الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مادة البحث:
وتختلف مادة البحث باختلاف موضوعه؛ فقد تكون في علم من العلوم، مثل علم الفلسفة أو الاجتماع، أو مثل علم الفقه أو التوحيد، وقد تكون في فن من الفنون مثل فن الأدب أو فن الشعر أو في قضية من قضايا النقد الأدبي.
وعلى ذلك فالموضوع العلمي له مادته المستقلة التي تخضع له، والموضوع الأدبي له مادته الأدبية المتميزة التي تحمل خصائصه وسماته، وإن كان الحديث هنا سيكون عن مادة البحث الأدبي في اللغة العربية على سبيل المثال؛ ليكون صالحا للتطبيق على أي مادة في بحث العلوم الأخرى والفقه والبلاغة والتاريخ.
ومادة البحث الأدبي تعتمد على جملتها على الأدب شعرا كان أو نثرا، ونحن نعلم أن للشعر فنونه من الشعر الغنائي والشعر الموضوعي والشعر التمثيلي والمسرحي، وله أغراضه من مدح ووصف وغزل ورثاء وغير ذلك، وللنثر الأدبي ألوانه وأنواعه من مقال
أدبي، ورسالة، وخطبة، وقصة، وأقصوصة، ومسرحية نثرية وفن السيرة الأدبي وغيرها.
والأدب فن إنساني رفيع يصور مشاعر الإنسان وعواطفه ويجسد خواطر النفس وأحاسيسها؛ فيخرج في صورة جذابة ولوحة فنانة تشد الانتباه وتوقظ المشاعر، وتحرك العواطف وتثير الانفعالات، لأن الأدب وبخاصة الشعر تحمل الكلمة فيه إيحاءات نثرية فوق معناها اللغوي، ويفيض عليها بمدلول شعوري ينبع من شعور الأديب التي يجيش بالعواطف الحارة ومن نفسه المفعمة بالخواطر والأحاسيس.
فالعقل حينما يسجل حقائق التاريخ، أو يقرر قضية في المنطق، أو يحدد معنى لغويا في اللفظ، فإنه يجرد اللفظ من كل الملابسات الحسية والتخييلية، التي أفادها اللفظ من كثرة الاستعمال، وما أفاضت عليه المشاهد والأحداث في الحياة من إيحاءات وإشارات، فكلمة "تضرم" و"تطفئ" في صورة ابن الرومي "للأخرق" التي يقول فيها:
وأخرق تضرمه نفخة
…
سقاها وتطفئه تفلة
فأخلاقه تارة وعرة
…
وأخلاقه تارة سهلة
فالكلمة الأولى "تضرم" عند المؤرخين والمناطقة واللغويين تفيد الزيادة في الاشتعال، والكلمة الثانية عندهم "تطفئ" تفيد خمود النار وانطفاءها، وحين اختارهما ابن الرومي في الصورة الأدبية، أضاف إلى معناهما المجرد معان كثيرة، وإيحاءات متعددة من مشاهدهما الحسية، التي وضعت من أجلها هاتان
الكلمتان، ثم ما اكتسبه كل منهما منذ نشأته، حتى أخذ مكانه من التصوير عند الشاعر، فإن الكلمة في هذه الفترة اكتسبت كثيرا من الملابسات والمشاعر المختلفة، وبقدر استيعاب الشاعر والناقد الأدبي لهذه المشاهد والملابسات يكون غناء الكلمة وثراؤها الشعوري والتاريخي.
فابن الرومي بهذين اللفظين وحدهما يصور حقيقة الأخرق وطبيعته المتوفرة: هو نار في خلاء مترام سواء أكان وعرا أو سهلا، إن تنسمت رياحه قليلا اضطرمت هذه النار وعم اشتعالها، واتسع ضررها، وجلبت المخاوف والآلام، وخيم الموت على المؤمل منهما النفع؛ لأنه لا حاجز في الخلاء، ولا ساتر يصد عن النار الرياح إن نشطت، ومع ذلك تنطفئ النار بالرذاذ الذي يتطاير من الأفواء، إن سكتت عنها النسيم، ثم نتخيل بعد ذلك ألفاظ البيتين وهي:"تضرم، نفخة، سقاها، تطفئه، تفلة، وعرة، سهلة" متنوعة الملابسات والخيالات، فقد انتقل بناء ابن الرومي فعلا بهذه الألفاظ إلى الواقع المحسوس في صحراء اجتمعت فيها تلك المشاهد في البيتين؛ لتتجلى فيهما صورة الأخرق؛ فهو إنسان يتراءى لبني جنسه بالخير الذي يعود على المجتمع، ولكنه إذا استثير لأتفه الأسباب كان هو الشر المستطير، فلا بيقي ولا يذر كما تراه متفتح الأوداج، سريع الحركات مدمر الضربات، طائش اللب، لا ينطوي إلا على شر خبيث لنفسه ولمجتمعه.
هذه هي صورة الأخرق في مدلولها الشعوري، كما جسمها
اللفظ المحسوس، وما يتميز به في الشعر من مدلول شعوري عنه في التاريخ والمنطق واللغة وسائر العلوم.
والأدب أيضا لا يعتمد على العقل وحده كالشأن في غيره من العلوم، ولكنه يعتمد على العقل والخيال معا، لأن الخيال لغة العاطفة الحارة، ولسان الشعور الحي الفياض، كما أن الحقيقة لغة العقل والفكر، والخيال والعقل غير متناقضين، بل هما يسيران معا جنبا إلى جنب في الكشف عن جوهر الحقائق، والخيال الحيوي المنتج هو المرحلة القوية النابضة للوصول إلى الحقائق، والوسيلة الجيدة في الكشف عن أسرارها، لأنه هو الصلة القوية في الإنسان العاجز عن إدراك الحقيقة، يهتك به أستارها المحجبة التي تند عن الأفهام؛ فهو يعمل ليحقق ما يصبو إليه المتخيل من آمال حرم منها في واقعه الذي يعيشه، وما لا يستطيع الواقع أن يحققه له.
والخيال ملكة في نفس الأديب تحقق التوازن بين الأشياء وتؤلف بين المتناقضات وتوفق بين المتعارضات، وتمزج بين الإحساس الجديد الطارئ، وبين القديم المخزون في النفس، وتركب بين الواقع المرئي المشاهد، وبين الواقع المذاب في الذهن، وتنظم بين الانفعال العادي، وبين الدرجة العالية منه؛ ليتم من وراء ذلك تأليف الصور المختلفة للخيال، التي يؤمها الأديب في بناء جديد، نتج عن علاقات جديدة من الأشياء المأخوذة من الواقع بالتغيير في أحجامها وأشكالها
وعناصرها وتراكيبها، فالأديب لا يقنع بالعلاقات بين الأشياء المصورة كما هي في الواقع، ولا يقتصر على فهمها وبيانها فقط كالشأن في الخواطر العقلية، ولكنه يغيرها ويقيم غيرها أو يبدل في بعضها، أو يضيف علاقات جديدة، يبث فيها من روحه وتنبض بحيوية من قلبه، وتنتظم من شعوره الذاتي وإحساسه المفرد.
وبملكة الخيال يحس الشاعر بالحياة والحركة والروح في كل شيء، ويتردد أصداء ذلك في نفسه، وتشف عن روحه؛ فيشعر بوشوشة الأغصان التي تكشف عن أسرار الجمال بمقدم الربيع، فالأديب الحق هو الذي يؤثر في النفس بخياله الرائع؛ فيستخدم الأشكال والألوان، في نسق عجيب، وتصوير بديع، ليظهر الأدب في صور أزهى من الواقع، وأقوى من الطبيعة في ألوانها وأشكالها المنثورة هنا وهناك.
والأدب أيضا يعتمد على عنصر آخر لا يوجد في العلوم، وهو الموسيقى، إذ بها يتميز عن العلوم في باب التعبير بالكلمة، والموسيقى تعبير رمزي عن شعور أو عاطفة أو انفعال نبع اللحن فيه من أوتار خاصة، وعلى نحو خاص، وهي في ذاتها فن مستقل له أصوله، ولكن الإيقاع فيه ليس مقصورا عليه، بل لقد نالت الفنون الأخرى حظا منه، يختلف كل فن فيها من حيث الشكل والنوع، والدرجة، والوضوح.
فشكل الإيقاع في الرقص تعتمد على حركات الجسد وتوقيعاته المختلفة، وفي الرسم رقعة وألوان وأضواء وظلال، وفي التمثال
تمايز بين أجزائه المختلفة، وفي الأدب صوت ينبع من كلمات تستقبله أذن الناقد، ويحكم عليها بذوقه الأدبي وحسه اللغوي.
ومن حيث النوع؛ فنرى الإيقاع في الرقص حركات وتوقيعات مختلفة، وفي الرسم وثبة تدل على حيوية اللوحة، وفي التمثال توفز ولو في بريق عينيه أو فغر فاه، وفي الأدب حركات وإيقاعات تفيض بوحي ومخزون شعوري، تتمثل في حروف صائتة، أو علاقات صامتة.
ومن حيث درجة الإيقاع فقد تعنف الدرجة في الرقص وتنساب حسب اللون المعروض، ولكنها تنتهي بانتهاء الموقف أو المشهد، وفي الرسم والتمثال تقدر درجة الحركة فيهما بلمحة أو لحظة من الزمن، وفي الأدب تختلف فيه درجة الإيقاع حسب الغرض، وتبقى ما بقي النص متداولا بين الناس.
ومن حيث وضوح الإيقاع فتراه في الرسم والتمثال، يكاد يكون الإيقاع غامضا فيهما، مما يحتاج إلى دقة ملاحظة للوقوف عليه، والرقص أكثر وضوحا منهما، وإن كان دون الأدب في الوضوح بحكم أن لذته لا يستغني عنها إنسان، فيها يتعامل ويعيش بين مجتمعه، فالإنسان اجتماعي بطبعه؛ فغير المتعلم من عوام الناس يدرك مدى خفة إيقاع الكلمة وثقلها على سمعه، وقبول ذوقه لها ونفرته منها.
والموسيقى بأنواعها في الأدب عنصر أساسي كبير فيه، وركن أصيل تعتمد عليه، فلو تجرد منها الشعر فقد قيمته، وخرج من دائرة الأدب إلى دائرة
أخرى تهتم بتوصيل الحقيقة على أي وجه، من غير إثارة للمشاعر، وبالإيقاع في الشعر يكتمل الشكل الفني له، بحيث يعد من عيوب الأدب الذي يأخذ بتلابيب النفس، ويكون موطن الدراسة والتحليل والنقد.
والنفس بطبيعتها متألفة الأجزاء، منسقة الأعضاء وفي صورتها الجميلة التي هيأها الله لها، قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} لهذا الانسجام التام فيها، واستواء الخلق المتكامل لها تستجيب النفس لنظائرها في الحياة، والتي تتشابه معها في الوجود، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:"الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
وعلى ذلك تكون النفس أشد استجابة للأشياء المنسقة التي تقوم على نظام رتيب، وإيقاع موزع في تناسب وتناسق، لأن الإيقاع والموسيقى من أقوى الظواهر التي تستجيب إليها النفس من غير وعي ولا شعور، كالشأن في الخيال وهو ظاهرة غامضة أيضا نوعا ما؛ فإنه يجذب النفس إليه لسحر كامن فيه، وسيظل كل من الخيال والموسيقى لغزا غامضا محيرا، يكتفي الناقد في توضيحه بالتعرف على إيحائه وإشارته، والإيحاء والإشارة من أقوى عوامل التأثير في النفس، بل هما من الوسائل الحية التي تنقل ما في النفس من المعاني والمشاعر والعواطف.
والأدب أيضا يعتمد على العاطفة مثل اعتماده على الخيال والموسيقى؛ فالعاطفة في الأدب تقف إزاء العقل، وتمتزج بألوان الفكر فيه، وتقوم المشاعر أيضا بتعميق الأفكار وإثرائها، وإضفاء الحيوية والقوة في جزئياتها، وعلى ذلك فلا يستطيع الأديب أن يثير العاطفة في الآخرين، إلا بعمل مشحون بالعاطفة والمشاعر، وكل منهما في نفسه وثيق الصلة بالإيقاع، ووثيق الصلة أيضا بالخيال للغموض الذي يلفها جميعا.
والمادة في البحث الأدبي تختلف باختلاف ذوق الباحث وبميوله الذاتية والأدبية، وإيثاره لاتجاه معين ولون خاص من مواد الأدب التي يجيد الكتابة فيه، ويسبر أغواره، ليصل في دأب إلى الحقيقة التي ينشدها في بحثه، ولا تخرج المادة المختارة في البحوث الأدبية غالبا عن هذه الموضوعات، التي قد تكون صالحة للدراسة والبحث؛ وهي:
1-
عصر أدبي معين: مثل العصر الجاهلي أو عصر صدر الإسلام أو العصر المملوكي وهكذا. ومثل هذا الموضوع له خطورته وعقباته التي تقف دون الباحث لتحقيق المراد؛ بسبب سعته وشموله لقضايا تصلح كل قضية منها لأن تكون بحثا مستقلا.
2-
البحث عن "شاعر" معين من الشعراء في أي عصر من العصور الأدبية، فيختار الباحث مثلا البحتري أو ابن الرومي أو أحمد شوقي، أو إبراهيم ناجي وغير ذلك، ولا يخلو هذا النوع من الاعتساف أحيانا؛ لأن الشاعر المترجم له قد يكون مكثرا
وعبقرية فذة في إنتاجه الأدبي، وقيمه الفنية الغنية بالدراسة مثل أبي الطيب المتنبي، وحينئذ يختار الباحث جانبا واحدا من قيمه الفنية الكثيرة، وهذا أقرب إلى الأصالة في البحوث والجد في تناولها.
3-
البحث في "موضوع" خاص من موضوعات الأدب مثل غرض من الأغراض الشعرية، وفن من فنونها كالشعر السياسي في العصر الأموي، أو النقائض الشعرية فيها، أو الشعوبية وأثرها في الشعر العباسي، أو أدب الكدية وأثره في اللغة العربية، أو ظاهرة التكسب عند شاعر، أو الوطنية، أو التيار الإسلامي أو الحب العذري، أو الجانب القصصي، وما شابه ذلك.
4-
البحث عن ميلاد نظرية جديدة في الأدب العربي، مثل الصنعة في الشعر العباسي، أو التصوير عند ابن الرومي أو الالتزام عند الشاعر عبد الحميد، أو نظرية "الفن للفن" أو "الفن للحياة" في الشعر العربي وهكذا.
5-
تحقيق "مخطوطة" في الأدب من التراث العربي القديم فيقوم بتوثيقها، والموازنة بين نسخها المختلفة، ويتعرف على أقدمها وأقربها إلى صاحبها، ويجمع الأخبار الخاصة بها من خلال كتب التراجم والموسوعات الأدبية، التي تحدثت عنها، وقد يكون التحقيق لنص أدبي في العصر الجاهلي والعباسي، فيقوم الباحث بتوثيقه ونسبته إلى قائله، وشرحه وتفصيله وتحليله ونقده، وتوضيح قيمه الفنية، ويربط بين خصائصه الدقيقة وبين