الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) وهو حسن أيضاً لقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً)[الفرقان: 26] فَالْحُكْمُ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ لِلَّهِ الْحَقِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رفع الحق جعله صفة للولاية وَهُمَا مُتَلَازِمَتَانِ وَقَوْلُهُ: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْبًا)[الكهف: 44] أَيْ مُعَامَلَتُهُ خَيْرٌ لِصَاحِبِهَا ثَوَابًا وَهُوَ الْجَزَاءُ وَخَيْرٌ عُقْباً وَهُوَ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ إنَّه لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَنَ إِلَى الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغْتَرَّ بِهَا وَلَا يَثِقَ بِهَا بَلْ يَجْعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ نُصْبَ عَيْنَيْهِ.
وَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ الله أوثق منه بما في يديه.
وَفِيهَا أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى طَاعَةِ الله والإنفاق في سبيله عذاب بِهِ، وَرُبَّمَا سُلِبَ مِنْهُ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ.
وَفِيهَا أَنَّ الْوَاجِبَ قَبُولُ نَصِيحَةِ الْأَخِ الْمُشْفِقِ وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ وَبَالٌ وَدَمَارٌ عَلَى مَنْ رَدَّ النَّصِيحَةَ الصَّحِيحَةَ.
وَفِيهَا أَنَّ النَّدَامَةَ لَا تَنْفَعُ إِذَا حَانَ الْقَدَرُ وَنَفَذَ الْأَمْرُ الْحَتْمُ بالله الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ.
وَلَا يَسْتَثْنُونَ.
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ.
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ.
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ.
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ.
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ.
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ.
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ.
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ.
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ.
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ.
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لو كانوا يعلمون) [القلم: 17 - 33] .
وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم فقابلوه بالتكذيب والمخالفة كما قال تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ.
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار) [إِبْرَاهِيمَ 28 - 29] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَضَرَبَ تَعَالَى لَهُمْ مَثَلًا بِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي قَدِ انْتَهَتْ وَاسْتَحَقَّتْ أَنْ تُجَدَّ وَهُوَ الصِّرَامُ (1) وَلِهَذَا قَالَ: (إِذْ أَقْسَمُوا) فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّهَا) أَيْ لَيَجُدُّنَّهَا وَهُوَ الِاسْتِغْلَالُ (مُصْبِحِينَ) أَيْ وَقْتَ الصُّبْحِ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ فَقِيرٌ وَلَا مُحْتَاجٌ فيعطوه شيئاً فخلفوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا فِي يَمِينِهِمْ، فَعَجَّزَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا الْآفَةَ الَّتِي أَحْرَقَتْهَا وَهِيَ السَّفْعَةُ (2) الَّتِي اجْتَاحَتْهَا وَلَمْ تُبْقِ بِهَا شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ.
فَأَصْبَحَتْ
(1) الصرام: يقال قد صرم العذق عن النخلة، وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه، أي قطعه وقطاف ثمره.
(2)
السفعة: العين ; المراد بها هنا عذاب، وقيل إن الطائف هو جبريل فاقتلعها فأصبحت الجنة كالصريم ; وقال الكلبي: أنَّ الله أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون.
[*]
كَالصَّرِيمِ) أَيْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ الْمُنْصَرِمِ مِنَ الضِّيَاءِ وَهَذِهِ معاملة بنقيض المقصود (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ) أَيْ فَاسْتَيْقَظُوا مِنْ نَوْمِهِمْ فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ: (اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) أَيْ بَاكِرُوا إِلَى بُسْتَانِكُمْ فَاصْرِمُوهُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَفِعَ النَّهَارُ وَيَكْثُرَ السُّؤَالُ (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) أَيْ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً قَائِلِينَ: (لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أَيْ اتَّفِقُوا عَلَى هَذَا وَاشْتَوِرُوا عَلَيْهِ (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِيْن) أَيْ انْطَلَقُوا مُجِدِّينَ فِي ذَلِكَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ، مضمرين عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ) أَيْ غَضَبٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَأَبْعَدَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ أَنَّ اسْمَ حَرْثِهِمْ حَرْدٌ (فَلَمَّا رَأَوْهَا) أَيْ وَصَلُوا إِلَيْهَا، وَنَظَرُوا مَا حَلَّ بِهَا، وَمَا قَدْ صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ، وَالْحُسْنِ وَالْبَهْجَةِ فَانْقَلَبَتْ بِسَبَبِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي قد نهينا عَنْهَا، وَسَلَكْنَا غَيْرَ طَرِيقِهَا ثُمَّ
قَالُوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي بل عوقبنا بسب سُوءِ قَصْدِنَا وَحُرِمْنَا بَرَكَةَ (1) حَرْثِنَا (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ هُوَ أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) قيل يستثنون، قاله مجاهد والسدي وابن جرير وَقِيلَ تَقُولُونَ خَيْرًا بَدَلَ مَا قُلْتُمْ مِنَ الشَّرِّ (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) .
فَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، وَاعْتَرَفُوا بِالذَّنْبِ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَنْجَعُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا إِخْوَةً وَقَدْ وَرِثُوا هذه الجنة من أَبِيهِمْ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْهَا كَثِيرًا، فَلَمَّا صَارَ أَمْرُهَا إِلَيْهِمُ اسْتَهْجَنُوا أَمْرَ أَبِيهِمْ، وَأَرَادُوا اسْتِغْلَالَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطُوا الْفُقَرَاءَ شَيْئًا، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ مِنَ الثِّمَارِ، وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْجَدَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)[الأنعام: 141] ثُمَّ قِيلَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا ضِرْوَانُ (2) .
وَقِيلَ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) أَيْ هَكَذَا نُعَذِّبُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَنَا وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ مِنْ خَلْقِنَا (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أعظم وأحكم من عذاب الدنيا (لَوْ كَانُوا يعلمون)[القلم: 33] .
وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى: (ضَرَبَ (3) اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كل مكان
(1) روى ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيئ له - ثم تلا - (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ من ربك) الآيتين.
(2)
ضروان من أرض اليمن على فرسخ من صنعاء.
(3)
سورة النحل الآية 112 ونصها: (وضرب الله..) قالوا فيها: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لاهل مكة لما خرجوا إلى بدر حلفوا على أن يقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا.
وقيل هو وعظ لاهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ; (انظر تفسير القرطبي - تفسير الرازي) .
[*]