الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَأَمَرَ بِتَخْرِيبِهِ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، ثم لازم الحصار فما زال حَتَّى فَتَحَ الْمَدِينَةَ الْغَرْبِيَّةَ وَخَرَّبَ قُصُورَ صَاحِبِ الزنج ودور أمرائه، وأخذ من أموالهم شيئا كثيرا مما لا يجد ولا يوصف كثرة، وأسر مِنْ نِسَاءِ الزَّنْجِ وَاسْتَنْقَذَ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وصبيانهم خلقا كثيرا، فأمر بردهم إلى أهاليهم مُكَرَّمِينَ وَقَدْ تَحَوَّلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ إِلَى الْجَانِبِ الشرقي وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصول السمريات إِلَيْهِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِتَخْرِيبِهَا وَقَطْعِ الْجُسُورِ، وَاسْتَمَرَّ الحصار باقي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا بَرِحَ حَتَّى تَسَلَّمَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ أَيْضًا وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَفَرَّ الخبيث هاربا غير آئب، وخرج منها هَارِبًا وَتَرَكَ حَلَائِلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَحَوَاصِلَهُ، فَأَخَذَهَا الْمُوَفَّقُ وشرح ذلك يَطُولُ جِدًّا. وَقَدْ حَرَّرَهُ مَبْسُوطًا ابْنُ جَرِيرٍ ولخصه ابن الأثير واختصره ابن كثير والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
وَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى أُمُورِ الْخِلَافَةِ وَصَارَ هُوَ الْحَاكِمَ الْآمِرَ النَّاهِيَ، وإليه تجلب التقادم وتحمل الأموال والخراج، وهُوَ الَّذِي يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، كَتَبَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ يَشْكُو إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مِصْرَ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ وَالْقِيَامَ مَعَهُ، فَاسْتَغْنَمَ غَيْبَةَ أَخِيهِ الْمُوَفَّقِ وَرَكِبَ فِي جُمَادَى الْأُولَى وَمَعَهُ جماعة من القواد وقد أرصد له ابن طُولُونَ جَيْشًا بِالرَّقَّةِ يَتَلَقَّوْنَهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ الْخَلِيفَةُ بِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجٍ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَعَامَّةِ الْجَزِيرَةِ اعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى ابْنِ طُولُونَ، وفند أَعْيَانَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَعَاتَبَ الْخَلِيفَةَ وَلَامَهُ على هذا الصنع أَشَدَّ اللَّوْمِ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْعَوْدَ إِلَى سَامَرَّا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَرَجَعُوا إِلَيْهَا فِي غَايَةِ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ. وَلَمَّا بَلَغَ الْمُوَفَّقَ ذَلِكَ شَكَرَ سَعْيَ إِسْحَاقَ وَوَلَّاهُ جَمِيعَ أَعْمَالِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ أَنْ يَلْعَنَ ابْنَ طُولُونَ فِي راد الْعَامَّةِ، فَلَمْ يُمْكِنِ الْمُعْتَمِدَ إِلَّا إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَارِهٌ، وَكَانَ ابْنُ طُولُونَ قَدْ قَطَعَ ذِكْرَ الْمُوَفَّقِ فِي الْخُطَبِ وَأَسْقَطَ اسْمَهُ عَنِ الطِّرَازَاتِ.
وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ وَأَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ مِائَتَانِ وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، واسْتَلَبَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ شَيْئًا كَثِيرًا. وفيها قطع الأعراب على الحجيج الطريق وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها وفيها توفى إبراهيم بن منقذ الكناني. وأحمد بن خلاد مَوْلَى الْمُعْتَصِمِ- وَكَانَ مِنْ دُعَاةِ الْمُعْتَزِلَةِ أَخَذَ الكلام عن جعفر بن معشر الْمُعْتَزِلِيِّ- وَسُلَيْمَانُ بْنِ حَفْصٍ الْمُعْتَزِلِيُّ صَاحِبُ بِشْرٍ المريسي، وأبى الهذيل العلاف. وعيسى بن الشيخ بن السَّلِيلِ الشَّيْبَانِيُّ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ وَدِيَارِ بَكْرٍ. وَأَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرًّهَاوِيُّ أَحَدُ الضُّعَفَاءِ.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين من الهجرة
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ صَاحِبِ الزَّنْجِ قَبَّحَهُ اللَّهُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُوَفَّقَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ
وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ وَاحْتَازَ مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَى مَنْ وَجَدَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد، وَسَارَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ طَرِيدًا شَرِيدًا بِشَرِّ حال، عاد الموفق إِلَى مَدِينَتِهِ الْمُوَفَّقِيَّةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ لُؤْلُؤَةُ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مُنَابِذًا لِسَيِّدِهِ سميعا مطيعا للموفق، وكان وُرُودُهُ عَلَيْهِ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَعْطَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَهُ طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ لِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ فِي الْجُيُوشِ الْكَثِيفَةِ الْهَائِلَةِ وَرَاءَهُ فَقَصَدُوا الْخَبِيثَ وَقَدْ تَحَصَّنَ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى، فلم يزل به محاصرا له حتى أخرجه منها ذليلا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ والمغانم، ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج فَأَسَرُوا عَامَّةَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وجماعته، مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِأَسْرِهِ وكبروا الله وحمدوه فَرَحًا بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ، وَحَمَلَ الْمُوَفَّقُ بِمَنِّ مَعَهُ حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى أَصْحَابِ الْخَبِيثِ فَاسْتَحَرَّ فِيهِمُ القتل، وما انجبلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صَاحِبِ الزَّنْجِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأَتَى بِرَأْسِهِ مَعَ غلام لؤلؤة الطولونى، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُوَفَّقُ أَنَّهُ رَأَسُهُ بَعْدَ شَهَادَةِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ خرّ ساجدا للَّه، ثُمَّ انْكَفَأَ رَاجِعًا إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ وَرَأْسُ الْخَبِيثِ يحمل بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ، فَدَخَلَ الْبَلَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بذلك في المغارب والمشارق، ثم جيء بانكلانى وَلَدِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَأَبَانِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُهَلَّبِيِّ مُسَعَّرِ حَرْبِهِمْ مَأْسُورَيْنِ وَمَعَهُمَا قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، فَتَمَّ السُّرُورُ وَهَرَبَ قِرْطَاسٌ الَّذِي رمى الموفق بصدره بِذَلِكَ السَّهْمِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَأُخِذَ وَبُعِثَ بِهِ إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق. واستتاب من بقي من أصحاب صاحب الزنج وأمنهم الْمُوَفَّقُ وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَأَنْ يَرْجِعَ كُلُّ مَنْ كَانَ أُخْرِجَ مِنْ دِيَارِهِ بِسَبَبِ الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس فَدَخَلَهَا لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَانْتَهَتْ أَيَّامُ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي الْكَذَّابِ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانَ ظُهُورُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يَوْمَ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي انْقِضَاءِ دَوْلَةِ الزَّنْجِ وَمَا كَانَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسْلَمِيِّ:
أَقُولُ وَقَدْ جَاءَ الْبَشِيرُ بِوَقْعِةٍ
…
أَعَزَّتْ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ وَاهِيًا
جَزَى اللَّهُ خَيْرَ النَّاسِ للناس بعد ما
…
أُبِيحَ حِمَاهُمْ خَيْرَ مَا كَانَ جَازِيَا
تَفَرَّدَ إِذْ لَمْ يَنْصُرِ اللَّهُ نَاصِرٌ
…
بِتَجْدِيدِ دِينٍ كان أصبح باليا