الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3. البكاء من خشية الله
البكاء من خشية الله مقام عال ومطلب للصالحين عزيز؛ ذلك بأنه يترتب عليه ثواب عظيم وأجر جليل، وهو دلالة الإيمان وشعار اليقين؛ ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر فيما رواه عنه أبو هريرة قال:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)(1)
(1) أخرجه الترمذي في السنن كتاب فضائل الجهاد/ باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله ج4/ص555
وقال: " قال وفي الباب عن أبي ريحانة وابن عباس قال هذا حديث حسن صحيح ومحمد بن عبد الرحمن هو مولى آل طلحة وهو مدني ثقة روى عنه شعبة وسفيان الثوري "
وأخرجه النسائي في الجهاد باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه 6/12 رقم3107و3108
وأخرجه الطيالسي 1/321 رقم 2443
وأخرجه الحاكم عن أبي هريرة بلفظ مقارب في الجهاد باب ثلاثة أعين لا تمسهما النار2/82 وقال: " حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد روي بإسناد آخر عن أبي هريرة" ولم يوافقه الذهبي
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/488 رقم 795
وأخرجه الحاكم بلفظ آخر عن أبي هريرة في باب حرمت النار على عين دمعت من خشية الله 2/83 وسكت عليه، وقال الذهبي:"فيه انقطاع" وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب 1/422 والبخاري في الكنى 1/50
والحديث روي عن ابن عباس، وعن أبي ريحانة، أما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله 4/175
قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) قال أبو عيسى: "حديث ابن عباس حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق"
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين عنه عن العباس بن عبد المطلب 3/337 والبيهقي في شعب الإيمان 1/488 رقم 796 والشهاب 1/211 رقم 320،، وابن أبي عاصم في الجهاد 2/416
قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 5 288 وفيه عثمان بن عطاء الخراساني وهو متروك وثقه دحيم.
أما حديث أبي ريحانة مرفوعا: (قال حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله) فأخرجه أحمد 4/134 رقم 17252 والحاكم في الجهاد / باب حرمت النار على عين دمعت من خشية الله 2/83 وقال: " صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي
وله طريق أخرى عن أنس أخرجه أبو يعلى 7/307 رقم 4346
قال: (قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم عينان لا تمسهما النار أبدا عين باتت تكلأ المسلمين في سبيل الله وعين بكت من خشية الله) قال المنذري: "رواته ثقات" الترغيب والترهيب 2/159 والبخاري في التاريخ الكبير 4/ 231 رقم 2624،، والشهاب 1/212 رقم 321،، وابن أبي عاصم في الجهاد 2/417،، وابن عبد الواحد في الأحاديث المختارة 6/187
وطريق خامسة عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا ترى أعينهم النار عين حرست في سبيل الله وعين بكت من خشية الله وعين غضت عن محارم الله) أخرجه الطبراني في الكبير 19/416 رقم 1003
والمقصود بالبكاء من خشية الله البكاء الخالص الذي لا تشوبه شائبة رياء ولا سمعة، وقد يكون ذلك من المرء خاليا وقد يكون وهو بحضرة آخرين، والغالب أن الدمع إذا نزل خشية لله في حال الخلوة أن يكون ذلك خالصا؛ لذا كان جزاؤه من جنس عمله فأمن الله خوفه بأن أظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، بما خشي وخاف في الدنيا التي أمن فيها كثير من الناس، روى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)(1)
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب فضل العشاء في جماعة 1/234،، باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر 2/517،،باب البكاء من خشية الله 5/2377،،باب سمر النبي صلى الله عليه وسلم أعين المحاربين 6/2496،،ومسلم باب إخفاء الصدقة 2/715،،المسند المستخرج على صحيح مسلم 3/103،104،،وابن حبان في باب ذكر إظلال الله جل وعلا الإمام العادل 10/338،،وباب ذكر نفي نظر الله جل وعلا يوم القيامة إلى ثلاثة أنفس 16/332،،وابن خزيمة باب فضل انتظار الصلاة والجلوس في المسجد 1/185،، والنسائي في الكبرى باب ثواب الإصابة في الحكم بعد الاجتهاد 3/461،،والترمذي باب ما جاء في الحب في الله4/598،، وأحمد2/439،،ومالك باب ما جاء في المتحابين في الله 2/952،، والبيهقي باب فضل المساجد 3/65،،وباب فضل صدقة السر4/190،،وباب فضل الإمام العادل 8/162،، وباب فضل من ابتلي بشيء من الأعمال 10/87،،وأبو عوانة 4/380،، والطبراني في الأوسط6/251،، 9/63،، والإسماعيلي في معجم الشيوخ 1/341،،والربيع في الجامع 1/108،39
والخوف من الله تعالى وخشيته لا يورثها إلا العلم بالله تعالى، فعلى قدر العلم به تكون هيبته في النفوس لذا فإن الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين كانوا أكثر الناس خوفا وشفقة منه كما قال الله تعالى:(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(1) ويقول سبحانه عن الملائكة المقربين: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(2)
وقد كان صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه تعالى لذا كان يقول عن نفسه (أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له)(3) وجاء التصريح باستجلاب العلم للدموع فيما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل من أبي قال فلان فنزلت هذه الآية (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(4)
(1) الأنبياء آية /90
(2)
الأنبياء آية /28
(3)
أخرجه مسلم باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب ج2/ص779،، وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم 3/185،، ومالك باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم1/291،، وأبو عوانة2/211،، والشافعي في مسنده 1/240،، والبيهقي باب وجوب القضاء على من قبل فأنزل 4/234
(4)
صحيح البخاري في العلم باب لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم 4/ 1689،، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما اعلم 5/2379،، ومسلم في الفضائل رقم4351،،وابن ماجة في باب الحزن والبكاء2/1402،، وابن أبي شيبة باب ما ذكر عن نبينا صلى الله عليه وسلم7/86،،وأبو يعلى 5/418،،7/310،، وأحمد3/180،،193،،210،، 268،،251
والحديث رواه البخاري في الصلاة باب الصدقة في الكسوف 1/ 354،، وباب الغيرة عن عائشة،، وفي باب قول النبي صلى اله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم 5/2379 عن أبي هريرة
ومثله حديث أبي ذر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا حتى ختمها ثم قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدر أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى والله لوددت أني شجرة تعضد) (1)
ووردت هذه الكلمة أيضا في سياق آخر روى ذلك عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة فقال سعرت النار لأهل النار وجاءت الفتن كقطع الليل المظلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)(2)
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين باب تفسير هل أتى على الإنسان ج2/ص554 وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأخرجه أيضا في الفتن والملاحم 4/587،623
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين باب ذكر عمرو بن مكتوم المؤذن ج3/ص736
وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى ما لا يرى الناس كما يعلم ما لا يعلمون، ولذا فإنه يعظ أصحابه ويحذرهم مخالفة أمره لأن في المخالفة هلاكهم وتعرضهم لسخط مولاهم كما أخبر بذلك أنس رض الله عنه قال:(قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما قضي الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف فإني أراكم أمامي ومن خلفي ثم قال والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قالوا وما رأيت يا رسول الله قال رأيت الجنة والنار)(1)
ولخشية رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى وإشفاقه من لقائه كان دائم مراقبته والتذكير به، فلا يمر حدث إلا ويثير قلقه، إما على نفسه وإما على أمته، وإما عليهما جميعا فعن البراء قال:(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)(2)
(1) أخرجه مسلم في الصلاة باب تحريم سبق الإمام 1/320 رقم 646،، وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم 2/50،، وابن خزيمة في باب التغليظ في مبادرة المأموم الإمام برفع الرأس 3/47،،107،، والبيهقي باب من كبر تكبيرة واحدة للافتتاح 2/91،، وأبو يعلى 7/41،، 48
(2)
أخرجه ابن ماجة في باب الحزن والبكاء 2/1403،، ورجاله ثقات غير محمد بن مالك هو الجوزجاني مولى البراء قال فيه ابن حجر "صدوق يخطي كثيرا" التقريب 504،، ذكره ابن حبان في الثقات وذكره في الضعفاء وقال: يخطي كثيرا لا يحتج به إذا انفرد 9/375
ومن مهيجات البكاء خشية من الله عز وجل أن يذكر المرء أن له ذنبا فيخاف أن يلقاه به، ثم لا يغفره ربه بل يؤاخذه به، أو أن يلقى ربه على مالا يريد من الإيمان والإخلاص والاتباع، ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله قال:(لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوما قباء من ديباج (1) أهدي له ثم أوشك أن نزعه فأرسل به إلى عمر بن الخطاب فقيل له قد أوشك ما نزعته يا رسول الله فقال نهاني عنه جبريل فجاءه عمر يبكي فقال يا رسول الله كرهت أمرا وأعطيتنيه فما لي قال إني لم أعطكه لتلبسه إنما أعطيتكه تبيعه فباعه بألفي درهم) (2) فعمر رضي الله عنه خشي أن يكون فاعلا ما كره رسول الله صلى الله عليه أن يفعله فيتعرض لمقت الله وعقابه.
وقد يهيج البكاء ذكر النار وما فيها من عذاب كما روت عائشة رضي الله عنها: (أنها ذكرت النار فبكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك قالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل وعند الكتاب حين يقال ((هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)) (3) حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم) (4)
(1) القباء: ثوب يلبس فوق الثياب، والديباج: نوع نفيس من الحرير
(2)
باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة 3/1644،، والنسائي في الكبره باب الزينة رقم 5208،، وأحمد 3/383
(3)
الحاقة آية 19
(4)
أخرجه أبو داود كتاب السنة باب في ذكر الميزان 4/240،، والحاكم في 4كتاب الأهوال باب بشارة النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين 4/ 578وقال:" المستدرك على الصحيحين ج4/ص622
هذا حديث صحيح إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة" ووافقه الذهبي
ويزيد القلب ارتعادا والعين إدرارا معرفة نسبة من يدخل النار من أهل الدنيا، لاسيما مع استحضار هول الموقف وشدة الكرب ووصف النار كما روي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(لما نزلت ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ)) (1)
…
إلى قوله: ((وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)) قال أنزلت عليه هذه وهو في سفر فقال أتدرون أي يوم ذلك فقالوا الله ورسوله أعلم قال ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار فقال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة قال فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية قال فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا قال لا أدري قال الثلثين أم لا) (2) ،
(1) سورة الحج آية 1
(2)
أخرجه الترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة الحج 5/322، 323 قال هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم " وأحمد4/432،،والحاكم في كتاب الإيمان 1/81،،وفي التفسير 2/254،، تفسير سورة الحج 2/417،، قال الحاكم:" حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بطوله والذي عندي أنهما قد تحرجا من ذلك خشية الإرسال وقد سمع الحسن من عمران بن حصين وهذه الزيادات التي في هذا المتن أكثرها عند معمر عن قتادة عن أنس وهو صحيح على شرطهما جميعا ولم يخرجاه ولا واحد منهما"وأخرجه البيهقي في باب قوله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم 6/410،، وفي شعب الإيمان 1/322،، والطبراني في الكبير 18/144،، 151،، وعبد بن حميد في مسنده 1/287،، والروياني1/99،، والطبراني في مسند الشاميين4/27،،وجزء أشيب1/78
ومثله ما روي عن أبي الدرداء: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الله تعالى يقول يوم القيامة لآدم عليه السلام قم فجهز من ذريتك تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة فبكى أصحابه وبكوا ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا رؤوسكم فوالذي نفسي بيده ما أمتي في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود فخفف ذلك عنهم)(1)
(1) أخرجه أحمد 6/441،، والطبراني في مسند الشاميين 3/262،، قال الهيثمي: في مجمع الزوائد:" رواه أحمد والطبراني وإسناده جيد" مجمع الزوائد ج10/ص393
ويهيج البكاء خشية الله تعالى والخوف من الوقوع فيما يسخطه دون شعور من صاحبه، مع أنه يبذل جهده تقى وصلاحا وعملا صالحا، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(أنه خرج يوما إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد معاذ بن جبل قاعدا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقال ما يبكيك قال يبكيني شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن يسير الرياء شرك وإن من عادى لله وليا فقد بارز الله بالمحاربة إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة)(1)
(1) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب من ترجى له السلامة من الفتن2/1320،، والحاكم في الإيمان 1/44،، وأبو نعيم في الحلية 1/5،،:" قال الحاكم: " هذا حديث صحيح ولم يخرج في الصحيحين وقد احتجا جميعا بزيد بن أسلم عن أبيه عن الصحابة واتفقا جميعا على الاحتجاج بحديث الليث بن سعد عن عياش بن عباس القتباني وهذا إسناد مصري صحيح ولا يحفظ له علة" قال عياش بن عباس القٍتْبَاني ثقة. قاله ابن حجر في التقريب ص437،، قال البوصيري في مصباح الزجاجة 4/178:" في إسناده عبد الله ابن لهيعة، وهو ضعيف" وتبعه ابن عبد البر في جامع العلوم والحكم 1/360.قلت: حديث ابن ماجة من طريق عبد الله ابن وهب عن ابن لهيعة عن عيسى بن عبد الرحمن عن زيد بن أسلم. قال ابن حجر:"ابن لهيعة،صدوق، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون" التقريب 319..فالحديث حسن والله أعلم
على أن لا يستحيل ذلك يأسا وقنوطا؛ بل يتلازم هذا الخوف مع حسن الظن بالله تعالى والطمع في رحمته، فإنه رحيم بعباده وبهذين الشعورين يبقى المؤمن متوازنا لا يخاف فينقطع به اليأس عن العمل، ولا يرجو فيأمن حتى ينقطع عن العمل أيضا وكلا الطرفان تطرف مذموم، وما من دين توازن هذا التوازن.
وقد يبكي المرء خشية من الله أن يفتن هو أو أهله بفتنة تحرمه من لذيذ نعيم الله تعالى ومن هنيء مرضاته، كأن يكون على غير العهد الذي كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أسماء بنت يزيد:(قالت كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فقال إذا كان قبل خروج الدجال بثلاث سنين حبست السماء ثلث قطرها وحبست الأرض ثلث نباتها فإذا كانت السنة الثانية حبست السماء ثلثي قطرها وحبست الأرض ثلثي نباتها فإذا كانت السنة الثالثة حبست السماء قطرها كله وحبست الأرض نباتها كله فلا يبقى ذو خف ولا ظلف إلا هلك فيقول الدجال للرجل من أهل البادية أرأيت إن بعثت إبلك ضخاما ضروعها عظاما أسنمتها أتعلم إني ربك فيقول نعم فتمثل له الشياطين على صورة إبله فيتبعه ويقول للرجل أرأيت إن بعثت أباك وابنك ومن تعرف من أهلك أتعلم أني ربك فيقول نعم فيمثل له الشياطين على صورهم فيتبعه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى أهل البيت ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبكي فقال ما يبكيكم فقلت يا رسول الله ما ذكرت من الدجال فوالله إن أمة أهلي لتعجن عجينها فما تبلغ حتى تكاد تفتت من الجوع فكيف نصنع يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفي المؤمنين عن الطعام والشراب يومئذ التكبير والتسبيح والتحميد ثم قال لا تبكوا فإن يخرج الدجال وأنا فيكم فأنا حجيجه وإن يخرج بعدي فالله خليفتي على كل مسلم)(1)
(1) أخرجه أحمد 6/453،، وفي إسناده جرير بن حازم عن قتادة، قال ابن حجر في التقريب:" ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه" ص138
ومن مهيجات البكاء أن يكره المرء على فعل معصية تأنف نفسه من فعلها فإذا تذكر نهي الله وعظم الذنب بكى كما روي عن بن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرات ولكني سمعته أكثر من ذلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال لا والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر للكفل) (1)
(1) أخرجه الترمذي في صفة القيامة باب ج4/ص657،، قال الترمذي:"هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه وروى أبو بكر بن عياش هذا الحديث عن الأعمش فأخطأ فيه وقال عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن بن عمرو وهو غير محفوظ وعبد الله بن عبد الله الرازي هو كوفي وكانت جدته سرية لعلي بن أبي طالب وروى عن عبد الله بن عبد الله الرازي عبيدة الضبي والحجاج بن أرطاة وغير واحد من كبار أهل العلم"،، وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التوبة والإنابة 4/283،،وقال:" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"،، وذكره في العلل وقال:" سألت محمدا عن هذا الحديث فقال بعض أصحاب الأعمش رووا هذا الحديث فأوقفوه وأكثرهم رفعوه والصحيح أنه مرفوع"
قلت له روى أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عمر فقال أبو بكر بن عياش يهم فيه" علل الترمذي ج1/ص334
وأخرجه أبو يعلى 10/90،، وأحمد 2/23،،والبيهقي في شعب الإيمان5/50،،قال المنذري:" رواه الترمذي وحسنه واللفظ له وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين مرة يقول..فذكر بنحوه والحاكم والبيهقي من طريقه وغيرها وقال الحاكم صحيح الإسناد" الترغيب والترهيب ج4/ص50
وحينما يتذكر المرء القبر، ويذكر أنه أول منازل الآخرة، وأول مراحل القدوم على الله تعالى لا يملك دمعة عينة خشية من الله وتعظيما للوقوف بين يديه كما روي عن هانئ مولى عثمان قال:(كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت منظرا قط إلا القبر أفظع منه)(1)
(1) أخرجه الترمذي في الزهد باب ما جاء في ذكر الموت 4/553،، وقال:" هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث هشام بن يوسف "،، والحاكم في الجنائز 1/526،، وسكت عنه الحاكم وقال الذهبي:" ابن بحير ليس بالعمدة ومنم من يقويه، وهانيء روى عنه جماعة ولا ذكر له في الكتب الستة " قلت: " لعله نسي رواية الترمذي هذه! مع أنه رحمه الله ذكره في الكاشف 3/193، وقال: وثق. وهانيء هو البربري، أبو سعيد، مولى عثمان قال النسائي: ليس به بأس ووثقه ابن حبان. قال عنه ابن حجر: صدوق. تهذيب التهذيب11/23 التقريب 570،، " وأحمد 1/63،، والبيهقي باب ما يقال بعد الدفن 4/56،،وفي شعب الإيمان 1/359،، 7/352،، وفي إثبات عذاب القبر1/131،، والبزار2/90،، والقضاعي في مسند الشهاب 1/172،، والسري في الزهد 211،، وأبو نعيم في الحلية 1/61،، وذكر ابن عبد البر إسناده من طريق يعقوب بن أبي شيبة في التمهيد 23/270،، عن يعقوب أثنى على عبد الله بن بحير خيرا،،قال المقدسي في الأحاديث المختارة:" إسناده حسن" قلت مدار إسناده على ابن بحير قال فيه ابن حجر:" وثقه ابن معين واضطرب فيه كلام ابن حبان" التقريب296 وقال في هانيء مولى عثمان:" صدوق"570،، فإسناده حسن والله أعلم
ولا يبرح المؤمن أن يحاسب نفسه فإذا أوجس منها ظلما لعباد الله وعلم أنه محاسب ومقتص منه عاد على نفسه باللائمة، مؤنبا ومثربا فأعول وبكى كما جاء في حديث عائشة أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم قال يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم أقتص لهم منك الفضل قال فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تقرأ كتاب الله (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ)(1) الآية فقال
الرجل والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم أشهدكم أنهم أحرار كلهم) (2)
(1) سورة الأنبياء آية /47
(2)
أخرجه الترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة الأنبياء 5/320،، وأحمد 6/280 رقم 26444،، قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان وقد روىا بن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث" قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج10/ص352
"وفي إسناده الصحابي الذي لم يسم وراو لم يسم أيضا وبقية رجالهما رجال الصحيح" قلت: في إسناده عبد الرحمن بن غزوان قراد قال فيه ابن حجر:" ثقة له أفراد" التقريب 348،، وقال الذهبي:" حدث عنه أحمد والكبار وكان يحفظ وله مناكير، وسئل أحمد بن صالح عن حديث لقراد عن الليث عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي مماليك أضربهم فقال هذا حديث موضوع وقال أبو أحمد الحاكم روى عن الليث حديثا منكرا" ميزان الاعتدال في نقد الرجال ج4/ص 306،،
ويغلب عند الخشوع والخشية لله تعالى أن يرافق دمع العين قشعريرة في الجلد ووجل في القلب كما في قوله تعالى ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) (1)
وإذا بقي القلب قاسيا والعين جافة استحق العبد المعاتبة على هذا الجفاء كما في قوله تعالى ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) (2)
والذي جاءت به السنة الاعتدال في البكاء ولو كان من خشية الله خلافا لما يتكلفه بعض الناس من العويل الشديد والصراخ الذي يفزع الحاضرين ويذهب عنهم التفكر والتدبر، ويجلب الخوف الشديد الدافع لليأس من رحمة الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" وما يحصل عند الذكر المشروع من البكاء ووجل القلوب واقشعرار الجسوم فمن أفضل الأحوال التي جاء بها الكتاب، أما الاضطراب الشديد والغشي والصيحان؛ فإن كان صاحبه لم يعلم ما هو عليه لم يلم، وسببه قوة الوارد مع ضعف القلب، والقوة والتمكن أفضل، كما هو حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما السكون قسوة وجفاء فهذا مذموم. "(3)
(1) الزمر آية / 23
(2)
الحديد آية /16
(3)
نقلا عن دموع القراء ص34، وعزاه للفتاوى المصرية ص100، بتصرف