الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: المنهج العلمي التخصصي وتطبيقه في أعمال ابن جني
ى
عرضنا فيما سبق صفات هذا المنهج ومصاييره التي يقوم عليها، وأشرنا إلى أن تطبيقه سوف يكون مقصورًا على أبي الفتح عثمان بن جني في كتابيه ((المبهج)) و ((التنبيه)) باعتبار أنه الشارح الوحيد الذي يدخل ضمن فترتنا الزمنية لهذا البحث، ووصلت إلينا أعماله كاملة، وهي أعمال تدل على أنه جعل من الحماسة وأسماء شعرائها وأعلامها مجالًا يثير فيه كوامن العلوم التي تخصص فيها، ومعضلات اللغة والنحو التي عرف بها، بل إنه الشارح الوحيد من شراح الحماسة الذي حدد في مقدمة شرحه إنه لا يكتب لعامة القراء من ذوي القدرات المبتدئة أو المتوسطة، وإنما يكتب لخاصة الخواص من ذوي التخصيص العالي، والملكات ذات القدرة المدربة على الفهم والاستيعاب. قال في مقدمة ((التنبيه)) بعد أن حدد منهجه فيه: ((وبعد فان هذا الكتاب لست أعمله لمبتدئ ولا متوسط وإنما أخاطب به من قد تدرب فكره وقوي نظره، وهو الذي يغري به ويقوي حظه منه، فأما من دون ذلك فيتجافي عنه
إلى مسموع يحفظه لتخف عليه كلفته وجشمه)).
لقد تمثل عمل ابن جني في الحماسة في كتابين كلاهما يدل على منهجه العلمي التخصصي، فالمبهج خصصه لشرح أسماء الحماسة، والتنبيه خصصه لشرح معضلات الإعراب وما يلحق به من اشتقاق أو تصريف أو عروض أو قواٍف. ولقد صدر كلًا من الكتابين بمقدمة جاءت موطئه للعمل وفاتحة له، ودالة على منهجه في الشرح، ففي مقدمة المبهج قال ابن جني بعد أ، حمد الله:((هذا تفسير أسماء شعراء الحماسة، وينبغي أ، تعلم أن في ذلك علمًا كثيرًا وتدربًا نافعًا، وستراه بإذن الله)) ثم مضى قائلًا: ((يجب أن يقدم أمام ذلك أحوال هذه الأسماء والأعلام، وكيف طريقها؟ وعلى كم وجها نجدها؟ وإلى كم ضربًا قسمتها))، ثم استرسل فعقد درسًا في أسماء الأعلام بين فيه ما كان مرتجلًا وما كان منقولًا، وأقسام كل من المرتجل والمنقول، وما يتصل بهما من أمور تدخل في صميم اللغة محاولًا في كل خطوة يخطوها أن يدعم كلامه بالأمثلة والشواهد والشرح، حتى وصل في النهاية إلى قوله:((قد فرغنا مما كنا ضمنا تفسيره فيما تقدم من أحوال الأعلام، ونحن نورد الأسماء المحتملة للقول من أسماء شعراء الحماسة ونقول في كل ما يحضرنا ويسنحه الله تعالى لنا)).
ولم يبن ابن جني عن منهجه الذي سوف يسير عليه في هذا الكتاب، غير أن ما وطأ به كتابه يفيد ضمنًا بأنه سوف يسير في شرح أسماء الشعراء وفق هذه المقدمة التي طرح فيها أحوال أسماء الأعلام وطرائقها ووجوهها وأضرب قسمتها، وأنه لن يشرح كل اسم أو علم ورد في الحماسة، بل يشرح من الأسماء والأعلام ما يحضره ويسنحه له الله تعالى، بمعنى أنه سوف يسجل في شرحه ما يدور بخلده ويجول في فكره مما يتيح لقارئه العلم الكثير والتدرب النافع.
أما في ((التنبيه)) فقد وضح منهجه فيه بجلاء، قال مخاطبًا من صنع له
الكتاب: ((وقد أجبتك أيدك الله إلى ملتمسك من عمل ما في الحماسة من إعراب وما يلحق به من اشتقاق أو تصريف أو عروض أو قواف، وتحاميت شرح أخبارها أو تفسير شيء من معانيها إلا ما ينعقد بالإعراب فيجب لذلك ذكره من حيث كان قد سبق إليه جماعة من مثل أبي رياش والديمرتي والنمري وغيرهم. ولأنك كثيرًا ما تجد في حواشي نسخ هذا الكتاب (يريد اختيار الحماسة) كثيرًا من تفاسيره، ولم أر أحدًا تعرض لعمل ما فيه من صنعة إعراب فتابعتك على ما أردت)).
فهو إذن لن يتحقق في شرحه جميع العناصر التي يقتضيها الشرح، لأن مثل هذا العمل قد سبقه إليه رجال، وإنما يريد أ، يسد نقصًا رآه في أعمال الحماسة وهو الإعراب، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنه بجانب الإعراب سوف يناقش أمورًا تتصل به من اشتقاق أو تصريف أو عروض أو قواف، وهو في هذا لن يتناول كل هذه الأمور في جميع أبيات الحماسة، وإنما يناقش منها مواضع حددها بأنها تقوم على ضربين أحدهما ظاهر الإشكال تشاق النفس إلى كشفه، والآخر ساذج الظاهر تريك صفحته ألا شيء فيه ومن تحته أغراض ودفائن إذا تجلت لك راعتك وازدهتك)).
ووفق هذا المنهج سار ابن جني في كتابه، يعرض لمشكلات الحماسة من خلال هذين الضربين في الإعراب والتصريف والاشتقاق والعروض والقوافي. وإذا كان هذا هو منهجه فمن الطبيعي ألا نبحث في شرحه عم سائر العناصر التي تعرضنا لها في تطبيق المنهج إلا بداعي عند المرزوقي، لأن صاحب هذا المنهج لم ينظر إلى الحماسة اختيارًا أدبيًا يريد أن يجلو في شرحه كل ما يتصل بالأدب وفنونه، فهو لا يبحث في النصوص عن مقاصد الشعراء ولا المعاني التي توخوها في شعرهم، ولا الظروف والمناسبات التي دعتهم إلى قول الشعر، ولا مواطن الجمال فيما قالوه ولا أثر أساليبهم في نفوس متلقي شعرهم، ولا يريد أ، يشغل بها نفسه لأنها في رأيه قد عولجت من غيره، ومن ثم فأننا نبحث في عملي ابن جني في المبهج والتنبيه وفق العناصر الآتية:
1 -
شرح أسماء الشعراء والأعلام:
اهتم ابن جني بهذا العنصر اهتمامًا فاق فيه جميع شراح الحماسة من حيث عقد له كتابًا خاصًا تناول فيه نحو عشرة ومائتي علم، ولا نبعد في القول إذا قلنا أن ابن جني كان بعمله هذا دافعًا للشراح الذين جاؤوا بعد للاهتمام بهذا العنصر مثل أبي العلاء وزيد بن علي الفارسي والتبريزي وعيرهم.
والظاهرة التي تسود عمل ابن جني في هذا الجانب هو أنه كان يستقصي شرح العلم من جميع الجوانب ويضع الاحتمالات التي تتصل به مرتجلًا كان أو منقولًا، فإذا كان منقولًا بحث في كنهه أهو عين أم معنى؟ وإذا كان عينًا فما حقيقته هل هو اسم صفة أو غير اسم صفة، إلى غير ذلك من أصناف الأعلام المنقولة. أما إذا كانت الأعلام مرتجلة فهو أيضًا يستقصي شرحها موضحًا عما إذا كانت قابلة للقياس وليس فيها خروج عنه، أو كانت مدفوعة بالقياس والعلمية هي سوغته فيه. وهو في جميع ما تقدم يستعين بما جاء عن السابقين أمثال سيبويه وأبي الحسن الأخفش، وأبي زيد الأنصاري وأبي سعيد السكري وأبي علي الفارسي وغيرهم، ممن كان له في مجال اللغة والتصريف والاشتقاق قول، كما يستعين بالشواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر القديم الفصيح في إقرار كل ما يراه من قواعد وأحكام.
إن أعماله في الأعلام المنقولة والمرتجلة تدل على سيادته بعلم التصريف وعلوه في الاشتقاق، واستيعابه التام لما يقبله القياس وما لا يقبله، ونستطيع أن نلمس ذلك في جملة من الملاحظ: أولها: أنه في الأعلام المنقولة كان لا يكفي بتوضيح النقل فحسب بل يشرح المنقول منه ويبين كل ما يتصل به من معان وأحكام، كما يشرح العلم المنقول ويبين ما فيه من لغات وعلاقة بالتصريف. من ذلك ما جاء عنه في العلم ((يعفر)) قال:((وأما يعفر فمنقول بمنزلة يزيد ويشكر وتغلب، يقال عفرت الزرع إذا سقيته أول مرة، وعفرت النخل إذا فرقت من لقاحه، وعفرت الرجل في التراب أعفره)). ثم مضى مفسرًا اللغات في العلم المنقول قال: ((وفيه ثلاث لغات: يعفر، ويعفر، ويعفر)) ثم نظر الى الصرف ومنعه بحسب هذه اللغات الثلاث فوضح أن من فتح الياء فقياسه ألا يصرف للتعريف ووزن الفعل بمنزلة
يشكر، وأن من ضم الياء والفاء فقياسه أن يصرف لزوال مثال الفعل، وأما من ضم الياء وكسر العين مثل يكرم فابن جني يرى ألا سؤال في ترك الصرف لأنه جاء على وزن الفعل ولفظه.
وهو في هذا الجانب- أعني جانب الصرف ومنعه- يعتمد كثيرًا عليه في توضيح أصل الأعلام واشتقاقها. ومن أمثلة ذلك مناقشته لحسان علما، فهو عنده من الحس وليس من الحسن فوزنه فعلان لا فعال بدليل أنهم منعوه من الصرف ومثله غسان قال فيه: ((إن كان من الغس فهو فعلان وإن كان من الغسن- وهي خصل العرف- فهو فعال، وينبغي أ، يكون فعلانًا لامتناعهم من صرفه قال النابغة الذبياني:
وثقت لهم بالنصر إذ قيل قد غزت كتائب من غسان غير أشائب
ومثلما يستقصي الشرح في الأعلام المنقولة يفعل الشيء نفسه في الأعلام المرتجلة ففي ((بهراء)) مثلًا قال: إنه ((مرتجل علمًا غير منقول ولا مذكر لها)) ثم نظر إلى لفظ ((الأبهر)) الوارد في كلام العرب والذي يطلق للعرق في الصلب فقال: إنه ((ليس بمذكر بهراء، ولكن التقاؤهما تركيب اتفق في اللغة بمنزلة سلمان وسلمى، وليس سلمان من سلمى كسكران من سكري لأن فعلان صاحب فعلى بابه الوصف كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى. أما سلمان وسلمى فعلمان مرتجلان وليس من الوصف في قبيل ولا دبير)).
وثانيها: أنه يفيد من السابقين فيما خلفوه من آراء تتصل بالأعلام وأوزانها، ولكنه في إفادته هذه لم يكن ناقلًا بحتًا وإنما كان يناقش ويرجح بين الآراء، ومن
ذلك أنه وقف في ((أسماء)) علمًا فقال: ((ذكر سيبويه أسماء في جملة الأسماء التي آخرها زائدتان، زيدا معًا فحذفا في الترخيم معًا، نحو سكران وبصري ومسلمات وأشباه ذلك، وتتبع أبو العباس هذا الموضع على سيبويه فقال: لم يكن يجب أن يذكر هذا الاسم في جملة هذه الأسماء من حيث كان وزنه أفعالًا، لأنه جمع اسم، وذهب أبو العباس إلى أنه إنما منع الصرف في العلم المذكور من حيث غلبت عليه تسمية المؤنث فلحق عنده بباب سعاد وزينب، وقال أبو بكر: تقوية لقول سيبويه انهه في الأصل وسماء قلبت واوها همزة وان كانت مفتوحة، وذهب في ذلك إلى باب أحد وأجم وأناة)). فهذه الآراء الثلاثة من قبل هؤلاء العلماء يوردها ابن جني ثم يعقب عليها، قال فيما ذهب إليه أبو بكر ((كأن أبا بكر إنما شجع على ارتكاب هذا القول لأن سيبويه شرعه له، وذلك أنه لما رآه قد جعله فعلًا، ولم يجد في الكلام تركيب ((ء س م)) تطلب لذلك وجهًا فذهب إلى البدل، وقال فيما ذهب إليه سيبويه وثعلب:((وقياس قول أبي العباس أن تنصرف أسماء نكرة، وأما على مذهب صاحب الكتاب فأنها لا تنصرف نكرة)) ثم بين رأيه في هذا فقال: ((ومعنى قول سيبويه وأبي بكر فيها أشبه بمعنى أسماء النساء وذلك أنها عندهما من الوسامة وهي الحسن فهذا أشبه في تسمية النساء من معنى كونها جمع أسماء)).
ومثل هذا ما جاء عنه في ((إياس)) علمًا قال: ((اياس مصدر أسته أؤوسه أوسًا واياسًا إذا أعطيته)) ثم دعم ÷ذا القول بما جاء عن شيخه أبي على الفارسي قال: ((قال أبو على: سموا الرجل إياسًا كما سموه عطاء)) ثم أورد رأيًا لأبي سعيد السكري قال: ((وتوهم أبو سعيد السكري أن أياسًا مصدر قولهم أيست من الشيء إياسًا)) وعقب على هذا القول واصفًا إياه بأنه سهو ظاهر، وبرهن على عدم صحته بقوله: ((إن أيست مقلوبة من يئست ولا مصدر لأيست، ولو كان له مصدر لكان أصلًا لا مقلوبًا كما أن جبذت لما كان له مصدر وهو الجبذ كان أصلًا لا مقلوبًا حكمنا
أنه أصل غير مقلوب من جذب، ويؤكد أن أيست مقلوبة من يئست صحة عينها، ولو لم تكن مقلوبة لوجب اعلالها)).
ثالثها: أنه في تفسير الأسماء يعتمد على المنطق كثيرًا، والاعتماد على المنطق في تعليل الأشياء من أظهر صفات مدرسة القياس التي سبق أن أشرنا إلى أن ابن جني هو أحد دعاماتها، ولقد لاحظنا ذلك كثيرًا عنده في المبهج، ومن ذلك ما جاء عنه في اسم ((أبي بن سلمى)) أحد شعراء الحماسة. قال:((يجوز أن يكون تصغير إباء مصدر أبيت إباء)) ثم استدرك فقال: ولست أقول أن المصدر يحقر لكنه كأن انسانًا سمي إباء كما يسمى مضاء ثم حقر ذلك الاسم لتحقير المسمى ثم رجع إلى تعليل عدم تحقير المصادر فقال: ((فأن قيل فهلا جاز تحقير المصدر نفسه قيل لم يجز ذلك لا نتقاض المعنى به، وذلك أن المصدر اسم لجنس فعله والجنس أبدًا غاية الغايات ونهاية النهايات في معناه، وما كانت هذه صورته في الشياع والانتشار فما أبعده عن التحقير وهو الغاية في الكثرة والعموم، ولذلك لم تثن عندنا المصادر ولم تكسر إلا أن توقع على الأنواع المختلفة، وامتناع المصادر من ذلك كامتناع الأفعال)).
مثل هذا الجدل المنطقي الذي تلحظه هنا يمكن أن تلحظه كذلك في تعليله دخول اللام على ((الحمير)) في اسم توبة بن الحمير الشاعر قال: ((دخول اللام على الحمير علمًا أمثل منه في دخوله على الثعلب))، وذلك أ، التحقير ضرب من الوصف يلحق الكلمة، ولذلك لم يجز دخول التحقير في الأفعال من حيث كانت الأفعال لا توصف
…
وإذا ثبت أن التحقير ضرب من الوصف في المعنى كان لحاق اللام في الحمير نحوًا من لحاقها في الصغير فتكون اللام فيه مع تعريفه مثلها في الوليد ونحوه وليس كذلك الثعلب لأنه لا تحقير فيه فيضارع به الصفة وإنما باب لحاق اللام في العلم الوصف نخو الحارث والعباس، ولولا ما في الثعلب من معنى المكر والخبث لما لحقته اللام وهو علم)).
ورابعها: استعانته المتكررة لدعم يفسره بالقرآن والحديث والشعر والأمثلة على ذلك في القرآن والشعر كثيرة متعددة قال في اسم ((عروة بن الورد)): ((ورد صفة يقال في مؤنثه وردة، قال الله عز وجل: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}. وقد يستعين في ذلك بالقراءات، قال في اسم قبيصة: ((اسم مرتجل للعلم وهو من لفظ قول الله عز وجل)) فقبضت قبضة من أثر الرسول ((وهو الأخذ بأطراف الأصابع كذا قراها الحسن)).
هذا في القرآن أما الحديث- واستعانته به قليلة نادرة- فقد جاء عنه في اسم ((الفند الزماني)) أنه قال: ((وأما زمان فيحتمل أن يكون من باب زممت الناقة فيكون فعلان من ذلك، ويحتمل أن يكون فعالا من باب الزمن، والأول أعلى عندنا وهو قياس مذهب سيبويه فيما فيه حرفان ثانيهما مضعف وبعدها الألف والنون، فقياسه أن تكون الألف والنون زائدتين كزمان وحمان)) ثم دعم مذهب سيبويه هذا بما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد جاءه قوم من العرب فسألهم فقال: من أنتم؟ فقالوا: بنو غيان، فقال:((بل أنتم بنو رشدان)) قال أبو الفتح معلقًا على هذا: ((أولا تراه- صلى الله عليه وسلم كيف تلقى غيان بأنه من الغي فحكم بزيادة ألفه ونونه، وترك أن يتلقاه من باب الغين وهو الباس الغيم من قوله:
كأني بين خافيتي عقاٍب تريد حمامًة في يوم غين
يدلك على أنه صلى الله عليه وسلم تلقاه بما ذكرنا أنه قابله بضده فقال: بل أنتم بنو رشدان، فقابل الغي بالرشد فصار هذا عيارًا على كل ما ورد في معناه فاعرفه)).
أما الاستعانة بالشعر فكثيرة جدًا، تشمل سائر صفحات المبهج، ومن أمثلته قوله في اسم ((بشامة بن حزٍن)) قال: البشام شجر له عود يستاك به قال جرير:
أتنسى أن تودعنا سليمى بعرق بشامٍة سقي البشام
وقال في اسم ((الأحوص بن محمد)) الشاعر: الأحوص صفة منقولة، والحوص ضيق العين كأنها مخيطة، وكسروا الأحواص حوصًا وأحاوص، وذلك على صحة الجمعين معًا، يقول العشى:
أتاني وعيد الحوص من آل جعفٍر فيا عبد عمرٍو لو نهيت الأحاوصا
2 -
العروض والقوافي:
لم ينظر ابن جني لهذا العنصر نظرة كلية تشمل جميع النصوص التي ضمها اختيار الحماسة، وإنما نظر إليه من خلال عمله العلمي في التنبيه، وذلك وفق القضايا التي يراها في نصوص الحماسة، فان كانت هناك قضية علمية تستدعي الوقوف في بحر الشعر أو قوافيه وقف عندها، وإلا تجاوز ذلك بالحديث عن اللغة أو الإعراب. ولقد تتبعناه في هذا الجانب فوجدناه يناقش الأوزان والقوافي من خلال هذه النظرة ففي الأوزان مثلًا وجدنا له وقفة طويلة في قطعة سلمى بن ربيعة التي مطلعها:
إن شواًء ونشوًة وخبب البازل الأمون
قال: ((هذه القطعة خارجة عن علل العروض التي جاء بها الخليل، وأقرب ما تصرف إليه الضرب السادس من البسيط، غير أن عروضه لزمت ((فعل)) وكأنها محذوفة من ((فعولن)) الذي هو محذوف ((مفعولن))، كما جاءت عروض المتقارب في كثير من الأماكن محذوفة، غير أن ذلك في المتقارب أسهل منه هنا في موضعين، أحدهما أنها قد تصاحب ((فعولن)) في القصيدة الواحدة، وهذه لم تأت معها ((فعولن)) ولا ((مفعولن))، والآخر أن ((فعل)) في المتقارب أصلها ((فعولن))، وإنما لحقها الحذف لا غير، وفعل في هذه القطعة أصل جزأيها (مس تف علن) فلا
يجوز ميله أن ينحو به التغير إلى أن يحور عن السبعة إلى الثلاثة، وإنما غاية ذلك أن يصير إلى الأربعة نحو ((فعلن)) في ((فاعلاتن))، وفي ((مفعولات)) وفي ((متفاعلن)).
هذا ما بينه ابن جني في خروج الشعر عن علل الخليل، ولم يكتف بذلك بل علل لماذا لم يشر إليه الخليل؟ فقال:((وكأن الخليل لم يومئ في هذه القطعة على شيء لما في هذا الجزء من البناء هي في العلة، ولأن هذه القطعة في ديوان القبيلة إنما هي ((إن شواء وان نشوة)) بإعادة إن، فلما تعاظمه اضطراب هذا البيت وخالف بقية الأبيات ضرب صفحًا عن الجميع)) ثم مضى في أسلوب جدلي يوضح لماذا لم يجز أن يحور الشاعر في ميله عن السبعة إلى الثلاثة. قال:((فان قلت ألا تعلم أن فعولن في المتقارب قد صار إلى ((فل)) واثنان من خمسة أقل من ثلاثة من سبعة، فهلا جاز في (مس تف علن) أن تصير إلى ((فعل)) قيل: الفرق أن ((فعولن)) ((لما صار إلى ((فل)) فإنما لحقه الحذف ثم القطع، وهنا له نظير نحو ((فاعلاتن)) لما صارت إلى ((فعلن)) وأما ((مس تف علن)) فإذا صارت إلى ((فعل)) فقد فعلت ما لا نظير له، وذلك أنك حذفت الوتد وحذفت أيضًا سين (مس تف علن) فبقي ((فعل: متف)) وهذا لا نظير له)).
والذي يفهم من عمل ابن جني في العروض أنه لا يهتم بالوزن وأثره في أداء المعنى وتوافقه مع الجو النفسي الذي يصحب الشعر في أغراضه المختلفة، بل همه إيضاح ما وقع فيه الشعراء من أخطاء، أو ما يثير خلافًا في نظره، ففي قطعة ابن السلماني التي يقول فيها:
لو أن صدور المر يبدون للفتى كأعقابه لم تلفه يتندم
إذا الأرض لم تجهل علي فروجها وإذ لي عن دار الهوان مراغم
وقف ابن جني في لفظة ((مراغم)) التي جاءت قافية فقال: ((قوافي هذه القطعة كلها مجردة غير مؤسسة إلا ((مراغم)) هذه فقد ساند إذن. وقد استقصيت هذا في كتاب المعرب في تفسير قوافي أبي الحسن)).
وفي بيت عبد الله بن ثعلبة الحنفي القائل:
وما إن يزال رسم داٍر قد أخلقت وعهد حبيٍب بالفناء جديد
نظر ابن جني فوجد الشاعر قد خفف الهمزة في ((أخلقت)) فأوحى له ذلك بإثارة قضية تتصل بالخليل وأبي الحسن الأخفش قال: ((في قوله قد اختلقت مخفف الهمزة دليل على قول أبي الحسن وعلوه على قول الخليل في امتناع الخليل من الجمع بين يسؤ ويسيء قافيتين. وذلك لأنه فيما زعم يخلف إذا خفف همزة حرف رويه ألا تراه يصير يسو ويسى، فيختلف الرويان، فاحتج عليه أبو الحسن أنه إذا بني الشاعر القصيدة على تحقيق الهمزة البتة أمن هذا الخلاف الذي أشفق منه الخليل، وشاهد هذا القول هذا البيت الذي نحن بصدده. ألا ترى أن الشاعر بناه على تخفيف همزة أخلقت البتة وإلا كسر الوزن، وإذا جاز أن يبني الشعر على التخفيف لا غير، وهو فرع كما علمت، جاز أيضًا أن لا يبني الشعر على التخفيف لا غير وهو أصل كما علمت)).
فانظر كيف كان ابن جني يجادل في هذا العلم، وهو علم مبني على استقراء ما قالت العرب من شعر، على أن مثل هذا العمل منه يدل على حضوره الذهني
واستيعابه لكل ما أثاره أبو الحسن الأخفش في تتبعه للخليل في هذا العلم، وربط ذلك بعمله في الشعر المختار في الحماسة.
3 -
الرواية:
ناقش ابن جني الرواية في ((التنبيه)) غير أن طريقه غير طريق أصحاب المنهج الأدبي الابداعي، فقد رأينا الابداعيين في تطبيق المرزوقي يناقشون الرواية من وجه مختلفة، أما ابن جني فقد كان ينظر إلى الرواية من جهة اللغة والإعراب فقط، ولا يقف عندها إلا إذا كانت ذات معضلة لغوية تعوز الشرح أو مشكلة إعرابية تحتاج إلى تأويل وإيضاح. ففي البيت الذي نسبه الى العباس بن مرداس جاءت روايته له على النحو التالي:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد مزير
وقال: ((رويت هذا البيت عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: أظن ذلك مزير، هكذا بالميم قال وهو الماضي الندب)) ثم أشار لى رواية أبي تمام للبيت فقال: ((غير أن الذي رواه أبو تمام ((يزير)) ومضى يشرحها من جهة اللغة فقال: ((قياسه في العربية أنه على تخفيف الهمزة على قول من قال في المرأة والكمأة: المرأة والكماة، ثم ناقشها صرفيًا فوضح أن أصل الفعل ((يزئر))، نقلت الكرة فيه إلى الزاي، ثم أبدت الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فصارت ((يزير)) وعليه قال بعضهم في يسأل يسال))، ونراه في موضع آخر ينظر الى الرواية من حيث صحتها ووضوح وجه الإعراب فيها، وذلك في بيتي أبي الربيس الثعلبي، وقد جاءت روايته لهما كما يلي:
هل تبلغني أم حرب وتقذفن على طرٍب بيوت هٍم أقاتله
مبينة عتٍق حسًن خٍذ ومرفقًا به جنف أن يعرك الدف شاغله
قال: ((هكذا صحة الرواية في هذين البيتين، وكذلك وجدناهما بخط أبي موسى في ديوان أبي الربيس، فأما ما يروى غير هذا من قوله:
هل تبلغني أم عمرٍو وتربها على عجٍل بيوت هٍم أقاتله
ففاسد، وذلك أنه تبقى بيوت هم مرفوعًا لا رفع له إلا أن تبعد المذهب في التأول له فتعتقد فيه حذف المضاف أي ذات بيوت هم أي ناقة ذات ذي بيوت أي ناقة ذات رجل في صدره بيوت هم فتحذف مضافًا بعد مضاف، وذلك وإن كان قد جاء فمثله قليل منه قوله سبحانه:((فقبضت قبضة من أثر الرسول)) أي من أثر حافر دابة الرسول، ومنه مسألة الكتاب ((أنت مني فرسخان)) أي أنت مسافة فرسخين، وفي هذا تعسف لم تدع ضرورة إليه)).
فأنت تراه في هذين المثلين يهتم في الرواية بالنواحي اللغوية والصرفية والإعرابية، ولا ينظر إلى وضع الرواية من حيث المعنى أو من حيث توافقها مع السياق أو جريانها في كلام العرب، إلى غير ذلك من الأمور التي كان ينظر إليها المرزوقي بمنهجه الأدبي الإبداعي.
غير أن الظاهرة الجديرة بالتسجيل في عمل ابن جني في الرواية هو حرصه الدائم على ذكر مصادر الرواية التي يختارها، ولعلك لحظت ذلك في مناقشتنا للمرزوقي في رده روايات ابن جني، فابن جني يأخذ رواياته من دواوين الشعراء أو أفواه العلماء، وهذا واضح في المثلين السابقين وفي غيرها من كتاب التنبيه.
وأن كان ثمة ما يقال في عمله في الرواية فهو أنه في بعض الأحيان كان يختار الرواية التي تثير قضية، فبيت أبي الغول الطهوي الوارد في صدر القطعة الثالثة من باب الحماسة روي من الشراح روايتين إحداهما:
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقوا فيهم ظنوني والأخرى: "فوارس صدقت فيهم ظنوني"ن وأشار المرزوقي إلي رواية ثالثة هي "صدقت فيهم ظنوني" بالبناء إلي المجهول، فأختار ابن جني رواية صدقت فيهم ظنوني، وخالفت عادته في ذكر مصدر روايته، ولم يشر إلي الروايات الأخرى بل قال معلقاً علي الرواية التي أثبتها:" صناعة الشعر توجب في هذا "صدقوا" وذلك أنه عاد عليهم الضمير مذكراً مجموعاً وهو هم من "فيهم" ولو اتبع صدقت لكان قياسه "فيها". كذا طريق الشعر ومقتضي صناعته، وعليه استقر الأمر فيما بيني وبين المتنبي، ذلك لأنه قال: "إذا أعدت الضمير بلفظ المذكر ذكرت وذلك قوله:
بالجيش يمتنع السادات كلهم
…
والجيش باين أبي الهيجاء يمتنع
وهذا الأخير كثير في الشعر جائز، غير أن طريقة الصنعة ما ذكرت لك".
وهذا كلام طيب محمود ولكنه ليس فيه نظر إلي ما قال الشاعر في الأصل، وإنما بني من حيث صناعة الشعر وما تقتضيه من إجراء الكلام، وليس فيه مفاضلة بين الروايات ليختار أجودها أو أبلغها أو أسلمها علي نحو ما كنا نري عند المرزوقي في منهجه الأدبي الإبداعي.
4 -
اللغة والنحو:
لم يتخذ ابن جني من اللغة والنحو وسيلة يستعين بها علي تفسير الألفاظ والتراكيب بغية الوصول إلي معاني الشعر، فتفسير الألفاظ والتراكيب- كما وضحنا من قبل- غاية من يهتم بإيراد المعاني، أما ابن جني فلم تكن المعاني غايته إلا حين
يقتضي الإعراب ذلك، كما أنه في عمله اللغوي كان ينظر للألفاظ نظرة جريئة من حيث هي لفظة مفردة يقف عليها، يعالج تصريفها أو اشتقاقها مستعرضاً ما تثيره من قضية تتصل بالقياس أو الاشتقاق، وهذا بطبيعة الحال يدفعه إلي أن يغض النظر في أحيان كثيرة عن وضع اللفظة في النص وإيراد معانيها المحتملة وفقاً للمعني الكلي للنص، وهو بجانب هذه النظرة كان كثيراً ما يخضع تفسيره للألفاظ والتراكيب إلي جدل منطقي. ومن أمثلة ذلك وقفته في بيت موسي بن جابر الحنفي الذي يقول فيه:
ومن الرجال أسنة مذروبة ومزندون شهودهم كالغائب
وقف في تركيب "شهودهم كالغائب" ولم ينظر إلي سواء قال: "إن كان شهود هنا جمع شاهد فالغائب هنا جمع وجنس أي شهودهم كالغياب، وأن كان شهودهم هنا مصدر شهد كالحضور من حضر فالغائب هنا علي ضربتين: أحدهما أن يكون جنسياً كالأول فيكون المضاف إذن محذوفاً، أي شهودهم كغيبة الغائب، والأخر أن يكون الغائب مصدراً كالباطل والفالج والباغر- أي المجنون- والعائر- الرمد- أي شهودهم كالغيبة، ثم عمد إلي طريقة أهل الجدل المنطقي فقال: "فأن قيل: فمن أين لك الغائب مصدراً كالباطل في غير هذا فتحمل عليه هذا؟ قيل: قد ثبت أن المصدر قد يأتي علي فاعل بما رأيناه وها هنا، وأن لم يكن معك فيه ما تقطع به فليس معك أيضاً ما يمنع منه، والقسمة حملاً علي النظير محتمله، وما كانت هذه سبيله فالقسمة قابلة له وغير ممتنعة منه فأعرف ذلك أصلاً من أصول فقه العربية"
وفي بيت دريد بن الصمة القائل:
كميش الإزار خارج نصف ساقه بعيد عن الأفسات طلاع أنجد
نراه يقف من البيت كله عند لفظة "أنجد" فيقول: هكذا تكسير القلة والمراد به معني الكثرة، ألا تري أنه لا يريد أن يطلع أنجداً من الثلاثة إلي العشرة، وإنما
يريد أن من عادته اطلاع النجاد فهو يؤذن بالكثرة" ثم مضي مستقصياً الحديث عن جموع القلة والكثرة موضحاً ما أثبته من أن العرب قد تطلق جمع القلة وتريد به الكثرة. قال: "وليس قوله "أنجد" وهو يريد الكثرة كقولهم أرسان، وأقوام، وأقلام، وأرجل، وهو يريدون من كل واحد منها الكثرة، والفرق بينهما أن "نجدا" قد تكسره علي مثال الكثرة وهي النجاد، وكل واحد من أرسان وأقوام وأرجل لم يكسر إلا تكسيراً لقلة البتة، فكان مجيء كل واحد منها مراد به الكثرة أسهل من مجيء مثال القلة ملفوظاً معه، ومنه بمثال الكثرة مراداً بها الكثرة فقد كثر عندهم مجيء لفظ جمع القلة والمعني به معي الكثرة إلا تري إلي قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً
ودفعه أيراد هذا البيت إلي أن يذكر رأياً لشيخه أبي علي الفارسي في القصة المرورية عن اعتراض النابغة لحسان في تقليل أجفانه وانسياقه، وفي قوله: يلمعن ويقطرن بدل يبرقن ويجرين، قال ابن جني:"وكان أبو علي يطعن في الحكاية هنا منسوبة إلي النابغة" لقد قللت جفانك وأسيافك" قال: ألا تري إلي قول الله سبحانه: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، وغرف الجنة أكثر مما يظن، وقال تعالي: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}، ورتب الناس في علم الله أكثر من العشر لا محالة".
على أن ابن جني في عمله اللغوي كان كثيراً ما يهتم بالاشتقاق مع ملاحظته الدائمة للمقياس، نلمس ذلك منه في مواضع مختلفة من التنبيه، قال في لفظة زرافات الواردة في أبيات القطعة الأولي من باب الحماسة وهو:
قوم إذا الشر أبدي ناجذيه لهم
…
طاروا إليه زرافات ووحدانا
الزرافة الجماعة سميت بذلك للزيادة التي هي في الاجتماع والتضام، ومنه التزييف للزيادة في الحديث يقال: زرف في كلامه أي زاد فيه، ومنه سميت الزرافة لطول عنقها وزيادته علي المعتاد المألوف فيما قده قدها" وكان حقه أن يكتفي بهذا في تحليل اشتقاق اللفظة ولكنه مضي إلي طريقته الجدلية وملاحظته للقياس فقال:"فان قلت: أن كثيراً من الإبل طول عنقه طول عنق الزرافة فهلا سميت زرافات، ففي ذلك جوابان أحدهما: أن الاشتقاق لا يركب فيه القياس، لما بيناه في كتابنا في شعر هذيل وهو الموسوم بكتاب التمام وغيره من كتبنا، والأخر أن الجمل علي علو جسمه وفخامة منظره لا ينكر أن يكون أن يكون عنقه طويلة ولكن الزرافة علي اجتماع جسمها إلي جسم البعير يستنكر ويستكثر لها طول عنقها وهذا واضح".
وهو في الاشتقاق ينظر إلي ما في اللغة ثم يحكم بأصل اللفظة، قال في بيت قسامة بن رواحه السنبسي:
دعا الطير حتى أقبلت من ضربة
…
دواعي دم مراقة غير بارح
"ينبغي أن يكون لام "ضربة" واواً، وذلك أن معنا في اللغة تركيب (ض ر و) وليس معنا تركيب (ض ر ي) من الضرو، والضرورة، والضراوة، فعلي ما معنا ينبغي أن يكون العمل والاشتقاق"
وكذلك نراه ينظر إلي القياس والاشتقاق معاً في لفظة القاع الواردة في قول بعض القرشيين هو:
بينما نحن بالبلاكث فالقاع سراعاً والعيس تهوي هوياً
قال: "ألف القاع بدل ما واو قياساً واشتقاقاً فأما القياس فلأنها عين، وأما الاشتقاق فلقولهم في تكسيره أقراع، وأما قيعان وقيعة فلا دليل منه لسكون العين مكسوراً ما قبلها".
وهكذا نري أن ابن جني كان ينظر إلي الألفاظ نظرة جزئية في النص، وأن عمله اللغوي قد تركز علي القياس والاشتقاق مع جنوح إلي طريقة جدلية يلجأ إليها لبيان أصول العربية وأسرارها، ومن ثم جاء عمله اللغوي في التنبيه جامعاً لفوائد جمة ولطائف نادرة بغض النظر عما ينبغي تحقيقه من عناصر الشرح وتفسير ألفاظ النص وتراكيبه قصداً إلي إبراز معناه.
وما يمكن قوله في عمله اللغوي يمكن ان يقال في عمله النحوي، فقد لاحظنا فيه عدة جوانب تتصل بنظرته الجزئية للأعراب ومعالجاته النحوية في نصوص الحماسة، وأهم هذه الجوانب يمكن تلخيصها في الأتي:
أإثارته للقضايا ظاهرة الأشكال في مسائل الإعراب أو القضايا التي تبدو جلية، ولكنها تخفي وراءها الغامض من المسائل.
ب تتبعه الدائم للخلاف بين سيبوبه وأبي الحسن الأخفش في جملة من المسائل التي خالف فيها الأخفش جمهرة النحاة.
ت تنويهه المستمر بأن الأعراب قد يجيء مخالفاً للمعني.
ث اعتماده الواضح علي القياس في طرح المسائل الأعرابية.
ففي الجانب الأول نراه يركز جهوده علي نواح جزئية في النص مثيراً من خلالها
قضايا الإعراب وقواعد النحو ولا يربط ما يثيره بالنص، وإنما همه إثارة المشكلة فحسب، ظاهرة كانت أو خفية، مثال ذلك ما جاء عنه في بيت عامر بن الطفيل الذي يقول فيه:
أكر عليهم دعلجاً ولبانه
…
إذا ما اشتكي وقع الرماح تحمحماً
فقد روي "لبانه" بالنصب، وهذا مخالف لما مر بنا عن الإمام المرزوقي الذي اعتمد رواية "ولبانه" بالرفع وقال عن رواية النصب إن صاحبها "فر من أن يكون الأشتكاء والتحمحم علي كثرة نسبة الأشتكاء إلي الأعضاء الألمة فوقع فيما هو أقبح لأن المراد أكر عليهم فرسي فلا معني لعطف اللبان عليه". أما ابن جني فحين أثبت روايته نظر إلي ما أثارته الرواية من قضية تتصل بأحدي القواعد في العطف قال:"لبانه بعضه وإذا كر عليهم فرسه فقد دخل لبانه في جملته فكيف إذا جاز عطف البعض علي الكل الداخل فيه بعضه، وأنت لا تقول أحذت العشرة وثلاثتها ونحو ذلك، والجواب أنه أنما أعاد ذكر اللبان لعظم قدر في نفسه ولآن الذكر بصدره والأنثى بعجزها فلماً فخمه وعظم أمره أعاد ذكره تنويهاً به، ومثله قول الله سبحانه: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فأفردهما صلي الله عليهما بالذكر مخصوصين به وأن كانا داخلين في جملة الملائكة المقدم ذكرهم"
فأذن علي ما يبدو من كلام أبي الفتح إن ثمة معني في عطف اللبان علي الفرس وليس الأمر كما تصوره المرزوقي، وهذا الذي أبنه أبو الفتح إنما يدخل في باب المعاني من البلاغة وهو لون من ألوان الأطناب الذي يأتي في الكلام بقائدة ويسميه البلاغيون عطف الخاص بعد العام، غير أن أبا الفتح لم ينظر إليه من وجهة
البلاغة، وإنما نظر أليه من وجهة النحو باعتبار أنه من باب عطف البعض علي الكل الداخل فيه، وهي قضية تمس الأعراب وتمس المعني أيضاً.
وهو بجانب هذه القضايا الأعرابية التي تتصل بقواعد النحو كان يقف أحياناً عند أوجه الأعراب إذا تحقق لأعراب التركيب أكثر من وجه ففي بيت سعد بن ناشب الذي يقول فيه:
وقف أبو الفتح في إعراب"صاحباً" وعدد أوجه الإعراب فيه فقال: "أن شئت نصبت صاحباً علي أنه مفعول به، ونصبت قائم السيف علي الاستثناء أي لم يرض صاحباً إلا قائم السيف، كقولك: لم أر زيداً أحداً أي لم أر أحداً ألا زيداً". هذا وجه ووجه آخر ذكره فقال: "وإن شئت نصبت قائم السيف نصب المفعول به وجعلت صاحباً حالاً منه كقولك: لم أضرب إلا زيداً قائماً أي لم أضرب أحداً زيداً في حال قيامه" ثم نبه إلي أمر يدخل في قواعد إعراب البدل فقال: "ومن نصب زيداً في قولك ما رأيت أحداً إلا زيداً علي البدل لم ينصب قائم السيف في القول الأول إلا علي الاستثناء المقدم دون البدل، وذلك لتقدمه علي صاحب، والبدل لا يجوز تقديمه علي المبدل منه".
ويعد الجانب الثاني أظهر ما يجده القارئ في التنبيه، فكثيراً ما كان ابن جني ينظر في عمله في الحماسة إلي اختلاف بين سيبويه وأبي الحسن الأخفش، وذلك من خلال رؤيته للشعر الوارد والبحث فيه عما يدعم قول أحد الرجلين في المسائل النحوية التي قام خلاف فيها بينهما، والأمثلة علي ذلك مترددة في صفحات "التنبيه" يرجح تارة رأي سيبويه وتارة رأي أبي الحسن، لأن ظاهر النص الذي أمامه يدعم هذا أو ذاك، فبيت بلغاء بن قيس الكتاني الذي يوقل فيه:
وفارس في غمار الموت منغمس إذا تألي علي مكروهة صدقاً
كان شاهداً يرجح مذهب سيبويه في مسألة تتصل بحذف الموصوف من الكلام. قال أبو الفتح: "مكروهة يحتمل خلاف الرجلين سيبويه وأبي الحسن، فمذهب صاحب الكتاب أنه وصف لموصوف محذوف كأنه قال: إذا تألي علي حالة مكروهة صدقاً، ومذهب أبي الحسن أنه مصدر جاء علي مفعول". ومضي ابن جنبي مقرراً أن هذا ليس موضع التناصف بين الرجلين فهو قد ذكر ذلك في غير موضع، غير أنه نظر إلي قياس الرجلين في هذه المسألة ونظر إلي تأنيث لفظة "مكروهة" فقال:"ينبغي أن تعلم أن قياس قول صاحب الكتاب أن يكون فيه- أي الوصف- ضمير من الموصوف لمحذوف، وقياس قول أبي الحسن ألا يكون فيه ضمير من الموصوف، كما لا يكون في الكره والكراهية والكراهة، وكأن تأنيث المكروه يشهد لصاحب الكتاب، وذلك أن تأنيث الصفة أشيع ،أسير من تأنيث المكروه يشهد لصاحب الكتاب، وذلك أن تأنيث الصفة أشيع وأسير من تأنيث المصدر من حيث كان المصدر دالاً علي الجنس، وإذا أفضي الأمر بك إلي الجنس فلك فيه جانب التذكير، فهذا أحد ما يشهد لقول سيبويه".
ونراه في موضع آخر يشير في بيت آخر إلي ما يدعم رأي أبي الحسن، وذلك في بيت ابن حبناء التميمي الذي يقول فيه:
فإن أنت لم تقدر علي أن تهينه
…
فدعه إلي اليوم الذي أنت قادرة
فقد عرض لرأي سيبويه في "قادرة" وأمثالها، قال: "أراد قادر فيه فحذف حرف الجر وشبهه في اللفظ بالمفعول به، وعليه بيت الكتاب:
ويوماً شهدناه سليماً وعامراً
ثم عرض لرأي أبي الحسن ودل علي أن ما جاء في البيت يؤكد قوله، قال: "وهذا ما يؤكد قول أبي الحسن في قول الله تعالي: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أنه أراد تجزي فيه، ثم حذف حرف الجر فصار تجزيه، ثم حذف
الهاء من الصفة خلافاً علي سيبويه".
أما الجانب الثالث الخاص بأن الإعراب قد يأتي مخالفاً للمعني فقد عرض إليه ابن جني في مواضع متفرقة من التنبيه، منها ما جاء عنه في بيت جعفر بن علبة القائل:
عجبت لمسارها وأني تخلصت
…
إلي وباب السجن دوني مغلق
فهوي يري فيه أنه لا يجوز أن يكون "أني" من قوله "وأني تخلصت" مجرورة عطفاً علي قوله "مسارها" وذلك أن "أني" استفهام والاستفهام لا يعمل فيما ما قبله، وبناء علي هذا فأن "أني" في رأيه منصوبة بقوله:"تخلصت" كقولك: أني ارتحلت أي من أين ارتحلت، فكأن المشاعر لما قال: عجبت لمسارها تم كلامه ثم قال مستأنفاً أحداً في كلام أخر "وأني تخلصت" أي من أين تخلصت. هذا وضع الأعراب عنده، غير أنه عقب عليه بقوله: هذا وضع الإعراب ومقتضي الصنعة فيه، فأما حقيقة المعني فكأنه قال: عجبت لمسارها ولتخلصها إلي، لأن العجب اشتمل عليهما جميعاً، ولا يستنكر أن يكون وضع الإعراب مخالفاً لمحصول المعني، ألا تراك يقول: أهلك والليل، فمعناه الحق أهلك قبل الليل والإعراب غير ذلك.
وأما الجانب الرابع المتمثل في اعتماده الواضح علي القياس في مناقشة المسائل الإعرابية فهو مذهبه النحوي، فابن جنبي كما سبق أن أشرنا كان من أصحاب مدرسة القياس أو المدرسة البغدادية الجديدة، وهي مدرسة تعتمد علي القياس في العمل النحوي، وذلك لنزوعها الدائم إلي أهل البصرة، ففي مناقشاته لخلافات سيبويه والأخفش نراه دائماً يردد قياس سيبويه كذا وقياس أبي الحسن كذا، كما أنه كثيراً ما بين نظرة البصريين من جهة القياس إلي مسألة من مسائل الإعراب،
ففي بيت الفضل بن الأخضر الذي يقول فيه:
ألا أبهذا النابح السيد إنني
…
علي نأبها مستبسل من ورائها
نراه يقف في البيت وينظر إلي استضعاف البصريين وصف أي النداء بهذا نظراً لما لديهم من قياس قال: "أصحابنا يستضعفون وصف أي النداء بهذا، وذلك أنها مبهمة ومحتاجة إلي الصفة وهذا مبهم محتاج إلي موضح، فلم يكن في القياس أن ينفي الإبهام بمعرف في الإبهام".
وفي موضع أخر نجده يقف في بيت مراد بن حنش ألصادري الذي يقول فيه:
لقومي أري للعلا من عصابة
…
من الناس يا حار بن عمرو تسودها
فينظر في ترخيم "حار" مع وجود ابن قال: "كان القياس أن لا يجوز ترخيم الاسم الموصوف باين من قبل أن العلم إذا وصف باين من قبل أن العلم إذا وصف باين فلان فقد جعلا كالاسم الواحد، ولذلك قالوا يا زيد بن عمرو ففتحوا الأول لفتحة الثاني وإذا كانا جميعاً كالاسم المفرد فقد حصل جزء الاسم الأول حشواً إذا لا طرفاً، وإذا كان حشواً لم يتطرق عليه حذف الترخيم، فهذا وجه قياس امتناعه"
وهو إذا كان يتكئ علي القياس كثيراً فأنه أيضاً كان يعتمد علي السماع الشائع أصلاً من أصوله ولهذا نراه حين وقف في بيت من أبيات القطعة الأولي من الحماسة وهو:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
في النائبات علي ما قال برهاناً
قال: "برهان عندنا فعلال وليس نونه بزائدة، يدل علي ذلك قولك برهنت له علي كذا، أي قمت الدليل عليه، وهذا قاطع ونظيره دهقان وهو فعلال وليس بفعلان، ودليله قولهم: قد تدهقن
…
وقد كان القياس في نون برهان ودهقان أن
يكونا زائدتين حملا علي الأكثر، ولكن قد ورد السماع بما أرغب عن القياس فترك إليه".
وهذا يدل علي أن السماع كان لديه في الدرجة الأولى من أصول العربية مع اعتداده الواضح بالقياس والتعويل عليه في كثير من عمله في اللغة والنحو، ولكنه كان في السماع يعتمد علي الكثرة والشيوع مثل البصريين بدلالة أنه كان ينتقد الشعراء في بعض تراكيبهم اللغوية التي جاءت مخالفة القياس، وهو أمر سوف نعرض له في عنصر النقد الذي كان يقيمه ابن جني في نصوص الحماسة.
5 -
المعاني:
سبق أن أوضحنا في مناقشتنا لمقدمة ابن جني في التنبيه أنه لا يعرض لمعاني الشعر إلا من خلال الإعراب، فالمعاني لم تكن من همه، هذا ظاهر قوله:"وتحاميت شرح أخبارها أو تفسير شيء من معانيها إلا ما ينعقد بالإعراب"، ولهذا رأيناه نادراً ما يتطرق لمعاني الشعر، ومن هذا النادر قوله في بيت عروة بن أذينية:
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ما كان أكثرها لنا وأقلها
قال: "أي ما كان أكثرها لنا فيما مضي وما أقلها الآن، وهو علي حذف المضاف إليه أي ما كان أكثر فعلها أي وصلها ومودتها" ثم فصل الشرح قليلاً في لفظة "أكثر" فقال: "وأكثر هنا من قولهم لا كثير ولا طيب، وليس الكثير هنا من الكثرة التي هي زيادة الأجسام ونحوها، وإنما الغرض فيه البركة والقبول وطيب النفس بالشيء" ثم عرض إلي معني أخر غير الأول فقال: "ويجوز أن يكون من أكثرها وأقلها عائداً علي التحية وهذا واضح" يريد أن المعني: ما كان أكثر تحيتها لنا فيما مضي، وما أقل هذه التحية الآن وهو معني ليس برديء من حيث أن التحية هنا رمز للوصول والمودة، ولكن ابن جني ذا النظرة يفضل عليه المعني الأول القائم على
حذف المضاف إليه فيقول: "والأول أعلي معني".
وفي بيت عبد الله بن أوفي الخزاعي:
فبئست فعاد الفتي وحدها ويئست موفية الأربع
نراه يوضح مجيء "فعاد الفتي" تمييزاً وأن كان معرفة وذلك بقوله: "أن تعريف الجنس لا يخص واحداً بعينه فضارع شياعة النكرة" ثم أورد معني البيت في كلمات قال: "ومعني البيت أنها أن انفردت بزوجها فهي مذمومة وكذلك إن كان معها ثلاث نسوة تكن بها أربعاً"، ثم أورد بيتاً يدعم به هذا المعني قال: "وكان الأصمعي يلقي علي أصحابه:
واحدة أعضلكم شأنها
…
كيف إذا قمت علي أربع
أي لو تزوجت أربع نسوة".
والحق أن عمل ابن جني في المعاني حتى ما ينعقد منها الإعراب يعد ضئيلاً جداً، وإذا كان منهج الرجل يقوم في الأصل علي إثارة القضايا العلمية التي تتصل باللغة والإعراب، فمن الطبيعي ألا نجد له شيئاً يذكر في عنصر المعاني.
6 -
البلاغة والنقد:
وإذا كانت المعاني ليست من همه فأن البلاغة أيضاً ليست من همه، لأن الشارح يلجأ إلي البلاغة في الشرح لإبراز جمال معاني الشعر ومرامي الشعراء في أداء العبارات ولم يكن هذا من عمل ابن جني، بل أننا لاحظنا أنه إذا كان في النص لون بلاغي فأنه ينظر إلي هذا اللون من وجهة نحوية لا من وجهة بلاغية مثال ذلك أسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم الذي ورد في بيت النابغة الجعدي:
فني كملت أخلاقه غير أنه
…
جواد فما يبقي من المال باقياً
كان موقف ابن جني نحوياً بحتاً، نقل أولاً قولاً لأبن الأعرابي عن ثعلب أنه- أي ابن الأعرابي- لما أنشد قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهمْ بهنّ فلول من قراع الكتائب
قال: هذا استثناء، قيس يقولون غير أن هذا أشرف من هذا وهو أفضل من هذا يكون مدحًا بعد مدح، وأنشد فيه أيضًا:
فتيًّ كان فيه ما يسرّ صديقه على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فتيً كملت أخلاقه غير أنّه كريم فلا يبقى من المال باقيًا
ثم عالج الأمر من جهة نحوية فقال: (وهذا الاستثناء على إعرابه جاز بالاستثناء المعهود ألا ترى أنّه إذا قال: (فتى كان فيه ما يسر صديقه) جاز أن يظن أنه مقصور على هذا وحده فإذا قال: (على أن فيه ما يسوء الأعاديا) أزال هذا من النفس وصار معناه أن فيه مسرة لأوليائه ومساءة لأعدائه. وليس مقصورًا على أحد الأمرين فهو إخراج شيء من شيء لخلاف الثاني الأول وكذلك قوله:
فتيً كملت أخلاقه غير أنّه كريم فلا يبقى من المال باقيًا
كان إتلافه للمال عيبًا عند كثير من النّاس استثنى هذه الحال فأخرجها في جملة خلال المديح لمخالفتها إياها عندهم وعلى مذهبهم، وليس شيء يعقد عقد على أصله فيخرج عقد شيء منه في الظاهر إلا وهو عائد إليه وداخل فيه الباطن).
وهذه العبارة الأخيرة أشبه بكلام المتكلمين، وتبعد كثيرًا عن كلام البلاغيين في مثل هذا الشعر، فالبلاغيون وضعوا لهذا المحسن المعنوي في باب البديع اسمًا هو تأكيد المدح بما يشبه الذم، وعده ابن المعتز من محاسن الكلام، وهو عندهم ضربان أحدهما جاء في بيت النابغة الذيباني المتقدم ذكره وهو أن يأتي بصفة ذم منفيه ثم يستثني منها صفة مدح، والآخر جاء في بيت النابغة الجدي والبيتين الآخرين،
وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بعدها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى.
فهذا المنحنى في تناول الألوان البلاغية رأيناه عند المرزوقي، أما ابن جني فقد كان ينظر إلى الشعر وأساليب الشعراء فيه نظرة نحوّية إعرابية، فلهذا كان من الطبيعي أن يعالج الأمور على هذا النحو الذي رأيناه.
وإذا كانت هذه حاله في البلاغة فإنه كذلك في النقد لم يخرج عن نطاق تلك النظرة النحوّية إلى ميدان أرحب يبرز فيه جوانب الجودة والضعف في النصوص المختارة من الحماسة، وكل الذي رأيناه منه في هذا الخصوص أنه كان ينتقد الشعراء في أسلوب نحوي حين يراهم يخرجون في شعرهم عن قواعد الإعراب التي قننها النحاة. ومن أمثلة ذلك وقفته التي وقفها في بيت الحكم بن عبدل في مدح عبد الملك ابن بشر بن مروان:
فكأنما نظروا إلى قمر أو حيث علق قوسه قزح
نظر إلى تركيب (علّق قوسه قزح) فقال: (قال النحويون في الأخبار عن المضاف إليه هو على ضربين: أحدهما تحته حقيقة معنى نحو صاحب زيد وغلام بكر، والآخر مالا حقيقة معنى تحته نحو قولهم: ابن قترة، وحمار قبان، وسام أبرص، وأبو براقش، وبنات أوبر، وأبو الحصين، وأم حنين، وبنات نعش، فكل واحد من هذه الأسماء المضاف إليها لا يقصد به قصد شيء معروف، وإنما هي معارف لفظية لا معنوية) ثم وضح أن الضرب الأول يجوز الإخبار عنه فإذا أخبرت عن زيد من قولك هذا غلام زيد قلت: هذا الذي غلامه زيد. وأما الضرب الثاني فلا يجوز الأخبار عن شيء منه، ألا تراك لو أخبرت عن قبان من قولك هذا حمار قبان للزمك أن تقول: الذي هذا حماره قبان، فتومئ إلى أمر مجهول لا صحة معنى تحته، فتخبر عنه، ولا يحصل في اليد شيء منه، وإذا كان كذلك كان قوله:(حيث علق قوسه قزح) شاذًا عما انعقد عليه قانون هذا القبيل، ألا ترى أنه لا معنى
لقزح فتخبر عنه بتعليقه (قوسه) فابن جني إذن يعتبر تركيب ابن عبدل شاذًا خارجًا عن قانون النحو وأن ضرورة الشعر هي التي دعت إليه، ولكنّه مع ذلك يحاول أن يضع له عذرًا في هذا الشذوذ بقوله:(أن الشاعر ربما يلعب بكلامه كثيرًا) ثم ينتقد تفسيرًا لقزح في هذا البيت فيقول: وقول من قال أن قزح شيطان تمحل منه).
هذا هو عمل ابن جني في شرح الحماسة، وتلك هي معالجته لعناصر الشرح فيه، وهي معالجة- كما اتضح لنا بعد هذا العرض- رهينة المنهج الذي سلكه صاحبها، وهو منهج علمي متخصص في مجالات معينة من الشرح، مجال المشاكل التي تثيرها النصوص في اللغة، وما يلحق بها من اشتقاق أو تصريف، ومجال المسائل الإعرابية وما يتصل بها من خلافات بين النحاة، ومجال المشكلات التي تتصل بالعروض والقوافي، أو تتصل بشذوذ التراكيب في استخدام الشعراء. ولقد كان ابن جني يتحرك في هذه المجالات بأسلوب يغلب عليه الطريقة الجدليّة المتأثرة أحيانًا بطرق المتكلمين في التعبير، وهو أسلوب قد يثير في نفوسنا المتعة الذهنية ولكنه خالٍ من الإثارة الوجدانية التي رأيناها عند المرزوقي بأسلوبه الأدبي، وربما التقى ابن جني مع المرزوقي في الجنوح أحيانًا إلى طريقة المعلمين في التعبير، غير أن غلبة أداء العبارات عند الرجلين جد مختلفة، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى دلالة، ويستطيع أن يدركه بوضوح كل من يقف على أسلوب الرجلين.