الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في اختيار أبي تمام للحماسة وصنيعه فيه
1.
اختيارات أبي تمام في الشعر:
ليس من عزمات هذه الدراسة أن تضطلع بالبحث في شاعرية أبي تمام أو شعره، فهذا أمر خاض فيه الرجال منذ عصر أبي بكر الصولي - 235 هـ - وإلى عصرنا هذا الحديث، ولكن الذي يهمنا بحق - ونحن نبحث في اختيار أبي تمام للحماسة - هو أن نقف عند المكونات الثقافية التي كانت وراء شاعريته، والتي جعلت منه شاعرًا متفوقًا وزعيم مدرسة في تاريخ شعرنا العربي.
وكان من أهم هذه المكونات روايته لشعر من سبقوه في عصور الأدب الأولى أو شعر من عاشوا في عصره، وهي ميزة قد شارك فيها غيره من الشعراء، ليس في عصره فحسب بل في سائر العصور السابقة له أو التي جاءت بعده، غير أن الأمر بالنسبة له كان مختلفًا عنهم، فهؤلاء وإن شاركوه في هذه الميزة فإنهم قد اكتفوا برواية شعر السابقين بقصد التعلم والتثقف وصقل شاعريتهم والسمو بها إلى درجة أعلى في الفن الشعري. أما أبو تمام فقد تميز عنهم بأنه لم يقف عند حد الحفظ والرواية لشعر غيره بل كان - كما يقول الدكتور طه حسين -: "كثير النظر في الشعر ميالًا إلى الاختيار منه
…
يعاشر الشعراء معاشرة متصلة، يقرؤهم ويطيل النظر فيهم، ويدل على قراءته لهم هذا الاختيار الذي يختاره في كتب يذيعها بين الناس".
ولم تكن اختياراته هذه ضربة لازب أو لمجرد جمع الشعر وروايته، وإنما
كانت عملًا قائمًا على الدراية والفهم الدقيق. يؤكد هذا ما نقله الصولي عن الحسن بن رجاء أنه قال: ما رأيت أحدًا قط أعلم يجيد الشعر قديمه وحديثه من أبي تمام.
غير أن هذه الاختيارات قد شابها شيء من الخلط والاضطراب في سبب تأليفها، والوقت الذي ألفت فيه فالتبريزي يحدثنا في مقدمة شرحه للحماسة أن أبا تمام " جاء من خراسان يريد العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة، فأنزله فأكرمه، فأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج عظيم، قطع الطرق ومنع السابلة، فغم أبا تمام ذلك، وسرأبا الوافاء. فقال له: وطن نفسك على المقام فإن هذا الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان، وأحضره خزانة كتبه فطالعها واشتغل بها وصنف، خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة والوحشيات".
وبناء على هذه الرواية فإن أبا تام قد صنع خمسة كتب في الاختيارات الشعرية بهمذان، ولكني وجدت في مقدمة الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي الفارسي رواية تقول بأن الكتب ثلاثة قال:"وأحضره أبو الوفاء كتبه فاختار أبو تمام منها هذا - يعني الحماسة - والوحشي وشيئًا من انتخاب" ثم أضاف أن هذه الكتب بقيت عند أبي الوفاء، لا يمكن أحدًا منها إلى أن مات، ووقعت في يد رجل من أهل دينور يعرف بأبي العواذل، فنسخ هذه الكتب الثلاثة، وحملها إلى أصبهان".
فهي إذا على هذه الرواية ثلاثة كتب لا خمسة كما ذكر التبريزي، على أننا نجد الآمدي في الموازنة يفيد بأن هذه الاختيارات ستة كتب، وقد عّرفها بقوله: "منها الاختيار القبائلي الأكبر، واختار فيه من كل قبيلة قصيدة، وقد مّر على يدي هذا الاختيار، ومنها اختيار آخر ترجمته القبائلي اختار فيه قطعًا من محاسن أشعار
القبائل، ولم يورد فيه كبير شيء للمشهورين، ومنها الاختيار الذي تلقط فيه محاسن شعر الجاهلية والإسلام، وأخذ من كل قصيدة شيئًا حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيار مشهور معروف باختيار شعراء الفحول، ومنها اختيار تلقط فيه أشياء من الشعراء المقلين والشعراء المغمورين غير المشهورين، وبوبه أبوابًا وصدّره بما قيل في الشجاعة، وهذا أشهر اختياراته وأكثرها في أيدي الناس ويلقب بالحماسة، ومنها اختيار المقطعات وهو مبوب على ترتيب الحماسة إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرهم والقدماء والمتأخرين وصدّره بذكر الغزل، وقد قرأت هذا الاختيار، وتلقطت منه نتفًا وأبياتًا كثيرة، وليس بمشهورة شهرة غيره، ومنها اختيار مجرد في أشعار المحدثين وهو موجود في أيدي الناس".
فهي وفق هذا الذي ذكره الآمدي ستة كتب: اختيار القبائلي الأكبر، واختيار القبائلي، واختيار شعراء الفحول، وديوان الحماسة، واختيار المقطعات الوحشيات أو الحماسة الصغرى، واختيار أشعار المحدثين. غير أن الآمدي لم يشر إلى أن هذه الكتب قد ألفت بهمذان، وإنما كان حديثه منصبًا على الكتب ووصفها، ولم يهتم بمكان تأليفها أو الزمن الذي ألفت فيه، ويمكن أن نؤكد أن الاختيار الأخير وهو اختيار أشعار المحدثين اختاره أبو تمام بعيدًا عن همذان، وذلك لما أورده الصولي عن الحسن بن إسحاق قال:"سمعت ابن الدقاق يقول: حضرنا مع أبي تمام وهو ينتخب أشعار المحدثين فمر بنا شعر محمد بن أبي عيينة المطبوع الذي يهجو به خالدًا، فنظر فيه، ورمى به وقال هذا كله مختار". فابن الدقاق لم يكن مع أبي تمام في همذان عندما كان في بيت أبي الوفاء بن سلمة، فلابد أن يكون قد صنع هذا الاختيار في بغداد أو سر من رأي أو غيرهما من البلاد التي كان ينتقل فيها. ومن ثم بقي لنا الاحتمالان اللذان وردا في الروايتين السابقتين أنه ألف بهمذان خمسة كتب، وفق رواية التبريزي أو ثلاثة كتب وفق رواية الشرح المرجح نسيته إلى زيد بن على الفارسي. ولكن أي الاحتمالين أرجح؟ .
إن الدكتور طه حسين يعترض على رواية أن أبا تمام قد صنع هذه الاختيارات في همذان فقد قال: "تحدثنا الأخبار أن أبا تمام قد اختار كل هذه الكتب لأنه اضطر إلى البقاء في همذان، فقد حال الثلج بينه وبين المضي في سفره فاضطر إلى البقاء، وعكف على خزانة الكتب فأنفق وقته في تصنيف ما ظهر له من المختارات، ولكن هذا غير ممكن وغير معقول، فقد كانت إقامته رهن زوال الثلج، وهذا لا يتجاوز الأشهر القليلة، ومن المستحيل أن يصدق أنه قد اختار هذه الكتب في شهرين أو ثلاثة".
وهو رأي يصعب دفعه إذا قلنا برواية التبريزي، أما إذا قلنا بالرواية الأخرى التي تقول بأنه صنع في همذان ثلاثة كتب، فإن الأمر يصبح في حيّز المعقول وبعيدًا عن المستحيل الذي أشار إليه الدكتور طه حسين، وبخاصة إذا علمنا أن أبا تمام كان كثير الحفظ من شعر العرب، وأن هذا يعينه كثيرًا على إنجاز ما أزمع صنعه في هذه الاختيارات الثلاثة، كما أن الروايات لم تذكر أنه لبث في همذان شهرين أو ثلاثة، وإنما الإشارة إلى هذا جاءت مبهمة في كلام أبي الوفاء لأبي تمام:"وطن نفسك على المقام فإن هذا الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان" فربما كان انحسار الثلج يتطلب زمنًا أطول من الزمن الذي حدده الدكتور طه حسين، وربما ظل أبو تمام فترة من الزمن بعد انحسار الثلج، فليس في المصادر ما يفيد أنه غادر همذان في تاريخ محدد.
وكان الأستاذ علي النجدي ناصف قد اعترض على قول الدكتور طه حسين المتقدم، وبنى اعتراضه على عدة أوجه: أحدها أن أبا تمام لم يكن ينوي أول الأمر يلبث في همذان إلا ريثما يذوب الثلج ويتيسر السفر، ثم عدل عن نيته هذه أو غير منها حين أقبل على العمل، فاستبان قيمتة وأدرك المضي فيه. وثانيها أن أبا تمام لم يكن له عهد بكتب آل سلمة من قبل، فرأى العكوف عليها والإفادة منها غنيمة بالغة، ونُهزة نادرة، لا يجمل بمثله أن يتهاون فيها أو يؤثر حاجة عليها. وثالثها أن أبا تمام كان يكره الشتاء ويحذر البرد، وله من الأشعار ما يؤكد ذلك، ومن ثم فإن إقامته في همذان لم تكن رهنًا بزوال الثلج عنها لأن زوال الثلج من بلد لا يعني
زوال البرد عنه، وحلول الدفء فيه، إذا لابد من فترة أخرى يصير فيها من الخوف إلى الأمن، ومن القلق إلى الطمأنينة حتى يرحل حين يرحل معتقدًا أن لن يفاجئه البرد في بعض الطريق بما عسى أن تشق عليه مقاومته والاحتماء منه. ورابعها أن رجلًا له مثل ما لأبي تمام من ألمعية خاطفة وذوق مرهف لا تبطئ به القراءة والاختيار ولا يكلفانه من الوقت والجهد مثل ما يكلفان سواه، وليس بعيدًا أن يكون أصحابه من آل سلمة في حرصهم عليه، وبرهم به، وملاطفتهم له، قد رفقوا به وقدروا حاله، فأمدوه ببعض الأعوان يكل إليهم من الأمراء ما يريد، وكان الفصل حينذاك فصل الشتاء حيث يطيب العمل، ولا يقل الانقطاع والعكوف عليه".
ونحن لا اعتراض لنا على هذه الأوجه سوى الوجه الثالث، ذلك لأن أبا تمام وإن عرف عنه أنه كان يكره الشتاء فإن كراهيته له لا تمنعه من السفر فيه، وهو حين غادر خراسان إلى همذان إنما غادرها في وقت الشتاء، فلو أنه كان يكره السفر في الشتاء لما غادر خراسان، وإذا قلنا إنه غادر خراسان مضطرًا إذ لم تكن له حاجة في البقاء طويلًا بها، فكيف نفسر أنه اغتم من نزول الثلج بهمذان لأنه سوف يمنعه السفر إلى العراق، مع علمنا بالحفاوة التي وجدها عن آل سلمة، وكانت هذه الحفاوة حافزًا لأن ينوي السفر فيه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إننا نسلم بأن أبا تمام كان يتمتع بالألمعية الخاطفة التي تعينه على سرعة الاختيار، ولكن إن صح هذا بالنسبة للحماسة والوحشيات واختيار الفحول، لما ذكرناه من سعته في الحفظ التي تعينه على سرعة الاختيار فلا شك في أن اختيار القبائلي الأكبر الذي ذكر الآمدي انه اختار فيه من كل قبيلة قصيدة، والاختيار القبائلي الذي اختار فيه قطعًا من محاسن أشعار القبائل يقتضي جهدًا أكبر وزمنًا أطول في الوقوف على جل شعر القبائل إن لم يكن كله، حتى لا يداخل اختياره في الكتابين فوات من الجيد الذي يختاره. ومن هنا كان ترجيحنا للرواية القائلة بأنه صنع في همذان ثلاثة كتب هي في رأينا: الحماسة والوحشيات واختيار شعراء الفحول، لأن هذه الاختيارات الثلاثة ال تقتضي الوقوف على جل ما قاله الشعراء من شعر، فنحن نذهب بعيدًا إذا قلنا إن
الجيد الذي اختاره أبو تمام ليس هناك جيد غيره مما قالته العرب، فلا شك أن هناك جيدًا كثيرًا لم تشمله هذه الاختيارات الثلاثة، ولا يضير أبا تمام هذا لأنه توخي في اختياراته الجيد مما وقف عليهن وأسعفته به حافظته، أو المصادر التي قرأها عند آل سلمة.
أما بالنسبة لشعر القبائل فإن الأمر يتطلب الوقوف الطويل المتأني على ما قالته القبائل من شعر حتى يختار منه القصيدة الواحدة على نحو ما فعل في اختيار القبائلي الأكبر أو يختار قطعًا من محاسن أشعار هذه القبائل على نحو فعل في الاختيار القبائلي كما أن أحدًا لا يجزم بأن مكتبة آل سلمة كانت تضم كل ما قالته القبائل من شعر، ربما حوت منه الكثير أما الكل فإن السبيل إلى تصويره أمر يحتاج إلى دليل مادي لا نملكه، فنحن لا نستطيع أن نتصور أن آل سلمة كانوا يملكون جميع دواوين شعر القبائل التي صنعها العلماء في القرن الثاني وأوائل القرن الثالث. ومن هنا فإن خلاصة ما يمكن أن يقال في هذا الخصوص أن أبا تمام حين خرج من مصر إلى العراق ومدح الخليفة المعتصم بالله الذي ولي الخلافة سنة 218 هـ أخذ يطوف بالعمال، يرحل هنا وهناك، وأنه كان من خلال تطوافه هذا يقرأ شعر القبائل ويختار منه حتى انتهى به المقام أخيرًا إلى الموصل حين ولاه الحسن بن وهب بريد الموصل فعمل فيه قرابة العامين ثم كانت وفاته سنة 231 هـ.
إننا نرتضي القول بأن هذين الاختيارين اللذين لم يصلا إلينا قد كانا ثمرة جهد متصل وقراءات مستمرة في دواوين القبائل حتى تيسر له القيام بصنع ما أراده فيهما، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون مثل هذا العمل وليد فترة زمنية محددة عاشها بهمذان ولأٍسباب فرضتها الطبيعة بظروفها المتحولة من حال إلى أخرى.
ولا نحسب أن أبا تمام اتجه إلى هذه الاختيارات والتأليف فيها لأن الثلج منعه من الوصول إلى العراق، ولم يجد ما يفعله في فترة الشتاء سوى تأليف هذه الكتب، لأن هذا يجعل عزمه على التأليف وليد حادث طارئ فرضته ظروف معينة لولاها لما كانت هذه الكتب، وإنما الذي في تصورنا أن أبا تمام كان قد عقد العزم على أن يصنع اختيارات في الشعر، وكان هذا العزم يشغل تفكيره، ويقلب الرأي فيه، وربما جالت بفكره الآراء التي تتصل بمنهجه فيها، فحين حدث ما حدث من أمر الثلج
كانت البداية ثلاثة كتب على نحو ما رجحنا، ثم توالت بقية الاختيارات بعد رحيله من همذان، ولو كان الأمر كما تصوره هذه الروايات وليد صدفة لما واصل أبو تمام عمله في صنع هذه الكتب، ولاكتفى صنعه نتيجة للظروف التي عاشها في همذان، ولكن الذي حدث كان غير هذا، فقد واصل أبو تمام اختياراته من شعر العرب حتى بلغت ستة كتب، ثم أضاف إليها ما صنعه من نقاضئض جرير والأخطل.
2 -
رواية أبي تمام للحماسة:
وإذا كنا قد رجحنا أن يكون أبو تمام قد صنع بهمذان ثلاثة اختيارات منها كتاب الحماسة، فإن هذا يدفعنا إلى البحث في الطريق الذي أخذ به العلماء كتاب الحماسة، فلقد كان المألوف لدى العلماء في ذلك الزمن وقبله أن يأخذوا الكتب من أصحابها بالسماع أو القراءة عليهم أو الإجازة منهم في روايتها. غير أن الخبر الذي ساقه التبريزي في مقدمة شرحه يشير إلى أن تام قد ترك كتاب الحماسة في خزائن آل سلمة، حيث بقي عندهم، يضنون به، ولا يكادون يبرزونه لأحد حتى تغيرت أحوالهم، وورد همذان رجل من أهل دينور يعرف بأبي العواذل فظفر به وحمله إلى أصبهان فأقبل أدباؤهم عليه ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة في معناه، فشهر فيه ثم فيمن يليهم.
ولم ينقل أبو العواذل الكتب ذاتها التي وجدها عند آل سلمة، وإنما نسخها على نحو ما بينت الرواية التي وجدناها في مقدمة الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي الفارسي، غير أن ظاهر الروايتين معًا يفيد بأن أهل أصبهان لم يأخذوا كتاب الحماسة مسندًا إلى أبي تمام، وإنما أخذوه كتابًا منسوخًا من نسخة كتبها أبو تمام أو من نسخة نقلت مما خطه بيده على نحو ما سنوضحه فيما بعد.
وفي إدراكي أن هذه النتيجة التي خرجنا بها من هاتين الروايتين تحتاج إلى توجيه،
وذلك لأنني وجدت في مقدمة شرح أبي الرضا الرواندي ما نصه: "قال أبو الرضا فضل الله بن علي أخبرني بكتاب الحماسة الشيخ الإمام بديع الزمان أبو الفضل عبد الرحيم بن أحمد بن محمد البغدادي. رحمة الله عليه - قراءة عليه بأصبهان في رجل سنة تسع عشرة وخمسمائة قال: أخبرني أبو السعادات علي بن بختيار الواسطي قال: حدثنا أبو غالب محمد بن أحمد بن بشران قال: أخبرني علي بن محمد بن دينار عن الحسن بن بشر الآمدي قال ابن بشران وحدثنا به الحسين بن علي بن الوليد قال حدثنا أبو رياش أحمد بن هاشم قالا جميعًا: حدثنا أبو المطرف الأنطاكي أحمد ابن أوس الطائي".
وبجانب هذا الذي ذكره الرواندي نجد أبا الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني يقول في مقدمة شرحه للحماسة: "قرأت هذا الكتاب ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة على الشيخ أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري وقال لي: قرأته على أبي رياش أحمد بن هاشم بن شبل القيسي الربعي رحمه الله بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وقال: أنشدنا أبو المطرف الأنطاكي قال: أنشدنا أبو تمام حبيب ابن أوس الطائي".
ويدعم ما جاء في هاتين الروايتين ما ذكره القطفي في أنباه الرواة: أن القاضي أبا الفرج محمد بن عبد الله بن الحسن البصري اجتمع بواسط سنة ستين وأربعمائة بأبي غالب محمد بن أحمد بن بشران، المتقدم ذكره، وكان بصحبة القاضي أبي الفرج كتب تصلح للقراءة على ابن بشران منها كتاب الحماسة قال القاضي أبو الفرج: فبدأت بقراءته عليه يوم الجمعة رابع عشر جمادي الأولى سنة ستين وأربعمائة وسألته عن إسناده فيها - أي الحماسة - فقال: قرأتها على أبي الحسين علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار عن أبي القاسم الحسن بن بشر الكاتب عن أبي المطرف الأنطاكي. قال: وسمعتها أيضًا عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الوليد النحوي عن أبي رياش أحمد بن أبي هاشم عن أبي المطرف عن أبي تمام.
وبناء على هذه الروايات فإن كتاب الحماسة بجانب النسخة التي حملها أبو العواذل من همذان إلى أصبهان قد أخذه العلماء من طريقين أحدهما أبو رياض الذي رواه عن أبي المطرف عن أبي تمام، والآخر الحسن بن بشر الآمدي الذي رواه أيضًا عن أبي المطرف عن أبي تمام، وهذا يعني أن أبا تمام قد حمل معه من همذان نسخًا من الكتب التي صنعها في بيت أبي الوفاء بن سلمة، وإلا كيف تفسر أن أبا المطرف أخذ عنه كتاب الحماسة ورواه لكل من أبي رياش والآمدى، فنحن لا نستبعد أن يكون أبو الوفاء قد كلف أحد الكتبة بأن ينسخ له ما صنع أبو تمام من. كتب، وهي الكتب التي بقيت في بيته حتى جاء أبو العواذل فنسخها وحملها إلى أصبهان. أما ما صنعه أبو تمام من كتب بخط يده، فأغلب الظن أنه حملها معه حين غادر همذان، ومنه نسخة الحماسة حيث أنشدها أبا المطرف ورواها أبو المطرف بدوره لأبي رياش وللآمدي.
3 -
أبو الحماسة:
لم يكن هم أبي تمام في الحماس أن يكون رواية جامع شعر، وإنما كان شاعرًا يريد أن ينتخب الجيد مما قاله غيره في أغراض الشعر المختلفة، ولهذا جاء صنيعه في الحماسة مختلفًا عمن سبقه من الذين صنعوا اختيارات في الشعر العربي مثل المفضل الضبي، وعبد الملك بن قريب الأصمعي وغيرهما، فهؤلاء كان همهم أن يجمعوا ما قالت العرب من شعر وأن ينتخبوا منه القصائد، دون النظر إلى الأغراض التي اشتملت عليها، وما اختاروه من قصائد يتفق مع ميولهم إلى اللغة وما يتصل بها من دروس، ومن أجل هذا جاء عمل أبي تمام في الحماسة ابتكارًا غير مسبوق، لأنه جعل عماد اختياره أبوابًا بلغت في الاختيار عشرة، كان للحماسة النصيب الأكبر منها، ولذا غلب هذا الغرض على اسم الكتاب، فسمي بكتاب الحماسة، أو ديوان الحماسة. والذي يفهم مما وصل إلينا من المراجع أن أبا تمام هو الذي أطلق عليه هذا
الاسم، حيث نجد الآمدي يذكر في ترجمته للمثلم بن عمرو النتوخي قوله:"أنشد له الطائي في اختياره الذي سماه الحماسة".
ولعل الدافع في هذه التسمية يرجع إلى أن الحماسة أكثر الأبواب قطعًا في الاختيار أو لأنه الغرض الذي جاء أولًا في الاختيار، فحملت بقية الأبواب عليه، وقد ذهب إلى هذا الأستاذ علي النجدي ناصف وناقشه مناقشة مستفيضة مفادها: أن الحماسة جزء عظيم من الكتاب له بين سائر الأجزاء منزلة وشأن، وإنزال جزء الشيء لمزية فيه منزلة كله، وإجراؤه في الحكم مجراه عمل معروف وسنة متبعة" وكذلك الشأن في تسمية الشيء بأوله فهو معروف مقرر مثل تسمية بعض السور بأولها، والكتب والقصائد وغير ذلك.
أما لماذا استحق غرض الحماسة أن يكون أول الأغراض في الاختيار، فهذا في رأينا راجع إلى أن الحماسة أهم غرض دار حوله الشعراء في عصر ما قبل الإسلام، وهو عصر كان له نصيب وافر في اختيار الحماسة. يقول الدكتور شوقي ضيف، وهو يتحدث عن الجاهليين:"ولا نبعد إذا قلنا إن الحماسة أهم موضع استنفد قصائدهم، فقد سعرتهم الحروب وأمدها شعراؤهم بوقود جزل من التغني ببطولاتهم، وأنهم لا يهأبون الموت، يترامون نحوه تحت ظلال السيوف والرماح، مدافعين عن شرف قبائلهم وحماها، ويرتفع هذا الغناء بل هذا الصياح في كل مكان بحيث يخيل إلينا أنه لم يكن هنالك صوت سواه".
هذا في عصر ما قبل الإسلام أما في عصر صدر الإسلام وهو عصر ضم اختيار الحماسة شعرًا لشعرائه، فإنه أيضًا لم يخل من وجود الحماسة فيه، وبخاصة في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه، وما تلاها من فتوحات إسلامية. لهذا كله، ولكون الحماسة - كما قول التبريزي - شجاعة العرب والصفة الأولى من صفاتهم" حمل
الكتاب اسم الحماسة.
وأبواب الحماسة كما أشرنا من قبل عشرة أبواب، هذا ما نجده في ديوان الحماسة وفي الشروح التي وقفنا عليها عدا شرح المرزوقي الذي فصل بين الأضياف والمديح، فجعل كلا منهما بابًا مستقلًا، ولذلك بلغت الأبواب في شرحه أحد عشر بابًا، وأغلب ظننا أن هذا ليس من عمل المرزوقي، وإنما هو من عمل نساخ شرحه، لأن جملة من القطع وردت عنده في باب المديح هي من الأضياف ولا مسوغ لها إذا كان الأضياف والمديح بابًا واحدًا، وكذلك الشأن في باب الأضياف فقد وردت فيه قطع من المديح لا يصلح موضعها إلا في باب المديح. هذا فضلًا عن أن المرزوقي كان يختم كل باب بعبارة تدل على الفراغ منه مثل قوله في نهاية باب الحماسة:"تم باب الحماسة بحمد الله الذي هو ولي الحمد"، وقوله في نهاية باب الرثاء:"تم باب المراثي بسحن توفيق الله وجميل صنعه"، ولم يقل ذلك في باب الأضياف الذي تلاه باب المديح، ولم يكن المرزوقي ليفصل بين البابين وهو يعلم أن القطع متداخلة فيهما، ولا ينوه لذلك في شرحه. على أن الثابت لدى الشراح الذين وقفنا على شروحهم أنهم يسمون هذا الباب بباب الأضياف والمديح، كما هو الحال عند أبي عبد الله النمري في "معاني أبيات الحماسة" أو بباب الأضياف فقط كما ورد عند زيد بن علي الفارسي وغيره. وفي كشف الظنون قال حاجي خليفة - وهو يتحدث عن أبي تمام وكتاب الحماسة -: "وجمع فيه ما اختاره من أشعار العرب العرباء مرتبة على أبواب عشرة: الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومذمة النساء.
ولقد تفاوتت القطع الشعرية في هذه الأبواب فكان أكثر الأبواب قطعًا هو باب الحماسة، وأقلها قطعًا باب الصفات الذي لم يتجاوز الأربع قطع في بعض الروايات، وأغلب الروايات اتفقت على ثلاث قطع فقط.
ولا شك في أن هناك فروقًا في عدد القطع في شروح الشراح، وفي روايات متن الحماسة، ويمكن أن نتبين هذه الفروق من خلال ثلاثة شروح، اثنان منها مطبوعان هما شرح المرزوقي وشرح التبريزي، والثالث الشرح الذي حققناه في الكتاب الثاني من هذه الدراسة، مضافًا إليها رواية أبي رياش للحماسة التي وجدناها في مخطوطة يرجع تاريخها إلى سنة 436 هـ، والجدول الآتي يبين هذه الفروق:
فواضح من خلال هذه الجداول أنه لم يقع اتفاق بين الروايات الأربع إلا في باب السير والنعاس الذي جاء في الروايات جميعًا تسع قطع، كما أن هناك اتفاقًا وقع بين ثلاث روايات هي رواية أبي رياش والمرزوقي وزيد بن علي حيث بلغ باب المراثي عندهم سبعًا وثلاثين ومائة قطعة، وشذ عنهم التبريزي حيث زاد عن الروايات الثلاث قطعتين، وبرز كذلك اتفاق اثنتين من هذه الروايات في باب من الأبواب مثل اتفاق المرزوقي والتبريزي في عدد قطع أبواب الهجاء والصفات والملح، واتفاق المرزوقي وزيد بن علي في قطع باب الحماسة، واتفاق أبي رياض وزيد بن علي في باب الصفات، والتبريزي وأبي رياش في باب مذمة النساء، والمرزوقي وزيد بن علي في الباب نفسه، أما بابا النسيب والأضياف فقد كان الاختلاف واضحًا بين الروايات الأربع، إذ لم تتفق رواية مع أخرى فيهما.
ويمكن إرجاع هذه المفارقات في إيراد القطع وعددها إلى اختلاف نسخ الحماسة التي كانت بين أيدي الشراح، ولقد أشار المرزوقي إلى هذا في أكثر من موضع في شرحه، ففي بيت ابن زيابة الذي يقول فيه:
آليت لا أدفن قتلاكم فدخنوا المرء وسرباله
قال المرزوقي: "هذا البيت لم أجده في نسخ كثيرة، فيغلب ظني أنه ليس من الاختيار".
وفي حماسية حريث بن عناب التي يقول في مطلعها:
رواية زبد بن علي الفارسي
…
رواية التبريزي
…
رواية المرزوقي
…
رواية أبي رياش
…
الأبواب
261
…
257
…
261
…
264
…
الحماسة
51
…
الأدب
136
…
النسيب
76
…
الهجاء
139
…
الأضياف والمديح
4
…
3
…
3
…
4
…
الصفات
9
…
السير والنعاس
33
…
الملح
19
…
مذمة النساء
تعالوا أفاخركم أأعيا وفقعس إلى المجد أدنى أم عشيرة خاتم
أشار المرزوقي إلى رواية أخرى تقول: "أأعيار فقعس" ثم عقب بقوله: "وقد رجعنا إلى نسخ مختلفات المصادر فوجدناها متوافقة في تحملها: أأعيا وفقعس".
ولكن إذا كنا قد ذهبنا إلى أن الاختلاف في عدد القطع بين هذه الروايات نتج عن اختلاف النسخ التي اعتمد عليها الشراح فيجب أن نكون حذرين في أخذ هذا السبب بأن لا نعممه فنجعله سببًا في كل خلل وقع في هذه الأبواب وبخاصة حين نرى قطعًا وضعت في أبواب ليست في موضعها الذي وضعت فيه، وهذا ما نحاول مناقشته فيما يلي:
4 -
وجود قطع في الأبواب ليست منها:
وإذا كان أبو تمام قد صنف اختياره على عشرة أبواب كما أوضحنا، فمن المراعى أن تكون القطع الواردة في كل باب مجانسة له، ولا تخرج من حيزه إلى باب آخر. غير أن ما لاحظناه هذا الشأن أن خللًا ما وقع في بعض هذه الأبواب، إذ روي شعر في بعض الأبواب لا ينبغي أن يكون فيها، وقد ناقش الأستاذ علي النجدي ناصف هذا الجانب فأشار إلى أن أبا تمام "قد أدخل في الحماسة ما لا يبدو أنه منها إلا ببعض الحيلة والتكلف، فقد كان يدخل فيها وفي غيرها ما لا يبدو أنه منها، ولا أعتقد أن الحيلة أو التكلف يمكن أن يجديا عليه في ذلك شيئًا".
ولقد قصد الأستاذ علي النجدي بالحيلة والتكلف ما كان يصنعه بعض الشراح في التعليل لوجود قطعة وردت في باب لا تجانسه، وذلك مثل المرزوقي الذي قال في بيتي معدان بن جواس الواردين في باب الحماسة واللذين يقول فيهما:
إن كان ما بُلغت عني فلامني صديق وشُلت من يدي الأنامل
وكفنت وحدي مُنذرًا بردائه وصادق حوطًا من أعادي قاتل
"ودخل هذان البيتان في الباب لما اشتملا عليه لفظًا ومعنى من الفظاظة والقسوة". وهي في رأينا علة بعيدة إذ ينبغي على هذا أن يدخل كل شعر فيه فظاظة وقسوة في هذا الباب.
ولقد حاول زيد بن علي الفارسي أن يوجد علة لوجود هذين البيتين في الحماسة فلجأ إلى تعليل قد يبدو مقبولًا في مثل هذه الحال قال: "فإن قيل فما في البيتين من الحماسة؟ فالجواب أنه يعتذر عما نسب إليه من النكول في الحرب، وينتقي ذلك منه، وهذا فعل الشجاع". فهي علة تبدو مقبولة، ولكن ظاهر البيتين لا يدل على أنه يعتذر عن النكول في الحرب، فربما كان يعتذر من شيء لا صلة له بهذا الذي ذكره زيد بن علي، ويبدو أن الأمر كذلك، لأن أبا محمد الأعرابي ذكر أن هذين البيتين ليسا لمعدان بن جواس، وإنما لحجية بن المضرب قالهما في الاعتذار إلى النعمان ابن المنذرحين اتهمه الأخير بأنه أنذر تميمًا من غزوة كان النعمان قد أزمع القيام بها ضد بني تميم.
ومثل ذلك ما ذكره المرزوقي في أبيات شبرمة بن الطفيل التي يقول فيها:
ويوم شديد الحر قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
لدن غدوة حتى أروح وصحبتي عُصاة على الناهين شُم المناخر
كأن أباريق الشمول لديهم أوز بأعلى الطف عُوج الحدجر
فقد قال: "وأدخل هذه القطعة في باب النسيب لرقتها ودلالتها على اللهو والخسارة"، وليست هذه بعلة وإنما هو تكلف ظاهر، إذ لو صح مثل هذا القول
لجاز أن يدخل في باب النسيب جل الشعر الذي قاله الشعراء في الخمر.
وإذا كان بعض الشراح وفي مقدمتهم المرزوقي قد حاولوا أن يوجدوا مبررات متكلفة لوجود بعض القطع في غير موضعها فإنهم أيضًا قد نهبوا إلى أن بعضها في غير موضعه دون أن يحاولوا إيجاد المبرر لوجودها، وهو أمر يضع عمل أبي تمام في موضع النقص، فالمرزوقي مثلًا علق على القطعتين الأخيرتين من باب مذمة النساء بقوله في ختام شرحه:"وهذه المقطوعة وما قبلها باب الصفات أولى بهما فاتفق وقوعهما هنا".
وأمين الدين الطبرسي وقف عند أبيات سنان بن الفجل الطائي التي يقول فيها:
وقالوا قد جننت فقلت كلا وربي ما جُننت ولا انتشيت
ولكني ظُلمت فكدت أبكي من الظلم المُبين أو بكيت
وعقب عليها بقوله: "قد عيب علي أبي تمام إيراده مثل هذه الأبيات في باب الحماسة، والبكاء على الظلم ضعف وعجز، والوجه فيه أن بكاءه كان لمطالبتهم ما ليس لهم ولا سبيل له على الاعتساف والمغالبة فعل أهل الجاهلية إذ لا يراقب دين ولا يرهب سلطان".
ولقد حاول الأستاذ عبد العزيز الميمني الدفاع عن أبي تمام حين رأى المرزوقي وإضرابه ينبهون على الخلل الذي وقع في الاختيار في هذا الجانب فقال: عندي أن أبا تمام غير مسؤول عن هذا النقص لسببين: الأول أن أبا تمام أقدر على تصنيف الشعر بحسب معانيه فيضع شعر المدح في باب المدح وشعر النسيب في باب النسيب وهكذا، وليس الأمر على هذا نحو ما ذهب إليه المرزوقي في تعليل ما جاء من إخلال في التبويب، والآخر أن الحماسة أصبحت مع الزمن قبل أن تصل إلى المرزوقي نسخًا عدة فقد ذكر أنه عند شرحها كان يرجع إلى نسخ مختلفات المصادر، وهذا التعدد
يقف وراء اختلاف المرزوقي والتبريزي في روايتها وعدد أبياتها، وفي ترتيب المختارات فيها وترتيب الأبيات في بعضها"
وفي إدراكي أننا يمكن أن نرجع اختلاف عدد القطع وترتيبها في الباب الواحد، وعدد الأبيات في القطعة الواحدة، بل وترتيبها أيضًا إلى اختلاف نسخ الحماسة المتداولة بين الناس في ذلك الزمن، أما أن نرجع وجود قطعة في غير موضعها لهذا السبب فهذا ما ينبغي أن نحذره، وذلك لأننا قد نجد اتفاقًا يقع بين روايتين فأكثر في عدد القطع أو في الترتيب أو في عدد الأبيات وترتيبها، ولكننا - وبوقوفنا على شروح عدة وفي عصور مختلفة - لم نجد قطعة واحدة من القطع التي رويت في غير موضعها من الأبواب قد رويت في شرح واحد من الشروح التي وقفنا عليها في موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه، وهذا وحده هو الذي يجعلنا لا ننفي مسؤولية ذلك عن أبي تمام، ونحن لا نشكك في أن أبا تمام أقدر على تصنيف الشعر بحسب معانيه، ولكنه كان رائدًا في هذا المجال، فلم يسبقه أحد في هذه الصنيع، ومعلوم أن أي عمل يكون رائدًا في باب لا يخلو من فوات، والنظائر في هذا متعددة، فالخليل بن أحمد مثلًا كان رائدًا في عمله الذي صنعه في كتاب العين، وريادته هذه جعلته يقع في فوات يتمثل في أنه رأى أن حرف العين هو أقصى حرف يخرج من الحلق، فجاء من بعده من نبه إلى أن الهمزة لا العين هي التي تخرج من أقصى الحلق، ولم يعب ذلك الخليل ولا كتاب العين في أنه مجهود لعالم قدم ما رآه صحيحًا في مجال العلم.
ولعل أصدق ما يقال في هذه الخصوص هو ما قاله الأستاذ علي النجدي ناصف: "إن فنون الشعر لذلك العهد لم تكن قد حددت تحديدًا دقيقًا واضحًا يرتضيه جمهور الأدباء، ويتفقون فيه على رأي جميع، فتصرف أبو تمام فيها دون حكمة ظاهرة ولا سبب معلوم إلا ملاحظة الفروق اليسيرة والتزام على مقتضاها في التقسيم والتصنيف".
على أنه إن كان ثمة تعليل يمكن أن نعلل به وجود قطع في غير موضعها فهو ما وجدناه في الشرح المرجح نسبته لزيد بن علي، وذلك حين علق على بيتي بكير بن الأخنس اللذين وردا في باب الحماسة وهما:
نزلت على آل المُهلب شاتيًا غريبًا عن الأوطان في زمن محل
فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم وألطافهم حتى حسبتهم أهلي
قال: "ليس في هذين البيتين ذكر الحماسة إلا أن الأبيات قبلهما اشتملت على الحماسة وإكرام الجار، فأورد أبو تمام هذين البيتين لأنهما في مبالغة إكرام الجار".
فكأنه بهذا القول يقرر مبدأ المشاكلة والنظير الذي يأخذ به أبو تمام في اختيار القطع داخل الباب الواحد، ولقد رأينا أمثلة متعددة تدل على هذا المبدأ وتؤكده، من ذلك ما جاء في الحماسية رقم (37) فقد أورد أبو تمام أبياتًا ثلاثة للحارث بن هشام المخزومي قالها في يوم بدر، يوم ترك أخاه أبا جهل وغيره من سادة قريش يقتلون ولاذ بالفرار وقال:
الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مُزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحدًا اقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة بينهم طمعًا لهم بعقاب يوم سرمد
فواضح أنه وإن فر وترك أحباءه يقتلون، فإن البيت الثالث يدل على حرصه على أخذ الثأر لهم، وهذا فعل الشجاع العاقل الذي يفر ليكر، ومن هنا دخلت الأبيات في باب الحماسة، ولكن أبا تمام روى بعد هذه القطعة قطعة للفرار السلمي ليس فيها هذا الذي لحظناه في أبيات الحارث بن هشام، وإنما فيها أنه قد أثار الحرب بين الكتائب حتى إذا ما اشتعلت الحرب، وبدأت الرماح تنال من ظهور قومه تركهم وفر وعلم أنه لن ينفعه نوح نساء الحي عليه بقولهن لا تبعد. يقول الفرار:
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فتركتهم تقص الرمح ظهورهم من بين منعفر وآخر مُسند
ما كان ينفعني مقال نسائهم وقتلت خلف رجالهم: لا تبعد
فلولا مشاكلة هذه الأبيات لما قبلها في طرف من معانيها لما حُق لها أن تروي في هذا الباب.
وكذلك روى أبو تمام في باب الحماسة أبيات عمرو بن شأس المشهورة في كتب الأدب التي قالها في ابنه عرار، يحث زوجه علي أن ترفق به، ويهددها بالمفارقة إن لم تحسن معاملته، وهي الأبيات التي جاء في مطلعها:
أرادت عرارًا بالهوان ومن يُرد عرارًا لعمري بالهوان فقد ظلم
وهي أبيات نلمس فيها شيئًا من الشجاعة في القول لأن عمرو بن شأس رأى في معاملة زوجه لابنه ظلمًا، وهو يريد بهذه الأبيات أن يرفع الظلم عن ابنه، والوقوف في وجه الظلم أيًا كان مصدره يعد ضربًا من الشجاعة، ومن هنا كان وجود الأبيات في باب الحماسة، غير أن أبا تمام أردف قطعة عمرو بن شأس هذه بقطعتين أخريين ليستا من الحماسة في شيء سوى مشاكلتهما لقطعة عمرو بن شأس في بعض معانيها، الأولى منهما لإسحاق بن خلف يقول في مطلعها:
لولا أميمية لم أجزع من العدم ولم أُقاس الدجى في حندس الظلم
وهي تمثل عاطفة أب رحيم على ابنته يخشى عليها الضياع والذلة من بعده، والثانية لخطاب بن المعلى ذات ثلاثة أبيات يقول فيها:
لولا بنيات كزغب القطا رُددن من بعض إلى بعض
لكان لي مُضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
فواضح أن هذه الأبيات لا علاقة لها بباب الحماسة إلا من جهة أنها شاكلت أبيات إسحاق بن خلف وأبيات عمرو بن شأس في البرد بالولد والشفقة عليه.
ويمكن أن تلحظ في الحماسيات 253، 254، 255 في رواية المرزوقي،
فالحماسية 253، وهي لمعبد بن علقمة يقول في مطلعها:
غُيبت عن قتل الحُتات وليتني شهدت حتاتًا يوم ضرج بالدم
وهي لا تخلو من حماسة، ولكنها اشتملت في معانيها على العقوق الذي ينشأ بين العشائر حين يدب الفساد بينها، ويقع الشر ليخلف الإحن والعداوات، ولهذا أردفها أبو تمام بأبيات أمية بن أبي الصلت التي يصور فيها عقوق أحد أبنائه ويقول في مطلعها:
غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا تُعل بما أدني إليك وتُنهل
وهي أبيات بقراءتنا لها لا نجد فيها أثرًا للحماسة، ولكنه أوردها لمشاكلتها أبيات معبد بن علقمة في العقوق، ولم يكتف بذلك بل أورد قطعة ثالثة لأم ثواب الهزانية تشكو فيها عقوق ابن لها وتقول في مطلعها:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه أم الطعام ترى في جلده زغبا
ولا شك في أن مشاكلتها لأبيات أمية بن أبي الصلت هي التي أوردتها في هذا الباب، وقد تنبه الإمام المرزوقي إلى هذا حين عقب على قطعة أمية بن أبي الصلت مشيرًا إلى أبيات أم ثواب بعدها بقوله:"فإن قيل بماذا دخل هذه الأبيات وما يتلوها - وهو في معناها - في باب الحماسة قلت: دخل فيه بالمشاكلة التي بينها وبين ما تقدمها من الأبيات المنبئة عن المفاسدة بين العشائر، وما يتولد فيها من الإحن والضغائن المُنسية للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبيحة لسفك الدماء وقطع العصم، إذ كان عقوق البنين للآباء وتناسي الحرم فيه مثل ذلك، وهو ظاهر بين".
وجملة القول في هذه القضية أن الخلل الذي وقع في أبواب اختيار الحماسة برواية بعض الشعر في باب لا يدخل في حده نتج في رأينا عن أمرين: أحدهما أن أغراض الشعر لم تكن قد تبلورت بعد في عصر أبي تمام بالصورة التي نراها اليوم. وأدل دليل على ذلك أن البحتري تلميذ أبي تمام قد بلغ بها أربعة وسبعين ومائة باب
في حماسته التي تنسب إليه، والتي قيل إنه جاري فيها أستاذه، فهذا وحده يدل على مدى الاضطراب البالغ في ذلك الزمن في رسم حدود الأغراض التي دار فيها الشعر العربي، والآخر ما بيناه بالأمثلة السابقة أن أبا تمام كان يراعي في الباب الواحد مشاكلة القطع في بعض المعاني وإن خرجت عن الحد الذي يقوم عليه الباب.
د- مقياس أبي تمام في اختيار الحماسة:
اختلف مقياس أبي تمام في اختيار الشعر في ديوان الحماسة عن الذين سبقوه في هذا السبيل أو الذين جاءوا بعده، فالذي ينظر في المفضليات والأصمعيات وجمهرة أشعار العرب يجد أن المقياس الذي اتبعه أصحاب هذه الاختيارات كان مقياسًا يقوم على الثقافة والعلم بهدف الاطلاع على ما قالت العرب من شعر، وما وقفت عليه من ثقافة ومعرفة باللغة والأيام والعادات والأمثال، والحيوان أليفه وغير أليفه، وطبيعة العيش والمواقع الجغرافية، والمجتمع وما كان فيه من ظواهر تتصل بحياته، والمرأة وما عرف في حياتها من رفاهية يدل عليها لبس الحلي والتزين بالأوشحة والخمر، وتعاطي ألوان الطيب المجلوبة من خارج شبه الجزيرة، وكذلك عاداتهم في الحرب والسلم، وشاراتهم في الحرب، وتمائم الأطفال، واتصالهم بالأمم الأخرى ومظاهر ذلك في وصف قصور الأعاجم وما فيها من تصاوير ورسوم وزخارف، ووصف ما جاءت به البحارة من بلادهم، وكذلك الديانات من يهودية ونصرانية ومعرفتهم بأخبار الأمم البائدة، والكتابة وأنواع أدواتها. كل هذه الألوان الثقافية العلمية دل عليها الشعر الذي اختاره هؤلاء السابقون، وقد يكون للجودة مكان في هذا الذي اختاروه، ولكنها لم تكن وحدها هي المطلب الذي توخوه في اختياراتهم، وهذا ما يفرق بينهم وبين أبي تمام، فأبو تمام لم يتوخ الثقافة والعلم في اختياره بقدر ما اهتم بجودة ما يختار.
وكذلك اختلف مقياس أبي تمام عمن جاء بعده، فالبحتري في الحماسة المنسوبة إليه كان مقياسه في الاختيار مقياسًا أخلاقيًا، وهذا ما جعل الدكتور إحسان عباس يقول عنه: "وغلبت عليه النزعة الأخلاقية، والأبواب التي انتظمت حماسته تؤكد
ذلك وتدل عليه"، ومن ثم فإن حماسته ضمت الجيد وغير الجيد.
والبصيري في حماسته كان مقياسه في اختيارها مقياسًا دينيًا، وتستطيع أن تدرك صدق ذلك بنظرة واحدة في حماسته، ومن أجل هذا المقياس كان مثل البحتري في حماسته، جمع بين الجيد الرديء.
ولا شك بأن اختيار الجيد عند أبي تمام يقوم على مقياس جمالي فني، وهو الذي يجعله يختار من القصيدة الواحدة بعضًا ويترك بعضها الآخر، ولكن ما طبيعة هذا المقياس الجمالي الفني.؟
إنه مقياس يقوم على الأساس الذي حدده علماء الشعر في ذلك الزمن للجيد من الشعر، وهو أساس يمكن أن نجده عند الجاحظ في قوله عن رواه الشعر "ورأيت عامتهم - فقد طالت مشاهدتي لهم - لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور غمرتها، وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني، ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى السنه حذاق الشعراء اظهر".
وهذا الذي عرضه الجاحظ مجملًا لا يختلف كثيرًا عما ذكره الإمام المرزوقي في نظرية عمود الشعر التي طرحها في مقدمة شرحه للحماسة، ولكنه كان أكثر تفصيلًا وتقنينًا من الجاحظ حيث حدد سبعة أبواب هي قوام عمود الشعر عنده وهي: شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار
منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينها.
وإذا كان أبو تمام قد توخى الجيد مما قالت العرب فإن الغلبة الغالبة من اختياره لم تخرج عن مفهوم الجيد من الشعر الذي طرحه كل من الجاحظ والمرزوقي فيما سبق، ولكنه برغم ذلك لم يسلم من انتقاد.
وكان من أوائل المنتقدين له أبو الفضل ابن العميد حين تعجب من إيراد أبي تمام بيت الربيع بن زياد الذي يقول فيه:
من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
ورأى في قوله: "فليأت نسوتنا" لفظة شنيعة.
وانتقده كذلك في إيراده قول عروة بن الورد:
قُلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عند ماوان رزح
تناولوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم إلى مُستراح من حمام مُبرح
وتعجب كيف جمع بين كنيف ومستراح في بيتين.
وفي إدراكنا أن هذا يرجع إلى حرص أبي تمام على الرواية التي أمامه، ولا أظنه لم يدرك أن في قول الربيع:"فليأت نسوتنا" من الإيحاء ما يدل على الشناعة، ولكن الربيع أراد المعنى الظاهر من العبارة لا المعنى الموحى منها، وأحسب أن أبا تمام ما نظر إلا هذا عندما أثبت البيت في اختياره، وما كان ليغير على الشاعر قوله. أما بيتا عروة فمدلول لفظة "كنيف" هو الحظيرة من الشجر، ومدلول لفظة "مستراح" هو الراحة، غير أن الكلمتين قد صار لهما مدلول آخر عند أهل الحضر، وشاعر كأبي تمام كان يعيش بين الأمراء والوزراء والكتاب لم يغب عن باله هذا المدلول الحضري لكلتا اللفظتين، ولكن إدراكه لهذا المدلول الشعري ما كان يبيح له أن يغير في قول
الشاعر، والكلمة لا تكون شنيعة إلا بالمعنى الذي أراده الشاعر، ومراد عروة من استخدامه للفظتي كنيف ومستراح لا يدل على شناعة وقبح إلا إذا نظرنا إلى معناها الحضري، ومن ثم لا يضير أبا تمام أن يضمن البيتين اختياره، ما داما لم يخرجا عن حيز المقياس الجمالي الفني الذي بنى عليه اختياره. وعروة قبل كل شيء شاعر بدوي يستخدم اللغة على سجيته ووفق البيئة الت يعيشها. وإذا أخذنا على أبي تمام ما اختاره من شعر جاءت لغته على سجية قائله ووفق بيئته البدوية، فمعنى هذا أننا نطلب من الشاعر عروة قبل أبي تمام أن يراعي مفاهيم أهل الحضر في لغته الشعرية، وهذا أمر متهافت لا يقوم على شيء.
وغير ابن العميد نجد ضياء الدين بن الأثير يأخذ على أبي تمام مآخذ، وذلك حين قال:"ولعمري إن الحماسة لدليل على أن أبا تمام كان عارفًا بأسرار الألفاظ والمعاني، إلا أن فيها مواضع يسيرة لا أرضاها، وأكثرها في باب الهجاء"، ثم مضى فأورد الألفاظ التي أخذها على الاختيار، منها كلمتا "زبونات" و "تيحان" الواردتان في بيت سوار بن المضرب وهو:
بذبي الذم عن حسبي بمالي وزبونات أشوس تيحان
وعلق عليهما بقوله: "فإن زبونات وتيحان لو وقعا في الفرات لصار ملحًا أجاجًا". وكذلك أخذ على الاختيار لفظة "جحيشًا" الواردة في بيت تأبط شرًا. القائل:
يظل بموماة ويُمسي بغيرها جحيشًا ويعروري ظهور المسالك
كما أخذ على الاختيار عبارة "على لحيتي" الواردة في بيت ابن هرم الكلابي الذي يقول فيه:
فإن ذُكرت فاضت لعيني عبرة على لحيتي نثر الجُمان من العقد
ومضى ابن الأثير يعدد مآخذه على الأبيات المختارة في الحماسة حتى بلغ بها نحو
خمسمائة بيت أغلبها في الهجاء، رأى نفيها من الحماسة ضروريًا، وحجته في ذلك أن هذه الأبيات ليست من الأبيات التي لا يتم المعنى فيها إلا بها، فيضطر حينئذ غلى إبداعها في جملة اختياره".
ومع وجاهة ما ذهب إليه ابن الأثير فإننا نرى أن جل مآخذه على أبي تمام جاءت في باب الهجاء، ومن هنا يمكن القول بأن طبيعة الباب ربما فرضت على أبي تمام أن يخرج عن الحيز الذي رسمه لمقياس الجودة عنده، كما أن بعض الأبيات التي رأى ابن الأثير نفيها هي في واقع الأمر متصلة بأبيات غيرها جيدة مثل بيت سوار بن المضرب السابق ذكره فإنه متصل بما قبله إذا نفي لزم أن ينفي البيت الذي يسبقه، هذا فضلًا عما قلناه سابقًا أن أبا تمام كان رائدًا في عمله هذا، وكل رائد لا يسلم من نقص أو فوات، وهذا ما أكده ابن الأثير نفسه حين قال بعدما عرض من مآخذ على أبي تمام:"وعلى ما ذكرته من أن في الحماسة مواضع غير مختارة، فإن أبا تمام هو إمام الناس شعرًا ومعرفة بالشعر، وإن شذ عنه شاذة في الاختيار الذي اختاره، فمن الذي يسلم من ذلك".
وإذا كان بعض القدماء قد أخذوا على أبي تمام بعض المآخذ في اختيار الحماسة فإن بعض المعاصرين قد سلك السبيل نفسه، فالأستاذ على النجدي ناصف أخذ عليه أنه "أسقط الاعتذار من الفنون التي اختار لها ولم يذكره، ولم يختر له مفردًا ولا مع غيره، كما صنع لسائر الفنون، وليست أعرف لإسقاطه وجهًا، فهو فن كريم من القول، جد لا هزل فيه ولا عبث، يتصل في الباعث عليه، والقول فيه بطبيعة الحياة وأدب السلوك".
وأخذ أيضًا عليه ما اختاره في باب الملح، وتمنى لو أنه طرح هذا الباب وجاء بالاعتذار بدلًا منه، وحجته في هذا كما وضح في السابق أن الاعتذار فن كريم من
القول وأن الملح فيها كثير من الخنا والتصريح بالعوراء، والإسفاف في الفكرة والتفه في الموضوع".
ويقيني أن هذه المآخذ كانت تصح لو أن مقياس أبي تمام كان مقياسًا أخلاقيًا، وأما وقد كان مقياسه جماليًا فنيًا فلا وجه حينئذ للمفاضلة بين باب الاعتذار والملح، أضف إلى ذلك أن الاعتذار قد ارتبط منذ الجاهلية عند نابغة بني ذبيان بالمديح، فلعل ارتباطه بالمديح هو الذي دفع أبا تام إلى إسقاطه وبخاصة حين نراه قد عنى بالمديح عناية تامة تغني عن اختيار قطع من الاعتذار يمتزج فيها الفنان معًا كما امتزج الأضياف بالمديح، ولو فعل أبو تمام هذا لنجم شيء من الازدواج في الاختيار يؤدي إلى خلل أو تكرار في معاني البابين.
ومهما أخذ على أبي تمام في اختياره فإنه بحق كان منصفًا في الحماسة، وإنصافه إنما يتمثل في أنه خالف طريقته في الشعر التي أخذها على نفسه، وهذا ما أكده الدكتور إحسان عباس حين قال:"من يقارن بين هذه المختارات التي تضمنتها دفتاديوان الحماسة وبين أشعار أبي تمام التي نظمها بنفسه يستطيع أن يلاحظ أنه استطاع أن يتجاوز طريقته الشعرية، وما تميزت به من طلب للصور ومن إغراب في توليد المعاني واستغلال الذكاء الواعي إلى شعر يتميز بالبساطة وشيء غير قليل من العفوية، والصدق العاطفي المباشر، وهو في اختياراته هذه يعتمد على ذوقه الخاص، وبذلك كان البون بعيدًا حقًا بين اختيار أبي تمام في حماسته وبين طريقته الشعرية".
وهذا الذي قال به الدكتور إحسان عباس قد نوه له الإمام المرزوقي في مقدمة شرحه للحماسة حين ذكر "أن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير ويقول ما يقول من الشعر بشهوته، والفرق بين ما يشتهي وبين ما يستجاد ظاهر بدلالة أن العارف بالبز قد يشتهي لبس ما لا يستجيده، ويستجيد مالا يشتهي لبسه".
وثمة أمر آخر ينبغي ملاحظته - ونحن نتحدث عن مقياس الجودة عند أبي تمام، وما أخذ عليه فيه أو سجل له فيه من إنصاف - وهو أن الشعر العربي قد ضم بين طياته المستنكر الوحشي والمبتذل العامي، وإذا كنا قد قلنا إن أبا تمام كان منصفًا في اختياره فإنه بجانب هذا الإنصاف قد تجنب هذين اللونين في اختياره إلا في الشاذ النادر الذي لا يعول عليه. وقد وضح الإمام الباقلاني هذا حين أفاد بأن الأعدل في الاختيار الشعري "ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب الحماسة وما اختاره من الوحشيات، وذلك أنه تنكب المستنكر الوحشي، والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة، وهذه طريقة من ينصف في الاختيار".
وصفوة القول في هذا الجانب أن مقياس أبي تمام في اختيار الحماسة كان مقياسًا جماليًا فنيًا، وأن هذا المقياس قد ساد القطع الشعرية التي اختارها إلا في أبيات أخذ عليه بعض العلماء خروجها عن مقياس الجودة، وأنه كان منصفًا في اختياره هذا لأنه خالف فيه طريقته في الشعر، بل حقق في هذا الاختيار نفي الوحشي المستنكر والمبتذل العامي إلا في ألفاظ قليلة تعد شاذة لا حكم لها إذا ما نظرنا إلى الكل الذي انتظم تمامًا تحت مقياسه.
6 -
في شعراء الحماسة:
اهتم أبو تمام في اختياره بالشعراء المقلين والشعراء المجهولين، وغايته من هذا واضحة، هي أن الشعراء المكثرين أو المعروفين قد تداول الناس دواوينهم قبل عصره، واهتمت بهم كتب الاختيارات التي سبقته مثل اختيار القصائد السبع الطوال ودواوين القبائل وغيرها، وربما كان أبو تمام متأثرًا في اتجاهه هذا بما طلبه أبو جعفر المنصور من المفضل الضبي في تأديب ابنه المهدي حين قال له:"لو عمدت إلى أشعار المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا" فعمل المفضل بنصيحة أبي جعفر فكانت المفضليات.
غير أن أبا تمام وإن كان مسبوقًا في الاختيار من شعر المقلين فإنه قد تجاوز ذلك إلى الشعراء المجهولين، فاختار لهم قطعًا وافرة في الحماسة، وهذا ما جعل للحماسة قيمة دون غيرها من الاختيارات فلولاها لا وقف الدارسون والعلماء على شعر هؤلاء المجهولين.
ومن الواضح لدى دراسي الحماسة أن أبا تمام قد اختار لشعراء من عصر ما قبل الإسلام، وشعراء مخضرمين، وشعراء من عصر بين أمية، وعصر بني العباس، غير أن الكثرة الكاثرة جاءت لشعراء ما قبل الإسلام وبعده، ومن هذا كانت أهمية الحماسة لدى علماء اللغة الذين توخوا في أعمالهم شعر عهود الاحتجاج. ولكننا إذا كنا قد لاحظنا اهتمام أبي تمام بالشعراء المقلين والمجهولين فإن اختياره لم يخل من شعراء بارزين، فمن شعراء عصر ما قبل الإسلام اختار أبو تمام للنابغة الذبياني وعنتره بارزين، فمن شعراء عصر ما قبل الإسلام اختار أبو تمام للنابغة الذبياني وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم، وهؤلاء الأربعة من أصحاب القصائد الطوال إذا جمعنا بين روايتي حماد الرواية والمفضل الضبي لهذه القصائد. وبجانب هؤلاء اهمت أبو تمام بنفر من الشعراء الصعاليك مثل الشنفرى وتابط شرًا وعروة بن الورد. أما البارزون من الشعراء المخضرمين الذين اختار لهم فيأتي على رأسهم لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت، والنابغة الجعدي، والشماخ بن ضرار، وربيعة بن مقروم، وعبدة بن الطبيب، ومتمم بن نويرة، والخنساء بنت عمرو بن الشريد.
واشتمل أيضًا اختياره على شعراء بارزين من عصر بن أمية يتقدمهم الشاعران الكبيران الفرزدق وجرير، ويليهما ذو الرمة وعمر بن أبي ربيعة، وجميل بن
معمر، وكثير بن عبد الرحمن، وأعشى ربيعة، والكميت بن زيد الأسدى. أما عصر بني العباس فكان أبرز شعرائه في اختيار الحماسة صريع الغواني مسلم بن الوليد، ودعبل الخزاعي، وأبو العتاهية، ومطيع بن إياس، والحسين بن مطير الأسدي.
ولاحظ الدارسون في الحماسة اهتمام أبي تمام بجماعة من شعراء طيئ، والقبيلة التي ينتمي إليها، قال عبد السلام هارون:"وعني عناية خاصة بشعراء طيئ، فكان قسطهم في اختياره قسطًا كبيرًا".
وعلل الأستاذ علي النجدي ناصف لعناية ابي تمام برواية شعر قبيلته بقوله: "ولا على أبي تمام أن يبر شعراء قومه، ويفي لهم، وينشر شعرهم، ويختار منه ما دام حقيقًا بالنشر والاختيار، فيه حينئذ داعيان الجودة والقومية، وفي شعر الآخرين من غير قومه داع واحد هو الجودة لا غير".
والحق أن الذي ينظر في الشعر الذي اختاره أبو تمام لشعراء طيئ يجد أنه حري بالاختيار بل إن فيه ما يبلغ الدرجة العليا من بليغ القول وبديعه بحيث يمكن القول فيه بأن بعضه أبلغ ما ضمت بعض الأبواب، ومن هذا لا تبدو عصبية في هذا الاختيار، فالجودة ظاهرة فيما اختاره من شعر طيئ كما أنه إذا كان قد اهتم بالمجهولين من شعراء قبيلته فإن المجهولين من غير طيء قد كان لهم وجود في الاختيار.
وثمة قضية عرضها المرزباني في كتابه الموشح تتمثل في أن أبا تمام باهتمامه بالمجهولين والمقلين قد توخي طي أكثر إحسان الشعراء لأنه سرق بعض ذلك فطوى ذكره، وجعل بعضه عدة يرجع إليها في وقت حاجته، ورجاء أن يترك أهل المذاكرة أصول أشعارهم على وجوهها ويقنعوا باختياره لهم فتغبى عليهم سرقاته.
وهذا الكلام باطل من وجهين أحدهما: أن الحماسة اشتملت على كثير من المعاني
التي استمد منها أبو تمام جملة من معاني شعره، فلو كان في ذهنه - وهو يصنع الحماسة - أن يخفي الأشعار التي أخذ معانيه منها لكان الأولى أن يخفي هذه الأشعار التي جاءت في الحماسة دالة على أنه أفاد منها في معانيه، والوجه الآخر أن أبا تمام ليس وحده الذي يمتلك أشعار المحسنين حتى يحجبها عن الناس بقصد إخفاء اخذه منها، أو بقصد الإفادة منها عند الحاجة في تأليف الشعر، فداواوين الشعراء المحسنين والاختيارات من شعرهم كانت قد انتشرت بين أيدي الناس، وصحيح أن العلماء وطالبي الأدب قد اهتموا بالحماسة ولكن اهتمامهم هذا لم يصرفهم عن الاهتمام بغيرها من كتب الاختيارات أو الدواوين، ومن ثم تبدو هذه الدعوى متهافتة لا تستند على شيء يعول عليه سوى النيل من الرجل في أمر لم يخطر بباله قط.
7 -
في دعوى تغيير أبي تمام لنصوص الحماسة:
وفي رأينا أن أهم قضية أثيرت حول ديوان الحماسة هي الدعوى التي قامت دالة على أن أبا تمام كان يغير في الشعر الذي يورده في الحماسة، ويترتب على هذه الدعوى حكم على الحماسة بأنها لا تصلح أن تكون مصدرًا من مصادر الشعر العربي الفصيح، لأن أبا تمام يعد من الشعراء المحدثين، ولا يدخل في عهود الاحتجاج، وإذا كان قد غير في نصوص الحماسة فإن عمله هذا يلقى عليها ظلالًا من الحداثة تحجبها عن أن تكون مصدرًا من مصادر القول الفصيح، ولكن ما حقيقة هذه الدعوى، وما مدى صدق هذا الحكم المرتب عليها، وما مواقف الباحثين قدماء ومعاصرين منها، فلعلنا من مناقشة ذلك كله نخرج برأي واضح يضيف شيئًا في هذه القضية.
أن أول من وقفنا على كلامه في دعوى التغيير هو ابن العميد المتوفي سنة 360 هـ، فقد ذكر المرزوقي عند مرثية الربيع بن زياد في مالك بن زهير العبسي، وفي شرح بيت الربيع القائل:
بيت الربيع القائل:
من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت ساحتنا بوجه نهار
قال: يروى "فليأت نسوتنا" ورأيت الأستاذ الرئيس أبا الفضل ابن العميد يقول: "أني لأتعجب من أبي تمام مع تكلفه رم جوانب ما يختاره من الأبيات، وغسله من درن بشع الألفاظ كيف ترك تأمل قوله: "فليأت نسوتنا" وهذه لفظة شنيعة".
وواضح من هذا النص أن المرزوقي كان يكبر ابن العميد ويأخذ أقواله مأخذ التسليم، ولذا نراه يتبنى هذا القول في شرحه دون شراح الحماسة الآخرين فيذكر في مقدمته أن أبا تمام "ينتهي إلى البيت الجيد فيه لفظة تشينه فيجبر نقيصته من عنده، ويبدل الكلمة بأختها في نقده، وهذا بين لمن رجع إلى دواوينهم فقابل ما في اختياره بها".
وقال في حماسية تأبط شرًا عند البيت القائل:
فأبت إلى فهم ولم أك آئبًا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
اختار بعضهم (ابن جنى) فأبت إلى فهم وما كدت آبيًا "وقال: كذا وجدته في أصل شعره
…
ولا أدري لم اختار هذه الرواية الأن فيها ما هو مرفوض في الاستعمال شاذ أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر قاله في الأصل، وكلاهما لا يوجب الاختيار، على أني قد نظرت فوجدت أبا تمام قد غير كثيرًا من ألفاظ البيوت التي اشتمل عليها هذا الكتاب، ولعله لو أنشر الله الشعراء الذين قالوها لتبعوه وسلموا له".
هذا ما وصل إلينا من القدماء في هذه القضية، وقبل أن نسجل مناقشتنا ومناقشة غيرنا لهذه الأقوال نود أن نسجل هنا ملحظًا مهمًا هو أن ابن العميد والمرزوقي انفردًا من بين العلماء والنقاد بهذه الدعوى، فالكثيرون ممن اتصل بأبي تمام في حياته وبعد موته لم يذكروا هذه الدعوى بل لم يشيروا إليها مجرد إشارة، فنحن لا نجدها عند
أنصاره المتعصبين له كأبي بكر الصولي مثلًا، ولا عند خصومه أو من جعل نفسه حكمًا في الخصومة التي نشبت يبن مدرسته ومدرسة البحتري كالآمدي، بل إن الشراح - غير المرزوقي - الذين وقفنا على شروحهم لم يشيروا إلى هذه الدعوى من قريب أو بعيد، فالتبريزي الذي كان عالة على المرزوقي في جل شرحه لم نجده يسجل أقواله المتقدمة بما يفيد أنه يذهب معه في هذا الاتجاه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نسجل أول ما نسجل أن كلا من ابن العميد والمرزوقي لم يأتيا لنا بمثال واحد يؤكد أن أبا تمام كان يغير في النصوص بما يخالف دواوين الشعراء الذين اختار لهم، والمثال الوحيد الذي أورده المرزوقي هو بيت تأبط شرًا:
فأبت إلى فهم ولم أك آئبًا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
فقد أورد أن ابن جني قال في روايته "وما كدت آبيا" وقال: كذا وجدته في أصل شعره، ولكننا لاحظنا أن المرزوقي يعترض على ذلك ويقول:"ولا أدري لم اختار هذه الرواية الأن فيها ما هو مرفوض في الاستعمال شاذ أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر قاله في الأصل وكلاهما لا يوجب الاختيار" فقوله: "لم اختار هذه الرواية" يدل على أن للبيت روايتين أو أكثر إحداهما رواية الحماسة، والأخرى الرواية التي أثبتها ابن جني، وقوله:"غلب في نفسه أن الشاعر قاله في الأصل" يدل على أنه متشكك في أن يكون تأبط شرًا قد قال البيت كما رواه ابن جني.
وأما ابن العميد فإننا نراه يتعجب من كون أبي تمام يتكلف رم جوانب ما يختاره من الأبيات وغسله من درن بشع الألفاظ، ويتركن ألفاظًا بشعة في الحماسة، ولكنه لم يأت لنا بمثال يبين لنا فيه كيف كان أبو تمام يغسل درن بشع الألفاظ بالتغيير بل هو يورد نقيص ذلك، ويثبت أن أبا تمام كان يترك الألفاظ البشعة كما هي دون أن يحدث فيها تغييرًا، فلقد أخذ عليه أنه ترك تأمل قول الربيع بن زياد "فليأت نسوتنا" وهي في رأيه لفظة شنيعة، وكذلك أخذ عليه ذلك في لفظتي "كنيف" و"مستراح" الواردتين في بيتين لعروة بن الورد، وقد مر بنا ذكرهما من قبل.
والذي ينظر إلى الأمر يجد أن ما ذكره ابن العميد حجة عليه لا له، بل هو دليل على أن أبا تمام كان يروي الشعر كما يجده، ولا يحدث فيه تغييرًا من عنده.
وليس من دليل لما أورده المرزوقي من أقوال سوى قوله: "وهذا بين لمن رجع إلى دواوينهم فقابل ما في اختياره بها" وهو دليل فيه نظر وقابل للمناقشة. وقد تصدى له الأستاذ علي النجدي ناصف حين قال: "فإن لم تكن له بينة غيرها فلا أراها كافية ولا قاطعة لأن الخلاف في الرواية شائع مألوف، وقلما يكون نص رواية واحدة في كل أصل، فلم لا يكون الخلاف الذي يتحدث عنه المرزوقي من اختلاف الرواية لا من تغيير أبي تمام، وهل الوجه الذي يدون عليه النص في ديوان الشاعر إلا رواية لها ما للروايات وعليها ما عليها".
ونضيف إلى هذا الذي ذكره الأستاذ النجدي رحمه الله أننا لو سلمنا بالزعم الذي قال به المرزوقي للزم أن نسلم بأمرين أحدهما أن دواوين الشعراء التي كانت في أيدي الناس في عهد المرزوقي كانت ذات رواية واحدة بغض النظر عن بعد المسافات واختلاف الأزمان، ومن ثم تكون دواوين الشعراء وأشعار القبائل التي كانت عند آل سلمة وانتخب منها أبو تمام الحماسة ذات رواية واحدة. ولا تختلف في روايتها عما كان في أيدي الناس في ذلك الزمن وما تلاه حتى عهد المرزوقي، وهذا أمر يتعذر القول به، وبعيد عن الواقع الذي نلمسه في دواوين الشعراء من اختلاف في الرواية عند مضاهاتها بمصادر وردت إلينا من عهود سبقت أبا تمام أو كانت بعده، مثل طبقات الشعراء لابن سلام، والبيان والتبيين والحيوان للجاحظ، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والأغاني لأبي الفرج، والمؤتلف والمختلف للآمدي، ومعجم الشعراء للمرزباني، وهؤلاء جميعًا إنما كانوا يعتمدون في كتبهم على مصادر قوامها دواوين الشعراء ودواوين القبائل، الأمر الذي يؤكد اختلاف الروايات في الدواوين التي اعتمد عليها أصحاب هذه الكتب.
أما الأمر الثاني الذي يلزم التسليم به فهو أن يكون ديوان الحماسة الذي اعتمده
المرزوقي في شرحه غير متعدد النسخ والرواية حتى يصح القول بأن ما فيه من شعر مختلف عما جاء في دواوين الشعر، وهو أمر يدحضه المرزوقي نفسه حين نراه يذكر في أكثر من موضع أنه كان يرجع إلى نسخ كثيرة للحماسة.
ولم يقف المرزوقي عند قوله إن أبا تمام كان يزيل بشاعة الألفاظ بالتغيير بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين زعم أن أبا تمام كان يغير في النص لا ليزيل ما فيه من بشاعة لفظ، ولكن لينقل النص من غرض قيل فيه إلى غرض آخر لا يدخل في حيزه، ففي قطعة عارق الطائي الواردة في باب الهجاء، والتي يقول فيها:
والله لو كان ابن جفنة جاركم لكسا الوجوه غضاضة وهوانا
وسلاسلًا يُثنين في أعناقكم وإذًا لقطع منكم الأقرانا
ولكان عادته على جاراته مسكًا وريطًا رادعًا وجفانا
أورد المرزوقي خبرًا مفاده أن هذه الأبيات كانت في الأصل على النحو التالي:
والله لو كان ابن جفنة جاركم ما إن كساكم غضة وهوانا
وسلاسلًا يبرقن في أعناقكم وإذًا لقطع منكم الأقرانا
ولكان عادته على جيرانه ذهبًا وريطًا رادعًا وجفانا
ثم قال: "إن هذه الأبيات ليست بهجو لابن جفنة وإنما هو مدح له، وقد غير بذكره عمرو بن هند، وأنه لو تولى من طيئ ما تولاه عمرو بن هند كانت معاملته إياهم بخلاف ما عاملهم به هو فتصور - يعني أبا تمام - أناه لابن جفنة وجعل بدل "ما إن كساكم" "لكسا الوجوه" وبدل قوله "إذا لقطع تلكم الأقرانا": "منكم الأقرانا" وبدل قوله: "لكان عادته على جيرانه": "على جاراته" ومع هذه التغييرات ليس يخلص هجوا".
والذي يفهم من هذا القول أن المرزوقي فهم أن أبا تمام قد أورد هذه الأبيات على أنها هجاء قيل في ابن جفنة ملك غسان، وهذا الفهم هو الذي أوقعه في هذا التهافت البين الذي دفع به إلى إتهام أبي تمام بالتغيير، وتجاوز ذلك إلى اتهامه بالقصور في الفهم في أنه لم يفطن إلى أن الأبيات حتى بعد ما أحدثه من تغيير فيها لا تخلص هجوًا. ويتضح وهم المرزوقي بجلاء حين نذهب إلى شرح التبريزي فنجده يصدر هذه القطعة بقوله:"وقال عارق الطائي يهجو المناذرة" فالأبيات ليست في هجاء ابن جفنة كما ذهب المرزوقي، وإنما هي في هجاء عمرو بن هند الذي ذكر أبو رياش أنه أغار على طيئ بعد أن جعل لهم عقدًا، فقال عارق هذه الأبيات، وملخصها أن ابن جفنة لو كان جارك واعتديت عليه كما اعتديت علينا لكسا وجهك سبة وهوانا ولقيدك بالسلاسل، ومزق قومك ولأصبحت نساؤك حظايا له بعطورهن وغلائلهن، يقمن على خدمته، وهي على هذا فيها مدح لابن جفنة، ولكن المدح لم ينشأ لأن عارقًا أراد أن يمدحه في الأصل وإنما لأنه أراد أن يهجوا ابن هند ويعيره بما يصير إليه حاله لو أن هذا العدوان الذي أجراه عليهم أجراه على خصومه المعهودين الغساسنة، وهذا لعمري أقبح الهجاء لأن المناذرة كانوا يكرهون أن يذكر خصومهم الغساسنة بخير، فحين يأتي شاعر ليقول لهم أنتم تعيرون على قبيلتنا وتناولون منها ولو أنكم فعلتم هذا مع الغساسنة لكانت حالكم هي هذه الحال التي صورتها في هذه الأبيات، فأي هجاء ينال من عمرو بن هند ويثير حفيظته أبلغ من هذا القول؟ ! .
أما الأبيات التي أوردها المرزوقي وظن أنها الأصل في الرواية فهي - كما أوضح أبو رياش في خبرها - ليست من قول عارق بل هي من قول ابن عم له يقال له ثرملة بن شعاث الأجئ، وقد قال هذه الأبيات حين قال له عمرو بن هند: عن ابن عمك يهجوني ويتوعدني فقال ثرملة: والله ما هجاكم ولكنه والله قال: لو كان ابن جفنة جاركم
…
الأبيات.
والذي يؤكد أن الأبيات في هجاء ابن هند أن هذه القطعة ليست الوحيدة التي
قالها عارق في هجاء عمرو بن هند فله قطعتان أخريان رواهما أبو تمام إحداهما يقول في مطلعها:
"ألا حي قبل البين من أنت عاشقة"
والأخرى: "من مبلغ عمرو بن هند رسالة"
وبناء على كل ما ذكرناه نجد أن ما قاله المرزوقي في شأن أبيات عارق لا يقوم على شيء، وإنما نتج عن وهم وقع منه فبنى عليه هذا الحكم الذي يغمط أبا تمام حقه لا في كونه يبدل فيما اختاره من شعر ليزيل بشاعته، بل أنه قاصر الفهم يفوت عليه التمييز بين شعر في المديح وشعر في الهجاء، وهو لم يقل به أحد حتى خصومه، ويجعل المرزوقي نفسه في تناقض واضح حين نراه يقول في مقدمته عن أبي تمام وعمله في الحماسة:"أنه لم يتفق في اختيار المقطعات أنقى مما جمعه أبو تمام ولا في المقصدات أو في مما دونه المفضل ونقده".
وحين نصل إلى الباحثين المعاصرين ورأيهم في هذه القضية نجد أن جماعة منهم قد تصدوا لما أورده المرزوقي في شرحه، وكان في مقدمتهم الأستاذ علي النجدي ناصف في حديثه الذي أوردناه له من قبل وكذلك تصدى له الدكتور مصطفى حسين في بحثه الذي نشره في مجلة "شعر" بعنوان "أبو علي المرزوقي شارح ديوان الحماسة" وقد جاء فيه "أن القائلين بتدخل أبي تمام وقعوا في هذا الوهم لأنهم لاحظوا اختلاف الرواية بين اختيار أبي تمام وما هو محفوظ عند سواه فساقهم هذا الوهم إلى أن أبا تمام قد بدل وغير، والحقيقة أنه كان ينظر في الروايات ويطيل النظر ثم يوازن ويفاضل مستهديًا ذوقه وبصره بالشعر، منتهيًا - بعد نظر ومفاضلة - وإلى رواية تجمع بين أمانة الاختيار وجودته".
وكذلك اعترض على قول المرزوقي الدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان، وبنى اعتراضه على أن المرزوقي لم يضع في اعتباره ما قد يطرأ من اختلاف في رواية
الشعر، وهو واضح ملموس في كتب الأدب ودواوين الشعراء، وعلى أن أبا تمام إذا كان يغير بعض الألفاظ القبيحة بأخرى سلسة حسنة فإننا نجد ألفاظًا كثيرة في الحماسة من قبيل الوحشي والمستثقل والمستكره، دون أن يطرأ عليها أن تغيير. ودعم هذا بما أورده من خبر أبي تمام الذي رواه المرزباني عن علي بن العباس الرومي الذي قال:"دخلت على أبي تمام وقد عمل شعرًا لم أسمع أحسن منه، وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها، فعلم أني قد وقفت على البيت فقلت: لو أسقطت هذا البيت فضحك وقال: أتراك أعلم بهذا مني، وإنما مثل هذا مثل رجل له بنون جماعة كلهم أديب مقدم ومنهم واحد قبيح متخلف، فهو يعرف أمره ويرى مكانه، ولا يشتهي أن يموت، ولهذه العلة وقع مثل هذا في أشعار الناس" وبني على هذا الخبر قوله "ورجل هذا موقفه من شعره ومما يستقبح فيه من الألفاظ من المستبعد أن يعتدي على شعر غيره بالتصرف والتغيير في ألفاظه".
وهذه بعض آراء من تصدوا لأقوال المرزوقي في شرحه، وهناك باحثون أخذوا بأقوال المرزوقي مأخذ التسليم ولم يعرضوها للمناقشة والتمحيص، يأتي في مقدمتهم الشيخ سيد علي المرصفي الذي قال في مقدمة كتابه "أسرار الحماسة":"وقد قالت رواة الأدب إنه في اختياره أحسن منه في أشعاره، إلا أنه سامحه الله كثيرًا ما كان يعتمد على ذوقه فأحيانًا يقدم ويؤخر في أبياته، وأحيانًا يبدل بعض كلمات العرب بكلماته".
وهذا كلام لا يحتاج إلى تعليق لأن ما قلناه في السابق يدحضه وينفيه، هذا فضلًا عما في هذه العبارات من تعميم في الحكم يحتاج إلى بينة تؤكد لنا صدق هذه الدعوى حتى نطلب من الله تعالى أن يسامح أبا تمام عليها.
وبعد المرصفي جاء الدكتور ناصر الدين الأسد فنفى كتاب الحماسة من مصادر الشعر الجاهلي، معتمدًا في ذلك على أمرين أحدهما يؤخذ من قوله: "إن الحماسة ليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام ولا رواية أخذت بها عن أبي تمام، وإنما
أخذها أبو تمام من الكتب وانتقاها من الدواوين والمجاميع
…
ثم كتب أبو تمام ما اختاره وبقي كتابه دهرًا مطويًا لم يقرأه عليه أحد، كلما لم يقرأه هو على أحد إلى أن أتيح له أن ينشر ويظهر بعد وفاة أبي تمام، فأخذ ما فيه من الصحف المكتوبة نفسها لا عن العلماء".
والأمر الآخر يؤخذ من قوله: "وليس فقدان الرواية والإسناد هو الأمر الوحيد الذي يباعد بين الحماسة وبين بحثنا هذا بل إن ثم شيئًا آخر لا يقل عن سابقه، يباعد بين هذا الكتاب وبحثنا، وهو صنيع أبي تمام فيما اختاره من تغيير للنص الشعري مما أوضحه المرزوقي في مقدمته".
فأما الأمر الأول فقد سبق أن ناقشناه في أول هذا الفصل، وأكدنا فيه أن الحماسة بجانب النسخة التي تركت في بيت آل سلمة بهمذان قد أخذها العلماء عن أبي تمام من طريقين أحدهما أبو رياش عن أبي المطرف الأنطاكي عن أبي تمام، والآخر الآمدي عن أبي المطرف عن أبي تمام، وأما الحماسة ليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام صحيح لأن أبا تمام هو الذي اختارها، ولكن السؤال من أين اختارها؟ أليست من الكتب والدواوين والمجاميع التي وصل إلينا بعضها، وعده الدكتور ناصر الدين الأسد من صميم مصادر الشعر الجاهلي. وإذا كان الأمر علماء اللغة من الاستشهاد بما جاء في الحماسة من شعر يمثل عصر الفصاحة، وأين نذهب بقول الزمخشري الذي أورده صاحب الخزانة، وقد جاء فيه عن أبي تمام "وهو وإن كان محدثًا لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة فيقنعون بذلك لوثوقهم بروايته واتقانه".
ونحن مع قولنا بأن اتقان الرواية لا يستلزم اتقان الدراية حتى نحتج بكلام أبي
تمام في مجال اللغة، فإن الذي يهمنا من النص هو أن العلماء كانوا مطمئنين لما رواه أبو تمام في الحماسة واثقين منه كل الوثوق، وهم لم يفعلوا ذلك إلا لأنهم ادركوا أن أبا تمام إذا كان قد أخذ اختياره من كتب ودواوين موثوق بها، فإن هذه الثقة تنسحب على ما اختاره منها، ولهذا لا مكان للقول بأن الحماسة ليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام.
وأما الأمر الثاني فهو يدعو إلى الدهشة حقًا وبخاصة حين يصدر من باحث جعل همه الأول في بحثه ألا يأخذ قولًا في التوثيق دون مناقشة. ولقد قام في هذا السبيل بجهود طيبة تشهد له المواضع المتعددة في بحثه القيم، ونحن قد نجد له العذر فيما ذهب إليه في الأمر الأول، لأنه لم يقف على المصادر التي دلت على أن الحماسة قد أخذت عن أبي تمام قراءة أو رواية، فجل هذه المصادر مخطوط ولم يكن معروفًا في الزمن الذي أخرج فيه بحثه عام 1956 م. ولكن لا عذر له أن يأخذ قول المرزوقي مأخذ التسليم دون مناقشة يصل فيها إلى بينة من الأمر، ودون أن يكلف نفسه مصاهاة ما ورد في الحماسة بما جاء في الكتب التي عدها من مصادر الشعر الجاهلي كالمفضليات والأصمعيات، ولعمري لو فعل ذلك لما قال ما قال ولوضع الحماسة في الموضع الذي وضعه فيها علماء اللغة.
ونحن ليس تحت ايدينا كل الدواوين التي رآها المرزوقي وذهب إلى أنها مخالفة في ألفاظها عما أورده أبو تمام في الحماسة، ولكننا نستطيع أن نعرض بعض النماذج للنصوص التي وردت في الحماسة ورواها كل من المفضل الضبي والأصعمي، لنرى إلى أي حد كان الاختلاف بين رواية الحماسة، ورواية المفضليات والأصمعيات، ولنأخذ لذلك أمثلة أربعة أولها حماسية عبد الله بن عنمة التي وردت في شرح المرزوقي رقم (190) ورواها المفضل كما رواها الأصمعي، وهي في الروايات الثلاث ستة أبيات جاء في مطلعها:
ما إن ترى السيد زيدًا في نفوسهم كما تراه بنوكوز ومرهوب
فحين نعارض رواية الحماسة برواية المفضل والأصعمي لا نجد اختلافًا في الألفاظ
إلا في البيت الثالث الذي رواه المفضل والأصمعي على هذا النحو:
فإن أبيتم فإنا معشر صبر لا نطعم الذل إن السم مشروب
وروى في الحماسة "لا نطعم الخسف"، ولا أظن أن في لفظة "الذل" من البشاعة والعوار ما يستحق التغيير من أبي تمام، وإنما هي الرواية لا غير.
وثمة اختلاف آخر هو أن البيت الخامس في رواية المفضل والأصمعي جاء سادسًا في رواية المرزوقي والتبريزي، وأغلب ظني إن اختلاف الترتيب هذا نتج عن اختلاف نسخ الحماسة ولا شأن لأبي تمام به، بدليل أن هذا البيت جاء آخرًا في رواية المرزوقي والتبريزي ولا وجود في رواية شرح زيد بن علي الفارسي، فالقطعة عنده خمسة أبيات لا ستة.
كذلك يمكن أن نعارض رواية الحماسة برواية الأصمعي في قصيدة عبد الله بن عنمة التي رثى فيها بسطام بن قيس، والتي يقول في مطلعها:
لأم الأرض ويل ما أجنت غداة أضر بالحسن السبيل
وهي تبلغ في رواية الأصمعي أحد عشر بيتًا اختار منها أبو تمام ثمانية أبيات هي في رواية المرزوقي والتبريزي على الترتيب من البيت الأول إلى الثامن في الأصمعيات والاختلاف في ألفاظ الروايتين الحماسة والأصمعيات لم يرد إلا في بيتين فقط، أما بقية الألفاظ فقد جاءت مطابقة في الروايتين معًا. أما البيتان اللذان وقع فيهما اختلاف فهما البيت الرابع والبيت السابع، ففي البيت الرابع جاءت رواية الأصمعي:
حقيبة رحله بدن وسرج تعارضه مرببة ذؤول
وجاءت رواية الحماسة "دؤول" بالدال غير المعجمة وقيل في معنى
"الذؤول" من الذألان وهو مشي سريع فيه خفة، وقال شراح الحماسة في معنى "الدؤول" من الدألان وهو ضرب من العدو، وفي القاموس المحيط "دأل كمنع دألا، ويحرك كجمزى وهو مشية فيها ضعف أو عدو متقارب أو مشي نشيط، وذأل كمنع ذألانا أسرع أو مشى في خفة".
وواضح أن الاختلاف هنا من فعل الوراية، لا من أبي تمام، ومن ضعف الرأي أن يقال إن أبا تمام أبدل الذال دالًا ليزيل عوار اللفظة إذ اللفظتان على حد سواء في الشناعة أو عدمها.
أما البيت السابع فقد ورد في رواية الأصمعيات هكذا:
لقد ضمنت بنو بدر بن عمر ولا يُوفي ببسطام قبيل
ورد في الحماسة "أفاتته بنور بدر بن عمرو" وما يقال في هذا الاختلاف هو ما قيل في "ذؤول" و "دؤول" هذا فضلًا عن أن المرزوقي نفسه قال في شرح الشطر الثاني من البيت: "وقوله: ولا يوفي ببسطام قبيل" بالباء يروي
…
وهذه الرواية أقرب إلى ما يدل عليه صدر البيت وأشبه".
وفي قصيدة عروة بن الورد التي رواها الأصمعي والتي مطلعها:
أقلي علي اللوم يا ابنة منذر ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري
نجد أن الأصمعي قد بلغ في روايتها سبعة وعشرين بيتًا، واختلفت روايات الشراح فيما اختاره أبو تمام منها، فالمختار منها في رواية المرزوقي سبعة أبيات، وفي رواية التبريزي ثمانية أبيات، وفي رواية زيد بن علي تسعة أبيات. ولقد سبق أن أوضحنا أن الاختلاف في عدد أبيات القطعة الواحدة في شروح الحماسة مرده إلى اختلاف نسخ الحماسة التي اعتمد عليها الشراح في شروحهم.
وحين عارضنا روايات هذه الشروح برواية الأصمعي وجدنا اختلافًا في الألفاظ
وقع في ثلاثة مواضع فقط، أحدها في مطلع القطعة من اختيار الحماسة وقد جاء هكذا:
لحا الله صعلوكًا إذا جن ليله مصافي المشاش آلفًا كل مجزر
وجاء في الأصمعيات " مضى في المشاش". وثانيها في البيت الرابع في رواية زيد ابن علي وهو:
قليل التماس الزاد إلا تعلة إذا هو أضحى كالعريش المجور
رواه الأصمعي "قليل التماس المال إلا لنفسه".
والموضع الثالث جاء في البيت الرابع في رواية المرزوقي، الخامس في رواية التبريزي، السادس في رواية زيد بن علي، وهو في الشروح الثلاثة هكذا:
ولكن صعلوكًا صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور
ورواه الأصمعي "ولله صعلوك".
ولا شك أن الألفاظ في رواية الأصمعي لبست من المستكره المستثقل حتى يقال إن أبا تمام عرضها على ذوقه بالتغيير.
ويمكن أن تلمس ذلك في حماسية سلمى بن ربيعة التي نسبها الأصمعي إلى علباء ابن أرقم، فهي قد وردت في الأصمعيات أحد عشر بيتًا، ووردت كذلك في الحماسة، وهذا الأبيات الأحد عشر وقع اختلاف بين الروايتين في ثلاثة مواضع منها، في البيت الثاني وقد جاءت رواية الأصمعي فيه هكذا:
وكأنما في العين حب قرنفل أو نسبل كحلت به فانهلت
وجاء في رواية الحماسة "وكأن في العينين حب قرنفل"، وفي البيت الخامس الذي روي في الأصمعيات:
يومًا إذا ما النائبات طرقننا أكفى بمعضلة وإن هي جلت
وروى في الحماسة "رجلًا إذا ما النائبات".
وفي البيت الثامن وقد ورد عند الأصمعي:
درت بأرزاق العفاة مغالق بيدي من قمع العشار الجلة
وورد في الحماسة "دارت بأرزاق العفاة".
والذي ينظر في هذه الاختلافات لا يجد فيها عطورًا في الألفاظ التي رواها الأصمعي حتى يغيرها أبو تمام، كما ينبغي أن نؤكد أن هذه الاختلافات التي عرضناها من خلال هذه النماذج الأربعة كانت طفيفة جدًا لا تقاس بالأبيات التي حدث فيها توافق في الألفاظ.
أن الاختلاف في لفظة أو لفظتين أو ثلاث في قطعة تبلغ ستة أبيات، كما في النموذج الأول أو ثمانية أبيات كما في النموذج الثاني، أو تسعة أبيات كما في النموذج الثالث، أو أحد عشر بيتًا كما في النموذج الرابع لا يستلزم القول بأن تغييرًا قد وقع عن عمد من صاحب الرواية ذات التغيير، إذ لو صح هذا القول لا نطبق على سائر شروحها لدى أبي جعفر النحاس وابن الأنباري الزوزني والتبريزي. ولعل الدارس حين ينظر إلى الاختلافات التي وردت لدى كل من المفضل الضبي وعبد الملك الأصمعي يدرك أنها لم تقع لأن أحدًا منهما أجرى ذوقه بالتغيير في الألفاظ بل لأن كلًا منهما اعتمد على مصادر في روايته تختلف عن الآخر، ونستطيع أن نسوق بعض الأمثلة لهذا.
فقد وقع اختلاف بين روايتيهما في بيت سنان بن أبي حارثة المري، رواه المفضل:
وبضرغد وعلى السديرة حاضر وبذي أمر حريمهم لم يُقسم
ورواه الأصمعي "وبضرغد وعلى السدير وحاضر".
وبيت زبان بن سيار رواه المفضل:
فإن تسألوا عنا فوارس داحس يُنبئك عنها من رواحة عالم
وراه الأصمعي "فوارس دارم".
وبيت معاوية بن مالك رواه المفضلك
فإن أحمد بها نفسي فإني أتيت بها غداتئذ صوابا
ورواه الأصعمي "فإن أحمدتها نفسي فإني".
وهكذا لو تتبعنا رواية كل من المفضل والأصعمي في القصائد التي اتفقا في اختيارها لوجدنا اختلافًا في الألفاظ على هذا النحو الذي أوردناه، وهو اختلاف قد يغير في معنى البيت مثل بيت زبان بن سيار "فإن تسألوا عنا فوارس داحس" في رواية المفضل، و "فوارس دارم" في رواية الأصمعي، لأن فوارس داحس يعني عبس وذبيان، وفوارس دارم يعني دارم بن تميم، وعبس وذبيان من قبائل قيس عيلان، وتميم من قبائل خندف، ولكن هل هذه الاختلافات تجوز لنا أن نتهم أحدًا منهما بأنه قد أحدث تغييرًا في ألفاظ روايته ليزيل ما بها من شناعة أو اسبتكراه.
وبناء على هذا النحو الذي ذكرناه ووفقًا لما أوردناه من اختلافات في الرواية لا في الحماسة فحسب بل في غيرها من مصادر الشعر، نقرر أن التسليم بما قاله ابن العميد وتابعه فيه المرزوقي أمر لا ينبغي أن يقع فيه باحث معاصر، وأن هذه السبيل التي سلكها الدكتور ناصر الدين الأسد في الحكم على حماسة أبي تمام أفضل منها ما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف حين ذكر الحماسة ضمن مصادر الدراسة في الشعر
الجاهلي، ولكنه قيد ذلك بالمضاهاة مع المصادر الموثوقة كالمفضليات والأصمعيات وهو قول مع أفضليته بالنسبة لما ذهب إليه الدكتور ناصر الدين الأسد فإن فيه نظرًا لأن الكتب الموثقة يبن أيدينا قليلة جدًا، وأبو تمام إنما اختار الكثرة الكاثرة في حماسته لشعراء مجهولين قل أن نجد لهم ذكرًا أو شعرًا فيما وصل إلينا من كتب موثقة، فهل نضع هذه الأشعار موضع ثقتنا كما وضعها علماء اللغة أو نقف منها موقف المتشكك تبعًا لما أورده المرزوقي من أقوال لم يأت هو بدليل يدعمها ويقويها بل لم يتابعه فيها شارح من شراح الحماسة الذين جاءوا بعده سوى المرصفي الذي يتبع في الدرس الأدبي منهجًا يقوم على التسليم بما قاله القدماء حتى وإن انفرد به واحد منهم.