الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[بَابُ بَدْءِ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ رضي الله عنهم]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَاعِزَازَ نَبِيِّهِ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا. فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: لَمَّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ: " مَنْ أَنْتُمْ؟ " قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ. قَالَ: " أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ ". قَالُوا: بَلَى. فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ عَزُّوهُمْ بِبِلَادِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانَهُ نَتَّبِعُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ، تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ صَدَّقُوهُ. وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمَ، بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا
بَيْنَهُمْ، وَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ. ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لِي سِتَّةُ نَفَرٍ، كُلُّهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، - قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْخَزْرَجِ وَمِنَ الْأَوْسِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ رَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ النَّجَّارِيَّانِ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ السَّلَمِيُّ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَوَادٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمٍ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ
مِنْ بَنِي حَرَامٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ رضي الله عنهم. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَيْلَتَئِذٍ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَوَّلَ اجْتِمَاعِهِ عليه السلام بِهِمْ كَانُوا ثَمَانِيَةً، وَهُمْ: مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكْوَانُ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ. فَأَسْلَمُوا وَوَاعَدُوهُ إِلَى قَابِلٍ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَرَافِعَ بْنَ مَالِكٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا يُفَقِّهُنَا. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ كَمَا سَيُورِدُهَا ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ، ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ. فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا
وَفِيهَا ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَخُوهُ مُعَاذٌ، وَهْمَا ابْنَا عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مُخَلَّدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ، - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ - وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَحَلِيفُهُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ الْبَلَوِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ الْعَجْلَانِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَمِنَ الْأَوْسِ اثْنَانِ وَهُمَا; عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ مَالِكُ بْنُ التَّيِّهَانِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: التَّيِّهَانُ يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ كَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زَعْوَرِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ إِرَاشِيٌّ. وَقِيلَ: بَلَوِيٌّ. وَلِهَذَا لَمْ يَنْسِبْهُ
ابْنُ إِسْحَاقَ، وَلَا ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: وَالْهَيْثَمُ فَرْخُ الْعُقَابِ، وَضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا شَهِدُوا الْمَوْسِمَ عَامَئِذٍ، وَعَزَمُوا عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ، فَبَايَعُوهُ عِنْدَهَا بَيْعَةَ النِّسَاءِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] إِلَى آخِرِهَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ «كُنْتُ مِمَّنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، " فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ» ". وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَائِذِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُ، قَالَ:«بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأَوْلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، " فَإِنْ وَفَيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سَتَرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ» ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَوْلُهُ: عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ. يَعْنِي عَلَى وَفْقِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَيْعَةُ النِّسَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَزَلَ عَلَى وَفْقِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِمُوَافَقَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي " سِيرَتِهِ " وَفِي " التَّفْسِيرِ " وَإِنَّ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ عَنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ فَهُوَ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُ الْقَوْمُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ،
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بَعَثَ مُصْعَبًا حِينَ كَتَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَيْهِمْ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ هِيَ الْأُولَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَسِيَاقُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا الْعَقَبَةُ الْأُولَى. ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَى لَعَمْرِي قَدْ كَانَتْ عَقَبَةٌ وَعَقَبَةٌ. قَالُوا كُلُّهُمْ: فَنَزَلَ مُصْعَبٌ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَكَانَ يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمَّهُ بَعْضٌ، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا، صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. قَالَ: فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا بِي لَعَجْزٌ أَلَّا أَسْأَلَهُ. فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَا لَكَ إِذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ، صَلَّيْتَ عَلَى أَبِي
أُمَامَةَ؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ، فِي هَزْمِ النَّبِيتِ، مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ. قَالَ: قُلْتُ: وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا» . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رحمه الله. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ» وَفِي إِسْنَادِهِ غَرَابَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ابْنَ خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ، عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهُ:
بِئْرُ مَرَقٍ. فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، يَوْمَئِذٍ سَيِّدًا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِهِ، قَالَ سَعْدٌ لِأُسَيْدٍ: لَا أَبَا لَكَ، انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا فَازْجُرْهُمَا، وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ ابْنُ خَالَتِي وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدَّمًا. قَالَ: فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ. قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ. قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا. فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: فَقَالَ لَهُ عَلَامَ أَتَيْتَنَا فِي دُوْرِنَا بِهَذَا الْوَحِيدِ الْغَرِيبِ الطَّرِيدِ يُسَفِّهُ ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ؟ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ. قَالَ: أَنْصَفْتَ. قَالَ: ثُمَّ رَكَّزَ حَرْبَتَهُ، وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ. فَقَالَا فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتَسِلُ
فَتَطَّهَّرُ، وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الْآنَ; سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا، قَالَ: قَالَ أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى النَّادِي، قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ. وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيُخْفِرُوكَ. قَالَ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُغْضَبًا مُبَادِرًا; تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا. ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنَّيْنِ عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدًا إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا، ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ؟ قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ لِمُصْعَبٍ: جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدٌ مِنْ وَرَائِهِ قَوْمُهُ، إِنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْكَ مِنْهُمُ اثْنَانِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَقْعُدُ فَتَسْمَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ. قَالَ سَعْدٌ: أَنْصَفْتَ. ثُمَّ رَكَّزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ - وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ - أَنَّهُ
قَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الزُّخْرُفِ، قَالَ: فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ فَتَطَّهَّرُ، وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَقَامَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَامِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا، قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا، وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً. قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً، وَرَجَعَ أَسْعَدُ وَمُصْعَبٌ إِلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُوَانِ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَخَطْمَةَ، وَوَائِلٍ، وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسٌ، وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ، وَاسْمُهُ صَيْفِيٌّ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ اسْمُهُ الْحَارِثُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ. وَاسْمُ أَبِيهِ الْأَسْلَتِ: عَامِرُ بْنُ جُشَمَ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَكَذَا نَسَبَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا. وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ قَائِدًا، يَسْتَمِعُونَ
مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ.
قُلْتُ: وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ هَذَا، ذَكَرَ لَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَشْعَارًا رَبَّانِيَّةً حَسَنَةً تَقْرُبُ مِنْ أَشْعَارِ أُمَيَّةَ بْنِ الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَلَمَّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَرَبِ وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ، ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ ذُكِرَ وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ - مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ، فَلَمَّا وَقَعَ أَمْرُهُ بِالْمَدِينَةِ وَتَحَدَّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ - قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، وَاسْمُ أَبِي أَنَسٍ: قَيْسُ بْنُ صِرْمَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ وَفِي عُمَرَ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ يُحِبُّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا كَانَتْ تَحْتَهُ
أَرْنَبُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ يُقِيمُ عِنْدَهُمُ السِّنِينَ بِامْرَأَتِهِ - قَالَ قَصِيدَةً يُعَظِّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ، وَيَنْهَى قُرَيْشًا فِيهَا عَنِ الْحَرْبِ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بَلَاءَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، وَدَفْعَهُ عَنْهُمُ الْفِيلَ وَكَيْدَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ
…
مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غَالِبِ
رَسُولَ امْرئٍ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ
…
عَلَى النَّأْيِ مَحْزُونٍ بِذَلِكَ نَاصِبِ
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مُعَرَّسٌ
…
وَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي
نُبَيِّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلُّ قَبِيلَةٍ
…
لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ صُنْعِكُمْ
…
وَشَرِّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسِّ الْعَقَارِبِ
وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ
…
كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقُّ صَائِبِ
فَذَكِّرْهُمْ بِاللَّهِ أَوَّلَ وَهْلَةٍ
…
وَإِحْلَالِ إِحْرَامِ الظِّبِاءِ الشَّوَازِبِ
وَقُلْ لَهُمُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ
ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبْ عَنْكُمُ فِي الْمَرَاحِبِ
…
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً
هِيَ الْغَوْلُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ
…
تُقَطِّعُ أَرْحَامًا وَتُهْلِكُ أُمَّةً
وَتَبْرِي السَّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ
…
وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيَّةِ بَعْدَهَا
شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ الْمُحَارِبِ
…
وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا
كَأَنَّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ الْجَنَادِبِ
…
فَإِيَّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنَّكُمْ
وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرَّ الْمَشَارِبِ
…
تَزَيَّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمَّ يَرَوْنَهَا
بِعَاقِبَةٍ إِذْ بُيِّنَتْ أُمَّ صَاحِبِ
…
تُحَرِّقَ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا وَتَنْتَحِي
ذَوِي الْعِزِّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصَّوَائِبِ
…
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ فِي حَرْبِ حَاطِبِ
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوَّدٍ
…
طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ غَيْرُ خَائِبِ
عَظِيمِ رَمَادِ النَّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ
…
وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمِ الْمَضَارِبِ
وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضَّلَالِ كَأَنَّمَا
…
أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصَّبَا وَالْجَنَائِبِ
يُخَبِّرُكُمْ عَنْهَا امْرِؤٌ حَقُّ عَالِمٍ
…
بِأَيَّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ التَّجَارُبِ
فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبِ وَاذْكُرُوا
…
حِسَابَكُمُ وَاللَّهُ خَيْرُ مُحَاسِبِ
وَلِيُّ امْرِئٍ فَاخْتَارَ دِينًا فَلَا يَكُنْ
…
عَلَيْكُمْ رَقِيبٌ غَيْرُ رَبِّ الثَّوَاقِبِ
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا فَأَنْتُمُ
…
لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى بِالذَّوَائِبِ
وَأَنْتُمْ لِهَذَا النَّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ
…
تُؤَمُّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
وَأَنْتُمْ إِذَا مَا حُصِّلَ النَّاسُ جَوْهَرٌ
…
لَكُمْ سُرَّةُ الْبَطْحَاءِ شُمُّ الْأَرَانِبِ
تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عَتِيقَةً
…
مُهَذَّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ أَشَائِبِ
تَرَى طَالِبَ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ
…
عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنَّ سَرَاتَكُمْ
عَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ
…
وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا وَأَعْلَاهُ سُنَّةً
وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقِّ وَسْطَ الْمَوَاكِبِ
…
فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا
بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
…
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ
غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
…
كَتِيبَتُهُ بِالسَّهْلِ تُمْسِي وَرِجْلُهُ
عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
…
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ
جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ
…
فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ
إِلَى أَهْلِهِ مِلْحُبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ
…
فَإِنْ تَهْلِكُوا نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمٌ
يُعَاشُ بِهَا قَوْلُ امْرِئٍ غَيْرِ كَاذِبٍ
وَحَرْبُ دَاحِسٍ الَّذِي ذَكَرَهَا أَبُو قَيْسٍ فِي شِعْرِهِ، كَانَتْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَشْهُورَةً، وَكَانَ سَبَبَهَا فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَغَيْرُهُ، أَنَّ
فَرَسًا يُقَالُ لَهَا: دَاحِسٌ. كَانَتْ لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ الْغَطَفَانِيِّ، أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جُؤَيَّةَ الْغَطَفَانِيِّ أَيْضًا. يُقَالُ لَهَا: الْغَبْرَاءُ. فَجَاءَتْ دَاحِسُ سَابِقًا، فَأَمَرَ حُذَيْفَةُ مَنْ ضَرَبَ وَجْهَهُ، فَوَثَبَ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ الْغَبْرَاءِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ فَلَطَمَ مَالِكًا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا جُنَيْدِبٍ الْعَبْسِيَّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا فَقَتَلَهُ، فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ بَنِي عَبْسٍ وَفَزَارَةَ، فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ، وَجَمَاعَاتٌ آخَرُونَ، وَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا كَثِيرَةً يَطُولُ بَسْطُهَا وَذِكْرُهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: أَرْسَلَ قَيْسٌ دَاحِسَ وَالْغَبْرَاءَ، وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطَّارَ وَالْحَنْفَاءَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: وَأَمَّا حَرْبُ حَاطِبٍ; فَيَعْنِي حَاطِبَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيًّا جَارًا لِلْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ - وَهُوَ الَّذِي
يُقَالُ لَهُ: ابْنُ فُسْحُمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْخَزْرَجِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ الْأَسْوَدُ بْنُ الصَّامِتِ الْأَوْسِيُّ، قَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذَيَّادٍ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا أَيْضًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ، مَعَ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ حِينَ قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَدِينَةَ وَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَبْقَ دَارٌ - أَيْ مَحَلَّةٌ - مِنْ دُورِ الْمَدِينَةِ إِلَّا وَفِيهَا مُسْلِمُونَ وَمُسْلِمَاتٌ، غَيْرَ دَارِ بَنِي وَاقِفٍ قَبِيلَةِ أَبِي قَيْسٍ، ثَبَّطَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْقَائِلُ أَيْضًا:
أَرَبَّ النَّاسِ أَشْيَاءٌ أَلَمَّتْ
…
يُلَفُّ الصَّعْبُ مِنْهَا بِالذَّلُولِ
أَرَبَّ النَّاسِ أَمَّا إِنْ ضَلَلْنَا
…
فَيَسِّرْنَا لِمَعْرُوفِ السَّبِيلِ
فَلَوْلَا رَبُّنَا كُنَّا يَهُودًا
…
وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُولِ
وَلَوُلَا رَبُّنَا كُنَّا نَصَارَى
…
مَعَ الرُّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ
وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إِذْ خُلِقْنَا
…
حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلِّ جِيلِ
نَسُوقُ الْهَدْيَ تَرْسُفُ مُذْعِنَاتٍ
مُكَشَّفَةَ الْمَنَاكِبِ فِي الْجُلُولِ
وَحَاصِلُ مَا يَقُولُ، أَنَّهُ حَائِرٌ فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ سَمِعَهُ مِنْ بِعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَقَّفَ الْوَاقِفِيُّ فِي ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَكَانَ الَّذِي ثَبَّطَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، بَعْدَمَا أَخْبَرَهُ أَبُو قَيْسٍ أَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ يَهُودُ، فَمَنَعَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يُسْلِمْ إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ هُوَ وَأَخُوهُ وَحْوَحٌ. وَأَنْكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنْ يَكُونَ أَبُو قَيْسٍ أَسْلَمَ. وَكَذَا الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: كَانَ عَزَمَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَامَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَحَلَفَ لَا يُسْلِمُ إِلَى حَوْلٍ، فَمَاتَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ، فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ " أُسْدِ الْغَابَةِ " أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِسْلَامِ فَسُمِعَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ:" يَا خَالِ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". فَقَالَ: أَخَالٌ أَمْ عَمٌّ؟ قَالَ: " بَلْ
خَالٌ ". قَالَ: فَخَيْرٌ لِي أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " نَعَمْ ".» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ رحمه الله، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَرَادَ ابْنَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كُبَيْشَةَ بِنْتَ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ ": كَانَ أَبُو قَيْسٍ هَذَا قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَائِضِ مِنَ النِّسَاءِ وَهَمَّ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهَا، وَدَخَلَ بَيْتًا لَهُ فَاتَّخَذَهُ مَسْجِدًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ، وَقَالَ: أَعْبُدُ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، حِينَ فَارَقَ الْأَوْثَانَ وَكَرِهَهَا، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ، مُعَظِّمًا لِلَّهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ، يَقُولُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا حِسَانًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيًا
…
أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتِيَ فَافْعَلُوا
فَأُوصِيكُمْ بِاللَّهِ وَالْبِرِّ وَالتُّقَى
وَأَعْرَاضِكُمْ وَالْبِرُّ بِاللَّهِ أَوَّلُ
…
وَإِنْ قَوْمُكُمْ سَادُوا فَلَا تَحْسُدُنَّهُمْ
وَإِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ الرِّئَاسَةِ فَاعْدِلُوا
…
وَإِنْ نَزَلَتْ إِحْدَى الدَّوَاهِي بِقَوْمِكُمْ
فَأَنْفُسَكُمْ دُونَ الْعَشِيرَةِ فَاجْعَلُوا
…
وَإِنْ نَابَ غُرْمٌ فَادِحٌ فَارْفُقُوهُمُ
وَمَا حَمَّلُوكُمْ فِي الْمُلِمَّاتِ فَاحْمِلُوا
…
وَإِنْ أَنْتُمْ أَمْعَرْتُمُ فَتَعَفَّفُوا
وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْخَيْرِ فِيكُمْ فَأَفْضِلُوا
وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ أَيْضًا:
سَبِّحُوا اللَّهَ شَرْقَ كُلِّ صَبَاحٍ
…
طَلَعَتْ شَمْسُهُ وَكُلَّ هِلَالِ
عَالِمَ السِّرِّ وَالْبَيَانِ جَمِيعًا
…
لَيْسَ مَا قَالَ رَبُّنَا بِضَلَالِ
وَلَهُ الطَّيْرُ تَسْتَرِيدُ وَتَأْوِي
…
فِي وُكُورٍ مِنْ آمِنَاتِ الْجِبَالِ
وَلَهُ الْوَحْشُ بِالْفَلَاةِ تَرَاهَا
…
فِي حِقَافٍ وَفِي ظِلَالِ الرِّمَالِ
وَلَهُ هَوَّدَتْ يَهُودُ وَدَانَتْ
…
كُلَّ دِينٍ مَخَافَةً مِنْ عُضَالِ
وَلَهُ شَمَّسَ النَّصَارَى وَقَامُوا
…
كُلَّ عِيدٍ لِرَبِّهِمْ وَاحْتِفَالِ
وَلَهُ الرَّاهِبُ الْحَبِيسُ تَرَاهُ
رَهْنَ بُؤْسٍ وَكَانَ نَاعِمَ بَالِ
…
يَا بَنِيَّ الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا
وَصِلُوهَا قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ
…
وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي ضِعَافِ الْيَتَامَى
وَبِمَا يُسْتَحَلُّ غَيْرُ الْحَلَالِ
…
وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلْيَتِيمِ وَلِيًّا
عَالِمًا يَهْتَدِي بِغَيْرِ سُؤَالِ
…
ثُمَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَا تَأْكُلُوهُ
إِنَّ مَالَ الْيَتِيمِ يَرْعَاهُ وَالِي
…
يَا بَنِيَّ التُّخُومَ لَا تَجْزِلُوهَا
إِنَّ جَزْلَ التُّخُومِ ذُو عُقَّالِ
…
يَا بَنِيَّ الْأَيَّامَ لَا تَأْمَنُوهَا
وَاحْذَرُوا مَكْرَهَا وَمَرَّ اللَّيَالِي
…
وَاعْلَمُوا أَنَّ مَرَّهَا لِنَفَادِ الْ
خَلْقِ مَا كَانَ مِنْ جَدِيدٍ وَبَالِي
…
وَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالْتَّقْ
وَى وَتَرْكِ الْخَنَا وَأَخْذِ الْحَلَالِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا، يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ نُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُمْ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً
…
يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بِتَمَامِهَا فِيمَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.