الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: المنهج الاختصار التسهيلي والشرح المنسوب لأبي العلاء
رأينا فيما سبق وصفًا لهذا المنهج، وأدركنا من خلال هذا الوصف أنه منهج يقوم على اختصار المعلومات التي يقتضيها الشرح وتسهيل عرضها للقراء بما يحقق الغاية من فهم النص بأقرب السبل وأسهل الطرق، لأنه منهج يراعي المتلقين للشروح وقدراتهم على الاستيعاب والتحصيل واختلاف أهوائهم ومشاربهم في قراءة الشعر وتذوقه وفهمه من خلال الشروح وفق العناصر التي تتألف منها عملية الشرح، فهو يقدم لهم هذه العناصر سهلة ميسرة خالية من تضخم المعلومات وإشباعها بالاستطراد والتطويل، بعيدة عن الإغراب والتعقيد، يقدم اللغة ويناقش ما فيها من قضايا ولكن بقدر محدود، ويعالج النحو والصرف ولكن بصورة تؤدي إلى إدراك المعنى فحسب، ويتعرض للرواية ولكن في لمحات تشير إلى اختلافها وتعددها، ويذكر أخبار الشعراء ومناسبات الشعر ولكن في اختصار وإيجاز يعينان على فهم البواعث التي أدت إلى قول الشعر أو الجو الذي قيل فيه، إلى غير ذلك من العناصر التي يقتضيها الشرح وحقق فيها هذا المنهج خطوات واضحة المعالم في الاختصار والتسهيل، خطوات تتفق مع تطور الحياة وتبدل القرون وتوالي الأجيال، وما يعتري هذه الأجيال من علو وانحدار في الدرس والتحصيل وفق التطور الذي يحدث في الحياة ووفق تبدل الأحوال من قرن إلى قرن.
هذا ملخص ما رأينا في وصف هذا المنهج، أما تطبيقه في الشروح التي وصلت إلينا فقد سبق أن أوضحنا أنه يمكن تطبيقه في شرحين أحدهما الشرح الذي رجحنا نسبته إلى زيد بن علي الفارسي المتوفى سنة 467 هـ، والآخر الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء المعري الذي أثبتنا في دراستنا لثبت شروح الحماسة أن لا صلة لأبي
العلاء به، وأن صاحبه أحد علماء القرن السادس الهجري الذين تلقوا العلم على أبي منصور موهوب الجواليقي المتوفى سنة 539 هـ.
ولما كنا قد خصصنا الكتاب الثاني من هذا البحث لتحقيق الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي ودراسته رأينا أن يقوم تطبيق هذا المنهج على الشرح المنسوب لأبي العلاء حتى لا نقع في تكرار مخل أو يكون في العمل ازدواجية يجب تلافيها.
ولعل أول شيء تجدر الإشارة إليه في هذا الشرح المنسوب لأبي العلاء هو مصادره، فقد أثبتت دراستنا له أن صاحبه قد أفاد من شروح سبقته، أفاد من شروح أبي رياش وأبي عبد اله النمري، وأبي علي المرزوقي، ومن ابن جني في كتابيه التنبيه والمبهج، كما أفاد من أقوال العلماء الأوائل وبخاصة في مجال اللغة والنحو من أمثال أبي عبيدة معمر بن المثنى وعبد الملك الأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وهو في مجال اللغة والنحو كثيرًا ما ينقل عن ابن جني، كما نقل عن شيخه أبي منصور الجواليقي في موضع واحد فقط.
ومن المدهش حقًا أن ينسب هذا الشرح لأبي العلاء في حين أن قراءتنا له قد أثبتت أن صاحبه لم يفد من أبي العلاء في شيء، ولا ذكره في ثنايا شرحه ولا كان من مصادره التي أفاد منها.
ولقد لاحظنا في عمل هذا الشارح أنه كان ينقل من مصادر أخرى دون أن يدل على أصحابها، فبقراءتنا لما تحت يدنا من شروح تأكد لدينا أنه ينقل من شرح التبريزي، ولكنه لم يذكره في شرحه، بدلالة ما جاء في شرحه البيت الذي نسب في الحماسة للعباس بن مرداس، وقد جاءت روايته في متن هذا الشرح على النحو التالي:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسٌد مزير
فقال فيه: "من روى أسد يزير فليس بجيد لأن تشبيهه له بالأسد لا فائدة لذكر
الزئير معه، ولا يدوم على حالته هذه، ومن روى مرير بالراء غير المعجمة أي قوي القلب، وبالزاي الماضي الندب".
فهذا القول مأخوذ بنصه من شرح التبريزي، والتبريزي نفسه أخذه من المرزوقي دون أن يشير إلى أخذه منه، ولولا اتفاق صاحب هذا الشرح والتبريزي في تفسير معنى مرير بالراء ومزير بالزاي بما فيه اختلاف عند المرزوقي لقلنا إنه نقل من المرزوقي مباشرة، لأنه ذكر المرزوقي في ثنايا شرحه وأفاد منه- كما أسلفنا. وليس التبريزي وحده هو الذي نقل عنه صاحب هذا الشرح دون أن يشير إليه فلقد رأيناه في مواضع متفرقة ينقل عن الشرح المرجح نسبته لزيد بن علي دون أن يشير إلى أنه قد أخذ عنه، ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيتي عبد الله بن الزبير الأسدي اللذين يقول فيهما:
فإنك لو سمعت بكاء هنٍد ورملة إذ تصكان الخدودا
سمعت بكاء باكيٍة وباٍك أبان الدهر واحدها الفقيدا
فقد قال فيهما: قال هند ورملة ثم قال باكية وباك فجاء بأنثى وذكر، ثم قال: واحدها الفقيدا ولم يقل واحدهما. يقول: لو سمعت بكاء باكية أبان الدهر واحدها، أي هما تنوحان وتلطمان الخدود معًا لا يفترقان فيقدر أنهما باكية واحدة لاتصال أصواتهما، وعطف بقوله باك على هذا".
فهذا الكلام تجده بنصه في الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي مع حذف بعض الزوائد في الكلام. ومثله أيضًا ما جاء في قطعة النسيب التي صدرها أبو تمام بقوله: "وقال آخر" والتي جاء منها:
أحقًا يا حمامة بطن فلٍج بهذا الوجد أنك تصدقينا
أرار الله نقيك في السلامى على من بالحنين تشوقينا
فإني مثل ما تجدين وجدي ولكني أسر وتعلنينا
وإني لو بكيت جرت دموعي وإنك تعولين وتكذبينا
وبي مثل الذي بك غير أني أجل عن العقال وتعقلينا
فقد قال صاحب هذا الشرح: "الأبيات ما خلا البيت الأول تدل على أنه خاطب ناقة، ولا يخلو أن يكون البيت الأول من القصيدة أو من غيرها، فإن كان من غيرها فقد غلط في وضعه هنا (يعني أبا تمام)، وإن كان منها فلا يخلو من أن يكون في ذكر الحمامة، ثم صرف الخطاب إلى الناقة لأن السلامي ما سمع في الطائر ولا العقال، أو يكون السلامي مجازًا، ويجوز أن يكون سمى ناقته حمامًة لسرعتها".
وهذا أيضًا موجود بنصه في شرح زيد بن علي، وهذا ما يجعلنا نقول: إن ظاهرة النقل من الشروح دون الإشارة إلى أصحابها قد اتسعت منذ أواخر القرن الخامس عند الخطيب التبريزي الذي بينا أنه كثير النقل من غيره دون أن ينص على ذلك واستمرت بعد ذلك طوال القرون التي تلت القرن الخامس.
على أن ما يهمنا من مصادر هذا الشرح سواء ما يدل عليها أو لم يدل عليها هو مدى إفادته من معلومات في هذه المصادر وعرضها وتوظيفها بما يتلاءم والمنهج الاختصاري التسهيلي الذي سلكه في شرحه، وهذا يدفعنا إلى أن ندرس عناصر الشرح في عمله حتى نتبين كيف تحقق تطبيق هذا المنهج فيه.
أ- أسماء الشعراء والأعلام:
أفاد صاحب هذا الشرح من كتاب المبهج لابن جني في تحقيق هذا العنصر، ولكنه كان ينقل معلوماته في هذا الخصوص بإيجاز بالغ واختصار شديد، ولقد رأينا ابن جني من خلال منهجه العلمي التخصصي يستطرد في أعماله الخاصة بأسماء شعراء الحماسة وأعلامها استطراد واضحًا، أما صاحب هذا الشرح فقد كان يأخذ منه ما يحقق شرح الاسم أو العلم دون مجاراة ابن جني في إسهابه واستطراداته،
فمثلًا في شرح اسم "الفند الزماني" نجده يقول: "الفند الشمراخ من الجبل، كان يقال له عديد الفوارس لشجاعته، واسمه شهل بن ربيعة بن زمان، جاهلي"، فهو بهذا يشرح في إيجاز لقب هذا الشاعر وصفته ويورد اسمه ونسبه وعصره. أما ابن جني فقد أسهب في شرح لقب هذا الشاعر، ذكر أنه اسمه شهل ابن شيبان ثم وضح أنه لقب بالفند لعظم خلقته تشبيهًا بفند الجبل وهو قطعة منه، وبين أن جمع الفند أفناد، ثم انتقل فشرح "زمان" وبين احتمالات اشتقاقه مستطردًا كعادته في الحديث عن الأعلام المختومة بألف ونون مما يجهل أصل نونه هل هي زائدة أو أصلية وهل الاسم على وزن فعلان بحكم زيادة نونه أو فعال بحكم أصليتها، ثم انتقل بعد ذلك إلى شهل فأطال في شرحه وبيان اشتقاقه.
وفي اسم "أنيف بن زبان النبهاني" لم يقف صاحب هذا الشرح عند أنيف وإنما شرح زبان فقال: "زبان فعلان من الزبب وهو كثرة الشعر، ونبهان قبل يقظان".
ولا شك أنه نظر إلى المبهج حين قال هذا الشرح، ففي المبهج نجد قول ابن جني "أنيف تحقير أنف، ويجوز أن يكون تحقير أنف من قوله: "أو روضة أنفًا"، ويجوز أن يكون تحقير أنف وزبان للعلمية، فعلان من الزبب، وليس بفعال من الزبن، ألا تراه غير مصروف، ونبهان من الانتباه أو النياهة، فإذا كان من الانتباه فهو كقولهم في التسمية يقظان".
فأنت ترى أنه قد أفاد مما جاء في المبهج، ولكن في إيجاز واختصار واضحين يدلان على طريقته في معالجة هذا العصر وفق المنهج الذي رسمه لنفسه في عملية الشرح.
ب- أخبار الشعراء ومناسبات الشعر:
وكذلك لا نراه يخرج عن سبيل منهجه في ذكر أخبار الشعراء ومناسبات الشعر، فهو يستعين في هذا العنصر بما أورده أبو تمام في مقدمات ما اختاره من قطع، وبالشروح التي سبقته وبخاصة شرح أبي رياش الذي سبق أن أوضحنا أنه أكثر الشراح عناية بهذا العنصر، غير أنه كان يعرض الأخبار والمناسبات لا كما يقرؤها في هذه الشروح، وإنما يعرضها وفق منهجه القائم على الاختصار والتسهيل، ففي باب الرثاء نراه ينقل لنا خبر القطعة التي مطلعها:
خليلي هبا طالما قد رقدتما أجدكما لا تقضيان كراكما
ولخص هذا الخبر في "أن رجلين من بني أسد قد خرجا إلى أصبهان فآخيا دهقانًا بها في موضع يقال له راوند ونادماه فمات أحدهما وغبر الآخر والدهقان ينادمان قبره، يشربان كأسين ويصبان على قبره كأسًا، ثم مات الدهقان فكان الأسدي الغابر ينوح على قبريهما ويترنم بهذا الشعر إلى حيث مات".
وفي باب المديح نراه ينقل خبرًا عن أبي رياش يذكر فيه ما جرى بين ابن عنقاء الشاعر وعميلة الفزاري، حين رأى عملية سوء حال ابن عنقاء فأفاض عليه بما يكفل له هناء العيش ورغده، فتحركت نفس ابن عنقاء لمدح عميلة فقال فيه ما رواه أبو تمام من شعر في هذا الباب.
وحين وازنا بين ما أورده التبريزي عن أبي رياش في خبر هذه القطعة وما نقله هذا الشارح وجدنا فرقًا في النقلين، فالتبريزي يروي الخبر كما وجده في شرح أبي رياش، في حين أن صاحب هذا الشرح يرويه في اختصار لا يخل بالغرض الذي من أجله روى الخبر وهو بيان الباعث الذي حرك ابن عنقاء لمدح عملية، وما جاء في الأبيات من معان مرتبط بالخبر ودال عليه، بل إن معاني القطعة لا تتضح إلا بإيراد
الخبر، وهذا يدل على أن أصحاب هذا المنهج لا يعرضون من الأخبار والقصص إلا ما يعين على فهم النصوص، يؤكد ذلك أننا وجدنا التبريزي يورد كثيرًا من أخبار الشعر ومناسباته نقلًا عن أبي رياش وهي أخبار لا نجدها في هذا الشرح بالرغم من أن صاحبه قد اعتمد أبا رياش مصدرًا من مصادره ورأى شرح التبريزي، كما أسلفنا.
جـ/ بحور الشعر وأضربه وقوافيه:
لم يهتم صاحب هذا الشعر بهذا العنصر اهتمامًا تامًا، إذ رأيناه في بداية عمله في الباب الأول من الاختيار، وهو الحماسة، يوضح في جملة من قطع هذا الباب بحر الشعر فقط دون أن يذكر نوع الضرب أو نوع القافية فهو مثلًا نراه يقول في صدر القطعة:"وقال أبو الغول الطهوي من الوافر" أو: "وقال الفرار السلمي من الكامل" أو "وقال محمد بن عبد الله الأزدي من الطويل وهو مخروم"، ولكنه لم يلتزم بهذا في جميع قطع الاختيار بأبوابه العشرة، وإنما ظل يذكر بحر كل قطعة حتى بداية الثلث الثالث من باب الحماسة تقريبًا، ثم عدل عن ذلك، فلم يعد يحدد البحر في القطع الأخيرة من باب الحماسة أو الأبواب التي تلته، وليس من تعليل في هذا المسلك لأنه إن لم يكن قد رأى شرح أبي العلاء المعري ذي الاهتمام بأوزان الشعر وأضربه وقوافيه فإنه على الأقل رأى شرح التبريزي وأفاد منه، كما رأى شرح زيد بن علي ونقل منه، وكلا الشرحين قد عني بهذا الجانب لاسيما التبريزي الذي أوضح بحور الشعر في هذا الاختيار عدا اثنتين وستين قطعة. فكان ينبغي عليه أن يفيد منهما في خدمة هذا العنصر، ولا ينبغي أن نعزو هذا إلى ناسخ الشرح لأن الناسخ إذا غفل عن ذكر البحر في بعض القطع فإن هذه الغفلة لن تقع منه في جميع الأبواب التسعة التالية للحماسة، ولو كان صاحب هذا الشرح من المتقدمين لعزونا
ذلك إلى أن تحديد بحور الشعر وأضربه وقوافيه لم يكن في نظر المتقدمين من الشراح من العناصر اللازمة في عملية شرح الشعر على النحو الذي فصلنا الحديث فيه عند دراستنا لشرح المرزوقي.
و- الرواية:
وجدت الرواية شيئًا من الاهتمام في هذا الشرح غير أن صاحبه كان يعالجها في اختصار واضح، فهو في أغلب الأحيان يشير إلى اختلاف الرواية دون شرح أو مفاضلة، وفي بعض الأحيان كان يتولى شرح الرواية التي يشير إليها في أثناء عملية الشرح، فمثًلا في بيت المرار بن سعيد الفقعسي جاءت روايته له على النحو التالي:
إذا شئت يومًا أن تسود عشيرًة فبالحلم سد لا بالتنزع والشتم
وهي رواية مخالفة لرواية سائر الشراح الذين وقفنا على شروحهم حيث رووا "لا بالتسرع والشتم" ولقد أشار إليها صاحب هذا الشرح قال: "ويروي بالتسرع" ثم لم يكتف بذلك بل مضى شارحًا فقال: وهما أي التنزع والتسرع بمعنى واحد يقال: رجل نزع أي عجول وتنزع إذا تعجل".
وربما خالف مسلكه قليلًا في الاختصار حيث كان يطيل في شرح بعض الروايات فقد قال في بيت أرطاة بن سهية الذي رواه هكذا:
كفى بيننا ألا ترد تحيٌة على جانٍب ولا يشمت عاطس
"من روى يسمت بالسين فذلك لأن العاطس إذا عطس انتفض فيدعي له بإعادته إلى سمته، ومن رواه بالشين المعجمة فهو من الشوامت أي القوائم، وبها عصمة صاحبها فكأنه دعا له بأن ينهضه الله".
وفعل مثل هذه الإطالة في الشرح في بيت عبد الشارق بن عبد العزى، وقد رواه على هذا النحو:
ردينة لو شهدت غداة جئنا على أضماتنا وقد اختوينا
فقد شرح الرواية التي أثبتها في منته ثم ذكر روايتين أخريين وشرحهما، قال:"من رواه بالخاء المعجمة من فوق فهو من الخوى وهو الجوع، أي توحشنا من الطعام لأجل الحرب، وقيل: هو من أخويته إذا أذهبت قلبه، ومن رواه بالحاء غير المعجمة فالمعنى أنه يريد ملأنا أيدينا من الغنائم، ومن رواه بالجيم فالمعنى قد دويت قلوبنا واحترقت أكبادنا من الغيظ، وهو من الجوى يريد العداوة".
ولقد لاحظنا في عمله الخاص بالرواية أنه لم يفاضل بين الروايات أو ينتقد ما يورده منها إلا في موضعين فقط أحدهما الموضع الذي أشرنا إليه من قبل حين انتقد رواية "يزير" في بيت العباس بن مرداس:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسٌد مزير
ونقل عن التبريزي ما نقله عن المرزوقي في أن "من روى أسد يزير فليس بجيد لأن تشبيهه له بالأسد لا فائدة لذكر الزئير معه، ولا يدوم على حالته هذه"، والآخر جاء عنه في بيت عمرو بن معدي كرب الذي يقول فيه:
ما إن جزعت ولا هلعت ولا يرد بكاي زندا
فقد قال فيه: "العرب تضرب المثل بالزند في القلة كما تضرب بالنقير والفتيل والقطمير، ثم أشار إلى رواية أخرى للبيت فقال: "ويروي زيدًا يعني أخاه" ثم عقب عليها فقال: وهذه الرواية غير صحيحة لأنه فتش عن نسب عمرو فلم يوجد له أخ يسمى زيدًا".
هـ- شرح الألفاظ والتراكيب:
حاول صاحب هذا الشرح أن يستفيد من اللغة والنحو في تحقيق هذا العنصر الذي يعد أهم العناصر في عملية الشرح إذ لا يتضح معنى النص إلا به، غير أن
إفادته من اللغة والنحو جاءت وفق منهجه، فهو يشرح الألفاظ والتراكيب إن رأى أن ظاهر النص يقتضي ذلك، فإن كان النص لا يشتمل على الغريب الذي يحتاج إلى شرح أتى بالمعنى مباشرة، وربما رأى أن في شرح الألفاظ ما يدل على المعنى فيشرح الألفاظ فقط دون أن يأتي بالمعنى. على أنه إن كان في غلبة شرحه يحقق ما ذكرنا فإنه أحيانًا كان يركز على جانب لغوي يعرضه ويكتفي به في عملية الشرح، وأحيانًا أخرى يركز على لفظة نحوية يعرضها ثم لا يذكر بعدها شيئًا في النص، فمثلًا في بيت حرقة بنت النعمان القائل:
فأٍف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تاراٍت بنا وتصرف
نراه يقف عند لفظة "أف" فقط فينقل عن ابن جني قول أبي علي الفارسي: "إن في أف سبع لغات أُفِّ وأَفَّ وأَفَّ وأُفُّ، وأُفَّاِّ وأُفٌّ وأُفٍّ وأِفى ممال، وزاد غيره أُفْ خفيفة، وهذه اللفظة أحد الأسماء التي سمي بها الفعل في الخبر وهي اسم لتضجرت، فهي مبنية من حيث بنيت الأسماء فمن ضم أتبع الضم الضم، ومن فتح فللخفة لأن التضعيف ثقيٍل، ومن كسر فعلى أصل حركة التقاء الساكنين، ون نون أراد التنكير أي تضجرًا، ومن لم ينون نوى التعريف أي التضجر، ومن خفف فلأنه هرب من ثقل التكرير".
ونحن لا ننكر أن مثل هذا العمل الذي كان يقوم به ابن جني في التنبيه عمل له قيمته في مجال المنهج العلمي التخصصي، أما إدخاله في عمل يقوم على المنهج الاختصاري التسهيلي فيعد اضطرابًا في الالتزام بالمنهج وحللًا في ضبط المقومات التي قام عليها، ولكن يبدو أن الشراح على مختلف مناهجهم كانت تتجاذبهم أهواؤهم أثناء عملية الشرح، فالأهواء هي التي تخرجهم من حدود مناهجهم التي ارتضوها لأنفسهم، ومنهم هذا الشارح الذي كان يدفعه هواه إلى الانسياق وراء ابن جني في نقل أمور عنه لا تتفق مع منهجه، غير أن ذلك لم يرد عنه كثيرًا بحيث يجعل المنهج مختلًا اختلالًا ظاهرًا وإنما وقوعه كان في ندرة لا تحيل منهجه إلى منهج ابن جني.
وهو إذا كان ينزع إلى الانسياق وراء ابن جني في بعض مسائل اللغة فقد كان يفعل ذلك في مسائلا لنحو، ومن أمثلة ذلك عمله في بيت عصام بن عبيد الزماني الذي جاء في باب الرثاء، والذي يقول فيه:
لو عد قبٌر كنت أكرمهم ميتًا وأبعدهم من منزل الذام
فقد قال فيه: "لم يرد لو عد قبران، وإنما أراد لو عدت القبور قبرًا قبرًا" وكان منهجه يقتضي أن يكتفي بهذا القول في شرح هذا التركيب ولكنه انساق بهواه مع ابن جني فنقل عنه ما يعد استطرادًا في المنهج قال: "ولو قال لو عد قبر قبر لم يجز الرفع كما جاز الأول، وذلك أن هذا من مواضع العطف، فحذف حرفه بضرب من الاتساع، وهذا الاتساع خاصة إنما جاء في الحال نحو فصلت الحساب بابًا بابًا، ودخلوا رجلًا رجلًا أي متتابعين فلو رددت على البدل لم يجز، وعلى هذا قالوا: هو جاري بيت بيت ولقيته كفة كفة، فاتسعوا بالبناء مع الحال، ونحوها في ذلك الظرف نحو قولك كان يأتينا يوم يوم، وليلة ليلة، وأزمان أزمان، وصباح مساء، فإن خرجت به عن الظرفية لم يجز البناء، ألا تراك تقول: هو يأتينا كل صباح ومساء وفي ليلة ليلة فتعرب البتة".
فهذا الاستطراد في شرح مسائل اللغة والنحو خلل في المنهج، ولولا أن غلبة عمله المطلقة جاءت وفق منهجه، وأن انسياقه مع ابن جني في الاستطرادات اللغوية والنحوية كان ضئيلًا لا يقاس بهذه الغلبة لما قام تطبيقنا لهذا المنهج في هذا الشرح.
ونحن إذا نظرنا إلى هذا الشرح بعيدًا عن هوى صاحبه نحو ابن جني وجدنا أنه يستفيد من علماء اللغة في خدمة شرح الألفاظ والتراكيب، ولكنها استفادة محكومة بضوابط منهجه الذي اتبعه فمثلًا في بيت الحصين بن الحمام الذي يقول فيه:
من الصبح حتى تغرب الشمس لا ترى من القوم إلا خارجيًا مسوما
نراه ينقل في إيجاز آراء ثلاثة علماء في شرح لفظة "خارجيًا" قال: "قال الأصمعي كل ما فاق في جنسه فهو خارجي، وقال أبو عمرو الشيباني: الخارجي من الخيل والرجال: المنكر، وقال أبو زيد: إذا لم يكن للرجل في أهل بيته شرف ولم يثبت أحد منهم ثم ثبت واحد منهم فهو خارجي، ثم عقب على ذلك بقوله: "ومن روى من الخيل فالمراد بالخارجي المنكر على ما قال أبو عمرو الشيباني، وكذلك من روى من القوم وأراد من خيل القوم لكان صحيحًا".
فإذا تجاوزنا ما كان ينقله عن العلماء في مجال اللغة ونظرنا إلى غلبة عمله في المجال ذاته من خلال منهجه وجدنا انه كان يهتم بتفسير الألفاظ التي يرى أنها من الغريب ثم يورد المعنى. هذا في اللغة أما في النحو فإنه كان يتناول النحو من حيث إيضاح المعنى أنه باستثناء المواضع القليلة التي تابع فيها ابن جني، كان يركز على مناقشة المسائل النحوية التي تتصل بالمعاني، والتي تعين على إيضاح المعاني وإبرازها.
فمن أمثلة شرحه للغريب من الألفاظ ثم إيراده المعنى ما جاء عنه في بيتي إياس ابن فبيصة الطائي وهما:
ومبثوثٍة بث الدبا مسبطرٍة رددت على بطائها من سراعها
وأقدمت والخطى يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها
فقد بدأ عمله فيهما بشرح الألفاظ قال: "الدبا صغار الجراد، والمسبطرة الممدودة على الأرض، والبطاء جمع بطيء، ووحد الخطي لأنه أراد به الجيش" ثم بين غرض الشاعر من قوله فقال: "يصف شجاعته ليعلم أنه غير جبان" ثم عرض المعنى فقال: "يقول: رب خيل متفرقة على وجه الأرض رددت أولها على آخرها، أي إنه كان مدبرًا لها وقيمًا عليها".
ومثله ما جاء عنه في بيت مساور بن هند الذي هجا فيه بني أسد وهو:
زعمتم أن أخوتكم قريٌش لهم ألٌف وليس لكم ألاف
قد رأى أن اللفظة الوحيدة التي تحتاج إلى شرح هي الآلاف، ولذلك فسرها بقوله:"الآلاف كتاب أمان يكتبه الملك للقوم ليأمنوا في أرضه وهو هاهنا الائتلاف" ثم عرض المعنى فقال: "زعمتم أنكم مثل قريش، وكيف تكونون مثلهم ولهم تجارة بالشام واليمن وليس لكم ذلك".
وأن رأى أن النص لا يحتاج إلى شرح للألفاظ عرض المعنى بدءًا وذلك مثل عمله في بيت عبد الله بن عنمة الضبي الذي يقول فيه:
لا تجعلونا إلى مولًى يحل بنا عقد الحزام إذا ما لبده مالا
فقد عرض المعنى فيه بقوله: "أي لا تجعلونا مسندين إلى ابن عم يسلمنا عند الشدائد وإذا رأى منا ضعفًا اجتهد في أن يزيده، كأنه لما قال مال اللبد عن الفرس دل على استرخاء الحزام، وذلك مؤد إلى اضطراب الفارس".
ونراه في مواضع أخرى يورد شرح الألفاظ دون إيراد المعنى كأنه رأى أن في شرح الألفاظ ما يدل على المعنى ويغني عنه. ومن ذلك شرحه لبيت مسكين الدرامي الذي يقول فيه:
وفتيان صدٍق لست مطلع بعضهم على سر بعٍض غير أني جماعها
فقد اكتفى بتوضيح مرجع الضمير في جماعها وبشرح لفظة الجماع قال: "والضمير في جماعها يرجع إلى الفتيان، ويجوز أن يرجع إلى ما دل عليه الكلام من ذكر الأسرار، والجماع اسم لما يجمع الشيء، كما أن النظام اسم لما ينظم به الشيء، وقيل الجماع الذي تجمع فيه الأسرار".
وإذا كان قد رأيناه في غلبة عمله اللغوي لا يخرج عن منهجه فإنه كذلك في عمله النحوي، فهو ينظر إلى النحو وسيلة يوضح بها المعنى، ولا ينظر إليه مجالًا
يستعرض فيه ثقافته النحوية أو إظهار مقدرته على الإلمام بالقضايا النحوية وما فيها من اختلاف مذهبي على نحو ما نجد عند بعض الشراح وبخاصة ابن جني في منهجه العلمي التخصصي أو التبريزي في منهجه الانتخابي، إنما حسبه من النحو أن يعين على فهم معنى النص، ففي بيت دريد بن الصمة الوارد في باب الرثاء والذي يقول فيه:
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضي إلا ونحن على شطر
نراه يقف عند نصب "شطرين" فيقول هو منصوب على المصدر كأنه قال: قسمنا الدهر قسمين، ويجوز أن يكون حالًا على معنى قسمناه مختلفًا فوقع الاسم موقع الصفة لما تضمن معناه كقولك: طرحت متاعي بعضه على بعض كأنك قلت متفرقًا". فلا شك أن مثل هذا العمل يعين على فهم المعنى الذي أورده بعد هذا فقال: "يريد جعلنا أوقات الدهر بيننا وبين أعدائنا مقسومة قسمين، فلا ينقضي شيء منها إلا ونحن على أحد الحدين إما علينا وإما لنا".
ومثل ذلك أيضًا ما جاء عنه في بيت القتال الكلابي وهو:
فلما رأيت أنني قد قتلته ندمت عليه أي ساعة مندم
فقد وقف عند "أي" وبين أوجه الإعراب فيها بما يدل على المعنى ويوضحه قال: "أي رفع ونصب فمن نصب فعلى أنه وصف ظرف محذوف كأنه قال: ندمت عليه ساعة أي ساعة مندم، ومن رفع ذهب إلى مذهب الاستفهام المتعجب كأنه لما تم الكلام بقوله ندمت عليه متعجبًا: أي ساعة مندم، هذه التي ندمت فيها أي ليس هذا وقت الندم لأنه وقت حمية، فالرفع على استئناف جملة على جملة".
وجملة القول فيء هذا العنصر أنه عني بشرح الألفاظ والتراكيب من خلال معالجته اللغوية والنحوية وفق منهجه إلا في الأحيان القليلة التي كان يتأثر فيها بابن جني فينقل عنه ما يخرجه عن حدود منهجه الذي سلكه.
و- المعنى:
رأينا من خلال العنصر السابق أن صاحب هذا الشرح كان يعالج معاني الشعر وفق مسار متصل باللغة والنحو، فهو يعالج الألفاظ لغويًا ثم يورد المعنى، وقد يطرح مسألة إعرابية يستعين بها على إيضاح المعنى، وهو حين يعرض المعاني يعرضها بعبارات سهلة غايتها أداء الغرض في غير تنميق للأسلوب أو تخير للألفاظ، فهو في أسلوبه مختلف عن أصحاب المنهج الإبداعي الذين رأيناهم في تطبيق المرزوقي يتخيرون الألفاظ ويجودون سبكها في قالب أدبي رفيع، ومختلف كذلك عن أصحاب المنهج العلمي التخصصي الذين رأيناهم في تطبيق ابن جني يعمدون إلى العبارات التي تدل على أسلوب علمي بحت، إنه حين يعرض المعنى يعرضه مجردًا دون اللجوء إلى عبارات إيحائية مؤثرة، فأسلوبه في عرض المعنى لا هو بالأدبي الذي يمتع قارئه ويؤثر في وجدانه، ولا هو بالعلمي الذي يثير الذهن ويمتع العقل، إنه أسلوب أشبه بنثر البيت لا أكثر ولا أقل، ففي بيت عمرو بن معدي كرب الذي يقول فيه:
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت
نراه يعرض معناه فيقول: "لو أن قومي ثبتوا في الحرب وصفتهم في الشعر وذكرت مفاخرهم، ولكنهم انهزموا وطرحوا الرماح التي حقها أن يطعن بها، فكأن الرماح شقت لساني فلم أقدر على ذكرهم".
وفي بيت جابر بن رالان السنبسي الذي يقول فيه:
فإن تبغضونا بغضًة في صدوركم فإنا جدعنا منكم وشرينا
نجده يعرض المعنى بإيجاز بالغ حيث يقول: "المعنى إن تبغوضونا فحق لكم ذلك لأنا قهرناكم وذللناكم وبالغنا في الإساءة إليكم".
وهو بجانب عرضه للمعنى في أسلوب سهل مباشر كان يهتم بعرض المعنى في أكثر من وجه، وذلك وفق ما وقف عليه في شروح السابقين من معان، ففي بيت عبدة بن الطبيب الذي يرثي فيه قيس بن عاصم وهو:
عليك سلام الله قيس بن عاصٍم ورحمته ما شاء أن يترحما
نراه يعرض له وجهين في المعنى أحدهما صوره بقوله: "أي عليك سلامه ورحمته أبدًا لأن الله تعالى أبدًا يشاء الرحمة" والآخر صوره بقوله: "وقيل المعنى سلام الله ورحمته كثيرًا كقولك أصابنا ما شاء الله من الغيث، ورأينا من الخير ما شاء الله".
وفي بيتي جران العود اللذين يقول فيهما:
يوم ارتحلت برحلي قبل برذعتي والعقل متلٌة والقلب مشغول
ثم انصرفت إلى نضوي لأبعثه أثر الحمول الغوادي وهو معقول
نجده يصور معناهما فيقول: "هذا يصف اهتمامه بالفراق وتحيره حتى لا يدري كيف وجه الشيء فيأتيه من قبله، ألا تراه جعل الرحل قبل البرذعة ثم انصرافه إلى بعيره ليبعثه وهو معقول". ثم نقل رأيًا لأبي عبد الله النمري يتصل بالمعنى قال: قال النمري: "كذا روى أبو تمام هذين البيتين- والصواب عندي أن الأخير أول والأول أخير، وإلا كيف يرتحل عنه وهو ينصرف إليه" ثم أضاف: وغير النمري يقول هذا كله لدهشته لأنه قدم ما يؤخر وأخر ما يقدم".
وكان حق الشارح أن يعقب هنا على الخطأ الذي وقع فيه النمري في تفسير ارتحلت، وقد نبه إلى هذا الخطأ أبو محمد الأعرابي حيث أفاد بأن البيتين على ما روى أبو تمام صحيحان، وإنما جاء هذا الوهم لأبي عبد الله النمري من حيث أنه فهم من قوله "ارتحلت" معنى الرحيل، ولم يقصد الشاعر إلى ذلك وإنما قصد "ارتحلت"
بمعنى وضعت الرحل قبل البرذعة التي حقها أن تكون أولًا ثم يوضع الرحل عليها".
والحق أن دراستنا لهذا الشرح أثبتت أن صاحبه لم يغفل عن التنبيه على خطأ ما يورده من معاني الآخرين فحسب بل أثبتت أنه كان يخطئ في تفسير معاني النصوص فيورد في بعضها معاني بعيدة كل البعد عن المعنى الذي رمى إليه الشاعر، وهذا أهم مأخذ رأينا منه في عنصر المعاني. ولقد حاولنا أن نرصد أوهامه في هذا الخصوص فوجدناها ترجع إلى أمرين أحدهما عدم محاولته الوقوف على البواعث التي دفعت الشعراء إلى قول الشعر، والتي تؤدي معرفتها إلى إدراك مقاصد الشعراء ومراميهم من الكلام، والآخر وهمه في تصور المعنى المراد من النص نتيجة لقصور في إدراك أساليب الشعراء ومجرى كلامهم، فمن أمثلة الأمر الأول ما جاء عنه في بيت معقل بن عامر الأسدي الذي يقول فيه:
أنبئه بأن الجرح يشوي وأنك فوق عجلزٍة جموم
وهو بيت من أبيات قالها معقل بن عامر حين مر بابن الحسحاس بن وهب الأعيوي يوم شعب جبلة فوجده صريعًا فحمله على فرسه وداواه وأداه إلى أهله، وقال هذا الشعر يصف هذه الواقعة بينهما، وبناء على معرفة هذا الخبر الذي يدل على الباعث لقول الشعر يأتي معنى البيت، وهو معنى واضح صوره المرزوقي ونقله عنه التبريزي قال:"يريد أن تبلغيك المأمن سهل وإن ما بك من الجرح هين" غير أن هذا الشارح لما فات عليه معرفة الخبر المؤدي إلى باعث الشعر أتى في تفسيره بمعنى نقله عن النمري وهو "هذا يربط به جأشه يقول: إن شئت كررت وإن شئت فررت أي أقدم فإن الجرح يخطئ المقتل وأنت أيضًا على فرس جواد فكر إن شئت وإن شئت فر". وهو كما نرى معنى لم يقصد إليه الشاعر ولا يدل عليه البيت،
ولهذا اعترض عليه أبو محمد الأعرابي في تتبعه لأبي عبد الله النمري، وقال مشيرًا إلى تنكبه عن المعنى المراد "هذا موضع المثل".
أراد طريق العنصلين فياسرت به العيس في نائي الصوى متشائم
ثم أورد المعنى على نحو ما فسره المرزوقي.
ومن أمثلة الأمر الثاني ما جاء عنه في بيت تأبط شرًا الذي يقول فيه واصفًا نفسه:
يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا
فقد صور معناه بقوله: "أي لا يكون بالليل في الموضع الذي يبيت فيه الوحش، ولا يحمي أي لا يكف الأذى عن الوحش"، وهو تفسير يدل على أن صاحبه لم يقف على شعر الصعاليك من أمثال تأبط شرًا في حديثهم عن الوحش، كما أن ظاهر الألفاظ لا يدل على ما جاء به من معنى، فقد قلبه تمامًا، ومعناه كما صوره المرزوقي "إن مجامع الأنس تكرهته فلفظته، فألف القفار، ولزم مرابع الوحش ومساكنها حتى أنست به وسكنت إليه وعدته واحدًا منها، وصار هو أيضًا على تعاقب الزمان وتصرف الأحوال لا يحمي من أجلها مرعى".
هذا الوهم الذي وقع فيه الشارح في هذا المثال وسابقه في تفسير معنى الشعر ما كان لنا أن نؤاخذه عليه لولا أنه دل بقلمه على أنه قرأ شرح المرزوقي، كما أنه كان ينقل عن التبريزي دون أن يشير إليه كما أوضحنا، وإذا كان قد وقف على الشرحين معًا فكان يلزمه ألا يقع فيما وقع من خطأ في التفسير لأن مصادره التي يرجع إليها تعصمه من ذلك.
ز- البلاغة والنقد:
لم يهتم الشارح بهذا العنصر، ولا حظي منه بعناية تذكر، فهو في مجال النقد لم نر له سوى نقد الرواية الذي عرضنا له فيما سبق. أما في البلاغة فقد أهمل جل نواحيها في ميادينها الثلاثة البيان والمعاني والبديع، فالذي يقرأ شرحه لا يجد سوى وقفات ضئيلة تخص الاستعارة والمجاز، وعمله فيهما لا يدل على عناية تهدف إلى تبيان أثر هذين اللونين في جودة الشعر وحسنه، وإنما يأتي الحديث عنهما عرضًا في أثناء الشرح كأن الأمر ليس من مطلبه ولا غايته. ومن ذلك ما جاء عنه في بيت مسلم ابن الوليد الذي قاله في مالك بن علي على الخزاعي وهو:
نفضت بك الاحلاس نفض إقامٍة واسترجعت نزاعها الأمصار
قال: "الاحلاس جمع حلس وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير وذكره هاهنا استعارة".
ولعل الموضع الوحيد الذي رأينا فيه عناية بهذا اللون البلاغي، هو ما جاء عنه في بيت الفرار السلمي القائل:
وكتيبٍة لبستها بكتيبٍة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
قال: "أي تركت معاونتها، ولم أشغل يدي بها، فاستعار نفض اليد للإعراض عنها، يقال: نفضت اليد من فلان ولفلان أشد النفض إذا وكلته لنفسه"، ومع ذلك فهي عناية لا تبين موطن الجمال في التصوير الاستعاري بقدر ما هي عناية شرح للتركيب الذي نجمت عنه الاستعارة.
هذه هي العناصر التي قام عليها عمل هذا الشارح، حاولنا أن نستعرضها من خلال نظرتنا إلى المنهج الاختصاري التسهيلي، ولقد رأينا في غلبة عمله يحقق مقومات هذا المنهج وصفاته، إلا في مواضع قليلة عبنا عليه فيها: نقله عن ابن جني ومجاراته إياه في الاستطراد اللغوي والنحوي، كما عبنا عليه عدم إفادته من المصادر
التي كانت تحت يده إفادة تعصمه من الخطأ في تفسير الشعر، هذا فضلًا عن أننا يمكن أن نأخذه عليه تركه الكثير من القطع دون شرح، ربما رأى أنها واضحة المعاني لا تحتاج منه إلى عمل، ولكن الوضوح شيء نسبي، فما تراه أنت واضحًا قد يراه غيرك ليس بواضح، والوضوح لدى الشارح ذي المنهج التسهيلي لا يعني الترك وبخاصة إذا علمنا أن أصحاب هذا المنهج يكتبون لفئة معنية من القراء، يحاولون إعانتها على فهم الشعر وإدراك معانيه بأسهل الطرق وأقربها، وسهولة الطرق وقرب مأخذها في شرح الشعر ليست مبررًا إلى ترك الواضح منه، وإلا تحول العمل من شرح للشعر إلى رواية فقط، والرواية جزء من عمل الشارح وليست كل عمله.
وإذا كان قد برز في القرن الخامس والسادس رجلان اتجها في شرح الحماسة هذه الوجهة من الاختصار والتسهيل، فإن ثمة رجلًا ثالثًا قد اتجه أيضًا إلى هذه الوجهة هو أبو الحجاج الأعلم الشنتمري وذلك في شرحه المسمى "تجلي غرر المعاني" وهو من حيث الترتيب الزمني يلي زيد بن علي الفارسي في الاتجاه إلى هذا المنهج الاختصاري التسهيلي، غير أنه اتجه في رواية متن الحماسة وجهة تختلف عن سائر الشراح الذين وقفنا على شروحهم، إذ أن جميع الشراح قد حاولوا جهد طاقاتهم أن يلتزموا باختيار أبي تمام في الحماسة دون تبديل أو تعديل وأمرهم في رواية متن الحماسة- كما رأينا- يرجع إلى ما كان لديهم من نسخ للحماسة، ووفق هذه النسخ كانت اختلافاتهم في رواية الشعر. أما الأعلم الشنتمري فقد غير في الحماسة
تغييرًا غير قليل، وهو تغيير مس أبواب الحماسة، وقطع هذه الأبواب، وترتيبها، ورواية عدد الأبيات في القطعة الواحدة. الأمر الذي يمكن معه القول بأن الأعلم قد صنع حماسة غير حماسة أبي تمام.
فمن حيث الأبواب وجدناه يفصل بين باب الأضياف والمديح، الذي جاء بابًا واحدًا في سائر الشروح، غير شرح المرزوقي الذي سبق أن أوضحنا أن نساخ شرحه هم الذين جعلوا هذا الباب بابين، وأتينا بالأدلة على ذلك. أما الأعلم فقد كان واضحًا أنه هو الذي فعل ذلك، لأنه كان يرتب القطع في داخل الأبواب بحسب القوافي، يبدأ بقافية الهمزة وينتهي بقافية الياء، ولذا جاءت القطعة الأولى في كل من البابين على قافية الهمزة أو الألف كما يسميها هو، هذا فضلًا عن أنه أضاف بابًا جديدًا سماه "باب الكبر" جاء في آخر الأبواب وروى فيه ست قطع، ومن ثم صارت الأبواب في شرحه اثني عشر بابًا لا عشرة كما جاء في حماسة أبي تمام.
أما اختلاف القطع فواضح أن الأعلم قد حذف جملة من القطع التي رواها أبو تمام في كل باب من الأبواب، كما أضاف في هذه الأبواب قطعًا لم يخترها أبو تمام، لعله أخذها من كتب الاختيارات التي تلت اختيار أبي تمام، ومن أمثلة ذلك قطعة رواها في باب النسيب همزية القافية ونسبها إلى أبي زبيد الطائي مطلعها:
إنما مت غير أني حٌي يوم بانت بودها أسماء
وكذلك قطعة رواها في الباب ذاته جاءت على قافية الباء وهي:
ألا لا أرى وادي المياه ينيب ولا النفس عن وادي المياه تطيب
أحب هبوط الواديين وإنني لمشتهر بالواديين غريب
وجاء ترتيب القطع مختلفًا من حيث إن أبا تمام لم ينظر إلى القوافي في الترتيب أما الأعلم فقد رتب القطع بحسب القوافي بادئًا بالهمزة ومنتهيًا بالياء.
ورأيناه أيضًا في بعض القطع التي أخذها من حماسة أبي تمام لا يكتفي بما اختاره أبو تمام ورواه، بل كان يضيف إليه ما يجده في كتب أخرى، ومن أمثلة ذلك قطعة الهذيل بن مشجعة البولاني التي وردت في باب المديح والتي مطلعها:
إني وإن كان ابن عمي غائبًا لمقاذف من خلفه وورائه
فقد بلغت في رواية الشروح التي وقفنا عليها ستة أبيات، أضاف إليها الأعلم ثلاثة أبيات أخرى هي:
وإذا استراش حمدته ووفرته وإذا تصعلك كنت من قربائه
وإذا أردت عتابه أنظرته
…
حتى أعاتبه ببعض خلائه
وإذا غدا يومًا ليركب مركبًا صعبًا قعدت له على سمسائه
ومما لاشك فيه أن هذه الاختلافات التي عمد إليها الأعلم الشنتمري فيما صنعه من اختيار قد باعدت بين كتابه وحماسة أبي تمام، ولكن الذي يهمنا هنا هو طريقته في شرح الشعر سواء في القطع التي أخذها من حماسة أبي تمام أو القطع التي أضافها من عنده، وهو شرح _كما رأيناه_ يسير وفق المنهج الاختصاري التسهيلي، وهذا واضح من ظاهر قوله في خاتمة كتابه فقد قال بعد أن أوضح تاريخ بدء العمل فيه وتاريخ الفراغ منه:"وأرجو أن يكون معطًى حقه من التلخيص والتقريب وموفًى قسطه من التلخيص والتهذيب"، فشرحه إذن يقوم على تلخيص ما قرأه من شروح سابقة، وعلى تقريب مادة الشرح لقارئيه وتلخيصها وتهذيبها.
والحق أن الذي يقرأ الشرح يحس بأن الأعلم قد توخي التسهيل في شرح الشعر بصورة لا تخفي فهو شرح يقوم في غلبته العظمى على تفسير الألفاظ في النص وإيراد
معناه، والأمثلة على ذلك يستطيع أن يعثر عليها القارئ من أول الكتاب إلى آخره، ففي بيتي قيس بن الخطيم اللذين وردا في أول قطعة في باب الأدب وهما:
وما بعض الإقامة في ديار يهان بها الفتى إلا عناء
وبعض خلائق الأقوام داء كداء البطن ليس له دواء
نراه يعمد غلى شرح لفظة "العناء" ثم يورد المعنى. قال: "العناء المشقة أي من أقام على هوان فهو في مثل حال المسافر عناء ومشقة، فلا ينبغي أن يضام على ذلك، وقوله: "وبعض خلائق الأقوام داء" أي من جبل على خلق دنيء لم يصرف عنه بغلبة الطبع عليه، فمثله مثل المبطون لا دواء له".
ونراه يشرح بيتي عبد الله بن الزبير الأسدي في باب الأدب فيوجز في ذلك غاية الإيجاز والبيتان هما:
لا أحسب الشر جارًا لا يفارقني ولا أحز على ما فاتني الودجا
وما نزلت من المكروه منزلةً إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
فقد قال فيهما: "يقول: إذا نزل بي شر لم أيأس من الخير، وعلمت أنه سيفارق كالجار الذي لا يقيم، ومعنى أحز أقطع، أي لا أستهلك في تتبع ما فات من عرض الدنيا ولا أموت غمًا في أثره، فضرب حز الودج مثلًا".
وهو بجانب ما رأيناه من خلال هذين النموذجين في توخيه سهولة العبارة في الشرح والميل إلى تسهيل المعنى وتقريبه للقارئ، كان لا يثير القضايا النحوية واللغوية في أثناء الشرح، وإنما غايته من ذلك لا تتجاوز غاية أصحاب هذا المنهج التي تتمثل في إيضاح معنى النص بأقرب وأسهل طريق، ولذا رأيناه عرض لمسألة تتصل بالإعراب يعرض لها من خلال إبراز المعنى لا غير، ومن ذلك ما جاء عنه في بيتي عروة بن الورد اللذين يقول فيهما:
قلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عند مأوان رزح
تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم إلى مستراح من حمام مبرح
قال: "وجزم تناولوا على جواب قوله تروحوا".
وكذلك إذا عرض للرواية عرض لها في إيجاز واضح، وذلك على نحو ما جاء عنه في بيت أبي الطمحان القيني، وقد جاءت روايته له على النحو:
وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح
ثم أشار في الشرح إلى رواية أخرى قال: "ويروي "من غد" وهو أبين".
وكذلك كان شأنه في جانب البلاغة إذا عرض للون من الألوان البلاغية في شرح الأبيات. ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت النسيب الذي نسب إلى آخر وهو:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
قال فيه: "الرائد المتقدم في طلب المرعى، واستعارة لأول النظر أي إذا أبصرت إلى شيء يهواه قلبك أتعبك ما نظرت إليه بما حملك من العشق".
وصفوة القول أن الأعلم بشرحه هذا الذي تصرف في رواية متنه با خالف فيه اختيار أبي تمام قد استطاع أن يحقق خطوة في المنهج الاختصاري التسهيلي بعد زيد ابن علي الفارسي، وهو في التزامه بهذا المنهج كان أكثر اهتمامًا بعنصر المعنى، وإذا عرض إلى عناصر الشرح الأخرى كان الإيجاز والتيسير سبيله، وربط ما يناقشه من عناصر بعنصر المعنى بحيث يمكن أن نقول إنه قد وظف العناصر الأخرى لخدمة عنصر المعنى، وهذا أحد مقومات هذا المنهج على نحو ما وضحنا فيما سبق.
وإذا كان الأعلم الشنتمري ومن قبله زيد بن علي الفارسي قد اتجها في شرح الحماسة إلى هذا المنهج الاختصاري التسهيلي وهما، كما رأينا، من علماء القرن الخامس الهجري فإن هناك عالمًا من علماء هذا القرن قد نحا في شرحه المنحي نفسه هو أبو الحسن البياري، يدل على ذلك مقدمته التي صدر بها الجزء الأول من شرحه الذي وصل إلينا، فقد قال فيه بأسلوب ركب فيه السجع: "أما بعد فقد أجمع الرواة على كتاب الحماسة أنه أمثل كتاب عمل في الأبيات، وقد قصر به عن من لا يفهمه أنه لم يقع فيه شرح شاف ولا فسر تفسير كاف، إلا تفسيرًا لم يسغ شرقًا ولم يفتح غلقًا، فسر من شأنه اللغة فإن أخذ عنها ضل وأضل، أو من فسر أبياتًا منه أشتاتًا هو فيها، كما قال جزء بن ضرار:
قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها بوائج في أكمامها لم تفتق
أو من عني بالأيام فأخلد إليها واقتصر إلا فيما قل عليها، فعمدت احتسابًا إلى
إيضاح ما بلغه علمي من غريبة ومعانيه، وذكر نكت من النقد، وفقر من الأيام، وإيماء إلى بعض ما وقع من الكتاب في غير موضعه ليتوصل بها إلى تصور ما فيه باختصار من غير إكثار".
فظاهر من هذه المقدمة أن الرجل قد حدد منهجه أنه سوف يشرح الحماسة مركزًا على جوانب معينة في اختصار وإيجاز، وهو يبدو كذلك من خلال ما قرأناه له في الجزء الأول من شرحه، ولولا أن شرحه لم يصل إلينا كاملًا لكان أولى بتطبيق هذا المنهج من الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء المعري، إذ أن جميع مقومات هذا المنهج وصفاته تكاد تكون متوفرة فيه سوى إسهاب طفيف بدا منه في مواضع قليلة عند معالجته لبعض أجزاء من أبيات الحماسة مثل وقفته في تركيب لو وجوابها في صورها المختلفة، وذلك في أول بيت من أبيات الحماسة وهو:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
على أن هذا الإسهاب الطفيف في بعض النواحي لا يخرجه عن حد المنهج الذي رسمناه، فهو من خلال ما جاء في الجزء الأول وما نقله عنه كل من أمين الدين الطبرسي وأبي الرضا الراوندي في شرحيهما المخطوطين يبدو ملتزمًا بجميع مقومات المنهج وصفاته، إذ أن أكثر جهوده في الشرح مقصورة على توضيح الألفاظ وإيراد المعاني في سهولة ويسر وإيجاز واختصار، ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت جعفر ابن علبة الوارد في باب الحماسة وهو:
هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق
فقد بدأ بتوضيح علة وجود البيت في باب الحماسة، مع ما ينطوي عليه من نسيب فقال:"هذا موضعه باب النسيب، وإنما وضع ها هنا، لأن فيه معنى الفخر بالنجدة، يريد أنه رابط الجأش لا يهوله ما مني به من الحبس، وما يرقبه من القتل". ثم انتقل فوضح الدافع النفسي إلى قول هذا الشعر فقال: "رأى صاحبته
وهو محبوس بدم العقيلي زارته في نسوة فلما خرجت تبعتها نفسه وانتبه فقال هذا الشعر". ثم مضى يفسر الألفاظ التي اشتمل عليها البيت من خلال وضعها في السياق لا من خلال كونها مفردة مجردة، سالكًا في ذلك سبيل الاختصار والإيجاز قال: "الركب أصحاب الإبل الواحد راكب، مصعد أصعد في الجبل ذهب، جنيب ومجنوب أي لزم الركب لا يبرحهم كأنه مجنوب إليهم، وجثمان كل شيء جسمه، موثق قد أوثق بقيد أو قد".
وهو هنا وفي مواضع كثيرة نراه لا يورد المعنى حيث يستغني عنه بما يفسر من ألفاظ ورأيناه في مواضع أخرى عديدة يكتفي بإيراد المعنى مستغنيًا به عن شرح الألفاظ وذلك عندما لا تشتمل الأبيات على الغريب، وذلك في مثل عمله في بيت يزيد بن الحكم الكلابي القائل:
دفعناكم بالقول حتى بطرتم وبالراح حتى كان دفع الأصابع
فقد أورد معناه دون حاجة إلى شرح ألفاظه قال: "يقول: نابذتمونا فلنا لكم، واستصلحناكم بالقول فأبيتم، فصرنا إلى دفعكم بالراح، يريد مسحناكم كما تمسح الدابة الشموس، ورفقنا بكم جهدنا ثم صرنا إلى معاناتكم إما بلكم وإما قتال بسلاح، وأضاف ذلك إلى الأصابع لأنها هي التي تضبط السلاح وتعلمه".
على أن هذا الشرح فيما يبدو بجانب ركونه إلى المنهج الاختصاري التسهيلي قد أضاف فوائد جمة من خلال المصادر التي اطلع عليها وبخاصة شرحي أبي رياش وأبي الندى، وتبدو هذه الفوائد في توضيح بعض القطع التي وردت غفلًا في الحماسة لأصحابها، وفي جملة من اللمحات النقدية التي جاءت في مواضع من
شرحه في نقد أبيات الحماسة، وهي تدل على أنه كان له باع طيب في مجال نقد الشعر، ولعل هذا ما دفع الدكتور هاشم الشريف إلى القول بأن شرح البياري يعد من أفضل الشروح، وهو كذلك إذا نظرنا إليه بالنسبة للشروح التي تشترك معه في المنهج الاختصاري التسهيلي، أما بالنسبة للشروح ذات المناهج الأخرى فلا نظن الأمر كذلك، فشرح المرزوقي ذو المنهج الإبداعي الفني وشرح الطبرسي ذو المنهج الانتخابي يتفوقان عليه في كثير من النواحي، بالرغم من إفادة الثاني منه، وعدم إفادة الأول من شرحي أبي رياش وأبي الندى اللذين أفاد منهما البياري.
تلك هي مناهج الشراح الذين وصلت إلينا شروحهم، وهذا هو عملنا في تطبيقها من خلال النظرة الموازنة بينما طرحوه من شرح للشعر في عناصره المختلفة، حاولنا فيه أن نعطي كل شارح حقه، ما له وما عليه، مراعين في ذلك غايات الشراح، والمؤثرات التي تسلطت عليهم أثناء عملية الشرح فأثرت في مسارهم الذي سلكوه في أعمالهم.
بيد أن هذا إن كان قد تحقق لنا في شروح وصلت إلينا كاملة، ومثلت الفترة الزمنية التي حددناها لعملنا، فإن هناك شروحًا أخرى تدخل في مدار عملنا لم تصل إلينا كاملة، وإنما وصل بعضها مختصرًا أو في صورة نقولات في شروح أخرى أو وصلت غلينا ولكن في صورة عمل ينأى عن سائر المقومات والصفات التي حددناها لمناهج الشراح فيما سبق، ومن هنا كانت غير واضحة المعالم في مناهجها، وكان من المتعذر دراستها تحت المناهج الخمسة التي درسناها في القسم من البحث، وطبقنا عليها أعمال الشراح. ولهذا اقتضت طبيعة العمل فيها أن ندرسها وحدات قائمة لذاتها محاولين استنطاق ما جاء إلينا منها لمعرفة مسار أصحابها في عملية شرح الشعر.
هذا من جانب، ومن جانب آخر أن دراستنا لمناهج الشراح وتطبيقها، وكذلك دراستنا لهذه الشروح غير واضحة المنهج قد كشفت لنا في مجموعها عن ظواهر عامة في عملية شرح الشعر، فاقتضى عملنا ذو النظرة الموازنة في المناهج والتطبيق أن نعرض لهذه الظواهر بالدراسة وأن نكشف من خلال بحثنا فيها عما بدا لنا من آراء، وهي آراء لا تمس شرح الشعر في الحماسة فحسب بل تمس شرح الشعر القديم بعامة.
ومن أجل هذا رأينا أن يقوم قسم ثالث من هذا البحث نعقده في فصلين: فصل نعالج فيه هذه الشروح التي نوهنا بها سالفًا، والتي هي غير واضحة المعالم في مناهجها، وتحتاج إلى دراسة جزئية لا كلية. وفصل نعالج فيه هذه الظواهر التي بدت لنا في أعمال الشراح ذوي المناهج الواضحة وغير الواضحة، وهذا ما نحاوله في القسم الثالث إن شاء الله.
القسم الثالث
1 -
شروح غير واضحة المنهج
2 -
ظواهر عامة في أعمال الشراح