال الدلجي وغيره، فلا بد من تقدير في قوله: طينه مسك، ليصح الحمل، وهو هنا في المبتدأ، أي: فإذا مادة ما تحت مائه مسك، ولا يقدر في الخبر، أي: مثل مسك؛ لأنه خلاف الظاهر من الأحاديث؛ أنه يجري على المسك، ولا يعارضه حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي، ومجراه على الدر والياقوت؛ لأنهما فوق طينه الذي هو مسك، كما أن الأنهار تجري على طين وحصى، فهذا حصاه جواهر وطينه مسك، "أذفر" "بمعجمة

ص: 331

وقيل: الكوثر أولاده، فإن هذه السورة إنما نزلت ردًا على من عابه عليه الصلاة والسلام بعدم الأولاد، وعلى هذا فالمعنى: أنه يعطيه نسلًا يبقون على ممر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت. ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبي من الأنبياء غيره.

وقيل: الكوثر خير الكثير. وقيل: النبوة، وهي من الخير الكثير.

ساكنة"، أي: شديد الرائحة الطيبة، ويطلق أيضًا على الكريهة، وليس بمراد هنا، وأما بمهملة، فخاص بالمنثنة، "رواه البخاري" في الرقاق بهذا اللفظ، عن شيخيه أبي الوليد هشام بن عبد الملك، وهدبة بن خالد، كلاهما عن همام، عن قتادة، عن أنس، ثم قال في آخر طينه، أي: بالنون، أو طيبه، أي: بموحدة شك هدبة، أي: ولم يشك أبو الويد أنه بالنون.

قال الحافظ وغيره: وهو المعتمد، ففي البعث للبيهقي من طريق عبد الله بن مسلم عن أنس بلفظ:"ترابه مسك"، ورواه في التفسير إلى قوله:"هذا الكوثر"، وأخرجه مسلم أيضًا، كما قدم في المعراج والترمذي.

"وقيل: الكوثر: أولاده" من فاطمة؛ لأن عقبه إنما هو منها، ويؤيده قوله الآتي:"فانظر كم قتل من أهل البيت"، "فإن هذه السورة إنما نزلت ردًا على من عابه عليه الصلاة والسلام بعدم" أي: بفقد "الأولاد" كالعاصي بن وائل، قال: لما مات القاسم، لقد أصبح محمد أبتر، فنزل:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، عوضًا عن مصيبتك بالقاسم، رواه يونس في زيادات المغازي.

ولابن جرير عن شمر بن عطية: كان عقبة بن أبي معيط يقول: لا يبقى لمحمد ولد وهو أبتر، فأنزل الله فيه:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} .

وللطبراني بسند ضعيف عن أبي أيوب: لما مات إبراهيم مشى المشركون بعضهم إلى بعض، فقالوا: إن هذا الصابئ قد بتر الليلة، فأنزل الله:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، إلى آخر السورة، فإن صح هذا كله، فقد تعدد السبب، والنزول بمكة والمدينة، إذ موت إبراهيم بها.

"وعلى هذا، فالمعنى أنه" تعالى "يعطيه" صلى الله عليه وسلم "نسلًا يبقون على ممر الزمان" فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، "فانظر كم قتل من أهل البيت" مع الحسين وبعده، "ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبي من الأنبياء غيره" مثل هذا.

"وقيل: الكوثر: الخير الكثير" الذي أعطاه اليه إياه، قاله ابن عباس، رواه البخاري وغيره، فهو وصف مبالغة في المفرط الكثرة، فيشمل النبوة والقرآن والخلق الحسن العظيم، وكثرة الأتباع، والعلم، والشفاعة، والمقام المحمود وغيرها، مما أنعم به عليه، لكن أورد عليه أن أراد

ص: 332

وقيل: علماء أمته، وقيل: الإسلام، ولا ريب أنهما من الخير الكثير، فالعلماء ورثة الأنبياء، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وأما "علماء أمتي كأنبياء بني

ابن عباس بهذا بيان ما وضع له لغة، أو بيان معنى عام خص في الآية، فلا كلام فيه، وإن أراد تفسير الآية فالنص النبوي جاء بخلافه، كما مر ويأتي.

"وقيل: النبوة وهي من الخير الكثير" الذي أعطيه، "وقيل: علماء أمته" وجعل البيضاوي مجموع أولاده والاتباع العلماء لا واحد العلة، قول آخر لم يذكره المصنف.

"وقيل: الإسلام ولا ريب"، لا شك "أنهما" أي: الإسلام والعلماء "من الخير الكثير" الذي فسر به ابن عباس الكوثر، فلا يقصر عليهما ولا على النبوة ولا غيرها، بل يعم شرف الدارين، "فالعلماء ورثة الأنبياء"؛ لأن الميراث ينتقل للأقرب، وأقرب الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين الكمال والتكميل، ولا رتبة فوق رتبة النبوة، فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة، ولذا اشتغلت الملائكة وغيرهم من المخلوقات بالاستغفار والدعاء لهم إلى يوم القيامة.

وروى ابن عدي وأبو نعيم والديلمي عن علي، رفعه: العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي وروثة الأنبياء، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] .

قال الكشاف: ما سماهم ورثة الأنبياء، إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة؛ لأنهم القوام بما بعثوا من أجله.

وقال الغزالي: لا يكون العالم وارثًا إلا إذا طلع على جميع معاني الشريعة، حتى لا يكون بينه وبينه إلا درجة النبوة، وهي الفارق بين الوارث والموروث، إذ هو الذي حصل له المال واشتغل بتحصيله، واقتدر عليه، والوارث هو الذي لم يحصله، لكن انتقل إليه وتلقاه عنه. انتهى.

"كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي" وابن ماجه والبيهقي، كلهم عن ابي الدرداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وأن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب، وأن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه الترمذي وغيره بالاضطراب في سنده.

قال السخاوي: لكن له شواهد يتقوى بها، ولذا قال شيخنا: له طرق يعرف بها أن

ص: 333

إسرائيل" فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله الدميري والزركشي، أنه لا أصل له. نعم روى أبو نعيم في فضل العالم العفيف بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد.

وقيل: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع.

وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه: أحدها أن العلم هو الخير الكثير، والثاني: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا، قال: والأول غير جائز؛ لأنه قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، والجنة سيعطيها لا

للحديث أصلًا، وقد أخرجه الديلمي عن البراء بن عازب، رفعه:"العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"، وأورده أيضًا بلا سند عن أنس، مرفوعًا:"العلماء ورثة الأنبياء، وإنما العالم من عمل بعلمه".

"وأما" خبر "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فإنهم كانوا يدعون إلى شريعة موسى من غير أن يأتوا بشرع مجدد، وكذا علماء هذه الأمة يدعون إلى الشريعة المحمدية.

"فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله الدميري والزركشي: أنه لا أصل له".

زاد بعضهم: ولا يعرف في كتابه معتبر.

وسئل عنه الحافظ العراقي: فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه:"العلماء ورثة الأنبياء"، وهو حديث صحيح.

وعن عبد الله بن عمرو، مرفوعًا:"أكرموا حملة القرآن، فمن أكرمهم فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله، وألا فلا تنقصوا حملة القرآن حقوقهم، فإنهم من الله بمكان، كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء إلا أنه لا يوحى إليهم"، رواه الديلمي، وقال: إنه غريب جدًا.

قال السخاوي: وفيه من لا يعرف، وأحسبه غير صحيح.

"نعم، روى ابو نعيم في" كتاب "فضل العالم العفيف بسند ضعيف، عن ابن عباس، رفعه: "أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد"؛ لأنهم لما قاموا مقام الأنبياء في الأمرين استحقوا أن يكونوا أقرب الناس من درجتهم.

"وقيل: الكوثر: كثرة الأتباع والأشياع""بمعجمة وتحتية عطف" مساو، "وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه"، أي: ثلاثة.

"أحدها: أن العلم هو الخير الكثير" الذي يتفرع عنه سعادة الدارين.

"و" الوجه "الثاني: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة، أو على نعم الدنيا، قال" ذلك البعض: "والأول غير جائز" إن حمل على حقيقة اللفظ؛ "لأنه قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ

ص: 334

أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم، والثالث: أنه لما قال {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال عقبة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} والشيء الذي يتقدم على العبادة هو المعرفة؛ ولأن "الفاء" في قوله فصل للتعقيب، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم.

وقيل: الكوثر الخلق الحسن، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث:"ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة". رواه الطبراني. وعن ابن عباس: جميع نعم الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم.

وبالجملة: فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي، فوجب حملها على الكل، ولذا روي أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول

الْكَوْثَرَ} بصيغة الماضي، "والجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا" إبقاء للفظ أعطينا على حقيقته، "وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا، هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم" كأنه قصره عليه مع اشتراكه مع النبوة في أنهما أشرف ما وصل إليه؛ لأن العلم مترتب عليها، فكأنه المقصود بالوحي، وثمراته كثيرة بخلاف النبوة، فخاصة به عليه الصلاة والسلام.

"و" الوجه "الثالث: أنه لما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، قال عقبة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، والشيء الذي يتقدم على العبادة هو المعرفة" أي: العلم بالأحكام، فيفيد أنه المراد؛ "ولأن الفاء في قوله فصل، للتعقيب، ومعلوم، أن الموجب"، أي: السبب المقتضي "للعبادة ليس إلا العلم"، فيفيد أنه المراد، لكن هذا كله استنباط عقلي لا يلاقي تفسيره صلى الله عليه وسلم بأنه نهر في الجنة.

"وقيل: الكوثر: الخلق الحسن"؛ لأن به سعادة الدارين، "كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث:"ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة"، رواه الطبراني" والبزار، "وعن ابن عباس" أن الكوثر "جميع نعم الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم"، فشمل النبوة والعلم، وجميع ما مر وغيره من النعم التي لم تذكر.

"وبالجملة، فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي، فوجب حملها على الكل، ولذا روي أن سعيد بن جبير لمغا روى هذا القول"، إن الكوثر

ص: 335

عن ابن عباس قال له بعضهم: إن ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.

قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى في الدنيا من النبوة والقرآن والذكر العظيم

جميع النعم، "عن ابن عباس" لكن الذي رواه البخاري من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب، عن سعبد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه.

قال أبو بشر: فقلت لسعيد: إنا ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه، "قال له بعضهم"، هو أبو بشر جعفر بن أبي وحشية، واسمه إياس:"إنا ناسًا" وفي رواية: أناسًا "بضم الهمزة" وسمي منهم أبو إسحاق السبيعي وقتادة "يزعمون" يقولون، "أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه"؛ لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، فلا تنافي، لكن صرح صلى الله عليه وسلم؛ بأنه نهر في الجنة، كما في مسلم، ويأتي، وكما مر عن الصحيحين في حديث المعراج؛ أن جبريل قال له: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك.

وفي الصحيح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود؛ أنه سأل عائشة عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، قالت: نهر أعطيه نبيكم في الجنة، شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم، فأي معدل عن هذا على أنه قد ورد عن ابن عباس تفسيره بالنهر. فكأن بلغه عن المصطفى، فرجع عن الاستنباط.

أخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، شاطئاه من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص الله به نبيه قبل الأنبياء، وما ذكر في عمقه لا يخالفه ما رواه ابن أبي الدنيا.

عنه أيضًا أنه سئل: ما أنهار الجنة، أفي أخدود؟، قال: لا، ولكنها تجري على أرضها، لا تفيض ههنا ولا ههنا؛ لأنه أجيب؛ بأن المراد أنها ليست في أخدود، كالجداول ومجاري الأنهار في الأرض، بل سائحة على وجه الأرض مع عظمها وارتفاع حافاتها، فلا ينافي ما ذكر في عمقها.

"قال الإمام فخر الدين بن الخطيب" الرازي: "قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر، فيجب أن يكون الأقرب

ص: 336

والنصر على الأعداء. وأما الحوض وسائر ما أعده الله له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه؛ لأن ما ثبت بحكم وزعد الله فهو كالواقع، إلا أن الحقيقة ما قدمناه؛ لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه الكوثر في حال نزول هذه السورة بمكة، ويحتمل أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بشيء يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء مع أن الصبي في ذلك الحال ليس أهلًا للتصرف. انتهى.

وقد روينا في صحيح مسلم من حديث أنس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا ما يضحكك أضحك الله

حمله على ما آتاه الله تعالى في الدنيا من النبوة، والقرآن، والذكر العظيم، والنصر على الأعداء" والآيات البينات.

"وأما الحوض" الذي له في القيامة، وهو أحد ما قيل في تفسير الكوثر، كما في الشفاء، "وسائر ما أعده الله له من الثواب" في الآخرة، "فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه؛ لأن ما ثبت بحكم وعد الله، فهو كالواقع"؛ لأنه لا يخلف وعده، وجوازه لا يوجب الحمل عليه، ولا يرجحه؛ لأنه إذا حمل عليه بخصوصه، أو على ما يشمله كان مجازًا، وإذا حمل على ما أعطيه في الدنيا فقط كان حقيقة، وهي مقدمة على المجاز ما أمكنت، حيث لا مانع، وقد علم أن المانع تفسيره صلى الله عليه وسلم؛ بأنه نهر في الجنة، "إلا أ، الحقيقة ما قدمناه" في قوله: فيجب أن يكون الأقرب.. إلخ؛ لأن ما أعطاه في الدنيا ثبت إعطاؤه له بالعقل، فاستعمال الإعطاء حقيقة فيه، بخلاف أمور الآخرة؛ "لأن ذلك وإن أعد له، فلا يصح أن يقال على الحقيقة، أنه أعطاه الكوثر في حال نزول هذه السورة بمكة"، وإنما يصح أن يقال ذلك على المجاز، إما؛ لأنها ستعطي، أو؛ لأنه تعالى قدر في علمه أنها له، فعبر عنها بأعطينا.

"ويحتمل أن يجاب عنه؛ بأن من أقر لولده الصغير بشيء، يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء، مع أالصبي في ذلك الحال ليس أهلًا للتصرف. انتهى.

وعليه يحمل أعطي على ما أعطاه من أمور الدنيا والآخرة، ولا يكون مجازًا؛ لأن من وهب شيئًا لولده الصغير، وقبله له صار ملكًا حقيقيًا للصغير، فما هنا كذلك.

"وقد روينا في صحيح مسلم" وسنن أبي داود والنسائي، "من حديث أنس: بينما" "بالميم" "رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا"، أي: بيننا، وأظهر زائدة، "إذ أغفي إغفاءة"، أي: نام نومة خفيفة، "ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما يضحكك؟، أضحك الله سنك يا رسول الله" قال

ص: 337

سنك، يا رسول الله؟ قال:"نزلت علي سورة آنفًا فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} . ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك".

الأبي: عبروا بالضحك عن التبسم لوضوح البسم منه صلى الله عليه وسلم، فعبروا عنه بالضحك، "قال: نزلت علي سورة آنفًا" أي: قريبًا، "فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، فهم منه فاهمون أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.

قال في الإتقان: والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وأجاب الرافعي؛ بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر، المنزلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم، "فسره لهم، أو الإغفاء ليست نومًا، بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي".

قال في الإتقان: والأخير أصح من الأول؛ لأنه قوله: أنزل علي آنفًا، بدفع كونها نزلت قبل ذلك.

"ثم قال: "أتدرون ما الكوثر؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه نهر" داخل الجنة، كما رآه المصطفى ليلة المعراج، كما مر في حديث أنس في الصحيح، "وعدنيه ربي" بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، "عليه خير كثير" منه قوله سابقًا: حافتاه قباب الدر، وطينه مسك أذفر، "وهو حوض"، أي: نهر في الجنة، يسيل في حوض، "ترد عليه أمتي يوم القيامة" وفي رواية لأحمد: ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض.

وفي مسلم عن أبي ذر: أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، قال المصنف: ويطلق على الحوض كوثر، لكونه يمد منه.

وقال الحافظ: وهذا النهر هو الذي يصب في الحوض، فهو مادة الحوض، كما جاء صريحًا في البخاري، "آنيته عدد النجوم" ولأحمد من رواية الحسنن عن أنس: أكثر من عدد نجوم السماء.

وفي الصحيحين من حديث ابن عمرو: "وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبدًا"، "فيختلج""بضم التحتية، وسكون المعجمة، وفتح الفوقية"، واللام، وبالجيم مبني للمفعول" أي: يجتذب ويقتطع $"العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي" فلم أخرج منهم، "فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك" من الردة عن الإسلام والمعاصي، فيمنعون من الحوض

ص: 338

وهذا تفسير صريح منه صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالكوثر -هنا- الحوض، فالمصير إليه أولى، وهذا هو المشهور كما تقدم.

فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه بما أفاضه عليه من نعمه الجسيمة.

وقد جرت عادة الله تعالى مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: {يَا آدَمُ اسْكُن} [البقرة: 35]{يَا نُوحُ اهْبِط} [هود: 48]{يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّه} [القصص: 30] ، {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} .

حتى يطهروا من ذنوبهم، وأحضر المرتدون" زيادة لتنكيلهم، وحسرتهم، "وهذا تفسير صريح منه صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالكوثر هنا الحوض" أي: النهر الذي يصب في الحوض بدليل قوله نهر، "فالمصير إليه أولى" أي: أحق وأوجب.

وقول الشارح: أي: من حيث الاعتبار، فلا ينافي ما قدمه من أنه واجب فيه، أنه لم يقدم ذلك، إنما قدم الوجوب في تفسيره بغير ذلك، "وهذا هو المشهور، كما تقدم" في قوله: إنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور المستفيض عند السلف والخلف، وهذا صريح في تأويل قوله الكوثر: الحوض بما قلناه؛ لأنه الذي قدمه.

وقد قيل: إن المراد به الحوض الذي في القيامة على ظاهر الحديث، فلا تأويل، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات الكثيرة، وقيل: المعرفة، أي: العلوم اللدنية التي أفاضها عليه بلا واسطة، فكأنها كوثر، وقيلك تخفيفات الشريعة، وقيل: كثرة الأمة، ومغايرته لكثرة الأتباع بحمله على أصحابه لكثرتهم على اتباع غيره عن المرسلين جدا، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: الدعوات المجابات له، وقيل: كلمة التوحيد لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وقيل: الخمس صلوات التي خصت بها أمته، فهذه عشرة، والمصنف حكى عشرة، فتلك عشرون أصحها الأول.

"فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة، وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه" بموحدة "بما أفاضه عليه من نعمه" جمع نعمة، "الجسيمة، وقد جرت عادة الله تعالى مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو:{يَا آدَمُ اسْكُن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، وبدأ به؛ لأنه أبو البشر المقدم عليهم، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} ، وكذا يا إبراهيم، وقد صدقت الرؤيا، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّه} ، {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} ، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ، {خُذِ الْكِتَاب} .

ص: 339

[المائدة: 110]، وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال فقال: يا أيها النبي، يا أيها الرسول. ولله در القائل:

ودعا جميع الرسل كلا باسمه

ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي

قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا عبيده بأفضل ما أوجد لهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه، وأقرب إليه ممن دعاه باسمه

"وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال" الدال على التعظيم والملاطفة لمنزلته عنده، "فقال: يا أيها النبي، يا أيها الرسول" يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، فلم يذكر باسمه في النداء تعظيمًا، وذكر في الخبر، كقوله:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول} ، {ُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه} ، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ؛ لأنه ورد مورد التعيين والإعلام؛ بأن صاحب هذا الاسم هو الرسول، وقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، لما لم يورد هذا المورد لم يذكر اسمه.

"ولله در القائل:

ودعا جميع الرسل كلا باسمه

ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي

دعا: نادى، ومراد المصنف خطاب الله تعالى له في القرآن باسمه، فلا يرد عليه، كما توهم خطابه بقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} [القصص: 56] الآية، وقوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] الآية، وقوله في المحشر: ارفع رأسك وقل تسمع يا محمد ولم يقل: يا أيها النبي، أو يا أيها الرسول، وإن قيل: حكمته أنه أخصر، ففيه سرعة إجابته، وتطويل الكلام لا يناسب مقام الإذن في الشفاعة، وقد سرى هذا التشريف ببركته إلى أمته.

ففي الخصائص: إن الله شرفهم بخطابهم في القرآن، بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وخاطب الأمم السالفة بيا أيها المساكين.

"قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا"، نادى "عبيده بأفضل ما أوجد لهم" أعطاهم، "من الأوصاف العلية، والأخلاق السنية" بمعنى العلية فحسنه اختلاف اللفظ، "ودعا آخرين" وفي نسخة: غيرهم "بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق""بضمتين""من الأخلاق" دل دعاؤه لذلك البعض على "أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم"،

ص: 340

العلم، وهذا معلوم بالعرف: أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه. انتهى.

وانظر ما في نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] من ذكر "الرب" تعالى وإضافته إليه صلى الله عليه وسلم، ومال في ذلك من التنبيه على شرفه واختصاصه وخطابه، وما في ذلك من الإشارة اللطيفة، وهي أن المقبل عليه بالخطاب، له الحظ الأعظم، والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها إذا هو في الحقيقة أعظم خلفائه.

ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه، وجعله أفضل أنبيائه، أم بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه، وفي دار تكليفه وجزائه.

وبالجملة، فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته، وتعظيم

فالمقدر جواب، إذ؛ لأن لفظ أن الفرد لا يقع جوابًا لإذا، وجملة، إذا من الشرط والجواب خبر أن السيد.. إلخ.

"وهذا معلوم بالعرف؛ أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبلاغة في تعظميه واحترامه. انتهى" إذا العدول عن الاسم العلم يقتضي ذلك عرفًا، ولذا قال الله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] .

"وانظر" نظر تأمل وتدبر في المعاني المستنبطة من الألفاظ، "ما في نحو قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الآية، من ذكر الرب تعالى" المشعر بمزيد الرأفة "وإضافته" أي: رب، "إليه صلى الله عليه وسلم" بقوله: ربك، "وما في ذلك من التنبيه على شرفه" بإضافته إليه، "واختصاصه وخطابه، وما في ذلك من الإشارة اللطيفة، وهي أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها"، وهي هنا خلافة الله في الأرض، فلا ريب أن له النصيب الأوفى منها، "إذ هو في الحقيقة أعظم خلفائه، ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه" الخلق إلى ذلك: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]"وجعله أفضل أنبيائه"، بدليل أنه "أم بهم ليلة إسرائه" بتقديم جبريل له، والحق في الإمامة للأفضل، "وجعل آدم فمن دونه" أي: فمن بعده، "يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه، وفي دار تكليفه" الدنيا "وجزائه" الاخرة" وبالجملة فقد

ص: 341

قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره ما يقضي بأنه استولى على أقصى درجات التكريم، ويكفي إخباره تعالى بالعفو عنه ملاطفة قبل ذكر العتاب في قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، وتقديم ذكره على الأنبياء تعظيمًا له، مع تأخره عنهم في الزمان في قوله تعالى:{وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] وأخباره بتمني أهل النار طاعته في قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ، وهذا بحر لا ينفد وقطر لا يعد.

تضمن الكتاب العزيز" القوي الغالب، "من التصريح بجليل رتبته وتعظيم قدره"، أي: رتبته وشرفه، "وعلو منصبه"، بزنة مسجد العلو والرفعة، كما في المصباح كغيره، "ورفعة ذكره ما يقضي بأنه استولى على أقصى درجات التكريم" أي: أعلاها، "ويكفي إخباره تعالى بالعفو عنه ملاطفة" معاملة وشفقة، والماعلة مجازية لتنزيل استحقاقه بمنزلة فعله، أو هي لأصل الفعل بلا مشاركة، "قبل ذكر العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فقدم عفا الله عنك، دعامة تقصد بها الملاطفة، إذ هو خبر معناه: لا عهدة عليك، وليس المعنى أن الإذن ذنب يتعلق به العقوبة؛ لأن مسامحته لهم مع أذاهم إسقاط للحظوظ، فهو عتب بلطف، لا ملامة فيه، أي: قد بلغت في الامتثال والاحتمال الغاية، وزدت في طاعة الله ومحبته، والرفق بالبر والفاجر ما أجحف بك، فهو من عتب الحبيب من حيفة على نفسه، وتخفيف لا تعنيف، ومدح لا قدح، ويأتي بسط هذا إن شاء الله.

"و" يكفي في ذلك أيضًا "تقديم ذكره على الأنبياء تعظيمًا له" إذ التقديم يعطيه، "مع تأخره عنهم في الوجود في قوله تعالى":{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} قيل معناه: تبليغ الرسالة وتصديق بعضهم بعضًا، وقيل: أن يعلنوا بنبوة المصطفى، ويعلن هو بأنه لا بني بعده، ففيها تفضيل له من وجوه، منها: أنه ذكر النبيين جملة، ثم خص بالذكر بعضهم تشريفًا لهم، وقدمه صلى الله عليه وسلم عليهم تشريفًا على تشريف، وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم في قول، وإخباره بتمني أهل النار طاعته في قوله تعالى:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا} للتنبيه، {لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ، وهذا بحر لا ينفد" "بفتح الفاء: لا يفرغ "وقطر "بفتح القاف وسكون الطاء"، أي: مطر "لا يعد" لكثرته، أو "بضم القاف"، أي: إقليم لا يمكن عد نواحيه وبلاده لكثرتها، جوازهما شيخنا في التقرير، واقتصر في الحاشية، على الفتح؛ لأنه أظهر والله أعلم.

ص: 342