المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب هجرة رسول الله بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ٤

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ كَيْفَ بَدَأَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌[ذِكْرُ عُمُرِهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ بِعْثَتِهِ]

- ‌[فَصْلُ الْفَتْرَةِ الَّتِي انْقَطَعَ فِيهَا الْوَحْيُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَنْعِ الْجَانِّ وَمَرَدَةِ الشَّيَاطِينِ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ حِينَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ إِتْيَانِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌[فَصْلُ شِدَّةِ حِرْصِهِ عليه السلام عَلَى أَخْذِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ عز وجل]

- ‌[تَتَابُعُ الْوَحْيِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ]

- ‌[ذِكْرُ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]

- ‌[ذِكْرُ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه]

- ‌[ذِكْرُ إِسْلَامِ ضِمَادٍ]

- ‌[بَابُ أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِإِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ]

- ‌[قِصَّةُ الْإِرَاشِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ: مَا لَاقَاهُ الرَّسُولُ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ]

- ‌[فَصْلٌ: فِي تَأْلِيبِ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: فِي مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْأَذِيَّةِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌[فَصْلٌ تَعْذِيبُ قُرَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ لِاتِّبَاعِهِمُ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِقَامَتِهِ الْحُجَّةَ الدَّامِغَةَ عَلَيْهِمْ]

- ‌[بَابُ هِجْرَةِ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّجَاشِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مُخَالَفَةِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي نَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[ذِكْرُ عَزْمِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ]

- ‌[ذِكْرُ نَقْضِ الصَّحِيفَةِ]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرُ عَدَاوَةِ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌[قِصَّةُ أَعْشَى بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ]

- ‌[قِصَّةُ مُصَارَعَةِ رُكَانَةَ]

- ‌[فَصْلٌ دُعَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ]

- ‌[قِصَّةُ فَارِسَ وَالرُّومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ]

- ‌[فَصْلُ تَعْلِيمِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتَهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌[فَصْلٌ فِي وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ فِي وَفَاةِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِهَا وَمَنَاقِبِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَزْوِيجِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ خَدِيجَةَ رضي الله عنها بِعَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ]

- ‌[فَصْلُ شِدَّةِ عَدَاوَةِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذَهَابِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ الطَّائِفِ]

- ‌[فَصْلُ ذِكْرِ سَمَاعِ الْجِنِّ لِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَرْضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قُدُومِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ]

- ‌[إِسْلَامُ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ]

- ‌[بَابُ بَدْءِ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ رضي الله عنهم]

- ‌[قِصَّةُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَسْمَاءِ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ]

- ‌[بَابُ بَدْءِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي سَبَبِ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ]

- ‌[بَابُ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِهِ عليه السلام الْمَدِينَةَ وَأَيْنَ اسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِهَا]

- ‌[فِيمَا نَالَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ شَرَفٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ]

- ‌[ذِكْرُ مَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ]

- ‌[ابْتِدَاءُ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَوَّلِ دَارٍ نَزَلَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ]

- ‌[فَصْلُ أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ]

- ‌[ذِكْرُ خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ]

- ‌[تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَالْمَحَلِّ الْمُنِيفِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بِنَاءِ حُجَرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَوْلَ الْمَسْجِدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا أَصَابَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَقْدِهِ عليه السلام الْأُلْفَةَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَوْتِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مِيلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ]

- ‌[فَصْلٌ: وَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زِيَادَةِ صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَذَانِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي سَرِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه]

- ‌[فَصْلٌ فِي سَرِيَّةِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِوَاءً لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَوَّلِ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ]

الفصل: ‌[باب هجرة رسول الله بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق]

[بَابُ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ]

بَابُ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه

وَذَلِكَ أَوَّلُ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ " رضي الله عنه وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا هِشَامٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَدْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ، عليه السلام، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ بِعْثَتِهِ عليه السلام، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ» كَمَّا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «وُلِدَ نَبِيُّكُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ

ص: 443

الِاثْنَيْنِ، وَنُبِّئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.»

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: «وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: " لَا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ صَاحِبًا ".» قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ، فَابْتَاعَ رَاحِلَتَيْنِ، فَحَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ يَعْلِفُهُمَا إِعْدَادًا لِذَلِكَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، إِمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدٌ إِلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ وَمَا ذَاكَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ ". قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:

ص: 444

الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الصُّحْبَةَ ". قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي. ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا.» فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَطَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ. رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا - يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَعْلَمْ فِيمَا بَلَغَنِي بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ حِينَ خَرَجَ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، أَمَّا عَلِيًّ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخُرُوجَ أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ،

ص: 445

قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَلَمْ أَكُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَى هَوْلِ الدُّنْيَا، وَبَوَائِقِ الدَّهْرِ، وَمَصَائِبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي فِي سَفَرِي، وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي، وَلَكَ فَذَلِّلْنِي، وَعَلَى صَالِحِ خُلُقِي فَقَوِّمِنِي، وَإِلَيْكَ رَبِّ فَحَبِّبْنِي، وَإِلَى النَّاسِ فَلَا تَكِلْنِي، رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَنْ تُحِلَّ عَلَيَّ غَضَبَكَ، وَتُنْزِلَ بِي سَخَطَكَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، لَكَ الْعُتْبَى عِنْدِي خَيْرَ مَا اسْتَطَعْتُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ "

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرٍ - جَبَلٍ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ - فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يَتَسَمَّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمَّ يُرِيحَهَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ، يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا غَدَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ يُعْفِّي عَلَيْهِ» . وَسَيَأْتِي فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ

ص: 446

مَا يَشْهَدُ لِهَذَا.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَقَ الصِّدِّيقَ فِي الذَّهَابِ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَسِيرِهِ لِيَلْحَقَهُ، فَلَحِقَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ» . وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُمَا خَرَجَا مَعًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها تَأْتِيهِمَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا. قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ - وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا - فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طَرَحَ مِنْهَا قُرْطِي، ثُمَّ انْصَرَفُوا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ، مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ - وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ: قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَتِ إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: وَأَخَذْتُ أَحْجَارًا، فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ،

ص: 447

فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدَ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ. وَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ لَيْلًا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَسَ الْغَارَ; لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ، يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ. وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاعٌ مِنْ طَرَفَيْهِ.

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَكُونُ أَمَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً، وَخَلْفَهُ مَرَّةً، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِذَا كُنْتُ خَلْفَكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ أَمَامِكَ، وَإِذَا كُنْتُ أَمَامِكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أُدْخِلَ يَدِي فَأُحِسَّهُ وَأَقُصَّهُ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ دَابَّةٌ أَصَابَتْنِي قَبْلَكَ. قَالَ نَافِعٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ ذَلِكَ الْجُحْرَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ دَابَّةٌ أَوْ شَيْءٌ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.» وَهَذَا مُرْسَلٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ شَوَاهِدَ أُخَرَ فِي سِيرَةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه.

ص: 448

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنَا مُوسَى بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبَّادٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ:«ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ عُمْرَ، فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ انْطَلَقَ إِلَى الْغَارِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا لَكَ تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيَّ، وَسَاعَةً خَلْفِي ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟ " قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ. فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي أَعْلَاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْجِحَرَةَ، فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ. فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَنَزَلَ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ.»

وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَارَةً، وَخَلْفَهُ أُخْرَى، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ.

ص: 449

وَفِيهِ أَنَّهُ «لَمَّا حَفِيَتْ رِجْلَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمَلَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى كَاهِلِهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ سَدَّدَ تِلْكَ الْجِحَرَةَ كُلَّهَا، وَبَقِيَ مِنْهَا جُحْرٌ وَاحِدٌ، فَأَلْقَمَهُ كَعْبَهُ، فَجَعَلَتِ الْأَفَاعِي تَنْهَشُهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ".» وَفِي هَذَا السِّيَاقِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ.

ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو سَعِيدٍ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ شَاذَانُ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ فَأَصَابَ يَدَهُ حَجَرٌ، فَقَالَ:

إِنْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30] قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا

ص: 450

رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ، اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ. فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَذَلِكَ مِنْ حِمَايَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي فِي " مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ ": حَدَّثَنَا بَشَّارٌ الْخَفَّافُ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ:«انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ، وَجَاءَتْ قُرَيْشٌ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْا عَلَى بَابِ الْغَارِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، قَالُوا: لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يَرْتَقِبُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَطْلُبُونَكَ، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ مَخَافَةَ أَنْ أَرَى فِيكَ مَا أَكْرَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَبَا بَكْرٍ، لَا تَخَفْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ".» وَهَذَا مُرْسَلٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ

ص: 451

حَسَنٌ بِحَالِهِ مِنَ الشَّاهِدِ. وَفِيهِ زِيَادَةُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ، وَقَدْ كَانَ، عليه السلام، إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. وَرَوَى هَذَا الرَّجُلُ - أَعْنِي أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ الْقَاضِيَ - عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُطَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ، فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي اخْتَبَأَتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْ فِيهِ; فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ رِزْقُكَ فِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا.» وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:

نَسْجُ دَاوُدَ مَا حَمَى صَاحِبَ الْغَا

رِ وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَمَامَتَيْنِ عَشَّشَتَا عَلَى بَابِهِ أَيْضًا، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:

فَغَمَّى عَلَيْهِ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ

وَظَلَّ عَلَى الْبَابِ الْحَمَامُ يَبِيضُ

وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ

ص: 452

صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا عَوْنُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ - وَيُلَقَّبُ عُوَيْنًا - حَدَّثَنِي أَبُو مُصْعَبٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: «أَدْرَكْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْغَارِ أَمَرَ اللَّهُ شَجَرَةً فَخَرَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَسْتُرُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ مَا بَيْنَهُمَا فَسَتَرَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ، فَأَقْبَلَتَا تَدُفَّانِ حَتَّى وَقَعَتَا بَيْنَ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْنَ الشَّجَرَةِ، وَأَقْبَلَتْ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ، مَعَهُمْ عِصِيُّهُمْ وَقِسِيُّهُمْ وَهِرَاوَاتُهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْرَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، قَالَ الدَّلِيلُ - وَهُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ - هَذَا الْحَجَرُ، ثُمَّ لَا أَدْرِي أَيْنَ وَضَعَ رِجْلَهُ. فَقَالَ الْفِتْيَانُ: أَنْتَ لَمْ تُخْطِئْ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا قَالَ: انْظُرُوا فِي الْغَارِ. فَاسْتَقْدَمَ الْقَوْمَ حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْرَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَإِذَا الْحَمَامَتَانِ، فَرَجَعَ فَقَالُوا: مَا رَدَّكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الْغَارِ؟ قَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَعَرَفَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ. فَسَمِعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُمَا بِهِمَا، فَسَمَّتَ عَلَيْهِمَا - أَيْ بَرَّكَ عَلَيْهِمَا - وَأَحْدَرَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْحَرَمِ فَأَفْرَخَا كَمَا

ص: 453

تَرَى.» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَمْرٍو - وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِعُوَيْنٍ - بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، وَفِيهِ أَنَّ جَمِيعَ حَمَامِ مَكَّةَ مِنْ نَسْلِ تَيْنِكَ الْحَمَامَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَائِفَ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ

وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا اقْتَفَيَا الْأَثَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] يَقُولُ تَعَالَى مُؤَنِّبًا لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا تَنْصُرُوهُ أَنْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ، وَمُؤَيِّدُهُ، وَمُظْفِرُهُ، كَمَا نَصَرَهُ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَارِبًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ، وَصَدِيقِهِ أَبِي بَكْرٍ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ; وَلِهَذَا قَالَ:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] أَيْ: وَقَدْ لَجَأَ

ص: 454

إِلَى الْغَارِ، فَأَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَسْكُنَ الطَّلَبُ عَنْهُمَا; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَقَدُوهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ، ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَجَعَلُوا لِمَنْ رَدَّهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَاقْتَصُّوا آثَارَهُمَا حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الَّذِي يَقْتَصُّ الْأَثَرَ لِقُرَيْشٍ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ الَّذِي هُمَا فِيهِ، وَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ الْغَارِ، فَتُحَاذِي أَرْجُلُهُمْ لِبَابِ الْغَارِ وَلَا يَرَوْنَهُمَا; حِفْظًا مِنَ اللَّهِ لَهُمَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ، أَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا.» وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ جَاءُونَا مِنْ هَاهُنَا لَذَهَبْنَا مِنْ هُنَا ". فَنَظَرَ الصِّدِّيقُ إِلَى الْغَارِ قَدِ انْفَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِذَا الْبَحْرُ قَدِ اتَّصَلَ بِهِ، وَسَفِينَةٌ مَشْدُودَةٌ إِلَى جَانِبِهِ.» وَهَذَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ، وَلَسْنَا نُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا، وَلَكِنْ مَا صَحَّ أَوْ حَسُنَ سَنَدُهُ قُلْنَا بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، ثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، ثَنَا مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ:

ص: 455

لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنْ حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي رَأَيْتَنِي اخْتَبَأْتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْ فِيهِ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ فِيهِ رِزْقُكَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً.» ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يَرْوِيهِ غَيْرُ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ.

قُلْتُ: وَمُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ هَذَا ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ، كَذَّبَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي دُخُولِهِمَا الْغَارَ، وَسَيْرِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ سُرَاقَةَ، كَمَا سَيَأْتِي، شِعْرًا فَمِنْهُ قَوْلُهُ:

قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ أَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي

وَنَحْنُ فِي سُدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ

لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا

وَقَدْ تَوَكَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَذَكَرَهَا مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَذَكَرَ مَعَهَا قَصِيدَةً أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْحَجِّ - يَعْنِي الَّذِي بَايَعَ فِيهِ الْأَنْصَارَ - بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرًا، ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ يَحْبِسُوهُ، أَوْ يُخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الْآيَةَ. فَأَمَرَ عَلَيًّا فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ،

ص: 456

وَذَهَبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَهُمَا، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ "، وَأَنَّ خُرُوجَهُ هُوَ وَأَبِي بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ كَانَ لَيْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ - التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ أَيْضًا.

وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: «لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ. فَذَكَرَتْ مَا كَانَ مِنْ رَدِّهِ لِأَبِي بَكْرٍ إِلَى مَكَّةَ وَجِوَارِهِ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ. قَالَتْ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ:" إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ ". وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ قِبَلَ

ص: 457

الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" عَلَى رِسْلِكَ; فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: " نَعَمْ ".» فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ - وَهُوَ الْخَبَطُ - أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَفَهُمَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ. فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:" فَإِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةَ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" نَعَمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" بِالثَّمَنِ ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا

ص: 458

أَحَثَّ الْجَهَازِ، فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيَدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، لَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ يَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعَشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ - وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا - حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا - وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ

ص: 459

رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ»

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ - أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، «أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ. فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلَجٍ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرَتْ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذَتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَخَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدَيَّ إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ فَرَكِبْتُ فَرَسِي - وَعَصَيْتُ

ص: 460

الْأَزْلَامَ - تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا غُبَارٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَّانِ، فَاسْتَقْسَمَتُ الْأَزْلَامَ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ. وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ:" أَخْفِ عَنَّا ". فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مَنْ أَدَمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.»

وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ سُرَاقَةَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي يَكْرَهُ; لَا يَضُرُّهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ وَيَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ; لَا يَضُرُّهُ، حَتَّى نَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا

ص: 461

يَكُونُ أَمَارَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ أَوْ رُقْعَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ:" يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ " فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ.

وَلَمَّا رَجَعَ سُرَاقَةُ جَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا مِنَ الطَّلَبِ إِلَّا رَدَّهُ، وَقَالَ: كُفِيتُمْ هَذَا الْوَجْهَ. فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، جَعَلَ سُرَاقَةُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَا رَأَى، وَمَا شَاهَدَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا كَانَ مِنْ قَضِيَّةِ جَوَادِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا عَنْهُ فَخَافَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مَعَرَّتَهُ، وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ سُرَاقَةُ أَمِيرَ بَنِي مُدْلَجٍ وَرَئِيسَهُمْ، فَكَتَبَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ:

بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ

سُرَاقَةَ مُسْتَغْوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ

عَلَيْكُمْ بِهِ أَلَّا يُفَرِّقَ جَمْعَكُمْ

فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عِزٍّ وَسُؤْدُدِ

قَالَ: فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ أَبَا جَهْلٍ فِي قَوْلِهِ هَذَا:

أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا

لِأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ

ص: 462

عَجِبْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا

رَسُولٌ وَبُرْهَانٌ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ

عَلَيْكَ بِكَفِّ الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي

إِخَالُ لَنَا يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ

بِأَمْرٍ تَوَدُّ النَّصْرَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ

وَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا مُسَالِمُهْ

وَذَكَرَ هَذَا الشِّعْرَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ

وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَادَ فِي شِعْرِ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَبْيَاتًا تَتَضَمَّنُ كُفْرًا بَلِيغًا.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ

ص: 463

قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ، حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ:" هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ". ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ; لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:

" هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ

هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ "

ص: 464

وَيَقُولُ

" اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَةِ

فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ "

فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ دُونَ مُسْلِمٍ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَلْنَذْكُرْ هُنَا مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مُرَتَّبًا أَوَّلًا فَأَوَّلًا:

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو سَعِيدٍ الْعَنْقَزِيُّ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: «اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ سَرْجًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى مَنْزِلِي. فَقَالَ: لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتَ مَعَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَرَجْنَا فَأَدْلَجْنَا فَأَحْثَثْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا، وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَضَرَبْتُ بَصَرِي هَلْ أَرَى ظِلًّا نَأْوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ، فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا بَقِيَّةُ ظِلِّهَا، فَسَوَّيْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَرَشْتُ لَهُ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ خَرَجْتُ أَنْظُرُ هَلْ أَرَى أَحَدًا

ص: 465

مِنَ الطَّلَبِ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْهَا، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ كَفَّيْهِ مِنَ الْغُبَارِ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنَ اللَّبَنِ فَصَبَبْتُ - يَعْنِي الْمَاءَ - عَلَى الْقَدَحِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَافَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ آنَ الرَّحِيلُ؟ فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. قَالَ:" {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ". حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ - أَوْ قَالَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. وَبَكَيْتُ، قَالَ:" لِمَ تَبْكِي؟ ". قَالَ: قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ. فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ ". فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ، وَوَثَبَ عَنْهَا، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا حَاجَةَ لِي

ص: 466

فِيهَا ". قَالَ: وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُطْلِقَ وَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَخَرَجُوا فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْأَجَاجِيرِ، وَاشْتَدَّ الْخَدَمَ وَالصِّبْيَانَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ، جَاءَ مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَتَنَازَعَ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنْزِلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ; لِأُكْرِمَهُمْ بِذَلِكَ ". فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا حَيْثُ أُمِرَ. قَالَ الْبَرَاءُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَحَدُ بَنِي فِهْرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، فَقُلْنَا: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: هُوَ عَلَى أَثَرِي. ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ. قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَمْ يَقْدَمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَرَأَتُ سُوَرًا مِنَ الْمُفَصَّلِ» أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِدُونِ قَوْلِ الْبَرَاءِ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا. . . إِلَخْ. فَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ،

ص: 467

وَسَكَنَ عَنْهُمَا النَّاسُ، أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا، فَلَمَّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ، فَحَلَّتْ نِطَاقَهَا فَجَعَلَتْهُ عِصَامًا ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِهِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ لِذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي ". قَالَ: فَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتَهَا بِهِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: " أَخَذْتُهَا بِذَلِكَ ". قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ الْقَصْوَاءَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَهِيَ الْجَدْعَاءُ. وَهَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا الْجَدْعَاءُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 468

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خَلْفَهُ، لِيَخْدِمَهُمَا فِي الطَّرِيقِ، فَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ فَذَكَرَ ضَرْبَهُ لَهَا عَلَى خَدِّهَا لَطْمَةً، طَرَحَ مِنْهَا قُرْطَهَا مِنْ أُذُنِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَتْ: فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ مَا نَدْرِي أَيْنَ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،، حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ، وَإِنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ:

جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ

رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ

هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا

فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ

لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ

وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ

قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا أَرْبَعَةً، رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ. كَذَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْمَشْهُورُ

ص: 469

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ الدُّؤَلِيُّ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكَّةَ ثُمَّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرَّارَ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا لَقْفًا، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مُدْلَجَةَ لَقْفٍ ثُمَّ اسْتَبْطَنَ بِهِمَا مُدْلَجَةَ مِجَاجٍ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِجَاجٍ، ثُمَّ تَبَطَّنَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضَوَيْنِ، ثُمَّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجُدَاجِدِ، ثُمَّ عَلَى الْأَجْرَدِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا سَلَمٍ مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلَجَةِ تِعْهِنَ، ثُمَّ عَلَى الْعَبَابِيدِ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا الْقَاحَةَ، ثُمَّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّدَاءِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا مِنَ الْعَرْجِ،

ص: 470

فَسَلَكَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْعَائِرِ عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ - وَيُقَالُ: ثَنِيَّةُ الْغَائِرِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِيمٍ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ، وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ نَحْوًا مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَخَالَفَهُ فِي بَعْضِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، هُوَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنِي أَخِي مُوسَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَيَّارٍ، حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَرُّوا بِإِبِلٍ لَنَا بِالْجُحْفَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لِمَنْ هَذِهِ الْإِبِلُ؟ ". فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ. فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:" سَلِمْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَقَالَ: " مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ: مَسْعُودٌ.

ص: 471

فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:" سَعِدْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". قَالَ: فَأَتَاهُ أَبِي فَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّدَاءِ»

قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ بَيْنَ خُرُوجِهِ عليه السلام، مِنْ مَكَّةَ وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا; لِأَنَّهُ أَقَامَ بِغَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ، وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ وَاجْتَازَ فِي مُرُورِهِ عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ بِنْتِ كَعْبٍ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ خُزَاعَةَ، قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ. وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: اسْمُهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: هِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ تَبِيعٍ حَلِيفِ بَنِي مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضَبِيسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، وَلِهَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْوَلَدِ، مَعْبَدٌ، وَنَضْرَةٌ، وَحُنَيْدَةُ، بَنُو أَبِي مَعْبَدٍ، وَاسْمُهُ أَكْثَمُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضَبِيسٍ، وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرْقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَهَذِهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ: قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَنَزَلَ

ص: 472

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَاسْمُهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ، فَأَرَادُوا الْقِرَى، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ وَلَا لَنَا مِنْحَةٌ، وَلَا لَنَا شَاةٌ إِلَّا حَائِلٌ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ غَنَمِهَا، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا بِيَدِهِ، وَدَعَا اللَّهَ وَحَلَبَ فِي الْعُسِّ حَتَّى أَرْغَى، وَقَالَ:" اشْرَبِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ". فَقَالَتْ: اشْرَبْ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ. فَرَدَّهُ عَلَيْهَا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِهَا، فَشَرِبَهُ ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى، فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى دَلِيلَهُ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى عَامِرًا، ثُمَّ تَرَّوَحَ وَطَلَبَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغُوا أُمَّ مَعْبَدٍ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتِ مُحَمَّدًا؟ مِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا وَكَذَا فَوَصَفُوهُ لَهَا، فَقَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ قَدْ ضَافِنِي حَالِبُ الْحَائِلِ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَذَاكَ الَّذِي نُرِيدُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرَيْنِ فَدَخَلَا الْغَارَ، إِذَا فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَهُ أَبُو بَكْرٍ عَقِبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ; مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ

ص: 473

خَرَجَا حَتَّى نَزَلَا بِخَيْمَاتِ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ مَعْبَدٍ: إِنِّي أَرَى وُجُوهًا حِسَانًا، وَإِنَّ الْحَيَّ أَقْوَى عَلَى كَرَامَتِكُمْ مِنِّي. فَلَمَّا أَمْسَوْا عِنْدَهَا بَعَثَتْ مَعَ ابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ بِشَفْرَةٍ وَشَاةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" ارْدُدِ الشَّفْرَةَ وَهَاتِ لِي فَرَقًا ". - يَعْنِي الْقَدَحَ - فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ لَا لَبَنَ فِيهَا وَلَا وَلَدَ. قَالَ: " هَاتِ لِي فَرَقًا، فَجَاءَتْ بِفَرَقٍ فَضَرَبَ ظَهْرَهَا فَاجْتَرَّتْ وَدَرَّتْ، فَحَلَبَ فَمَلَأَ الْقَدَحَ، فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أُمِّ مَعْبَدٍ» ، ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ عَنْهُ إِلَّا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي النَّسَبِ.

وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ فَانْتَهَيْنَا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتٍ مُنْتَحِيًا، فَقَصَدَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنَا امْرَأَةٌ وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ فَعَلَيْكُمَا بِعَظِيمِ الْحَيِّ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقِرَى. قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهَا بِأَعْنُزٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْعَنْزِ وَالشَّفْرَةِ إِلَى هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَقُلْ لَهُمَا: تَقُولُ لَكُمَا أُمِّي:

ص: 474

اذْبَحَا هَذِهِ وَكُلَا وَأَطْعِمَانَا. فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" انْطَلِقْ بِالشَّفْرَةِ وَجِئْنِي بِالْقَدَحِ ". قَالَ: إِنَّهَا قَدْ عَزَبَتْ وَلَيْسَ بِهَا لَبَنٌ. قَالَ: " انْطَلَقْ ". فَجَاءَ بِقَدَحٍ فَمَسَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَرْعَهَا ثُمَّ حَلَبَ حَتَّى مَلَأَ الْقَدَحَ، ثُمَّ قَالَ:" انْطَلَقَ بِهِ إِلَى أُمِّكَ ". فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ:" انْطَلِقْ بِهَذِهِ وَجِئْنِي بِأُخْرَى ". فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ سَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ بِأُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبِتْنَا لَيْلَتَنَا ثُمَّ انْطَلَقْنَا، فَكَانَتْ تُسَمِّيهِ الْمُبَارَكَ، وَكَثُرَتْ غَنَمُهَا حَتَّى جَلَبَتْ جَلْبًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَرَآهُ ابْنُهَا فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ، هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُبَارَكِ. فَقَامَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ؟ قَالَ: أَوْ مَا تَدْرِينَ مَنْ هُوَ! قَالَتْ: لَا. قَالَ: هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ. قَالَتْ: فَأَدْخِلْنِي عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْخَلَهَا فَأَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَاهَا - زَادَ ابْنُ عَبْدَانِ فِي رِوَايَتِهِ - قَالَتْ: فَدُلَّنِي عَلَيْهِ فَانْطَلَقَتْ مَعِي، وَأَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَمَتَاعِ الْأَعْرَابِ. قَالَ: فَكَسَاهَا وَأَعْطَاهَا. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: وَأَسْلَمَتْ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ

ص: 475

الْقَاضِي، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيُّ، ثَنَا الْحُرُّ بْنُ الصَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةَ هَاجَرَ مِنْ» مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ، فَمَرُّوا بِخَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ امْرَأَةً بَرْزَةً جَلْدَةً، تَحْتَبِي وَتَجْلِسُ بِفَنَاءِ الْخَيْمَةِ، فَتُطْعِمُ وَتَسْقِي فَسَأَلُوهَا هَلْ عِنْدَهَا لَحْمٌ أَوْ لَبَنٌ يَشْتَرُونَهُ مِنْهَا؟ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَتْ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَا أَعْوَزَكُمُ الْقِرَى. وَإِذَا الْقَوْمُ مُرْمِلُونَ مُسْنِتُونَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا شَاةٌ فِي كَسْرِ خَيْمَتِهَا، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ فَقَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. قَالَ: " فَهَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟ " قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: " تَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا ". قَالَتْ: إِنْ كَانَ بِهَا حَلْبٌ فَاحْلُبْهَا. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشَّاةِ فَمَسَحَهَا، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ

ص: 476

وَمَسَحَ ضَرْعَهَا، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا يُرْبِضُ الرَّهْطَ، فَتَفَاجَّتْ وَاجْتَرَّتْ، فَحَلَبَ فِيهَا ثَجًّا، حَتَّى عَلَاهُ الْبَهَاءُ، فَسَقَاهَا وَسَقَى أَصْحَابَهُ، فَشَرِبُوا عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ، حَتَّى إِذَا رَوُوْا شَرِبَ آخِرَهُمْ، وَقَالَ:" سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ ". ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، فَغَادَرَهُ عِنْدَهَا، ثُمَّ ارْتَحَلُوا، قَالَ: فَقَلَّ مَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعَنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ، هَزْلَى لَا نِقْيَ بِهِنَّ، مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ، فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ عَجِبَ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، وَلَا حَلُوبَةَ فِي الْبَيْتِ وَالشَّاةُ عَازِبٌ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، إِنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ صِفِيهِ لِي، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ صَاحِبَ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ. فَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ، حَسَنَ الْخُلُقِ، مَلِيحَ الْوَجْهِ، لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ، وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ، قَسِيمٌ وَسِيمٌ، فِي عَيْنَيْهِ

ص: 477

دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ، وَفِي صَوْتِهِ صَحَلٌ، أَحْوَرُ، أَكْحَلُ، أَزَجُّ، أَقْرَنُ، فِي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَافَةٌ، إِذَا صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِذَا تَكَلَّمَ سَمَا وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ، فَصْلٌ; لَا نَزْرٌ وَلَا هَذَرٌ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنْحَدِرْنَ، أَبْهَى النَّاسِ وَأَجْمَلُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ، رَبْعَةٌ، لَا تَشْنَؤُهُ عَيْنٌ مِنْ طُولٍ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مَنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدًّا، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ، إِنْ قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا لِأَمْرِهِ، مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ، لَا

ص: 478

عَابِسٌ وَلَا مُفَنَّدٌ. فَقَالَ - يَعْنِي بَعْلَهَا -: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ، وَلَوْ صَادَفْتُهُ لَالْتَمَسْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلَأَجْهَدَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا قَالَ: وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَقُولُ، وَهُوَ يَقُولُ:

جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ

رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ

هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ وَارْتَحَلَا بِهِ

فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ

فَيَالَ قُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ

بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا تُجَارَى وَسُؤْدُدِ

سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا

فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ

دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ

لَهُ بِصَرِيحٍ ضَرَّةُ الشَّاةِ مُزْبِدِ

فَغَادَرَهُ رَهْنًا لَدَيْهَا لِحَالِبٍ

يَدُرُّ لَهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ

قَالَ: وَأَصْبَحَ النَّاسُ - يَعْنِي بِمَكَّةَ - وَقَدْ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ، فَأَخَذُوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ، حَتَّى لَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ

وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي

ص: 479

تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَزَالَتْ عُقُولُهُمْ

وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ

وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا

عَمًى وَهُدَاةٌ يَهْتَدُونَ بِمُهْتَدِ

نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ

وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ

وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ

فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ

لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جَدِّهِ

بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ

وَيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ

وَمَقْعَدُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَرْصَدِ

قَالَ - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ وَهْبٍ -: فَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيِّ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ مَعْبَدٍ هَاجَرَتْ وَأَسْلَمَتْ وَلَحِقَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُكَرَّمِ بْنِ مُحْرِزٍ الْكَعْبِيِّ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مُحْرِزِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حِزَامِ بْنِ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ،

ص: 480

عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَدَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ، فَمَرُّوا بِخَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَرْزَةً جَلْدَةً تَحْتَبِي بِفِنَاءِ الْقُبَّةِ. وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءً. قَالَ: وَحَدَّثْنَاهُ فِيمَا أَظُنُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى يَعْنِي الْكُدَيْمِيَّ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَوْلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَلِيطٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ سَلِيطٍ الْبَدْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَابْنُ أُرَيْقِطٍ، يَدُلُّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، مَرَّ بِأُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ، فَقَالَ لَهَا:" يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، هَلْ عِنْدَكِ مِنْ لَبَنٍ؟ " قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِنَّ الْغَنَمَ لَعَازِبَةٌ. قَالَ: " فَمَا هَذِهِ الشَّاةُ؟ " قَالَتْ: خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.

ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ كُلَّهَا وَاحِدَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً شَبِيهَةً بِقِصَّةِ شَاةِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، ثَنَا إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ،

ص: 481

قَالَ: «لَمَّا انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مُسْتَخْفِينَ مَرُّوا بِعَبْدٍ يَرْعَى غَنَمًا، فَاسْتَسْقَيَاهُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَاةٌ تُحْلَبُ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا عَنَاقًا حَمَلَتْ أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وَقَدْ أَخْدَجَتْ، وَمَا بَقِيَ لَهَا لَبَنٌ. فَقَالَ: " ادْعُ بِهَا ". فَدَعَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ ضَرْعَهَا، وَدَعَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمِجَنٍّ، فَحَلَبَ فَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَسَقَى الرَّاعِيَ، ثُمَّ حَلَبَ فَشَرِبَ، فَقَالَ الرَّاعِي: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ. قَالَ: أَوَ تُرَاكَ تَكْتُمُ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: " فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ". فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ صَابِئٌ؟ قَالَ: " إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ ذَلِكَ ". قَالَ: فَأَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ إِلَّا نَبِيٌّ، وَأَنَا مُتَّبِعُكَ. قَالَ: " إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنَا ".» وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ حُمَيْدٍ الْكُوفِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ بِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هَاهُنَا قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا

ص: 482

لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:" يَا غُلَامُ، عِنْدَكَ لَبَنٌ تَسْقِينَا؟ " فَقُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا. فَقَالَا: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: " نَعَمْ ". فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الضَّرْعَ، فَدَعَا فَحَفَلَ الضَّرْعُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُنْقَعِرَةٍ فَحَلَبَ فِيهَا، ثُمَّ شَرِبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَسَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ:" اقْلِصْ ". فَقَلَصَ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ - يَعْنِي الْقُرْآنَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ ". فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ» . فَقَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ: وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَقِصَّتُهُ هَذِهِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ فِي " الصِّحَاحِ " وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ الزَّبِيرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ فَائِدٍ مَوْلَى عَبَادِلَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ أَتَى ابْنُ سَعْدٍ، وَسَعْدٌ هُوَ الَّذِي دَلَّ

ص: 483

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ رَكُوبَةَ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَخْبِرْنِي مَا حَدَّثَكَ أَبُوكَ؟ . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُمْ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ عِنْدَنَا بِنْتٌ مُسْتَرْضَعَةٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الِاخْتِصَارَ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: هَذَا الْغَائِرُ مِنْ رَكُوبَةَ وَبِهِ لِصَّانِ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُمَا: الْمُهَانَانِ. فَإِنْ شِئْتَ أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " خُذْ بِنَا عَلَيْهِمَا ". قَالَ سَعْدٌ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا، إِذَا أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: هَذَا الْيَمَانِيُّ. فَدَعَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَا ثُمَّ سَأَلَهُمَا عَنْ أَسْمَائِهِمَا، فَقَالَا: نَحْنُ الْمُهَانَانِ. فَقَالَ: " بَلْ أَنْتُمَا الْمُكْرَمَانِ ". وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقْدَمَا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ظَاهِرَ قُبَاءَ، فَتَلَقَّاهُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَيْنَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ: إِنَّهُ أَصَابَ قِبْلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُهُ ذَلِكَ؟ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا طَلَعَ عَلَى النَّخْلِ، فَإِذَا الشَّرْبُ مَمْلُوءٌ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:" يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا الْمَنْزِلُ رَأَيْتُنِي أَنْزِلُ إِلَى حِيَاضٍ كَحِيَاضِ بَنِي مُدْلِجٍ ". انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ.

ص: 484