الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقسامه:
القسم الأول: المساواة 1:
كقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 2 وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ، وقول النابغة الذبياني:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
…
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع3.
1 قدمها؛ لأنها الأصل المقيس عليه.
قال العسكري:
المساواة أن تكون المعاني بقدر الألفاظ والألفاظ بقدر المعاني، لا يزيد بعض على بعض، وهو المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب وإليه أشار القائل بقوله: فإن ألفاظه قوالب لمعانيه "173 صناعتين".
2 راجع الكلام على الآية في: 230/ 2 الدسوقي، 231/ 2 ابن يعقوب وعد العسكري الآية من الإيجاز "169 صناعتين".
3 المنتأى: موضع البعد شبهه في سخطه وهو له بالليل، قيل: في الآية حذف المستثني منه، وفي البيت حذف جواب الشرط؛ لأنه عند البصريين لا يتقدم فيكون كل منهما إيجازًا لامساواة. وفيه نظر؛ لأن اعتبار هذا الحذف رعاية لأمر لفظي لا يفتقر إليه في تأدية أصل المراد حتى لو صرح به لكان إطنابا إن كان لفائدة أو تطويلا لغويا إن كان لا لفائدة، والتطويل اللغوي الزائد لا لفائدة وإن كان متعينا، وإذا لم نقيد التطويل بكونه لغويا كان حشوا؛ لأن الزائد هنا متعين.
القسم الثاني: الإيجاز 1.
وهو ضربان: أحدهما إيجاز القصر وهو ما ليس بحذف، كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فإنه لا حذف فيه مع أن معناه كثير يزيد على لفظه؛ لأن المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَل قُتِل كان ذلك داعيا له قويا إلى أن لا يقدم على القتال، فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، فكان ارتفاع القتل حياة لهم، وفضله على ما كان عندهم أو جز كلام في هذا المعنى وهو قولهم: القتل أنفى للقتل من وجوه:
1 اللفظ قد يُنظر فيه إلى كثرة معناه بدلالة الالتزام من غير أن يكون في نفس التركيب حذف، فيسمي بهذا الاعتبار إيجاز قصر؛ لوجود الاقتصار في العبارة مع كثرة المعنى، وقد ينظر فيه من جهة أن التركيب فيه حذف فهو إيجاز حذف. والفرق بين إيجاز الحذف والمساواة ظاهر، وكذا الفرق بين مقاميهما، وأما الفرق بين إيجاز القصر والمساواة فهو أن المساواة ما جرى به عرف الأوساط الذين لا ينتبهون لإدماج المعاني الكثيرة في لفظ يسير والإيجاز بالعكس، ومقام الإيجاز والمساواة معلوم.
ملاحظة:
إيجاز القصر هو تقليل الألفاظ وتكثير المعاني كما يقول أبو هلال ص169 صناعتين: والقصر كعنب وإن كان المشهور فيه فتح القاف وسكون الصاد.
وراجع بحث الإيجاز في الصناعتين الباب الخامس، 169 سر الفصاحة.
2 راجع الكلام على الآية في ص202 و224 و298 و381 من الدلائل، وفي ص83 و120 من المفتاح، 169 و341 من الصناعتين.
فالآية ليس فيها حذف شيء مما يؤدي به أصل المراد، واعتبار الفعل الذي يتعلق به الظرف رعاية لأمر لفظي حتى لو ذكر لكان تطويلا.
أحدهما: أن عدو حروف ما يناظره1 منه2 وهو في القصاص حياة عشرة في التلفظ وعدة حروفه أربعة عشر.
وثانيهما: ما فيه التصريح بالمطلوب الذي هو الحياة بالنص عليها فيكون أزجر عن القتل بغير حق لكونه أدعى إلى الاقتصاص.
وثالثها: ما يفيده تنكير حياة من التعظيم3 أو النوعية4 كما سبق5.
ورابعها: إضراره 6 بخلاف قولهم، فإن القتل الذي ينفي القتل هو ما كان على وجه القصاص لا غيره7.
1 أي اللفظ الذي يناظر قولهم: "القتل أنفى للقتل".
2 أي من قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، وما يناظره منه هو قوله:{فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ؛ لأن قوله:
{وَلَكُمْ} زائد على معنى قولهم: "القتل أنفى للقتل"؛ فحروف: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أحد عشر، وحروف:"القتل أنفى للقتل" أربعة عشر، أعني الحروف الملفوظة؛ إذ بالعبارة يتعلق الإيجاز لا بالكتابة، فلا يقال أن:{فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ثلاثة عشر حرفًا، "والقتل أنفى للقتل" لأكثم بن صيفي.
3 أي حياة عظيمة لمنع القصاص إياهم عما كانوا عليه في الجاهلية من قتل جماعة بواحد.
4 أي: ولكم في القصاص نوع من الحياة؛ وهي الحياة الحاصلة للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعالم بالقصاص.
5 في تنكير المسند إليه.
6 أي عمومه لأفراده، و:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مطرد؛ إذ القصاص في كل وقت وزمن وفي كل فرد سبب للحياة.
7 وهو ما كان مثلا ظلما.
متعلق بثبوته نفيًا الملزوم بنفي اللازم1 وكذا قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاع 2} أي لا شفاعة ولا طاعة على أسلوب قوله3:
على لاحب لا يهتدي بمناره
…
"إذا ساقه العود النباطي جرجرا"
أي: لا منار ولا اهتداء، وقوله4:
لا يفزع الأرنب أهوالها
…
ولا ترى الضب به ينجحر
أي: لا ضب ولا انجحار.
ومن أمثلة الإيجاز أيضا قوله تعالى فيما يخاطب به النبي عليه الصلاة والسلام: {خُذِ الْعَفْوَ5 وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} ، فإنه جمع فيه مكارم الأخلاق؛ لأن قوله:{خُذِ الْعَفْوَ} أمر بإصلاح قوة الشهوة فإن العفو ضد الجهل؛ قال الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي
…
ولا تنطفي في سورتي حين أغضب6
أي: خذ ما تيسر أخذه وتسهل، وقوله:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} أمر بإصلاح قوة الغضب أي: أعرض عن السفهاء واحلم عنهم ولا تكافئهم
1 وهو وجوب كونه معلوما للعالم الأعلى لوكان له ثبوت.
2 راجع ص122 من المفتاح.
3 البيت لأمرئ القيس: "189 المثل السائر" وهو في المفتاح ص122.
4 اللاحب: الطريق بمشي على جهة، مناره ما يجعل عليه من علامة. سافه: شمه، العود: الجمل المسن. النباطي: الضخم نسبة إلى النبط. جرجر: رغا وضج؛ لمعرفته ببعد الطريق.
4 البيت لأوس بن حجر يصف مفازة بأنها غير مطروقة للناس، فلا يوجد ما يفزع أرانبها أو ينجحر بها ضبها أي: يدخل في جحره.
5 أي الفضل.
6 البيت لأسماء بن خارجة الفزاري. سورة الشيء: شدته.
على أفعالهم، هذا يرجع إليه منها. وأما ما يرجع إلى أمته فدل عليه بقوله:{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: بالمعروف والجميل من الأفعال، ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه فيما روي عنه: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية ومنها1 قول الشريف الرضي:
مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا
…
أيدي الطعان إلى قلوب تخفق3
فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام، عبر عن ذلك بقوله: أيدي الطعان، ومنه3 ما كتب عمرو بن مسعدة عن المأمون لرجل يعني به، إلى بعض العمال، حيث أمره أن يختصر كتابه ما أمكن: كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معني بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حاملة.
الضرب الثاني إيجاز الحذف4:
وهو ما يكون بحذف:
والمحذوف أما جزء جملة وجملة أو أكثر من جملة.
1 أي من أمثلة الإيجاز أيضا.
2 شعب الرحال: خشبها. وميلهم إليها عبارة عن ارتحالهم وركوبهم عليها، تخفق: تضطرب؛ لفراق الأحبة.
3 أي من الإيجاز. راجع 170 من الصناعتين: 253/ 2 الكامل للمبرد.
4 راجع في 198 جـ3 البيان والتبيين "باب من الكلام المحذوف".
وخامسها: سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام خلاف قولهم1.
وسادسا: استغناؤه عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإن تقديره: القتل أنفى للقتل من تركه2.
وسابعها: أن القصاص ضد الحياة فالجمع بينهما طباق كما سيأتي3.
وثامنها: جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال "في" عليه على ما تقدم. ومنه4 قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِين} ، أي: هدى للصالحين الصائرين إلى الهدى بعد الضلال، وحسنه التوصل إلى تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه وإلى تصدير السورة بذكر أو لياء الله تعالى، وقوله:{أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} 5 أي بما لا ثبوت له ولا علم الله
1 فإنه يشتمل على تكرار القتل ولا يخفى أن الخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه، وإن لم يكن مخلا بالفصاحة، فكلامهم بالنظر إلى أن التكرار معيب، وإن كان منه حسن من جهة ما فيه من رد العجز على الصدر، ولهذا قالوا: الأحسن في رد العجز على الصدر أن لا يؤدي إلى التكرار بأن لا يكون كل من اللفظين بمعنى الآخر.
2 راجع السيد علي "المطول": ص145.
3 والطباق الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة، سواء كان التقابل على جهة التضاد أو السلب والإيجاب أو غير ذلك، وقولنا في الجملة إذا كان تقابلهما بحسب ذاتهما فلوكان تقابلهما في الجملة أي بحسب ما استلزماه كالقصاص المستلزم للقتل، والقتل يشتمل على الموت الذي هو مقابل للحياة.
4 أي من الإيجاز راجع 120 مفتاح.
5 ص121 من المفتاح.
ملاحظة:
في البيان والتبيين: 223/ 2 إشارة للفرق بين الآية والحكمة. وفي الصناعتين مقارنة بينهما "169 صناعتين" نقلها المتأخرون ومنهم الخطيب ويزيد العسكري مزية أخرى وهي إبانة العدل بذكر القصاص ثم حسن التأليف وشدة التلازم في الآية الكريمة.
والأول1 إما مضاف2 كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} أي أهلها3، وكقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} . أي تناولها؛ لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال دون الإجرام، وقوله:{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُم} أي: تناول طيبات أحل لهم تناولها، وتقدير التناول أو لى من تقدير الأكل؛ ليدخل فيه شرب ألبان الإبل فإنها من جملة ما حرمت عليهم، وقوله:{وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} ، أي: منافع ظهورها وتقدير المنافع أو لى من تقدير الركوب؛ لأنهم حرموا ركوبها وتحميلها، وكقوله تعالى:{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه} ، أي: رحمة الله، وقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُم} أي: عذاب ربهم وقد ظهر هذان المضافان في قوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه} .
وإما موصوف كقوله4:
أنا أبن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
أي أن ابن رجل جلا5.
1 أي جزء الجملة والمراد به ما ليس مستقلا كالشرط وجوابه، والجملة ما كان مستقلا، والمراد الجزء مطلقا فضله أو عمدة، والعمدة ما يتوقف عليه أصل الإفادة.
2 راجع 175 صناعتين، 175 الصاحبي.
3 هو من باب الحذف إذا لم تجعل القرية مرادا بها أهلها مجاز مرسلا لعلاقة الحالية والمحلية وإلا فلا حذف وكذا على ما قاله داود الظاهري من أن اسم القرية مشترك بين المكان وأهله.
4 هو المعرجي كما في المطول والصحيح أنه لسحيم بن وثيل الرياحي وهو شاعر مخضرم.
وراجعه في 7 جـ2 الكتاب لسيبويه، 107 و282، 183 جـ1 الكامل للمبرد، 422 جـ3 العقد.
الثنايا: جمع ثنية وهي الطريق في أعلى الجبال. العمامة هي عمامة الحرب "البيضة". فلان طلاع الثنايا أي: ركَّاب لصعاب الأمور.
5 يريد المنكشف الأمر "الكامل". فيكون جلا لازما. جلا: انكشف أمره أو كشف الأمور لازما ومتعديا.
وقيل: "جلا" هنا علم، وعليه لا يكون في البيت شاهد؛ لعدم الحذف فيه، وحذف تنوينه باعتبار أنه منقول عن الجملة -أعني الفعل مع الضمير المستتر- لا عن الفعل وحده وإلا لنون؛ إذ ليس فيه وزن الفعل المانع من الصرف ولا زيادة كزيادة الفعل، والحاصل أن المنقول للعلمية إن "أعتبر معه ضمير فاعله وجعلت الجملة علما فهو محكي وأن لم يعتبر معه الضمير فحكمه حكم المفرد في الانصراف وعدمه، فإن كان على وزن يخص الفعل أو في أو له زيادة كزيادة الفعل منع الصرف وإلا فلا.
وأما صفة نحو: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، أي سفينة صحيحة أو صالحة أو نحو ذلك؛ بدليل ما قبله1 وقد جاء ذلك مذكورًا في بعض القراءات، قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" وأما شرط كما سبق2.
وأما جواب شرط 3 وهو ضربان:
أحدهما: أن يُحذف لمجرد الاختصار4، كقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوامابيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أي اعرضوا؛ بدليل قوله بعده: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِين} .
وكقوله تعالى5: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطِّعَتْ بِهِ
1 وهو قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} لدلالته على أن الملك كان لا يأخذ المعيبة.
2 إن كان المراد بالشرط فعل الشرط فقد سبق أو ل باب المسند، وإن كان المراد أداة الشرط فقد سبقت في باب الإنشاء عند قوله: وهذه الأربعة يجوز تقدير الشرط بعدها راجع السبكي 322 جـ2.
3 راجع 176 صناعتين، 29 ما اتفق لفظه للمبرد.
4 أي لنكتة لفظية فقط وهي الاختصار، بخلاف الحذف؛ فإنه لنكتتين كما يأتي، والاختصار نكتة موجبة للحذف فرارًا من العبث، ونكتة الحذف قد تكون غير ما ذكر كاختبار تنبه السامع أو مقدار تنبهه إلخ.
5 راجع 30 ما اتفق لفظه للمبرد.
ملاحظة:
الفرق بين الآية الكريمة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وبين:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
حيث جعل حذف الجواب هنا من إيجاز الحذف، وهنا ليس منه بل رعاية لأمر لفظي فقط، هو أن الجواب في البيت تقدم ما يدل عليه فأغني عرفا عن إعادته وفي الآية هنا دل عليه متأخر فضعفت دلالته عليه، فكأنه لم يذكر.
الْأَرْضُ أو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي: لكان هذا القرآن، وكقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ، أي ألستم ظالمين بدليل قوله بعده:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
والثاني: أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف1، أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، فلا يتصور مطلوبا أو مكروها إلا يجوز أن يكون الأمر أعظم منه، ولو عين شيء اقتصر عليه، وربما خف أمره عنده كقوله:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وكقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّار} ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 2.
قال السكاكي3: رحمه الله: "ولهذا المعنى حذف الصلة من قولهم: "جاء بعد اللتيا والتي، أي أشار إليه بهما وهي المحنة والشدائد
1 وذلك عند قصد المبالغة لكونه أمرا مرهوبا منه أو مرعوبا فيه، والقرائن تدل على هذا المعنى، ويلزم من كونه كذلك ذهاب نفس السامع إن تصدى لتقديره كل مذهب، وكونه لا يحيط به الوصف وذهاب نفس السامع فيه كل مذهب ممكن مفهومهما مختلف ومصدوقهما متحد، قد يقصدهما البليغ معا وقد يخطر بباله أحدهما فقط، ولتبيانهما مفهوما عطف الناس بأو مصدوقا مثل لهما بمثال واحد.
2 بناء على أن "لو" للشرط لا للتمني.
3 راجع ص121 من المفتاح.
قد بلغت شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير ببنت شفة
…
" وأما غير ذلك1 كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} . أي: ومن أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده2. ومن هذا الضرب قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ 3 شَيْبًا} ؛ لأن أصله: يا رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس مني شيبًا4. وعده السكاكي5 من القسم الثاني من الإيجاز6 على ما فسره، ذاهبا إلى أنه وإن اشتمل على بسط فإن انقراض الشباب وإلمام المشيب جديران بأبسط منه، ثم ذكر فيه لطائف يتوقف بيانها على النظر في أصل المعنى ومرتبته الأولى، ثم أفاد أن مرتبته الأولى: "يا رب قد شخت" فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس، ثم تركت هذه المرتبة؛ لتوخي مزيد التقرير إلى تفصيلها في: "ضعف بدني وشاب رأسي" ثم ترك التصريح بضعف بدني إلى الكناية بوهنت عظام بدني؛ لما سيأتي أن الكناية أبلغ من التصريح، ثم لقصد مرتبة رابعة أبلغ من التقرير بنيت الكناية على المبتدأ فحصل: أنا وهنت عظام بدني، ثم لقصد مرتبة خامسة أبلغ أدخلت إن على المبتدأ فحصل: "إن وهنت عظام بدني" ثم لطلب تقرير أنا الواهن عظام بدنه قصد مرتبة سادسة وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل، فحصل أني وهنت العظام من بدني، ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصد مرتبة سابعة وهي ترك توسيط البدن، فحصل
1 عطف على "مضاف" أي أو أن يكون المحذوف جزء جملة غير ما ذكر.
2 وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} .
3 راجع الكلام على الآية في: ص79 و301 و309 و312 و428 من الدلائل، وفي ص94 و124 من المفتاح.
4 راجع 263 صناعتين، 165/ 3 من شروح التلخيص.
5 راجع 124 من المفتاح.
6 وهو الذي يكون مقامه خليقا بأبسط مما ذكر فيه.
أني وهنت العظام مني، لم أطلب شمول الوهن العظام فردًا فردًا، قصدت مرتبة ثامنة وهي ترك الجمع إلى الإفراد1؛ لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد، فحصل ما ترى، وهكذا تركت الحقيقة في: شاب رأسي إلى الاستعارة في: اشتعل شيب رأسي لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة. ثم تركت هذه المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الرأس وتفسيره ب"شيبا"؛ لأنها أبلغ من جهات: إحداها إسناد الاشتعال إلى الرأس؛ لإفادة شمول الشيب الرأس؛ إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيبا وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي نارا والفرق كبير، وثانيتهما: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز، وثالثهما: تنكير "شيبا" لإفادة المبالغة: ثم ترك اشتعل رأسي شيبا؛ لتوخي مزيد التقرير إلى "اشتعل الرأس مني شيبا" على نحو وهن العظم مني، ثم ترك لفظ مني؛ لقرينة عطف: واشتعل الرأس، على وهن العظم مني، لمزيد التقرير وهي إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ.
ثم قال2 عقيب هذا الكلام: واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي "رب" اختصرت ذلك الاختصار، بأن حذفت كلمة النداء وهي "يا"، وحذفت كلمة المضاف إليه وهي ياء المتكلم، واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب وهي المنادى، والمقدمة للكلام كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة نازلة منزلة الأساس للبناء، فكما أن البناء الحاذق لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه كذلك البليغ يصنع بمبدأ كلامه. فمتى رأيته قد اختصر المبدأ فقد آذنك باختصار ما يورد.
1 و"أل" في "العظم" للاستغراق.
2 أي السكاكي راجع 124 من المفتاح.
انتهى كلامه، وعليك أن تنتبه لشيء وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ العظام فيه نظر؛ لأنا لا نسلم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل1 فرد، فالوجه في ذكر العظم دون سائر ما تركب منه البدن وتوحيده ما ذكره الزمخشري2 قال: إنما ذكر العظم لأنه عمود البدنه وبه قوامه وهو أصل بنائه، وإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أو هن، ووحده لأن الواحد الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدًا إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن بعض عظامه ولكن كلها2 وأعلم أن المراد بشمول الشيب الرأس أن يعم جملته حتى لا يبقى من السواد شيء أو لا يبقى منه إلا ما لا يعتد به.
والثاني4 أعني ما يكون جملة:
أما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِل} أي: فعل ما فعل5 وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: اخترناك، وقوله:{لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء} أي: كان الكف ومنع التعذيب، ومنه قول أبي الطيب:
1 لأنه إذا كانت "أل" في "العظم" للاستغراق فقد سبق أنه لا فرق بين استغراق المفرد واستغراق الجمع في الإثبات.
2 راجع الكلام بتفصيل في المطول ص85 و86.
3 راجع 339 جـ1 السبكي.
4 راجع 121 من المفتاح؛ والجملة الكلام المستقل بالإفادة الذي لا يكون جزء كلام آخر ولو عرض له في هذه الحالة ترتيبه بالفاء أو ترتب شيء عليه.
5 فهذا مذكور حذف مسببه ويقدر المسبب قبل السبب عند ابن يعقوب وبعده عند السبكي، وفي الآية تقدير ثانٍ وهو أن المذكور متعلق: بـ"يَقْطَع" قبله فلا شاهد فيها على هذا.
أتي الزمان بنوه في شبيبته
…
فسرهم وأتيناه على الهرم
أي: فساءنا.
أو بالعكس1 كقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: فامتثلتم، فتاب عليكم، وقوله:{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَت} ، أي: فضربه بها، فانفجرت2، ويجوز أن يقدر: فإن ضربت بها فقد انفجرت3 أو غير ذلك4 كقوله تعالي: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُون} على ما مر5.
والثالث6 كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ} ، أي: فأرسلوني إلى يوسف؛ لاستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه، فأتاه8 وقال له: يا يوسف7، وقوله: {فَقُلْنَا
1 أي السبب محذوف والمذكور هو مسببه.
2 صراحة، وبعضهم يتبين من داخله فيصلي ويصوم وقد.
3 الماضي الواقع جوابًا لا يقترن بالفاء إلامع: "قد" ولهذا قدر "قد" وعلى هذا فالمحذوف جزء وهو فعل الشرط مع أداته.
ملاحظة:
الفاء في مثل هذا وما ماثلها من كل فاء اقتضت الترتيب تسمى: فاء الفصيحة وهي الدالة على محذوف قبلها هو سبب لما بعدها وسميت فصيحة لإفصاحها عما قبلها أو لأنها تدل على فصاحة المتكلم فوصف بالفصاحة إسنادا مجازيا. قيل على التقدير الأول وهو رأي الطيبي وظاهر المفتاح، وقيل على التقدير الثاني وهو ظاهر كلام الكشاف، وقيل على التقديرين وهو اختيار السيد السبكي الذي قال: هي فصيحة على التقديرين: عاطفة أو جزائية.
4 أي غير المسبب وغير السبب.
5 أي: في بحث الاستئناف من أنه على حذف المبتدأ والخبر على قول من يجعل المخصوص مبتدأ محذوف الخبر أي: "نحن هم".
6 وهو ما كان المحذوف أكثر من جملة.
7 فقد حذف هنا خمس جمل مع ما لها من المتعلقات.
اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أي: فأتياهم، فأبلغاهم الرسالة، فكذبوهما، فدمرناهم، وقوله:{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بنِي إِسْرائيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ} ، أي: فأتياه أبلغاه ذلك، فلما سمعه:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ} ، ويجوز أن يكون التقدير فأتياه فأبلغاه ذلك ثم يقدر: فماذا قال؟ فيقع قوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ} استئنافا، ونحوه قوله:{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} ، أي: ففعل ذلك، فأخذت الكتاب، فقرأته، ثم كأن سائلا قال: فماذا قالت؟ فقيل: قالت: يا أيها الملأ. وأما قوله تعالى2: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقال الزمخشري في تفسيره: هذا موضع الفاء كما يقال: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر، وعطفه بالواو إشعارًا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما العلم، كأنه قال: فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا: الحمد لله، وقال السكاكي2: يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما وعما قالا، كأنه قال: نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا الحمد من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع كقولك: قم يدعوك، بدل: قم فإنه يدعوك.
واعلم أن الحذف على وجهين: أحدهما أن لا يقام شيء مقام المحذوف3 كما سبق 4. والثاني أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُم} ليس إلا بلاغ هو الجواب؛ لتقدمه على توليهم5، والتقدير فإن تولوا فلا لوم علي لأني قد أبلغتكم، أو فلا عذر لكم عند ربكم، وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَد
1 راجع 121 من المفتاح.
2 راجع 121 من المفتاح.
3 فيكتفى فيه بالقرينة اللفظية أو الحالية كما سبق في الأمثلة.
4 أي في الأمثلة السابقة لحذف جزء الجملة.
5 وجزاء الشرط يجب أن يكون مضمونه مترتبا على مضمون الشرط.
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِك} أي: فلا تحزن1 واصبر فإنه قد كذبت رسل من قبلك، وقوله:{وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِين} أي فيصيبهم مثل ما أصاب الأولين.
وأدلة الحذف2 كثيرة3 منها4:
أن يدل العقل على الحذف والمقصود الأظهر5 على تعيين المحذوف كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية، وقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية، فإن العقل يدل على الحذف لما مر6 والمقصود الأظهر يرشد إلى أن التقدير حرم عليكم تناول الميتة وحرم عليكم نكاح أمهاتكم؛ لأن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها ومن النساء نكاحهن. ومنها أن يدل العقل على الحذف والتعيين.
1 فقد كذبت "ليس جزاء الشرط؛ لأن تكذيب الرسل متقدم على تكذيبه وجزاء لشرط يجب أن يكون مضمونه مترتبًا على مضمون الشرط، فهو سبب لمضمون الجواب المحذوف وهو عدم الحزن فأقيم ذلك السبب مقام الجواب.
2 أي الذي لم يقم فيه شيء مقام المحذوف، فهو راجع للقسم الأول، وقول النحاة "الاقتصار الحذف لا لدليل" اصطلاح، والحق أن الفعل فيه صار قاصرًا وإنما يسمونه حذفًا اعتبارًا بالفعل قبل جعله قاصرًا.
3 كثرتها من حيث الدلالة على تعيين المحذوف وأما دليل الحذف فهو شيء واحد هو العقل ولما كان ما دل على التعيين يدل على الحذف وإن كان العقل وحده قد يدل على الحذف صح التعبير بالجمع "أدلة" والوصف بالكثرة.
4 عبر بمنها إشارة إلى أن هناك أدلة أخرى لم يذكرها كالقرائن اللفظية.
5 أي بحسب العرف في الاستعمال.
6 فالعقل مدرك لذلك إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بأفعال المكلفين دون الذوات وذلك مذهب المعتزلة والعراقيين السنيين لا الحنفية فعندهم يجوز تعلقها بالأعيان.
كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ، أي أمر ربك أو عذابه أو بأسه1 وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام} أي: عذاب الله أو أمره.
ومنها: أن يدل العقل على الحذف والعادة2 على التعيين، كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيه} دل العقل على الحذف؛ لأن الإنسان إنما يلام على كسبه، فيحتمل أن يكون التقدير في حبه لقوله:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا 3} ، وأن يكون في مراودته لقوله:{تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِه} ، وأن يكون في شأنه وأمره فيشملهما، والعادة دلت على تعيين: المراودة؛ لأن الحب المفرط لا يلام الإنسان عليه في العادة لقهره صاحبه وغلبته، وإنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه.
ومنها: أن تدل العادة على الحذف والتعيين كقوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُم} ، مع أنهم كانوا أخبر الناس بالحروب، فكيف يقولون بأنهم لا يعرفونها؟ فلا بد من حذف قدره مجاهد رحمه الله مكان قتال، أي أنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال ويخشى عليكم منه، ويدل عليه أنهم أشاروا إلى رسول الله أن لا يخرج من المدينة وأن الحزم البقاء.
ومنها الشروع في الفعل4 كقول المؤمن: "بسم الله الرحمن
1 فالعقل يدل على امتناع مجيء الرب ويدل على تعيين المراد أيضًا.
2 أي المقررة لا العادة في استعمال الكلام بخلاف ما سبق في "والمقصود الأظهر".
3 أي أصاب حبه شغاف قلبها وغلافه.
4 راجع 98 من المفتاح، يعني من أدلة تعيين المحذوف بعد دلالة العقل على أصل الحذف، لا من أدلة الحذف، فدليل الحذف هنا هو العقل بسبب إدراكه أن الجار والمجرور لا بد أن يتعلق بشيء والشروع في الفعل دل على أنه ذلك الفعل الذي شرع فيه.
الرحيم"، كما إذا قلت عند الشروع في القراءة: "بسم الله" فإنه يفيد أن المراد بسم الله أقرأ وكذا عند الشروع في القيام والقعود أو أي فعل كان فإن المحذوف يقدر ما1 جعلت التسمية مبدأ له2.
ومنها3: اقتران الكلام بالفعل، فإنه يفيد تقديره كقولك لمن أعرس: بالرفاء4 والبنين5 فإنه يفيد: بالرفاء والبنين أعرست.
القسم الثالث: الإطناب.
وهو إما:
1-
الإيضاح بعد الإبهام":
أما بالإيضاح بعد الإبهام:
ليرى المعنى في صورتين مختلفتين6: أو ليتمكن في النفس فضل تمكن7 فإن المعنى إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك فإذا ألقي كذلك تمكن فيها فضل تمكن وكان شعورها به أتم،
1 أي الفعل الذي.
2 أي لمعناه.
3 أي من أدلة تعيين المحذوف بعد دلالة العقل على أصل الحذف.
4 أعرس: تزوج.
5 الجملة خبرية لفظًا إنشائية معنًى. والرفاء: الالتحام والاتفاق والباء للملابسة.
فمقارنة هذا الكلام لأعراس المخاطب دل على تعيين المحذوف أي أعرست، أو مقارنة المخاطب بالأعراس وتلبسه به دل على ذلك.
6 أحدهما مبهمة والأخرى موضحة، وعلمان خير من علم واحد.
7 في مقام كون المعنى ينبغي أن يملأ القلب لرغبة أو لرهبة أو أن يحفظ لتعظيم أو لعمل به.
أو لتمكن اللذة بالعلم به1 فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم، وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب المعلوم لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم، ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم أو لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله2 تعالى:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} ، فإن قوله اشرح لي يفيد طلب شرح لشيء ما له3، وقوله:{صَدْرِي} يفيد تفسيره وبيانه4 وكذلك قوله: ويسر لي أمري، والمقام مقتض للتأكيد للإرسال المؤذن بتلقي المكاره والشدائد. وكقوله تعالى:{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِين} ، ففي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمور وتعظيم له.
1 أي بالمعنى لما لا يخفى من أن نيل الشيء بعد الشوق والطلب ألذ.
2 التركيب في ذاته من شأنه أن يفيد الأغراض الثلاثة فهو بحيث لو خوطب به غير الله أمكن فيه ما ذكر.
3 أي للطالب، "فلي" ظرف مستقر وقع صفة لمحذوف.
أي اشرح شيئًا كائنًا لي، ثم فسر الشيء بالبدل منه بقوله:{صَدْرِي} ويصح أن المجرور متعلق بالشرح أي اشرح لأجلي، فالمقصود زيادة ربط اشرح بنفسه، فلا إجمال. أو أنه من قبيل الإجمال والتفصيل؛ لأن اشرح يفيد طلب شيء يشرح؛ لأن الشرح يستدعي مشروحًا لكنه مبهم، ثم فسر بصدري، وذلك أن تخصيص المطلوب بالطالب يفيد تعينه عنده، وإنما يتعين بمتعلق هو المفعول، لعلم الإنسان بأحوال نفسه غالبًا وتعلق غرضه بمصالحه الخاصة غالبًا، فيكون ذكره يعد إيضاحًا بعد إبهام، أما إذا لم يكن متخصصًا بالطالب فلا يفيد ذلك.
4 أي تفسير ذلك الشيء وبيانه.
ومن الإيضاح بعد الإبهام باب نعم وبئس1 على أحد القولين2 إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل: نعم زيد وبئس عمرو3 ووجه حسنه4 سوى الإيضاح بعد الإبهام5 أمران آخران؛ أحدهما: إبراز الكلام في معرض الاعتدال، نظرا إلى إطنابه من وجه وإلى اختصاره من آخر، وهو حذف المبتدأ في الجواب، والثاني إبهام الجمع بين المتنافيين6.
1 أي أفعال المدح والذم- راجع في ذلك ص123 من المفتاح.
2 وهو قول من يجعل المخصوص مبتدأ خبره محذوف والجملة مستأنفة للبيان. أما على من يجعل المخصوص مبتدأ قدم خبره عليه، فليس من الإيضاح؛ لأن الكلام عليه جملة واحدة والمخصوص فيها مقدم في التقدير، وأل في الفاعل حينئذٍ للعهد، وما ذكره الشارح إنما يأتي إذا كان المقصود مدح زيد ومدح الجنس من أجله، أما إذا قلنا: المقصود مدح الجنس فيه فلا، والسكاكي كلامه يدل على أنه يرى جعل اللام للجنس"123 مفتاح".
3 أي بالنسبة إلى متعارف الأوساط، وإن كان هذا التركيب في نفسه ممتنعًا؛ لأن فاعل نعم لا بد أن يكون بأل أو مضاف لما فيه أل أو ضمير مفسرا بتمييز.
4 أي حسن باب نعم.
5 للأغراض الثلاثة المتقدمة.
6 أي الإيجاز والإطناب، وقيل: الإجمال والتفصيل، ولا شك أن إيهام الجمع بين المتنافيين من الأمور المستغربة التي تُدخل على النفس اللذة، وإنما قال:"إيهام الجمع بين المتنافيين" لأن حقيقة جمع المتنافيين أن يصدق على ذات واحدة وصفان يمتنع اجتماعهما على شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة، وهنا الجهة ليست كذلك؛ لأن الإيجاز من جهة حذف المبتدأ والإطناب من جهة ذكر الخبر بعد ذكر ما يعمه، هذا والجمع المذكور إن كان الإتيان به مناسبا للمقام لنكتة كالتأكيد في إمالة قلب السامع كان من المعاني، وإن قصد به التحسين لا غير كان من البديع.
ومنه1 التوشيع2 وهو:
أن يؤتى في عجز الكلام3 بمثنى4 مفسر باسمين أحدهما معطوف على الآخر5 كما جاء في الخبر: "يشيب ابن آدم ويشب6 فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل7" وقول الشاعر8:
سقتني في ليل شبيه بشعرها
…
شبيهة خديها بعير رقيب
فما زلت في ليلين: شعر وظلمة
…
وشمسين: من خمر ووجه حبيب
وقول البحتري:9
لما مشين بذي الأراك تشابهت
…
أعطاف قضبان به وقدودِ
في حلتي حبر وروض فالتقى
…
وشيان: وشي ربىً ووشي برودِ
1 أي من الإيضاح بعد الإبهام.
2 هو لغة جمع القطن المندوف. واصطلاحا يطلق على المعنى المصدري وهو الإتيان في عجز الكلام إلى آخر ما ذكره الخطيب كما يطلق على المعنى الأسمي أي على الكلام وراجع ص214 من الصناعتين في باب التطريز.
3 أي أو في أوله أو في وسطه؛ لأن تخصيصه بالعجز ليس له وجه.
4 أو بجمع.
5 وفي الجمع يفسر بأسماء.
6 أي ينمو.
7 تجد هذا الخبر في البيان والتبيين ص95 جـ3.
8 هو ابن المعتز. شبيهة خديها هي الخمر. الرقيب: الذي يراقبهما، وراجع البيتين في 227 جـ1 الأمالي، 15 جـ3 زهر الأداب، وفي هذا الموضع من الزهر أبيات للشعراء في هذا المعنى.
وفي العقد112 جـ4 قال: قال المعتز "لعلها ابن المعتز":
فأمسيت في ليلين: للشعر والدجا
…
وشمسين: من كأس ووجه حبيب
9 من قصيدة له في مدح المتوكل "126 ديوان البحتري، 499 الأدب العباسي". الأعطاف: الجوانب. القضبان: الأغصان. القدود: القامات. الحلة: الثواب أو الجديد منه. الحبر: ضرب من برود اليمن. الوشي: النقش. الربى: جمع ربوة ما ارتفع من الأرض. البرود جمع برد وهو كساء مخطط. الجني مصدر جنى الثمر: تناوله من الشجر.
2-
ذكر الخاص بعد العام":
وأما ذكر الخاص بعد العام1 للتنبيه على فضله2 حتى كأنه ليس من جنسه3 تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، كقوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وقوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 4.
3-
التكرير 5:
وأما بالتكرير لنكتة6: كتأكيد الإنذار في قوله تعالى: {كَلَّا 7
1 المراد الذكر على سبيل العطف لا على سبيل الوصف أو الإبدال فلو كان الذكر على غير سبيل العطف كان من الإيضاح بعد الإبهام، ووجهه أنه مع الوصف أو الإبدال يكون ذلك الخاص هو المراد من العام، فليس في ذكره بعد إفراد العام تنبيه على فضله؛ لجعل العام بمنزلة الجنس للآخر.
2 أي على مزية الخاص.
3 أي العام.
4 أي الوسطى من الصلوات أو الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط وهي صلاة العصر عند الأكثر.
5 راجع في ص247 من المفتاح الرد على من يعيب القرآن بالتكرار.
6 ليكون إطنابا لا تطويلا.
7 فقوله: "كَلَّا" ردع وزجر عن الانهماك في الدنيا وتنبيه على الخطأ في الاشتغال بها، و:{سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إنذار وتخويف، وفي تكريره تأكيد للزجر والإنذار.
{سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ 1} ، وفي ثم2 دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد3، كزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقي الكلام بالقبول. في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي آمَن يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا متَاعٌ} وقد يكرر اللفظ لطول في الكلام كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وفي قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . وقد يكرر؛ لتعدد المتعلق كما كرره الله تعالى من قوله4: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} ؛ لأنه تعالى ذكر نعمة عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى، فإن قيل: قد عقب بهذا القول ما ليس بنعمة كما في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} ، وقوله:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، قلنا: العذاب وجهنم وأن لم يكونا من آلاء الله تعالى فإن ذكرهما ووصفهما على طريق الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات من آلائه تعالى: ونحوه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه عقب كل قصة: ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة".
1 أي في العطف بها. وراجع الكلام على الآية وما فيها من تكرير في ص3969 من كتاب الإسكافي "درة التنزيل".
2 أي أوكد وأقوى من الأول ووجه الأبلغية هي باعتبار زيادة المنذر به لاباعتبار أنه شيئا في المفهوم، وذلك بتنزيل بعد المرتبة منزلة بعد الزمان واستعمال لفظ ثم في مجرد التدرج في مراتب الارتقاء.
3 راجع 187 صناعتين، 356 الأسكافي.
4 راجع 391 من كتاب الأسكافي.
4 الإيغال 1:
وإما بالإيغال، واختلف في معناه:
1-
فقيل هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها كزيادة المبالغة2 في قول الخنساء:
وأن صخرًا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار3
لم ترضَ أن تشبهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في راسه نارًا وقول ذي الرمة:
1 راجع الكلام على الإيغال في ص100 نقد الشعر، 372 صناعتين و296 المثل السائر، 432 من الصناعتين أيضا.
2 أي في التشبيه.
3 العَلَم: الجبل. رأسه، قمته والضمير في الرأس يعود للجبل. تأتم: تقتدي وتتبع. الهداة: الذين يهدون الناس جمع هاد. وراجع الكلام على البيت في: 69 جـ4 زهر الآداب، 84 رسالة الغفران، 44 و280 جـ3 الكامل للمبرد، 108 و382 صناعتين والبيت من قصيدة ترثي بها الخنساء أخاها صخرا.
والشاهد في البيت قولها: "في رأسه تنار" فإنها زيادة للإيغال، وجيء بهذه الزيادة لغرض المبالغة في التشبيه فإن قوله "كأنه" علم وافٍ بالمقصود أعني التشبيه بما يُهتدى به وهو الجبل إلا أن قولها "في رأسه نار" زيادة مبالغة.
ملاحظة:
الإيغال: من أوغل في البلاد إذا أبعد فيها وسمي المعنى الاصطلاحي إيغالا؛ لأن المتكلم قد تجاوز حد المعنى.
والذي يقع إيغالا في آخر البيت يكون جملة أو مفردا، والنكتة في الإيغال يتم أصل المعني بدونها، والنكتة لا تختص بما يتم المعنى بدونه بل يجوز أن يتوقف عليها كما يتوقف أحيانا على بعض الفضلات.
وهي: -أي النكتة- أما المبالغة في التشبيه بأن يؤتى بشيء يفيد كون المشبه به غاية في كمال وجه الشبه الكائن فيه فينجز ذلك الكمال إلى المشبه الممدوح بوجه الشبه، وإما تحقيق التشبيه وسيأتي.
قف العيس في أطلال مية واسألِ
…
رسوما كأخلاق الرداء المسلسلِ1
أظن الذي يجدي عايك سؤالها
…
دموعا كتبذير الجمان المفصل
وكتحقيق التشبيه2 في قول امرئ القيس 3:
كأن عيون الوحش حول خبائنا
…
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقبِ
فإنه: لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية واحتاج إليها جاء بزيادة حسنة في قوله: "لم يثقب" لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون، ومثل قوله زهير:
1 البيت في الصناعتين ص372.
العيس: الأبل البيض يخالط بياضها سواد خفيف. الأطلال جمع طلل وهو الشاخص من الآثار. الرسوم جمع رسم وهو ما كان لاحقا بالأرض منها، الأخلاق جمع خلق بفتحتين وهو البالي. المسلسل الردئ النسج. يجدي: يعطي. التبذير: التفريق. الجمان المفصل: اللؤلؤ المنظم.
والشاهد في البيت "المسلسل" و"المفصل" فإنهما زيادتان للإيغال جئ بهما للمبالغة في التشبيه.
2 أي بيان التساوي بين الطرفين في وجه الشبه بأن يذكر في الكلام ما يدل على أن المشبه مساوٍ للمشبه به في وجه الشبه.
3 من قصيدة تقرؤها في الأدب والعصر الجاهلي لمحمد هاشم ص172، وهو في 36 جـ2 من الكامل للمبرد، 233 و373 صناعتين.
الخباء: ما كان من وبر أو صوف -الشعر- على عمر ودين أو ثلاثة وما فوق ذلك بيت. الجزع بفتح الجيم: الخرز اليماني الذي فيه سواد وبياض وهو عقيق فهي دوائر البياض والسواد شبه به عيون الوحش بعد موتها، وأتى بقوله:"لم يثقب" تحقيق للتشبيه؛ لأنه إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون، قال الأصمعي: الظبي والبقرة إذا كانا حيين فعيونهما كلها سواد فإذا ماتا بدأ بياضها، وإنما شبهها بالجزع وفيه سواد وبياض بعد ما مات والمراد كثر الصيد، يعني مما أكلنا كثرت العيون عندنا، كما في شرح ديوان امرئ القيس.
كأن فتات العهن في كل منزل
…
نزلن به حب الفنا1 لم يحطم
فإن حب الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم، وكذا قول امرئ القيس2:
حملت ردينيا كأن سنانه
…
سنا لهب لم يتصل بدخان
ب- وقيل لا يختص بالنظم3، ومثل بقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4.
5-
التذليل 5:
1 قال المبرد:
الفنا: شجر يثمر ثمرا أحمر ثم يتفرق في هيئة النبق الصغار، فهذا من أحسن التشبيه، وإنما وصف ما يسقط من أنماطهن إذا أنزلن، والعهن: الصوف الملون، وقال الأصمعي: كل صوف عهن "69 جـ2 كامل".
والبيت في الكامل للمبرد ص68 جـ2، وفي الصناعتين ص273.
2 وينسب لعميرة بن جعيل "ص125 من المفضليات". وسيأتي الكلام عليه في التشبيه.
الرديني: الرمح منسوب إلى ردينة وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح سنا اللهب ضؤوه. وسيأتي البيت في التشبيه.
والشاهد فيه قوله: "لم يتصل بدخان" فهي زيادة أتي بها إيغالا لتحقيق التشبيه وقوله بعد البيت "كما سيأتي" أي في باب التشبيه.
3 فالإيغال على الوجه الأول مختص بالنظم وعلي هذا لا يختص به فهو على هذا ختم الكلام شعرا أو نثرا بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها أي بدون التصريح بها لا بدونها أصلا.
4 فقوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسول مهتدٍ لا محالة؛ إلا أن في التصريح به زيادة حيث على الاتباع وترغيب في الرسل.
5 راجع الكلام عليه في الصناعتين ص364 و403 والتذليل لغة جعل الشيء ذيلا للشيء.
وإما بالتذليل، وهو تعقيب الجملة بجملة1 تشتمل2 على معناها3 للتوكيد4:
وهو ضربان:
1-
ضرب لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بإفادة.
1 أي بجملة أخرىلا محل لها من الإعراب.
2 أي تلك الجملة المعقب بها.
3 أي على معنى الجملة الأولى ولو مع الزيادة فالمراد باشتمالها على معناها إفادتها بفحواها لما هو المقصود من الأولى، وليس المراد إفادتها لنفس معنى الأولى بالمطابقة وإلا كان ذلك تكرارا فلا بد أن يقع:{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُون} فلا يكون ذلك تذليلا، فإن قوله:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} مضمونه أن آل سبأ جزاهم الله بكفرهم، ومعلوم أن الجزاء بالكفر عقاب كما دلت عليه القصة ومضمون قوله تعالى:{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور ولكن اختلاف مفهومها لا يمنع تأكيد أحدهما بالأخرى للزوم بينهما معنى.
4 أي بقصد التقوية بتلك الجملة الثانية عند اقتضاء المقام للتوكيد فالتذليل أعم من الإيغال عموما وهما يجتمعان فيما يكون في ختم الكلام لنكتة التأكيد بجملة كما في: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} الآية، فهذا إيغال من جهة أنه ختم الكلام بما فيه نكتة يتم المعنى بدونها، وتذييل من جهة أنه تعقيب الجملة بأخرى تشتمل على معناها للتأكيد، وينفرد بالإيغال فيما يكون بغير جملة وفيما هو لغير التأكيد سواء كان بجملة أم بمفرد كما في قوله:"لم يثقب" وينفرد التذييل فيما يكون في غير ختم الكلام بجملة كقولك: مدحت زيدا، أثنيت عليه بما فيه فأحسن إلي.
فالتذليل يكون في آخر الكلام وغير آخر الكلام بخلاف الإيغال فإنه لا يكون إلا في الآخر، والإيغال قد يكون بغير الجملة أما التذليل فلا يكون إلا بالجملة وللتوكيد.
المراد1 وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ، إن قلنا: إن المعنى وهل يجازى ذلك الجزاء2، وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر:
وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة تستعمل تارة في معنى المعاقبة وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله:{جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} بمعنى عاقبناهم بكفرهم، قيل: وهل يجازى إلا الكفور؟ بمعنى وهل يعاقب؟ فعلى هذا يكون من الضرب الثاني3، وقول الحماسي4.
فدعوا: نزال فكنت أول نازل
…
وعلام أركبه إذا لم أنزل؟
وقول أبي الطيب:
وما حاجة الأظنان حولك في الدجى
…
إلى قمر ما واجد لك عادمه5
1 بأن يتوقف على ما قبله واستقل ولم يفشُ استعماله أي لم يكثر استعماله. هذا والمثل لا بد فيه من الاستقلال؛ لأنه كلام تام نقل عن أصل استعماله لكل ما يشبه حال الاستعمال الأول.
2 أي المخصوص إلا الكفور فيتعلق بما قبله فحينئذ لا يكون جاريا مجرى المثل.
3 وهو ما أخرج مخرج المثل وذلك على أن يراد: وهل يعاقب -أي بمطلق عقاب لا يعاقب مخصوص- إلا الكفور، بناء على أن المجازاة هي المكافأة إن خيرا فخير وأن شرا فشر، وأما على الوجه الأول، فبناء على أن الجزاء بمعنى العقوبة.
4 هو ربيعة بن مقروم الضبي "22 جـ1 الحماسة". وراجع البيت في الصناعتين ص366.
نزال اسم فعل بمعنى انزل بريد النزول إلى الحرب.
5 الظعينة: المرأة في الهودج. ما نافية والمعنى: ليس الواجد لك عادم القمر لأنك تقومين مقامه.
وقوله أيضا:
تمسي الأماني صرعي دون مبلغه
…
فما يقول لشيء ليت ذلك لي1
وقول ابن نباتة السعدي:
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله
…
تركتني أصحب الدنيا بلا أملِ
قيل: نظر فيه إلى قول أبي الطيب وقد أربى عليه في المدح والأدب مع الممدوح؛ حيث لم يجعله في حيز من تمنى شيئا.
ب- وضرب يخرج مخرج المثل2، كقوله تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} .
وقول الذبياني:
ولست مبستبق أخا لا تلمه
…
على شعث، أي الرجال المهذب3
1 المعنى أن الأماني لا تصل إلى مدى غاياته وآماله فهو لا يتمنى أمنية؛ لأنه يدرك أكثر ما يتمناه أمثاله فلا تجده يتمنى شيئا يناله.
2 بأن يقصد بالجملة الثانية حكم كلي منفصل عما قبلها جارٍ مجرى الأمثال في الاستقلال وفشو الاستعمال أي استعمال اللفظ الدال على كل منهما. وفي ابن يعقوب: فشو الاستعمال لا دليل على اشتراطه فيه فالأولى حذف.
3 لا تلمه أي لا تضمه أو لا تصلحه، حال مما قبله -أخًا- لعمومه لوقوعه في حيز النفي، أو حال من ضمير المخاطب في "لست". الشعث: انتشار الرأس وتغيره وكثرة وسخه والمراد به هو الأدران المعنوية كالتفريق وذميم الخصال والاستفهام في شطره الثاني للإنكار.
والبيت في: 56 صناعتين، 14 حسن التوسل إلى صناعة الترسل للحلبي.
وقول الحطيئة:
تزور فتى يعطي على الحمد ماله
…
ومن يعطَ أثمان المكارم يحمدِ1
وقد اجتمع الضربان في قوله2: تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ} فإن قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} من الأول3 وما بعده من الثاني، وكل منهما تذييل على ما قبله.
وهو4 أيضا:
إما لتأكيد منطوق كلام كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ} الآية5 وإما لتأكيد مفهومه6 كبيت النابغة، فإن صدره دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال فحقق ذلك وقرره بعجزه.
6-
التكميل 7:
وأمابالتكميل -ويسمى الاحتراس أيضا8- وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه9.
1 راجع البيت في 50/ 4 زهر الآداب.
2 راجع 365 صناعتين.
3 لارتباطه بما قبله بالفاء الدالة على الترتيب.
4 أي التذييل مطلقا سواء كان من الضرب الأول أو الثاني.
5 فإن زهوق الباطل في قوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} منطوق به في قوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِل} ، والمراد بالمنطوق هنا المعنى الذي نطق بمادته.
6 أي مفهوم الكلام "الجملة الأولى".
7 راجع 380 صناعتين.
8 جعله العسكري ضربان من ضروب الاستثناء "397 صناعتين".
وسمي الاحتراس؛ لأن فيه التوقي والاحتراز عن توهم خلاف المقصود.
9 والتذييل وإن كان فيه أيضًا دفع التوهم؛ لأنه للتأكيد إلا أنه =
وهو ضربان:
ضرب يتوسط الكلام، كقول طرفة:
فسقى ديارك -غير مفسدها-
…
صوب الربيع وديمة1 تهمي
= مختص بالجملة وبالآخر ولدفع التوهم في النسبة والتكميل لا يختص بشيء من ذلك. وسيأتي أنه يجامع الاعتراض فيكون في الإثناء.
وقوله: بما يدفعه أي يدفع إيهام خلاف المقصود سواء كان ذلك القول مفردا أو جملة، كان للجملة محل من الإعراب أم لا. وذلك الدافع قد يكون في وسط الكلام، وقد يكون في آخره وقد يكون في أوله، وفي كل هو أما جملة أو مفرد، فبينه وبين الإيغال عموم وخصوص وجهي، لاجتماعهما فيما يكون في الأخر لدفع إيهام خلاف المقصود وانفراد الإيغال فيما ليس فيه دفع الإيهام مثل:"علم على رأسه نار" وانفراد التكميل بما في الوسط مثل "غير مفسدها" وبينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي إن صح أن التأكيد الكائل بالتذليل قد يدفع إيهام خلاف المقصود، وذلك لانفراد التكميل بما يكون بعد جملة، وانفراد التذييل بما يكون لمجرد التأكيد الخالي عن دفع الإيهام، وأما إن كان التأكيد الكائن بالتذييل لا يجامع دفع الإيهام فهما متباينان، والحق أن التذييل لا يستلزم التكميل بل هو أعم من التذييل مطلقا وبينه وبين التكرير والإيضاح المباينة كمباينة الإيغال والتذييل لهما.
1 هو من قصيدة يمدح بها قتادة الحنفي. وراجع الكلام على البيت في 397 و381 صناعتين، 162 جـ1 البيان، 302 وساطة، 31 الموازنة.
تهمي: تسيل. صوب الربيع: مطره غير مفسدها نصب على الحال من فاعل سقي. الديمة: المطر المسترسل.
لما كان نزول المطر قد يؤول إلى خراب الديار وفسادها أتي بقوله: "غير مفسدها" نفعا لذلك.
والاحتراس هنا في وسط الكلام بين الفعل وفاعله وقوله: "ديارك" بفتح الكاف لأنه يخاطب به ممدوحه.
وقد عيب قول الشاعر:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى
…
ولا زال منهلا بجرعائك القطر
لأن نزول المطر باستمرار قد يؤدي إلى خراب الديار
وقيل: لا عيب فيه لأن الدعاء قرينة على أن المراد ما لا يضر وللشاعر أن يكتفي بذلك فلا يحترس فيه.
وقول الآخر1:
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى
…
في الحسن عند موفق لقضى لها
إذ التقدير عند حاكم موفق، فقوله:"موفق" تكميل، وقول ابن المعتز:
صببنا عليها ظالمين سياطنا
…
فطارت بها أيدٍ سراع وأرجلُ2
وضرب يقع في آخر الكلام، كقوله تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} 3 فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتوهم أن ذلتهم لضعفهم فلما قيل: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} علم أنها منهم تواضع لهم، ولهذا عدي الذل بعلي بتضمينه معنى العطف، كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع، ويجوز أن تكون التعدية بعلي لأن المعنى أنهم مع شرفهم وعلو طبقاتهم
1 هو كثير عزة، وقضى لها: حكم لها على الشمس.
2 والضمير في عليها للإبل وفي "بها" للسياط. قوله: "ظالمين" تكميل؛ لأن ضربها إنما يكون غالبا من تثاقل في السير فدفعه بذلك.
قال الحصري: في قول زهير:
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
…
فلم يفعلوا، ولك يليموا، ولم يألوا
قال بعض أهل المعاني: أعجب بقوله: "ولم يألوا" لأنه لما ذكر السعي بعدهم والنخاف عن بلوغ مساعيهم جاز أن يتهم السامع أن لك لتقصير الطالبين في طلبهم فأخبر أنهم لم يألوا وأنهم كانوا غير مقصرين وأنهم مع الاجتهاد في المتأخرين إلخ 88/ 1 زهر الآداب.
3 قوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} إطناب حيث دفع توهم غيره، وإن كان له معنى مستقل في نفسه؛ لأنه لا يشترط في الإطناب أن لا يكون فيه معنى مستقل بل يجوز وجود الإطناب إذا استقل لفظه بإفادة المعنى وكان في إفادته دقة مناسبة لا يراعيها إلا البلغاء.
فلما كان يتوهم في ذلتهم على المؤمنين؛ لضعف فيهم دفعة بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} تنبيها على أن ذلك تواضع منهم للمؤمنين.
وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم1 ومنه قول ابن الرومي2 فيما كتب به إلى صديق له: أني وليك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته، من غير طمع ولا جزع، وإن كنت لذي الرغبة مطلبا ولذي الرهبة مهربا، وكذا قول الحماسي3:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره
…
وما فوق شكري للشكور مزيدُ
وكذا قول كعب بن سعد الغنوي4:
حليم إذا ما الحلم زين أهله
…
مع الحلم في عين العدو مهيبُ
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم لأوهم أن حمله عن عجز فلم يكن صفة مدح فقال: إذا ما الحلم زين أهله، فأزال هذا الوهم وأما بقية البيت فتأكيد للازم ما يفهم من قوله: إذا ما الحلم زين أهله من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله فإن من يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله لا يكون مهيبا في عين العدو لا محالة فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا كما زعم بعض5 الناس، ومنه قول الحماسي:
1 فعلي الأول التوسع بتضمين الذل معنى العطف، "وعلى" باقية على معناها.
وعلى الثاني "الذل" على معناه والتجوز في استعمال "على" موضع اللام للإشارة إلى أنهم في رفعة واستعلاء على غيرهم من المؤمنين وأن تذللهم تواضعٌ منهم لا عجز.
2 راجع 204 جـ4 زهر الآداب.
3 راجع 257/ 2 حماسة، وهي غير منسوبة لقائلها، وراجع البيت أيضا في 39 جـ2 زهر الآداب.
4 يرثي أخاه أبا المغوار، راجع 88/ 3 البيان والتبيين، 270/ 2 الأمالى.
5 فهي عند المصنف تذييل لتأكيد المفهوم. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن من لا يكون حليما حين لا يحسن الحلم يكون مهيبا في عين العدو لجواز أن يكون غضبه مما لا يهاب ويعبأ به، والذي يفهم هنا أن معنى البيت ألطف مما يشعر به كلام المصنف وأن المصراع الثاني تكميل وذلك لأن كونه حليما في حال يحسن فيه الحلم يوهم أنه في تلك الحالة ليس مهيبا لما به من البشاشة وطلاقة الوجه وعدم آثار الغضب والمهابة فنفى ذلك الوهم بالشطر الثاني.
وما مات منا سيد في فراشه
…
ولا طلَّ منا حيث كان قتيل1
فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم لأوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم، فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم وكذا قول أبي الطيب:
أشد من الرياح الهوج بطشا
…
وأسرع في الندى منها هبوبا
فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش لأوهم ذلك أنه عنف كله ولا لطف عنده، فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة، ولم يتجاوز في ذلك كله صفة الريح التي شبه بها، وقال: إنه أسرع في الندى منها هبوبا كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان كأنه كالريح المرسلة".
"التتميم" 3:
وإما بالتميم وهو أن يؤتى في كلام3 لا يوهم خلاف المقصود4
1 البيت للسموأل "38 جـ1 الحماسة شرح الرافعي".
طل: أهدر دمه.
2 راجع 371 و380 صناعتين.
3 سواء كان في وسطه أو آخره.
4 هذا مخرج لتتميم ذكره في كلام يوهم خلاف المقصود؛ لأن النكتة في التتميم غير دفع خلاف المقصود لا بأنه لا يكون في كلام يوهم خلاف المقصود إذ لا مانع من اجتماع التتميم والتكميل.
بفضله1 تفيد نكتة، كالمبالغة في قوله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه} ، أي مع حبه والضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه2، ونحوه:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّه} ، وكذا:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون 3} ، وعن الفضل بن عياض:"على حب الله"، فلا يكون مما نحن فيه4، وفي قول الشاعر:
إني على ما ترين من كبري
…
أعرف من أين تؤكل الكتفُ5
وفي قول زهير:
من يلق يوما على علاته هرمًا
…
يلق السماحة منه والندى خلقا6
1 ولو كان معنى الكلام لا يتم إلا بها والفضلة مثل مفعول أو حال أو نحو ذلك كالتمييز والمجرور مما ليس بجملة مستقل ولا ركن كلام بأن كان مفردا أو جملة غير مستقلة.
وكلام المصنف يدفع أن يكون المراد بالفضلة هنا ما يتم أصل المعنى بدونه "والقائلون بذلك يقولون به لأجل دخول الجملة الزائدة على أصل المراد" إذ لا تخصيص لذلك بالتتميم، حيث ذكر المصنف:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الآية مثالا ولا شك أن مما تحبون ليس فضلة بهذا المعنى فلا يكون تتميمًا؛ لأن الإنفاق مما يحبون لا يتم أصل المعنى بدونه وكون الشيء مقصودا في الكلام لا يتم المراد إلا به لا ينافي كونه إطنابا.
والتتميم مباين للتكميل؛ لأن شرطه أن يكون الكلام معه غير موهم خلاف المراد بخلاف لتكميل.
2 وإن جعل الضمير لله تعالى أي: على حب الله أي لأجله فهو لتأدية أصل المراد فيكون غير تتميم؛ لأنه يكون مساواة لا إطنابًا.
3 لأن أصل المعنى يتم بقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا} أي يقع إنفاق.
4 لأنه على هذا يدخل في تأدية أصل المراد.
5 الكتف تؤكل من أسفلها، وهو تكميل للأول يريد أن عجزه عن ذلك ليس لتقصير منه.
6 العلات جمع علة وهي ما يتعلل به، وأصله من عل إذا شرب مرة بعد مرة.
والشاهد قوله: "على علاته" فهي تتميم.
ومثله قول زهير:
"ولكن الجواد على علاته هرم".
8-
الاعتراض 1:
وهو أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كلامين متصلين معنى2 بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب3 لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل4:
وراجع الكلام على البيت في 438 صناعتين 128 و130/ 3 زهر الآداب وص61 البديع لابن المعتز، شرح محمد عبد المنعم الخفاجي، 94 جـ1 الكامل للمبرد و215 طراز المجالس للشهب الخفاجي، 146 جـ1 العقد.
ملاحظة:
التتميم كما ذكرنا مباين للتكميل، وهو مباين أيضا للتذليل أن شرطنا في الجملة أن لا يكون لها محل من الإعراب؛ لأن الفضلة لا بد أن يكون لها محل من الإعراب وإن لم نشترط ذلك كان بينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي لاجتماعهما في الجملة التي لا محل لها، وانفراد التتميم بغير الجملة، وانفراد التذييل بالتي لا محل لها وبينه وبين الإيغال عموم وخصوص وجهي يجتمعان في فضله لم تدفع إيهام خلاف المقصود وينفرد الإيغال بالجملة التي لا محل لها وما فيه دفع إيهام خلاف المقصود وينفرد التتميم بما يكون في أثناء الكلام مما ليس يختم شعر ولا يختم كلام.
ثم التتميم قسمان: تتميم المعاني وهو ما ذكر، وتتميم اللفظ ويسمى حشوا وهو ما يقوم على الوزن ولا يحتاج إليه المعنى مثل:"وخفوق قلب البيت".
1 راجع 180 المفتاح، 385 صناعتين، 52 شرح لامية العجم.
2 يخرج الإيغال لأنه آخر.
3 خرج التتميم لأن له محلا من الإعراب.
هذا ولم يرد بالكلام مجموع المسند إليه والمسند فقط، بل مع جميع ما يتعلق بهما من الفضلات والتوابع المفردة ولو تأويلا.
هذا والمراد باتصال الكلامين أن يكون الثاني بيانا للأول، أو تأكيدا أو بدلا منه أو معطوفا عليه.
4 خرج التكميل، هذا وشمل الكلام بعض صور التذليل وهو ما إذا كانت الجملة المعترضة مشتملة على ما قبلها وكانت النكتة التأكيد لأن سوى دفع الإيهام شامل للتأكيد.
كالتنزيه والتعظيم في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ 1 وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} .
والدعاء في قول أبي الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب
…
يرى كل ما فيها -وحاشاك- فانيا
فإن قوله: "وحاشاك" دعاء حسن في موضعه، ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان2
والتنبيه في قول الشاعر3:
واعلم فعلم المرء ينفعه
…
أن سوف يأتي كل ما قدرا4
1 قوله: {سُبْحَانَهُ} جملة؛ لأنه مصدر بتقدير الفعل، وقعت في أثناء الكلام لأن قوله:{وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} عطف على قوله: {لِلَّهِ الْبَنَاتِ} من قبيل عطف المفردات، وجعل:{وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} حالا لا يفيد التشنيع عليهم المستفاد من العطف المؤكد بالتنزيه.
2 الترجمان: الذي يفسر لغة بلغة أخرى، والمراد به مطلق المفسر والمكرر. والبيت من قصيدة في 17 جـ1 مقدمة البيان والتبيين وراجعه في 380 صناعتين، 203 رسالة الغفران، ونسبه العسكري لجرير "ص49 صناعتين".
والشاهد فيه قوله: "بلغتها" فهي جملة اعتراضية في أثناء الكلام لقصد الدعاء للمخاطب والواو في مثله تسمى اعتراضية ليست بعاطفة ولا حالية، هذا والواو الحالية ما قصد بالكلام الواقعة فيه كون الجملة بعدها قيد للعامل، والاعتراضية ما لم يقصد فيها ذلك.
3 أي تنبيه المخاطب على أمر يؤكد الإقبال على ما أمر به.
4 البيت أنشده أبو على الفارسي ولم ينسبه لأحد وقوله: "فعلم المرء ينفعه" جملة اعتراضية للتنبيه وقعت بين "اعلم" ومفعولية والفاء اعتراضية فيها شائبة من السببية، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف. هذا والاعتراض يكون مع الواو ومع الفاء وبدونهما.
وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علق بهما، كقوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} 1.
والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطيب:
وحقوق قلب لو رأيت لهيبه
…
يا جنتي لرأيت فيه جهنما2
والتنبيه: على سبب أمر فيه غرابة، كما في قول الآخر3:
1 فقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي} تفسير لـ: {وَصَّيْنَا} وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} اعتراض بينهما إيجابا للتوصية بالوالدة.
2 فقوله: "يا جنتي" اعترض للمطابقة -مع جهنم- والاستعطاف.
3 هو الرماح بن ميادة 385 صناعتين. والبيت في 3 جـ3 شرح الدسوقي والشاهد فيه قوله: "وفي اليأس راحة" فهو اعتراض.
هجر الحبيب كونه مطلوبا للمحب أمر غريب، فبين سببه بأن في اليأس راحة.
هذا والاعتراض يباين التتميم؛ لأنه إنما يكون بفضلة والفضلة لا بد لها من إعراب والاعتراض إنما يكون بجملة لا محل لها. ويباين التكميل لأنه يقع لدفع إيهام خلاف المقصود بخلاف الاعتراض فإنما يكون لغير ذلك الدفع ويباين الإيغال لأنه لا يكون إلا في آخر الكلام والاعتراض يكون في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين. لكنه يشمل بعض صور التذييل وهو ما يكون بجملة لا محل لها وقت بين جملتين متصلتين معنى لأنه كما لم يشترط في التذييل أن يكون بين كلامين لم يشترط فيه أن لا يكون بين كلامين والنكتة وإن كانت في الاعتراض غير دفع الإيهام وفي التذييل التأكيد إلا أن التأكيد أعم من دفع الإيهام؛ لحصوله مع غيره فلا يلزم من نفي دفع الإيهام نفي التأكيد مطلقا وكفى هذا في صحة أهمية الاعتراض، فبينهما عموم وخصوص وجهي، أيجتمعان في هذه الصورة وينفرد التذييل فيها لا يكون بين كلامين متصلين والاعتراض فيما لا يكون للتأكيد، والنسبة بين الاعتراض وكل من الإيضاح والتكرير هي العموم والخصوص الوجهي يجتمع الاعتراض والإيضاح في الجملة التي لا محل لها الواقعة في الأثناء وينفرد الإيضاح فيما يكون بغير الجملة لو التي لها محل أو التي لا محل لها ولكنها في الآخر، وينفرد الاعتراض فيما يكون لغير باب الإيضاح، ويجتمع الاعتراض مع التكرير في الجملة التي لا محل لها الواقعة في الأثناء للتقرير وينبغي الاعتراض في الجملة المذكورة إذا كانت لغير توكيد وينفرد التكرير فيما يكون في الأثناء.
فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة
…
ولا وصله يبدو لنا فنكارمه
فإن قوله: "فلا هجره يبدو" يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبًا للمحب، فقال: وفي اليأس راحة، لينبه على سببه، وقوله تعالى:{لَوْ تَعْلَمُونَ} في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَو تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم} ، اعتراض؛ لأنه اعترض به بين الموصوف والصفة، واعترض بقوله:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَو تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ، بين القسم والمقسم عليه. ومما جاء بين كلامين متصلين1 معنى قوله:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم} 2، فإن قوله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} بيان لقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعني أن المأتي الذي أمركم به هو مكان الحرث، دلالة على أن الغرض
يكون بغير الجملة لو التي لها محل أو التي لا محل لها ولكنها في الآخر، وينفرد الاعتراض فيما يكون لغير باب الإيضاح، ويجتمع الاعتراض مع التكرير في الجملة التي لا محل لها الواقعة في الأثناء للتقرير وينبغي الاعتراض في الجملة المذكورة إذا كانت لغير توكيد وينفرد التكرير فيما يكون في الأثناء.
1 أي ومن الاعتراض الذي وقع بين كلامين متصلين وهو أكثر من جملة أيضًا أي أن الكلام الذي وقع الاعتراض بينه أكثر من جملة.
2 قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} ، اعتراض وهو أكثر من جملة؛ لأنه كلام يشتمل على جملتين.
بناء على أن الجملة ما اشتمل على المسند والمسند إليه، أما إن قلنا هي ما يستقل بالإفادة وهو الأقرب، فيكون كذلك إذا قدر عطف {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} على مجموع:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أي: وهو يحب المتطهرين، أما إذا قدر على هذا البناء عطفها على:{يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} ، فيكون ليس هنا فصل بأكثر من جملة واحدة.
وهذا الاعتراض واقع بين كلامين: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُم} {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} والكلامان متصلان معنى؛ لكون الجملة الثانية منهما عطف بيان للأولى فإن قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} بيان لحيث من قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُم اللهُ
الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة، فلا تأتوهم إلا من حيث يأتي فيه هذا الغرض، وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا. ونحوه في كونه أكثر من جملة قوله تعالى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مرْيَمَ} ، فإن قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ليس من قول أم مريم، وكذا قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أوتُوا نصِيبًا منَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أن جعل {مِنَ الَّذِينَ} بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب؛ لأنهم يهود ونصارى أو لأعدائكم، فإنه على الأول يكون قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} اعتراضا، وعلى الثاني يكون {وَكَفَى بِاللَّهِ} اعتراضا، ويجوز أن يكون {مِنَ الَّذِينَ} صلة، لـ:{نَصِيرًا} أن ينصركم من الذين هادوا كقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} وأن يكون كلاما مبتدأ على أن: {يُحَرِّفُونَ} صفة مبتدأ محذوف تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون، كقوله1:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما
…
أموت وأخرى ابتغي العيش أكدح
وقد علم مما ذكرنا أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء قد يأتي بأحدهما ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق حسن الإفادة مع أن مجيئه مجيء ما لا معول عيه في الإفادة فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها.
ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرنا، بل يجوز أن
1 هو تميم ابن أبي ابن مقبل 27 ما اتفق لفظه للمبرد، 115/ 2 الكامل للمبرد، 276/ 1 الكتاب لسيبويه". أكدح: أجهد نفسي في العمل، ونقد الكلام فتارة منهما أموت.
تكون دفع توهم ما يخالف المقصود1.
وهؤلاء فرقتان:
فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى، بل تجوز أن يقع في آخر كلام2 أو يليه غير متصل به معنى، وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف فالاعتراض عند هؤلاء1 يشمل التذليل، ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب جملة كان أو أكثر من جملة.
1 فيجيزون في النكتة في الاعتراض أن تكون لدفع إيهام خلاف المقصود.
2 فلا يليه جملة متصلة به، وذلك بأن لا تلي الجملة التي اعترض بعدها جملة أخرى أصلا فيكون الاعتراض في آخر الكلام.
ولعل أظهر مثل إذا وقع آخرًا قول أبي العتاهية في عتبة:
وإلا ففيم تجنت وما
…
جنيت، سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإمام
…
قد أمكن الحب سربالها
والحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".
1 فالاعتراض عند هؤلاء هو أن يؤتى في أثناء الكلام أو في آخره أو بين كلامين متصلين أو غير متصلين بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة.
2 كقول السموأل:
وما مات منا سيد في فراشه
…
ولا طل منا حيث كان قتيل
فإن المصراع الثاني تكميل وكلامه ههنا دال على أن الجملة في التذييل يجب أن لا يكون لها محل من الإعراب وهذا مما لم يشعر به تفسيره.
اللهم إلا أن يقال: إنه اعتمد في الاشتراط على الأمثلة.
والاعتراض بهذا التفسير يباين التتميم لأن التتميم إنما يكون بفضلة والفضلة لا بد لها من الإعراب أما الاعتراض فإنما يكون بجملة لا محل لها.
أما التذييل فيشمله الاعتراض على هذا التفسير الصادق على ما لا محل له من الجمل المؤكدة لما قبلها سواء كانت في آخر الكلام وفي وسطه، وذلك لأنه يجب أن يكون التذييل -كالاعتراض- بجملة لا محل لها من الإعراب وإن لم يذكره المصنف في تفسير التذييل فيكون التذييل على هذا تعقيب جملة بأخرى لا محل لها تشتمل على معناها للتأكيد كانت تلك =
وفرقة1 تشترط فيه ذلك2 لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة3. فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين4، ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما.
= الجملة في الآخر أو بين كلامين متصلين أو غير متصلين، ولا شك أن الاعتراض على هذا القول صادق عليه إذ لا يخرج منه ما يكون في آخر الكلام من التذييل بخلافه على القول السابق في الاعتراض ويزيد الاعتراض -على هذا القول- عن التذييل، بما ليس للتأكيد، فهو أعم منه عموما مطلقا، فيجتمعان فيما إذا كانت الجملة المعترضة مشتملة على معنى ما قبلها وكانت النكتة للتأكيد وينفرد الاعتراض فيما إذا كانت النكتة غير التأكيد.
هذا وقول المصنف: "ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب" يعني أن الاعتراض بهذا التفسير يشمل بعض صور التكميل وهو ما يكون بجملة لا محل لها من الإعراب لدفع الإيهام سواء كانت تلك الجملة آخرا أو بين كلامين متصلين أو غير متصلين، فإن التكميل قد يكون بجملة وقد يكون بغير الجملة بأن يكون بمفرد "وهذا لا يكون اعتراضا"، والجملة التكميلية قد تكون ذات إعراب فلا تدخل في الاعتراض، وقد لا تكون فلا تدخل، وعلي هذا فبين التكميل والاعتراض عموم وخصوص وجهي يجتمع أن فيما يكون بجمل لا محل لها؛ لدفع الإيهام إذ لا يشترط في الاعتراض على هذا القول أن يكون لنكته غير دفع للإيهام، وينفرد الاعتراض بما يكن من الجمل لغير دفع الإيهام، وينفرد التكميل بغير الجملة وبالجملة التي لا محل لها وعلى القول السابق بين التكميل والاعتراض الباين كما تقوم.
1 أي من القائلين أيضا بأن النكتة في الاعتراض قد تكون لدفع إيهام خلاف المقصود.
2 أي أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى.
3 فيجيزون كونه غير جملة يعني من غير تجويز كونه آخرا فالاعتراض عندهم أن يؤتى في أثناء الكلام إذ لا يكون في الآخر على هذا القول كالأول بخلافه على الثاني، أو بين كلامين متصلين معنى فلا يقع بين كلامين لا اتصال بينهما كالقول الأول بخلافه على الثاني -جملة أو غيرها- بخلافه على القولين الأولين، فإنه عليهما لا يكون بمفرد فلم يخالفوا الجمهور إلا في التعميم في النكتة وفي كون الاعتراض جملة لا محل لها أو غيرها بأن يكون: جملة لا محل لها من الإعراب أو مفردا.
4 وهو ما كان بغير جملة في أثناء الكلام.
ولا محل لها من الأعراب جملة كان أو أقل من جملة أو أكثر1.
9-
"مواضع أخرى للإطناب غير ماسبق":
وأما بغير ذلك، كقولهم:"رأيته بعين"، ومنه قوله تعالى:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ ما ليس لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي هذا الإفك ليس إلا قولا يجرى على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم في القلب كما هو شأن المعلوم إذا ترجم عنه اللسان، وكذا قوله:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} لإزالة توهم الإباحة كما في نحو قولنا: جالس الحسن أو ابن سيرين2، ويعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم وفي أمثال العرب: علمان خير من
1 فيدخل فيه إذًا بعض صور التكميل، وهو ما يكون واقعا في أثناء الكلام مفردا أو جملة أو بين كلامين متصلين، فيكون بينه وبين التتميم عموم وخصوص وجهي يجتمعان في هذه الصورة المشمولة للاعتراض، وينفرد عن التتميم بما يكون غير فضلة، وينفرد التتميم عنه بما يكون آخرا.
والاعتراض على القولين السابقين مباين للتتميم، وكذلك بين الاعتراض بهذا المعنى والتكميل عموم وخصوص وجهي: يجتمعان فيما ذُكر، وينفرد الاعتراض بما يكون لغير دفع الإيهام وهو غير فضلة، وينفرد التكميل بما يكون آخرا، وهو جملة لدفع الإيهام.
هذا والنسبة بين الاعتراض على هذا القول وبين الإيغال التباين؛ لأنه اشترط في الاعتراض أن يكون في الأثناء وفي الإيغال أن يكون في الآخر، وبينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي، يجتمعان فيما يكون في الآخر، وبينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي، يجتمعان فيما يكون في الأثناء وهو جملة لا محل لها على تفسير التذييل بذلك أو مطلقا أن لم يفسر بذلك كما هو ظاهر تفسير المصنف سابقان وينفرد الاعتراض بما يكون لغير التوكيد أو فضلة، وينفرد التذييل بما يكون آخرا. وكذلك النسبة بينه وبين كل من الإيضاح والتكرير. أما ذكر الخاص بعد العام فمباين لغير التتميم والإيغال والاعتراض ويجامع هذه الثلاثة في بعض الصور.
2 فيه نظر؛ لأنه حينئذ يكون من باب التكميل، أعني الإتيان بما يدفع خلاف المقصود.
علم، وكذا قوله:{كَامِلَةٌ} تأكيدا آخر، وقيل: أريدَ بالتأكيد الكيفية لا الكمية حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور لم تكن كاملة، وكذا قوله:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 1، فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر:{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} لأن إيمانهم ليس مما ينكره أحد من مثبتيهم، وحسن ذكره2 إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه، وكذا قوله:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فإنه لو اختصر لترك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر وحسنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر3، ونحوه قول البلغاء:"لا، وأصلحك الله"، وكذا قوله تعالى4:{هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ، وحسنه أنه عليه السلام فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا، فينبغي أن يتنبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين، وكذا قوله:{نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين} ، وحسنه إظهار الابتهاج بعبادتها والافتخار بمواظبتها؛ ليزداد غيظ السائل.
1 راجع الآية والكلام عليها في المفتاح ص122.
2 أي ذكر: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} .
هذا وكون هذا الإطناب بغير ما ذكر من الوجه السابقة ظاهر بالتأمل فيها: وقد يقال: إنها للاعتراض والواو اعتراضية، والجواب أن المتبادر كونها للعطف.
3 وفيه نظر لأنها أيضا من قبل التكميل أو الاعتراض عند من يجوز كون النكتة فيه دفع الإيهام.
4 ص122 مفتاح.
معنى آخر للإيجاز والإطناب 1:
وأعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر مساوٍ له في أصل المعنى، كالشطر الأول من قول أبي تمام:
يصد عن الدنيا إذا عنَّ سؤدد
…
ولو برزت في زي عذراء ناهد2
وقول الآخر2:
ولست بنظار إلى جانب الغنى
…
إذا كانت العلياء في جانب الفقرِ
ومنه قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عرابة باليمينِ
وقول بشر بن أبي خازم:
إذا ما المكرمات رفعن يوما
…
وقصر مبتغوها عن مداها
1 راجع 129 مفتاح.
2 يصد: يعرض، العذراء: البكر. الناهد: بارزة الثدي.
3 أبو سعيد المخزومي الشاعر "260 معجم الشعراء للمرزباني" وينسب أيضا إلى المعذل بن غيلان "309 المثل السائر، 231 الأدب العباسي لمحمود مصطفي" وقال الجاحظ عن أحمد بن المعذل: أنشدني أعرابي من طيئ:
ولست بميال إلى جانب الغنى
…
إذا كانت العلياء في جانب الفقر
وأني لصبار على ما ينوبني
…
وحسبك أن الله أثنى على الصبر
"218 جـ2 البيان".
فالبيت: "وليست بنظار" إلخ إطناب بالنسب إلى الشطر الأول من بيت أبي تمام وهذا الشطر إيجاز بالنسبة للبيت وإن كان يمكن أن يدعى أن كلا منهما مساواة باعتبار ما جرى في المتعارف من مثل العبارتين.
وضاقت أذرع المثرين عنها
…
سما أوس إليها فاحتواها1
ويقرب من هذا الباب قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} .
وقول الحماسي:
وننكر أن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول3
وكذا ما ورد في الحديث: "الحزم سوء الظن"، وقول العرب: الثقة بكل أحد عجز4 والله تعالى أعلم.
تم الفن الأول وهو علم المعاني.
1 مبتغوها: طالبوها، مداها: غايتها. المثرين: أرباب الغنى والثروة، فبيت الشماح إيجاز بالنسبة لبيتي بشر، وبيتا بشر بالنسبة لبيت الشماخ إطناب، وراجع بين الشماخ والكلام عليه في الكامل للمبرد 62 و63 جـ1.
2 يصف رياستهم ونفاذ حكمهم أي نحن نغير ما نريد من قول غيرنا وليس أحد يجرؤ على الاعتراض علينا والبيت للسموأل "39/ 1 شرح الحماسة.
فالآية إيجاز بالنسبة إلى البيت، وإنما قال:"يقرب" لأن ما في الآية يشمل كل فعل والبيت مختص بالقول فالكلامان لا يتساويان في أصل المعنى بل كلام الله عز وجل أبلغ وأعلى؛ لأن الآية الموجودة فيها نفي السؤال وفي البيت نفي الإنكار ونفي السؤال أبلغ لأنه إذا كان لا ينكر ولو بلفظ السؤال فكيف ينكر جهارا بخلاف الإنكار فقد يكون هو المستعظم المتروك دون الإنكار بصورة السؤال، وما في الآية حق وصدق دون ما في البيت.
4 فالآية إيجاز بالنسبة لقول العرب، هذا وقد قال ابن السبكي أن هذا المعنى للإيجاز والإطناب يستغنى عن ذكره، لقول السكاكي فيما تقدم إن الاختصار قد يكون باعتبار أن الكلام خليق بأبسط منه.