المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس:الاشتراك المتعمد في الجناية على الواحد بالجرح أو القطع - الاشتراك المتعمد في الجناية على النفس بالقتل أو الجرح

[عبد الله السهلي]

الفصل: ‌المبحث الخامس:الاشتراك المتعمد في الجناية على الواحد بالجرح أو القطع

‌المبحث الخامس:

الاشتراك المتعمّد في الجناية على الواحد بالجرح أو القطع

اتفق الفقهاء على جريان القصاص فيما دون النفس ما أمكن ذلك1 لما يلي:

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 2.

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 3.

ولحديث أنس رضي الله عنه: أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها العفو، فأبوا فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا أنس كتاب الله القصاص " فرضي القوم وعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره "4.

ومن القياس:

أن ما دون النفس كالنفس في حاجته لحفظه بالقصاص، فكان مثل

1 انظر: البحر الرائق 8/345، قوانين الأحكام الشرعية ص/230، المهذب 2/178، المغني 11/531.

2 آية 45 من سورة المائدة.

3 آية 194 من سورة البقرة.

4 تقدم تخريجه في صفحة 22.

ص: 386

النفس في وجوبه1.

واختلفوا في حكم القصاص من الجماعة ممن توفرت فيهم شروط القصاص إذا اشتركوا في الجناية على شخص واحد بجرح أو قطع عضو ونحو ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يقتص منهم جميعا.

وبه قال المالكية2، والشافعية3، والحنابلة في المذهب4.

واتفق أصحاب هذا القول على أن شرط وجوب القصاص عليهم في هذه الحالة هو اشتراكهم في اقتراف هذه الجناية دفعة واحدة على وجه لا يتميز فعل أحدهم عن فعل صاحبه، كأن يشهدوا بما يوجب قطع يده ثم يرجعوا عن شهادتهم، ويقولوا تعمدنا ذلك، أو يلقوا صخرة على شخص فتقطع طرفه، ونحو ذلك، بخلاف ما لو قطع كل واحد منهم عضو المجني عليه من جانب فلا يجب القصاص حينئذ؛ لأن جناية كل واحد منهم في بعض العضو، فلا يجوز أن يقتص منه في جميع العضو5.

القول الثاني: أنه لا يقتص من أحدهم، وإنما عليهم دية الجناية بالسوية.

وبه قال الحسن البصري والزهري والثوري6. وهو قول الحنفية7،

1 انظر: المهذب 2/177، المغني 11/531.

2 انظر: الاستذكار 25/236، الذخيرة 12/321.

3 انظر: الحاوي 12/32، المهذب 2/178.

4 انظر: المغني 11/493 وما بعدها، شرح الزركشي 6/77.

5 انظر: البيان والتحصيل 16/127، المهذب 2/178، شرح الزركشي 6/78.

6 انظر: البناية 12/160، الحاوي 12/32، المغني 11/494.

7 انظر: البناية 12/160، البحر الرائق 8/355، حاشية ابن عابدين 6/557.

ص: 387

وأحمد في رواية1.

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:

أ- ما جاء عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه سرق، فقطعه عليّ، ثم جاءا بآخر، وقالا: أخطأنا فأبطل شهادتهما وأخذ بدية الأول، وقال:" لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما".

فقد أخبر أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه أن القصاص على كل منهما قطع يده لو تعمدا، فهذا يدل على جواز قطع اليدين باليد الواحدة2.

ب- ومن جهة المعنى:

1-

أنه أحد نوعي القصاص فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على الواحد كالقصاص على الأنفس3.2- أن كل جناية لو انفرد بها الواحد أقيد، فوجب أن يقاد فيها الجماعة إذا اشتركوا فيها كالجناية على النفوس4

3 -

أنه قصاص يستحق في النفس فوجب أن يستحق في الطرف قياسا على ما لو كان الجاني شخصا واحدا5

4-

أن حرمة النفس أشد من حرمة الطرف، فلما أقيدت النفوس

1 انظر: المغني 11/494، شرح الزركشي 6/78.

2 انظر: الحاوي 12/32، المغني 11/495.

3 انظر: المهذب 2/178، المغني 11/495، شرح الزركشي 6/77.

4 انظر: الحاوي 12/32.

5 انظر: المصدر السابق.

ص: 388

بنفس فأولى أن تقاد الأطراف بطرف1.

وقد أجيب عن قياس ما دون النفس على النفس من عدة أوجه، منها:

أ- أن الأطراف يشترط فيها المساواة في النفع والقيمة، لهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء، ولا يد الحر بيد العبد، ولا يد الرجل بيد المرأة، بخلاف النفس، فإنها لا يشترط فيها غير المساواة في العصمة، لذا تقتل النفس السالمة من العيوب بقتل المعيبة، وكذا الاثنان بالواحد2.

ب- أن زهوق الروح لا يتجزأ فأضيف إلى كل واحد من الجماعة المشتركين في ذلك، وقطع العضو يتجزأ بدليل أنه يمكن أن يقطع البعض ويترك الباقي بخلاف القتل3.

أدلة القول الثاني:

استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

1-

أن النفس أشرف من الطرف، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد، المحافظة على ما دونها4

2-

أن الأطراف يعتبر التساوي فيها، بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها، ولا أصيلة بزائدة، ولا يمينا بيسار ولا يسارا بيمين، ولا تساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما، ولا يعتبر التساوي في النفس إذ يجوز فيها أخذ الصحيح بالمريض، وصحيح

1 انظر: الحاوي 12/32.

2 انظر: البحر الرائق 8/356، حاشية ابن عابدين 6/557.

3 انظر: البناية 12/161، البحر الرائق 8/356.

4 انظر: المغني 11/495، شرح الزركشي 6/78.

ص: 389

الأطراف بمقطوعها وأشلها1.

3-

أن كل واحد منهم قاطع لبعض العضو المقطوع؛ لأن ما انقطع بقوة أحدهم لم ينقطع بقوة الآخر، فلا يجوز قطع الكل بالبعض، ولا الاثنين بالواحد لانعدام المساواة، فصار كما إذا أمر كل واحد من جانب2.

4-

أنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس القطع بحيث لو قطع كل منهم من جانب لم يجب القصاص بخلاف النفس3.

وأجيب عن اعتبار التساوي:

بأنه معتبر في الطرف كما في النفس لذا لم نأخذ مسلما بكافر ولا حرًا بعبد4.

وأجيب عن أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها:

بأن الطرف ليس من النفس المقتص منها، وإنما يفوت تبعا، ولذلك كانت ديتها واحدة، بخلاف اليد الشلاء والناقصة مع الصحيحة فإن ديتها تختلف5.

5-

أن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا فوجب قطع الجماعة بالواحد زجرا عنه مخافة أن يتخذ ذلك وسيلة إلى كثرة القتل، والاشتراك المختلف فيه لا يقع إلا في غاية الندرة، فلا حاجة إلى الزجر عنه6.

1 انظر: المغني 11/494.

2 انظر: البناية 12/161، البحر الرائق 8/355.

3 انظر: المغني 11/494.

4 انظر: المغني 11/495.

5 انظر: المصدر السابق.

6 انظر: البناية 12/162، البحر الرائق 8/356، المغني 11/394.

ص: 390

6-

أن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد، وإيجابه على المشتركين في العضو لا يحصل به الزجر عن ذلك ولا عن شيء من الاشتراك إلا عن صورة نادرة الوقوع، بعيدة الوجود، يحتاج في وجودها إلى تكلف، فإيجاب القصاص للزجر عنها يكون منعا لشيء ممتنع بنفسه لصعوبته، وهذا لا فائدة فيه، بخلاف الاشتراك في النفس1.

الراجح:

بعد عرض أقوال العلماء وأدلتهم في حكم القصاص من الجماعة عند اشتراكهم في قطع طرف أحد فإنه يظهر لي من أدلة أصحاب القول الأول والثاني: أنه لم يثبت في المسألة نص من الكتاب أو السنة، بل غاية ما تمسك به القائلون بمشروعية القصاص من الجماعة والحالة ما ذكر هو الأثر المروي عن علي رضي الله عنه، وهذا قول صحابي لم يعرف له مخالف في عصره فيكون إجماعا سكوتيا، إلا أن يقال أن لازم قول من قال بعدم جواز قتل الجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – يقتضي ألا يجيز أولئك الصحابة – رضي الله عنهم – القصاص من الجماعة للواحد فيما دون النفس، وإن كان لازم القول ليس قولا.

أما ما استدل به كل من أصحاب القولين من المعقول، فله حظ من النظر لوجاهته وقوته، وإن كان بعضه أولى في الاعتبار من بعض. وبناء على ذلك فإنه يترجح لي القول: بأن يقتص من الجماعة للواحد فيما دون النفس، لما يلي:

1-

ثبوت ذلك عن علي رضي الله عنه من غير العلم بمخالف له من الصحابة،

1 انظر: المغني 11/494.

ص: 391

وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي حجة إذا لم يعلم له مخالف.

2-

أن إيجاب القصاص على الجماعة المشتركين في الجناية على الواحد في العضو أو في الجرح يحصل به الزجر عن الاعتداء على الغير.

3-

أن حفظ النفس مقصد شرعي، فكما حافظت الشريعة على النفس فإنها حافظت على ما دونها من الجرح أو العضو. والقول بعدم القصاص على الجماعة في هذه الحالة يفضي إلى تفويت مقصد الشرع في الأمر، وقد يفتح باب جعل ذلك ذريعة إلى انتشار الفساد في الأرض.

4-

أن كل واحد من المشتركين في الجناية يصدق عليه أنه متعد على الغير فيحكم عليه حكمه. والله أعلم.

ص: 392