الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقهاء بغداد فأنكروا ذلك وكفروا من أعتقده، فكتبه. فقال الوزير: إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ عَطَاءٍ يَقُولُ بِهَذَا. فقالوا: من قال بهذا فهو كافر. ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس فسأله عن قول الحلاج فقال: من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد. فقال الوزير لابن عطاء: ويحك تصوب مثل هذا القول وهذا الاعتقاد؟ فقال ابن عطاء: مالك وَلِهَذَا، عَلَيْكَ بِمَا نُصِّبْتَ لَهُ مَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ فَمَا لَكَ وَلِكَلَامِ هؤلاء السادة من الأولياء. فأمر الوزير عند ذلك بِضَرْبِ شِدْقَيْهِ وَنَزْعِ خُفَّيْهِ وَأَنْ يُضْرَبَ بِهِمَا على رأسه، فما زال يفعل به ذلك حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ. فقالوا له: إن العامة تستوحش من هذا ولا يعجبها. فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ:
اللَّهمّ اقتله وَاقْطَعْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. ثُمَّ مَاتَ ابْنُ عَطَاءٍ بعد سبعة أيام، ثم بعد مدة قتل الوزير شَرَّ قِتْلَةٍ، وَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأَحْرِقَتْ دَارُهُ. [وكان العوام يرون ذلك بدعوة ابن عطاء على عادتهم في مرائيهم فيمن أوذى ممن لهم معه هوى. بل قد قال ذلك جماعة ممن ينسب إلى العلم فيمن يؤذى ابن عربي أو يحط على حسين الحلاج أو غيره. هذا بخطيئة فلان][1] وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ بَغْدَادَ عَلَى كُفْرِ الْحَلَّاجِ وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ حِينَ أُحْضِرَ الْحَلَّاجُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَبْلَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا وَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حَقًّا وَمَا جَاءَ بِهِ حَقًّا فَمَا يَقُولُهُ الْحَلَّاجُ بَاطِلٌ. وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ: قَدْ رَأَيْتُ الْحَلَّاجَ وَخَاطَبْتُهُ فَرَأَيْتُهُ جَاهِلًا يَتَعَاقَلُ، وَغَبِيًّا يتبالغ، وخبيثا مدعيا، وراغبا يتزهد، وَفَاجِرًا يَتَعَبَّدُ. وَلَمَّا صُلِبَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ جِيءَ بِهِ لِيُصْلَبَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ يَقُولُ: مَا أَنَا بِالْحَلَّاجِ، وَلَكِنْ أُلْقِيَ عَلَيَّ شبهه وغاب عنكم فَلَمَّا أُدْنِيَ إِلَى الْخَشَبَةِ لِيُصْلَبَ عَلَيْهَا سَمِعْتُهُ وهو مصلوب يقول: يا معين الفنا على أعنى على الفنا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مَصْلُوبٌ يَقُولُ: إِلَهِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ، أَنْظُرُ إِلَى الْعَجَائِبِ، إِلَهِي إِنَّكَ تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤْذِيكَ فَكَيْفَ بمن يؤذى فيك.
ذِكْرُ صِفَةِ مَقْتَلِ الْحَلَّاجِ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْحَلَّاجُ قَدْ قَدِمَ آخِرَ قَدْمَةٍ إِلَى بَغْدَادَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ الْوَزِيرَ إِذْ ذَاكَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحَلَّاجَ قَدْ أَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الْحَشَمِ وَالْحُجَّابِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَمِنْ غِلْمَانِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا ادَّعَاهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّ الْجِنَّ يَخْدِمُونَهُ ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه. وقال: إنه أَحْيَا عِدَّةً مِنَ الطَّيْرِ.
وَذُكِرَ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُنَّائِيُّ الْكَاتِبُ يَعْبُدُ الْحَلَّاجَ وَيَدْعُو النَّاسَ إلى
[1] سقط من المصرية.
طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ، وَوَجَدَ فِي منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بِمَاءِ الذَّهَبِ فِي وَرَقِ الْحَرِيرِ مُجَلَّدَةً بِأَفْخَرِ الْجُلُودِ. وَوَجَدَ عِنْدَهُ سَفَطًا فِيهِ مِنْ رَجِيعِ الحلاج وعذرته وَبَوْلِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ آثَارِهِ، وَبَقِيَّةِ خُبْزٍ مِنْ زَادِهِ. فَطَلَبَ الْوَزِيرُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْحَلَّاجِ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ فَتَهَدَّدَهُمْ فَاعْتَرَفُوا لَهُ أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيى الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فَجَحَدَ ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمْ وَقَالَ: أَعُوذُ باللَّه أَنْ أَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَالتَّوْحِيدِ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:
سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي رِجْلَيْهِ ثلاثة عشر قيدا، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَكَانَ قَبْلَ احْتِيَاطِ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ نَصْرٍ الْقُشُورَيِّ الْحَاجِبِ، مَأْذُونًا لِمَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ تَارَةً بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَتَارَةً مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، وَكَانَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ هَذَا قَدِ افْتُتِنَ بِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى المقتدر باللَّه فرقاه من وجع حصل له فاتفق زواله عنه، وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها، فَنَفَقَ سُوقُهُ وَحَظِيَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ. فَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهِ سُلِّمَ إِلَى الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَحَبَسَهُ فِي قُيُودٍ كَثِيرَةٍ فِي رِجْلَيْهِ، وَجَمَعَ لَهُ الْفُقَهَاءَ فَأَجْمَعُوا عَلَى كُفْرِهِ وَزَنْدَقَتِهِ، وَأَنَّهُ سَاحِرٌ مُمَخْرِقٌ. وَرَجَعَ عَنْهُ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِمَّنْ كَانَ اتَّبَعَهُ أَحَدُهُمَا أَبُو عَلِيٍّ هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له الدباس، فذكروا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَالْمَخْرَقَةِ وَالسِّحْرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أُحْضِرَتْ زَوْجَةُ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَتْ عَنْهُ فَضَائِحَ كَثِيرَةً. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْشَاهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَانْتَبَهَتْ فَقَالَ: قُومِي إِلَى الصلاة، وإنما كان يريد أن يطأها. وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد بِشَرٌ لِبَشَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فَوَجَدَتْ تَحْتَهَا دَنَانِيرَ كَثِيرَةً مَبْدُورَةً. وَلَمَّا كَانَ معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَمَعَهُ طَبَقُ فِيهِ طَعَامٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ مَلَأَ الْبَيْتَ مِنْ سَقْفِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَذُعِرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ وفزع فزعا شديدا، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّبَقِ وَالطَّعَامِ، وَرَجَعَ مَحْمُومًا فَمَرِضَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
ولما كان آخر مجلس من مجالسه أُحْضِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَجِيءَ بِالْحَلَّاجِ وَقَدْ أُحْضِرَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ دُورِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَبْنِ فِي دَارِهِ بَيْتًا لَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ
النَّجَاسَةِ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلْيَطُفْ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي دَارِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يَسْتَدْعِي بِثَلَاثِينَ يَتِيمًا فَيُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِهِ، وَيَتَوَلَّى خِدْمَتَهُمْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَكْسُوهُمْ قَمِيصًا قَمِيصًا، وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ- أَوْ قَالَ ثَلَاثَةَ، دَرَاهِمَ- فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَامَ لَهُ مَقَامَ الْحَجِّ. وَإِنَّ مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ عَلَى وَرَقَاتِ هِنْدَبَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ. وَمَنْ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَنَّ مَنْ جَاوَرَ بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ وبمقابر قُرَيْشٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَصُومُ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ الْجَرِيشِ أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ. فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: مِنْ كِتَابِ الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ يا حلال الدم، وقد سَمِعْنَا كِتَابَ الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ بِمَكَّةَ لَيْسَ فِيهِ شيء من هذا. فأقبل الوزير على القاضي فَقَالَ لَهُ: قَدْ قُلْتَ يَا حَلَالَ الدَّمِ فَاكْتُبْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَ لَهُ الدَّوَاةَ فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ، وَكَتَبَ مَنْ حَضَرَ خُطُوطَهُمْ فِيهَا وَأَنْفَذَهَا الْوَزِيرُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَجَعَلَ الْحَلَّاجُ يَقُولُ لَهُمْ: ظَهْرِي حِمًى وَدَمِي حَرَامٌ، وَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أن تتأولوا على ما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٍ وسعيد وعبد الرحمن ابن عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَلِي كُتُبٌ في السنة موجودة في الوارقين فاللَّه الله في دمي. فلا يلتفتون إليه ولا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ. وَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَرُدَّ الْحَلَّاجُ [إِلَى مَحْبِسِهِ وَتَأَخَّرَ جَوَابُ الْمُقْتَدِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى سَاءَ ظَنُّ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَمْرَ الْحَلَّاجِ][1] قَدِ اشْتَهَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ اثْنَانِ وَقَدِ افْتَتَنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ. فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى مُحَمَّدِ بن عبد الصمد صاحب الشرطة. وليضر به أَلْفَ سَوْطٍ، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا ضُرِبَتُ عُنُقُهُ. فَفَرِحَ الْوَزِيرُ بِذَلِكَ وَطَلَبَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ فَسَلَّمَهُ إليه وبعث معه طائفة من غلمانه يصلونه مَعَهُ إِلَى مَحَلِّ الشُّرْطَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَذَلِكَ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِ السِّيَاسَةِ. عَلَى مِثْلِ شَكْلِهِ، فَاسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِدَارِ الشُّرْطَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فذكر أنه بات يصلى تلك اللَّيْلَةِ وَيَدْعُو دُعَاءً كَثِيرًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يَقُولُ قَالَ أَبُو الْحَدِيدِ- يَعْنِي الْمِصْرِيَّ-: لَمَّا كَانَتِ الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلى مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ قَامَ قَائِمًا فَتَغَطَّى بِكِسَائِهِ وَمَدَّ يَدَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ جَائِزِ الحفظ، فكان مما حفظت منه قوله: نَحْنُ شَوَاهِدُكَ فَلَوْ دَلَّتْنَا عِزَّتُكَ لَتَبَدَّى مَا شئت من شأنك
[1] سقط من المصرية.
وَمَشِيئَتِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، تَتَجَلَّى لِمَا تَشَاءُ مِثْلَ تَجَلِّيكَ فِي مَشِيئَتِكَ كَأَحْسَنِ الصُّورَةِ، وَالصُّورَةُ فِيهَا الرُّوحُ الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثم إني أو عزت إِلَيَّ شَاهِدَكَ لِأَنِّي فِي ذَاتِكَ الْهُوِيُّ كَيْفَ أنت إذا مثلت بذاتى عند حلول لذاتي، وَدَعَوْتَ إِلَى ذَاتِي بِذَاتِي، وَأَبْدَيْتَ حَقَائِقَ عُلُومِي وَمُعْجِزَاتِي، صَاعِدًا فِي مَعَارِجِي إِلَى عُرُوشِ أَزَلِيَّاتِي عند التولي عن بِرِيَّاتِي، إِنِّي احْتُضِرْتُ وَقُتِلْتُ وَصُلِبْتُ وَأُحْرِقْتُ وَاحْتُمِلْتُ سافيات الذَّارِيَاتِ. وَلَجَجْتُ فِي الْجَارِيَاتِ، وَإِنَّ ذَرَّةً مِنْ يَنْجُوجٍ مَكَانَ هَالُوكِ مُتَجَلَّيَاتِي، لَأَعْظَمُ مِنَ الرَّاسِيَاتِ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْعَى إِلَيْكَ نُفُوسًا طَاحَ شاهدها
…
فيما ورا الحيث بل فِي شَاهِدِ الْقِدَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ قُلُوبًا طَالَمَا هَطَلَتْ
…
سَحَائِبُ الْوَحْيِ فِيهَا أَبْحُرُ الْحِكَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ لِسَانَ الْحَقِّ مِنْكَ وَمَنْ
…
أَوْدَى وَتَذْكَارُهُ في الوهم كالعدم
أنعى إليك بيانا يستكين لَهُ
…
أَقْوَالُ كُلِّ فَصِيحٍ مِقْوَلٍ فَهِمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ إِشَارَاتِ الْعُقُولِ مَعًا
…
لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلَّا دَارِسُ الْعِلْمِ
أَنْعَى وَحُبِّكَ أَخْلَاقًا لِطَائِفَةٍ
…
كَانَتْ مَطَايَاهُمْ مِنْ مَكْمَدِ الْكِظَمِ
مَضَى الْجَمِيعُ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ
…
مُضِيَّ عَادٍ وَفِقْدَانَ الأولى إِرَمِ
وَخَلَّفُوا مَعْشَرًا يَحْذُونَ لِبْسَتَهُمْ
…
أَعْمَى مِنَ الْبُهْمِ بَلْ أَعْمَى مِنَ النَّعَمِ
قَالُوا: وَلَمَّا أُخْرِجَ الْحَلَّاجُ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي بَاتَ فِيهِ لِيُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْقَتْلِ أَنْشَدَ:
طَلَبْتُ الْمُسْتَقَرَّ بِكُلِّ أَرْضٍ
…
فَلَمْ أَرَ لِي بِأَرْضٍ مُسْتَقَرَّا
وذقت من الزمان وذاق منى
…
وجدت مذاقه حلوا ومرا
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي
…
وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَعِشْتُ حُرَّا
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا حِينَ قَدِمَ إِلَى الجذع ليصلب، والمشهور الأول. فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَتَمَايَلُ:
نَدِيمِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ
…
إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيْفِ
سَقَانِي مِثْلَ مَا يَشْرَ
…
بُ فِعْلَ الضَّيْفِ بِالضَّيْفِ
فَلَمَّا دَارَتِ الْكَأْسُ
…
دَعَا بِالنِّطْعِ وَالسَّيْفِ
كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الرَّاحَ
…
مَعَ التِّنِّينِ فِي الصَّيْفِ
ثُمَّ قَالَ: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) 42: 18 ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ. قَالُوا: ثُمَّ قُدِّمَ فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَاكِتٌ مَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ مَعَ كُلِّ سَوْطٍ أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ سَمِعْتُ عِيسَى الْقَصَّارَ يَقُولُ: آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا الْحَلَّاجُ حِينَ قُتِلَ أَنْ قَالَ: حَسْبُ الْوَاحِدِ إِفْرَادُ الْوَاحِدِ لَهُ. فَمَا سَمِعَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَحَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ إِلَّا
رَقَّ لَهُ، وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ. وَقَالَ السلمي: سمعت أبا بكر المحاملي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْفَاتِكِ الْبَغْدَادِيَّ- وَكَانَ صَاحِبَ الْحَلَّاجِ- قَالَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ قَتْلِ الْحَلَّاجِ كَأَنِّي وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي عز وجل وَأَنَا أَقُولُ: يَا رَبِّ مَا فَعَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ؟ فَقَالَ: كَاشَفْتُهُ بِمَعْنًى فَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى نَفْسِهِ فَأَنْزَلْتُ بِهِ مَا رَأَيْتَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَزِعَ عند القتل جَزَعًا شَدِيدًا وَبَكَى بُكَاءً كَثِيرًا فاللَّه أَعْلَمُ.
وقال الخطيب: ثنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصير في قَالَ قَالَ لَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ: لما أخرج الحسين بن منصور الْحَلَّاجُ لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ، وَلَمْ أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فَقَالَ: لِأَصْحَابِهِ: لَا يَهُولَنَّكُمْ هَذَا الْأَمْرُ، فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. ثُمَّ قُتِلَ فما عاد. وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُضْرَبُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ وَالِي الشُّرْطَةِ: ادْعُ بِي إِلَيْكَ فَإِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً تَعْدِلُ فَتْحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ قِيلَ لِي إِنَّكَ سَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا، وَلَيْسَ إِلَى رَفْعِ الضَّرْبِ عَنْكَ سَبِيلٌ. ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَحُزَّ رَأْسُهُ وأحرقت جثته وألقى رمادها فِي دِجْلَةَ، وَنُصِبَ الرَّأْسُ يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ عَلَى الْجِسْرِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى خُرَاسَانَ وَطِيفَ بِهِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَعِدُونَ أَنْفُسَهُمْ برجوعه إليهم بعد ثلاثين يَوْمًا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الْحَلَّاجَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ فِي طَرِيقِ النَّهْرَوَانِ فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ هَؤُلَاءِ النفر الَّذِينَ ظَنُّوا أَنِّي أَنَا هُوَ الْمَضْرُوبُ الْمَقْتُولُ، إِنِّي لَسْتُ بِهِ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَى رَجُلٍ فَفُعِلَ بِهِ مَا رَأَيْتُمْ. وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّمَا قُتِلَ عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَلَّاجِ. فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال: إن كان هذا الرأى صادقا فقد تبدي له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به. كَمَا ضَلَّتْ فِرْقَةُ النَّصَارَى بِالْمَصْلُوبِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: واتفق له أَنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ فِي هَذَا الْعَامِ زِيَادَةً كثيرة. فقال: إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها. وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديما وحديثا. ونودي ببغداد أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع. وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي العقدة من سنة تسع وثلاثمائة ببغداد. وقد ذكره ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ وَحَكَى اخْتِلَافَ النَّاسِ فيه، ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الأنوار وتأول كلامه وحمله على ما يليق. ثم نقل ابن خلكان عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَذُمُّهُ وَيَقُولُ إِنَّهُ اتَّفَقَ هُوَ وَالْجَنَّابِيُّ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ عَلَى إِفْسَادِ عَقَائِدِ النَّاسِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَكَانَ الْجَنَّابِيُّ فِي هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَابْنُ الْمُقَفَّعِ بِبِلَادِ التُّرْكِ، وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ الْعِرَاقَ، فَحَكَمَ صَاحِبَاهُ عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ لِعَدَمِ انْخِدَاعِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَهَذَا لَا يَنْتَظِمُ فَإِنَّ ابْنَ المقفع كان قبل الحلاج بدهر فِي أَيَّامِ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وأربعين ومائتين أَوْ قَبْلَهَا.
وَلَعَلَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ أَرَادَ ابْنَ المقفع الخراساني الّذي ادعى الربوبية وأوتى العمر وَاسْمُهُ عَطَاءٌ، وَقَدْ قَتَلَ