المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول:اشتراك الجماعة في الجناية على الواحد بالقتل - الاشتراك المتعمد في الجناية على النفس بالقتل أو الجرح

[عبد الله السهلي]

الفصل: ‌المطلب الأول:اشتراك الجماعة في الجناية على الواحد بالقتل

‌المطلب الأوّل:

اشتراك الجماعة في الجناية على الواحد بالقتل

إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بقتله قتل به

اختلف العلماء في حكم قتل الجماعة للواحد عمدا وعدوانا إذا توفرت فيهم شروط القصاص أيقتلون به أم لا؟ على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنهم يقتلون به.

وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة وابن عباس – رضي الله عنهم.وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء وقتادة والأوزاعي وإسحاق1.وبه قال أبو حنيفة2 ومالك3 والشافعي4 وأحمد في المذهب5 واتفق أصحاب هذا القول على أن قتل الجماعة بالواحد بشرط أن يكون كل واحد منهم قد جنى جناية لو انفرد بها لمات المجني عليه وأضيف القتل إليه، ووجب القصاص عليه6.

1 انظر: مصنف ابن أبي شيبة 5/428 وما بعدها، الاستذكار 25/235، شرح السنة 10/184، الحاوي 12/27، المغني 11/490.

2 انظر: بدائع الصنائع 7/238، الفتاوى الهندية 6/5، البحر الرائق 8/358.

3 انظر: الإشراف 2/182، قوانين الأحكام الشرعية ص/227، حاشية الدسوقي 4/245.

4 انظر: المهذب 2/174، الحاوي 12/27، مغني المحتاج 4/20.

5 انظر: المغني 11/490، الإنصاف 9/331، المبدع 8/253.

6 انظر: حاشية ابن عابدين 6/556 وما بعدها، المهذب 2/174، الحاوي 12/27، الإنصاف 9/332، شرح الزركشي 6/77.

ص: 361

القول الثاني: أنهم لا يقتلون به بحال، وإنما تؤخذ منهم الدية بالسوية.

وهو قول الزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وابن المنذر1.وبه قال الإمام أحمد في رواية2 والظاهرية3.

القول الثالث: أنه يقتل واحد منهم، يرجع فيه لاختيار ولي الدم ويؤخذ من الباقين قسطهم من الدية. وهذا مروي عن معاذ بن جبل وعبد الله بن الزبير وجابر–رضي الله عنهم–ومروي عن ابن سيرين والزهري4.

الأدلة:

أدلة أصحاب القول الأول:

استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

أما الكتاب:

فقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 5.

وجه الدلالة من الآية: أن سبب الحياة في ذلك يكمن في أنه متى علم القاتل أنه إذا قتل وجب القصاص عليه كف عن القتل، فحيي القاتل والمقتول فلو لم يقتص من الجماعة بالواحد لما كان في القصاص حياة، ولكان القاتل إذا

1 انظر: شرح السنة 10/184، الحاوي 12/27، المغني 11/490.

2 انظر: المغني 11/490، الإنصاف 9/332.

3 انظر: المحلى 10/607، المغني 11/490.

4 انظر: مصنف ابن أبي شيبة 5/429، شرح السنة 10/184، بداية المجتهد 2/400، الاستذكار 25/235 وما بعدها، الحاوي 12/27، المغني 11/490.

5 آية 179 من سورة البقرة.

ص: 362

أراد القتل شارك غيره فيه ليسقط القصاص عنه وعن غيره، ولكان ذلك رافعاً لحكم الآية1.

اعترض على هذا الاستدلال:

أن هذا إنما يلزم فيما إذا لم يقتل أحد من الجماعة الذي قتلوا الواحد بخلاف ما إذا قتل منهم واحد، فلا يلزم إذًا أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس2.

وأما السنة:

فحديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين، إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل "3.

وجه الدلالة:

دل قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل " على أن هذا الخبر ورد في قتل الجماعة لواحد، فالحكم إذا ورد على سبب، لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا من ذلك الحكم4.

والإجماع: وقد دل عليه:

ما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفرًا خمسة أو

1 انظر: الحاوي 12/27.

2 انظر: بداية المجتهد 2/400.

3 تقدم تخريجه في صفحة 19-20.

4 انظر: الحاوي 12/27.

ص: 363

سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة1. وقال عمر: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا"2.

وما رواه المغيرة بن حكيم عن أبيه أن أربعة قتلوا صبيا، فقال عمر مثله3.

وما جاء عن سعد بن وهب قال: "خرج رجال سفر فصحبهم رجل، فقدموا وليس معهم، قال: فاتهمهم أهله، فقال شريح: "شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم وإلاّ حلفوا ما قتلوه"، فأتوا بهم عليا رضي الله عنه وأنا عنده، ففرق بينهم فاعترفوا، فسمعت عليًّا يقول: "أنا أبو الحسن القوم، فأمر بهم فقتلوا"4.

وما جاء عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه سرق فقطعه علي، ثم جاءا بآخر وقالا: أخطأنا فأبطل شهادتهما وأخذ بدية الأول، وقال:"لو علمت أنكم تعمدتما لقطعتكما"5.ومعلوم أنه لا فرق بين القصاص في الأطراف وبين القصاص في النفس6.

1 الغيلة؛ فعلة من الاغتيال، وهو أن يخدع، ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/403.

2 أخرجه مالك في الموطأ 2/871 في العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر واللفظ به، وابن أبي شيبة 5/428 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم.

3 أخرجه البخاري معلقا 8/42 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب.

4 أخرجه ابن أبي شيبة 5/428 في الديات، باب الرجل يقتله النفر، والبيهقي 8/41 في كتاب الجنايات، باب النفر، باب النفر يقتلون الرجل.

5 أخرجه الدارقطني 3/182 في الحدود والديات وغيره، والبيهقي 8/41 في الجنايات، باب النفر يقتلون الرجل، والبخاري معلقا 8/242 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب.

6 انظر: سبل السلام 3/243.

ص: 364

وما جاء عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قتل سبعة برجل1.

وعن ابن عباس–رضي الله عنهما– أنه قال:"لو أن مائة قتلوا واحدا

قتلوا به"2.فهذا ما ثبت عن هؤلاء الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان

إجماعا3.

واعترض على هذا:

بأن حكم عمر وغيره من الصحابة – رضي الله عنهم – لا يعدو كونه فعل صحابي فلا تقوم به حجة ودعوى الإجماع غير مقبولة4.

ولما ثبت أن معاذا قال لعمر – رضي الله عنهما –:" ليس لك أن تقتل نفسين بنفس"5.

وما جاء عن عمرو بن دينار حيث قال: "كان عبد الملك وابن الزبير لا يقتلون منهم إلا واحدا"6.

فيتضح مما سبق أن الصحابة لم يجمعوا على حكم المسألة. والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا لم يجز العمل بقول من أقوالهم إلا بترجيح7.

1 أخرجه ابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتله النفر.

2 أخرجه عبد الرزاق 9/479، وذكره ابن عبد البر ي الاستذكار 25/235.

3 انظر: الاختيار 5/240، الذخيرة 12/319 وما بعدها، المغني 11/491.

4 انظر: سبل السلام 3/243.

5 أخرجه ابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتل بالنفر.

6 أخرجه عبد الرزاق 9/479، وابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتل بالنفر.

7 انظر: أضواء البيان 2/95.

ص: 365

وأما المعقول:

1-

أننا لو لم نوجب القصاص عليهم لجعل الاشتراك ذريعة لسفك الدماء ولأدى ذلك إلى إسقاط حكمة الردع والزجر1.

2-

أنها عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف2.

3-

أن قتل النفس أغلظ من هتك العرض والقذف، فإذا حد الجماعة بقذف الواحد كان قتلهم بقتل الواحد أولى3.

4-

أنه منطلق على كل واحد من الجماعة اسم القاتل للنفس، فوجب أن يجري عليه حكمه كالواحد4.

5-

أن ما وجب في قتل الواحد لا يسقط في قتل الجماعة كالدية5.

6-

أن القتل بغير حق لا يكون في العادة إلا بالتغالب والاجتماع، والقصاص شرع حكمة للزجر، فيجعل كل واحد منهم كالمنفرد بالقتل، فيجري القصاص عليهم تحقيقا لمعنى الإحياء وإلا سد باب القصاص وفتح باب التغالب6.

أدلة أصحاب القول الثاني على عدم القتل.

استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والمعقول.

1 انظر: الذخيرة 2/320، المغني 11/491.

2 انظر: المصدرين السابقين.

3 انظر: الحاوي 12/28.

4 انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/178، الحاوي 12/28.

5 انظر: الحاوي 12/28.

6 انظر: البناية 12/158، البحر الرائق 8/354.

ص: 366

أما الكتاب:

1-

فقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 1.

2-

وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} 2.

وجه الدلالة:

وظاهر الآيتين يقتضي أن لا يقتل أكثر من نفس واحدة ولا يقتل بالحر أكثر من حر3.

واعترض عليه:

أن المراد بالنفس والحر في الآيتين الجنس، فالنفس تنطلق على النفوس كما أن الحر ينطلق على الأحرار4.

3-

وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 5.

وجه الدلالة:

أن من السرف قتل الجماعة بالواحد وهو منهي عنه إذًا6.

واعترض عليه:

أن المراد بالسرف في الآية هو أن يقتل غير قاتله، بل إن قوله تعالى:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} 7، يدل بالاقتضاء على أن سلطان الولي في الجماعة

1 آية 45 من سورة المائدة.

2 آية 178 من سورة البقرة.

3 انظر: الحاوي 12/27.

4 انظر: الحاوي 12/28.

5 آية 33 من سورة الإسراء.

6 انظر: الحاوي 12/27.

7 آية 33 من سورة الإسراء.

ص: 367

كسلطانه في الواحد، فلم يكن فيها دليل على منع قتل الجماعة بالواحد1.

أما المعقول:

1-

أن الواحد لا يكافئ الجماعة، ولا يقتل بهم إذا قتلهم، وإنما يقتل بأحدهم، ويؤخذ من ماله ديات الباقين، كذلك إذا قتله جماعة لا يقتلون به2.

واعترض عليه:

بأن حرمة الواحد كحرمة الجماعة بدليل قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} 3. فعليه يجب أن يكون القصاص فيهم واحدا4.

2-

أن زيادة الوصف تمنع من القصاص فلم يقتل حر بعبد ولا مسلم بكافر فزيادة العدد أولى أن تمنع5.

واعترض عليه:

بوجود الفرق بين زيادة الوصف وزيادة العدد، إذ تمنع زيادة الوصف من وجود المماثلة في الواحد ولا تمنع في الجماعة، يؤكد ذلك منع زيادة الوصف في القاذف من إقامة الحد عليه في حين أن زيادة العدد لا تمنع من إقامة الحد

1 انظر: الحاوي 12/29.

2 انظر: المصدر السابق.

3 آية 32 من سورة المائدة.

4 انظر: الحاوي 12/29.

5 انظر: المصدر السابق.

ص: 368

على الجماعة القاذفين1.

أن للنفس بدلين قودا ودية، فلما لم يجب على الاثنين بقتل الواحد ديتان لم يجب عليهما قودان كذلك2.

اعترض عليه من وجهين:

أ- الفرق بين الدية والقود، وذلك أن الدية تتبعض فلم يجب أكثر منها، والقود لا يتبعض فعم حكمه قياسا على سرقة الجماعة، فإنها توجب غرما يبتعض وقطعا لا يتبعض، لذا اشتركوا في غرم واحد وقطع كل واحد منهم3.

ب- وهو عبارة عن فرق آخر بين الدية والقصاص، وهو: أن القصاص موضوع للزجر والردع فلزم في الجماعة مثل لزومه في الواحد، والدية بدل من النفس فلم يلزم فيها إلا بدل واحد فافترقا4.

أدلة القول الثالث على أنه يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين قسطهم من الدية.

استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والمعقول:

أما الكتاب:

1-

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 5.

2-

وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} 6.

1 انظر: الحاوي 12/29.

2 انظر: المصدر السابق.

3 انظر: الذخيرة 12/320، المغني 11/491.

4 انظر: الحاوي 12/29.

5 آية 45 من سورة المائدة.

6 آية 178من سورة البقرة.

ص: 369

وجه الدلالة:

دلت الآيتان على أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة1.

واعترض على هذا:

بأن المراد بالنفس في الآيتين الجنس، فالنفس تنطلق على النفوس، كما أن الحر ينطلق على الأحرار2.

أما المعقول:

1-

أن التفاوت في الأوصاف ما نع من القصاص بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد فيكون التفاوت في العدد أولى أن يمنع منه3.

اعترض عليه:

بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول، بل لكون كل واحد منهم قاتلا4.

2-

أن كل واحد منهم مكافئ له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، قياسا على عدم وجوب ديات لمقتول واحد5.

اعترض عليه:

بالفرق بين الدية والقصاص، فالدية تتبعض، والقصاص لا يتبعض6.

1 انظر: المغني 11/490.

2 انظر: الحاوي 12/28.

3 انظر: المغني 11/490.

4 انظر: سبل السلام 3/243.

5 انظر: المغني 11/490.

6 انظر: المغني 11/490.

ص: 370

الراجح:

بعد عرض الأقوال في المسألة وأدلتها وما ورد عليها من اعتراضات تبين من أدلة أصحاب القول الأول أنه لا يوجد دليل صريح على قتل الجماعة بالواحد، وغاية ما في الآية التي تمسكوا بها أن مصلحة حفظ النفس تتحقق في القصاص، والقول بأن تلك المصلحة لا تتحقق إلا بقتل الجماعة بالواحد وقتل أحد الجماعة في تحقيق مصلحة حفظ النفس به، وإن كان تحقق ذلك في قتلهم به أقوى من الآخر، وهذا خارج عن المسألة.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شريح الكعبي رضي الله عنه المتقدم: "ومن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل "1 فدلالته على قتل الواحد بالواحد صريحة، بخلاف قتل الجماعة بالواحد وهو محل النزاع. فلو كانت دلالته على ذلك أمرا مسلما به كما في حالة الانفراد لما ساغ لأحد المخالفة في ذلك. وأما حكايتهم الإجماع على ذلك بناء على عدم العلم بالمخالف لمن حكم به من الصحابة كعمر وعلي وابن عباس – رضي الله عنهم – فلا ينهض بذلك حجة على المدعى؛ إذ تقرر في الأصول أن عدم العلم ليس دليلا على العدم، يؤكد ذلك ما ثبت من مخالفة كل من معاذ وجابر وابن الزبير – رضي الله عنهم – لهذا الحكم، فكيف تصح إذا دعوى الإجماع.

ثم أنه على فرض التسليم بصحة دعوى الإجماع فإنه في هذه الحالة لا يكون إلا إجماعا سكوتيا وهو ظني، فلا يقوى على معارضة الأدلة الصريحة الواضحة، مع أن الخلاف ثابت في المسألة من الصدر الأول. إذا تقرر ما سبق

1 سبق تخريجه في صفحة 19-20.

ص: 371

يظهر للمتأمل مدى وجاهة قول ابن المنذر – رحمه الله تعالى – حيث قال: " لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بالواحد ". اهـ.

إلا أنه ينبغي تقييده بعدم وجود دليل صريح من جهة النقل؛ لأن ما ذكره أصحاب هذا القول من الأقيسة وجيهة، ومعلوم أن القياس دليل من الأدلة الشرعية عند جمهور العلماء خلافا لمن شذّ، فعليه لا يسلم القول بنفي وجود مستمسك لهم على قولهم هذا من نظر. والله أعلم.

أما أدلة كل من أصحاب القول الثاني والثالث فلا تدل دلالة صريحة على منع قتل الجماعة بالواحد، وإنما غاية ما فيها أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من مثلها. وهذا على التسليم بأن أل الموجودة في لفظ النفس والحر في قوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 1 و {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} 2 ليس للجنس، وهو ما يرفضه المعارض، إضافة إلى أن القول بأن المراد بالسرف في قوله تعالى:{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 3 هو أن لا يقتل جماعة بواحد يحتاج إلى دليل.

وإذا تقرر ما سبق فلم يبق إلا أدلتهم العقلية وهي أيضا لا تسلم من قادح يبطل بها الحجة.

وبناء على ما تقدم يترجح لي القول بأن الجماعة تقتل بالواحد لما يلي:

عموم قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} 4 ذلك أن ما يتحقق بقتل الجماعة بالواحد من حكمة القصاص التي منها الزجر والردع عن القتل

1 آية 45 من سورة المائدة.

2 آية 178 من سورة البقرة.

3 أية 33 من سورة الإسراء.

4 أية 179 من سورة البقرة.

ص: 372