الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبق من لقاءات ومناظرات، واختبارات، وتدريبه في متاهات البحث والدراسة وهو يتابعه ويسدد خطاه ويوجهه إلى مصادر البحث ومواطنه؛ وبذلك يقع على الأستاذ المشرف مهمة صعبة بعد ذلك، وهي المتابعة في إصرار لكل خطوة يخطوها الباحث، وأن يتعرف عليها قبل أن يدونها ثم على الطريقة التي صاغها فيها، ثم على النتائج التي انتهى إليها الباحث في كل خطوة، وفي النهاية يتابع الباحث ظهور كل جديد يطرأ على الموضوع، ويوجه الباحث إليه؛ لأن الخطأ في البحث بعد هذه المعاناة لا تنسب إلى الباحث فحسب، بل يشاركه فيه الأستاذ المشرف، لأن هذا دوره الحقيقي والجاد، والمنتج.
بين العنوان والخطة والمنهج:
بعد اقتناع كل من الأستاذ المشرف والباحث بالموضوع على النحو السابق يلزم علينا أن تتعرف على الطريقة المثلى في إعداد العنوان للموضوع، ثم الخطة له والمنهج الذي سيتبعه الباحث في طريقه الطويل حين يعرض الموضوع، ومن خلال ذلك نتعرف على الفرق بين الخطة والمنهج، وخاصة بعد أن ظهر الخلط بينهما كثيرا في التعبير.
1-
فأما العنوان فيقوم الباحث بإعداده على النحو التالي؛ فيكتسب أولا اسم الجامعة التي ينتسب إليها، مثل جامعة الأزهر وثانيا يكتب اسم الكلية التي يتبعها مثل كلية اللغة العربية
وثالثا القسم الذي ينضم إليه الباحث، والذي يتصل بموضوعه مثل قسم الأدب والنقد، ورابعا أن يكتب الموضوع الذي اختاره مثل الموسيقى في شعر البحتري، وخامسا يكتب الدرجة العلمية التي سيحصل عليها بهذا الموضوع مثل درجة الماجستير أو درجة الدكتوراه، وسادسا العام الجامعي الذي سيحصل فيه على الدرجة العلمية مثل عام "1393-1394هـ" و"1974-1975" وسابعا اسم صاحب الرسالة، وثامنا يكتب اسم الأستاذ المشرف على الرسالة إذا كان واحدا أو أكثر من واحد، فيكتب الباحث أسماءهم أيضا للمشاركة في هذه المسئولية العلمية.
2-
وأما الخطة: فهي تلك الأبواب والفصول التي تخضع لطبيعة الموضوع والأفكار التي تدخل في كل فصل، ويقوم الأستاذ المشرف بتوجيه الباحث فيها والتقديم والتأخير حسب تجربته العملية الطويلة.
وليس معنى ذلك أن الباحث ملتزم بهذه الخطة؛ فقد يكون من الجائز تعديلها والتقديم والتأخير بل الحذف والزيادة، وذلك يرجع إلى عدة أسباب:
أ- التعمق في الموضوع والتعرف الحقيقي عليه، وهذا يؤدي بدوره إلى التقديم أو التأخير والحذف والزيادة.
ب- ظهور بحوث جديدة في الموضوع مما يضطر الباحث إلى الحذف أو التعديل.
ج- ظهور مناهج جديدة في الدراسة، وهذا له أثره في
تعديل الخطة حسب نوعية هذا المنهج الذي سيسير عليه الباحث.
3-
وأما المنهج في البحث فإنه يختلف عن الخطة كثيرا بل يغايرها كل المغايرة، ولئلا يتكرر الخلط بينهما ويتورط الباحث في التلبس بالخطأ فيهما، وفي الفصل بينهما فإني سأوضح الفرق بينهما.
فالخطة في البحث كما عرفنا مما سبق؛ وهي تختلف عن المنهج؛ لأن الأخير هو الطريقة والقواعد العامة التي يسير عليها الباحث في كل الأفكار والفصول والأبواب، وعلى الباحث في منهجه أن يسير في اتجاه واحد، ويضع أمام بصره بين الحين والآخر هذا الاتجاه الذي اختاره الباحث؛ ليطبقه في كل خطوة من خطوات البحث لئلا يحيد عنه قيد أنملة حتى نهاية المطاف في البحث.
والمنهج في القديم بمعنى البحث أو المعرفة أو النظر وليس هذا هو المقصود منه، ولكن معناه قد اتضح كثيرا في عصر النهضة الفكرية والأدبية الحديثة، فصار المعنى للمنهج هو الطريق المؤدي إلى الغرض المطلوب، على الرغم من تخطي الكثير من المصاعب والعقبات، أو بمعنى أوضح هو مجموعة من القواعد العامة المصوغة من أجل الوصول إلى الحقيقة، أو هو فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، أما من أجل الكشف عن الحقيقة، حين نكون جاهلين بها، أو من أجل البرهنة عليها
للآخرين حين نكون عارفين لها، والأول يسمى منهج التحليل أو الاختراع، والثاني يسمى بالتركيب أو منهج التأليف أو منهج المذهب1.
ونظرا إلى هذا المفهوم للمنهج فقد تعددت أنواعه في مختلف العصور بين القديم والحديث تبعا للثورات الفكرية والابتكارات العلمية الحديثة، والنهضات الفلسفية، وتعدد المذاهب الأدبية والنقدية في كل عصر، وبخاصة في العصر الحديث.
وعلى ذلك فإنني أكتفي بلمحة سريعة لأنواع المناهج في البحث والدراسة وبخاصة في البحث الأدبي بالذات:
أولا: المنهج المنطقي الذي يقوم على الاستدلال وإقامة البراهين الناتجة عن تقديم مقدمات مسلمة تنتهي إلى نتيجة منطقية يقطع بها العقل ويسلم عندها.
وهذا المنهج لحرفيته وجفافه لا يستطيع الباحث أن يلتزم بنصه في بحثه، بل يستعين بروحه واتجاهه حتى يسلم من ذلك الجفاف الذي يلحق المقدمات والمسلمات والبراهين المنطقية، كما هو المألوف في علم المنطق، ولهذا السبب اتجه علماء المناهج إلى ابتكار مناهج جديدة تخضع لعلوم حديثة طرأت على العصر تبعا للنهضات العلمية والأدبية الحديثة.
1 مناهج البحث العلمي، د. عبد الرحمن بدوي ص4، 5.
ثانيا: منهج العلوم الطبيعية ويتحدد هذا المنهج عند علماء الطبيعة بعد النهضة الحديثة في العلوم الطبيعية، ويريدون بذلك تطبيق قوانين هذه العلوم على الدراسات الفلسفية والبحوث الأدبية، لأنهم لا يسلمون بالحكم الذي يرجع إلى الذوق فهو يختلف من شخص لآخر بدون ضابط دقيق، وعلى ذلك فالناقد والأديب عليه أن يطبق في بحوثه قوانين ثابتة لا تخضع لذوق ولا لهوى؛ ولهذا فقد طبقوا على الأدب منهج علم الأجناس والأنواع، فالفنون الأدبية كالأنواع البشرية تنمو وتأخذ أطوارا في تدرج ورقي كالإنسان تماما، وأن كل طائفة من الشعراء تدخل في نوع معين لاتفاقهم جميعا في منابع واحدة في الجنس والعصر والبيئة المشتركة.
ثالثا: منهج العلوم الاجتماعية وهو الذي يعتمد على ربط الأدب بالمجتمع، لأن الأدب في حقيقته إنما هو تعبير عن المجتمع وتصوير لقضاياه ومشاكله، وإيجاد للحلول المناسبة التي يساعد الأدب على حلها، أو يعمل على إسعاد المجتمع في أسلوب أدبي مشوق، وتصوير بارع يستولي على النفس.
والعزلة في الأدب تجعله لا قيمة له ولا وزن، فالأدب يوزن بقدر صلته بالمجتمع وتصويره للواقع الذي يعيش فيه الشاعر، ويسمى بالأدب "الملتزم" وليس معنى ذلك أن يتحول الشاعر إلى عالم أو واعظ لا شخصية له في فنه
ولا ذاتية له في شعره، ولكن الشاعر ينبغي أن تكون له شخصيته وفرديته بحيث تذوب قضايا المجتمع في نفسه، وتتحول لاقتناعه بها وإيمانه من أجلها تتحول إلى قطعة من لحمه، وفورة من دمه، ولهيبا من عاطفته، وحرارة من شعوره ونبعا من خواطره وأفكاره، وبهذا يصور المجتمع من خلال شخصيته الشعرية وذاتيته المنتجة.
رابعا: المنهج النفسي، ويستخدم فيه النقاد منهج علم النفس الحديث، إذ يطبقون العلل النفسية والعقد الشخصية والأمراض الوراثية والجسدية على الفن الشعري والأدب العربي؛ فيربطون بين الشعر وبين نفسية صاحبه ربطا يكشفون به عن أمراض الشاعر، وعن علله النفسية وذلك مثل صنيع بعض المحدثين في كتاباتهم كالعقاد في كتابه المشهور "ابن الرمي حياته من شعره" والمازني في كتابه "حصاد الهشيم" حين درس ابن الرومي وشعره.
خامسا: المنهج الفني ويتناول فيه الباحث التعرف على مصادر الجمال في البحث الأدبي، وهل هذا الجمال يرجع إلى المعنى أو إلى اللفظ المفرد أو إلى النظم أو إلى الصورة الكلية للقصيدة بأكملها، ثم يحدد خصائص الجمال في كل ما تقدم، أو أنه يكتفي في الإحساس بالجمال فقط من غير أن يتعرف أسبابه ودواعيه، كما وصف ذلك اثنان من كبار النقاد العرب القدامى وهما القاضي ابن عبد العزيز الجرجاني والآمدي، حينما عرضا هذه الأبيات التي يهتز لها السامع
وإذا أراد أن يتعرف على أسباب الجمال والحلاوة فيها لا يستطيع ذلك والأبيات هي:
أقول لصاحبي والعين تهوى
…
بنابين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
…
فما بعد العشية من عرار
ألا حبذا نفحات نجد
…
ويا روضة غب القطار
وعيشك إذ يحمل القوم نجدا
…
وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقصين وما شعرنا
…
بإنصاف لهن ولا سرار
فأما ليلهن فخير ليلى
…
وأقصر ما يكون من النهار
يقول القاضي الجرجاني فيها: ولكنني ما أظنك تجد لها من سورة الطرب وارتياح النفس ما تجده هنا، ثم يقول: وهو كما تراه بعيد الصنعة فارغ الألفاظ سهل المأخذ، قريب التناول1.
والمنهج الفني سواء قام على الإحساس بالجمال أو التعرف على خصائص اللفظ والنظم والصورة الكلية للقصيدة، فكلاهما يرجع إلى قواعد معينة ترسبت في الذوق من كثرة المران، ومتابعة النقد للنصوص الأدبية من خلال الدراسات الكثيرة لنقادنا القدامى مثل القاضي الجرجاني والآمدي وعبد القاهر الجرجاني وابن رشيق وغيرهم، ومن خلال الدراسات الكثيرة لنقادنا المحدثين في مذاهبهم النقدية والأدبية الحديثة.
وهو منهج فني أصيل يرجع إلى طبيعة اللغة في الأدب والتعرف على منابع الجمال فيها.
1 الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي ابن عبد العزيز الجرجاني.
سادسا: المنهج العام
وهو الذي يجمع فيه الباحث بين المناهج السابقة كلها ويعتمد عليها جميعها في دراسة النصوص وفي موضوعه الذي اختاره، وعليه حينئذ أن يطبق روح المنهج الطبيعي، والمنهج الفلسفي والمنهج الاجتماعي والمنهج النفسي والمنهج الفني والمنهج التاريخي؛ لكي يكشف القيم الفنية الكثيرة في دراسته، ويتعرف عليها، ويوضح خصائصها واتجاهاتها في ذلك الموضوع، وهو منهج فني بموضوعاته يحتاج من الباحث إلى جهد كبير، ومتابعة ودقة، وقبل ذلك كله يحتاج إلى سعة الاطلاع فيه والتعمق في جوانبه والتعرف على أصوله.
وهذه المشقة يرجع السبب فيها إلى التقاء كل المناهج في منهج واحد وهو المنهج التكاملي الذي يحتاج منه إلى جهد ومعاناة شديدين، بينما لو سار الباحث على منهج واحد غير هذا المنهج كالمنهج النفسي مثلا؛ فإنه لا يعاني معه مثل هذه المشقة والجهد.
وهذه إشارة سريعة للمناهج التي يتبع أحدها الباحث في دراسته لموضوعه، ولعل الفرق قد ظهر واضحا بين الخطة في البحث وبين المنهج للباحث الذي سوف يسير عليه في الخطة التي رسمها لموضوعه في البحث الأدبي.