الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: المنهج الأدبي الإبداعي وتطبيقه في شرح المرزوقي
قلنا إن هذا المنهج يقوم على تعابير أدبية إبداعية علمية فنية تبرز فيه شخصية صاحبه بروزاً واضحًا. لاعتماده في الغلبة المطلقة من شرحه على العقل والدراية أكثر من اعتماده على النقل والرواية، وقلنا إنه منهج توظف فيه العلوم المعينة على شرح الشعر من رواية ولغة ونحو وبلاغة ونقد توظيفًا يخدم المعني في جلاء وإيضاح، وهو منهج يعتمد على ثقافات صاحبه الموروثة ورؤياته المبتكرة حيث تصب هذه الثقافات وهذه الابتكارات في عملية فنية للشرح، تظهر مقدرة الشارح العقلية والإبداعية، وتدل على علوه الأدبي وتساميه العلمي في التعامل مع النص الشعري.
ولعل خير من نطبق عليه هذا المنهج فيمن وصل إلينا شرحه للحماسة هو أبو على المرزوقي، غير أن من المفيد ونحن نريد تطبيق هذا المنهج على المرزوقي أن
نسلط الضوء على أمرين يتصلان بشرحه، احدهما شخصيته والآخر مصادره، ففي رأينا أن شخصية المرزوقي لم تلعب دورها في الشرح من حيث المنهج والمسار فحسب بل كان لها دورها البارز في المصادر التي اعتمدها في شرحه، وهي شخصية- كما رأيناها في شرحه- أدبيه علمية لها في دنيا الأدب باع كبير، وفي مجال العلم سطوة عظمي، ولكنها بجانب هذا كانت شخصية موصوفة بالاعتداد والتعالي. نلمس ذلك من خلال ما أورتدته المصادر عنه، ومن خلال تصانيفه التي وصلت إلينا، فقد ذكرت المصادر أن الصاحب بن عباد ذا المكانة العالية في بلاط بني بويه دخل عليه ذات يوم وهو يعلم أبنا بويه فلم يقم له مما أدي إلى جفاء الصاحب له حين تولى الوزارة، وهذا الاعتداد في تكوينه النفسي والتعالي في غرائز طبعه كان لها أثر كبير في شرحه حيث برزت لديه صفات التفرد بالآراء والاستقلال في التفكير والتعبير، وهذا بطبيعة الحال أدي إلى أن يكون قليل الإفادة من شراح الحماسة الذين سبقوه، فهو على الرغم من أنه كان يشير إلى رجوعه إلى نسخ مختلفات للحماسة في الرواية فإنه نادراً ما يذكر الذين سبقوه بالعمل في الحماسة، بل إننا باستقرائنا له في هذا الجانب وجدناه لم يذكر سوى البرقي الذي نقل منه في خمسة مواضع فقط، ثلاثة منها في توضيح شاعر من شعراء الحماسة واثنان من رواية لم يعتمدها في شرحه
وفي إدراكنا إن الاعتداد والتعالى جعلاه يعتمد إهمال العلماء السابقين والمعاصرين له ممن كانت لهم صلة بعمله في الحماسة، وذلك مثل أبي الفتح بن جني- وهو من لا يجهل مكانه- كان إذا نقل عنه لم يسمه وإنما يشير إليه بعبارات من مثل" وقال بعضهم" أو" واختار بعضهم" أو" بعض المتأخرين".
ولولا أن وصل إلينا كتاب" التنبيه" لا بن جني ولولا اعتراضات التبريزي له
في هذا الخصوص لما أدركنا أنه قرأ التنبيه، وكان أحد مصادره في شرحه، هذا بجانب أنه كان ينقل من شروح سبقته ولا يدل على أصحابها، وإنما يذكرهم بعبارات مبهمة مثلما يفعل مع ابن جني مثل"وروي بعضهم""وقال بعض الناس" وسمعت بعض أصحاب المعاني"، ولا شك في أن هؤلاء كانوا من الذين لهم أعمال في الحماسة، وليس الأمر كما تصوره الدكتور العمري أنه كان يشير بعباراته هذه إلى اعتماده على ما أثر عن العلماء الكبار مثل الأصمعي وابن الأعرابي وأبي عبيدة وغيرهم فهؤلاء الكبار كان يسميهم باسمهم. أما أصحاب الشروح السابقة فهم الذين يحظون منه بهذه العبارات، ولا أدل على ذلك من نقولاته التي تسبقها هذه العبارات، ففي بيت الأحوص بن محمد الوارد في باب الحماسة والذي جاء فيه:
إني عَلى مَا قَدْ عَلِمْتُ مُحسَّدُ
…
أْنمي عَلى البَغْضَاءِ والشَّنْانِ
قال المرزوقي بعد أن شرحه" وقال بعض الناس الشنآن بغض يختلط به عداوة وسوء خلق، فلهذا جمع بينه وبين البغضاء، وقال غيره: بل على بمعني واحد واللفظان إذا اختلفا على معناهما جاز الجمع بينهما تأكيداً، واحتج بقوله "وهند أتي من دونها النأي والبعد"، وقال في بيت آخر من باب الحماسة هو:
ونَطُاعِنُ الأَبْطَالَ عَنْ أَبْنائِناَ وَعَلى بَصَائِرنَا واَن لمَ نُبْصر
"وسمعت بعض أصحاب المعاني يقول: إنا نقاتل الأبطال على عادة الناس عند نظرهم لدنياهم ودينهم في الذب عن الحرم والعشيرة والشرف، وعلى الأديان والاعتقادات والبصائر، وان لم نبصر وجهًا واحدًا من هذه الوجوه نقاتل أيضًا لن همنا التقل والقتال. قل: فحذف مفعول وان لم نبصر لأن المراد مفهوم وكذلك
حذف جواب إن لأن فيما تقدم دليًلا عليه".
فلا شك ان مثل هذه النقولات ليست من المأثور عن الأصمعي وابن الأعرابي وأبي عبيدة وإنما هي نقولات من رجال لهم صلة عمل بالحماسة يهملهم المرزوقي تهوينًا لشأنهم تبعًا لما تركبت عليه نفسيته من اعتداد وتعال.
وبجانب هاتين الصفتين اللتين برزتا في شخصيته كانت هناك صفة الأستاذ المعلم التي بدت هي الأخرى بارزة في شرحه، فكانت وراء أسلوبه وصوغ عباراته، ففي جوانب كثيرة من شرحه نجد عبارات المعلمين تند عن أسلوبه مثل"ألا ترى" فاعرف فرق ما بين الموضعين"" وهذا كما تقول" فاعلمه إن شاء الله"، "وليس بشيء فلا تعرج عليه" أو بقوله:" وإذا كان الأمر على هذا فما ذكره القائل غير صحيح لأني قد أربتكه فاعلمه"
وإذا كانت صفتا الاعتداد والتعالي في شخصين المرزوقي قد حجبتا عنا الوقوف علي شروح الحماسة التي أفاد منها فإنهما من جهة أخرى قد كان لهما دور في عمله الذي يتصل باللغة والنحو إذ جاء عمله فيمها دالا على شخصيته مع اعتماده على النقل، ولكنه نقل يختلف عن نقل أصحاب المنهج الالتزامي النقلي، انه نقل المستوعب لما قال العلماء الأوائل، الذي له رأي فيما ينقل ويختار، وهذا يجعلنا ندخل في مصادر شرحه التي جاءت في غلبتها في مجال اللغة والنحو فهو- بالإحصاء- نقل عن الخليل بن احمد في ثلاثين ومائه موضع، وعن الأصمعي في واحد وخمسين موضعًا، وعن سيبويه في ستة وأربعين موضعًا، وعن ابن دريد في أربعة وثلاثين موضعًا، وعن أبي عبيدة في واحد وعشرين موضعًا، وعن أبي العباس المبرد في
أربعة عشر موضعا، وعن ابن عثمان المازني في خمسة مواقع وعن ابن السكيت في أربعة مواضع، ونقل عن أبي عمرو الشيباني في ثلاثة مواضع، ومثلها عن أبي العباس ثعلب، ونقل عن أبي عمرو ابن العلاء في موضعين، ومثلهما عن أبي الحسن الأخفش وأبي سعيد الضرير ورأيناه ينقل عن كتاب العققة للمدائني في موضع واحد، ومثله كتاب الترجمان لأبي عبد الله المفجع، وكذلك رأيناه ينقل عن شيخه أبي على الفارس في ثمانية مواضع، وعن أبي عبد الله حمزة بن الحسن في موضع واحد، عن ابن العميد في موضع واحد.
والحق أن شخصية المرزوقي وما تركبت عليه من طباع غالبة لم تكن ذات أثر في مصادره فحسب بل كانت ذات أثر في جل عناصر الشرح التي عالجها في شرحه وهي كما رأيناها في شرحه على النحو التالي:
1 -
مناسبات الشعر والأخبار التاريخية:
لم يبد المرزوقي اهتمامًا ملحوظًا بهذا العنصر، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه لم
يقف على شرح أبي رياش كما ذكر عبد السلام هارون فشرح أبي رياش قد عني عناية تامة بهذا الجانب من عناصر الشرح، وقد أفادت منه سائر الشروح التي وقف أصحابها علية مثل شروح أبي العلاء المعري وزيد بن على والخطيب التبريزي. على أن شرح المرزوقي لم يخل من ذكر لبعض المناسبات التي كان يقدم بها شرحه لقطع الحماسة، ولكن الملاحظة فيه أنه كان يعرض المناسبة بإيجاز دقيق، ودون تفصيل ولعله في هذا كان مقيدًا بما وجده في شرح البرقي، ففي الحماسية الرابعة عشرة المنسوبة للشميذر الحارثي نراه ينقل عن البرقي فتقول" قال البرقي: الشعر لسويد بن صميع المرثدي من بني الحارث، وكان قتل أخوه غيلة فقتل قاتل أخيه نهاراً، في الأسواق من الحضر".
وفي خماسية قيس بن زهير العبسي التي مطلعها:
شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمَلِ بنِ بَدْرِ وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي
نراه يصدّرها بقوله: " كان حمل بن قتل مالك بن زهير أخا قيس فظفر به وبأخيه حذيفة فقتلهما.
وفي الحماسية التي نسبها أبو تمام لبعض اللصوص من طيء والتي مطلعها:
وَلَمَا أَنْ رَأيْتُ ابَنيْ شٌمَيْط بسِكَّةِ طَيَّئٍ والبَابُ دُوني
نراه يفتتح شرحه لها بقوله: "الشعر لبعض المتلصصة، وكان أنهي حالة إلى أمير المؤمنين على- عليه السلام وهو بالكوفة فوجه في طلبه ابني شميط، فأحس بذلك، فركب فرسه العصا، فنجا بها، وذكر قصته في هذه الأبيات.
والذي يلاحظ في هذه الأخبار وغيرها أنها ذات صلة وثيقة بالنص الشعري المشروح، وتعين على فهمه، ومن ثم يمكن القول بأن المرزوقي كان يهتم بذكر
المناسبة إذا كانت تعين على فهم النص، وانه كان يذكر ذلك في إيجاز حال من التفاصيل والاستطرادات المتشعبة التي نراها في شرح التبريزي، منقولة عن أبي رياش.
2 -
تفسير أسماء شعراء الحماسة والأعلام:
وإذا كنا رأينا المرزوقي يذكر بعضًا من أخبار الشعر والمناسبات الداعية إلى قوله من قبل الشعراء فان شرحه قد افتقر إلى تفسير أسماء الشعراء والأعلام الواردين في اختيار الحماسة، وقد فسر عبد السلام هارون هذا الافتقار بأن المرزوقي لم يقف على كتاب" المبهج" لابن جني في حين أن الدكتور العمري قد عاب عليه تجاهله ابن جني احتقارًا واستضعافًا وقال: " انه لو ترك مثل هذه النقائص وتعمق في النظر في مصنفات ابن جني وآرائه لاستفاد منها استفادة كبيرة خاصة في تحديد الأعلام واشتقاق أسمائهم.
ومعني هذا أنه يرى أن المرزوقي قد وقف على كتب ابن جني ولكن في غير تعمق استهانة بصاحبها وربما كان هذا صحيحًا، ولكن الأخذ بأنه لم يقرأ"المبهج" أفضل، بدليل أنه قرأ"التنبيه" الكتاب الثاني لابن جني ونقل منه في شرحه منتقداً وغير منتقد، وهذا يدحض النظرية التي أيدها الدكتور العمري والتي تقول: بأن كتابي المبهج والتنبيه كان في الأصل كتابًا واحدًا. إذ لو كانا كذلك لوقف المرزوقي عليهما معًا. على أن الأمر فيما يبدو لنا مبني على شيء مختلف عن هذا، فتفسير أسماء الشعراء والأعلام يقوم في الغالب على فن الاشتقاق، وهو فن لا نحس بأن المرزوقي كان من أصحابه، وإنما فارساه في عمل الحماسة رجلان أحدهما ابن جني الذي وصفه بروكلمان بأنه"إمام المذهب الاستقاقي" والآخر أبو العلاء
المعري الذي دلت نقولات التبريزي عنه أن له باعًا متسعًا فيه.
3 -
تحديد بحور الشعر وأضربه وقوافيه:
لم يعالج المرزوقي هذا العنصر في شرحه، ولا يعني هذا أنه لم يكن ذا المام بعلمي العروض والقوافي، ففي شرحه ما يدل على أنه كان ملمًا بهذين العلمين وما يقومان به من قواعد، وقد استخدم احدي قواعد القافية في رد رواية جاءت في بيت عبد الشارق بن عبد العزي الذي يقول فيه:
فَجَاءُوا عَاِرضًا بَردَاً وَجِئْنَا كَمِثْلِ السَّيْفِ نَرْكَبُ واَزِعَيْنَا
فقد قال فيه: " ولا يجوز أن يروي وازعينا بكسر العين لما يحصل من العيب بالسناد مع ارتفاع الضرورة".
ويبدو لنا أن تحديد بحور الشعر وأضربه وقوافيه عنصرًا من عناصر الشرح قد بدأ يظهر في الشرح التي تلت المرزوقي بدليل أننا لا نجد له أثرًا في الشروح السابقة لشرحه أو المعاصرة مثل شروح أبي رياش 339 هـ، وأبي عبد الله النمر 385 هـ، وأبي هلال العسكري 395 هـ، وإنما وجدناه في شروح جاءت بعد ذلك مثل شروح أبي العلاء 449 هـ، وزيد بن على 467 هـ، والتبريزي 502 هـ، ومن ثم يمكن أن نلاحظ انه إلى زمن المرزوقي لم يكن الشراح يعتبرون تحديد وزن الشعر وضربه وقافيته من عناصر الشرح، ولا أدل على ذلك من المرزوقي نفسه، فقد كان يرى أن لا مجال للحديث في وزن الشعر أثناء عملية الشرح. قال في قطعة سلم بن ربيعة التي مطلعها:
إِنَّ شِوَاءَّ وَنَشْوَةً وَخَبَبَ البَازِلِ الأَمُونِ
"هذه المقطوعة خارجه عن البحور التي وضعها الخليل بن أحمد، وأقرب ما يقال
فيها: أنها تجئ على السادس من البسيط، وليس هذا موضعًا لبسط الكلام فيه".
4 -
الرواية:
وإذا كانت هذه العناصر الثلاثة السابقة لم تجد عناية من قبل المرزوقي في شرحه فان عنصر الرواية قد حظي لديه باهتمام واضح، فهو من العناصر التي تشكل دعامة أساسية في منهجه الأدبي الإبداعي الفني. فقد رأيناه في مواضع مختلفة يبدأ به شرحه، والبدء بشيء دليل على الاهتمام به. أما معالجته له فتتمثل في جانبين: جانب يتصل بالمفاضلة بين الروايات الواردة في البيت الواحد، وجانب يتصل بنقد هذه الروايات وردها، ولكل من الجانبين معايير يعتمدها في عمله، ففي جانب المفاضلة نراه يعتمد معايير الفصاحة والبلاغة والسلامة والشهرة والجودة، ولكنه وهو يفضل الرواية وفقًا لهذه المعايير كان أحيانًا يعلل حكمه الذي يصدره فيها، وأحيانًا أخرى يصدر الحكم دون تعليل، فمن أحكامه التي أصدرها دون تعليل قوله في البيت المتلمس وقد أثبت روايته على النحو التالي:
فَلَا تَقْبَلن ضَيمْاً مخَافَةَ مِتَةٍ وَمُوتَنْ بَها حُرَّا وجِلْدُكَ أَمْلَسُ
"ويروى وَأجْينَ بِهَا حٌرَّاً وَجِلَدُكَ أَمْلَسُ، والرواية الأولي أحسن"، ولم يعلل وجه الحسن فيها، ولعله قصد بذلك أن الضمير في" بها" عائد إلى مخافة المنية والأمر بالموت مع مخافته يتناسب وما دعا إليه من عدم قبول الضيم أكثر من تناسب الأمر بالحياة. ومثل ذلك ما أورده في بيت أبي الغول الطهوي القائل:
وَلَا يَرْعَوْنَ أَكْنَافَ الهُوَيْنَي إِذَا حَلَّوا وَلا أَرْضَ الهَدُونِ
وهي الرواية التي اعتمدها في متنه ثم قال" يروي"ولا روض الهدون" وهو أفصح". ولم يعلل عامل الفصاحة في استخدام"روض" موضع"أرض"،
وربما قصد بالفصاحة هنا ان الشاعر قال: "ولا يرعون"، فالرعي يتسق في الحقيقة مع الروض، ولايتسق الرعي مع الأرض إِلَاّ على سبيل المجاز، والبيت كله تصوير بالكناية، فأكناف الهويني وروض الهدون كناية عن ان هؤلاء القوم لا يرعون جوانب الخصال السهلة والأمور الهينة، ولا ينزلون منازل الأمن والراحة. وإذا كان البيت مبينًا على التصوير بالكناية لزم أن تكون جملة من حيث الفصاحة مبنية على التعبير بالحقيقة لا المجاز حتى لا تتداخل الصور وتتراكب.
على أن المرزوقي في مواضع أخرى كان يعلل وجه تفضيله للراوية وفق المعيار الذي يراه. ومن أمثله ذلك ما أورده في بيت الربيع بن زياد، وقد رواه على النحو التالي:
مَنْ مِثْلِهِ تُمْسِي النَّساءُ حَوَاسرًا وَتَقُومُ مُعْوِلَةَّ مَعَ الأَسْحَارِ
ثم أشار إلى رواية أخرى فقال: " وروي بعضهم" تمشي النساء" أي يمشين متبرزات لا يدفعن عن ذلك حشمة ولا يحجزهن رقبة، والأول أجود حتى يكون المساء في مقابلة الصباح، ويكون الشاعر قد ذكر طرفي النهار من أوقاتهن" وهو بهذا يرى أن عامل الجودة في رواية" تمسي" يرجع إلى مقابلة الشطرتين في المعني، مع ان رواية"تمشي" مع الواقع الذي تعيشه النساء في مأتم الرجل العزيز، فهن يمشين في الحي حارسات يذهلهن الفقد عن الاحتشام وتغطية رؤوسهن، وهو أمر مألوف مشاهد، نراه في زمننا هذا، وفي أقطار مختلفة من عالمنا العربي.
وقد يرجع المرزوقي عامل الجودة إلى سلامة اللغة في التعبير وفق الضوابط المعمول بها عند علماء اللغة، فبيت الصمة بن عبد الله القشيري أثبت روايته على النحو التالي:
أقول لِصَاحِبي والعِيسُ تَهْوي بِنَا بَيْنَ الُمنِيفَةِ فالضَّمارِ
ثم قال: "وقوله" ين المنيفة فالضمار" أجود الروايتين: "بين المنيفة والضمار" ثم
علل فقال: " لأن بين لا يدخل لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر فصاعدا، وإذا كان كذلك لا يكتفي بقوله المنيفة فيرتب عليه الضمار بالفاء العاطفة اللهم إلا أن تجعل بين الأجزاء "المنيفة" فتصير المنيفة كاسم الجمع نحو القوم والعشيرة وما أشبههما، وعلى هذا حمل قول امرئ القيس:
بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
ولم يكتف المرزوقي بهذا التعليل في عامل الجودة بل دعمه بعمل عالم لغوي معتد به هو الأصمعي حيث قال مشيرًا إلى قول امرئ القيس" وكان الأصمعي يرده ويرويه بالواو".
والمرزوقي بجانب هذه المفاضلة التي كان يقيمها في الرواية ويبنيها على المعايير التي ذكرناها، كان إذا تساوت لديه الروايات لا يكتفي بإيرادها فحسب كما يفعل أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي بل يشرحها ويجلو ما فيها من غموض في اللغة، والأمثلة على ذلك كثيرة شملت سائراً أجزاء شرحه، فبيت أبي كبير الهذلي الوارد في الحماسية الثانية عشرة جاءت روايته عنده هكذا:
وَاِذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأَيْتَهُ
…
يَهْوِي غَوَاربَهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ
ثم قال بعد أن شرح البيت: " ويروي: مخارمها، والمخارم جمع المخرم وهو منقطع أنف الجبل، والخرم أنف الجبل وجمع خروم".
وفي بيت حجر بن خالد الوارد في الحماسية نجده يرويه هكذا:
وَلَكِنَّا نَاَيَنْاَ واكْتَفَيْتُمْ ولَا يَنْأي الحَفِيَ عَنِ السُؤالِ
ثم بدأ شرحه بقوله: "ويروى واكتفينا" ثم مضي فشرح البيت على الرواية التي أثبتها قال: " يقول بعدنا عنكم فاستقللتم بأنفسكم، واستغنيتم عمن يعاضدكم في كل ما يدهمكم، فلم تدعكم حاجة إلى مجاورتنا ولا ألجأتكم الضرورة إلى التكثر
بنا" ثم رجع إلى الرواية التي أشار إليها فشرحها بقوله: "ومن روي: واكتفينا، كان المعني: اكتفينا في البعد عنكم فلم نحتج إليكم" ثم بين قصد الشاعر في الروايتين معًا فقال: " والقصد في الروايتين أنه لم يكن بإحدى الجنبتين افتقار إلى الأخرى، فصار ذلك سببًا في التنائي، وعذراً بينًا في التأخر عن المعاونة والمكانفة".
إن عمل المرزوقي حين تتساوى الروايات لديه يعد عملاً طيباً تهظر فيه شخصيته بوضوح، ويدل على دقة وفهم تام لمعاني الشعر، ومعرفة واسعة باللغة وأسرارها، فبيت سعد بن ناشب في الحماسية العاشرة رواه هكذا:
أَخِي عَزَمَاتٍ لا َيُريدُ عَلي الذي يَهُمَّ به مِنْ مَقْطَعِ الأَمْرِ صَاحِبَا
ثم قال: "ويروي أخي غمرات" وفسرها بالشدائد، ثم مضي قائلا:"ويروى من مفظع الأمر" وهو من فظع الأمر وأفظع فظاعة وهو فظيع ومفظع، أو من أفظعني الأمر ففظعت به أي أعياني فضقت به ذرعًا".
وفي إدراكنا أن ظهور شخصية المرزوقي في شرح الروايات المتساوية لديه يصبح أكثر اطراداً وبروزًا في الجانب الثاني من عمله في الرواية، ونعني به جانب نقد الرواية وردها، ففي هذا الجانب تتجلى لدينا أمور عدة، منها حسه اللغوي ومعرفته بأساليب العرب وتثبته وتمحيصه ونظرته العقلية المنطقية، إلى غير ذلك من اللمحات التي أحسنا بها ونحن ندرس عمله في نقد الروايات وردها، وهو في هذا النقد يعتمد على جملة من المقومات. منها النظر إلى لفظ الرواية ومدى مطابقته للاستعمال الفصيح، ومنها صلة الرواية بالمعني الذي يقرره، والذي يتضح به مقصد الشاعر ومرماه، ومنها توافق الرواية مع روايات آخرين كان يجدها في نسخ مختلفات للحماسة، ومنها توافق الرواية مع المألوف من كلام العرب وما درج عليه الشعراء في نظمهم. ولقد رأيناه وهو يعتمد على هذه المقومات في نقد الرواية لا يكتفي بها فحسب بل يحاول دعمها بالتحليل وبالشواهد التي يأخذها من القرآن الكريم أو أشعار العرب الفصحاء.
فمن أمثلة النظر إلى لفظ الرواية ومطابقته للاستعمال الفصيح نقده رواية بيت أبي كبير الهذلي التي أثبتها في متنه وهي:
ممَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقِدُ حُبٌكَ النَّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهَبَّلِ
ولكنه قال بعد أن شرح البيت: "والرواية حبك الثياب، لأن النطاق قد جاء من بعد في صفة أم المغشم- يشير بذلك إلى قول أبي كبير في بيت تال" كرهًا وعقد نطاقها لم يحلل"- ولأن النطاق لا يكون له حبك وطرائق" فكأنه يريد بذلك أن العرب لم تعرف في استعمالها اللغوي وصف النطاق بأنه حبيك، وإنما الثياب هي التي لها حبك عندهم، ويدعم ذلك بقول الباهلي: إن الحبكة والحباك الإزار، وقد احتبكت المرأة"، يريد لبست ازارها.
ومثل ذلك اعتراضه على ابن جني في قوله الوارد في بيت ربيعة بن مقروم:
أَرْخَتْهُ عَنَّي فَأَبْصَر قَصْدَهُ وَكَوَيْتُهُ فَوْقَ النَّوَاظِر مِنْ عَل
فقد قال ابن جني" وأكثر من ترى يروي هذا البيت أرجيته بالراء فإذا تعالى شيئًا رواه أوجأته، وكلاهما تصحيف وإنما هو" أوجيته" بالواو أي أذللته وقهرته، وهو أفعلته من الوجي وهو روزح الفرس لألم قوائمه"، فاعترض عليه المرزوقي بقوله:"إنه لا يقال أوجيت الدابة عني ويراد الأحفاء، ولم يسمع في التذليل ذكر الحفي والوجي مستعارًا كما سمع الكي والوسم فيه، والرواية، الصحيحة أرجأته وأرجيته، وهما لغتان والهمز أفصح".
ومن أمثلته نظرته إلى صلة الرواية بالمعني وما يفيد مقصد الشاعر ومرماه، وقفته التي وقفها في بيت عامر بن الطفيل وروايته هي:
أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلجًا وَلَبَانُهُ إِذَا مَاَ اشْتَكيَ وَقْعَ الرَّماحِ تَحَمْحَما
فقد شرحه بقوله: "أعطف فرسي دعلجا عليهم حالا بعد حال، وكرا بعد فر، وإذا اشتكى من كثرة وقوع الطعن بدصره حمحم" ثم مضي فقال: هذا إذا رويت"لبانه" بالرفع لأن بعض الناس روي"ولبانه" بالنصب كأنه فر من أن يكون الاشتكاء والتحمحم للبان على كثرة نسبة الاشتكاء إلى الأعضاء الآلمة، فوقع فيما هو أقبح لأن المراد أكر عليهم فرسي، فلا معني لعطف اللبان عليه، ثم دعم ما قرره من معني بقول عنترة في المعني ذاته مشيرًا إلى إحسانه فيه وهو:
فأَزْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِه وَشَكَا إليَّ بِعَبرَةٍ وَتَحَمْحُمِ
ومن أمثلة اعتماده على اتفاق مالديه من نسخ للحماسة على رواية واحدة عمله في مناقشته رواية بيت للحريث بن عناب وهو "
نَعَالَوْا أُفاخِرْكُمْ أَأَعْيَا وَفَقْعَسٌ إِلى المَجْدِ أَدْنَى أَمْ عَشِيرَةُ حَاتِمِ
فقد روي بعضهم "أاعيار فقعس" يريد رؤساء فقعس، وزعم ان أعيا لا يعرفه اسم قبيله، وان رواية" أأعيا وفقعس" تصحيف استدركه فوقف المرزوقي معترضًا على هذا القول من أوجه ثلاثة": أحدها أن بني أعيا من قبائل سعد بن قيس، وهو مشهور ذكره النسابون وغيرهم، وثانيهما: أن طريقة النظم تقتضي ان تكون القبلية مقابلة بمثلها ومذكورة في المنافرة معها أحسن من أن يقابل الأفراد بالقبيلة، وأعيار إشارة إلى الأفراد لأنه يراد بها الرؤساء، وثالثها: أنه رجع إلى نسخ مختلفات المصادر فوجدها متواقفة في تحملها"أأعيا وفقعس"، "وإذا كان كذلك لا يجوز العدول عما قاله الشاعر إلى ما لم يقله"
ومن أمثلة اعتماده على المألوف في كلام العرب وما درج عليه الشعراء في نظمهم
ما جاء عنه في بيت دريد بن الصمة القائل:
فَطَاعَنْتُ عَنْهُ اَلخَيْلَ حَتَّى تَبَدَّدتْ وَحَتَّى عَلَانِي حَاِلكُ اللَّوْنِ أَسْوَدُ
هكذا أثبته في متنه بالإقواء- إذ أن حرف الروي مكسور في سائر أبيات القصيدة ومطلعها"أرث جديد الحبل من أم معبد" غير أننا نراه يقف عند الرواية التي أثبتها فيقول: وقوله حتى علان حالك اللون أسود فيه أقواء، وكثير من العلماء يهونون الأمر في الأقواء، ولا يعدونه عيبًا قبيحًا. وحكي عن الأخفش انه قال: ما أنشدني العرب قصيدة سلمت من الأقواء طالت أو قصرت، ثم انتقل مشيراً إلى رواية أخرى هي" وحتى علاني حالك لون أسود" فقال راداً هذه الرواية:"والضعف فيه ظاهر، ألا ترى أنه قال: حالك وهو الشديد السواد ثم قال: لون أسود، وفي إضافة لون إلى أسود ما لا يرتضي" فكأنه بذلك يقرر أنه ليس من المألوف في كلام العرب إضافة اللون إلى صنفه، فلا يقال لو أبيض ولا لون أصفر، وينتقل المرزوقي إلى رواية ثالثة يراها أجود من هذه التي اعترض عليها قال:"وأجود من هذا أن يروى: حالك اللون أسودي، وهو يريد أسودي، كما قيل في الأحمر أحمري، وفي الدوار دواري ثم خففت ياء النسبة بحذف أحدهما وهو الأول وجعل الثاني صلة". وهو أن كان قد استجاد هذه الرواية فإنما استجادته قائمة على المفاضلة بينها وبين الرواية الثانية التي اعترض عليها وأبطلها بما درج عليه العرب في كلامهم. أما الرواية التي أثبتها فهي عنده هي التي صدرت عن الشاعر لشيوع الأقواء بين الشعراء وفقًا لما قاله الأخفش.
وهكذا نخلص من خلال ما عرضناه، إلى أن عمل المرزوقي في الروايات سواء في جانب المفاضلة بينها أو جانب نقدها وردها قد دل على ذاتيته من جهة، وعلى إبداعه وفنيته من جهة أخرى، وعلى استيعاب اللغة وفهمها وإدراكه كلام العرب وأساليب الشعراء من جهة ثالثة، غير أن هذا لا يمنع من القول بأننا قد لاحظنا في رده الروايات التي اعتمدها ابن جني بعض التحامل، وهذا يرجعنا إلى ما قررناه سابقًا من اتصافه بصفتي الاعتداد والتعالي اللتين جعلتاه يتسهين بمعاصريه
ولا يعبأ بآرائهم في المجال الذي يدور فيه عمله، فابن جني- مثلاً- قال في رواية "أوجيته" السالفة الذكر:"كذلك رويناه وكذلك وجدته في شعر القبيلة". فقوله "كذلك رويناه" يعني نفسه وشيوخه الذين اخذ عنهم العلم، وقوله:" وكذلك وجدته في شعر القبيلة" يدل على رجوعه إلى الأصول التي بني عليها أبو تمام اختياره في الحماسة وكلا الأمرين يوجب النظر والاعتبار، فكان حق المرزوقي ان ينظر إلى هذا، لا أن تشتط به نوازع النفس في الاستهانة بغيره فيصرف النظر عما قرره أبو الفتح إلى التعقيب بقوله" ولقد قضيت العجب من هذا المستدرك ومن ضلاله عن طريق الرشاد فيما قصده من معني".
ولقد رأينا منه مثل هذا في معالجته لرواية بيت تأبط شرا وهو:
فَاُبْتُ إلى فَهْمٍ وَلَمْ أكُ آيبًا وَكَمْ مِثْلِهَا فَاَرقْتُها وَهى تَصْفِرُ
فقد قال ابن جني فيه: " هكذا يرويه أكثر من ترى"ولم أك" ومنهم من يقول: " وما كنت آيبًا" وصواب الرواية فيه " وما كدت آيبًا" أي وما كدت أؤوب، فاستعمل الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمال موضع الفعل الذي هو فرع، وذلك أن قولك كدت أقول أصله كدت قائمًا، ولذلك ارتفع المضارع لوقوعه موقع الاسم فأخرجه تأبط شرًا على أصله المرفوض كما يضطر الشاعر إلى مراجعة الأصول عن مستعمل الفروع نحو صرف ما لا ينصرف وإظهار التضعيف وتصحيح المعتل وما جرى مجرى ذلك، ونحو ذلك ما جاء عنهم من استعمال مفعول عسى على أصله، وذلك ما أنشدناه من قول الراجز:
أَكْثَرْتَ في ِ العَدْلِ مٌلِحّاً دائما لَا تُكْثِرنْ إنَّي عَسِيتُ صَائِما
فهذه هي الرواية الصحيحة في هذا البيت- أعني قوله: "وما كدت آبيا" - وكذلك وجدتها في شعر هذا الرجل بالخط القديم وهو عندي عتيد إلى الآن، وبعد فالمعني عليه البتة لا منصرف به عنه، ألا ترى أن معناه" وأبت وما كدت أؤوب" كقوله:" سلمت وما كدت أسلم" وكذلك كل ما يلي هذا الحرف، من قبله ومن
بعده يدل على ما قلناه ولا معني هنا لقولك" وما كنت" ولا للم أك، وهذا واضح".
هذا كلام ابن جني فيما اختاره من رواية، فيه منطقية واضحة، واستدلال بخروج الشعراء في الاضطرار إلى استعمال الأصول مستعمل الفروع، واستعراض لأشباه والنظائر في هذا، ورجوع إلى أصل ديوان الشاعر، وغير ذلك من الأدلة التي يمكن أن تستنبط من هذا الكلام، ومع ذلك فان المرزوقي وقد تسلطت عليه نوازع الاستعلاء نراه يعترض عليه فيقول:" ولا ادري لم اختار هذه الرواية ألأن فيها ما هو مرفوض في الاستعمال شاذ، أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل وكلاهما لا يوجب الاختيار"، وابن جني لم يغلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل، وإنما أكد أنه رآه هكذا في شعره بالخط القديم، يعني عن الرواة الأوائل، كما أنه لم يختر هذه الرواية لمجرد أنها مرفوضة الاستعمال شاذة، وهذا ما دفع الخطيب التبريزي- وقد أشار إلى رواية" وما كدت آيبا" ونقل عن أبي محمد الأعرابي وشيخه أبي الندي أنها الرواية الصحيحة- إلى أن يعقب على كلام المرزوقي هذا بقوله:" وتكلم المرزوقي على اختيار أبي الفتح هذه الرواية رادًا عليه ولم ينصفه".
5 -
اللغة والنحو:
اللغو والنحو علمان يستعين بهما الشارح في تفسير الألفاظ والتراكيب التي يشتمل عليها النص الشعري المشروح، ولهذا فإنهما يشكلان دورًا خطيرًا في شرح المرزوقي من حيث أنهما- وبخاصة اللغة - يمثلان المرتكز الأول الذي يعتمد عليه في فهم الشعر وتوضيح معانيه، ولقد سبق أن أشرنا إلى أن جل مصادر الرجل في شرحه كانت في مجالي اللغة والنحو لأن موادهما موروثة عن السلف متداولة عبر أجيال العلماء، ومن ثم تبرز ظاهرة النقل فيمها أكثر من غيرهما من العناصر الأخرى،
وهذا أمر سبقت الإشارة إليه عندما أوضحنا أن المنهج الالتزامي النقلي الذي بدأ به العلماء شرح الشعر قد يطل بين شروحهم الاستقلالية القائمة على العقل والدراية وهما محك الإبداع والفنية في شروحهم.
أ- اللغة:
ولقد عالج المرزوقي اللغة وأفاد منها في شرح الألفاظ والتراكيب، وكان تأثره بمن سبقوه في هذا الجانب واضحًا، فهو قد وظف ثقافته الموروثة من العلماء في أجيال مختلفة توظيفًا جيدًا، حيث كان يستعين بهم في توضيح كل غامض ضمه النص المشروح أو أثاره الشرح. ان للخليل والأصمعي وابن الأعرابي وابن دريد وغيرهم وجوداً متفاوتًا في عمل اللغة لدى المرزوقي، فما خلفوه دائمًا معه يستعين به متى شاء. ولقد سبق أن أوضحنا مواضع نقولاته منهم، ولكننا نريد هنا أن نوضح طريقة عمل في اللغة من خلال إفادته منهم، وهي طريقة تدل على أنه كان واسع الاطلاع في علم اللغة بمختلف مواده، قادرًا على استدعاء معلوماته المستقاة من العلماء بصورة تغذي المادة التي يتكلم فيها بالوضوح والإبانة، فهو مثًلا ينقل لنا آراء ثلاثة علماء في لفظة" المنيح" التي وردت في بيت عروة بن الورد القائل:
مُطِلًا عَلى أَعْدَائِهِ يَزْجُرُونَه بساحَتِهِمْ زجْرَ الَمنِيحِ المٌشَهَّرِ
قال: "المنيح قال الخليل هو الثامن من القداح، وقال أبو عمرو: المنيح والسنيح والوغد قداح لا أنصباء لها، وان تكثر بها القداح، فهي تجال أبدًا. وقال الأصمعي: المنيح الذي لا يعتد به" وينقل لنا آراء منهم في معني" دهر" الواردة في بيت قتادة بن مسلمة الحنفي الذي جاء فيه:
ماَ كُنْتُ أوَّلَ مَنْ أَصَابَ بِنَكْبةٍ دَهْرُ وَحَّي بَاسِلُونَ صَمِيمُ
قال: " فأما تنكيره للدهر فقد حكي عن أبي زيد وأبي عبيدة ويونس أن الدهر والزمان والزمن ولاحين يقع على محدود وغير محدود، وعلى عمر الدنيا من أوله إلى آخره، وقال الخليل: الأبد الدهر المحدود، ويجعل اسمًا للنازلة ويقال دهر من
الدهر لبعضه كما يقال حين من الدهر، وقد اشتق منه فقيل أنها لداهرة الطول أي طويلة العنق".
وفي بيت حسيل بن سجيح القائل:
بِمُطَّرِدِ لَدْنٍ صِحَاحٍ كٌعُوبُهُ وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوَانِسَا
ينقل لنا تفسير أبي عبيدة والأصمعي لقونس الفرس قال بعد أن شرح لفظة القوانس الواردة في البيت بأنها أعلى البيض": وقونس الفرس منه، وهو العظم الذي تحته العصفوران، هكذا قال أبو عبيدة، قال الأصمعي: هو والعصفوران سواء".
والحق أن المرزوقي في هذا الجانب يبدو نقليًا بحتًا، ذلك لأن الأمر في معالجة اللغة يبدو كما صوره الدكتور العمري بقوله:" إن الشروح اللغوية مواد تقريرية متفق عليها ليس فيها إعمال للعقل أو اختراع، وإنما هى شروح موضوعة موروثة، منقولة عن السلف" على أننا يمكن ان نلاحظ ونحن نقرأ شرح المرزوقي في هذا الجانب أنه كان يتناول اللغة في نواحيها المختلفة: الاشتقاق، والصرف، والمعرب، والاضداد، واستعمال اللفظ حقيقة ومجازًا، واستعمال المرفوض من كلام العرب، ولغات القبائل، وهي نواح تكاد تغطي نشاطات علم اللغة، غير أن المرزوقي وهو يعالجها في شرحه كان يهدف إلى إيضاح المعني أكثر من أن يهدف إلى الاستقصاء والاطالة، وهو في هذا يختلف عن أصحاب المنهج العلمي التخصصي الذين يستقصون ويطيلون في تناولهم المادة اللغوية. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، ففي الاشتقاق مثلا نراه يقف عند لفظه"زرافات" الواردة في القطعة الأولى من باب الحماسة وذلك في البيت القائل:
قَوْمُ إِذَا الشٌّر أَبْدَي نَاجِذيِه لَهُمْ طَارُوا إِلَيهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا
قال: : والزرافات الجماعات، واشتقاقه من الزرف وهو الزيادة على
الشيء، ويقال زرفت القوم قدامي أي قدمتهم فرقًا". وفي الصرف نراه مثًلا يتكئ قليًلا على لفظه "تيحان" التي جاءت في بيت سوار بن المضرب السعدي القائل:
بذَنَّبي الذَّمَّ عَنْ حَسَبِي بِمَاليِ وَزَبَّونَاتِ أَشْوَسَ تَيحَّانِ
قال: " التيحان العريض المقدام، ثم مضي يتكلم عن تصريفها فقال: "وهو فيعلان بفتح العين، ولا يجوز كسرها لأن فيعلان
…
لم يجئ في الصحيح فيبني المعتل عليه قياسًا" ثم استرسل ففصل الحديث قال: " وفيعل كسيد من الأبنية المختصة بالمعتل، ومثل تيحان هيبان، وهما صفتان حكاهما سيبويه بالفتح، ومثالها من الصحيح قيقان وسيسبان" ثم ختم حديثه بالرجوع إلى تيحان واشتقاقها واستخدام فعلها في التعبير فقال: وتيحان من تاح له يتوح ويتيح لغتان اذا أشرف وتهيأ ورجل متيح، ويقال قلب متيح أيضًا، وأتيح له كذا".
وفي المعرب نجد له مثل وقفته عند لفظه" المنجنيق" الواردة في بيت جاء في باب مذمة النساء وهو:
أَوْ تَأمَلْتَ رَأُسَهُ قُلْتَ هَذَا حَجَرُ مِنْ حِجَاَرةٍ المِنْجَنِيقِ
قال: "والمنجنيق معربة، وقد اختلف في الفعل منه فقال بعضهم: الميم زائدة واحتج بما حكاه التوزي عن أبي عبيدة قال: سألت أعرابيًا عن حروب كانت بينهم فقال: كانت بيننا حروب عون تفقأ فيها العيون مرة تجنق، ومرة نرشق. قال: فقوله: نجنق دال على أن الميم زائدة، ولو كانت أصلية لقال:
"نمجنق"، والى هذا ذهب الدريدي".
ووقف عند لفظه" زنمرده" الواردة في قول أبي الغطمش" منيت بزنمردة كالعصا" فقال: "يروى زنمردة - بفتح الزاي وكسر الميم- ويكون مما عرّب ولا نظير له في أبنية العرب".
ومن أمثلة وقفاته في الاضداد وقفته في لفظته" مأتم" التي وردت في بيت أحد شعراء تيم في الرثاء وهو:
فَالنَّاسُ مَأْتَمَهُمْ عَلَيْهِ وَاحِدُ
…
في كلِ دَارٍ رَنَّةُ وَزَفِيرُ
قال: " أصل المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر، وجعله هانا المصيبة نفسها"، ووقف أيضًا عند لفظه" جلل" في بيت الحارث بين وعلة الزهري القائل:
فَلَئِنْ عَفَوْتُ لأَغْفُوَنْ جَلَلاً وَلَئِنْ سَطَوْتُ لأُوهِنَنْ عَظْمِي
قال: "والجلل يزعم أهل اللغة انه من الاضداد، يقع على الصغير والكبير، وهو هنا يراد به الكبير".
وأكثر المرزوقي في شرحه اللغوي من الحديث عن الألفاظ واستعمالها في الحقيقة والمجاز، ففي بيت سعد بن ناشب وهو:
فَاِنْ تَهْدِمُوا بالغَدْرِ دَارِي فَإنها تَرَاثٌ كرِيمٍ لاُيبَالي العواقبِا
وقف عند قوله" تهدموا" قال: "الهدم القلع والتخريب ويسمي المهدّم هدما
…
وتوسعوا فيه فقيل للثوب الخلق هدم وجمعه أهدام، وقيل: عجوز متهدمة أي هرمة فانية، وتهدّم عليه من الغضب كما يقال تهجّم".
وفي قول تأبط شرًا: " فَرَشْتُ لَهَا صَدْريِ" قال: "الفرش البسط ثم توسعوا فيه فقالوا: فرشت أمري وافترش لسانه فتكلم كيف شاء"، ونراه يشرح "العضب" وقد ورد لفظه في أحد الأبيات قال: هو القطع وتوسعوا فيه فقالوا: عضبه عن حاجته أي حبسه، وامرأة معضوبة أي معضولة، وسيف غضب أي قاطع كأنه وصف بالمصدر".
ونلاحظ أنه في شرحه اللغوي يتتبع استعمال الشعراء اللغة فيبين بالشرح والتحليل استخدامهم المرفوض في الاستعمال، فهو يقف عند بيت عبد الله بن الدمينة في الغزل وهو:
لَئِنْ كَانَ يُهْدَي بَرْدُ أَنْياَبها العُلى لأَفْقَرَ مِنّي إِنَّي لَفَقِيرُ
فيقول" أفقر كأنه بني على فقر المرفوض في الاستعمال" ثم يشرح ذلك بقوله: " وإنما قلت هذا لأن فقيرًا كان حكمه أن يكون فعله على فقر، ولم يجئ منه إلا افتقر، وشرط فعل التعجب وما يتبعه من بناء التفضيل أن لا يجئ إلا من الثلاثي في الأكثر، وما كان على أفعل خاصة، وإذا كان كذلك فأفقر لا يصح أن يكون مبنيًا على افتقر ولكن على فقر".
كما يلاحظ أيضًا أنه كان يهتم بتبيان لغات القبائل حين يجد شعراءها يستخدمون بعض الألفاظ الخاصة بهم، وذلك في مثل بيت القوال الطائي الذي يقول فيه:
قُولَا لهذَا المَرءِ ذُو جَاء سَاعيِاً هَلُمَّ فَاِنَّ المَشرفَّي الفَرَائِضُ
قال المرزوقي: " ذو بمعني الذي وهي لفظة طائية تجيء بهذه الصورة في كل حال وتغير" ثم انتقل إلى"هلّم" فبينّ طريقة استعمالها عند أهل الحجاز وغيرهم قال: " وقوله" هلّم، فيه طريقان منهم من يجعله اسمًا للفعل فلا يغيَر عن حالة في المؤنث والتثنية والجمع وهم أهل الحجاز، وفي القرآن"والقائلين لإخوانهم هلمّ
إلينا، ومنهم من يجعله هاء التنبيه وقد ركّب مع لّم، وهو فعل فيثنيه ويجمعه ويؤنثه".
وهكذا نلمس من خلال ما عرضناه من نماذج في شرحه اللغوي أنه وان بلدا في بعض تناوله اللغة نقليًا بحتًا فانه بتطرقه لنواٍح مختلفة في علم اللغة قد أضفي على شرحه الأدبي قيمة علمية يحسها القارئ من خلال الفوائد الجمة التي يخرج بها في هذا الجانب.
ب- النحو:
وإذا كان المرزوقي قد اهتم باللغة لغاية تتمثل في شرح ألفاظ النص المشروح وإيضاحها فان اهتمامه بالنحو كانت الغاية منه شرح التراكيب ليصل بالاثنين معًا اللغة والنحو إلى إيضاح معاني النصوص وإظهار مضامينها، غير أن الدارس للنحو في شرحه يلاحظ جملة من الأمور أهمها ثلاثة: أحدها: أننا إن كنا قد لاحظنا قلة إسهابه في تناول المادة اللغوية، فإننا قد لمسنا لدية بعض الإسهاب فيما كان يثيره من شرح نحوي، ومن أمثلته تلك الوقفة التي رأيناها منه في تركيب" هواي" من بيت جعفر بن علبة الذي يقول فيه:
هَواَيَ مَعَ الرَّكبِ الَيَمانِينَ مُصْعِدُ جَنِيبٌ وَجُثْمانيِ بِمَكَّةَ مُوثَقُ
فقد قال: " هواي ياء الإضافة فتحت منه على الأصل، وذلك أن هذه الياء لما كانت ضمير اسم على حرف واحد متطرف كرهوا أن تسكن فتختل فجعلوا من أصله التحريك" وكان حقه أن يكتفي بهذا القدر في شرح إضافة الاسم الثلاثي المقصور إلى ياء المتكلم من حيث جعل ياء المتكلم فيه مفتوحة على الأصل، ولكنه استرسل قائًلا: " فإذا كان ما قبله متحركًا كغلامي وداري كان لك فيه وجوه: تحريك الياء وهو الأصل، وتسكينه تخفيفًا، وحذفه من النداء إذا قلت: يا غلام، وإبدال الألف منها مع انفتاح ما قبلها كقولك: وابأباها ويا غلامًا أقبل. وإذا سكن ما قبله فمتى كان واوًا أو ياء أدغم فيه ولم يكن بد من تحريكه لئلا يلتقي ساكنان،
تقول: مسلميّ في الجميع ومسلميَ في التثنية، وإذا كان ما قبله ألفًا كعصاي وقفاي وهواي لم يكن بد من الإتيان به على الأصل، وهو تحريكه لئلا يلتقي ساكنان أيضًا، ولا يجوز الإدغام هاهنا كما جاز مع الواو والياء لأن الألف لا تدغم في شيء ولا يدغم فيها غيرها لكونها هوائية لا معتمد لها في المخرج إلا في لغة هذيل لأنهم يبدلون من الألف الياء ويدغمون، وعلى هذا قوله:
سَبَقوا هُوِيَّ وَأَعْنَقُوا لهَواهَمُ فَتُخُرَّموا وَلِكُلِ جَنْبٍ مَصْرَعُ
فأنت تراه قد نقل الحديث من حكم إضافة ياء المتكلم إلى الثلاثة المقصور إلى أحكام ياء المتكلم في مختلف الحالات التي تضاف فيها، وهو بلا شك إسهاب واستطراد، غير أنه يحسنه في شرح المرزوقي أنه كان يعرض معه اللغة والبلاغة والمعاني وأحيانًا النقد ولذا لا يحس القارئ بأنه شرح علمي بحت، فهو ليس مثل ابن جني في" التنبيه" الذي يصرف كل همه إلى العلم البحت، ولا كالتبريزي الذي كان في مواضع مختلفة ينقل النحو واللغة من المرزوقي دون العناصر الأخرى، ولذا رأينا الدكتور أحمد أمين يصفه بأنه نحوي لغوي، ويفضل على شرحه شرح المرزوقي، مع أن الغلبة المطلقة من اللغة والنحو الموجودين في شرح التبريزي منقولة من شرح المرزوقي بتعديل وبغير تعديل.
وثاني هذه الأمور أن النحو في شرح المرزوقي يتمثل في جانبين أحدهما إيراد القواعد النحوية التي قننها علماء النحو، والآخر تطبيق هذه القواعد من خلال الإعراب، وفي الجانب الأول نراه يتعرض لجملة من قواعد النحو التي يرد الحديث فيها من خلال التراكيب الواردة في أبيات الحماسة. ومن أمثلة ذلك قاعة الاستغناء بالمفعول عن الخبر في تركيب" ليت شعري" الوارد في بيت أبي الأبيض العبسي وهو:
أَلاً لَيْتَ شِعْرِيِ هَلْ يَقُولَنْ فَوَارِسُ
…
وَقَدْ حَانَ مِنْهُمْ يَوْمَ ذاك رَحيِلُ
قال: "شعري اسم ليت وخبره مضمرٍ استغني عنه بمفعول شعري، وليت شعرى لا يجئ إلا هكذا كما أن لولا يجئ أبدًا محذوف خبر المبتدأ الذي بعده، وقد استغني عنه بجوابه".
وكذلك قاعدة تركيب"أجدك" من حيث نصبه على فعل مضمر ولزومه الإضافة دائمًا، وكذلك في قوله أحد الشعراء في باب الملح وهو؛
أّحدَّكُمَا لَمْ تَعْلَما أَنَّ جَارَنَا أَبَا الحِسْلِ بالصَّحْرَاءِ لا َ يتَنَوَّرُ
قال: "أجدكما انتصب على المصدر من فعل مضمر كأنه قال: " أتجدان جَدَّكُمَا، ثم مضي يدعم هذا القول بما جاء عن سيبويه في الكتاب فقال:" وذكر سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر توكيدًا لما قبله كقولك: هذا زيد حقًا لا باطًلا، وهذا القول لا قولك وهذا لزيد غير ما تقول، والتقدير هذا القول لا أقول قولك، قال سيبويه: أجدك لا تفعل كذا، ولا يستعمل إلا مضافًا، والتقدير أجدًا منك، وجرى هذا مجرى ما لزمته الإضافة نحو لبيك وما أشبها ومعاذ الله".
وأما في جانب التطبيق القائم على إعراب التراكيب فان الظاهرة التي تسود غلبة شرحه أنه كان يربط الإعراب المعني ربطًا محكمًا، وهنا تبرز شخصيته بوضوح لأنه كان ينظر إلى الإعراب وسيلة توصله إلى المعني أو قل كان يرى المعني من خلال الإعراب. ومن ذلك ما جاء عنه في بيت الأشجع السلمي الذي يقول فيه:
فَأصْبَح في لحدٍ مِنَ الأرَضِ مَيَّتًا وَكاَنت بهِ حَيّاً تَضيِقُ الصَّحاصِحُ
فقد قال: " في لحد موضعه نصب على أنه خبر أصبح وانتصب" ميتًا على الحال، وكذلك قوله" حيا" انتصب على الحال. ولا يجوز أن يكون في لحد" في موضع الحال، وميتًا خبر أصبح لأن"ميتًا" من الصدر في مقابلة" حيًا" من
العجز، ولا يكون ذلك إلا حالًا، فكذلك يجب أن يكون ميتا وإلا اختلفا وفسد المعني" ومثل ذلك أيضًا عمله في إعراب" جانبًا" الوارد في بيت سعد بن ناشب وهو:
إذَ هَمَّ أَلقْي بَيْنَ عَيْنَيْهِ هَمَّهُ وَنكَّبَ عَنْ ذِكْر العَوَاقِبِ جَاَنَبًا
قال: وانتصب جانبًا على أنه ظرف، ونكب يكون بمعني تنكب والمعني: أنه إذا هم بالشيء جعله نصب عينيه إلى أن ينفذ فيه ويخرج منه ويصير في جانب من الفكر والعواقب. ويجوز أن ينتصب" جانبًا" على المفعول ويكون نكب بمعني حرف، والمراد انحرف عن ذكر العواقب وطوى كشحه دونه".
وهو بجانب ربطه الإعراب بالمعني نراه ينظر إلى غرض الشاعر وما يتصل به من إيحاءات، وذلك حين يكون للتركيب أكثر من وجه في الإعراب، مثل عمله في بيت بشامة النهشلي الذي يقول فيه:
إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لأبٍ عَنْهُ وَلَا هُوَ بالأَبْناءِ يَشْرِينَا
فقد بين وجه الإعراب في قوله" بني" قال: " وانتصاب بني على إضمار فعل كأنه قال أذكر بني نهل، وهذا على الاختصاص والمدح، وخبراء"لا ندعي" ثم انتقل إلى وجه آخر فقال: " ولو رفع فقال: بنهو نهشل على أن يكون خبر أن لكان لا ندعي في موضع الحال" ثم وضح الفرق بين الوجهين بالنظر إلى غرض الشاعر ومضمون الشعر قال: "والفصل بين أن يكون اختصاصًا وبين أن يكون خبرًا صراحًا هو أنه لو جعله خبرًا لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب، وكان لا يخلو فعله لذلك من خمول أو جهل من المخاطب بشأنهم، فإذا جعل اختصاصًا فقد أمن هو الأمرين معًا".
وثالث هذه الأمور هو مذهبه النحوي في معالجته للقضايا النحوية سواء في جانبها التقعيدي أو التطبيقي، وقد تكلم في هذا كل من الدكتور عبد الرحيم عسيلان والدكتور أحمد العمري، فذهب الأول إلى أنه كان بصري المذهب، ورجح الثاني أنه كان بغدادي المذهب، واعتمد الدكتور عسيلان في رأيه على أنه كثيراً ما يأخذ بآراء البصريين، وأنه من خلال شرحه لأبيات الحماسة يصرح في أكثر من موضع بأنه منهم، واعتمد العمري على أنه" على نحو ما كان ينتخب من آراء البصريين كان ينتخب من الآراء الكوفية ما صح لديه قياسه، كما اعتمد على أنه كان تلميذًا مخلصًا لأبي على الفارسي، أمينًا على مبادئه، والفارسي حسب ما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف- أحد العلماء الذين مزجوا بين المنهجين البصري والكوفي، واحد المؤسسين للمذهب البغدادي الجديد الذي ينتخب من المدرستين ما يراه أولى بالإتباع، وان غلب عليه النزوع إلى المذهب البصري، فعلى هذا فهو- أي العمري- يرى" أن ليس ببعيد أن يكون المرزوقي قد اعتنق مذهب أستاذه إيمانًا منه بمنهجه وتأثراً واقتداء، وفي كل ما ذهب إليه الباحثان نصر، فقول الدكتور عسيلان بأنه كثيرًا ما يأخذ بآراء البصريين لا يؤكد بصريته لأن أستاذه أبا على الفارسي كان كثيرًا ما يأخذ البصريين ومع ذلك عدة الدكتور أحمد أمين أحد أعمدة مدرسة القياس التي نشأت معتمدة على أصول بصرية"، وعده الدكتور شوقي ضيف أحد أئمة المدرسة البغدادية الجديدة.
وأما قوله بأنه كان في خلاله شرحه لأبيات الحماسة يصرح في أكثر من موضع بأنه منهم فهو قول مبني على العبارات التي ترددت في شرحه من مثل" هو المختار عند
أصحابنا البصريين" و"طريقة جل أصحابنا البصريين" و"هذا يبين ما يسلكه أصحابنا البصريون" و"الآل عند أصحابنا البصريين والأهل واحد"، وهي عبارات لا تدل على التصريح بأنه من البصريين لأنها شبيهة بعبارات ابن جني التي رأيناه يرددها في كتابيه" الخصائص والتنبيه" ففي الخصائص مثلاً قوله: "لم يثبت أصحابنا قنيت"، وفي التنبيه قوله: " موسى لا يصرفها الكوفيون، وهي عندنا نحن مفعل ويحكى أصحابنا أوسيت رأسه أي حلقته ويصرفونها"، وقال في موضع آخر: والذي قال أبو على أجرى على مقاييس أصحابنا" وهو يعني بقوله أصحابنا البصريين مثلما يعني المرزوقي، ولكن هذا لم يمنع كلا من الدكتور أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف عن أن يذهبا إلى عدم بصريته، فقد وضعه الأول بين أصحاب مدرسة القياس كأستاذه أبي على، وضعه الثاني في مصاف أئمة المدرسة البغدادية الجديدة، ولو تأملت قوله في "موسى لا يصرفها الكوفيون وهى عندنا نحن مفعل ويحكى أصحابنا أوسيت رأسه" لأدركت أنه صرح أنه من مدرسة لا بصرية ولا كوفية أو على الأقل ذو منهج يختلف عن منهج البصريين والكوفيين.
وأما قول الدكتور العمري بأن المرزوقي على نحو ما كان ينتخب من آراء البصريين كان ينتخب من الآراء الكوفية فهو قول عندما تجريه على شرحه للحماسة تجد صعوبة في إثباته لأن ما أورده للكوفيين من آراء في هذا الشرح لا يبلغ في مواضعه
أصابع اليدين، ولا يقاس بالكثرة الكاثرة من الآراء البصرية التي قام عليها نحوه في الشرح.
هذا فضلًا عن أنها لا تدل على أنه يختار رأيًا كوفيا فيما يعرضه وإنما مجرد عرض آراء لا أكثر ولا أقل، ولو نظرنا إلى الأمثلة الأربعة التي أوردها الدكتور العمري ليبرهن بها على انتخابه آراء الكوفيين لوجدناه يقف في ثلاثة منها مع البصريين ضمنًا أو صراحة، ففي المثال الأول الخاص ببيت الفند الزماني:
ولولا نبل عوٍض في خضماتي وأوصالي
نجد المرزوقي يروي ((عوض)) في البيت بالبناء على الفتح وهو مذهب البصريين ثم قال: ((عوض اسم للدهر معرفة مبني وكما يبني على الفتح يبني على الضم، والضم فيه حكاه الكوفيون، ويقال: لا أفعله عوض العائضين)) فهو في روايته وما ضربه من مثال لا يبنيه على الضم كما يفعل الكوفيون وإنما يبنيه على الفتح الذي هو مذهب البصريين.
وفي المثال الثاني الخاص ببيت لا مرأة من بني أسد هو:
أنعى فتًى لم تذر الشمس طالعًة يومًا من الدهر إلا ضر أو نفعا
قال المرزوقي: ((انتصب طالعة على الحال المؤكدة لما قبله)) وهذا رأي البصريين ثم قال: (والكوفيون يقولون في مثله: انتصب على القطع)) ثم اعتمد على الرأي البصري مضى مقررًا قوله: ((وكما أن الحال يجيء مؤكدًا لما قبله تجيء الصفة مؤكدة لما قبلها، ومثال الحال رايته في الحمام عريانا، فعريان حال مؤكدة، ومثاله في الصفة أن تقول: فعلت كذا أمس الدابر)).
فهذا عمل لا يقال عن صاحبه إنه ((كان لا يسجل انتصارًا لهؤلاء أو هؤلاء بل
يكتفي بعرض الآراء جنبًا إلى جنب مبينًا وجهات النظر المذهبية كلًا على حدة دون تعصب)).
وفي المثال الثالث الخاص ببيتي عمرو بن معدي كرب وهما:
ولما رأيت الخيل زورًا كأنها جداول زرٍع خليت فاسبطرت
فجاشت إلى النفس أول مرٍة وردت على مكروهها فاستقرت
وقد أورد الدكتور العمري هذا المثال مبتورًا، وهو كما جاء في شرح المرزوقي على النحو التالي: يجوز أن يكون الفاء في ((فجاشت)) زائدة في قول الكوفيين وأبي الحسن الأخفش، ويكون جاشت جوابًا للما، والمعنى: لما رأيت الخيل هكذا خافت نفسي وثارت، وطريقة جل أصحابنا البصريين في مثله أن يكون الجواب محذوفا كأنه قال: لما رأيت الخيل هكذا فجاشت نفسي وردت على ما كرهته فقرت طعنت أو أبليت.
ويدل على ذلك قوله في البيت التالي ((علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن)) فحذف طعنت أو أبليت لأن المراد مفهوم، وهذا كما حذفوا جواب لو رأيت زيدًا وفي يده السيف)) ثم أورد نظيرين من الأمثلة من القرآن والشعر لحذف الجواب وقال:((وحذف الجواب في مثل هذه المواضع أبلغ وأدل على المراد وأحسن بدلالة أن المولى إذا قال لعبده: والله لئن قمت إليك، وسكت، تزاحمت عليه من الظنون المعترضة للوعيد ما لا يتزاحم لو نص عن مؤاخذته على ضرب من العذاب)) فأنت ترى المرزوقي في هذا المثال يحاول عن طريق ضرب الأمثلة والشواهد واللجوء إلى الأثر النفسي الناتج عن مواقع إثبات رأي البصريين في قولهم بحذف الجواب في هذه المواضع.
إن المثال الوحيد الذي يبدو فيه عرض لرأي بصري وآخر كوفي دون انحياز ضمنًا أو صراحة هو المثال الذي جال حول لفظة ((الآل)) في بيت سليمان بن قتة الغنوي وهو:
مررت على أبيات آل محمٍد فلم أرها أمثالها يوم حلت
فقد بدأ الحديث فيه بإيراد رأي البصريين قال: ((الآل عند أصحابنا البصريين والأهل واحد، ويدل على ذلك أن تصغير الآ أهيل كما أن تصغير الأهل أهيل)) ثم عرض رأي الكوفيين فقال: ((وأخبرنا الفراء عن الكسائي أنه قال: سمعت أعرابيًا فصيحًا يقول أهل وأهيل وآل وأويل. قال أبو العباس ثعلب: فقد صار أصلين لمعنيين لا كما قال أهل البصرة، وحكي أبو عمر الزاهد عن ثعلب أن الأهل القرابة كان لها تابع أو لم يكن والآل القرابة بتابعها. قال: ولهذا أجود الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم وأفضلها اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)).
فنحن في هذا المثال نراه يعرض الرأيين معًا دون تحيز بل ربما يكون أميل للكوفيين لإطالة ما نقله عنهم في هذا الخصوص. ولكن هل مثال واحد يكفي لأن نرجح القول بأن الرجل كان بغدادي المذهب؟ . أضف إلى هذا أن الدكتور العمري أهمل إيراد مثالين آخرين وردا في الشرح وأشار إليهما في هوامشه كان المرزوقي ظاهر الوقوف فيهما إلى جانب المذهب البصري.
وأما قوله: بأن ليس ببعيد أن يكون المرزوقي قد اعتنق مذهب أستاذة أبي على الفارسي إيمانًا منه بمنهجه وتأثرًا واقتداًء فقد يكون صحيحًا إذا ما طبق على كتب المرزوقي الأخرى، أما في شرح الحماسة فقد مر بنا أنه نقل عن شيخه أبي علي مشافهة في ثمانية مواضع فقط، وهي مواضع لا تقاس بنقولاته العديدة من الخليل
وسيبويه والأصمعي وغيرهم من علماء المذهب البصري، ولقد قرأنا عمل المرزوقي في الحماسة وقرأنا عمل ابن جني فيها فوجدنا ابن جني في عمله أكثر التحامًا بأبي علي الفارسي، وأوضح اقتداء من المرزوقي في عمله.
إن ما نريد قوله في هذا المقام هو أن المرزوقي من خلال شرحه للحماسة لا يبدو بصريًا مطلقًا كما لا يبدو قياسيًا أو بغداديًا مطلقًا، لا يبدو بصريًا مطلقًا لأنه كان إذا تكلم عن أهل البصرة ذكرهم كما يذكرهم أصحاب مدرسة القياس أبو علي وابن جني ومن تبعهما، ولا يبدو بغداديًا مطلقًا لأن المذهب البغدادي يقوم على خصائص معينة تتمثل في الاستقلال الفكري، والاتساع في القياس، والاستعانة بالمنطق، وهي أمور لا نستطيع إثباتها من خلال عمل المرزوقي النحوي في الحماسة، قد يكون ذلك ممكنًا عن طريق دراسة كتبه الأخرى وبخاصة كتبه في النحو، أما في الحماسة فإنه غير واضح المسلك، فهو في غلبة شرحه يبدو واضح التأثر بالمدرسة البصرية ولكنه بالمقابل يستخدم عبارات أصحاب مدرسة القياس أو المدرسة البغدادية الجديدة، ربما كان هذا بتأثير من شيخه أبي علي الفارسي، ولكننا رايناه في موضع من شرحه يختار رأيًا كوفيًا ضعيفًا ليرد به على ابن جني صنوه في التلمذة لأبي علي وأحد دعائم مدرسة القياس وذلك في بيت غلاق بن مروان الذي يقول فيه:
فأضحت زهير في السنين التي مضت وما بعد لا يدعون إلا الأشائما
فقد قال ابن جني في التنبيه: ((ينبغي أن تكون ما من قوله ((وما بعد)) زائدة وتقديره: وبعد، ولا يحسن أن تجعل ما بمنزله الذي أي الزمان الذي بعده وذلك أن قبل وبعد إذا حذف منهما ما أضيفا إليه لم يبنيا على شيء لنقصانهما ولحاقهما بالحرف لأجل الحذف، فإذا كانا لا يبنيان على شيء كان الامتناع من الوصل بهما أوجب، وذلك أن الصلة إلى الإيضاح والتمام أحوج من الخبر، ألا ترى إلى استمرار حذف الخبر وعرة حذف الصلة، فإذا امتنع الأخبار بهما كان الوصل بهما أعر وأقبح)).
هذا ما أورده ابن جني في التنبيه فنقله المرزوقي في شرحه مصدرًا إياه- كعادته بعبارة ((وذكر بعضهم)) ثم رد عليه بقوله: ((وليس الأمر على ما قاله ألا ترى أن قوله عز وجل: ((قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف: ((قال معناه ومن قبل الذي فرطتم في يوسف أي قدمتم، ويجوز أن يراد به ومن قبل تفريطكم، فيكون ما مع الفعل في تقديره مصدر وعلى الوجهين جميعًا من في موضع رفع ومن قبل خبره، وذكر أبو إسحاق الزجاج في ((ما)) من الآية ثلاثة أوجه ما ذكرنا أحدها، وإذا كان الأمر على هذا فما ذكره هذا القائل غير صحيح)).
فعلق الخطيب التبريزي في شرحه على قول المرزوقي هذا بعد أن أورده قائلًا: ((هذا رد المرزوقي على ابن جني وقد أنحى عليه ولم ينصفه بقوله وما ذكره هذا القائل غير صحيح، لأن الذي ذهب إليه ابن جني أحسن من الذي ذهب إليه المرزوقي، وأما قوله وذكر الزجاج في ((ما)) من الآية ثلاثة أوجه ما ذكرناه أحدها، فهو كما ذكره، غير أن الذي ذكره ابن جني هو أجود الوجوه، وكتابه يدل عليه، وغير الزجاج من النحويين ذكر في الآية الوجه الذي ذكره المرزوقي وقال: فيه قبح للتفرقة بين حرف العطف والمعطوف بمن قبل ثم قال: وهو عند الكوفيين حسن، وليس للمرزوقي أن يترك المختار من قول البصريين ويعدل على قول الكوفيين رادًا على ابن جني- رحمه الله).
فكأن التبريزي بعبارته الأخيرة يرى أن المرزوقي بصري المذهب تعمد العدول عن مذهبه على مذهب الكوفيين ليرد على ابن جني تبعًا لموقف سبق أن عرضنا له عندما تكلمنا عن اعتراضاته لابن جني في الرواية.
وصفوة القول أننا لا يمكن أن نحدد للمرزوقي مذهبًا في شرحه للحماسة فنهجه في معالجة القضايا النحوية فيه شيء من الاضطراب، كما أن دراسة مذهب الرجل لا تتم من خلال كتاب واحد فيه أديب أكثر من كونه عالم نحو، والذي ينبغي عمله في هذا الخصوص هو دراسة جميع أعمال الرجل التي تتصل باللغة والنحو وهذا عمل لا يتسع له بحثنا هذا ولا هو من صميمه ولولا أن كلا من الدكتور عسيلان والدكتور العمري قد أقحماه في تناولهما شرح المرزوقي للحماسة الذي تهمنا دراسته في المقام الأول لما خضنا فيه على النحو.
6 -
تحليل المعنى:
اهتم المرزوقي بتحليل معنى النص اهتمامًا ملحوظًا، يتضح هذا الاهتمام في نواح شتى لاحظناها في تتبعنا له وهو يقوم بعملية تحليل المعاني، ولقد رأيناه في العنصر السابق كيف كان يستعين باللغة والنحو في تفسير باللغة والنحو في تفسير الألفاظ والتراكيب وصولًا إلى المعاني وإيضاحها، أما هنا فقد رأيناه ينظر في تحليل معاني النص إلى نواح مختلفة أهمها نظرته إلى وحدة النص ومحاولته الربط بين أبيات القطعة الواحدة بصورة تجعلنا بإدراكه كلية النص لا جزئيته، وثانيها أنه ينظر إلى مقاصد الشعراء ومراميهم فيسجلها أحيانًا قبل الشروع في إيراد المعاني، وثالثها أنه يستقصى المعنى ويورده في أكثر من وجه ويقيم الجدل والحوار بينه وبين نفسه أو قارئه بغية تأكيده وإقراره، ويستحضر الشواهد من القرآن والشعر التي تلتقي في معانيها بمعاني النص خدمة لما قرره فيها من قول وقصدًا لإظهاره. ورابعها أنه كان يتعقب أقوال السابقين في المعاني أنه كان يتعقب أقوال السابقين في المعاني لإبراز جوانب القصور فيها، وخامستها تخيره في عرض المعنى العبارات الأدبية والجمل الإيحائية التي تؤدي المعنى في صورة تبعث المتعة في نفس قارئه وتجعله يستشعر بعقله ووجدانه شرف المعنى وقيمة المضمون.
إن الأمثلة في هذه النواحي تكاد تشمل سائر أجزاء شرحه، وسوف نحاول أن نعرض نماذج لها حتى تتضح لنا طريقته المتنوعة في تناول المعنى.
أ- نظرته إلى كلية النص:
ففي كلية النص كانت طريقته تتلخص في رؤيته لوحدة البيت من جهة وإلى ارتباطه بغيره من جهة أخرى، فإذا كان البيت قائمًا بذاته دالًا بمفرده على المعنى قام بشرحه وتحليل معناه منفردًا وإلا ربط بينه وبين غيره من الأبيات التي تلتقي معه في الفكرة التي رمي إليها الشاعر، ولهذا جاءت معالجته للنص متفاوتة فتارة يشرح النص بيتًا بيتًا وتارة يجمع بين البيتين أو الثلاثة أو الأربعة فصاعدًا، وتارة ثالثة يورد القطعة كاملة ثم يتناولها بالشرح والتحليل، ولقد رأيناه بالإحصاء يشرح خمسًا سوبعين ومائة قطعة، جميعها من ذوات الثلاثة أبيات فصاعدًا دون أن يجزئها إلى أبيات، كما رأيناه يجمع بين الثلاثة أبيات داخل القطعة الواحدة في واحد ومائة موضع، وبين الأربعة أبيات فصاعدًا في أربعة وثلاثين موضعًا، أما أن يجمع بين البيتين في القطعة الواحدة أو أن القطعة نفسها من ذوات البيتين في الاختيار فإن ذلك في شرحه كثير لا طائل لحصره، هذا فضلًا عن أنه كان إذا حلل النص بيتًا بيتًا ورأى أن صلة ما في المعنى بين البيت وسابقه أو الذي يليه دل ذلك وبينه، فمثلًا بيت بشامة النهشلي الذي يقول فيه:
وإن دعوت إلى جلي ومكرمٍة يوما سراة كرام الناس فادعينا
نظر المرزوقي إلى صلته بما يليه فقال: ((هذا الكلام ظاهرة استعطاف لها والقصد به التوصل إلى بيان شرفه واستحقاقه ما يستحقه الأفاضل والأشراف، والأماثل الكرام
…
ألا ترى كيف اشتغل بمقصوده من الافتخار فيما يتلو هذا البيت، وهم كما يتخلصون من التشبيهات وغيرها إلى أغراضهم على اختلافها فإنهم قد يتوصلون بمبادئ كلامهم إلى أمثالها، فتقل المؤونة وتخف الكلفة، ولهذا نظائر وأشباه تجيء فيما بعد)).
وفي بيت العباس بن مرداس الذي يقول فيه:
ولا تطمعن ما يعلفونك إنهم أتوك على قرباهم بالمثمل
قال المرزوقي: ((أخرج ما قدمه من التمثيل لكيدهم وسوء دخلتهم وما يجب عليه من الأخذ بالتحرز معهم، وترك الاستناخة في المبرك الذي اختاره، والمبوأ الذي أعدوه في معرض آخر. والمعنى: وما يعد قرى لك فتجنبه ولا تتناوله فإنه هيئوا لك سمار قاتلا فلا تطعمه. وكان العباس قد سبق بيته هذا بقوله:
إن بوءوك مبركًا غير طائٍل غليظًا فلا تنزل وتحول
فانظر كيف استطاع المرزوقي أن يربط بين البيتين مراعيًا أسلوب الشاعر في إخراج الكلام.
وهو بجانب الكلية للنص يعتمد كثيرًا إلى إيراد مقصد الشاعر ومرماه من الكلام، وقد يسبق به إيراد المعنى وتقريره. مثال ذلك ما جاء عنه في بيت جميل بن معمر الذي يقول فيه:
يقولون لي أهلًا وسهلًا ومرحبًا ولو ظفروا بي ساعًة قتلوني
فقد بدأ القول فيه شارحًا مقصد الشاعر قال: ((نبه بهذا الكلام على تملقهم وإظهارهم النفاق مالا يوافق باطنهم عجزًا وضعف كيد)) ثم أورد المعنى فقال: ((والمعنى يستقبلوني بالتأهيل ويتلقوني بالترحيب عند الالتقاء، ولو أعطوا الظفر لأتوا علي وما أبقوا)).
وفي بيت سعد بن ناشب الذي جاء في:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه وصم تصميم الريسجي ذي الأثر
قال: ((يذكر من نفسه الصرامة والنفاذ وفصل الأمور، والصبر على ممارسة الخطوب)) ثم شرح المعنى فقال: ((يقول: إذا عزم على الأمر كان جميع الرأي، يجعل المهموم به نصب عينيه حتى يخرج منه، ونفذ نفاذ السيف الخدم لا يتوقف في الضريبة ولا يكهم)).
ج- إيراد المعنى في أكثر من وجه:
على أن السمة السائدة في معالجته للمعاني تكمن في إيراده المعنى في أكثر من وجه، فهو يستقصيه ويذكر وجوهه، وأحيانًا يفاضل بين وجه ووجه، وأحيانا يورد الوجوه دون مفاضلة، ومن أمثلة ذلك عمله في بيت عنترة بن الخرس المعنى الذي يقول فيه:
ألم تر أن شعرك سار عني وشعري حول بيتك ما يسير
فقد أورد معناه في وجهين دون مفاضلة بينهما قال: ((يقول ألم تعلم أن شعرك الذي قتلته في لم يعلق بي ذمة لأنه كان كذبًا وزورًا، وشعري الذي قتلته فيك يطوف حول دارك وبيتك ولا يفرقك لأنه كان صادقًا)). ثم أورد معنى آخر فقال: ((ويجوز أن يكون المعنى: ألم تر أن شعري الذي قتلته فيك سار عني لأن الرواة احتملوه استجادة له واستلذاذًا، وشعرك الذي قلته في ملازم لك لزهد الناس فيه لما كان سفسافًا)) وساغ الوجهان جميعًا لأن المصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، فعلى ذلك جاز أن يقول شعرك ويريد شعري المقول فيك)).
ونراه يفاضل بين وجهين في بيت من قطعة لبعض بني فقعس يشير فيها إلى مهاجاة قبيلة سنبس له، والبيت هو:
إني امرؤ مكرم نفسي ومتئد من أن أقاذعها حتى أجازيها
قال في الوجه الأول: ((يقول: إني رجل أربأ بقدري عن مكايلتهم وأترفع
عن موازنتهم وأتوقف عن ملاحاتهم طلبًا لمجازاتهم، والتقدير لا أقاذعها لكي أجازيها)) ثم قال في الوجه الثاني: ويجوز أن يكون المعنى: لا أقاذعها إلى أن أجازيها، أي أولًا أجازيها فعلًا لأرى القدرة عليها ثم حينئذ أجازيها بالكلام)) ثم فضل فقال:((والأول أحسن)).
على أننا رأيناه في هذا الجانب يذهب إلى ابعد من ذلك حيث كان يشرح المعاني من حيث الغرض فيصور المعنى في غرض مرة، وفي غرض آخر مرة أخرى، وذلك في مثل قوله في بيت الحماسة:
إني رأيتك تقضي الدين طالبه وقطرة الدم مكروه تقاضيها
قال: ((هذا البيت يصلح أن يكون مدحًا فيكون المعنى: إني رايتك تخرج إلى المدينين سريعًا من دينهم عليك غير مدافع بما في ذمتك لهم ولا مماطل، فإذا طولبت بدم أو نوزعت في ذحل شق تقاضيك به، وتصعب نيله من جهتك وتعذر. وبصلح أن يكون ذمًا فيكون المعنى: إني رأيتك بأهون سعي واقرب طلب تخرج من الأوتار والدماء إلى طلابها فلا كلفة في نيلها وإدراكها من جهتك، والتقاضي بالدم عسر صعب إلا إذا كان عندك وقبلك، فما ذلك إلا لضعف كيدك ومهانة نفسك، وقصور آبائك، والدين في هذا الوجه يراد به الوتر والدم)).
ومن البديهي أن يعد مثل هذا العمل مبالغة في التأويل لأن الشاعر عادة يكون ذا مقصد واحد في كلامه، فهو إما يهجو أو يمدح، غير أن النص إذا لم يكن فيه ما يدل على المقصد فإن ذلك يؤدي إلى أن يتجه الشراح في تفسيره كيفما اتفق لديهم من استنطاق للألفاظ والتعابير التي يقوم بها البيت، وربما كان إسقاط أبي تمام لبعض البيات من النص الذي يختاره سببًا في أن يتجه الشراح هذه الوجهة غير المنطقية في الشرح والتأويل.
إن المرزوقي بجانب هذا كان يستقصي المعنى ويورد له الشواهد من كل وجه
حتى يدعم ما قرره فيه، ففي بيت حريث بن جابر الذي يقول فيه:
إذا ظلم المولى فزعت لظلمه فحرك أحشائي وهرت كلابيا
نراه يشرحه ويوضح معناه ثم يقول مستقصيًا وجوهه: ((يجوز أن يكون تحركت أحشاؤه لوجيب قلبه وخفقانه، ونبحت كلابه لتهيئه للانتقام وتدججه في السلاح له، وتجمع أصحابه وأعدادهم الخيل والرجل لإغاثته، والكلب ينكر أصحابه إذا رآهم بهذه الأحوال فينبح، أنشد الأصمعي في مثله:
أناس إذا ما أنكر الكلب أهله حموا جارهم من كل شنعاء مظلم
ووجه آخر وهو أن يكون تحركت أحشاؤه لاضطرابه في جمع من يجمع وإعداد ما يعد، والمتسرع في الشيء يلحقه ذلك ومثله: حللنا الكثيب من زرود لنفزعا
أي لتغيث)).
هذا الاستقصاء في تناول المعنى وإيراد الشواهد لإبرازه وإيضاحه نلاحظ في مواضع مختلفة من شرحه، وهو يؤكد ما أوردناه في صفات منهجه الذي سلكه من حيث ذاتيته وأعمال عقله وكد فكره من جهة، وثقافته وإطلاعه الواسع من جهة أخرى.
وإذا كان استقصاؤه للمعاني سمة بارزة في شرحه فإن طريقته الجدلية القائمة على الحوار تعد هي الأخرى خصيصة من خصائص عمله في المعاني، فهو يقرر
المعنى وفق الرؤية التي ارتآها من قراءته للنص ثم يقيم الجدل حوله بغية تأكيد صحته، وذلك في مثل عمله في بيتي أبي الطمحان القيني وهما:
ألا عللاني قبل صدح النوائح وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح
وقبل غٍد يالهف نفسي على غٍد إذا راح أصحابي ولست برائح
فقد أوردها معناهما بقوله: ((يقول: عللاني بالمقترح عليكما قبل أن أموت فتقدم النوائح علي يندبنني، وقبل ميقات أجلي وأوان تخلفي عن أصحابي وقد راحوا عني لنزول القدر الغدور بي)) ثم بني جدلًا فقال: فإن قيل: كيف قدم ذكر صدٍح النوائح على ذكر الموت وإنما يكون بعده؟ قلت: إن العطف بالواو لا يوجب ترتيبًا ألا ترى أن الله تعالى قال: ((واسجدي واركعي)) والركوع قبل السجود في ترتيب أفعال الصلاة)).
د- تعقبه الآخرين في شرح المعاني:
وهو بجانب ما ذكرنا لا يكتفي بمعالجته للمعنى وإبرازه من خلال هذه السبل التي وضحناها بل يزيد على ذلك أنه كان يتعرض لشرح من سبقه في المعاني، ولكنه كان لا يفعل ذلك إلا في مجال التعقيب والانتقاد، وهو في هذا يختلف عن أبي العلاء الذي يأتي القول فيه فيما بعد، والذي كان يورد شروح الآخرين في المعاني ويبين وجه الحسن فيها مضيفًا إليها ما يراه من جديد معنى. أما المرزوقي فإن صفة الاستعلاء التي تركبت عليها نفسه والتي نوهنا لها في أكثر من موضع تجعله دائمًا يقف من سابقيه المشاركين له في عمل الحماسة موقف المتجاوز عما أحسنوا فيه المتعقب لما قصروا فيه. قال في بيت قبيصة بن جابر الذي يقول فيه:
فلسنا من بني جداء بكٍر ولكنا بنو جد النقال
((يقول: لسنا أبناء الحرب القليلة الدر اليسيرة الأذى والشر التي لم يكتثر موقدها، ولم يتشمر لها خطابها ومولدوها، ولكننا بنو المناقلات الشديدة الهياج والوقعات الصعبة المراس)) وهذا تفسير جيد لمعنى جيد لمعنى البيت انتقل المرزوقي بعده ليقول: ((وقد اضطرب بعض المفسرين في هذا البيت فأتى بما يحجبه السمع ولا يعيه القلب فقال: المعنى لسنا بعقم لم يكثر أولادنا فينا الكثرة والعز وقوله: ((بنو جد النقال)) يعني به المناقلة في الكلام، يريد أنهم خطباء قال: فالمصراع الثاني ليس من الأول في شيء، وإذا كان كذلك فكأن أبا تمام ذكر البيت على رداءته ليتجنب قول مثله ولينبه على المترذل منه كما نبه على المختار المستحسن بغيره ((ثم عقب على العبارة الأخيرة بقوله:((هذا القائل لم يرض بذهابه عن الصواب حتى ظن بأبي تمام ما لم يخطر له ببال)).
هـ- أسلوبه في عرض المعنى:
وأما أسلوبه في عرض معاني النصوص فيتصف- كما قال الدكتور العمري- بالوضوح والقوة والجمال، وهي صفات الأسلوب الأدبي الذي سلكه أصحاب المنهج الإبداعي، ففيه إرادة الإفهام، وفيه التأثير في عقول المتلقين ووجداناتهم، وفيه الإمتاع المشع من نظم الكلام ورصفه رصفًا يدل على اختيار الألفاظ وأحكام صوغ الجمل.
ولا شك أن الوضوح هي أهم الصفات التي سادت أسلوب المرزوقي، ذلك لأن وضوح العبارة وجلاء التفسير يعدان مطلبًا أساسيًا لكل من يتصدى لشرح الشعر القديم، ومن هنا كان وضوح العبارة الصفة المشتركة لدى سائر الشراح على مختلف مناهجهم، غير أن هذا الوضوح عند المرزوقي وغيره من الإبداعيين لا يأتي وحده، وإنما تأتي معه القوة، ويأتي معه الجمال، وكلاهما يشكل فارقًا في الأسلوب بين الإبداعيين وغيرهم من ذوي المناهج الأخرى.
ولعل أول ما يلاحظه القارئ في أسلوب المرزوقي وهو يعرض المعاني أنه يتخير ألفاظه، وهي ألفاظ عذبه سلسة ينأى بها عن الوحشية ويحوطها عن المترذل، ثم هو بعد ذلك يحكم الجمل طولًا وقصرًا في تنسيق بديع وأحكام قويم، يميل فيه إلى الأطناب القائم على الترادف وتتابع الجمل المؤكدة ذات المعنى الواحد. قد تلحظ بين ثنايا هذا التنسيق وهذا الإحكام السجع ولكنه سجع لا تحس فيه بقلق أو تكلف، وقد تلمس فيه شيئًا من إعمال الفكر ولكنه إعمال مطبوع لا متصنع، والأمثلة على ذلك كثيرة تسود صفحات شرحه ولكن يمكن أن نعرض نماذج لنبين في أسلوبه ما ذكرناه من صفات، ففي بيت أوس بن حبناء يقول فيه:
يرى أن بعد العسر يسرًا ولا يرى إذا كان يسر أنه الدهر لازب
نراه يعرض معناه فيقول: ((يقول يعلم أن أسباب الدنيا وتصاريفها مبنية على التغير والتبدل، فالعسر واليسر يتعاقبان ولا يلزمان، فمتى استغنى كرم ولم يبطر، علمًا بأنه فلا يبقى، وإذا افتقر عف ولم ييأس، ثقة بأنه يزول ولا يدوم)).
فانظر إلى ألفاظ ((التغير والتبدل)) ، ((يتعاقبان ولا يلزمان)) ((يفنى فلا يبقى)) ((يزول ولا يدوم)) لتدرك كيف أن المرزوقي كان يوفر الأطناب لأسلوبه ليحقق التنسيق بين جمله.
ومثل هذا الأطناب القائم على الترادف وتعاقب الجمل ذات المعنى الواحد يمكن أن تلحظه كثيرًا في أسلوبه، وغايته من ذلك أن يكشف لك المعنى ويوضحه في جلاء، وتستطيع أن تلمس ذلك في عروضه لمعنى قبيصة بن جابر السدي الذي يقول فيه:
وعاجمت الأمور وعاجمتني كأني كنت في الأمم الخوالي
فقد كان يمكن عرض معناه على نحو مثل هذا ((يقول: إنه جرب الأمور وجربته، كأنه بتجاربه عاش منذ عصور سبقت عصره)) غير أن المرزوقي لم يسلك هذه السبيل التي نجدها عند أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يركنون
إلى الإيجاز في عرض المعنى تصويره بأقل جمل، أنه يعرض معناه في ملاحقة واستقصاء فيكشفه ويوضحه يقول:((إني مجرب مدرب، زاولت النوائب، وعاركت الأهوال والعجائب، فلومتها ولزمتني، وأزمت بي، وصرت لطول تجاربي وامتداد أيام محاكتي نقابًا محدثًا، أبلغ بطني ما يبلغ غيري بمشاهدته، على قرب ميلادي وحداثة سني، حتى كأني كنت في الأمم الماضين، وأحد الرجال المعمرين، فأدرك الشيء قبل حصوله، وأتصوره ولم يجئ بصورة ما فرغ منه وقضي، فظني عيان ويومي دهر)).
فلا شك أنك حين تقرأ هذا العرض تحس بأن المرزوقي لم يهدف إلى الإفهام فحسب بل هدف إلى الإفهام والإمتاع معًا، ومن ثم جاءت عباراته وجمله متتابعة في أحكام متوالية في تنسيق لتنتهي بما هدف إليه.
غير أننا أحيانًا نلمس في أسلوب المرزوقي وهو يعرض المعاني جنوحًا نحو أسلوب المعلمين، وهنا يختفي الإمتاع ويبقى الوضوح وحده، وذلك في مثل بيت عبد القيس بن خفاف الذي يقول فيه:
صحوت وزايلني باطلي لعمر أبيك زيالًا طويلا
فقد عرض معناه بقوله: ((يقول: وبقاء أبيك لقد أفقت من سكر البطالة وفارقني ما كنت أتعاطاه من الصبا والجهالة فراقًا ممتدًا، لا ينقطع بمعاودة تعرض دونه أو بمواصلة تبطله وتزيله)) ، وهذا بلا شك أسلوب أدبي، ولكنه شفعه بأسلوب المعلمين فقال:((فإن قيل كيف وصف الزيال بالطول؟ قلت: الطول في الحقيقة لوقت الزيال لا له لكنه وصفه به على طريق التوسع)).
هذا الجنوح محو أسلوب المعلمين ذي المنحى العلمي عند المرزوقي هو نتيجة لتأثير شخصية المعلم فيه، وهي شخصية قد تطغى على نوازعه الأدبية فيكون لها هذا الأثر في الأسلوب، غير أن هذا وإن كان يقع منه أحيانًا، فإن أسلوبه في عرض
المعنى يبقى في غلبته أدبيا مشرقا يحقق غايته في الإفهام والإمتاع معا.
7 -
البلاغة والنقد:
كانت للمرزوقي عناية بالبلاغة في شرحه، كما كانت له وقات نقدية تدل على إدراكه قيمة هذين العنصرين في عملية شرح الشعر وهو- كما رأيناه في مقدمة شرحه- مدرك لعمود الشعر، ملم بالأبواب التي يقوم عليها، حاذق بعيار كل باب منها. وإذا كانت هذه حالة فمن الطبيعي أن نجد له لمحات طيبة في علم البلاغة أثناء عملية في الشرح، تشمل علومها الثلاثة: البيان والمعاني والبديع، كما نجد له وقفات في النقد وفق هذه النظرية التي طرحها في عمود الشعر.
أ- البلاغة:
ففي مجال البلاغة نجده وهو يشرح النص يشير إلى ألوان تتصل بعلم البيان وأخرى تتصل بعلم المعاني، وثالثة تتصل بعلم البديع، ففي البيان كانت له وقفات عند التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، فمن أمثلة وقوفه في التشبيه ما جاء عنه في بيت محمد بن بشير الوارد في باب الغزل وهو:
بيضاء آنسة الحديث كأنها قمر توسط جنح ليٍل مبرد
قال: ((شبهها بقمر توسط السماء فيما جنح من ليل كان فيه غيم وبرد)) ثم بين جمال الصورة التي رمي إليها الشاعر من تشبيهه فقال: ((والقمر إذا خرج من حلك الغمام في ليلة مطيرة كان أضواء وأحسن)).
وفي بيت عمرو بن معدي كرب الذي يقول فيه:
ولما رأيت الخيل زورًا كأنها جداول زرٍع خليت فاسبطرت
كانت له وقفتان تخص التشبيه إحداهما في قوله: ((ولما رأيت الخيل زورًا)) وقد قال فيها: ((وصف الخيل في انحرافها بزور والزور جمع أزور، وهو المعوج الزور، وهذا من التشبيه الحسن الصائب)) ((أما الأخرى فقد كانت في قوله:
((كأنها جداول زرع)) قال: ((والتشبيه وقع على جري الماء في الأنهار لا على النهار، كأنه شبه امتداد الخيل في انحرافها عن الطعن بامتداد الماء في الأنهار وهو يطرد ملتويًا ومضطربًا)).
أما في بيت ابن زيابة الذي يقول فيه:
نبئت عمرًا غارزًا رأسه في سنٍة يوعد أخواله
فقد كانت وقفته فيه تدل على نظرة متفهمة لدقة التعبير عند الشاعر في قوله: ((في سنة)) قال المرزوقي: ((أراد بالسنة الغفلة، وهو ما يحدث في أوائل النوم في العين ولم يستحكم بعد، وهذا من أحسن التشبيه وأبلغ التعريض، والايعاد إذا كان ما وصف حقيق بالتهجين)).
وفي بيت ربيعة بن مقروم الذي يقول فيه:
وألد ذي حنٍق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل
كانت أول خطرة شعت في ذهن المرزوقي حين قراءته هو التشبيه الذي اشتمل عليه، وفيه تصوير شيء معنوي بشيء محسوس فبدأ به شرحه فقال:((أخرج التشبيه ما لا يدرك من العداوة بالحس إلى ما يدرك من غليان القدر حتى تجلى فصار كالمشاهد)) ، ثم مضى يشرح ألفاظ البيت ويقرر معناه.
إن وقفات المرزوقي في التشبيه متعددة لأنه أهم وسيلة أداء استعان بها الجاهليون والإسلاميون في تصوير معانيهم، ولأن اختيار الحماسة قد ضم الكثير من القطع التي قالها هؤلاء الشعراء كثر عند المرزوقي الوقوف عند التشبيه والإشارة إليه أثناء عمله في الشرح.
أما الاستعارة فنجد له فيها وقفات كذلك منها وقفته في بيت عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي الذي يروى للسموءل بن عادياء وهو:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداٍء يرتديه جميل
فقد قال فيه: ((ذكر الرداء هاهنا مستعار، وقد قيل رداه الله رداء عمله فجعله كناية عن مكافأة العبد بما يعمله أو تشهيره به، كما جعله هذا الشاعر كناية عن الفعل نفسه وتحقيقه فأي عمله بعد تجنب اللؤم كان حسنا)).
ومثله بيت تأبط شرًا الذي يقول فيه:
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا به كدحة والموت خزيان ينظر
فقد وقف المرزوقي عند عبارة ((والموت خزيان ينظر)) قال: وهذا من فصيح الكلام ومن الاستعارات المليحة وقد حمل الله- عز وجل ((وأنتم حينئذ تنظرون)) على أن يكون المعنى تتحيرون. ولم يكتف بذلك بل مضى يذكر النظائر فقال: ((وقد سلك أبو تمام مسلك هذه الاستعارة فقال: إن تنفلت وأنوف الموت راغمة)).
وكذلك وقف يبين روعة الصورة البيانية في بيت بلعاء بن قيس الكناني الذي يقول فيه:
وفارس في غمار الموت منغمس إذا تألى على مكروهٍة صدقا
قال: ((جعل للموت غمارا على التشبيه بالماء، ثم جعله منغمسا فيه فحسنت الاستعارة جدًا)).
أما الكناية فهي أيضًا من الألوان البيانية التي نجد لها صدى في شرح المرزوقي، غذ نجد له فيها إشارات متنوعة منها ما ورد في بيت عمرو بن الإطنابة الذي يقول فيه:
والقاتلين لدى الوغى أقرانهم إن المنية من وراء الوائل
قال: ((أصل الوغى هو الجلبة والصوت ثم كثر استعماله فصار كناية عن الحرب)).
كما نجد له إشارة أخرى في بيت حسان بن نشبه وهو:
وكانوا كأنف الليث لا شم مرغمًا ولا نال قط الصيد حتى تعفرا
فقد قال فيه: ((وحسن في الكناية عن الإباء والتصون عن الدناءة والمذلة قوله: ((لا شم مرغمًا)) بعد الأنف)).
وإشارة ثالثة من بيت القتال الكلابي الذي يقول فيه:
فلما رأيت أنه غير منتٍه أملت له كفى بلدٍن مقوم
قال: ((وقوله: أملت له كفي بلدن من فصيح الكلام وبليغ الكتابات)) فكأنه عنى بذلك أن الشاعر أراد أنه طعنه وقتله فكنى عن الطعن والقتل بإمالة الرمح نحوه.
وأشار رابعة في بيت ابن زيابة:
نئبت عمرًا غارزًا رأسه في سنٍة يوعد أخواله
قال المرزوقي موضحًا تعبر ((غارزًا رأسه) وما فيه من كناية ((جعل غرز الرأس كناية عن الجهل والذهاب عما عليه وله من التحفظ)).
وبجانب الكناية نجد أيضًا أشارت له في المجاز تدل على نظرته لهذا اللون البياني ومدى تأثيره في صناعة الكلام البليغ، ومن إشاراته فيه ما جاء عنه في بيت حجر بن خالد الذي يقول فيه:
وجدنا أبانا حل في المجد بيته وأعيا رجالا آخرين مطالعه
فقد وقف المرزوقي عند عبارة ((حل في المجد بيته)) قال: ((البيت لا يحل ولكنه يحل فيه، ولكنه رمى بالكلام على السعة والمجاز لأن المعنى لا يختل، ويقولون فلان عالي المكان لأنه إذا علا مكانه علا هو)).
ومن ذلك أيضًا إشارته التي وردت في بيت الحصين بن الحمام وهو:
ولما رأيت الود ليس بنافعي عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما
قال: جعل الحزم للأمر كما جعل له العزم في قوله تعالى: ((فإذا عزم الأمر)) فكل مجاز واتساع.
هذا فيما يتصل بعلم البيان، أما علم المعاني فإن عمله فيه كان واضحًا في مواضع متعددة من شرحه، وبخاصة في كشفه لأساليب الشعراء وبيان وسائل التعبير التي استخدموها لأداء المعاني، وأظهر ما يكون ذلك وقفاته المتكررة عند خروج الكلام عن مقتضى الظاهر في مجالي الإنشاء والخبر، ففي مجال الإنشاء نجده يقف عند وسائل التعبير في الاستفهام والنهي والأمر، ويدل على خروجها عن مقتضى الظاهر وفق الأغراض التي رمي إليها الشعراء. ومن أمثلة ذلك قول عويف القوافي لما حبس الحجاج بن يوسف عيينة بن أسماء قال:
أم من يهين لنا كرائم ماله ولنا إذا عدنا إليه معاد
نظر المرزوقي إلى ما فيه من استفهام فقال: ((والاستفهام دخل في الكلام على طريق التوجع والتلهف لما جرى على عيينة المذكور)).
ومثله قول موسى بن جابر الحنفي الذي جاء فيه:
وما خير ماٍل لا يقي الذم ربه ونفس امرئ في حقها لا يهينها
قال: ((لفظه لفظ الاستفهام والمعنى معنى الإنكار الذي يجري مجرى النفي)).
وفي خروج النهي عن مقتضى الظاهر نجد وقفته في بيت قطري بن الفجاءة الذي يقول فيه:
لا يركنن أحد إلى الأحجام يوم الوغى متخوفًا لحمام
قال المرزوقي موضحًا إياه: ((قصده إلى البعث والتحضيض على التغرير بالنفس والتعريض ألا ترى أنه يحث بهذا الكلام على ترك الفكر في العواقب ورفض التحرز خوفًا من المعاطب.
وفي أسلوب الأمر وخروجه عن مقتضى الظاهر نجد له وقفات منها وقفته في بيت الفضل بن العباس وهو:
مهلًا بني عمنا عن نحت أثلتنا سيروا رويدًا كما كنتم تسيرونا
فقد قال فيه مبينًا الغرض منه ((هذا الكلام فيه تهكم)).
أما في مجال الخبر فإننا نجد له وقفات تكاد تشمل سائر أجزاء شرحه، وذلك لأنه راعي فيه بيان نوع القول ومقصد الشعراء فيه، ففي بيت أبي الغول الطهوي:
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقوا فيهم ظنوني
قال المرزوقي: ((لفظه لفظ الخبر والمعنى الدعاء)) كأنه أراد بذلك أن الشاعر رمى بكلامه هذا الدعاء لهم بالبقاء وإن كان بقائهم ذهاب نفسه وماله.
ومثل ذلك رؤيته التي سجلها عند بيت الحماسة المنسوب لآخر وهو:
وإن الحزامة أن تصرفوا لقوٍم سوانا صدور الأسل
فقد تمثلت هذه الرؤية في قوله: ((هذا الكلام تحذير وإنذار يقول: وأبلغاه أن الحزم في صرف أعنة خليكم إلى غيرنا فإنكم لا تقومون لنا إذا هيجتمونا والرأي في أن تعدلوا بصدور رماحكم إلى طعن من سوانا فإنكم لا تكملون لدفاعنا)).
ومثله وقفته في بيت الفرار السلمي في بيان غرضه من أسلوب الخبر الذي بنى عليه بيته الذي يقول فيه:
وكتيبٍة لبستها بكتيبٍة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
بين المرزوقي غرضه فيه فقال: ((يتبجح بأنه مهياج شر وأذى وجماع بين كتائب تتقاتل من دونه، ثم يخرج هو من بينهم غير مبال يجرون إليه)).
وفي بيت جابر بن ثعلب الطائي الذي يقول فيه:
كأن الفتى لم يعر يومًا إذا اكتسى ولم يك صعلوكًا إذا ما تمولا
وقف المرزوقي يبين الغرض فيه يقول: ((هذا الكلام بعث على التجوال وتخضيض في اكتساب المال فيقول: إذا اقتنيت بعد فقرك، واكتسيت بعد عريك فكأنك ما كنت قط فقيرًا ولا عريانًا)).
وبجانب وقفاته المتكررة عند خروج الكلام إنشاء أو خبرًا عن مقتضى الظاهر كانت له وقفات أيضًا عند الإيجاز والاطناب وبيان موطن البلاغة فيهما، ففي الإيجاز مثلًا وقف في بيت حسان بن نشبة الذي يقول فيه:
سموا نحو قيل القوم يبتدرونه بأسيافهم حتى هوى فتقطرا
قال المرزوقي مبينًا ما فيه من إيجاز بالحذف: ((في هذا الكلام اختصار كأنه قال: ابتدروه بالسيوف وضربوه حتى سقط، فحذف ضربوه)).
أما الأطناب فإن عمله فيه أكثر اتساعًا من عمله في الإيجاز، ومن أمثلته وقوفه في بيت أبي صخر الهذلي الذي جاء في رائيته في الغزل وهو:
أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر
فقد قال فيه: ((تكربره للذي ليس بتكثير للأقسام لأن اليمين يمين واحدة بدلالة أن لها جوابًا واحدًا، ولو كانت أيمانًا مختلفة لوجب أن يكون لها أجوبة مختلفة، وفائدة التكرير التفخيم والتهويل)) ولم يكتف بذلك في بيان غرض الأطناب بل فأتى بنظير من القرآن الكريم قال: ((وما في القرآن الكريم من قوله: ((والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى)) مثله، ثم رجع إلى بيان قيمة البيت فنيًا:((على أن ما في البيت من اختلاف الأفعال الداخلة في الصلات جعل الكلام أحسن والتفخيم أبلغ)).
ومثل ذلك أيضًا قول شهل بن شيبان:
مشينا مشية الليث غدا والليث غضبان
قال فيه: ((كرر الليث ولم يأت بضميره تفخمًا وتهويلًا)) ثم فضل الحديث فقال: وهم (أي العرب) يفعلون ذلك في أسماء الأجناس والأعلام قال عدي:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغض الموت ذا الغني والفقيرا
ومثلما جال المرزوقي في علم البيان وألوانه وعلم المعاني وألوانه كانت له جولة في علم البديع، غير أن جولته فيه كانت محدودة بالقياس إلى عمله في البيان والمعاني، فنحن بتتبعنا لشرحه لم نجد له سوى أشارات تتصل بمحسنات الكلام
من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، بل إننا لاحظنا أن جملة من هذه المحسنات عبرت بين شرحه دون أن يقف عندها، وبخاصة فيما يتصل بالمطابقة. ولعله ترك الكلام فيها لوضوحها، أو لعله تركها للقارئ ليقف عليها دون دلالة منه عليه. ومهما كان المر فإن تلك الإشارات التي صدرت عنه في تحسين الكلام لفظيًا ومعنويًا تجعلنا ندرك بأن المرزوقي كان مدركًا لقيمة علم البديع في فن الشعر، وإذا قل عمله فيه أثناء عملية الشرح فإن ذلك راجع إلى أن كثيرًا من ألوان البديع التي حددها البلاغيون لم تبرز إلا عند شعراء الصنعة الفنية أمثال أبي تمام صاحب الاختيار، ومن قبله بشار ومسلم بن الوليد أو شعراء التصنع الذين ظهروا في العصور التي تلت العصر العباسي الأول، وهؤلاء لم يكن لهم في اختيار الحماسة نصيب، ونحن إذا أردنا أن نعرف قيمة عمل المرزوقي في علم البديع لا نطلب ذلك في شرحه للحماسة وإنما نطلبه في أعماله الأخرى التي قامت في أشعار المحدثين مثل عمله المسمى بشرح المشكل من شعر أبي تمام.
على أن هذا لا يمنع من أن ننظر فيما تناوله من ألوان البديع في شرحه حتى نقف على عمله فيه، الذي قلنا إنه يتمثل في بعض الإشارات الخاصة بالمحسنات المعنوية واللفظية، ومن ذلك نظرة إلى المطابقة في بيت بشامة النهشلي القائل:
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ولو نسام بها في الأمن أغلينا
فقد قال: ((وفي البيت طباق بذكر الارخاص والاغلاء والروع والأمن في موضعين وهو حسن جيد)).
ونظرة أيضًا في بيت أنيف بن حكيم النبهاني الذي يقول فيه:
إذا نحن سرنا بين شرٍق ومغرٍب تحرك يقظان التراب ونائمة
فقد حلل الاستعارة في قوله ((يقظان التراب ونائمه)) ثم قال: ((وقد أحسن
ما شاء في الاستعارة والطباق وبالنوم واليقظة)).
كذلك كانت له بعض الإشارات في الجناس اللفظي، وذلك مثل وقفته التي وقفها في بيت دريد بن الصمة الذي يقول فيه واصفًا أخاه عبد الله الذي أبنه بقصيدة منها هذا البيت:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
…
فلما علاه قال للباطل ابعد
قال: ((يجوز أن صبا الأول من الصبا واللهو وصبا الثاني من الصباء بمعنى الفتاء
…
ويجوز أن يكون المعنى تعاطي الصبا ما تعاطاه إلى أن علاه المشيب، فيسقط التجنيس من البيت وهو يحسن به)).
ومن ذلك إشارته إلى التجنيس الناقص في بيت الغزل الذي نسب لآخر وهو:
شيب أيام الفراق مفارقي وانشزن نفسي فوق حيث تكون
قال: وقوله: ((أيام الفراق مفارقي)) يسمى التجنيس الناقص)).
ونراه في موضع آخر يهتم بتأكيد المدح بما يشبه الذم، وذلك في بيتي النابغة الجعدي وهما:
فتًى كان فيه ما يسر صديقه على أن فيه ما يسر الأعاديا
فتًى كملت خيراته غير أنه جواد فلا يبقي من المال باقيا
قال: وقد تجلت حاسته الفنية في تحليله: ((وإذا تأملت وجدت البيت الثاني مثل البيت الأول في أنه اتبع ثناء بثناء، وأردف مديحًا بمديح، فعجز كل واحد منهما يؤكد صدره ويزيده مبالغة معنى وتظاهر مبدأ ومنتهى، ومثلهما بيت النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وبجانب هذه المحسنات اللفظي منها والمعنوي نجده يشير إلى لون من ألوان نعوت المعاني وهو الالتفات الذي سماه بعض البلاغيين الاعتراض، ولذا نجد المرزوقي يشير إليه مرة بالالتفات ومرة بالاعتراض كأنه يذهب بهذا مع ابن المعتز الذي يفصل بين الالتفات والاعتراض.
فمن إشاراته التي استخدم فيها مصطلح الالتفات ما جاء عنه في بيت الحماسة الذي نسب لآخر وهو:
أعان علي الدهر إذ حك بركه كفى الدهر لو وكلته بي كافيا
قال: ((ومثل هذا القول)) كفى الدهر ((يسمى التفاتًا)). وكذلك ما جاء عنه في بيت العديل بن الفرخ العجلي القائل:
وضيعت عمرًا والرباب ودارمًا وعمرو بن وٍد كيف أصبر عن وٍد
فقد وقف محللًا الالتفات في عبارة ((كيف أصبر عن ود)) قال: ((وقوله: ((كيف أصبر عن ود)) هو الذي يسميه النقاد والبصراء بصنعه الشعر وتمييز البديع فيه الالتفات، كأنه لما ذكر ودا والخلاف عليه، ونفض اليد مما يجمعه إياه، وكشف الرأس بالمعاداة معه للرحم قلبه، وضاق بالحال المتصورة صدره، والتفت إلى من بحضرته فقال: كيف يكون صبري على مثله)).
وأما إشاراته إلى ((الاعتراض)) فقد جاءت في نحو قول تأبط شرًا:
هما خطتا إما أسار ومنة وإما دم والقتل بالحر أجدر
قال: ((وقوله: والقتل بالحر أجدر يسمى اعتراضًا لوقوعه بين ما عدده من الخصال))، ومثله ما جاء عنه في بيت عمرو بن معدي كرب القائل:
ليس الجمال بمئزٍر فاعلم وإن رديت بردا
فقد قال فيه: ((وقوله: فاعلم اعتراض تأكد به الكلام)).
ولعله كان أوضح في معالجته للاعتراض في بيت إبراهيم بن كنيف النبهاني وهو:
فأن تكن الأيام فينا تبدلت ببوسى ونعمى والحوادث تفعل
فقد فصل فيه الحديث فقال: ((وقوله: ((والحوادث تفعل)) يسمى اعتراضًا، ومثل هذا من الاعتراض يزيد القصة تأكيدًا، وهو ها هنا حاصل بين الجزاء وجوابه لأن جواب إن تكن قوله:((فما لينت منا قناة صليبة)) وحسن الكلام به جدًا إذ كان تأكيدًا لما يقتضيه من تحول الأحوال وتحقيقًا لما شكاه من ريب الزمان، وبعثا على التسلي وأخذ النفس بالتأسي)).
وهكذا نرى أن المرزوقي قد جال في ثنايا شرحه في علوم البلاغة الثلاثة، غير أن أعماله فيها وان تفاوتت فأنها قد دلت على قيمة ألوان هذه العلوم وما تحدثه من أثر في جمال القول الشعري، كما أن تفاوتها يرجع إلى ما أشرنا إليه سابقًا عندما تكلمنا عن منهجه أنه في جوانب البلاغة لم يكن في الدرجة التي عالج بها اللغة والنحو في شرحه، فهو أكثر عناية بالغة والنحو من البلاغة، وذلك بتجاوزه المتكرر لجملة من
الألوان البلاغية أثناء عملية الشرح، ومع هذا الذي ذكرناه فان شرحه في البلاغة إذا ما قيس بغيره من الشروح التي وصلت إلينا يعد الشرح الوحيد الذي اهتم بفنون البلاغة في عناصر الشرح.
ب- النقد:
وإذا تركنا جانب البلاغة واتجهنا إلى النقد وجدنا المرزوقي في شرحه ناقدًا نظريًا وتطبيقيًا، فأما نقده النظري فقد ضمنه مقدمته التي صدر بها شرحه. وأما نقده التطبيقي فقد جاء في ثنايا شرحه، ولما كنا ندرس عناصر الشرح عنده وفق المنهج الذي سار عليه، موازنين بينه وبين غيره من الشراح ذوى المناهج الأخرى كان من المحتم علينا أن لا ندخل أنفسنا في دراسة نقده النظري الوارد في مقدمته لأنه لا يشكل عنصرًا من عناصر الشرح، وإنما الذي يعنينا فقط هو نقده التطبيقي الذي يدخل في صميم عملية شرح الشعر، غير أن تركنا لما جاء في مقدمته من نقد نظري لا ينسينا أن كثيرًا من نقده التطبيقي كان مبنيا على نظريته التي طرحها في عمود الشعر مثل شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، إلى غير ذلك من الأبواب التي يقوم عليها عمود الشعر.
ويمكن القول بأننا حين أفردنا المواد التي مثلت نقده التطبيقي وجدنا أنه يسير فيها وفق وجهات ثلاث: وجهة تتصل بنقد الرواية وتصويبها، ووجهة تتصل بنقد الشعر المختار في الحماسة، ووجهة تتصل بالموازنات والسرقات.
فأما نقده للرواية فقد تكلمنا فيه عندما عرضنا لعنصر الرواية في شرحه، ويمكن أن نضيف هنا بعض الجوانب التي استرعت انتباهنا ونحن نفرز المواد النقدية، منها أنه كان يعتمد في نقده للرواية على جزالة اللفظ واستقامته وهو أحد الأبواب التي أوردها لعمود الشعر، إذ عيار اللفظ عنده الطبع والرواية والاستعمال. ولذلك نراه يقف عند بيت وضاح بن إسماعيل القائل:
ذريني ما أممن بنات نعٍش من الطيف الذي ينتاب ليلا
فيقول: ((وروى بعضهم: ((يأتاب ليلًا)) وهو يفتعل من الأوب، وينتاب أوجه في النقد وأحسن)) كأنه رمى بذلك إلى أن استقامة الفعل ((ينتاب)) في البيت لأنه يصح مع الطبع والرواية والاستعمال. ومنها أنه كان ينظر إلى لغة الشعراء وطرائقهم في النظم ويدلل بها على صحة نسبة الشعر إليهم، وهي إحدى الدعامات التي قامت عليها تصفية الشعر القديم وتنقيته من شوائب النحل والوضع التي علقت به وشكلت قضية الشك والطعن فيه. ففي قطعة الرثاء التي أولها ((أصاب الغليل عبرتي فأسالها)) والتي نسبها أبو تمام إلى يزيد بن عمرو الطائي أشار المرزوقي إلى أن الأثرم رواها عن أبي عبيدة للنابغة الذبياني وأثبتها في ديوانه، ولكنه عقب على هذا بقوله:((وفي ألفاظ هذه الأبيات على ما رواه أبو تمام شاهد صدق على أنه ليزيد لا للنابغة)). فكأنه بذلك يرمي غلى أن لغة النابغة الشعرية تختلف عن لغة يزيد، وهي نظرة صائبة في مجال اضطراب رواية الشعر ونسبته إلى أكثر من شاعر، ونظرة صائبة أيضًا في مجال تصفية الشعر القديم من النحل والوضع.
ومنها أنه ينظر إلى المقاربة في التشبيه لأن عيار المقاربة عنده هو أن يقع التشبيه بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما ليبين وجه الشبه بلا كلفة. هذا ما نحسه منه في نقده رواية بيت لمرة بن مكحان في وصف جازر ناقة، وقد أثبته في متنه على النحو التالي:
ينشنش اللحم منها وهي باركة كما تنشنش كفا قاتٍل سلبا
ثم قال في الشرح: ((ورواه بعضهم)) كما تنشنش كفا قاتل سلبا)) وقال: شبه نشنشته بنشنشة فاتل الحبل من السلب وهو نبات يخرج على صورة الشمع وعلى قدره فيجز ويفتل منه الحبل وبائعها ومتخذها السلاب. ثم عقب على ذلك فقال: ((والرواية الأولى أجود وأكثر مشابه))، فكأنه نظر إلى تقارب التشبيه بين نشنشة الجازر للحم الناقة بعد نحوها ونشنشة القاتل سلب القتيل بعد قتله فهي أقرب وأوضح من نشنشة فاتل الحبال من نبات السلب إذ لا قتل يقابل نحر الجازر للناقة.
وأما نقده للشعر المختار في الحماسة فقد رأيناه على ضربين ضرب بين فيه مواطن الجودة والجمال، وضرب بين فيه مواطن الضعف، فأما الضرب الأول فقد كان يراعي فيه حسن المعنى وسلامة اللفظ وتوازنه، وذلك مثل عمله في بيت بشامة النهشلي الذي يقول فيه:
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا آثار أيدينا
فقد قال فيه بعد أن شرحه وبين ما فيه من معان: ((وفي البيت مع حسن المعاني التي بينتها توازن في اللفظ مستقيم وسلامة مما يجلب عليه التهجين)).
ومثل ذلك ما جاء عنه في بيت عمرو بن معدي كرب وهو:
ولقد أجمع رجلي بها حذر الموت وإني لفرور
قال: ((وأجمع رجلي أي أستحث فرسي وهو فصيح الكلام، ومن العبارات التي تصور المعنى، ومن لفظه وبابه قولهم: جمعت يدي على كذا، ورفعت يدي عن كذا.
وربما نظر إلى شرف المعنى وحسنه مثل قوله بيت أبي الأبيض العبسي في فرسه:
أقيه بنفسي في الحروب وأتقي بهاديه إني للخليل ودود
قال فيه: ((هذا معنى شريف حسن)) ولم يبين وجه شرفه وحسنه، ولعله نظر إلى الصورة التي رسمها هذا الشاعر لعلاقته بفرسه في الحرب ومدى ما يبدله كل واحد منهما نحو الآخر، كما نظر إلى هذا الاعتراض أو الالتفات المتمثل في قوله:((إني للخليل ودود)) وهو تعبير رائع في معناه بالنظر إلى حديث الفرس السابق له.
أما الضرب الثاني الذي كان يبين فيه مواطن ضعف الشعر، فقد رأيناه أيضًا يقيم نقده فيه على المعنى أحيانًا وعلى سلامة اللغة أحيانًا أخرى، ومن أمثلة نقده للمعنى ما قاله في بيت ابن زيابة التيمي الذي يقول فيه:
والذرع لا أبغب بها ثروة كل امرىٍء مستودع ماله
قال: ((لولا أن قصده في التمدح إلى التعريض بالمخبر عنه لكان لا معنى لهذا الكلام. ألا ترى إلى قوله: ((والدرع لا أبغي بها ثروة)) وقد فسر على أنه يجوز أن يكون المراد: لا اقتني الدرع لكي أتجر فيها وأتمول، وترك التجارة في الأسلحة ليس فيه كبير تمدح)).
أما نظره إلى سلامة اللغة واستعمالها الاستعمال الفصيح لما صح من القياس، فقد تردد في مواضع مختلفة من شرحه، ومن ذلك وقفته في بيت عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي المنسوب إلى السموءل وهو:
وإنا لقوم ما نرى الموت سبة إذا ما رأته عامر وسلول
قال منتقدًا سلامة التركيب فيه: ((كان وجه الكلام أن يقول: ((ما يرون القتل سبة)) حتى يرجع الضمير من صفة القوم إليه ولا تعرى منه، لكنه لما علم أن المراد بالقوم هم قال:((ما نرى)) ثم أضاف، وقد جاء في الصلة مثل هذا وهو فيه أفظع قال:
أنا الذي سمتن أمي حيدره
واستشهد على ضعف التركيب بما ورد عن أبي عثمان المازني فقد قال: ((لولا صحة وروده وتكرره لرددته)).
ومثل هذا أيضًا نقده بيت عروة بن الورد الذي يقول فيه:
لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله مصافي المشاش آلفًا كل مجزر
فقد عاب عليه إضافة مصافي غلى المشاش، ووصفها بأنها ضعيفة لأن المشاش أشير به الجنس، ولا يحصل التخصيص بالإضافة إليه، وعلى هذا قولهم: قيد الأوابد ودرك الطريدة. كما عاب عليه عدم تحريك الياء من مصافي بالفتح قال: ((وكان يجب أن يحرك الياء من مصافي بالفتح فسكنه لأن منهم من يجري الفتحة في مثله من المعتل مجرى سائر الحركات فلا يثبتها)).
على أن النقد البارز في شرح المرزوقي هو النقد المتصل بالموازنات والسرقات، فقد سجل لنا كثيرًا من المفاضلات التي كان يجريها بين الشعراء في معانيهم وصناعتهم الفنية، متخذًا من أبيات الحماسة التي يشرحها محورًا ينطلق منه إلى هذا النوع من النقد، فهو تارة يذكر لنا أقوال الشعراء المشتركة في معنى واحد أو صنعة فنية واحدة، وتارة يفاضل بين أقوالهم ويبين الجيد منها، وتارة ثالثة يبين لنا ما أخذه المتأخرون منهم من معاني المتقدمين
ففي بيت سعد بن ناشب الذي يقول فيه:
فان تعذليني تعذلي بي مرزأ كريم نثا الإعسار مشترك اليسر
وقف المرزوقي عند معنى قوله: ((كريم نثا الإعسار مشترك اليسر)) ونظر إلى اشتراك الشعراء في إيراد معناه فقال: ((وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى، فمن ذلك
قول الشمردل:
وصول إذا استغني وإن كان مقترًا من المال لم تحف الصديق مسائله
وقول المرار:
إذا افتقر المرار لم ير فقرة
…
وإن أيسر المرار أيسر صاحبه
وأحسن من الجميع قول الآخر:
إذا افتقروا عضوا على الفقر حسبة وإن أيسروا عادوا سراعًا غلى الفقر
هذا من حيث الاشتراك في المعاني، أما الاشتراك في الصنعة الفنية وطريقة نظم الشعراء فمن أمثلته وقفته في بيت البعيث بن حريث الذي جاء في باب الغزل وهو:
معاذ الإله أن تكون كظبيٍة ولا دميٍة ولا عقلية ربرب
وقف المرزوقي عند رسم الشاعر صورة لحسن محبوبته، فنظر إلى طريقته في رسم هذه الصورة قال: كأنه أنف وصار يربأ بصديقته أن تكون في الحسن بحيث تشبه بالظبي أو الظبية أو بالصورة المنقوشة أو بكريمة بقر الوحش ((وهذه طريقة تختلف عن طريقة الشعراء الذين درجوا على تشبيه المحبوبة بالظبية أو الدمية أو البقرة من الوحش، ولذلك نظر إلى نهجها عند شعراء آخرين فقال: )) وقد سلك من المتقدمين امرؤ القيس هذه الطريقة فقال:
كأن دمى سقٍف على ظهر مرمٍر كسا مزبد الساجوم وشيًا مصورا
غرائر في كن وصوٍن ونعمٍة
…
يحلين ياقوتًا ودرًا مفقرا
فشبه الدمى بالنساء لا النساء بالدمى، ولم يكتف المرزوقي بهذا، بل ذهب إلى بيان هذه الطريقة عند أبي تمام فقال: ((ومما يستحسن من هذه الطريقة قول أبي تمام:
كأنما جاد مغناه فغيره دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل
قال: لأنه شبه الأمطار المغيرة لرسوم الديار بدموع العشاق من أثر الأحباب يوم الفراق))
وبجانب النظر إلى اشتراك الشعراء في المعاني وطريقة النظم نظر المرزوقي إلى جانب المفاضلة بين الشعراء ذوي الاشتراك في المعنى الواحد، فكان يوازن ويبين الفاضل من المفضول فيها وهذا أيضًا كثير في شرحه، ومن أمثلته ما جاء عنه في بيت الحارث بن هشام المخزومي من كلمته التي قالها يوم بدر حين فر من الحرب قال:
الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
قال المرزوقي: ومثله قول المهلهل:
لم أرم حومة الكتيبة حتى حذي الورد من دمي نعالا
ثم فاضل بين البيتين فقال: ((وهذا قاصر عن درجة ما تقدم لأنه يتعذر مما آثره من الهروب في وقته، وذاك أورده مورد المتبجح، وأنه خلقه ومذهبه لعلمه بمصادر الحروب ومواردها))
وفي بيت قيس بن الخطيم الأوسي الذي يقول فيه:
إذا ما شربت أربعًا خط مئزري وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
وقف المرزوقي فيه، ونظر إلى قول عنترة وعمرو بن كلثوم في طويلتيهما فقال:
وهذا أجود من قول عنترة، وإن كان مفضلًا عند كثير من الناس على قول عمرو بن كلثوم، وقول عنترة:
وإذا انتشيت فإنني مستهلك
…
مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندًى وكما علمت شمائلي وتكرمي
وبيت عمرو:
مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا
ثم بين لم فضل بيت قيس على قوليهما فقال: لأن هذا (يعني عمرًا) قال: إنا نتسخى إذا شربنا الخمر ممزوجة، وما قاله عنترة في بيتين أشار إليه قيس في مصراع)).
وشغلت السرقات وما أخذه المتأخرون من معاني المتقدمين حيزًا ليس بالضئيل في شرح المرزوقي، ذلك لأنه كما كان ينظر إلى اشتراك الشعراء في معانيهم وطرائق أدائها كان ينظر إلى أخذ الشعراء من بعضهم بعضًا، ففي بيت جرير الذي قاله في رثاء قيس بن ضرار:
وحق لقيٍس أن يباح له الحمى وأن تعقر الوجناء إن خف زادها
قال المرزوقي: ((أي حق للجزع به أن يبلغ من القلب حدًا لم يبلغ منه شيء)) ثم مضى مستعرضًا هذا المعنى لدى الشعراء فقال مشيرًا إليهم: ((وقد أخرجوا هذا المعنى في معارض لأنه معنى صحيح حكيم شريف، فقال كثير في الحب يصف امرأة:
أباحت حمًى لم يرعه الناس قبلها وحلت تلاعًا لم تكن قبل حلت
يريد بلغت من القلب هذا المبلغ، وأخذه منه الصمة بن عبد الله القشيري فقال:
فحلت محلا لم يكن حل قبلها وهانت مراقيها لريا وذلت
وأخذه أبو نواس فقال:
مباحة ساحة القلوب له يرتع فيها أطايب الثمر
وأخرجه على وجه آخر فقال ينفي:
بصحن خٍد لم يغض ماؤه ولم تخضه أعين الناس
ولا شك أن مثل هذا العمل وأشباهه في شرح المرزوقي كانت وراء أعمال رجال عنوا بالسرقات وما أخذه المتأخرون من المتقدمين، وهي قضية كان لها صدى في حركة النقد العربي وبخاصة في القرن الرابع الهجري الذي عاش فيه المرزوقي وشهد آخره، فالمرزوقي مثلما رأيناه يفيد من التراث الموروث من العلماء في مجالي اللغة والنحو نراه يفيد هنا من التراث النقدي الذي خلفه السابقون أو المعاصرون وربما كان هذا وراء اهتمام المرزوقي بأبي تمام في جانب الموازنات والسرقات التي عالجها في شرحه، فقد كان لأبي تمام حضور ملحوظ في هذا الجانب من نقده، ومعلوم أ، أبا تمام كان شغل الكثيرين من النقاد في زمن المرزوقي وقبله، بل إن المرزوقي نفسه قد اهتم به اهتمامًا كبيرًا بدلالة ما أشرنا إليه سابقًا أنه شرح المشكل من شعر وألف كتابًا في الرد على من انتقصوه، ولعل المرزوقي بجانب تأثره بحركة النقد في عصره قد هدف من اهتمامه بأبي تمام في شرحه إلى الربط بين الاختيارات المشروحة وصاحبها لا من خلال ما اختاره فحسب بل من خلال شعره أيضًا، ومن أمثلة ذلك ما صدر عنه في بيتين من باب الحماسة هما:
إن يحسدوني فأني غير لائمهم قلبي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظًا بما يجد
قال المرزوقي: ((وحدثني أبو عبد الله حمزة بن الحسن قال: سمعت أبا
الحسن علي بن مهدي الكسروي يقول: أنا قد تتبعت من دواوين الشعراء قديمهم ومحدثهم فوجدت أبا تمام الطائي متفردًا بمعنى قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلٍة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا التخوف للعواقب لم يزل للحاسد النعمى على المحسود
غير مسبوق إليه ((فقال المرزوقي معقبًا على هذا القول: ((وعندي أنه أخذه من فحوى هذين البيتين وان كان زاد عليه)).
وهكذا نخلص من جميع ما عرضناه في هذا الفصل إلى أن المرزوقي بمنهجه الأدبي الإبداعي الفني قد كان معلمًا بارزًا في عمله الذي قام به في الحماسة، فشرحه يعد نسيج وحده بالقياس إلى الشروح التي وصلت إلينا، وسوف يتضح هذا بجلاء حين تكتمل فصول هذا القسم بتطبيق المناهج الأخرى التي سلكها الشراح الآخرون للحماسة.