الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّهِ إِذَا جَاءَتِ الْحَيَاةُ كَيْفَ تَحْيَوْنَ، وَإِلَى مَلِكِ السَّمَاءِ كَيْفَ تَرْقَوْنَ، فَلَوْ أَنَّهَا حَبَّةُ خَرْدَلَةٍ لَقَامَ عَلَيْهَا شَهِيدٌ يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ، وَلَأَكْثَرَ النَّاسُ فِيهَا الثُّبُورَ وَقَدْ كَانَ مُسَيْلِمَةُ لَعَنَهُ اللَّهُ شَرَعَ لِمَنِ اتَّبَعَهُ أَنَّ الأعزب يَتَزَوَّجُ فَإِذَا وُلِدَ لَهُ ذَكَرٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ حِينَئِذٍ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ ذَلِكَ الْوَلَدُ الذِّكْرُ، فَتَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ ذَكَرٌ، هَذَا مِمَّا اقْتَرَحَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ، مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا خَلَا بِسَجَاحِ سَأَلَهَا مَاذَا يُوحَى إِلَيْهَا؟ فَقَالَتْ: وَهَلْ يَكُونُ النِّسَاءُ يَبْتَدِئْنَ؟ بَلْ أَنْتَ مَاذَا أُوحِيَ إِلَيْكَ؟
فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ فَعَلَ بِالْحُبْلَى؟ أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَا. قَالَتْ:
وَمَاذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خلق للنساء أَفْرَاجَا، وَجَعَلَ الرِّجَالَ لَهُنَّ أَزْوَاجًا، فَنُولِجُ فِيهِنَّ قُعْسًا إِيلَاجًا، ثُمَّ نُخْرِجُهَا إِذَا نَشَاءُ إِخْرَاجًا، فَيُنْتِجْنَ لَنَا سِخَالًا إِنْتَاجًا. فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ وَآكُلُ بِقَوْمِي وَقَوْمِكِ الْعَرَبَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ:
ألا قومي الى النيك
…
فقد هيى لَكِ الْمَضْجَعْ
فَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْبَيْتِ
…
وَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْمَخْدَعْ
وَإِنْ شِئْتِ سَلَقْنَاكِ
…
وَإِنْ شِئْتِ عَلَى أَرْبَعْ
وَإِنْ شِئْتِ بِثُلْثَيْهِ
…
وَإِنْ شِئْتِ بِهِ أَجْمَعْ
فَقَالَتْ: بَلْ بِهِ أَجْمَعْ، فَقَالَ: بِذَلِكَ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَأَقَامَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى قَوْمِهَا فَقَالُوا: مَا أَصْدَقَكِ؟ فَقَالَتْ: لَمْ يَصْدُقْنِي شَيْئًا، فَقَالُوا: إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ فبعثت إليه تسأله صداقا، فَقَالَ: أَرْسِلِي إِلَيَّ مُؤَذِّنَكِ، فَبَعَثَتْهُ إِلَيْهِ- وَهُوَ شبت بْنُ رِبْعِيٍّ- فَقَالَ:
نَادِ فِي قَوْمِكَ: إِنَّ مُسَيْلِمَةَ بْنَ حَبِيبٍ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعَ عَنْكُمْ صَلَاتَيْنِ مِمَّا أَتَاكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ- يَعْنِي صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة- فَكَانَ هَذَا صَدَاقَهَا عَلَيْهِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ ثُمَّ انثنت سَجَاحِ رَاجِعَةً إِلَى بِلَادِهَا وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهَا دُنُوِّ خَالِدٍ مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ فَكَرَّتْ رَاجِعَةً إلى الجزيرة بعد ما قَبَضَتْ مِنْ مُسَيْلِمَةَ نِصْفَ خَرَاجِ أَرْضِهِ، فَأَقَامَتْ فِي قَوْمِهَا بَنِي تَغَلِبَ، إِلَى زَمَانِ مُعَاوِيَةَ فَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا عَامَ الْجَمَاعَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ في موضعه.
فَصْلٌ فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعِيِّ التَّمِيمِيِّ
كَانَ قَدْ صَانَعَ سَجَاحِ حِينَ قَدِمَتْ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا اتَّصَلَتْ بِمُسَيْلِمَةَ لَعَنَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ تَرَحَّلَتْ إِلَى بِلَادِهَا- فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ- نَدِمَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَتَلَوَّمَ فِي شَأْنِهِ، وَهُوَ نَازِلٌ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْبُطَاحُ، فَقَصَدَهَا خَالِدٌ بِجُنُودِهِ وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الْأَنْصَارُ، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ قَضَيْنَا مَا أَمَرَنَا بِهِ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ فعله، وفرصة لا بد من انتهازها، وإنه لَمْ يَأْتِنِي فِيهَا كِتَابٌ، وَأَنَا الْأَمِيرُ وَإِلَيَّ تَرِدُ الْأَخْبَارُ، وَلَسْتُ بِالَّذِي أُجْبِرُكُمْ عَلَى الْمَسِيرِ، وَأَنَا قَاصِدٌ الْبُطَاحَ. فَسَارَ
يومين ثم لحقه رسول الله الْأَنْصَارِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الِانْتِظَارَ، فَلَحِقُوا بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْبُطَاحَ وَعَلَيْهَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، فَبَثَّ خَالِدٌ السَّرَايَا فِي الْبُطَاحِ يَدْعُونَ النَّاسَ، فَاسْتَقْبَلَهُ أُمَرَاءُ بَنِي تَمِيمٍ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَبَذَلُوا الزِّكْوَاتِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فَإِنَّهُ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِهِ، مُتَنَحٍّ عَنِ النَّاسِ، فَجَاءَتْهُ السَّرَايَا فَأَسَرُوهُ وَأَسَرُوا مَعَهُ أَصْحَابَهُ، وَاخْتَلَفَتِ السرية فيهم، فشهد أبو قتادة- الحرث بْنُ رِبْعِيِّ الْأَنْصَارِيِّ- أَنَّهُمْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُؤَذِّنُوا وَلَا صَلَّوْا، فَيُقَالُ إِنَّ الْأُسَارَى بَاتُوا فِي كُبُولِهِمْ فِي لَيْلَةٍ شديدة البرد، فنادى منادى خالد: أن أدفئوا أَسْرَاكُمْ، فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَتْلَ، فَقَتَلُوهُمْ، وَقَتَلَ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ، فلما سمع الداعية خَرَجَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا أَصَابَهُ وَاصْطَفَى خَالِدٌ امْرَأَةَ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَهِيَ أُمُّ تَمِيمٍ ابْنَةُ الْمِنْهَالِ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَلَمَّا حَلَّتْ بَنَى بِهَا، وَيُقَالُ: بَلِ اسْتَدْعَى خَالِدٌ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ فَأَنَّبَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ مُتَابَعَةِ سَجَاحِ، وَعَلَى مَنْعِهِ الزَّكَاةَ، وَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهَا قَرِينَةُ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ كَانَ يَزْعُمُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَهْوَ صَاحِبُنَا وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ؟ يا ضرار اضرب عنقه، فضربت عُنُقَهُ، وَأَمَرَ بِرَأْسِهِ فَجُعِلَ مَعَ حَجَرَيْنِ وَطُبِخَ عَلَى الثَّلَاثَةِ قِدْرًا، فَأَكَلَ مِنْهَا خَالِدٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِيُرْهِبَ بِذَلِكَ الْأَعْرَابَ، مِنَ الْمُرْتَدَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّ شَعْرَ مَالِكٍ جَعَلَتِ النَّارُ تَعْمَلُ فِيهِ إِلَى أَنْ نَضِجَ لَحْمِ الْقِدْرِ وَلَمْ تفرغ الشَّعْرُ لِكَثْرَتِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ أَبُو قَتَادَةَ مَعَ خَالِدٍ فِيمَا صَنَعَ وَتَقَاوَلَا فِي ذَلِكَ حَتَّى ذَهَبَ أَبُو قَتَادَةَ فَشَكَاهُ إِلَى الصِّدِّيقِ، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ مَعَ أَبِي قَتَادَةَ فِي خَالِدٍ، وَقَالَ لِلصَّدِيقِ: اعْزِلْهُ فَإِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا أَشْيَمُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَجَاءَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ فَجَعَلَ يَشْكُو إِلَى الصِّدِّيقِ خَالِدًا، وَعُمَرُ يُسَاعِدُهُ وَيُنْشِدُ الصِّدِّيقَ مَا قَالَ فِي أَخِيهِ مِنَ الْمَرَاثِي، فَوَدَاهُ الصِّدِّيقُ مِنْ عِنْدِهِ، وَمِنْ قَوْلِ مُتَمِّمٍ فِي ذَلِكَ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ بُرْهَةً
…
مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
وَعِشْنَا بِخَيْرٍ مَا حَيِينَا وَقَبْلَنَا
…
أَبَادَ الْمَنَايَا قَوْمَ كِسْرَى وَتُبَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا
…
لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نبت ليلة معا
وقال أيضا:
لقد لا منى عند العبور على البكى
…
رَفِيقِي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ
وَقَالَ أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ
…
لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ
فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى
…
فَدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُحَرِّضُ الصِّدِّيقَ وَيَذْمُرُهُ عَلَى عَزْلِ خَالِدٍ عَنِ الإمرة ويقول: إن في سيفه لرهقا، حَتَّى بَعَثَ الصِّدِّيقُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فقدم عليه المدينة، وقد لبس درعه التي من حديد، وقد صَدِئَ مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ، وَغَرَزَ فِي عِمَامَتِهِ النُّشَّابَ الْمُضَمَّخَ بِالدِّمَاءِ،