المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: شروح غير واضحة المنهج - شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

[محمد عثمان علي]

الفصل: ‌الفصل الأول: شروح غير واضحة المنهج

‌الفصل الأول: شروح غير واضحة المنهج

1) شرح أبي الفتوح ثابت الجرجاني:

هذا الشرح وصل إلينا كاملًا كما بينا في ثبوت شروح الحماسة، غير أنه ليس واضحًا في منهجه، ويبدو أن صاحبه قد قصد به رواية متن الحماسة التي أخذها عن عبد السلام البصري أكثر من قصده إلى عمل شرح على الشعر، فقد جاء في مقدمته "قرأت هذا الكتاب ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة على الشيخ أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري، وقال لي: قرأته على أبي رياش أحمد بن هاشم بن شبل القيسي الربعي _رحمه الله_ بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وقال: أنشدنا أبو المطرف الأنطاكي قال: أنشدنا أبو تمام حبيب بن أوس لبعض شعراء بلعنبر".

وهي رواية لها قيمتها من حيث أن السند فيها بين أبي تمام صاحب الاختيار والجرجاني صاحب الكتاب لا يتجاوز ثلاثة رجال، كما أن الفترة الزمنية بين قراءة

ص: 309

عبد السلام البصري على أبي رياش وقراءة الجرجاني على عبد السلام لم تتعد الثلاثين عامًا. هذا فضلًا عما أشرنا إليه سابقًا من أن أبا رياش والحسن بن بشر الآمدي هما الوحيدان اللذان أخذا الحماسة مشافهة عن أبي المطرف الأنطاكي، وعن طريقهما وصل اختيار الحماسة إلى جل العلماء الشراح الذين عنوا بشرح الحماسة.

ويتضح لنا من خاتمة الجرجاني في عمله أنه حمل ديوان الحماسة إلى الأندلس ضمن كتب قرأها على الشيوخ في بغداد، وقام بتصحيحها عليهم، وأن ديوان الحماسة ظل عنده فترة من الزمن حتى أعاد النظر فيه بعمل بعض التعليقات التي تتصل بشرح غريبة وبعض معانيه، وهذا واضح من قوله في هذه الخاتمة:"تكلفت بتصحيح هذا الكتاب وشرح غريبة ومعانيه بعد طول العهد به، وهو في الكتب التي قرأتها وصححتها، ولم آمن أن يقع فيه خلل فإن آفة العلم النسيان".

والحق أنه لم يتكلف فيه شرح كل غريبة، ولا شرح كل ما فيه من معان، وإنما عمله _كما بدا لنا_ مجرد تعليقات في مواضع متفرقة من الاختيار، جلها في شرح مفردات بعض الأبيات لا كلها، ويمكن أن نوجز ملاحظات قراءتنا له في الآتي: أولا: إن الشرح لا يدل على أن صاحبه قد أفاد من شروح سبقته في الحماسة، وإنما كل ما ورد في هذا الشأن أنه نقل في موضوعين فقط سماعًا عن عبد السلام البصري ذكر فيه قولين لأبي رياش، أحدهما في شرح اسم الفند الزماني، والآخر في شرح لفظة "حظباي" الواردة في بيت الفند الذي يقول فيه:

ولولا نبل عوض في حظباي وأوصالي

أما في غير هذين الموضعين فنحن لا نجد عنده إفادة من شارح للحماسة أو من عالم من علماء اللغة والأدب الذين رأيناهم يترددون كثيرًا في أعمال من درسنا شروحهم في تطبيق المناهج الخمسة.

ص: 310

ثانيًا: أنه كثيرًا ما كان يكتفي برواية قطع الاختيار دون أدنى تعليق أو شرح، فهو مثلًا أورد ثلاث قطع متوالية في باب الحماسة دون أن يعقب عليها بكلمة واحدة. وفي باب النسيب أورد خمس قطع تباعًا دون تعليق، ووقع ذلك منه في باب الأضياف والمديح فقد أورد أربع قطع متوالية دون أن يعني بشرح شيء منها. هذا بجانب وجود قطع متفرقة في مختلف الأبواب، جاءت خالية من أدنى عمل، وهي كثيرة جدًا لا طائل لحصرها وتعدادها، ويكفي أن تنظر إلى باب مذمة النساء عنده لتجد أنه قد بلغ في روايته سبع عشرة قطعة اشتملت على ستة وستين بيتًا، كان حظها من تعليقاته اثني عشر سطرًا لا غير، غلبتها المطلقة في شرح المفردات، وهي خالية تمامًا من إيراد أي معنى من معانيها.

ثالثًا: أن تعليقاته على الأبيات كانت موجزة غاية الإيجاز، واقتصرت _كما أشرنا_ على شرح الألفاظ فقط، والأمثلة على ذلك كثيرة يصعب حصرها، منها على سبيل المثال ما جاء عنه في قطعة عاتكة بنت عبد المطلب التي جاءت في باب الحماسة، والتي لم يشرح منها سوى بيت واحد هو:

فيه السنور والقنا

والكبش ملتمع قناعه

فقد فسر ألفاظه في إيجاز شديد قال: "السنور السلاح، والكبش رئيس القوم، وملتمع أي لامع، وقناعه يعني البيضة".

وكذلك قطعة سلمى الجعفي التي يرثي فيها أخاه، وهي من ستة أبيات لم يشرح منها سوى ثلاثة ألفاظ فقط، جاءت في البيت الذي يقول فيه سلمى:

فتى كان يعطي السيف في الروع حقه إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر

ص: 311

قال: "الروع الفزع، وهو هنا الحرب، وثوب أشار بثوبه، والجزر جمع جزور".

رابعًا: أن عناصر الشرح التي تجلت لنا بوضوح في شروح الشراح ذوي المناهج الخمسة تبدو في هذا الشرح غير واضحة، ولا يدل العمل فيها على أدنى عناية تذكر، فعنصر تحديد أوزان الشعر وأضربه وقوافيه لا وجود له، وكذلك شرح أسماء الشعراء والأعلام. أما أخبار الشعر ومناسباته فلم يقع إلا في ثلاثة مواضع فقط. وفي عنصر اللغة كان عمله _كما ذكرنا_ مقصورًا على شرح المفردات في إيجاز مبالغ فيه، وكذلك لم نجد في النحو سوى عمل واحد جاء في بيت دريد بن الصمة الذي يقول فيه:

وعبد يغوث تحجل الطير حوله وعز المصاب حثو قبر إلى قبر

قال: "يروى بنصب المصاب وبرفعه، فمن رفعه جعل المصاب فاعل عز وجعل حثو قبر إلى قبر بدلًا منه، ومن نصب عنى به الرجل الذي أصيب".

ومثل النحو الرواية، فهي لا تطل علينا في ثنايا الشرح إلا نادرًا، والحديث فيها يقتصر على الإشارة إلى اختلافها فقط، مثل بيت سلمى بن ربيعة فقد رواه هكذا:

درت بأرزاق العفاة مغالق بيدي من قمع العشار الجلة

ثم أشار قائلًا: "ويروى دارت".

أما عنصر المعاني فهو الآخر قليل جدًا لا يقاس بأي عمل من أعمال الشراح الآخرين الذين وصلتنا شروحهم. وقد أدى عدم العناية بالمعاني إلى إهمال عنصر البلاغة تمامًا. أما النقد فلم نجد له فيه سوى وقفة واحدة لا قيمة لها.

ص: 312

وبناء على ما ذكرنا نرى أن هذا الشرح لا يمكن تصنيفه تحت أي منهج من المناهج الخمسة التي عرضناها في القسم الماضي وطبقنا عليها شروح الشراح، فليس فيه عمل الإبداعيين ولا عمل المتخصصين، ولا هو ينظر في شروح سبقته، يجمعها وينتخب منها، ولا يعمد إلى أعمال السابقين يتتبع مواطن زللها فيصلحها ويقومها، ولا يعني بجميع العناصر ليعرضها مهذبة مشذبة في اختصار وتسهيل، وإنما هو بالتحديد كتاب ضم شعر الحماسة مصححًا على يدي صاحبه مرتين، مرة أثناء قراءته على عبد السلام البصري، ومرة أخرى حين فكر في مراجعته وعمل تعليقات عليه في غريبة ومعانيه، هذا كل ما يظفر به الدارس لهذا العمل الذي سمي شرحًا من باب التجوز.

2) شرح أبي رياش بن إبراهيم الشيباني:

هذا الشرح من الشروح المفقودة _كما مر بنا من قبل_، غير أن نقولات كثيرة وصلتنا منه، فقد أفاد منه أبو عبد الله النمري في عمله "شرح معاني كتاب الحماسة" الذي وصل إلينا مختصر عنه، ونقل عنه زيد بن علي في مواضع مختلفة من شرحه. كما نقل عنه التبريزي نقولات كثيرة جلها في أخبار الشعراء ومناسبات الشعر، هذا فضلًا عن أن البغدادي في الخزانة كان يورد أخبارًا وأقوالًا ينسبها إليه، الظن أنه أفادها من شرح التبريزي وغيره من شروح الحماسة التي ذكر في مقدمته أنها تحت يده.

ومن خلال وقوفنا على هذه النقولات يتبين لنا أن الرجل كان إخباريًا تاريخيًا من الطراز الأول، غذ أن هذه النقولات جاءت دالة على أن شرحه كان مصبوغًا بصبغة الأخبار أكثر من كونه شرحًا لنصوص الحماسة، ولهذا رأينا أبا العلاء المعري يبني

ص: 313

عليه شرحه المسمى "الرياشي المصطنعي" قصدًا غلى سد ما رآه من نقص فيه".

على أن أبا رياش بجانب هذه الصفة الإخبارية التي غلبت على عمله في الحماسة والتي تجلت لنا بوضوح في نقولات التبريزي المسهبة عنه فإن بعض ما نقله النمري عنه، وكذلك التبريزي، قد دل على أنه أسهم في خدمة اختيار الحماسة من جوانب متعددة، ففي مختصر شرح النمري نجد له لمحات في عنصر اللغة وعنصر المعاني، وفي شرح التبريزي حمدنا له وقفات طيبة في شرح الأعلام الواردة في الحماسة وأسماء شعرائها. وكذلك في تحديد نسبة بعض القطع التي وردت غفلًا في رواية أبي تمام مصدرة بـ"وقال آخر" أو "وقال بعضهم"، وفي تصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبة

بعض الأشعار إلى غير قائليها. هذا بجانب إثرائه قطع الاختيار بما كان يضيفه إليها من شعر أسقطه أبو تمام في نقده واختياره.

فإذا نظرنا إلى عمله في عنصر اللغة وجدنا النمري ينقل لنا بعض لمحات منه، وذلك مثل ما جاء عنه في بيت الحماسة القائل:

إذا كنت لا أرمي وترمى كنانتي تصب جائحات النبل كشحي ومنكبي

فقد فسر أبو رياش ألفاظ هذا البيت بقوله: "الكنانة للنبل كالجعبة للنشاب، والجائحات المجتاحات، والكشح أحد جانبي الوشاح، فسميت الخاصرة كشحًا لوقوعه عليها".

ومثله ما نقله عنه التبريزي في شرح معنى "الأيهم" قال: "الأيهم الرجل الشجاع، والأيهمان السيل والجمل الهائج، ويقال أيضًا السيل والحريق، وكل هذه معان متقاربة، ومؤنثة (يهماء) وهي الأرض التي لا يهتدي لها، كما أن هذه لا يكاد يهتدي لها".

أما عمله في عنصر المعاني فقد أفاد منه النمري في مواضع بدت في مختصر شرحه

ص: 314

ليست بالكثيرة، وانتخب التبريزي شذرات منه، وهو من خلال ما رأيناه يعرض المعنى في وضوح ويسر، وذلك مثل عمله في بيت جعفر بن علبة القائل:

فقالوا لنا ثنتان لابد منهما صدور رماح أشرعت أو سلاسل

فقد قال فيه: "يقول: إما أن تحاربوا فنشرع إليكم صدور الرماح وإما أن تستأسروا فنجعلكم في السلاسل كما يفعل بالأسرى"، فهذا عمل أشبه بنثر البيت، ومثله ما نقله التبريزي عنه في معنى بيت كبشة أخت عمرو بن معدي كرب الذي تقول فيه:

ولا تردوا إلا فضول نسائكم إذا ارتملت أعقابهن من الدم

فقد صور معناه بقوله: "تقول: إذا قبلتم الدية فلا تأنفوا بعدها من شيء كما تأنف العرب، واغشوا نساءكم وهن حيض، والفضول ها هنا بقايا الدم وسمي الغشيان وردا مجازًا".

وربما قدم لا يراد معنى البيت بشرح بعض ألفاظه ودعم ما صوره من معنى ببعض الشواهد من الشعر، وذلك على نحو ما نقله النمري في بيت أبي الغول الطهوي القائل:

ولا يرعون أكناف الهوينا إذا حلوا ولا أرض الهدون

قال: "الهدون السكون، وأصله أن تجعل المرأة على ولدها شيئًا يثقله في المهد لينام، يقال هدنته أمه". ثم أورد تصويره معنى البيت فقال: "يقول: هؤلاء القوم من عزهم ومنعتهم وشدة جرأتهم لا يرعون النواحي التي أباحتها المسالمة ووطأتها المهادنة، ولكن يرعون النواحي المتحاماة والأرضين الممتنعة" ثم دعم ذلك يقول أبي النجم:

ص: 315

تبقلت من أول التبقل بين رماحي مالك ونهشل"

على أن أهم إسهام قدمه أبو رياش في شرحه في خدمة اختيار الحماسة إنما يتضح فيما نقله التبريزي عنه من شرح للأعلام الواردة في الحماسة وتوضيح أسماء بعض شعرائها، وتصحيح نسبة الشعر فيها، وهي في مجملها جوانب لها قيمتها في خدمة اختيار الحماسة، وتدل دلالة واضحة على مدى علم أبي رياش بأنساب العرب وأشعارها وقائلي هذه الأشعار، إذ نراه في شرح الأعلام الواردة في الحماسة لا يكتفي بتوضيح العلم فحسب بل يورد نسبه وما يتصب به من خبر. ومن أمثلة ذلك ما نقله التبريزي عنه في شرح عامر وجناب الواردين في بيت هلال بن رزين القائل:

وأيقنت القبائل من جناب وعامر أن سيمنعها نصير

قال في عامر: "يعني عامر الأجدار وهم بطن عظيم من كلب، وإنما لقب بالأجدار لأنه ولد في أصل جدار، وهو أخو عامر بن صعصعة لأمه". ثم قال في جناب: "هو جناب بن هبل بن عبد الله بن كلب".

وفي قطعة الرثاء التي نسبها أبو تمام لآخر والتي مطلعها هذا البيت:

لو كان حوض حمار ما شربت به إلا بإذن حمار آخر الأبد

نجد أبا رياش يشرح اسم حمار الوارد في البيت فيقول: "هو علقمة بن النعمان ابن قيس بن عمرو ثعلبة".

أما في توضيح أسماء الشعراء الذين كان أبو تمام يختصر أسماءهم فقد رأينا لأبي رياش وقفات طيبة في هذا الخصوص، ففي قطعة النسيب التي صدرها أبو تمام بقوله:"وقال ابن الطثرية" وقف أبو رياش فوضح اسمه قال: "اسمه يزيد بن

ص: 316

المنتشر أحد بني عمرو بن سلمة بن غشير، والطثرية أمه من حي من قضاعة يقال لهم طثر".

وصدر أبو تمام قطعة في الهجاء بقوله: "وقال عارق الطائي" فوضح أبو رياش اسمه قال: "اسم عارق قيس بن جروة وإنما سمي عارقًا بقوله:

لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه

وترتفع قيمة عمل أبي رياش في الحماسة في تصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبة بعض قطع الحماسة إلى غير قائليها، وقد صدر ذلك منه في مواضع منها إحدى منصفات العرب التي روى أبو تمام أبياتًا منها في باب الحماسة ونسبها إلى العديل بن الفرخ العجلي وهي القصيدة التي مطلها:

ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد

صحح أبو رياش هذه النسبة فقال: "ليست هذه الأبيات للعديل وهي قصيدة طويلة لأبي الأخيل العجلي قالها في آخر أيام بني أمية" ثم دعم هذا التصحيح بخبر أورده جاء فيه أن أبا الأخيل "وفد على عمر بن هبيرة الفزاري فقيل: إن أبا الأخيل العجلي بالباب يستأذن فقال: إذن والله لا يأذن له غيري، فقام من مجلسه حتى أتاه على الباب فأخذه بيده وأقعده معه على بساط ثم قال: أنشدني منصفتك فأنشدها إياه فكساه وأعطاه ثلاثين ألفًا".

وفي قطعة الرثاء التي نسبها أبو تمام إلى امرأة والتي أولها:

ألا فاقصري من دمع عينيك لن تري أبًا مثله تنمي إليه المفاخر

أوضح أبو رياش صحة نسبتها وخطأ أبي تمام قال: "الذي عندي أن هذه الأبيات لمحمد بن بشير أحد بني الخارجية، وهم من غزوان بن عمرو بن قيس

ص: 317

عيلان، يرثي بها أبا عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي".

وهكذا نجد أن عمل أبي رياش في هذا الجانب كان مفيدًا لأنه يدخل في صميم توثيق الشعر، ولقد بلغت نقولات التبريزي عنه فيه نحو عشرة مواضع، ولا ندري إن كان هذا هو كل ما صححه أبو رياش من نسبة في شعر الحماسة أو أن هناك مواضع أخرى لم ينقلها التبريزي وغيره من الشراح الذين أفادوا من شرح أبي رياش.

وفي إدراكنا أن أبا رياش من خلال عمله الذي وقفنا على بعض منه في نقولات الشراح المستفيدين من شرحه يبدو شارحًا يغلب على شرحه الجانب الإخباري التاريخي مع قليل عناية ببعض العناصر الأخرى التي عرضنا لها فيما تقدم، غير أنه يبقى شيء مهم هو أن عناصر أخرى خلا شرحه منها أو لم يصل إلينا شيء منه فيها، أهمها الرواية والنحو والبلاغة والنقد، وهي بلا شك عناصر لها دورها البارز في عملية شرح الشعر، هذا فضلًا عن أن النقولات التي وصلت إلينا عنه في عنصري اللغة والمعاني لا تبين لنا بجلاء مساره فيهما، ومن أجل هذا كله بدا منهجه في شرح الشعر غير واضح المعالم، ويغلب ظننا أنه كان _من خلال نقولات التبريزي العديدة في أخبار الشعر ومناسباته وما يتصل بها من أنساب وأشعار_ إخباريًا تاريخيًا، فهو أشبه بأبي عبيدة معمر بن المثني الذي ذكر الجاحظ أنه عطف عليه ليأخذ منه علم الشعر فوجده "لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب".

3) شرح معاني كتاب الحماسة لأبي عبد الله النمري:

سبق أن أوضحنا عند إيرادنا لثبت شروح الحماسة أن شرح النمري لا يزال

ص: 318

مفقودًا، وان ما وصلنا منه ما هو إلا مختصر عنوان "معاني أبيات الحماسة" كتبه لنفسه رجل يدعى أحمد بن بكر بن أحمد الحاكم وذلك في نحو سنة 426 هـ، وهو مختصر أن لم يحقق لنا كل ما جاء عن النمري من عمل بحيث يبدو منهجه واضحًا، فإنه على الأقل قد أفادنا في استيجاء المعالم التي سلكها في بعض عمله، هذا فضلًا عن أن الناسخ صاحب هذا المختصر قد صدر مختصره بالمقدمة التي أوردها النمري في صدر شرحة، إذ جاء فيها "قال أبو عبد الله الحسين بن على النمري- رحمة الله-: هذا شرح معاني كتاب الحماسة وذكر رواياته التي هي في الخط على صورة واحدة، على ائتلاف المعاني واختلافها وإيضاح الأمثل والأرذل والمتكافئ منها، وكان أبو رياش أحمد بن هاشم القيسي - رحمة الله- أملي علينا أكثر هذا الكتاب، وقرأته بعد عليه، وأنا ذاكر ما أفادنيه منه، وناسبه إليه، كما أنسب كلا إلى أهله، وكا ما لم أنسبه في هذا الكتاب فهو خاطر خطر لي لم أسمعه قبل، ونظرت في الكتاب المعروف بالعارض في الحماسة المنسوب إلى الديمرتي، وهو كتاب شرط فيه تفسير ما يعرف من لفظ ومعني فخبط خبط عشواء فيها متتبعًا ومبتدعًا، وقد ذكرت طرفًا من خطئه وصوابه فيما تعلق بما أوردته من المعاني، وليس الغرض الرد عليه فاستوعب خلله وأسال الله أن يرشد به ويرشد بنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 319

فواضح من هذه المقدمة أن النمري قد قصد من عمله في الحماسة جانبين أحمدهما المعاني والآخر الروايات وأنه في الجانبين معًا كان يسجل ما أفاده فيه شيخه أبو رياش وبنسبه إليه.

كما يسجل ما أخذه من العلماء الآخرين وبنسبه إليهم، ثم هو بجانب هذا قد نظر قبل صنعته شرحه في كتاب القاسم الديمرتي، فهو يعرض له ذاكراً ما أخطأ فيه وما أصاب، لا في كل ما جاء عنه، وإنما فيما يعرض له أثناء عمله.

ومن هنا فإن مصادر شرحه وفق ما جاء في مقدمته ووفق ما خرجنا به من قراءتنا لهذا المختصر تتمثل في أربعة: أولها شيخه أبو رياش الذي أخذ عنه رواية متن الحماسة، وثانيها: علماء اللغة والأدب السابقين أمثال الأصمعي وابن الأعرابي وعلى بن سليمان الأخفش وأبي زيد الأنصاري وابن السكيت، وقد نقل عن هؤلاء جميعًا في مواضع، ومصوبًا مستحسنًا في مواضع أخري، ورابعها مصادر أخرى لم يسمها وإنما كان يشير إليها بعبارات مبهمة مثل "أنشدنا أبو رياش" ثم يقول:"وروي غيره" أو "وروي قوم" ومثل "قال الأصمعي وغيره" أو قال ثعلب وغيره" أو "وروري الديمرتي وغيره".

ولقد استطاع النمري أن يوظف في عمله إفادته من هذه المصادر توظيفًا جيدًا لا سيما في جانب الرواية واختلافتها، وجانب معاني الشعر وما يتصل به من شرح للغة، وهو إن كان ينقل ما أفادته فيه أبو رياش وبنسبه إليه، وكذلك بنسب كل ما ينقله بل كان بورد أراء السابقين ثم يبين رأيه فيه، وربما اختار غيره مما هداه إليه عقله وتفكيره. ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت سلمي بن ربيعة الضبي القائل:

ومناخ نازلة كفيت وفارس نهلت قناتي من مطاء وعلت

فقد نقل أولًا رأيا لثعلب في البيت قال: "قال ثعلب وغيره: هذا خطأ لأن الفارس لا يقف له حتى قناته من ظهره وبعلها، ثم نقل قول شيخه أبي رياش

ص: 320

وهو "يريد أنه أرواها فكأنه سقاها نهلاً وعللاً بما يكون الري" ثم انتهى إلى الوجه الذي رآه فقال: "وعندي فيه وجه آخر، ألا ترى أنك إذا قلت: نهلت إبلي من بئر فلان بهذا كلام تام ثم تقول وعلّت، فجائز أن تكون علّت منها أو من غيرها، وكذا هذا الرجل نهلت قناته من ظهر الفارس، وعلّت من غيره، أي لم يكن بلائي مقصوراً على طعنة واحدة وهذا واضح".

وكذلك ما جاء عنه في بيت ابن زيّابة القائل:

إنك يا عمرو وترك الندى

كالعبد اذ قيد أجماله

فقد نقل عن ابن السكيت معنى له قال: "قال ابن السكيت: أنت كالعبد اقتصر على موضع يرعى به ولا يتعزب بابله" ولكنه لم يأخذ بهذا المعنى الذي عرضه ابن السكيت على ظاهر اللفظ، وانما أورد للبيت معنى آخر قال:"عندي أنه غير ممتنع أن قوله: "وترك الندى" معناه أنك وبخلك، فان من ترك الندى فقد أخذ البخل يقول: انك وبخلك وحبسك مالك كالعبد قّيد أجماله فلا يبرحه منها بعير وكذلك أنت قّيدت مالك فلا يبرحك".

فهذان المثالان وغيرهما مما جاء في عمل النمري ينأيان به عن المنهج الالتزامي النقلي الذي رأيناه أن من أهم صفاته عرض آراء السابقين بلا أدنى تدخل وبلا مساس لجوهر القول أو الرأي ولم يكن النمري بهذه الصفة بل كان يعرض رأي غيره ثم يعرض رأيه المخالف له، صحيح أنه لم يكن يصرح باعتراضه على ما يعرضه من آراء السابقين، ولكن إيراده رأيه في ذيل ما يعرضه لهم يدل ضمناً على أنه يريد من قارئة أن يأخذ به. إن السمة الوحيدة في عمله التي تشبه سمات المنهج الالتزامي النقلي تتمثل في أنه كان ينسب الأقوال إلى أصحابها، وهي سمة تعد من أخص سمات هذا المنهج، على نحو ما نوَّهنا به من قبل حين عرضنا لمناهج شراح الشعر بالمناقشة والتوضيح.

ص: 321

وإذا كان النمري في جل عمله لا يتصف بمنهج الالتزامين النقليين فانه في تعرضه للقاسم الديمرتي لم يكن ذا منهج تتبعي تقويمي، لأن أصحاب المنهج التتبعي التقويمي - كما رأيناهم من خلال شرح منهجهم وتطبيقه - كانوا يبنون كتبهم في المقام الأول على تتبع كتب السابقين من خلال ما فيها من زلاّت وأخطاء يعرضونها ويبينون وجه الصواب فيها، يفعلون ذلك ضاربين صفحاً عن الصحيح الذي ضمته هذه الكتب فلا يذكرونه البتة. أما النمري فلم يقم كتابه على هذا الأساس، وإنما أقامه على شرح معاني شعر الحماسة وذكر رواياته. هذا من جهة ومن جهة أخرى انه لم يتبع الديمرتي في كل خطأ وقع فيه، وهذا ظاهر من قوله في مقدمته:"وليس الغرض الرد عليه فأستوعب خلله" هذا فضلاً عن أنه لم يقصر جهده على الأخطاء وحدها، على نحو ما رأينا في تطبيق هذا المنهج على أبي هلال العسكري وأبي محمد الأعرابي، وإنما كان يذكر مواضع الصواب أيضاً، ولا أدل على ذلك من هذا المثال الذي جاء في بيت الحماسة القائل:

إذا كنت لا أرمي وترمى كنانتي

تصب جائحات النبل كشحي ومنكي

فقد أثبت النمري روايته على هذا النحو وهي رواية شيخة أبي رياش الذي نقلنا شرحه للبيت فيما سبق، ولكنه أشار إلى رواية أخرى للديمرتي فقال:"وفي كتاب الديمرتي "جانحات النبل" بالنون أي كاسرات الأجنحة" ثم عقب مستحسناً هذه الرواية مفضّلاً إياها على رواية شيخه التي أثبتها قال: "وهذه الرواية أحب إليّ، فانه قلّما يقال: رماه بسهم فاجتاحه، على تلك الرواية، ومعنى جانحات عندي ما جنح منها إليه أي مال".

كذلك لا يبدو من عمل النمري أنه كان في منهجه تجميعياً انتخابياً على نحو ما رأينا عند التبريزي وإضرابه، ولا علمياً تخصصياً مثل ابن جني وغيره من ذوي المنهج العلمي التخصصي، كما أنه لا يبدو من شرحه أختصارياً تسهيلياً يسلك سبيل أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يعرضون عناصر الشرح في سهولة

ص: 322

ويسر، وإنما كان الرجل مثل شيخة أبي رياش. ولكن من جهة أخرى، فقد رأينا أبا رياش قد قصر جل جهده على أخبار الشعراء ومناسبات الشعر وما يتصل بها من أيام وأنساب. أما النمري فقد بين في مقدمته أنه يقصر جهده على معاني الشعر وعلى رواياته، بيد أن شرح معاني الشعر يقتضي شرح ألفاظ الشعر وتراكيبه، وهذان - أي الألفاظ والتراكيب - يقتضيان اللغة من جانب والنحو من جانب آخر، واللغة واضحة في عمله الذي دل عليه هذا المختصر، أما النحو فإننا لم نجد له فيه عملاً يذكر سوى إشارات طفيفة لا تدل على شيء. وكذلك الأمر بالنسبة لعنصري البلاغة والنقد إذ أن عمله في البلاغة لا يتجاوز اللمحات المتناثرة التي جاءت منصبة في التشبية والاستعارة لا يعدوهما إلى الألوان البلاغية الأخرى. أما عمله في نقد أشعار الحماسة فلا وجود له مطلقاً، فهو بهذا ليس كأصحاب المنهج الفني الإبداعي الذين رأيناهم في عمل المرزوقي يوظفون اللغة والنحو والبلاغة والنقد وغيرها من عناصر الشرح توظيفاً فنياً محكماً أثناء عملية الشرح.

كذلك ليس في هذا المختصر ما يدل على عنايته بعنصر الأخبار التاريخية ومناسبات الشعر إلا في مواضع ضئيلة، ويبدو أنه لما رأى شيخه أبا رياش قد وفى هذا الجانب حقه وزاد فيه زيادة لا تدع لقائل مقالاً صرف نظره عنه إلا ما كانت الحاجة تدعو إليه في توضيح المعنى فيذكره عن شيخه، وذلك في مثل بيت الشداخ ابن يعمر الكناني الذي يقول فيه:

القوم أمثالكم لهم شعر

في الرأس لا ينشرون ان قتلوا

وهو من الأبيات التي لا يظهر معناها إلا بذكر قصتها، ولذا نراه يلجأ إلى شيخه أبي رياش في ذكر قصته فيقول: "وجدت بخط أبي رياش رحمه الله حضر الشداخ بعض الحروب فراح إليه أصحابه يوماً فقالوا: قتلنا فلاناً وفلاناً، وقتل منا فلان وفلان، وعدوا من قتلوه فقال أصحاب الشداخ: فأين فلان وفلان وعدوا من

ص: 323

زعموا أنهم قتلوه فقال بعض القوم: نحن فلان وفلان، فقال الشداخ: أما زعمتم أنكم قتلتموه؟ قال: إنا نقاتلهم ليلاً وينشرون صباحاً فقال الشداخ: القوم أمثالكم ...... البيت".

وثمة عنصران لا وجود لهما في هذا المختصر أحدهما يتصل بشرح أسماء الشعراء والأعلام الواردة في الحماسة، والآخر يتصل بأوزان الشعر وإضرابه وقوفيه. وإذا كنا قد أشرنا في عمل المرزوقي إلى أن تحديد أوزان الشعر وقوافيه يعد من العناصر التي لم تبرز لدى شراح القرن الرابع الهجري الذي منه أبو عبد الله النمري فان شرح أسماء الشعراء والأعلام الواردة في الحماسة قد كان له وجود لدى شراح هذا القرن، ولقد رأينا لشيخة أبي رياش نصيباً من عمل فيه، ولا تفسير لخلو عمل النمري منه سوى أنه لم يوله اهتمامه، أو أن هذا المختصر لم يضم النصوص التي اشتملت على جهده فيه.

كذلك لا نجد في هذا المختصر ما يشير إلى أن النمري قد عني بنسبة أشعار الحماسة إلى قائليها أو تصحيح نسبتها مما وهم فيه أبو تمام، وهو جانب رأينا شيخة أبا رياش يوليه اهتمامه ويحقق فيه عملاً مفيداً، ولعل النمري اكتفي بما حققه فيه شيخه فلم يحاول نقله أو الزيادة عليه، ولهذا رأينا أبا محمد الأعرابي يأخذ عليه ذلك في أكثر من موضع في كتابه الذي ذكرناه في المنهج التتبعي التقويمي.

وبناء على كل هذا الذي ذكرناه نجد أن عمل النمري الذي رأيناه من خلال هذا المختصر لا يدخل في دائرة واحد من المناهج الخمسة التي حددناها لغلبة شراح الحماسة، ومن هنا جاءت دراستنا له وحدة قائمة لذاتها.

إن أظهر عمل قدمه النمري لخدمة اختيار الحماسة يبدو - كما أشرنا سابقاً - في عنصرين: عنصر الرواية وعنصر المعاني، ففي عنصر الرواية نجد النمري مبدعاً بحق في مناقشته لها، ويتجلى إبداعه في أنه كان يربط الرواية ما ائتلف منها وما اتفق بالمعنى، يعرضها ويناقشها على هذا الأساس، وذلك مثل عمله في بيت أبي الغول

الطهوي الذي رواه هكذا

ص: 324

ولا تبلى بسالتهم وان هم

صلوا بالحرب حينا بعد حين

ثم قال: "ويروى إلا بعد حين" ويروى تبلى وتبلى وكلاهما من البلى، تكون البسالة فاعلة ومفعولة وهي الشجاعة، وأصله أن يكره الرجل وجهه" ثم وضح معنى آخر للفعل" تبلى "قال: وتبلى أيضاً من قولهم بلوت الشيء إذا اختبرته" ثم مضى مناقشاً الروايتين "حيناً بعد حين" و "إلا بعد حين" وفق هذين المعنيين قال: فمن جعله من البلى روى "حيناً بعد حين" لا غير، أي شجاعتهم باقية غير بالية وان تكررت الحرب زماناً بعد زمان، ومن جعله من الاختبار كانت الروايتان "حيناً بعد حين" و "إلا بعد حين" على معنيين أحدهما: أنهم لا تعرف لهم بسالة في الحرب أي لا يعبسون وجوههم فيها إلفا لها واستهانة بها، والمعنى الآخر إنهم لا تعرف لهم بسالة إلا بعد حين".

ومثل ذلك أيضاً ما جاء عنه في رواية بيت أبي عطاء السندي وهو:

ذكرتك والخطي يخطر بيننا

وقد نهلت منا المثقفة السمر

فقد فسره بقوله: "يقول: ذكرتك في هذه الحالة الفظيعة التي لا يذكر فيها إلا من غلب على القلب، ولم تشغلني عنك مراس الحرب" ثم عرض لرواية أخرى فقال: "ووجدت في نسخة "وقد نهكت ونهكت منا المثقفة" من قولك: رجل منهوك إذا أخذ منه المرض أي تحطمت الرماح بأيدينا". ثم مضى مفاضلاً بين الروايتين بناء على المعنى فقال: "والأول أحسن ألا ترى أن ذكره لها وهو مطعون أحسن منه وهو طاعن" ثم نظر إلى معنى آخر فقال: "فان أراد بقوله نهكت منا أي طعنا بها إلى أن نهكت فالمعنى فيه وفي نهلت واحد".

فلا شك أنك تلحظ في هذين المثالين أن النمري كان دقيقاً في نظره إلى الرواية واختلافها من جهة والى المعنى ومراد الشاعر من جهة أخرى. وانه كان يحاول في فنية محكمة الربط بين الاثنين معاً في عمله في صورة تشهد له بالإبداع.

ص: 325

أما في عنصر المعاني فالحق أن النمري قد قدم جهداً محموداً في استخلاص معاني النصوص الواردة في الحماسة، وذلك وفق ما سمعه من السابقين، ووفق ما خطر له من خواطر فيها، ولقد لاحظنا له لمحات مشرقة في هذا الخصوص تنم عن فضله وعلمه، ولقد تجلت معالجته للمعاني في عدة نواح، ففي ناحية نراه ينقل الأقوال التي سمعها في المعنى ويفاضل بينها ويضيف إليها ما يكملها ويوضحها، وذلك مثل عمله في بيت ابن زيابة القائل:

الرمح لا أملأ كفي به

واللبد لا أتبع تزاوله

فقد نقل في معنى صدره ما سمعه لابن السكيت وهو قوله: "أقاتل بالرمح وغيره وإذا اقتصر على الرمح فكأنه قد ملأ يده فشغلها عن غيره" ثم أشار إلى معنى آخر قال: "وقال غيره: معنى لا أملأ كفي به أي أطعن به اختلاساً كقول الآخر:

لبيقاً بتصريف القناة بنانيا

ثم فاضل بين المعنيين فقال: "والقول قول ابن السكيت" ثم أضاف إليه معنى عجز البيت فقال: "وقوله واللبد لا أتبع تزاوله أي أنا فارس فإذا مال اللبد لا أميل معه".

وفي ناحية أخرى نراه يقدم للمعنى بشرح الألفاظ ثم يعرضه في أسلوب سهل واضح، فإذا عرضه عمد إلى توضيح ما يؤكده ويقويه، ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت زميل بن أبير الوارد في باب الهجاء وهو:

ولست بربل مثلك احتملت به

حصان نأت عن فحلها وهي حائل

فقد بدأ عمله فيه بشرح الألفاظ قال: "الربل ضروب من النبات تتقطر بالورق من غير مطر، وإنما يكون ذلك عند طلوع سهيل من برد السحر، والجمع

ص: 326

ربول، وقد تربلت الأرض، والحصان المرأة العفيفة، وفحلها بعلها، والحائل التي لم تحمل، ونأت بعدت، وأراد بالنأي الطلاق فكنى عنه" ثم عرض المعنى في إيجاز ويسر قال:"يقول: ولدتك أمك من غير ذك كالربل الذي ينبت من غير مطر" ثم انطلق يؤكد هذا المعنى الذي قرره بشرح ما استوحاه من ألفاظ الشاعر فقال: "وصف أمه بالحصن وهو العفاف ليؤكد أنها لم تزن، ليؤكد أنه ولد من غير والد كبيضة التراب، وذكر أيضاً أن أمه طلقت وهي حائل غير حامل تأييداً لذلك لئلا يلحق بالرجل الذي كانت أمه تحته قبل".

وفي ناحية ثالثة نراه يجزئ عرض المعنى محاولاً إبرازه من خلال هذه التجزئة، وغالباً ما يقع منه ذلك في البيت ذي التقليدين، الذي يشتمل على معنيين كل معنى قائم لذاته، وذلك مثل قول ابن زيابة:

والدرع لا أبغي بها ثروة

كل امرئٍ مستودع ماله

فقد بدأ بمعنى جزئه الأول وهو الصدر قال: "الثروة والثراء كثرة المال يقول: لا أبع الدرع وان أرغبت فيها" ثم انتقل إلى معنى العجز فقال: "وقوله مستودع ماله أي ماله الذي يملكه وديعة عنده يسترجع، ويكون ماله واحد الأموال، وهذا كقولك الأموال عواري، ومثله قوله: عز وجل: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه". يقول: فعلام أبيع درعي بمال لا يبقى ولا أبقى عليه وإنما هو وديعة؟ " ثم رجع إلى الصدر مرة أخرى فذكر رواية فيه وشرح المعنى بناء عليها قال: "ويروى لا أبغي بها نثرة" والنثرة الدرع يقول: درعي لا أبغي بها درعاً، أي قد جربتها وأحمدتها فهذا كقولك: ما أريد بأهلي أهلاً ولا بسيفي سيفاً".

وفي ناحية رابعة نراه مفتوناً بعرض المعاني في أكثر من وجه، يعرض الأوجه محاولاً أن يدعم كل واحد منها بما قيل في معناه من شعر وذلك مثل عمله في تحليل

ص: 327

هذا البيت الذي نسبه أبو تمام لبعض بني قيس بن ثعلبة، وقيل: هو لبشامة بن حزن النهشلي وهو:

بيض مفارقنا تغلي مراجلنا

نأسو بأموالنا آثار أيدينا

فقد بدأ بعرض المعاني التي سمعها ممن سبقه في قوله: "بيض مفارقنا" ثم قال: "ولاح لي في هذا البيت ثلاثة أوجه لم أسمعها فيه من قبل، أحدها أن العرب تزعم أن الكرام تشيب مفارقها ومقادم رؤوسها أول شيء، وان اللئام تشيب مآخر رؤوسها قبل مفارقها" ودعم هذا المعنى بما أنشده ابن الأعرابي من قول القائل:

وشبت مشيب العبد في نقرة القفا

وشيب كرام الناس فوق المفارق

ثم أورد الوجه الثاني فقال: "والمعنى الثاني أن تكون المفارق ها هنا مفارق الطرق والواحد مفرق فيقول: الطرق إلينا بيض واضحة لكثرة من يغشانا من ضيف ومسترفد ومستنجد" ودعم هذا بقول أحدهم يصف طريقاً:

يركبت عوداً واضح السلائق

أبيض خراجاً من المضائق

ثم عرض الوجه الثالث فقال: "والمعنى الثالث أن العرب إذا أسرت الرجل وأرادت المنة عليه جزت ناصيته وأطلقته فيقول: نحن لن نؤسر فتجز نواصينا فتدنس مفارقنا لقربها من النواصي، ودعم هذا المعنى بقول الخنساء:

جززنا نواصي فرسانهم

وكانوا يظنون أن لن تجزا

وإذا كان أبو عبد الله النمري قد قصر جهده على الرواية وعلى معاني الشعر فان تعرضه للقاسم الديمرتي كان من خلال هذين الجانبين فهو في ثنايا عمله في روايات النص يعرض لما اعتمده الديمرتي في متنه مستحسناً تارة - كما رأينا فيما سبق - ومنتقداً تارة أخرى، وذلك كما في بيت زويهر بن الحارث فقد أثبت روايته هكذا:

ألم تر أني يوم فارقت مؤثراً

أتاني صريح الموت لو أنه قتل

ص: 328

وفسره على هذه الرواية ثم قال: "وروى الديمرتي وغيره "أتاني صريخ الموت" بالخاء معجمة وهو داعية. ثم انتقد الرواية والتفسير معاً قال: "وهذا تصحيف في الحرف وخطأ في تفسيره، فان الصريح هو المغيث والمستغيث، ذكر ذلك في الأضداد ولا وجه لهما ها هنا إلا على تكلف".

وكذلك كان شأنه حين يعرض للديمرتي في جانب المعاني ومن أمثلته ما جاء في بيت تأبط شراً:

أقول للحيان وقد صفرت لهم

وطابي ويومي ضيق الجحر معور

وكان الديمرتي قد فسر معنى قوله: "وقد صفرت لهم وطابي" بأنه أراد خلت نفسي من ودهم، فانتقده النمري بقوله:"هذا خطأ فاحش ومتى ود تأبط شراً لحيان وهو أبداً يغير عليها وينال منها".

والحق أن النمري في شرحه معاني كتاب الحماسة قد استطاع أن يقدم عملاً طيباً في عنصري الرواية والمعنى أفاد منه جل الشراح الذين جاءوا بعده، غير أنه في جانب المعاني كان أحياناً يفسر المعنى على ظاهر الألفاظ الواردة في النص دون أن يسبر غورها ويصل إلى أبعادها وما تدل عليه من إيحاءات، وهذا ما جعل أبا محمد الأعرابي يتصدى له بالنقد والتجريح فيما كان يقع فيه من هذه السبيل، وقد بينا ذلك عندما عرضنا لعمل أبي محمد الأعرابي في تطبيق المنهج التتبعي التقويمي، فلا مجال لتكراره هنا.

4) شرح أبي هلال العسكري:

كنا قد أوضحنا فيما سبق أن لأبي هلال عملين في الحماسة أحدهما ما درسناه في المنهج التتبعي التقويمي، وهو رسالته "ضبط مواضع من الحماسة" والآخر شرحه

ص: 329

للحماسة، الذي أفادت عنه جملة من المصادر، وهو مفقود لم يهتد إلى مكانه حتى الآن، غير أن التبريزي نقل عنه نقولات عديدة، فقد كان من الشروح التي اعتمد عليها في صنعة شرحة ذي المنهج التجميعي الانتخابي، كما أن البغدادي قد أفاد منه في عدة مواضع من الخزانة وترجم لأبي هلال وذكر شرحه هذا الذي نحن بصدده. ولقد ظن بعض الدارسين أن رسالته السالفة الذكر هي نفسها شرحه الذي أشارت إليه المصادر، غير أن ما جاء في هذه الرسالة - وكما وضحنا من قبل - يختلف تماماً عن هذه النقولات التي حفظها لنا التبريزي في شرحه والبغدادي في خزانته.

وهذه النقولات وان كانت غير كافية في أن توضح لنا منهج الرجل بوضوح، فإنها يمكن أن تدلنا على بعض الملامح التي نستطيع في ضوئها استكشاف عمله في عناصر شرح الشعر في حدود القدر الذي سمحت به هذه النقولات.

ولعل أظهر عنصر دلت عليه هذه النقولات وبدت فيه عناية واضحة من أبي هلال هو عنصر النقد، وهذا في رأينا يرجع إلى أن التبريزي الذي جعلنا نتصل بهذا الجانب من عمل أبي هلال، كان قد جعل شرح أبي هلال المعول الأول الذي يرجع إليه في سد هذا العنصر من شرحه الانتخابي، كما يرجع إلى أن أبا هلال كان أحد النقاد البارزين الذين ظهروا في القرن التاسع الهجري، وكتابه الموسوم بالصناعتين خير شاهد على هذا، فضلاً عن شهادة بعض أهل العلم له بالتقدم في نقد الشعر وتقويمه، فقد نقل لنا صاحب الخزانة رأياً لأبي محمد بن الخشاب يفيد فيه بأنه "لم يجر في سنن الفرزدق في التعجرف في شعره بالتقديم والتأخير المخل بمعانيه

ص: 330

والتقدير المشكل إلاّ المتنبئ، ولذلك مالّ إليه أبو علي وابن جني لأنه يوافق صناعتهما، ولا ينفع شهادة أبي علي له بالشعر لأن أبا علي معرب لا نقاد، وإنما ينفعه شهادة مثل العسكريين وأبي القاسم الآمدي، فإنهم أئمة يقتدي بهم في نقد الإعراب)).

ولهذا فلا غرابة أن نجد أبا هلال يعني بهذا الجانب في شرحه للحماسة، وهو فيه يسير وفق اتجاهين: اتجاه ينتقد فيه الروايات، واتجاه ينقد فيه الأشعار التي ضمّها اختيار الحماسة، وفى المسارين معًا كان ينظر إلي اللغة وما تؤديه من معان، وينتظر إلى المعاني نفسها من حيث صحتها وجودتها، أو من حيث فسادها ورداءتها.

ففي جانب تقد الرواية مثلًا نجده في بيت الرثاء الذي جاء في قطعة لعبدة بن الطبيب وقد روى هكذا:

تحِيَّةَ مَنْ غَادَرْتَهُ غَرَضَ الرَّدَى اِذَا زَارَ عَنْ شَحْطٍ بلَادَكَ سَلَّماَ

ينتقد رواية ((غرض الردى)) فيقول: ((غرض الردى بالغين معجمة أي هدف الردى صباح مساء، وهذه صفة لجميع الناس، وليس فيه تخصيص لأحد، والجيد ((عرض الردى)) بالعين غير المعجمة من قولهم: فلان بعرض الأمر أي بحيث يناله ولا يخطئه، واذا كان كذلك عاش عيشة نكدة لتوقعه له لأنه بصدده، أي جعله

ص: 331

هذا الميت معرّضًا للأعداء ينالونه كيف يريدون)).

فهو هنا قد نظر إلى مدلول لفظتي ((غرض)) و ((عرض)) واتساق هذا المدلول مع المعنى الذي رمى إليه الشاعر، فالألفاظ وما تدل عليه من معان واتفاق هذه المعاني وتجانسها مع المضمون الكلي للبيت وقيمته هي قوام عمل أبي هلال في نقده، ولهذا نراه في نقده للرواية غالبًا ما يفسرّ أولًا حروفها وفق ما هو مستعمل عند العرب، ثم يبني نقده بالنظر إلى مضمون البيت، هذا ما لمسناه منه في نقده السابق وما لمسناه في سائر النقولات التي تتصل بنقد الرواية في شرح التبريزي. ومن أمثلته ما جاء عنه في بيت الربيع بن زياد القائل:

يَجِدُ النِّسَاءَ حَواسِرًا يَنْدُبْنَهُ يَلْطِمْنَ أَوْجُهَهُنَّ بالأَسْحَارِ

فقد ذكر أن هذا البيت يروى ((يندبنه بالصبح قبل تبلج الأسحار)) ثم نظر إلى مدلول لفظة ((الصبح)) فقال: يريد بالصبح الحق والأمر الجلي كقوله: وَنَحْنُ أُنَاسٌ يَنْطِقُ الصُّبْحُ دُونَنَا ولم نر كالصُّبْحِ الجَليِّ مُبِينَا

ثم انتقل إلى مدلول آخر للفظة يصير الكلام به مستحيلًا قال: ((ولو جعل الصبح الوقت المعروف كان الكلام محالًا، لأن الصبح لا يكون قبل التبلج)).

ومثل ذلك أيضًا ما جاء عنه في بيت الرقاد بن المنذر الذي يقول فيه: فِدَىً لِفَتىً أِلْقَى إِليَّ بِرَأْسِهَا تلِاَدِي وَأَهْليِ مِنْ صَدِيٍق وَجَامِلِ

فقد رواه أبو هلال ((من صديق وآبل)) ثم نقد الرواية وفق مدلول لفظة ((ابل)) مع السياق فقال: ((كان ينبغي أن يقول من صديق وعَدو، فأما أن يقول من صديق وآبل فردئِ جدًا لأنه جعل الآبل من الأهل)) فردئ أيضًا لأن قوله

ص: 332

من صديق يحتاج إلى قسم آخر، وإلاّ فالكلام مبتر لا خير فيه)).

هذا فيما يتصل بنقد الرواية، أما نقده لما ورد في الحماسة من أشعار فان معياره فيه لم يخرج عما قلناه سابقًا من نظريته إلى المعنى من حيث الصحة والجودة أو الفساد والرداءة، نجد ذلك منه في بيت جابر بن رالان السنيبسي الوارد في الحماسة وهو:

لَكِنْ تَرَى رَجُلًا فيِ إِثْرِهِ رجُلٌ قَدْ غَادَرَا رَجُلًا بالقَاعِ مُنْجَدِلَا

فقد قال فيه: ((جعل رجلين منهم على رجل واجد وهو وصف ردئ لأن من عادتهم أن يجعلوا الرجل يقاوم جماعه وتجاوزوا ذلك إلى أن قال بعضهم: ((والجيش باسم أبيهم يستهزم)) فجعل ذكر الرجل الواحد هازمًا للجيش)).

وهو بجانب نظريته إلى رداءة المعنى وفساده ينظر - كما بيّنا سابقًا * إلى ألفاظ النص وما تعطيه من مدلول يتسق مع المراد من النص، وقد دلّ على ذلك في نقده بيت كبد الحصاة العجلي الوارد في باب الرثاء وهو:

أَلَا هَلَكَ الُمكَسِّرُ فاسْتَراَحَتْ حَوافي الخَيْلِ والَحيُّ الَحريدُ

فقد وقف أولًا عند لفظة ((حوافي الخيل)) وفسرّها بقوله ((حوافى الخيل التي كان يحفيها لكثرة غزوه عليها ثم قال: ((والجيد هنا ((حفيات الخيل)) مخففة من حفي يحفى فهو حف إذا احتكّ حافره من كثرة السير)) ثم رجع إلى لفظه ((حوافى)) فقال: والحافي خلاف الفاعل وليس له هنا موضع لأن خيل العرب لم تكن تنعل فيقال ان هذا الرجل كان يحفي خيله لكثرة اشتغاله عن إنعالها أو لغير ذلك من الأسباب)). ولم يكتف أبو هلال بهذا في نقده البيت بل مضى إلى لفظه أخرى هى ((الحريد)) وفسرّها بقوله: ((والحريد المنفرد)) ثم بنى نقده على هذا المعنى فقال: ((لو لم يقل الحريد كان أجود لأنه لم يغز المنفرد من الأحياء إلّا لعجزه عن مجتمع الناس)) ثم عرض للحريد معنى آخر فقال: ((ويجوز أنه بالحريد البعيد، والمعنى أنه كان

ص: 333

يبعد المغزى والمغار لقوته وكثرة عدده)).

وقد يتجاوز أبو هلال نقد أشعار الحماسة وتقويمها إل الشعراء أنفسهم وابداء رأي نقدي في شعرهم ومخالفة من سبقه في هذا الخصوص، وذلك على نحو ما جاء عنه في أشجع بن عمرو السلمي فقد قال فيه:((كان البحتري يقول: إنه يخلي، ومعنى الاخلاء أنه يأتي بألفاظ حسنة ليس تحتها كبير معنى، وأنا لست أرى في شعره شيئًا من هذا الجنس)).

وثمة عنصر غير النقد يبدو واضحًا في عمل أبي هلال، دلّت عليه هذه النقولات التى وصلت الينا عن شرحه وهو عنصر يتصل بتعريف الشعراء وبتوضيح اسم من ورد مبهمًا في عمل أبي تمام ز وبتصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبه الشعر إلى غير قائليه، وهى جوانب لها قيمتها في خدمة اختيار الحماسة، وقد رأينا ذلك في عمل أبي رياش الذي درسناه فيما سبق، فأبو هلال كان مثله في تقديم هذه الخدمة الجليلة التي تكشف عن علم وافر بما قالت العرب من أشعار وبشعراء العرب وأنسابهم وقبائلهم، يبدو هذا واضحًا مما نقله التبريزى عنه.

ص: 334

ففي جانب تعريف الشعراء نراه يذكر لنا الشاعر وبعض ما عرف به، وذلك مثل تعريفه لعنترة بن الأخرس المعني فقد قال فيه:((يعرف بعنترة بن عكبرة، وعكبرة أمه، وبها يعرف، وهو شاعر فارس مشهور)).

وكذلك مثل تعريفه بالشاعر ((القاطمى)) وكذا أورده أبو تمام في الحماسة بدون ذكر لا سمه، فعرفه أبو هلال قال:((اسمه عمير بن شييم بن عمرو بن عباد)) وأوصل نسبه إلى تغلب ثم قال: ((كان فحلًا رقيق الحواشي كثير الأمثال)) واستشهد من شعره بثلاثة أبيات تدل على ما قاله فيه:

وَالنَّاسُ اِنْ يَلْقَ خَيْرًا قَائِلُونَ لَهُ مَا يَشْتَهِى وَلاُمِّ المخْطِئِ الهَبَلُ

قَدْ يُدْرِكُ الُمتَأَنِّى بَعْضَ حَاجَتَهُ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الُمسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ

وَالعَيْشُ لَا عَيْشَ اِلَاّ مَا تَقَرُّبِهِ عَيْنٌ وَلا حَالَ الَاّ سَوْف َتَنْتَقِلُ

ونراه في بعض المواضع من نقولات التبرزي عنه لا يكتفي بالتعريف بالشاعر فحسب بل يذكر معه من يشاركه في الاسم، ويبدو أنه كان في هذا مستفيدًا من الآمدي في المؤتلف والمختلف، فقد مر ّبنا أنه أفاد منه في رسالته ((ضبط مواضع من الحماسة)) في إيراد من اسمه ((أبو الطمحان)) وهذا يدفعنا إلى القول بأنه اعتمد عليه في هذا الخصوص.

ففي الحماسية التى صدرها أبو تمام بقوله: ((وقال عنترة)) ولم يرد على ذلك نجد أبا هلال يقف عنده ويقول: ((يعنى عنترة بن معاويه بن شداد بن قراد)) ويورد نسبه إلى عبس بن بغيض ويقول: ((وكنيته أبو المغلس)) ثم يضيف قائلًا، ((وفي الشعراء جماعة يقال لهم عنترة، منهم هذا ومنهم عنترة بن عكبرة الطائي وهو عنترة ابن الأخرس، وقد مرّ ذكره، ومنهم عنتره بن عروس مولى ثقيف، وكان مولّداً في بلاد أزد شنوءة، شاعر راجز)).

ص: 335

وقد فعل ذلك في قطعة الحماسة التي نسبها أبو تمام إلى جميل بن معمر العذري قال: ((في الشعراء ثلاثة يدعون جميلًا منهم جميل بن عبد الله بن معمر ويكنى أبا عمرو

وهو قائل هذا الشعر الذي أنشده أبو تمام، وجميل بن المعلى أحد بنى عميرة بن جويّة بن لوذان بن ثعلب بن عدي من فزازة، وجميل بن سيدان الأسدي)) وقد أورد لكل من ابن المعلى وابن سيدان شعرًا.

ويتصل بتعريف الشعراء جانب آخر هو أنه كان يوضح نسبة بعض القطع التى كان أبو تمام يوردها مبهمة مصدرة ب ((وقال آخر)) أو ((وقال بعضهم)) فكان أبو هلال يجلو هذا الابهام الذي خلفه أبو تمام في عمله، ومن أمثلته ما جاء عنه في الحماسيّة التي مطلعها:

اللؤم أكرم من وبر ووالده واللؤم أكبر من وبر وما ولدا

وقد صدّرها أبو تمام بقوله: ((وقال آخر)) فقال أبو هلال: ((لم يذكر أبو تمام اسمه، واسمه الحكم بن زهرة، قال الجمحي: زهرة أمه وهو الحكم بن المقداد بن الحكم، وأورد نسبه إلى فزارة ثم قال: ((ويعرف بالحكم الأصم الفزاري)).

وفي القطعة الواردة في باب الأضياف والمديح، وقد أغفل أبو تمام نسبتها، وقف أبو هلال ونسبها إلى قائلها قال: الشعر لجئامة بن قيس وهو أخو بلعاء بن قيس)).

أما في تصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبة أشعار إلى غير قائليها فقد أفادت النقولات عنه أنه قد قدّم في شرحه جهدًا محمودًا في هذا الشأن، وذلك وفق المصادر التي وقف عليها ووجد فيها من أشعار الحماسة ما كانت النسبة فيها مخالفة لما جاء عند أبي تمام.

ص: 336

ففي الشعر الذي نسبه أبو تمام إلي الفضل بن الأخضر بن هبيرة الضبي قال أبو هلال: هو للأخضر بن هبيرة بن المنذر، وأورد نسبه إلى ضبة بن أد. وفي حماسيّة أخرى نسبها أبو تمام إلى جربية بن الأشيم الفقعسي قال أبو هلال:((إن غير أبى تمام رواها لسبرة بن عمرو الفقعسي، ثم أورد قصتها وقال: ((والصحيح أن الخصف بن معبد بن عبد الحرث العجلي هو الذي قال هذا الشعر الذي أنشده أبو تمام ونسبه إلى جربيه بن الأشيم)).

وقد كان أبو هلال يشير أحيانًا إلى نسبة أخرى غير نسبة أبي تمام ويعزوها إلى مصدرها دون أن يبت في ذلك برأي، وذلك على نحو ما جاء عنه في الحماسية التي نسبها أبو تمام إلى شبيب بن عوانة الطائي، فقد قال أبو هلال: إن بعض علماء البصرة رواها للكروّس بن زيد بن الأخرم، وأورد نسبه إلى جديله التي هى فرع من طيئ ثم قال: ((وكان قد خاصم ابن عم له إلى مروان بن الحكم فحبسه مروان فقال: قضى بيننا مروان أمس قضية

الأبيات. ولم يوضح رأيه فيما إذا كان الشعر لشبيب أو للكروس.

ومثله أيضًا ما جاء عنه في الحماسّية التي نسبها أبو تمام إلى المثلّم بن عمرو التنوخي التي منها:

اِنِّي امرؤٌ مِنْ تَنُوخَ نَاصِرُهُ مُحْتَمِلٌ في الُحرُوبِ مَا احْتَمَلُوا

فقد قال أبو هلال: ((هذا الشعر في أشعار هذيل للبريق بن عياض الهذلي قال: ((إنى امرؤ من هذيل ناصره))، وكذلك لم يذكر أي النسبتين صحيح، ما ذكره أبو تمام أو ما وجده في أشعار هذيل.

والحق أن شرح أبي هلال من خلال ما وصلنا عنه قد قدّم فوائد في هذا الجانب المتصل بتوثيق الشعر، واذا كنا قد رأيناه في بعض المواضع يشير إلى أن الشعر يروى

ص: 337

لغير من ذكره أبو تمام دون أن يقطع في ذلك يرجه لادراكه بأن المصادر الأولى لرواية الشعر التي اعتمد عليها العلماء الرواة كانت مختلفة، وحسبه في هذه الحال أن يشير إلى أن هذا النص أو ذاك قد وجده منسوبًا إلى غير الذي ذكره أبو تمام في المصادر التي توفرت لديه، وهذا إنما يقع منه في النصوص التى لم يكن فيها على يقين في أمر نسبتها أما ما كان فيها على يقين فانه يقطع فيه برأي واضح على النحو الذي رأيناه في حماسيتي الأخضر بن هبيرة والخصف بن معبد.

وبجانب ما أوردناه لأبي هلال من عناصر كان لعنصر المعاني وجود في هذه النقولات، غير أن ذلك كان في مواضع قليلة، وذلك أن التبريزي _ وهو معتمدنا الأول في هذه الدراسة _ كان في منهجه الانتخابي يعوّل كثيرًا على المرزوقي في عنصر المعاني لا على أبي هلال، ولذا كانت نقولاته منه في هذا العنصر لا تتجاوز في الحسبة أصابع اليد الواحدة. أما البغدادي فلم ينقل عنه في هذا العنصر سوى في موضوع واحد، ومع ذلك فاننا من خلال هذه النقولات القليلة نحاول أن نتعرف على طريقة الرجل في معالجته لمعاني النصوص.

وأول ما نلحظه في هذه النقولات أنه أحيانًا كان يعرض معنى النص قبل شرح ألفاظه، وذلك مثل ما جاء عنه في بيت ابن زيّابة القائل:

يَا لَهْفَ زَيَّاَبَةَ لِلْحَارثِ الصَّابِح فالغانِمِ فالآيِبِ

فقد أورد معناه أولًا قال: ((زيابة أبوه يقول: يا لهف أبي على الحارث إذ صبّح قومي بالغارة فغنم وآب سالمًا أن لا أكون لقيته فقتلته، إنما يريد يا لهف نفسي فأقام أباه مقام نفسه)) ثم وقف بعد هذا عند لفظة ((الصابح)) فقال: ((يقال: صبّح الرجل القوم _بالتشديد _كما قال الله تعالى: ((ولقد صبحهم بكرة عذابّ مستقر))، وصبحهم _ بالتخفيف _ إذا سقاهم صبوحًا فقوله ((الصابح)) فكأنه جعل الغارة لهم صبوحًا، وقيل: صبّحته في الغارة بمعنى)).

ص: 338

ونراه في موضع آخر يعرض المعنى في ايجاز ثم يذكر تعليلًا له قصدًا إلى تأكيد صحته، وذلك في البيت الذي نسبه أبو تمام لبعض بني عبد شمس من فقعس وهو:

لاذت هنالك بالأشعاف عالمة أن قد أطاعت بليل أمر غاويها

فقد أورد معناه موجزًا قال: ((يقول: أطعوا الأمر الذي دبَّره لهم بالليل غاويهم)) ثم علل لاستخدام الشاعر تدبير الأمر ليلًا فقال: إنما يدبر بالليل ليتوفر عليه ولا يشتغل بغيره، فيكون حظه من الابرام أكثر لخلو البال بالليل واجتماع الفكر فيه)) ثم أتى بآية قرآنية دعم بها هذا التعليل قال:((وفي القرآن: بيّت طائفة منهم غير الذي تقول)).

وأحيانًا نراه إذا أراد عرض المعنى عمد إلى ما فيه من تراكيب، فبيّن ما فيها من أوجه المعنى، ومن خلال هذه الأوجه يكون عرض المعنى، وذلك كما جاء عنه في بيت الفند الزماني الذي يقول فيه:

أَيَا طَعْنَةَ مَا شَيْخٍ كَبِيرٍ يَفَنٍ بَالي

فقد وقف عند تركيب ((أيا طعنة)) قال: ((في ندائه وجهان أحدهما أن يعجب من فظاعتها فكأنه يقول: هلمي يا طعنة فاعجببى أنت أيضًا من هولك وسعتك، والآخر أن المنادى غير الطعنة كأنه قال: يا هؤلاء اشهدوا طعنة لا يطعن مثلها شيخ)) ولم يعرض المعنى لأنه قد صار واضحًا من خلال وجهي هذا التركيب.

وثمة عنصر آخر غير هذه العناصر التي تعرضنا لها هو عنصر الأخبار التاريخية التي تتصل بنصوص الحماسة ومناسبات الشعر، وقد جاءت جميع النقولات الدالة على عمله في هذا العنصر في شرح التبريزي، وقد سبق أن عرضنا نماذج منها في دراستنا لمنهج التبريزى حين وضحنا من خلالها كيف كان التبرزي ينتخب من

ص: 339

الشروح التي أمامه _ ومنها شرح أبي هلال _ ما يحقق لهذا العنصر وجودًا في شرحه.

هذه هي العناصر التي استطعنا أن نعثر عليها من خلال نقولات التبريزي والبغدادي عن شرح أبي هلال، وهي نقولات لم تحقق لنا الوقوف على سائر العناصر التي تقوم عليها عمليّة شرح الشعر، فهناك عنصر اللغة ليست فيه نقولات تذكر، ولا يعني هذا أن أبا هلال لم يهتم بالغة في شرحه، إذ من الواضح أن من يهتم بالمعاني يهتم تبعًا باللغة، ولكن ما وجدناه من نقولات فيها غير كاف لابراز طريقة الرجل في معالجتها، وليس من غايتنا في هذا البحث أن نتصيّد المثال أو المثالين لاصدار حكم على عمل من أعمال الشراح، ربما تكتشف الأيام خطله وتهافته.

واذا كان حظ اللغة في هذه النقولات إلى قُلٍّ فان حظ النحو والاعراب عنصرًا يعتمد عليه الشارح في مناقشته تراكيب النصوص وشرحها كان إلى خلو وانتفاء، ومثل ذلك يمكن أن يقال في البلاغة وعنصر أوزان الشعر وأضربه وقوافيه، وهى عناصر لا ندري إن كان لها وجود في شرح أبى هلال وأهملها التبريزي والبغدادي فلم ينقلا شيئًا منها أو أن أبا هلال لم يكن ذا عناية بها، ومن أجل ذلك كان من العسير علينا أن ندرج عمل الراجل تحت منهج من مناهج التي حددناها وطبقنا عليها عمل الشراح، وان كان ظننا يذهب إلى أصحاب المنهج الابداعي الفني منه إلى أصحاب المناهج الأخرى.

5) شرح أبي العلاء: الرياشي المصطنعي:

يعد شرح أبى العلاء من الشروح المفقودة، ولقد سبق أن أوضحنا من قبل خطأ نسبة الشرح الموجود مخطوطًا في دار الكتب المصريّة الى أبي العلاء ووضحنا

ص: 340

وهم بعض الباحثين في اشارتهم التي تفيد بأن شرح أبي العلاء موجود لا مفقود، كما سبق أن ذكرنا أن أبا العلاء _ فيما ذكر ياقوت _ قد صنع شرحه هذا تلبية لرغبة أمير يدعى ((مصطنع الدولة)) كان قد أنقذ إليه نسخة من شرح أبي رياش وطلب منه أن يستكمل ما فيها من نقص مما لم يتناوله أبو رياش، فكان أن صنع أبو العلاء شرحه الذي بلغ أربعين كراسة وسمّاه ((الرياشى المصطنعي)) نسبة إلى أبي رياش من جهة ولمن صنع له الشرح من جهة أخرى.

ويبدو أن التبريزى _ تلميذ أبي العلاء _ قد قرأ هذا الشرح عليه وأخذه عنه، ولذا كان من الشروح الأساسية التي عوّل عليها في صنعة شروحه للحماسة، وبخاصة شرحه الأوسط المتداول بين الناس، الذي درسناه فيما سبق في المنهج التجميعي الانتخابي، فعن طريق التبريزي وصلت إلينا نقولات عن أعمال أبي العلاء في الحماسة، وهي نقولات وصلت _ فيما قمنا به من إحصاء _ إلى بضعة ومائة موضع بلغ بعضها من حيث الكم العشرين سطرًا أو أكثر.

بيد أن هذه النقولات مع ما فيها من تنوع واسهاب في بعضها فإنها لا تهيّئ للدارسين تحديد منهج لأبي العلاء في شرحه للحماسة، وان كنا لا نعدم من وجود ملامح يمكن أن نتبّين من خلالها طريقة تعاطيه لجملة من العناصر التي كان التبريزى يلجأ فيها إلى شرح أبي العلاء لينتخب منه ما يكمّل به عناصر شرحه.

إن أبرز ما تقدمه لنا نقولات التبريزي من شرح أبي العلاء هو اهتمامه الواضح بشرح أسماء الشعراء والأعلام الواردة في أبيات الحماسية، فقد بلغت النقولات في هذا العنصر نحو اثنين وأربعين موضعًا، وهى في مجملها تدل على أن أبا العلاء كان مثل ابن جني مولعًا بمثل هذا العمل، وأنه _بلا شك _ كان متأثرًا به فيه، فهو قد

ص: 341

حقق من الإضافات علي ما جاء في كتاب المبهج لابن جني ما يجعلنا ندرك قيمة ما وقفنا عليه سابقًا من قول ابن جني في مقدمة المبهج: ((إن وراء هذا العمل علمًا كثيرًا وتدربًا نافعًا))، فقد استطاع أبو العلاء أن يثير عقولنا ونحن نقرأ أعماله في هذا العنصر، وجعلنا نحس بعظمته في علم اللغة واستعلائه المنفرد في الاستيعاب التام لكلام العرب.

وإذا كنا قد رأينا ابن جني في المبهج يجنح كثيرًا في شرحه للأسماء الأعلام نحو التصريف والأوزان وما هو مصروف وغير مصروف، فان أبا العلاء كان في أعماله التي نقلها التبريزي واضح الاهتمام بمعاني الألفاظ التي اشتقت منها الأسماء الأعلام، وما ورد في معانيها من وجوه محاولًا أن يوفر لكل وجه شاهده من كلام العرب. ففي اسم ((شمعلة بن الأخضر)) مثلًا نراه يقف أولًا عند ((شمعلة)) فيقول:((الشمعلة أصل بناء اشمعلّ إذا أسرع))، ثم أتى بشاهده فقال: قال أمية ابن أبي الصلت:

لَهُ دَاعٍ بمَكَّةَ مُشْمَعِلٌّ وآًخَرُ فَوْقَ دَارَتِه يُنَادِي

ثم انتقل إلى اسم ((الأخضر)) فبينّ فيه وجهين قال: ((الأخضر ينعت به الرجل على معنى المدح وعلى معنى الذم، واذا مدح به احتمل أن يكون مشبهًا بالبحر لأن البحر يوصف بالخضرة والربيع، وهذان الوصفان لمن ذكر بالجود، ويوصف الانسان بالأخضر لأن الخضرة من ألوان العرب قال:

وَأَنَا الأخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي أَخْضَرُ الِجلْدَةِ في بَيْتِ العَرَبْ)).

هذا في وجه المدح أما في وجه الذم فقد قال فيه: ((واذا جاءوا بالخضرة في معنى الذم، فانما أرادوا أنهم قد اخضروا من اللؤم لأن السواد إذا اشتد جعل خضرة فقيل ليل أخضر وأخضر الليل)) ثم أتى بشاهد على هذا قال: قال القطامي:

ص: 342

يَا نَاقَ سِيرِي عَنَقًا قِسْبرَّاَّ وَقَلِّبِى مَنْسِمكِ المُغْبَرَّا

وَبادِرى اللَّيْلِ اِذَا مَا اخْضَرّا

وأردفه بشاهد آخر هو قول جرير في هجاء بنى تيم:

كسا الؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من مطارفها الخضر

إن أبا العلاء في تحليله اللغوي للأعلام يعطيك كل الاحنمالات التي يمكن أن يكون العلم مأخوذًا منها، انظر مثلًا تحليله لاسم ((معدان)) من اسم الشاعر الكندي ((معدان بن جواس)) قال:((معدان يحتمل أن يكون من المعد وهو نحو من الخطف والاختلاس يقال: امتعد الذئب الشاة إذا اختلسها، ويقال: معد الرجل اذا صار لصًا وهو راجع إلى ذلك المعنى)) ثم ينتقل إلى احتمال ثان فيقول: ((ولا يمتنع أن يكون معدان من المعد وهو الشئ الغض)) ثم رجع إلى المعنى الأول فقال: ((ويقال: معد الدلو إذا نزعها نزعًا شديدًا قال الراجز:

يَا سَعْدُ يا ابْنَ عَمَلٍ يَا سَعْدُ هَلْ يَرْوِيَنْ ذَوْدَكَ نزع مَعْدُ

ويقال مَعَدَ مَعْدًا إذا خَطَا خطوًا سريعًا، وهذا كله راجع إلى الخطف، وزعم قوم أن معدة الانسان سميت بذلك لشدتها، ما أراها إلّا من بعض ما ذكر من الألفاظ)).

ولم يقتصر جهد أبي العلاء على شرح أسماء شعراء الحماسة بل تجاوزه إلى الأعلام التي وردت في أبيات الحماسة، ففي البيت القائل:

لَا تَعْذُلي فيِ حُنْدُجٍ اِنَّ حُنْدُجًا وَلَيْثَ عِفِرِّينٍ لَدَيَّ سَوَاءُ

ص: 343

وقف أبو العلاء في اسم حندج وقال: ((حندج اسم الرجل مأخوذ من الحندج وهو كثيب صغير من الرمل ربما أنبت الشجر، وقد جائت الحنادج في معنى الصغار من الإبل)).

وفي البيت الذي نسبه أبو تمام لامرأة من بني شيبان وهو:

بِعَيْنِ أُبَاغَ قَاسَمْنَا الَمنَايَا فَكَانَ قَسِيمُها خَيْرَ القَسيِمِ

قال أبو العلاء: ((أباغ يجب أن يكون من الأبغ وهو لفظ ممات، ويجوز أن تكون الهمزة مبدلة من الواو لأنهم قالوا: وبغته إذا عبته، وقيل: إن الوبغ فساد في ريش الطائر أو وبر البعير)).

ويلي هذا العنصر من حيث الكثرة في نقولات التبريزي عنصر اللغة والنحو، فلقد كان لأبي العلاء فيهما وقفات طيبة تدل على علو كعبه وبخاصة في التفسير اللغوي لألفظ أبيات الحماسة وتراكيبها. وصحيح أن عبقريّة أبي العلاء اللغويّة تجلّت في شرحه لأسماء الشعراء وأعلام الحماسة، ولكن عمله اللغوى في الأبيات قد أكد ّ هذه العبقريّة ودلّ عليها. ولقد بلغت نقولات التبريزي عنه فى مجال اللغة نحو ثلاثة وعشرين موضعًا، أما في النحو فقد بلغت نحو تسعة مواضع. ففي شرح الألفاظ نجد له وقفة في ألفاظ بيت سوار بن المضرّب القائل:

بِذَبِّي الذَّمَّ عَنْ حَسِبي وَمَالي وَزَبُّونَاتِ أشْوسَ تَيَّحَانِ

فهو يبدأ بشرح ((أشوس)) أولًا يقول: ((الشوس أن يضيّق الرجل أجفانه وينظر في أحد شقيه من الكبر، ويقال تشاوس الرجل إذا فعل ذلك قال حميد بن ثور:

يَقرُّ بِعَيْنِي أَنْ أَرَى مِنْ مَكَانِهِ سُهَيْلًا كَعَيْنِ الأَخْزَرِ المُتَشاوِسِ

ص: 344

ثم رجع إلى التّيحان فقال: ((والتّيحان يروى بكسر الياء وفتحها وهو الذي يعترض الأمور)) ثم عرض إلى قصد آخر للشاعر قال به بعض القوم قال: ((وذهب قوم إلى أنه يعني بأشوس تيحان فرسًا وادعوا أن الزبونة الأذن وأنه كنى بالزبونات عن رأس الفرس وهاديه لأن أذنيه يكونان فيه)) ولم ينكر أبو العلاء هذا التفسير في قصد الشاعر بل قال: ((فاذا صح ذلك فهو مثل قولهم رماهم بهادي فرسه وبغرته ونحو ذلك كما قال عنترة:

مَا زِلْتُ أَرْميهِمِ بِغُرَّةِ وَجْهِه))

وهو هنا نراه ينظر في التحليل اللغوي للألفاظ إلى ما يمكن احتماله في كلام العرب وأشعارها، وهي نظرة شملت جزءًا كبيرًا من عمله اللغوي، إذ كثيرًا ما نراه لا يفسر اللفظة من حيث سياقها فحسب بل ينظر إلى ما تعطيه من مدلول في احتمالات معانيها المتعددة، وينظر إلى عدم تنافي هذه الاحتمالات مع السياق من جهة ومع ما هو سائر في كلام العرب من جهة أخرى، ومن ذلك وقفته في الفعل ((تَعُدُّ)) من بيت راعي الابل النميري الذي يقول فيه واصفًا امرأة دعاها إلى جفنة طعامه:

فَبَاتَتْ تَعُدُ النَّجْمَ فيِ مُستَحِيرَةٍ سَرِيعٍ بِأَيْدِي الآكِلِينَ جمُودُهَا

قال: ((كان بعض الناس يجعل تعد هنا من العدد أي أن هذه المرأة تعد النجم في الجفنة المستحيرة أي المملوءة لأنها ترى خيال النجوم فيها، وقد يجوز هذا الوجه)) ثم نظر إلى احتمال آخر لمعنى ((تَعُدُّ)) فقال: ((وقد يحتمل أن يكون ((تَعُدُّ)) في معنى تحسب وتظن، وأصله راجع الى العدد الا أنه قد أخرج بعض الاخراج كما قال:

اِذَا وَلّيْتَ مَعْرُوفًا لَئِيَمًا فَعَدُّكَ قَدْ قَتَلْتَ لَهُ قَتيلًا

أى فاظنن أنك فعلت ذلك، والمراد أن المرأة تحسب النجم في الجفن لما تراه من بياض الشحم)).

ص: 345

وهو يستغرق في شرحه اللغوي استغراقًا منقطع النظير بحيث يوفي اللفظة الواردة في البيت وما تدل عليه من معان حقها في التفسير والتحليل، وذلك مثل عمله في لفظة ((قعاد)) الواردة في بيت عبد الله بن أوفى الخزاعي وهو:

فَبِئْسَتْ قُعَادُ الفَتَى وَحْدَهَا وَبِئْسَتْ مُوفِّيَةُ الأَربَعِ

قال أبو العلاء: ((قعاد الفتى ما يقعده في بيته لأن المرأة تسمى قعيدة، وهي من القعود في البيت)) وكان حق تفسير اللفظة أن ينتهي عند هذا الحد، غير أن أبا العلاء مضى مفسّرًا لفظة ((القعود)) في معنى آخر قال:((ومن ذلك أخذ القعود من الابل وهو الفتى الذي قد صلح أن يقعد عليه الراكب))، وانطلق من هذا إلى مجال أوسع فقال: ((والقعود كلمة اتسع فيها المتكلمون حتى قال أصحاب الأضداد: يقال: قعد في معنى قام، وليس ذلك إلا على المجاز لأن القاعد خلاف المضطجع، فلما كان ذلك خروجًا من حال الضجعة إلى ما هو أعظم للشخص ظن السامع أن قعد في معنى قام، وقول النابغة:

والبَطْنُ ذُو عَكَنٍ خمِيصٌ نَاعِمٌ والنَّحْرُ تَنْفُجُه بِثَدْيِ مقْعَدِ

أراد أنه لم ينكسر للكبر فكأنه قاعد، ولو قيل جارية قائمة الثدي لأدى ذلك معنى قولهم ثدي مقعد، فمن هذه الجهة تأوّل بعض الناس أن قعد يكون في معنى قام)).

فانظر إلى هذا الاستغراق في التفسير اللغوي الذي يدل على مدى اتساع علم الرجل في اللغة وتفسيرها ومناقشة من له رأي في معاني ألفاظها، وهو استغراق لم يقع منه في تحليل الألفاظ فحسب بل نجده لديه في تحليل التراكيب، غير أنه كان في هذا الجانب أكثر تمسكًا بما هو مشهور في كلام العرب وبما هو متفق مع سياق البيت، ففي بيت الأشتر النخعي القائل:

بَقَّيْتُ وَفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَا وًلِقيتُ أَصْحَابِي بِوجْهِ عَبُوسِ

ص: 346

نراه يقف عند تركيب ((بقيت وفري)) فيقول: ((الذي ينبغي أن يحمل عليه معنى قوله ((بقيت وفري)) أن الوفر المال وذلك المشهور من كلام العرب)) ثم مضى مستعرضًا رأيًا فقال: ((وذكر أبو محمد الديمرتي أن الوفر ها هنا الشعر، وأنكر ذلك عليه أكثر أهل العلم، ولا يمتنع في القياس أن يسمى الشعر وفرًا لانه كالغرة في الجسد، ولأنهم قد سموا شعر الرأس إذًا كثرة وفزة، واذا صح ذلك لم يحسن أن يحمل البيت عليه لأن توفير شعر الرأس ليس من جنس الانحراف عن معالي الأمور ولقاء الضيف بالوجه العابس، وقد جاء الحديث عن النبى _ صلى الله عليه وسلم _ وعن غيره من صلحاء السلف، أنهم كانوا يوفرون شعورهم، فان ذهب إلى أنه أراد بالوفر الذي جاءت السنة باماطته عن الجسد فهو أيضا ليس بلائق إذ كان منافيًا لما بعده

ولا يجوز أن يعدل عن أن الوفر المال الكثير)). فأنت تراه لا ينكر أن يأتي الوفر بمعنى الشعر، ولكن تفسيره بهذا المعنى في البيت، ولذا لم يجزه أبو العلاء على كثرة ما كان يجيز من معان محتملة في الألفاظ إذا اتفقت مع المشهور من كلام العرب والسياق.

أما في مجال النحو فقد دلت نقولات التبريزي أنه كان يهتم به في شرحه، وذلك من جهة القواعد ومن جهة الاعراب، فمن جهة القواعد نراه مثلًا يناقش قاعدة أفعال البدء والشروع في بيت الحماسة القائل:

جَعَلْتُ وَمَا بِى مِنْ جَفَاءٍ وَلَا قِليً أَزُوركُمُ يَوْمًا وَأَهْجُركُمْ شَهْرَا

فقد قال فيه: "ويروي فقد جعلت قلوص ابني سهيل" وكير من الناس يرفع الفلوض وهو وجه ردئ" ثم بين وجه ردائته من حيث مخالفته للقاعدة النحوية فقال: "لأن القائل إذا قال جعلت وهو يريد المقاربة لم يكن بد من إتيانه بالفعل كما قال:

جعلت وما بي من جفاء ولا قلي أزوركم يومًا وأهجركم شهرًا

ص: 347

وعلى ذلك جميع ما يرد، فاذا قال القائل: جعل زيد فعله يجمل ولم يأت بلفظ الفعل فانما يحمله على المعنى كأنه قال: جعل زيد يجمل))

أما في جهة الاعراب فقد كان ينظر من خلاله إلى المعنى، ومن ذلك ما جاء عنه في بيت يزيد بن الحكم الثقفي الذى يقول فيه:

والَمرْءُ يَبْخَلُ في الحُقُو قِ وَلِلْكَلَالَةِ مَا يُسِيمُ

فقد وقف عند إعراب ((ما)) في قوله ((ما يبسيم)) فبّين وجوه الاعراب فيها ناظراً إلى المعنى في كل وجه قال: ((ما فيه يجوز أن تكون زائدة، ويكون المعنى أنه يخلي ماله للكلالة فكأنه أسامه فيهم كما يقال: تركت مالي في بني فلان، ويجوز أن يكون ((ما)) في معنى الذي أي والذي يسميه في رزق الكلالة، ولا يبعد أن يكون ((ما)) وما بعدها في معنى المصدر كأنه قال: واسامته لماله للغير لا لنفسه)).

ومن الملاحظ في عمل أبي العلاء النحوي أنه كان دقيقًا في مناقشة أساليب الشعراء ومراعاة أن تكون تراكيبهم جارية على سنن كلام العرب، فإذا رأى التركيب لدى الشاعر قد خرج عن هذا الحد ناقشه منتقدًا في دقة، قال في بيت زميل ابن أبير الوارد في باب الهجاء:

فَجِئْتَ ابنَ أَحْلَامِ النِّيَامِ وَلَمْ تَجِدْ لِصِهْرِكَ اِلَاّ نَفْسَهَا مَنْ تُبَاعِلُ

((نصب ابن احلام النيام على الحال، وتأوّل انفصال الاضافة كأنه قال: فجئت ابنًا لأحلام النيام، والانفصال يكثر إذا كانت الصفة الجارية على الاسم الأول موضوعة للاسم الثاني في الحقيقة كقولك مررت برجل حسن الجارية فالمغنى حسن جاريته فالحسن للجارية، وليس ذلك موجودًا في مثل قوله ابن أحلام النيام لأن الابن ليس هو للأحلام، فكان ذلك منافيًا لقولك مررت برجل جميل الأصحاب لأن الأصحاب هم الذين حكم لهم بالجمال))

ص: 348

أما عنصر المعاني فاحلق أن ما نقله التبريزي من عمل أبي العلاء فيه كان ضئيلًا بالقياس إلى عنصر شرح الأسماء والأعلام وعنصر اللغة والنحو، وذلك لأن التبريزي كما أشرنا في أكثر من موضع كان يعوّل في عنصر المعاني على المرزوقي لا غير، ومن ثم جاءت نقولاته في عنصر المعاني من أبي العلاء وغيره من الشراح الذين انتخب شرحه منهم قليلة جدًا، ولكن هذا لا يمنع من أن نقول إن هذا القليل الذي جاءنا عن أبي العلاء يعطي مؤشر عناية منه بهذا العنصر، فلا شك أن الشارح الذي يعني باللغة والنحو هذه العناية التي رأيناها يكون من الطبيعي أن يعني المعاني، فاللغة والنحو تنبثق عناية الشارح بهما باعتبار أن ما يثيره فيهما يكون وسيلة لشرح ألفاظ النص وتراكيبه، ولقد رأينا أبا العلاء في تحليله لغة وقضاياها ولقواعد النحو ومسائل الإعراب ينظر دائمًا إلى مقاصد الشعراء ومعاونيهم، ومن ثم فليس بصحيح ما ذهب إليه الدكتور عسيلان حين أشار إلى أن عناية أبي العلاء بالجانب اللغوي جعلته لا يدقق النظر في معاني الشعر، وأنه يعمد إلى عرض المعنى بصورة تكاد تكون نثرًا للبيت.

وكذلك ليس بصحيح ما أشار إليه الدكتور العمري من أن أبا العلاء حين تصدى لشرح الحماسة كان مقتصدًا على بعض النواحي اللغوية والتأويلات المعنويّة.

فقول الدكتور عسيلان مدفوع من وجهين أحدهما: أن شرح أبي العلاء لم يصل إلينا كاملًا وإنما وصل إلينا بعض منه عن طريق نقولات قرأناها في شرح التبريزي، والتبريزي كما أوضحنا آنفًا لم يكن يعتمد في شرحه الانتخابي في عنصر المعاني على أبي العلاء، وإذا نقل عن أبي العلاء شيئًا في جانب المعاني فإن هذا يقع غالبًا في المواضع التي يكون أبو العلاء مخالفًا فيها المرزوقي أو غيره في فهم البيت وإيراد معناه، ومن ثم فإن القول بأن اهتمام أبي العلاء قد جعله لا يدقق في المعاني قول لا ينبغي أن يقال إلّا إذا وقفنا على أعمال الرجل كاملة في عنصر المعاني. هذا فضلًا عن أن نقولات التبريزي لا تدل على ذلك بل إننا رأيناه يناقش آراء

ص: 349

السابقين في المعنى في دقة ثم يبدي رأيه في وضوح وجلاء، كاشفًا لنا المعنى وفق رؤيته ووفق ما وقف عليه من كلام العرب، ولعلك حين ترجع إلى ما أوردناه له في انتخاب التبريزي لعنصر المعاني في شرحه عند بيت موسى بن جابر الحنفي القائل:

هلالان حمالان في كل شتوٍة من الثقل ما لا تستطيع الأباعر

تدرك حقيقة هذا القول، بل لعلك حين تقرأ عمله في إيراد معنى الشطرة الثانية من بيت عمرو بن مسعود الثقفي:

أيبغي آل شداٍد علينا وما يرغى لشداٍد فصيل

تعلم أن ما ذهب إليه الدكتور عسيلان من قول لا يستند إلى شيء، فقد تناول أبو العلاء معنى الشطرة مستعرضًا في دقة أوجه المعاني فيها قال:"في قوله: "وما يرغى لشداد فصيل لا يذهب به مذهب البخل وأنهم لا يعطون أحدًا فصيلًا، ولكن يحمل على أنهم لا يؤذون كما يقال: ما تروّع له شاة أي فلم يتعرضون لنا بالأذاة ونحن عنهم كافون؟ ، ويجوز أنه يصفهم بأنهم أذلة لا يظلمون أحدًا ولا يرغي فصيل لأجلهم كقوله:

قبيلُة لا يغدرون بذمٍة ولا يظلمون الناس حبة خردل

والدليل على أنه لم يرد بالإرغاء معنى الهبة قوله- يريد البيت الذي يليه- "إن تغمز مفاصلنا تجدنا

الخ" لأن الكلام دال على تهدد ووعيد".

فهل مثل هذا العمل يقال في صاحبه إنه كان لا يدقق في المعاني؟ .

وأما قوله بأنه كان يعمد إلى عرض المعنى بصورة تكاد تكون نثرًا للبيت فهو أيضًا حكم لا يستند إلى شيء لأن المثال الذي أتى به برهانًا على حكمه هذا لا صلة

ص: 350

لأبي العلاء به، وذلك في بيت ربيعة بن مقروم القائل:

وألد ذي حنٍق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل

فقد نقل الدكتور عسيلان معناه ونسبه وهما لأبي العلاء وهو "رب خصم شديد الخصومة ذي غيظ وغضب علي تغلي عداوته غليان المرجل فيه إذا كان على النار إذا دفعته عن نفسي"، فهذا القول ليس لأبي العلاء وإنما هو للمرزوقي نقله التبريزي عنه بدون عزو، وأورده بعد قول لأبي العلاء في تفسير لفظة "ألد" الواردة في البيت فظن الدكتور عسيلان أنه لأبي العلاء، وكان ينبغي عليه في هذه الحال أن يضاهي نقولات التبريزي بشرح المرزوقي حتى لا يقع في هذا الوهم الذي وقع في مثله بعض الباحثين من نسب أقوال المرزوقي الواردة في شرح التبريزي بدون عزو إلى التبريزي نفسه، على نحو ما أوضحناه سابقًا في دراستنا لعمل التبريزي في الحماسة.

وأما ما ذهب إليه الدكتور العمري من أن عمل أبي العلاء في شرح الحماسة كان مقتصدًا مقتصرًا على بعض النواحي اللغوية والتأويلات المعنويّة، فهو أيضًا رأي لا يستند إلى شيء وذلك لثلاثة أمور: أحدها أنه كان يشير في هوامشه وهو يتحدث عن شرح أبي العلاء إلى نسخة المايكروفيلم المحفوظة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة وهي نسخة الشرح الذي أثبتنا خطأ نسبته إلى أبي العلاء.

ومن ثم فإن أي حكم بناه على قراءة هذا الشرح- إن كان قد قرأه حقًا- وخصّ به أبا العلاء يصبح في حيزّ البطلان.

وثانيها: أنه فيما يبدو لنا لم يفرغ كل أعمال أبي العلاء الواردة في شرح التبريزي ولو فعل ذلك لأدرك أن أبا العلاء- الذي قال عنه: "إنه كان في شروحه على شعر المحدثين كأبي تمام والمتنبي وغيرهما، يحشو شروحه بالأخبار التاريخية

ص: 351

والمسائل اللغوية والعروض والقافية والنقد وإشباعها بالاستطرادات اللغوية والنحوية- هو نفسه أبو العلاء في شرح الحماسة لم يحد عن سبيله قط.

وثالثها: أنه لم يقف على دواعي تأليف أبي العلاء لشرح الحماسة ولا على كيف بنى شرحه لها، فقد ألف أبو العلاء شرحه كما وضحنا تلبية لرغبة أحد الأمراء، أرسل إليه نسخة من شرح أبي رياش وطلب منه أن يكمل ما فيه من نقص، ومن ثم بنى أبو العلاء شرحه للحماسة على شرح أبي رياش فصلًا عن نظره في شروح أخرى سبقته مثل شرح الديمرتي وشرح أبي عبد الله النمري، وهنا يكمن الفرق بين شروح أبي العلاء على شعر المحدثين وشرحه على شعر الحماسة. فشروحه على شعر المحدثين لم تبن استكمالًا لعمل سابق، فلو وقف الدكتور العمري على هذا لأدراك لماذا كان أبو العلاء في شرحه على الحماسة يميل في بعض الأحيان إلى مناقضة معنى النص وما فيه من تأويلات. ذلك أنه كان ينظر في عنصر المعاني إلى عمل أبي رياش فيه وإلى عمل غيره من شراح الحماسة الآخرين، يعرض ما قالوه من تأويلات ولكنه كان وهو يفعل ذلك يدلي برأيه فيما يعرض وفق رؤيته الخاصة للنص، يتضح هذا في القليل من الأمثلة التي أوردها لنا التبريزي، ومنها ما جاء عنه في بيت الحرث بن وعلة الذهلي القائل:

أن يأبروا نخلًا لغيرهم والشيء تحقره وقد ينمي

فقد قال أبو العلاء: "قد اختلف في معنى هذا البيت، فقيل: أراد أنه يفارقهم، ويهبط هو وقومه أرضًا ذات نخل كان لغيرهم فيدفعونهم عنه ويأبرونه، كأنه يتهددهم بترحله عنهم لأن ذلك يؤديهم إلى الذل، واستدلوا على هذا الوجه بقوله في القصيدة:

قوض خيامك والتمس بلدًا ينأى عن الغاشيك بالظلم

وقيل: بل يريد أن يحاربهم فيصلحهم لغيره فيجعلهم كالنخل التي أبرت، إذ كان عدوهم ينال غرضه منهم إذا أعانه عليهم، وقيل: بل عنى أنه يسبي

ص: 352

نساءهم فتوطأ ذلك كالوبار الذي هو تلقيح النخل. فهذه أوجه ثلاثة في معنى البيت يعرضها أبو العلاء ثم يختار آخرها فيقول: "وهذا الوجه أشبه بمذهب العرب مما تقدم، لأنهم يكنون عن المرأة بالنخلة قال الشاعر يخاطب امرأة:

ألا يا نخلًة من ذات عرٍق عليك ورحمة الله السلام

وجملة القول في عمل أبي العلاء في عنصر المعاني تتلخص في أن ما وصلنا منه في نقولات التبريزي لا يكفي لإصدار حكم عام عليه، ولكنه يدل على أنه لم يهمله في شرحه ولا كان يكتفي فيه بنثر الأبيات، كما أن اهتمامه بعرض ما في النص من تأويلات لمعانيه إنا يرجع إلى اعتماده على ما كان يجده في شرح أبي رياش من عمل في عنصر المعاني فضلًا عن وقوفه على أعمال آخرين سبقوه في هذا الخصوص.

وبجانب ما دلت عليه نقولات التبريزي من عناية لأبي العلاء بالعناصر السابقة، دلت أيضًا على عناية له في عنصر أوزان الشعر وأضربه وقوافيه، وهو أمر سبق أن أشرنا إليه عندما تكلمنا عن إفادة التبريزي منه في هذا العنصر، فأبو العلاء يعد من أبرز الشراح الذين اهتموا بقضايا أوزان الأشعار المختارة في الحماسة، يدلنا على ذلك ما ذكره تلميذه الخطيب التبريزي في ختام شرحه حيث أفاد بأن أبا العلاء كان ملمًا بكل الأوزان التي جاءت فيها أشعار الحماسة وبأضر بها وأنواع قوافيها وما جاء شاذًا في الوزن منها، وذلك حين قال: "قال أبو العلاء اشتمل ما وضعه أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من أجناس الشعر الخمسة عشر على أثنى عشر جنسًا وهي: الطويل، والمديد، والبسيط، والوافر، والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والسريع، والمنسرح، والخفيف، والمتقارب، وفاته ثلاثة أجناس وهي: المضارع والمقتضب والمجتث. وفيه من الضروب الثلاثة والستين تسعة وعشرون ضربًا. ومن القوافي الخمس أربع وهي: المتدارك، والمتراكب، والمتواتر، والمترادف، وفاته المتكاوس، ومنه من الأوزان الشاذة ثلاثة الأول قول الضبي:

ص: 353

إن شواًء ونشوًة وخبب البازل الأمون

والثاني قول أم السليك أو أم تأبط شرًا:

طاف يبغي نجوًة من هلاٍك فهلك

والثالث قول المخزومية:

إن تسألي فالمجد غير البديع قد حل في تيٍم ومخزوم

وطبيعي من كان هذا شأنه أن يكون له عمل في الأوزان والقوافي من خلال شرحه لنصوص الحماسة، ولقد نقل التبريزي بعضًا من هذا العمل في مواضع مختلفة من شرحه منها ما يتصل بالوزن ومنها ما يتصل بالقافية، فمن أمثلة الوزن ما جاء عنه في بيت الشداخ بن يعمر الكناني القائل:

قاتلي القوم يا خزاع ولا يدخلكم من قتالهم فشل

فقد قال فيه: "قوله قاتلي القوم كأنه مخروم، والخرم سقوط حرف متحرك من أول كل شعر أصل بناء أوله على حرفين متحركين والثالث ساكن، وذلك لا يجوز في هذا الوزن على رأي الخليل، والذي أعتقد أنه جائز، وقد ذكره أبو رياش على ما يجب من صحة الوزن وهو "فقاتلي القوم يا خزاع".

ومن أمثلة ما يتصل بالقافية عمله في بيت موسى بن جابر الحنفي وهو:

ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت دونها

فقد أشار أولًا إلى أن "الأحسن رفع دونها ويكون في معنى صغير، كأنه قال: والموت صغير هذه الخطة" ثم مضى قائلًا: "ولو أنشد منشد بفتح النون في دونها لكان في الشعر عيب نحو الإقواء، ومثله قليل لأنهم يقوون في المرفوع والمخفوض الذي لا هاء بعد رويه، وإذا جاءت الهاء بعد الروي فإن تغير الإعراب قليل، ورووا أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد قول الأعشى:

ص: 354

هذا النهار بدا لها من همه ما بالها بالليل زال زوالها

فيرفع الزوال والقوافي منصوبة في كل القصيدة.

والذي نلحظه من خلال هذين المثالين وغيرهما مما أورده التبريزي أن الرجل كان متمكنًا في هذا العلم ملمًا بجميع قواعده، مدركًا لخروج الشعراء عن حدوده من خلال وقوفه على ما روي لهم من شعر أو جاء في دواوينهم.

وثمة عنصر تبدو نقولات التبريزي فيه ضئيلة لا تذكر، أقل في ضآلتها من عنصر المعاني، وهو عنصر الرواية، ويبدو أن التبريزي لم يتخذ عمل أبي العلاء فيه مجالًا لعمله الانتخابي، ولهذا جاء ما نقله عنه في الرواية ممتزجًا بعمله في اللغة من حيث أن أبا العلاء فيما يبدو كان ينظر إلى اختلاف الرواية من وجهة نظر لغوية لا من الوجهة التي كان يراها أصحاب المنهج الإبداعي الفني، فهو في نظرته للرواية أشبه بابن جني منه إلى الإبداعيين لأنه كان مثله ينظر إلى الرواية وجودتها من حيث اللغة لا غير، ومن أ/ثلة ذلك عمله في بيت ملحة الجرمي الذي يصف فيه سحابًا والذي رواه المرزوقي والتبريزي هكذا:

نشاوى من الإدلاج كدري مزنه يقضي بجدب الأرض ما لم يكد يقضي

فقد روى أبو العلاء "يشاوى من الإدلاج كدري مزنه" وشرح روايته لغويًا ثم قال: "ومن روى نشاوى من الإدلاج" أراد قطاه نشاوي من الإدلاج، والأجود أن يجعل تقضي من وصف المزنة لأنه يتصل بها، فإن جعل يقضي للحبى أو للبرق فجائز والأول أحسن ويكون في هذه الرواية بالياء، وفي الأول بالتاء، وإذا روي نشاوى فالأحسن أن يروى مزنه بإضافة مزن إلى الهاء".

ص: 355

وهناك عنصر لم نجد في نقولات التبريزي منه سوى موضع واحد، وهو عنصر الأخبار التاريخية ومناسبات الشعر، ويبدو أن التبريزي اكتفى فيه بما كان ينقله عن أبي رياش باعتبار أن أبا رياش كما وضحنا من قبل كان أو في الشراح بهذا العنصر، وبجانب هذا هناك عنصران لا وجود لهما في هذه النقولات هما عنصرا البلاغة والنقد، ولا ندري إن كان له عمل فيهما ولم يفد منه التبريزي أو أنه لم يعالجهما أصلًا في شرحه.

ومهما يكن من الأمر فإن هذا الشرح "الرياشي المصطنعي" الذي صنعه أبو العلاء لخدمة اختيار الحماسة قد بدا لنا من خلال نقولات التبريزي عنه غير واضح المنهج، يصعب إدراجه تحت واحد من المناهج الخمسة التي حددناها لشراح الحماسة فهو أشبه في بعض عمله اللغوي وبخاصة في شرح الأسماء والأعلام بابن جني ولكنه يختلف عنه في أمور، أهمها أن ابن جني في عمله اللغوي كان يجنح كثيرًا إلى التصريف، ولم يكن أبو العلاء كذلك، وثانيها أن ابن جني كان في عمله اللغوي والنحوي ينظر إلى الأبيات التي تثير قضية لغوية أو نحوية ولا يهتم بالمعنى إلا من خلال ارتباطه بالإعراب في حين أن أبا العلاء قد ركز جهدًا على المعاني وتأويلاتها وإن لم تكن له صلة بالإعراب بل إنه كان يلجأ إلى الإعراب ليوضح به المعنى وليس العكس، وثالثها أن ابن جني كان يعمد كثيرًا إلى إثارة الخلاف بين أبي الحسن الأخفش وجمهرة النحاة وبخاصة سيبويه، وينظر إلى ما تعطيه أبيات الحماسة من دعم لأحد الفريقين، ولم يكن هذا من شأن أبي العلاء ولا قصد إليه في عمله اللغوي النحوي، ورابعها أن عمل ابن جني في "التنبيه" كان علميًا بحتًا. أما أبو العلاء فإنه بجانب جنوحه إلى اللغة فإن عمله لم يخل من أدب، يبدو ذلك حتى في عمله اللغوي حيث كان ينظر إلى كلام العرب فينقل من أدبها الشيء الكثير ليدلل به على صحة المعنى اللغوي للألفاظ أو التراكيب وأحيانًا لمعاني النصوص ومرامي الشعراء.

وأخيرًا إن أبا العلاء لم يضع شرحه للطبقة المتخصصة العليا من أهل العلم

ص: 356

على نحو ما صرح ابن جني في مقدمته لكتاب "التنبيه". من أجل هذه الفروق جميعها بعد منهج أبي العلاء عن منهج ابن جني برغم تأثره به في بعض عمله ومشاكلته إياه في نواح من شرحه.

كذلك لم يكن أبو العلاء مشابهًا في منهجه منهج الإبداعيين الفنيين الذين رأيناهم في تطبيق المرزوقي وذلك من حيث أنهم كانوا يقصرون عملهم على نصوص الحماسة، فيوظفون علوم اللغة والنحو والرواية والبلاغة والنقد والأخبار التاريخية توظيفًا فنيًا محكمًا لإبراز معاني النصوص، ويعرضون ذلك في أسلوب أدبي رائع، ولم يكن أبو العلاء كذلك لأنه قد تجاوز نصوص الحماسة إلى شرح أسمائها وأعلامها فضلًا عن استطراداته الكثيرة في اللغة مما أثره أبو رياش في شرحه من أخبار تاريخية، وما يتصل بها من أشعار كان أبو العلاء يقف عندها ويشرح ما فيها من لغة وأعلام، هذا فضلًا عن أن أسلوبه لم يكن أدبيًا يعني فيه بصوغ عباراته وسبكها بما يكسبها شيئًا من الإيحاءات التي تثير المتعة لدى القارئ، وإنما كان يعمد إلى أسلوب فصيح خال من الزخرفة والصياغة يؤدي به إلى أفكاره ومعانيه.

كذلك اختلف أبو العلاء عن أصحاب المنهج التتبعي التقويمي، لأنه لم يقصد من شرحه أن يتتبع أبا رياش في عمله ويقوم ما فيه من أخطاء، وإنما قصد منه أن يسد ما فات على أبي رياش توضيحه من حيث أن أبا رياش كان يجنح إلى الأخبار التاريخية في المقام الأول، ففاتت عليه جملة من عناصر الشرح حاول أبو العلاء أن يكون له عمل فيها، وفق ثقافته وهواه.

وطبيعي أن يختلف عمل أبي العلاء عن أصحاب المنهج التجميعي الانتخابي، وأصحاب المنهج التسهيلي الاختصاري، فنقولات التبريزي المسهبة المستطردة دلت على أنه لم يكن تسهيليًا اختصاريًا قط، كما أنه إذا كان قد نظر في شروح سبقته فإنه لم يكن ينظر فيها لينتخب منها شرحه، وإنما ليناقشها ويبين رأيه فضلًا عن أنه كان في عمله ابتكاريًا يكد ذهنه ليبرز لنا جهده وعلمه ودرايته، في حين أن الانتخابين كما رأيناهم في عمل التبريزي وغيره كانوا بعيدين عن هذا كله، إلا في مواضع قليلة لا تقاس بما قام به أبو العلاء في عمله.

ص: 357