المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: ظواهر عامة في أعمال الشراح - شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

[محمد عثمان علي]

الفصل: ‌الفصل الثاني: ظواهر عامة في أعمال الشراح

‌الفصل الثاني: ظواهر عامة في أعمال الشراح

وبعد فلقد وقفنا على مناهج الشراح في الحماسة إلى نهاية القرن السادس الهجري، وطبقنا هذه المناهج على شروحهم، ما وصل منها كاملًا وغير كامل، ووقفنا بالدراسة على عناصر الشرح التي انتهوا إليها في ذلك الزمن، ومدى ما حققوه من عمل فيها.

لقد كانت رحلة طويلة مع أعمال هؤلاء الشراح، ودراسة ذات نظرة موازنة، متشعبة متلاحقة كشفت عن المتشابه والمختلف، وعن الإبداع والابتكار، والتقليد والإتباع، وعن الجهد الذي يدل على عمق وأعمال فكر، والذي يدل على سطحية وعدم نفاذ، وكشفت مع هذا كله عن مدى ما اضطلع به هؤلاء الشراح من ثقافات، وما تسلط عليهم من أهواء ونزعات، وما رموا إليه من أهداف وغايات.

ولقد كنا ونحن نلحظ هذه الجوانب التي كشفتها الدراسة وتتابع الأعمال بنظرتنا الموازنة نلحظ أيضًا ظواهر عامة كانت الدراسة والمتابعة تكشفها واحدة تلو الأخرى، حتى بلغت في الإحصاء ستًا

وهي ظواهر تتصل بشرح شعر الحماسة، تمس المتن، والمادة التي خلفها الشراح في شروحهم، وتمس الشراح أنفسهم وما نقلوه في أعمالهم مما كان ينبغي التوجه إليه بالشرح والتفسير.

ولأنها ظواهر لا تتصل بشعر الحماسة وشرحه فحسب بل يتصل بعضها بشرح الشعر القديم عامة رأينا أن نفرد لها هذا الفصل، نناقشها ونبين وجهة نظرنا فيها، وهي كما بدت لنا يمكن تصنيفها في مجموعات ثلاث. الأولى تتصل بمتن الحماسة، وتضم ظاهرتين، إحداهما: ندرة رجوع الشراح إلى الأصول في رواية المتن،

ص: 358

والأخرى تغاضيهم عن مناقشة النحل في المتن المختار من قبل أبي تمام. أما المجموعة الثانية فتتصل بالمادة التي خلفها هؤلاء الشراح، وتضم ثلاث ظواهر، إحداها: الاستطراد والتوسع في بعض عناصر الشرح، والثانية طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح، والثالثة إغفال الشاعر والعوامل النفسية الموحية له بالشعر. وأما المجموعة الثالثة والأخيرة فتتصل بالشراح أنفسهم، وتشمل على ظاهرة واحدة هي: تسلط نزعاتهم وأهوائهم في أعمالهم التي خلفوها لنا في الحماسة.

-1 -

في متن الحماسة

أ- ندرة رجوع الشراح إلى الأصول في رواية المتن:

وهي ظاهرة شملت سائر الشروح على مختلف مناهجها، إذ أن شراح الحماسة كانوا إذا عالجوا رواية المتن عالجوها من خلال نسخ الحماسة التي لديهم أو نسخ الشروح التي وقفوا عليها وأفادوا منها، فالنمري مثلًا كان كثيرًا ما يشير إلي رواية الديمرتي وغيره في شرحه، وإلى رواية شيخه أبي رياش، والمرزوقي كان يرجعنا إلى نسخ الحماسة مختلفات المصادر، كما كان ينظر إلى رواية ابن جني في كتاب "التنبيه" ويناقشها. وابن جني نفسه كان إذا ناقش الرواية ناقشها من خلال ما قرأه من أعمال شراح سبقوه، لا يشير إليهم بالاسم ولكن يدل عليهم من خلال عمله، وكذلك كان يشير إلى رواياته التي أخذها بالسماع من الشيوخ. وأبو هلال العسكري كان يناقش الرواية في غلبة عمله من وجهة نظر لغوية أو إعرابية أو غيرهما من معايير الرواية دون أن يرجع إلى أصل من أصول متن الحماسة، وما رسالته "ضبط مواضع من الحماسة" ببعيدة عنا. وأبو محمد الأعرابي كان يعتمد

ص: 359

اعتمادًا دائمًا على شيخه أبي الندى. وأبو العلاء المعري كان يشير إلى نسخ الحماسة ويقول: "ويقع في بعض النسخ كذا ...... ". أما التبريزي وغيره من أصحاب المنهج التجميعي الانتخابي فقد كان موقفهم من متن الحماسة هو موقف الشروح التي انتخبوا منها أعمالهم، وجلها مما ذكرناه آنفًا، فهم قل أن يرجعوا إلى الأصول المتمثلة في أشعار القبائل ودواوين الشعراء، ولم نجد لهم في هذا الخصوص سوى إشارات طفيفة لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها إشارة ابن جني التي مرت بنا في بيت تأبط شرًا القائل:

فأبت إلى فهٍم ولم آيبا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر

فقد قال فيه: "أن الرواية في ديوان الشاعر بالخط القديم (وما كدت آيبا) "، وإشارة ثانية له في رواية بيتين لأبي الربيس قال: إنه وجدهما بخط أبي موسى في ديوان أبي الربيس. وإشارة ثالثة لأبي هلال العسكري في القطعة التي نسبها أبو تمام إلى المثلم بن عمرو التنوخي، فقد قال فيها:"هذا الشعر في أشعار هذيل للبريق بن عياض الهذلي" وإشارة رابعة لزيد بن علي الفارسي في القطعة الأولى من باب الرثاء التي نسبها أبو تمام لأبي خراش الهذلي قال فيها: "إن هذا الشعر ليس في ديوان أبي خراش".

ونحن لا نجد تعليلًا لهذه الظاهرة سوى أنهم قد شغلوا بالحماسة وروايات نسخها عن غيرها من مجاميع الشعر ودواوين الشعراء، ولم يحاولوا أن يربطوا عملهم في متن الحماسة بمصادر الشعر الأخرى، وهي مصادر لا يمكن القول بأنها كانت غير متوفرة لديهم في ذلك الزمن، فهناك كتب وصلت إلينا كانت تشير إليها وتدل عليها، والذي يقرأ كتاب المؤتلف والمختلف للآمدي المتوفى سنة 370 هـ يجد

ص: 360

إشارات متعددة إلى جملة من دواوين القبائل ودواوين الشعراء التي كان يرجع إليها في صنعته هذا الكتاب. وكذلك يمكن أن يجد ذلك لدى المرزباني المتوفى سنة 384 هـ، فقد كان يشير إلى مصادر للشعر من صنع أبي سعيد السكري بل إن بعض هذه المصادر من مجاميع أشعار القبائل ودواوين الشعراء كانت موجودة لدى البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ، وقد أوردها ضمن مصادر كتابه الخزانة في المقدمة التي صدر بها هذا الكتاب. ومن ثم كان من المتيسر لهؤلاء الشراح أن يفيدوا من هذه المصادر في أعمالهم التي اتصلت برواية متن الحماسة بدلًا من أن يدوروا حول نسخ الحماسة وروايات الشراح فيها.

وفي إدراكنا أنهم لو فعلوا ذلك لحققوا أمرين. أحدهما: تجنب الوقوع في افتراضات لا معنى لها أثناء عملية الشرح حين يكون في الأبيات نقص ناجم عن اختيار بعض أبيات من قصيدة الشاعر وترك الباقي، وذلك كما في أبيات عمرو بن معدي كرب الواردة في باب الحماسة، فقد كان اختيار أبي تمام لها على هذا النحو:

ولما رأيت الخيل زورًا

جداول زرٍع خليت فاسبطرت

فجاشت إلى النفس أول مرٍة وردت على مكروها فاستقرت

علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

فقد أخذ الشراح يبحثون عن جواب "لما" الواردة في البيت الأول، فدخلوا في تأويلات لا طائل لها، حتى المرزوقي صاحب المنهج الإبداعي الفني وقف عندها وأطنب في القول حيث قال:"يجوز أن يكون الفاء في "فجاشت" زائدة في قول الكوفيين وأبي الحسن الأخفش ويكون جاشت جوابًا للمّا، والمعنى: لما رأيت الخيل هكذا خافت نفسي وثارت، وطريقة جل أصحابنا البصريين في مثله أن يكون الجواب محذوفًا كأنه قال: لما رأيت الخيل هكذا فجاشت نفسي وردت على ما كرهته

ص: 361

فقرت طعنت وأبليت، ويدل على ذلك قوله: "علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن

" فحذف طعنت أو أبليت لأن المراد مفهوم". ثم مضى يعدد الأمثلة من القرآن والشعر التي تدل على حذف جواب الشرط في الكلام إذا كان مفهومًا من السياق.

وتبعه في ذلك الخطيب التبريزي حيث نقل كلامه بنصه بدون أين يضيف إليه شيئًا، ولم يكلف أحد منهما نفسه بالرجوع إلى ديوان الشاعر لمعرفة ما إذا كان أبو تمام قد أسقط في روايته بيتًا من شعر الشاعر اشتمل على جواب "لما"، حتى جاء البغدادي في الخزانة فأورد أبيات الحماسة على نحو ما رواها أبو تمام ثم قال:"هذا المقدار أورده أبو تمام في الحماسة، وفي ديوانه أكثر من هذا" ثم مضى وذكر ما قاله الشراح في جواب "لما" وعلق عليه بقوله" وهذا تعسف نشأ من أبي تمام فإنه حذف بيت الجواب اختصارًا كعادته، لكن كان على الشارح مراجعة الأصل، والجواب هو البيت الثالث المحذوف وهو:

هتفت فجاءت من زبيٍد عصابٌة إذا طردت فاءت قريبًا وكرت

أما الأمر الثاني الذي كان يمكن أن يحققوه من وراء الرجوع إلى الأصول فهو معرفة ما كان يختار أبو تمام وما كان يترك، فهم قد ظلوا يرددون أن أبا تمام قد "اختطف الأرواح دون الأشباح" على حد تعبير المرزوقي، أو أن أبا تمام "في اختباره الحماسة أشعر منه في شعره" على حد التعبير الذي نقله التبريزي في مقدمة شرحه. ولكن أحدًا منهم لم يحاول أن يطبق هذه الأقوال في نص من نصوص الحماسة من خلال رجوعه إلى المصادر الأولى لشعر الحماسة، ويدل في هذا النص على ما اختاره وما تركه، ولماذا اختار ولماذا ترك؟ . إننا لم نجد شيئًا من هذا من

ص: 362

واحد منهم، وإنما وجدناه عند عالم من العلماء الذين لم يكن لهم عمل في الحماسة، وهو ضياء الدين بن الأثير الذي ولد في النصف الثاني من القرن السادس وعاش في القرن السابع حقبة من الزمن حيث توفي سنة 637 هـ، فقد تناول في كتابه "الاستدراك" هذا الجانب في عمل أبي تمام، وقال بعد أن أكد أن أبا تمام إمام الناس شعرًا ومعرفة بالشعر: "ولقد تأملت من الأشعار التي اختار كتاب الحماسة منها فوجدته دقيق النظر فيما أخذ، وما ترك، وسأذكر من ذلك قطعة واحدة حتى يتبين من ذكرته ونبهت عليه، وذلك أنه أورد في باب المراثي أبيات العتبي التي يرثي فيها بنيه وهي:

وقاسمني دهري بني مشاطرًا فلما تقضى شطره عاد في شطري

وكنت به أكنى فأصبحت كلما كنيت به فاضت دموعي على نحري

فيا ليت أمي لم تلدني

سبقتك إذ كنا إلى أمٍد نجري

وقد كنت ذات ناٍب وظفٍر على العدى فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري

ثم مضى قائلًا: "وهذه الأبيات قد اختارها من قطعة تشتمل على ثمانية أبيات فأخذ أربعة وترك أربعة

فأما الذي تركه فهو هذا:

لقد شمت الأعداء بي وتغيرت عيوٌن أراها بعد موت أبي عمرو

تجرا علي الدهر لما فقدته

ولو كان حيًا لا جترأت على الدهر

أسكان بطن الأرض لو يقبل الفدا فدينا وأعطينا لهم ساكن الظهر

فيا ليت من فيها عليها وليت من عليها ثوى فيها إلى آخر الدهر

ثم بين علة اختيار تلك وطرح هذه فقال: "وإذا وقف ناقد الشعر على الأبيات بجملتها رأى الجميع مختارًا ببديهة النظر، فإذا أفكر وأنعم نظره في المأخوذ منها والمتروك، علم حينئذ مقدار ما عند أبي تمام من نقد الشعر والمعرفة به. أما البيت الأول مما أخذه فليس في الأبيات ما يقوم مقامه لأن معناه منفرد برأسه، وكذلك

ص: 363

البيت الثاني. أما البيت الثالث فإنه مقام بيتين من المتروك هما "أسكان بطن الأرض" و "فيا ليت من فيها"، وأما البيت الرابع فإنه يقوم مقام الأول المتروك".

فمثل هذا العمل لم نجده لدى شارح من شراح الحماسة لأنهم لم يحاولوا الرجوع إلى الأصول إلى في القليل النادر الذي كان قصدهم منه فحص الرواية في بيت من الأبيات لا البحث فيما اختاره أبو تمام، ولو فعلوا ذلك ووقفوا على ما أسقطه أبو تمام من شعر الشعراء في قصائدهم التي كان ينتحل منها، ورووا لنا هذا الشعر المتروك- وإن لم يناقشوه- لأتاحوا لنا فرصة التعرف بجلاء على عمل أبي تمام في الاختيار والنظر فيه وفق هذا النحو الذي سلكه ابن الأثير.

ونحن لا ننكر أن جماعة من رواة الحماسة أو شراحها قد حاولت أن تضيف على ما اختاره أبو تمام في شعر في الحماسة مما وجدت في الكتب أو الدواوين، وهو ما نفسر به عادة الزيادات التي تؤدي إلى اختلاف الرواية في متون الشراح حين نجد تفاوتًا في عدد أبيات القطع لدى شارح وآخر، غير أن هذه الجماعة لم تكن تشير إلى هذه الإضافات وتدل عليها بل كان الواحد منها يورد ما يورده كأنه من اختيار أبي تمام، أو هكذا وجده في النسخ التي اعتمدها في عمله، ومن هنا كان صنيع هذه الجماعة مشكلًا آخر أدى إلى اختلاف في عدد أبيات القطع التي اختارها أبو تمام فضلًا عن المشكل الناجم عن اختلاف ألفاظ الأبيات على أكثر من وجه في روايات هؤلاء الشراح.

ب- تغاضيهم عن قضية النحل في متن الحماسة:

وهي ظاهرة كان السبب في لفت نظرنا إليها قطعتان من الحماسة إحداهما في باب الرثاء وهي اللامية المعروفة بلامية العرب، والتي نسبها أبو تمام إلى تأبط شرًا، وقيل: إنها لابن أخته في رثائه، ونسبها أبو الفرج في الأغاني والشريف المرتضى

ص: 364

في أماليه إلى الشنفري. والأخرى في باب النسيب صدرها أبو تمام بقوله: "وقال آخر، وقال أبو رياش: إنها مولدة".

فأما هذه الأخرى فلم نجد في شأنها سوى هذه الإشارة التي وردت عن أبي رياش والتي لم يوضح فيها لم قال هذه العبارة؟ فأبو تمام لم ينسبها إلى شاعر قديم حتى يقال فيها هذا القول. ولم يذكر أبو عبد الله النمري- تلميذ أبي رياش- شيئًا عنها

حتى أبو العلاء المعري الذي أقام شرحه "الرياشي المصطنعي" على شرح أبي رياش، لم يصل إلينا عنه شيء في أمرها. وكذلك التبريزي الذي نقل لنا قول أبي رياش لم يوضح لنا لماذا هي مولدة، وهناك آخرون وقفوا على شرح أبي رياش وأفادوا منه ورد ذكرهم في الفصول السابقة مثل زيد بن علي وأمين الدين الطبرسي، وصاحب الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء لم يولوا هذا الأمر اهتمامًا في عملهم، ونحن لا نستطيع أن نقول فيه شيئًا لأن صاحب الشعر مجهول لدينا، فأبو تمام لم ينسبه إلى أحد، ولم يبت أحد من الشراح الذي وقفنا على شروحهم في أمر نسبته، ومن ثم فإنه إذا جاز لنا أن نتكلم في هذه القطعة بشيء فهو أن رواية أبي تمام لها في الحماسة لا تدل على قدمها، فأبو تمام- كما هو معلوم- قد روى في الحماسة شعرًا قديمًا وشعرًا محدثًا، فلماذا لا يكون هذا الشعر محدثًا رواه أبو تمام، ولم يشأ أن يذكر صاحبه، فكان ما قاله أبو رياش في شأن توليده؟ ! .

غير أن الذي يهمنا هنا هو القطعة الأولى التي رواها أبو تمام ودل على أنها من شعر الجاهلية، فقد توالت إشارات الشراح إلى إنها منحولة من صنع خلف الأحمر وهي إشارات جاءت متباينة في الزمن، بدأت عند أبي عبد الله النمري المتوفى سنة 385 هـ، حين ذكر في شرحه أنها لخلف الأحمر وساق دليلًا على ذلك هو قوله:"جل حتى دق فيه الأجل" قال: "إن الإعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا". ثم جاء الإمام المرزوقي المتوفى سنة 421 هـ، ونسبها تبعًا لأبي تمام إلى تأبط شرًا، ثم

ص: 365

قال: "وذكر أنها لخلف الأحمر وهو الصحيح". ورد أبو محمد الأعرابي المتوفى سنة 436 هـ على دليل النمري السابق بقوله: "ليس هذا كما ذكر بل الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من هذا لفظًا ومعنى، وليس من هذه الجهة عرف أن الشعر مصنوع، لكن من الوجه الذي ذكرناه لنا أبو الندى قال: "مما يدل على أن هذا الشعر مولد أنه ذكر فيه "سلع" وهو بالمدينة وأين تأبط شرًا من "سلع"؟ وإنما قتل في بلاد هذيل ورمي به في غار يقال له رخمان". ونسب زيد بن علي الفارسي المتوفى سنة 467 هـ القطعة إلى الشنفرى، وأشار بأنه ابن أخت تأبط شرًا، ثم أضاف "أن المبرد قال: إنها لخلف الأحمر، إلا أنها تنسب إلى تأبط شرًا".

وأخيرًا جاء الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502 هـ بمنهجية التجميعي الانتخابي فنقل ما قاله المرزوقي وأضاف "وقيل: قال ابن أخت تأبط شرًا" ثم نقل كلام النمري ورد أبي محمد الأعرابي عليه دون أن يعقب على ذلك بشيء.

ومع هذه الإشارات التي توالت في هذه الشروح عبر فترات متباعدة، صدرت خلالها شروح أخرى تدخل في دائرة الفترة الزمنية التي حددناها لهذا البحث، فإننا لم نجد شارحًا من الشراح تناول هذه القضية بشيء من المناقشة والتفصيل وإبداء رأي قاطع فيها. فأبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ لم يصل إلينا عنه شيء فيها، وكذلك أبو العلاء المعري المتوفى سنة 449 هـ، وصحيح أن شرحي هذين العالمين لم يصلا إلينا، ولكن كلا من الشرحين كان من الشروح التي انتخب منها التبريزي شرحه، فلو أورد لأبي هلال أو لأبي العلاء كلام في هذه القضية لنقله التبريزي، ولما اكتفى بنقل كلام النمري ورد أبي محمد الأعرابي عليه، وكذلك لم يقف عند هذه القضية شراح القرن السادس أمين الدين الطبرسي

ص: 366

المتوفى سنة 548 هـ، وأبو الرضا الرواندي المتوفى بعد سنة 549 هـ، وصاحب الشرح المنسوب إلى أبي العلاء الذي رجحنا أنه من علماء القرن السادس.

إن ما قاله النمري من دليل على كون هذه القصيدة منحولة غير مقنع، وكان يستدعي الوقوف والتعليق من قبل هؤلاء الشراح لاسيما أبو العلاء والتبريزي والطبرسي الذين وقفوا على شرحه، وما قاله أبو محمد الأعرابي من أن الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من عبارة "جل حتى دق فيه الأجل" لفظًا ومعنى صحيح لا قول فيه، بدلالة ما ذكره الدكتور عبد الله الطيب المجذوب أنك:"لو فتشت عما في الشطر "جل حتى دق فيه الأجل" من معنى لم تجده يزيد شيئًا عن كلمة امرئ القيس الكندي" ألا كل شيء سواه جلل". غير أن أبا محمد الأعرابي وقد أبطل كلام النمري بما نعتبره صحيحًا، ذهب بعيدًا جدًا حين اعتمد كلام شيخه الرامي إلى أن القصيدة مولدة منحولة لأن فيها ذكر "سلع" وهو المدينة وتأبط شرًا قتل ببلاد هذيل فهذا القول أضعف بكثير مما قاله النمري، فقول النمري قد تجد له تأويلًا ومخرجًا على نحو ما فعل الدكتور عبد الله المجذوب حين ذهب إلى أن لفظ الشعر فيه لف ودوران مخالف لطريقة الجاهلية، وأن هذا ما أراده النمري من قوله" أما كلام أبي محمد الأعرابي فلا مخرج له البتة، والرد عليه- كما أفاد الدكتور ناصر الدين الأسد- لا يحتاج منا إلى أكثر من أن نفتح القاموس للفيروز أبادي أو معجم البلدان لياقوت لنجد فيه أن "سلعًا" اسم لعدة مواضع ومنها "جبل لهذيل".

ونحن لا نريد أن نخوض في غمار هذه القضية ومناقشة ما أثاره المعاصرون فيها، فقد تعرض لها بروكلمان ونقل آراء من سبقه من المستشرقين فيها وانتهى إلى الوقوف مع القول القائل بجاهليتها. وتصدى لها الدكتور عبد الله المجذوب وذهب إلى القول بجاهلية بعضها وتوليد بعضها وبحث فيها الدكتور ناصر

ص: 367

الدين الأسد في شيء من التفصيل، وانتهى إلى القول بأنها جاهلية صحيحة وليست منحولة.

لا نريد أن نتعرض بالحديث لهؤلاء الباحثين فليس هذا موضعه، وإنما نريد أن نؤكد أن هؤلاء الشراح الذي تصدوا للحماسة بالشرح قد شكلوا ظاهرة عامة في موقفهم من شأن هذه القصيدة حين اكتفى بعضهم بترديد القول القائل بأنها لخلف الأحمر، وأتى اثنان منهم بكلام لا يقوم على ساق، وكان على الشراح الذين جاءوا بعدهما أن يناقشوه ويبينوا خطأه وتهافته على النحو الذي رأيناه عند المعاصرين بعد، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأن قضية النحل في متن الحماسة لم تكن- فيما يبدو من أعمالهم- موضع بحث ودرس لديهم.

-2 -

في مادة الشروح

أ- التوسع والاستطراد

وهي ظاهرة كان رصدنا لها مستمرًا في سائر الشروح ذات المناهج المختلفة، ابتداء من المنهج الفني الإبداعي، وانتهاء بالمنهج الاختصاري التسهيلي، غير أنها جاءت على تفاوت في هذه الشروح. فالنمري الذي ركز جهوده في الروايات والمعاني كان يتوسع في إيراد المعاني فيورد للبيت الواحد أكثر من تأويل في معناه ولكنه كان لا يستطرد في عمله كما كان يفعل الشراح الآخرون. والمرزوقي بمنهجه الإبداعي الفني كان يحاول جاهدًا أن يوظف سائر العلوم في خدمة النص توظيفًا محكمًا، وقد استطاع أن يحقق ذلك في غلبة عمله، ومع ذلك فقد لاحظاناه يقع في التوسع والاستطراد في أكثر من موضع، ويكفي أن تقرأ عمله في بيتي أبي عطاء السندي اللذين يقول فيهما:

فإن تمس مهجور الفناء فربما أقام به بعد الوفود وفود

فإنك لم تبعد على متعهٍد

بلى كل من تحت التراب بعيد

ص: 368

لتدرك مدى توسعه واستطراده في مناقشته جواب شرط "إن" الوارد في صدر البيت الأول، فقد بالغ في التوسع والاستطراد في الشرح وضرب الأمثلة.

ومثل هذا التوسع والاستطراد يمكن أن تلحظه في عمله الذي أداه في شرح تركيب "وبعض الشر أهون من بعض" الوارد في بيت أبي خراش الهذلي، غير أن ما صدر عنه من توسع واستطراد كان غالبًا في مجالي اللغة والنحو. أما بقية عناصر الشرح الأخرى التي تعاطاها ي شرحه فقد كان عمله فيها يتسم بالدقة والإحكام البعيدين عن هذه الظاهرة.

أما أبو العلاء المعري فالحق أنه، ومن خلال ما وصلنا عنه في شرح التبريزي، كان أكثر الشراح توسعًا واستطرادًا، فهو في شرحه لأسماء شعراء الحماسة والأعلام الواردة في أبياتها كان كثيرًا ما يتجاوز المادة التي يناقشها إلى مواد أخرى تتصل بها، وكذلك لاحظنا منه ذلك في جملة من قضايا النحو والإعراب والعروض، فضلًا عن إسهابه المتكرر في مناقشة تأويلات المعاني وتراكيب النصوص، ولعلك حين ترجع إلى ما ذكرناه في دراستنا لشرحه "الرياشي المصطنعي" وإلى تعرضنا له بالحديث في منهج التبريزي تلميذه الذي كان يتابعه في الاستطراد والتوسع، تجد من الأمثلة ما يدل على كثرة استطراده وتوسعه، بل إنك تجد أنه لم يكن يتوسع ويستطرد في الأعمال الخاصة بنصوص الحماسة فحسب بل يتجاوز ذلك إلى التوسع والاستطراد في شرح ما كان يثيره أبو رياش في شرحه من أقوال وأخبار شعر.

ومثله في هذا ابن جني في القضايا اللغوية والنحوية التي كان يثيرها في كل من المبهج والتنبيه، والأمثلة على توسعه واستطراده كثيرة لا حصر لها. يمكنك أن تلم بها إذا نظرت في أعماله في المبهج في شرح أسماء "نهار بن توسعة" و "ريطة بن

ص: 369

عاصم) و (أمية بن أبى الصلت)، كما يمكنك أن تجدها في (التنبيه) في إثارته الخلاف بين سيبويه والأخفش وإرسال الحديث متشعبا حين ينعكس هذا الخلاف في نص من نصوص الحماسة. ولو أجريت نظرك في عمله الذي ناقش فيه بيت المنخل اليشكري القائل:

وفوارس كأوار حر النار أحلاس الذكور

لوجدت توسعا واستطرادا ملحوظا في هذا العمل.

وإذا كان ابن جني بمنهجه العلمي التخصصي قد برز لديه التوسع والاستطراد فان أبا محمد الأعرابي بمنهجه التتبعي التقويمي قد كان في بعض عمله الذي تتبع فيه أبا عبد الله النمري يقع في التوسع والاستطراد، وبخاصة في إيراده قصص الشعر وأخبار الشعراء وذكر ما فيها من شخصيات وأشعار.

أما التبريزي ذو المنهج التجميعي الانتخابي الذي يقوم على استيفاء عناصر شرحه من الشروح التي سبقته، وتقديمها في ثوب منسق مشذب، فقد رأيناه في مواضع متعددة ينجرف مع شيخه أبي العلاء في التوسع والاستطراد، كما كان يسود العديد من الصفحات بأخبار الشعر ومناسباته التي كان ينقلها من شرح أبي رياش فضلا عن جنوحه المستمر إلى النحو وما فيه من تشعب واستطراد.

إن الشراح الذين يفترض أن تكون أعمالهم خالية من هذه الظاهرة هم أصحاب المنهج الاختصارى التسهيلي، ومع ذلك فإننا لاحظنا في بعض عملهم.

ص: 370

إسهابا وتوسعا، وهو إسهاب وتوسع- وان جاء في قلة لا تخرجهم عن حد المنهج إلي ساروا فيه- فإنه دل على أن هذه الظاهرة قد كان لها أثرها في أعمالهم، وهو أمر كنا قد اشرنا إليه في دراستنا لهم في شرح كل من البياري وصاحب الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء، كما نوهنا له في دراستنا لشرح زيد بن علي في كتابنا الثاني من هذا البحث.

ويمكن القول بأنه لم يسلم أحد من أصحاب هذا المنهج من هذه الظاهرة سوى الأعلم الشنتمري الذي شرح حماسة من صنعه تعد بعيدة عن حماسة أبي تمام وإن اشتملت على جملة من نصوصها.

على أننا إذا بحثنا عن علة غلبة هذه الظاهرة على شروح شراح الحماسة وجدنا أنها ترجع إلى التأثر بأعمال الشراح الذين تخصصوا في شرح الشعر الجاهلي، فقد ذكر الدكتور أحمد جمال العمري أن شراح الشعر الجاهلي الذين ظهروا في القرن الرابع - وهو القرن الذي صدر فيه جل شروح الحماسة - قد أدركوا أن القصد من شرح الشعر هو التعليم والتثقيف إلى جانب الإمتاع. ومن ثم رأوا (أن من الواجب عليهم أن يوسعوا دائرة نشاطهم، ويحللوا، ويدققوا، ويسهبوا في شروحهم، ويستطردوا لتشمل كل ما يتصل بالنص من قريب أو بعيد، روايات وتفسيرات لغوية، وتوضيحات نحوية، وتحليلات نقدية، ونظرات بلاغية، وأخبار وأنساب وأحداث، وبذلك وضعوا أمام قارئ شروحهم وطالب عملهم مائدة ضخمة أدسم المواد العلمية التي هي حصيلة الجمع والجهد).

وإذا كان هذا هو شأن الشعر الجاهلي في القرن الرابع وفهمهم لعملية شرح الشعر فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك على شراح الحماسة من حيث إننا سبق أن أوضحنا عند حديثنا عن حركة تطور شرح الشعر عامة أن شراح الحماسة لم يكونوا بمعزل عن هذه الحركة بل إن جماعة منهم قد أسهمت- بجانب عملها في الحماسة - في شرح الشعر القديم الجاهلي والإسلامي في اختيارات غير الحماسة ودواوين الشعراء.

ص: 371

إن هذا التوسع والاستطراد الذي طرأ على حركة شرح الشعر لدى شراح القرن الرابع الهجري، هو الذي جعل الخطيب التبريزي في النصف الثاني من القرن الخامس يلبي رغبة أحد طالبي علم الأدب في صنع شرح خال من التوسع والاستطراد، ويقول مخاطبا إياه في مقدمته لشرح القصائد العشر:(وذكرت أن الشروح التي لها طالت بإيراد اللغة الكثيرة والاستشهادات عليها، والغرض المقصود منها معرفة الغريب، والمشكل من الإعراب، وإيضاح المعاني، وتصحيح الروايات وتبيينها مع الاستشهادات التي لابد منها من غير تطويل يمل ولا تقصير بالغرض يخل).

غير أن التبريزي وهو يقول هذا الكلام لأحد طلاب عصره، ويدرك حاجة الناس في زمنه إلى ترك التوسع والاستطراد في شرح الشعر لم يسلم من هذه الظاهرة. الحق أنه قد حاول في مواضع كثيرة في شرحه أن يكون مقتصدا منسقا في انتخابه من الشروح التي سبقته، ولكنه مع هذا لم يستطع التخلص من التأثير الذي تسلط عليه من قبل شيوخه الذين درس عليهم أو الشيوخ الذين قرأ أعمالهم وأفاد منها في شروحه.

وهذا الذي قلناه في التبريزي يمكن أن يقال في سائر الشراح ذوي المناهج المختلفة، وبخاصة شراح المنهج الاختصاري التسهيلي الذين أدركوا ما أدركه التبريزي، وعملوا على التخلص مما كان سائدا في شروح الحماسة وغيرها من توسع واستطراد بإثامة منهج يقوم على اختصار عناصر الشرح، وعرضها سهلة ميسرة، فهم أيضًا لم يسلموا من التأثر بهذه الظاهرة، وإن جاء هذا التأثر متفاوتًا، وفي قلة لا تقاس بأصحاب المناهج الأخرى.

ب- طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح:

لاشك أن اللغة والنحو من العلوم التي تعين على فهم النص الشعري بل هما أمران مهمان في قراءة النص قراءة صحيحة، من حيث عن القراءة الصحيحة تعد

ص: 372

أولى العتبات التي يصعدها القارئ الدارس للوصول إلى فهم النص، ولهذا استعان يهما الشراح في تحليل النص، قصدا إلى إبراز معانيه، غير أن هذه الاستعانة ينبغي ألا تكون هي الغالبة المستأثرة بجهد الشارح وكد ذهنه في عملية الشرح، هذه بديهة من البديهيات لا تحتاج إلى وقوف وإبانة، ولكننا ونحن نقرأ شروح الحماسة التي قام عليها بحثنا لاحظنا أن غلبة أصحابها كثيرا ما يجنحون إلى التفسير اللغوي والنحوي في معالجة النص، الأمر الذي يجعلهم يغضون النظر عن العناصر الأخرى وهي عناصر لها قيمتها في تحليل النص وتبيان معانيه، ومن ثم صار هذا الجنوح المطرد ظاهرة عامة انتظمت غلبة الشراح في أعمالهم التي قرأناها لهم.

ونحن هنا لا نعنى أصحاب المنهج العلمي التخصصي، لأن هؤلاء قد بنوا منهجهم في المقام الأول على معالجة القضايا اللغوية والنحوية التي تثيرها أبيات الحماسة، وإذا كان هذا هو حالهم فمن الطبيعي أن نجد اللغة والنحو يطغيان على أعمالهم ويملكان الغلبة الغالبة من جهودهم.

وكذلك لا نعنى أصحاب المنهج التتبعي التقويمي لأن أصحاب هذا المنهج يقوم عملهم - كما وضحنا من قبل - على تتبع أعمال السابقين وتقويم ما فيها من أخطاء وأوهام، فهم في أعمالهم يسيرون وفق ما يتتبعونه ويصلحونه لغة كان أو نحوًا أو روايةً أو معنىً، أو خبرًا، إلى غير ذلك من الجوانب التي تكون مثار التتبع والتقويم.

إن الشراح الذين نعنيهم بهذه الظاهرة هم أصحاب المناهج الثلاثة الأخرى: المنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي، والمنهج الاختصاري التسهيلي، فأصحاب هذه المناهج تقوم أعمالهم على صفات ومقومات لا تقتضي وجود هذه الظاهرة، لأننا لو رجعنا إلى ما قلناه في شرح هذه المناهج لوجدنا أن من أهم صفات المنهج الإبداعي الفني أنه يقوم على دعامات فنية ومقومات أدبية تتآزر وتأتلف لتخدم النص الشعري. وأن الشارح في هذا يوظف معارفه العلمية وقدراته الأدبية في فنية وابتكار توظيفا محكما تكون حصيلته النهائية إبراز المعنى

ص: 373

على أكمل وجه وأتم صورة. وبهذا لا يكون عمله مجرد تقديم مادة لغوية أو نحوية هي في واقع الأمر تحصيل حاصل أو تكرار لما قاله العلماء الأوائل.

ولوجدنا أيضا أن عمل الشراح التجمعيين الانتخابيين يقوم على جمع الشروح السابقة، وانتخاب شرح منها تكون عناصر الشرح فيه كاملة معروضة في ثوب من التنسيق والتهذيب والتشذيب بحيث لا يكون عنصر من العناصر طاغيا طغيانا يظهر للقارئ بوضوح أو يحرم العناصر الأخرى من الوجود.

ولوجدنا كذلك أن أصحاب المنهج الاختصارى التسهيلي ينبغي عليهم وقد اتخذوا هذا المنهج مرتكزًا لأعمالهم أن يعتمدوا اختصار المعلومات في الشرح مسلكًا، والتسهيل في عرضها سبيلًا بحيث يقدمون سائر العناصر التي يقتضيها الشرح ولكن في صورة تختلف عن سائر الشراح ذوي المناهج الأخرى، صورة قوامها التركيز القائم على الاقتصاد والإيجاز الموصل إلى معنى النص بأقرب طريق وفي سهولة ويسر.

وبناء على هذه المقومات والصفات التي أجملنا الحديث فيها كان جنوح أصحابها نحو اللغة والنحو ظاهرة من الظواهر التي تستحق المناقشة والتعليل.

ونحن لا ننكر أن أصحاب هذه المناهج قد حاولوا جهدهم أن يوفروا لأعمالهم سائر المقومات والصفات التي تقوم عليها مناهجهم، ولكنهم وهم يحققون ذلك لم يسلموا من أن يتغول عنصرا اللغة والنحو في بعض أعمالهم على عناصر الشرح الأخرى، وذلك بسبب ميلهم وجنوحهم نحو العمل اللغوي النحوي.

فالمرزوقي مثلا رأيناه في مواضع مختلفة من شرحه يند عنه شيء من الميل إلى اللغة والنحو إلى درجة تجعل غلبة جهده في العمل التحليلي وقفا عليهما كليهما أو أحدهما. ومن أمثلة ذلك عمله في بيت دريد بن الصمة القائل:

كميش الازار خارج نصف ساقه بعيد عن الآفات طلاع أنجد

فقد جاء عمله في هذا البيت منصبًا في غلبته على اللغة إلى درجة أنسته أن يورد

ص: 374

ما تضمنه البيت من معنى. وكذلك الحال في بيتي الصمة بن عبد الله القشيري وهما:

حننت إلى ريا ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا

فقد جاءت غلبة عمله المطلقة فيهما في مجالي اللغة والأعراب بحيث أخذ ذلك من عمله نحو عشرين سطرًا، في حين أن عرض المعنى لم يأخذ منه سوى ثلاثة أسطر. هذا فضلًا عن إغفاله تصوير الجو النفسي الذي دفع الصمة إلى هذا القول والأسلوب البلاغي الذي شمل البيتين من مخاطبة النفس بهذا العتاب في موقفيها النقيضين: مفارقتها ريا في طوع واختيار، وحنينها إليها وجزعها عليها في شوق ووله، وتسلل الشاعر بأسلوبه هذا إلى عاطفة القارئ، يحركها للتجاوب المستحب.

وإذا كان المرزوقي يجنح إلى اللغة والنحو في قلة وفي مواضع يمكن أن تحصى، فإن التبريزي ذا المنهج التجميعي الانتخابي كان جنوحه نحو اللغة والنحو مطردًا، ولقد سبق أن ناقشنا هذا الجنوح في عمله عند دراسة منهجه، حيث رأيناه في مواضع عديدة يميل في عمله إلى النحو خاصة، إلى درجة تدفعه أحيانًا إلى أن ينقل في شرحه ما أورده المرزوقي من عمل في النحو، مكتفيًا به عن سائر العناصر الأخرى، ولو قرأنا عمله في بيت سعد بن مالك الذي يقول فيه

يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط فاستراحوا

لوجدنا أن ما نقله من النحو في شرحه من الشروح التي كان ينتخب منها قد أحال تنسيق العناصر التي تغول واضح للنحو، إذا جاء نقله فيه واحدًا وعشرين

ص: 375

سطرًا، وجاء ما نقله في معنى البيت سطرًا واحدًا.

أما أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي لفلم يسلموا من سيطرة اللغة والنحو على بعض أعمالهم، فلو قرأنا شروحهم لوجدناهم مع استيفائهم صفات منهجهم في غلبة أعمالهم فأنهم في بعض الأحيان كانوا يميلون إلى اللغة والنحو، بحيث يكون لهما الغلبة على عملهم، ويكفي أن نورد مثالًا لكل واحد من هؤلاء حتى ندرك مدى جنوحهم في بعض الأحيان إلى هذين العنصريين. ففي الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء المعري نجد أن صاحبه قد وقف في بيت هشام بن عقبة الذي يقول فيه

فلم ينسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكء القرح بالقرح أوجع

ونقل عن ابن جني قوله: "يحتمل في (أوجع) أمرين أحدهما أن يكون من يوجع فحملها على الأول أقوى في الأعراب، وحملها على الثاني أقوى في المعنى، ذلك أنه إذا جعلتها من وجع يوجع كان معناه أن النكء نفسه وجع فأسندت الوجع إليه، مبالغة كقولهم: جن جنونه، وضل ضلاله، وموت مائت. والآخر أن يكون قياسه أشد إيجاعا كقولك: هو أشد إكرامًا له من غيره، غير أنه حذف همزة "أوجع" في الماضي ثم بني منه أفعل إلى معناها للمبالغة" ولم يزد على هذا العمل اللغوي البحت شيئًا يخدم به العناصر الأخرى في شرح النص التي من أهمها عرض المعنى.

وفي شرح البياري رأيناه يقف في البيت الأول من باب الحماسة القائل:

لو كنت من مازن لم تستبح ابلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

فيسود صفحة كاملة من تراكيب (لو) في حالات النفي والإثبات شرطًا وجوابًا دون أن يهتم بأن هذا يخرجه عن حد المنهج الذي رسمه لنفسه في مقدمته.

ص: 376

أما زيد بن علي فالحق أننا رأيناه أقل أصحاب هذا المنهج ميلًا إلى أن يجعل اللغة والنحو يتغولان على عمله، ومع ذلك فإن في شرحه موضعًا يشهد بتأثره بهذه الظاهرة وعدم الخروج عن دائرتها. وقد ناقشنا هذا الموضوع في الدراسة التي أقمناها حول شرحه وعناصره في الكتاب الثاني من هذا البحث.

وإذا كنا قد أرجعنا الظاهرة السابقة المتمثلة في التوسع والاستطراد إلى تأثير شروح الشعر الجاهلي التي قام بها علماء القرن الرابع الهجري. فان هذه الظاهرة ترجع كذلك إلى هذا التأثير. فأنت تستطيع أن تجد شيوع اللغة والنحو في شرح أبي بكر بن الانباري المتوفى سنة 328 هـ للقصائد السبع الطوال أو شرح أبي جعفر النحاس المتوفى سنة 338 هـ للقصائد التسع المشهورات. ويكفي أن تقرأ عمل ابن الانباري في بيت طرفة بن العبد الذي يقول فيه:

وبرك هجود قد أثارت مخافتي نواديها أمشي بعضب مجرد

أو عمله في بيت عمرو بن كلثوم القائل:

ذراعي عيطل أدماء بكر تربعت الأجارع والمتونا

لتجد أن اللغة والنحو سيطرة كاملة على عمل الرجل في شرح الشعر.

ومثل ذلك يمكن أن نجد أيضًا في مواضع مختلفة من شرح أبي جعفر النحاس.

على أننا إذا بحثنا في شأن هذه الظاهرة وتسلطها على شراح الشعر الجاهلي في ذلك القرن، وجدناها ترجع إلى أن كل العلماء الذين تتابعوا على شرح الشعر القديم كانوا من ذوي الاهتمام باللغة والنحو، فأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة

ص: 377

206 هـ أو سنة 210 هـ كان (عالمًا باللغة حافظًا لها جامعًا لأشعار العرب)، وأبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 208 هـ أو 209 هـ، أو 213 هـ (كان من أعلم الناس باللغة وأخبار العرب وأنسابها)، وعبد الملك بن قريب الأصمعي المتوفى سنة 213 هـ (كان صاحب النحو واللغة والغريب)، وابن الأعرابي المتوفى سنة 232 هـ يعد (أحفظ الناس للغات العرب)، وابن السكيت المتوفى سنة 244 هـ أو 246 هـ (كان من أكابر أهل اللغة)، وأبو حاتم السجستاني المتوفى سنة 250 هـ (كان عالمًا ثقة بعلم اللغة والشعر)، وأبو الفضل الرياشي المتوفى سنة 257 هـ، قال عنه المازني:(قرأ علي كتاب سيبويه وهو أعلم به مني)، وأبو سعيد السكري المتوفى سنة 275 هـ كان بجانب عمله في صنع الدواوين نحويًا لغويًا.

فهؤلاء جميعًا كانوا من ذوي الاهتمام باللغة أو النحو أو الاثنين معًا، وقد انعكس هذا الاهتمام على أعمالهم في شرح الشعر، ومن ثم كان من الطبيعي أن يتأثر بهم شراح القرن الرابع الهجري، وإذا علمنا أن شراح الحماسة قد وقفوا على أعمال هؤلاء العلماء الأوائل كما وقفوا على أعمال القرن الرابع الذين عاصروهم أو سبقوهم بقليل، فإن تأثير هذه الظاهرة لا بد أن يتسرب بصورة ما إلى أعمالهم في الحماسة بحيث يلحظه القارئ الدارس لشروحهم.

على أن هناك أمرًا يجب ألا نغفله ونحن نتحدث عن هذه الظاهرة وتسر بها إلى أعمال شراح الحماسة هو أن دراسة الشعر قد قامت في البداية لخدمة القرآن الكريم

ص: 378

والحديث الشريف، وكذلك الشأن بالنسبة للدراسات الأخرى في علمي اللغة والنحو، وقد ظلت هذه النظرة مسيطرة على شراح الشعر القديم بمختلف أجيالهم بالرغم من استقلال هذه العلوم وقيام كل علم منها في وحدة قائمة لذاتها لاسيما علم الشعر.

ولم يكن شراح الحماسة بمعزل عن تأثير هذه الظواهر. حقًا إننا قد لاحظنا في مختلف فتراتهم يفسرون لغة الشعر بما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف، لا كما كانت الحال عليه في البداية حين كان المفسرون للقرآن والحديث يلجؤون إلى الشعر لتفسير ما فيها من غريب تبعًا للدعوة التي وجهها عبد الله بن عباس رضي الله عنه حيث قال: إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب ولكنهم من جهة أخرى ظلوا متأثرين بهذه النظرة التي تجعل دراسة الشعر معينة على فهم القرآن والحديث بدلالة أننا نجد الخطيب التبريزي يذهب إلى هذا حيث نراه يقول في مقدمته لشرح الحماسة: (أشرف العلوم كلها علم الكتاب والسنة، وهما قطبا كل علم، وأصلا كل فهم، إذ كانا طريقًا إلى معرفة الخالق تعالى وشكر نعمته، وسبيلًا إلى إدراك السعادة والفوز بجنته، ولا يصح حقيقة معرفتهما إلا بعلم الإعراب الدال على الخطأ من الصواب، وعلم اللغة الموضحة على حقيقة العبارات، المفصحة عن المجاز والاستعارات وعلم الأشعار، إذ كان يستشهد بها في كتاب الله عز وجل وفي غريب أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم.

فلا شك أن هذه النظرة التي ظلت مسيطرة على شراح الحماسة إلى زمن التبريزي، المتوفى في مطلع القرن السادس الهجري هي التي جعلتهم يجنحون دائمًا إلى اللغة والنحو في أعمالهم التي عقدوها حول الحماسة من حيث إن دراسة القرآن والحديث قد ربطت بين علوم الإعراب واللغة والأشعار وجعلتها تسير مجتمعة في خط

ص: 379

واحد لخدمة غايتها فهم القرآن والحديث، فهذا الربط بين الشعر واللغة والنحو هو الذي أدى إلى تغول اللغة والنحو أحيانًا في عمل شراح الحماسة، فضلًا عن اهتمام شراح الشعر بهذين العلمين، وتخصص الكثيرين منهم فيهما.

ج- إغفال الشاعر والعوامل الموحية له بالشعر:

لعلنا لاحظنا من خلال دراستنا لهذه الشروح أن اهتمام الشراح فيما يتصل بالشاعر كان موجهًا إلى دراسة اسمه فحللوه لنا لغويًا وبينوا ما هو مرتجل منه وما هو منقول، وأثاروا كل ما يتصل بذلك من قضايا لغوية وصرفية واشتقاقية، كما كان موجهًا إلى نسبه فأوردوه لنا إلى آخر جد وصلوا إليه في عمود النسب المتصل بقبيلته، وموجهًا أيضًا إلى القصص والأخبار التي اتصلت بما قاله من شعر فسودوا الصفحات العديدة بالأخبار المطولة التي تعج بالأسماء والأنساب والأمثال والأشعار. أما الشاعر نفسه فلا وجود له في أعمالهم، نعنى الشاعر الإنسان الذي له وجوده في شعره، وهو الوجود الذي تشير إليه عواطفه ومشاعره، ويدل عليه عقله وتفكيره والخط النفسي الذي يسير فيه أثناء بناء شعره ومعالجته لموسوعاته وعرض أفكاره ومعاينه في هذه الموضوعات، وبناء صورة وأخليته التي يؤدي بها هذه الأفكار والمعاني، وفنيته وإبداعه في صنعه الشعر بما يبرز خصائصه التي تميزه عن شعراء عصره، وربط ذلك كله بثقافته التي ألم بها وبالبيئة التي وجد فيها والمجتمع الذي عاش فيه. كل هذه الأمور التي تجعلنا نعيش مع الشاعر ونلمسه في خطوات تحليل النص أهمل الشراح النظر فيها وفي شروح نصوص الحماسة.

وهذه في واقع الأمر ظاهرة لا تمس شراح الحماسة فحسب، بل تشمل سائر شراح الشعر القديم. وقد أفاد عنها الدكتور أحمد جمال العمري حين ذكر أنه لم يجد لدى الشراح القدامى من يهتم بقصد الشاعر أو دراسة العوامل المؤثرة الموحية بقول الشعر أو دراسة الخط النفسي في القصيدة، أو دراسة الخصائص المميزة لشعره. وعلل ذلك بأن "طبيعة العصور القديمة والظروف العلمية والثقافية فيها لم تكن تلتفت إلى هذا الأمر من قريب أو بعيد، لأن كل ما يهم الشارح وقتئذ هو المادة

ص: 380

الفنيّة، النسيج الشعري وحده، تحاول أن تعرفه وتحلله وتقومه خدمة للعلم أولًا وقبل كل شيء).

وإذن فنحن لا نتوقع أن يخرج شارح من شراح الحماسة عن المسار الذي سار فيه شراح العصور الأولى للأدب أو شراح عصره، وأن يتجاوز الظروف العلمية والثقافية المحيطة به والتي توارثها أجيال العلماء إلى نهج مغاير في شرح النص يحيل عملية الشرح إلى تحليل فني يجعلنا نحس بوجود الشاعر في كل خطوة من خطواته، نلمس من خلال عواطفه وعقله ومواقفه التي أوحت له بالشعر، ندرك غرضه ومقاصده وإبداعه وخصائصه الدالة عليه.

ومن المؤسف حقًا أن شراح الحماسة بعد القرن السادس، الذي كان قرن تجميع وانتخاب أو اختصار وتسهيل قد ساروا إلى جمود، يكررون ما قاله السابقون اختصارًا أو تطويلًا، ويدورون حول ما دار فيه الشراح الأوائل، ويرددون أقوال شيوخهم الذين قرؤوا عليهم كتاب الحماسة دون أن يعلموا أن هذه الأقوال هي حصيلة أعمال السابقين أخذها شيوخهم، ولم يزيدوا عليها شيئًا أو يخرجوا إلى رحاب أوسع في عملية الشرح، ولا أدل على هذا القول من شرح مجهول المؤلف كنا قد أشرنا إليه في ثبت شروح الحماسة، ذكر صاحبه في خاتمته أنه قد فرغ منه في الخمس من ربيع الأول سنة 1135 هـ، أي بعد خمسة قرون وبضعة عقود من الفترة التي حددناها لهذا البحث. ننظر في هذا الشرح فنجد صاحبه لم يصنع فيه شيئًا سوى أنه سلخ أقوال المرزوقي في شرحه وأقوال غيره من الشراح الأوائل بدون أن يدل عليهم أو ينص على أنه يأخذ منهم، قال في بيت ربيعة بن مقروم الذي يقول فيه:

أرجيته عني فأبصر قصده وكويته فوق النواظر من علِ

(ذكر بعض المتأخرين في (أرجيته) الرواية (أوجيته) وما عداه تصحيف) وهي عبارة المرزوقي التي سبقت الإشارة إليها في دراسته يوردها هذا الشارح دون أن

ص: 381

يعلم أن المرزوقي قد عنى بقوله بعض المتأخرين ابن جني معاصره.

إننا لا ننكر أن الشراح الأوائل قد قدموا خدمات جليلة لديوان الحماسة وفق معطياتهم، ووفق الظروف الثقافيّة والعلمية التي كانت محيطة بهم، ولكن إغفال الشاعر والانصراف عنه إلى مسائل لغوية ونحوية وإخبارية، وترك مراميه ومقاصده، وإبراز عواطفه وخطه النفسي في بنائه الشعري، والوقوف عند خصائصه ومميزاته أمر كان ينبغي التنبه له في عملية تحليل الشعر وشرحه، لأن فصل الشاعر عن شعره لا يعطي القارئ الدارس الصورة الكليّة التي ينبغي أن يخرج بها من قراءته لتحليل النص. ولهذا رأينا عددًا من العلماء في عصرنا هذا الحديث ممن اشتغل بالحماسة يحاولون إعادة شرحها من جديد، فعل ذلك الشيخ سيد علي المرصفي في سنة 1912 م، حين أخرج للقراء الجزء الأول من كتابه ((أسرار الحماسة)) وقال في مقدمته، مشيرًا إلى صنيع الشراح الأوائل في اختيار الحماسة:(ولست في تفسير معانيه وبيان مغازيه متبعًا لقوم مدوا أيديهم على ذلك الديوان بالكتابة، وظنوا أنهم فوقوا سهام الصواب، وقد أخطؤوا غرض الإصابة، فكثيرًا ما يخلطون في أوضاع اللغة ولا ينتبهون، ويخلطون في بيان ما تقصده أدباء الشعر وما يشعرون، ملؤوا كتبهم ببضاعة الإعراب والبناء، وتحقيق ما نحاه ابن خروف أو انتحاه الفراء)).

وفعل ذلك أيضًا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي أشرنا إلى أنه كان يدرس لطلابه بجامع الزيتونة شرح المرزوقي على ديوان الحماسة، ثم عدل عن ذلك فاصطنع للديوان شرحًا من تأليفه. وفعل نحوًا من هذا الأستاذ علي النجدي ناصف حين ذيّل دراسته لحماسة أبي تمام بتحليل قطع منها نحا فيها منحى المرصفي في جعله عناوين للقطع التي حللها، وسلك في تحليله مسلكًا مغايرًا لمسلك المرصفي، ومسلك كل الذين لهم في الحماسة عمل. إنه مسلك أشبه بالتحليل

ص: 382

الفني المعاصر الذي رأيناه عند علمائنا الأدباء مما عنوا بدراسة الشعر القديم وتحليله.

وفي إدراكنا أن هؤلاء العلماء: المرصفي وابن عاشور والنجدي، الذين اتجهوا إلى الحماسة بالشرح والتحليل في زماننا هذا ما فعلوا ذلك إلا لأنهم أحسوا بأن ما قدمه الشراح الأوائل من جهود في خدمة هذا الاختيار - مع ما فيه من فضل وعلم لا ينكر- فإنه يحتاج إلى إعادة نظر ومسلك مغاير ورؤية للشاعر الحماسي غير الرؤية التي ارتآها هؤلاء الشراح، ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إننا بالرغم من وقوفنا كذلك على أعمال بعض هؤلاء المعاصرين، فإن اختيار الحماسة لا يزال يحتاج - في رأينا- إلى من يتصدى له بالشرح والتحليل، وذلك وفق ما انتهى إليه الباحثون في عصرنا هذا بثقافتهم المتنوعة وبرؤيتهم المتجددة للأدب ودوره في الحياة، وبنظرتهم الصائبة في التراث الأدبي القديم وتنقيته وبعثه من جديد في صورة تلائم العصر والحياة التي وصل إليها قراء العربية في هذا القرن العشرين.

ولا شك أن التصدي بالشرح والتحليل لاختيار الحماسة وفق ما ذكرناه سيكون له أثره في انتفاء هذه الظواهر التي رأيناها في مواد شروح الشراح لاسيما ظاهرة إغفال الشاعر ومقاصده في الشعر والمواقف النفسية الموحية له به.

ص: 383

-3 -

في الشراح

تسلّط نزعاتهم في عمليّة الشرح:

وهي ظاهرة لاحظناها في سائر أعمال الشراح ذوي المناهج الواضحة، فلقد وقفنا عندها في عمل المرزوقي في نزعته إلى التعالي والتفرد من جهة، وإتباعه هواه النفسي ومزاجه من جهة أخرى، وكلا الأمرين كان لهما تأثير واضح في عمله الذي اتصل بالحماسة.

فأما نزعته إلى التعالي والتفرد فقد تسلّط عليه إلى درجة جعلته يستهين بشراح الحماسة الذين سبقوه، لا يذكرهم في شرحه حين ناقشهم بل يشير إليهم بإشارات مبهمة غامضة لا تدل عليهم مثل (وقال بعضهم) أو (وروى بعضهم) وكذلك جعلته يستهين بمعاصرين مثل ابن جني الذي كان يتعرض له مناقشًا بدون أن يسميه في شرحه، وهذا بطبيعة الحال قد حرمنا من الوقوف على مصادره التي اعتمد عليها في شرحه والتي تتصل بالحماسة مما قام به شراح سابقون له في الزمن أو معاصرون له.

وأما إتباعه هوى نفسه ومزاجه في شرح الشعر فقد أثر تأثيرًا واضحًا في خطه العملي لشرح النصوص، وقد تعرّض إلى هذا الجانب في عمله الدكتور أحمد جمال العمري حيث ذكر أن المرزوقي (أخضع الشرح للعامل النفسي والمزاجي، فإذا أعجبه نص جال وصال، وظل يدور حوله ذاكرًا أشياء كثيرة وطويلة، أما إذا لم يعجبه فقلما يعيره التفاتًا، وأحيانًا لا يفسره، وكان يجب عليه أن يتجرد من أهوائه وعواطفه أمام النص، وأن يكون محايدًا لأنه عالم

والعلم يجب أن ينظر إليه بعيدًا عن الأهواء).

وأما ابن جني فقد تسلطت عليه نزعة الجنوح المستمر إلى اللغة والنحو فأخضع النصوص الشعرية إلى هذه النزعة فما أثار من نصوص الحماسة قضية لغوية

ص: 384

أو نحوية أو عروضيّة وإظهاره بمظهر العالم العاجز الذي يتصف بالغباوة والجهل وتسويد الهذيان، في حين أن النظرة تصدى له وناقشه وحلله، وما لم يكن فيه ذلك أهمله وتغاضى النظر حتى عن روايته، ومن ثم حوّل اختيار أبي تمام الأدبي إلى عمل بعيد كل البعد عن الأدب ومجاله.

ونحن نعترف بأن الرجل قد قدم عملًا طيبًا في خلال المجال الذي اصطنعه لنفسه وأفاد فوائد جمة في عنصري اللغة والنحو، ولكن هل هذا هو كل ما ينبغي عمله في اختيار شعري قام على الجودة وخلفه شاعر فذ يعد زعيم مدرسة الشعر؟ ! .

وأما أبو محمد الأعرابي فقد تسلطت عليه نزعة التحدي وإظهار سقطات السابقين، فدفعته هذه النزعة إلى تزييف أعمال النمري في الحماسة العلمية الصحيحة كانت تحتم عليه أن يعرض للرجل فيما أصاب وفيما أخطأ، وأن يورد كلامه كاملًا بدون حذف أو تحوير حتى يتسم نقده له بالموضوعية وسلامة الرأي وحتى يتيح لنا الوقوف على كلاميهما معًا لنرى عمله وعمل النمري ونحكم إن كان ما تصدى به صوابًا أو غير صواب. أما أن يعمد في أكثر من موضع وبدافع من نزعته هذه إلى بتر كلام الرجل وتحويره وفق الوجهة التي يريدها فهي طريقة تبعد عن الموضوعيّة وتنأى عن سبيل العلم القويم، وكذلك تسلطت عليه نزعاه الدائمة نحو ما أخذه عن شيخه أبي الندى والتسليم به في صورة تدعو إلى الدهشة، وهذه النزعة جعلته في عمله الذي أداه في الحماسة مثل شيخه أبي الندى يخضع نصوص الحماسة وفهمها والقدرة على شرحها وتحليلها إلى عملية قصصية إخبارية بحته هي في واقع الأمر تمثل جزءًا من التحليل والشرح وليست التحليل كله.

وأما التبريزي فقد رأيناه ذا نزعتين: نزعة تجعله يهتم كثيرًا باللغة والنحو، ونزعة تجعله ينساق وراء شيخه أبي العلاء فيما خلفه من عمل وما أخذه عنه أيام تلمذته له، ولقد أدت النزعة الأولى إلى كثير من الخلل الذي جاء في مواضع شملت سائر أجزاء شرحه، قصر جهده فيها على النحو واللغة دون عناصر الشرح

ص: 385

الأخرى حتى إن الدارس ليبحث عن معنى النص في هذه المواضع فلا يجده لأن نزعة الشارح قد قصرت العمل فقط على النحو أحيانًا واللغة أحيانًا أخرى. وأما النزعة الثانية فقد جعلت عمله مختل المنهج من حيث إن منهجه يقوم على انتخاب عناصر شرح النصوص من الشروح التي أمامه وعرضها في صورة متكاملة منسقة متآزرة لا يطغى عنصر فيها على العناصر الأخرى، فكانت نزعته نحو شيخه أبي العلاء وتأثره الواضح به قد دفعت به في كثير من المواضع إلى الاستطراد المخل لا فيما قاله أبو العلاء في شرحه لنصوص الحماسة بل في استطرادته البعيدة عنها حين كان يتعرض إلى ما ذكره أبو رياش في شرحه من أشعار فيتصدى لها بالشرح والتوضيح من جهة لغوية وغير لغوية.

وأما أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي فلقد رأينا أحدهم، وهو صاحب الشرح المنسوب لأبي العلاء، ينزع إلى عمل ابن جني في التنبيه، فينقل منه حتى كاد يخرج بعمله عن الحد الذي رسمه لمنهجه، وهو منهج قائم، كما رأينا، على تقديم عناصر الشرح في اختصار وتسهيل، فكان نزوعه المتفاوت نحو ابن جني مؤديًا إلى خلل في مواضع من شرحه، وخارجًا بها عن الخط الذي ينبغي أن يسير فيه.

وهكذا نرى من خلال هذه الملاحظات التي كنا قد تعرضنا لها بالتفاصيل والشرح عند دراستنا لعمل كل شارح أن نزعات هؤلاء الشراح قد شكّلت ظاهرة عامة كان لها تأثيرها الواضح في عمّلية الشرح وهي نزعات وإن تباينت في الموازنة بين شارح وآخر، فإن النتيجة التي أدت إليها في عمليّة الشرح كانت واحدة هي قصور في الشرح أو خلل في المنهج.

وخاتمة القول في هذه الظواهر وما طرحناه فيها من قول أنها ظواهر رأيناها من خلال عملنا في هذه الشروح، جمعناها في هذا الفصل وعكسنا بالرأي وجهات نظرنا فيها، وهي وجهات نظر قد تكون مثار خلاف، إذ قد يقول قائل: إننا قد ركبنا في بعض آرائنا جواد الشطط حين حكّمنا على أعمال هؤلاء القدماء معايير في التحليل والشرح لم تجل في فكرهم في ذلك الزمن، وإنما هي نتاج ثقافي وأدبي ونقدي طرأ على الأعمال الأدبية في هذا العصر الحديث. ومن التعسف النظر إلى تقويم عمل قديم

ص: 386

وفق معايير حديثة، ولكنا نقول: إن مثل هذا القول قد يكون صحيحا لا سبيل إلى رده إن كنا قد حكمنا هذه المعايير في الأعمال ذاتها، وإنما نحن بنظرنا إلى عملية الشرح وفق حركة شرح الشعر في ذلك الزمن، وما تمخض عنها من عناصر للشرح، ووفق مناهج هؤلاء الشراح التي سلكوها في أعمالهم، وبناء على ذلك أعطينا كل ذي حق حقه، ولكنا ونحن نقوم بهذا لم نغفل أمرين أحدهما رؤيتنا الحديثة في تحليل الشعر وشحره، والآخر متن الحماسة الذي يضم شعرا يعد جزءا من تراث أدبي خالد تقرؤه أجيال الأمة في كل عصر من عصورها، ولهذا كان يتحتم علينا أن نلحظ ما ينبغي عمله في خدمة هذا المتن، وأن نحلل ذلك ونناقشه وفق رؤيتنا المعاصرة تجاوبًا مع النظرة الحديثة إلى التراث الأدبي والدعوة إلى دراسته وتمحيصه وعرضه في ثوب جديد يتلاءم مع ثقافة الأمة المعاصرة متوخين من ذلك أن يتصدى الباحثون في زماننا هذا إلى الحماسة، كما تصدى لها العلماء القدماء في أجيالهم المتعاقبة، حتى نستطيع أن نقدم لأجيالنا الحاضرة وأجيالنا المقبلة أعمالا في متن الحماسة تقرؤها هذه الأجيال فتحس بعظمة هذا التراث الأدبي وإبداع الشعراء الأوائل في قول الشعر وتفيد من ذلك كله في حياتها الفكرية والثقافية والأدبية.

ص: 387

خاتمة ونتائج

ص: 389

والآن وقد وصلنا إلى نهاية الكتاب نود أن نجمل منجزاته من خلال عرض أهم ما أشتمل، وما خرجنا به فيه.

لقد بدأ بدراسات ممهدة ضمناها فصلين قام الأول في اختيار أبي تمام لديوان الحماسة وصنيعه فيه، حيث وقفنا عند اهتمامه بالاختيارات الشعرية وإذاعتها في كتب مميزة تميز بها عن سائر الشعراء الذين سبقوه، وناقشنا الزمان والمكان اللذين صنع فيهما هذه الاختيارات فتعرضنا لروايتين في هذا الخصوص، الرواية التي تقول بأنه قد صنع خمسة اختيارات في دار آل سلمه عندما حصره الثلج بهمذان، والرواية التي تقول: بأنه قد صنع ثلاثة اختيارات فقط، وناقشنا آراء الباحثين في الرواية الأولى وانتهينا إلى ترجيح أن أبا تمام قد صنع بهمذان ثلاثة اختيارات هي: ديوان الحماسة، والوحشيات، واختيار شعراء الفحول. أما بقية الاختيارات الأخرى فقد رجحنا أنه ظل يواصل العمل فيها بعد رحيله من همذان متنقلًا من مكان لآخر حتى انتهى به المطاف في الموصل حيث كانت وفاته سنة 232 هـ.

ثم انتقلنا بالدراسة إلى ديوان الحماسة حيث ناقشنا روايته ووصوله إلى أيدي العلماء الشراح، وانتهينا إلى أنه بجانب النسخة التي خلفها أبو تمام في دراسة آل سلمه بهمذان والتي حملت فيما بعد إلى علماء أصبهان، فإن ديوان الحماسة قد أخذ مشافهة عن أبي تمام، أخذه أبو المطرف الأنطاكي، وأنشده لكل من أبي رياش أحمد بن إبراهيم، والحسن بن بشر الآمدي. وعن طريق هذين العالمين أخذ العلماء ديوان الحماسة، وتواترت الرواية بين أجيالهم من هذه السبيل. ثم عرضنا بعد ذلك إلى طريقة أبي تمام في تصنيف أبواب هذا الاختبار، وانتهينا إلى أنها عشرة أبواب لا أحد عشر بابًا كما جاء في شرح المرزوقي المطبوع الذي وجدنا فيه باب الأضياف والمديح

ص: 391

بابين لا بابًا واحدًا. ورجحنا أن يكون قد وقع من نساخ شرح المرزوقي، لا من المرزوقي نفسه، وأتينا بالأدلة على هذا الترجيح. وعرجنا بالبحث بعد ذلك إلى اختيار القطع في هذه الأبواب، فلاحظنا خللًا فيها نجم عن رواية بعض الشعر في باب لا يدخل في حده، وذهبنا إلى أن هذا الخلل لا يمكن تعليله باختلاف نسخ الحماسة وروايتها، وإنما أبو تمام هو وحده المسؤول عنه، وإن ذلك وقع منه بسببين أحدهما: أن أغراض الشعر لم تكن قد تبلورت بعد في عصره بالصورة التي نراها اليوم فهو رائد في تصنيف الشعر تحت هذه الأبواب. والثاني أنه كان يراعي في الباب الواحد مشاكله القطع في بعض المعاني، وإن خرجت عن الحد الذي يقوم عليه الباب.

وانتقلنا بعد هذا لمقياس الاختيار عنده، وانتهينا إلى أنه مقياس جمالي فني جعله يختار بعض الشعر من شعر الشاعر ويترك بعضه الآخر، وإن هذا المقياس كان وفق المعايير النقدية التي انتهى إليها العلماء النقاد للجيد من الشعر في ذلك الزمن، ولاحظنا أنه بالرغم من أن الكثرة الغالبة من شعر الاختيار لم تخرج عن حد الجودة فإن بعض الشعر الذي ضمه الاختيار لم يسلم من انتقاد بعض المتأدبين من الكتاب مثل ابن العميد وضياء الدين بن الأثير. كذلك تعرضنا بالمناقشة إلى ما رآه علي النجدي ناصف أن أبا تمام قد أسقط باب الاعتذار من اختياره، وتمنيه لو أنه كان قد أسقط باب الملح وجاء بالاعتذار بدلًا منه معتمدًا في هذا التمني على أن الاعتذار فن كريم القول وان الملح فيها كثير من الخنا والتصريح بالعوراء، وبينا أنه بتمنيه هذا يريد من أبي تمام أن يأخذ بالمقياس الأخلاقي، وهو أمر لم يرده أبو تمام ولا رمي إليه من اختياره.

ثم عرضنا بعد ذلك إلى شعراء الحماسة فلاحظنا أن أبا تمام قد عني في اختياره بالشعراء المقلين والمجهولين، وأكدنا أن غايته من هذا هي أن الشعراء المكثرين أو المعروفين قد تداول الناس دواوينهم قبل عصره واهتمت بهم كتب الاختيارات، كما لاحظنا أنه قد اختار لشعراء جاهليين وإسلاميين وأمويين وعباسيين، غير أن كثرتهم كانت من الجاهلين أو المخضرمين، ومن هنا كانت أهمية الاختيار بالنسبة لعلماء

ص: 392

اللغة الذين وجدوا فيه معينًا لا ينضب في الاستشهاد بما فيه من شعر في تفسير اللغة والاحتجاج بصحتها، ووقنا أيضًا على رأي بعض الباحثين أن أبا تمام قد أكثر الاختيار لشعراء قبيلته فإن اختياره لشعرهم لم يخرجه عن حد مقياس الجودة الذي بني عليه اختياره بل أكدنا أن بعض شعر قبيلته مما اختاره يعد أبلغ ما ضمت بعض أبواب الاختيار من قول. ومن ثم فلا مجال للقول بعصبية الرجل في اختياره. كما عرضنا للدعوى القائلة بأن أبا تمام قد قصد من اختياره لشعر المقلين والمجهولين إخفاء أكثر إحسان الشعراء لأنه سرق منه بعض معانيه، وطوي بعضه الآخر ليجعله عدة يرجع إليها في وقت الحاجة، ورجا من وراء ذلك أن يترك أهل المذاكرة أصول أشعارهم على جوهها ويقنعوا باختياره لهم فتبغي عليهم سرقاته، وقد بينا خطل هذه الدعوى وتهامتها من وجهين أحداهما: أن اختيار الحماسة حوى جملة من الأشعار التي استمد منها أبو تمام بعض معانيه، فلو انه كان يتوخى إخفاء الأشعار التي كان يأخذ منها معانيه لأخفي هذه الأشعار الواردة في اختياره. والآخر أن أبا تمام ليس وحده الذي كان يمتلك أشعار المحسنين حتى يحجبها عن الناس بقصد إخفاء أخذه منها أو بقصد جعلها عدة يرجع إليها عند الحاجة.

وأخيرًا عرضنا في هذا الفصل لأهم قضية تمس اختيار الحماسة وهى تلك الدعوى التي أثارها كل من ابن العميد وأبي علي المرزوقي، أن أبا تمام كان يغير في ألفاظ نصوص الحماسة، يزيل ما فيها من عوار بما يناسب ذوقه ونقده، وناقشنا ذلك باستفاضة وعرضنا رأي من أدلى فيها بقول، وانتهينا إلى أن أصحاب هذه الدعوى لم يأتوا بدليل واحد يؤكد صحة ما ذهبوا إليه، وان الأمر لا يعدو أن يكون مجرد اختلاف في روايات النص، كان أبو تمام يقارن بينها فيختار منها ما يتفق مع ذوقه ونقده، كما بينا أن اختلاف الرواية ظاهرة لا تشمل اختيار الحماسة فحسب بل تشمل سائر الاختيارات الشعرية ودواوين الشعراء، وقد أتينا بما يؤكد هذا القول ويدعمه وذلك من خلال دراسة لنماذج من المفضليات والأصمعيات، وهما الاختياران اللذان اتفق أهل العلم والدراسة في الأدب على أنهما أوثق مصدرين وصلا إلينا في الشعر القديم ثم وقفنا تبعًا لذلك عند رأي الدكتور ناصر الدين الأسد

ص: 393

في رفض اختيار الحماسة مصدرًا من مصادر الشعر الجاهلي بحجة أن ديوان الحماسة ليست فيه رواية تعتمد على سند معروف، وبحجة الدعوى التي قال بها كل من ابن العميد والمرزوقي بأن أبا تمام كان يغير في النصوص الشعرية، فناقشنا هذا الرأي وأوضحنا وجهة نظرنا المتمثلة في أن المخطوطات التي وقفنا عليها قد أفادت بأن كتاب الحماسة بجانب وصوله إلى العلماء عن النسخة التي تركها أبو تمام في بيت آل سلمه بهمذان، فإنه قد أخذ شفاهة عن أبي تمام نفسه أخذه عنه أبو المطرف الأنطاكي وآخذه العلماء الشراح من هذه السبيل، كذلك بينا أن لا مجال للقول بأن أبا تمام لم يأخذ شعر الحماسة رواية من أحد، لأنه اختاره من مجاميع شعر القبائل ودواوين الشعراء التي صنعها العلماء الرواة المصححون للشعر القديم، فأخذه عن هذه المجاميع والدواوين يعد في حد ذاته توثيقًا لما اختار، ولقد حرصنا في هذا الخصوص أن نؤكد أن من الخير لدارسي الأدب في زماننا هذا الأخذ برأي علماء اللغة الذين وثقوا بما روى من شعر في الحماسة واعتبروه حجة يدعمون بها تفسيراتهم في اللغة فهو خير بكثير من الانسياق وراء دعاوي وأوهام لا تقوم على ساق في مجال الحجج والبراهين.

هذا أهم ما عرضنا إليه بالدراسة في الفصل الأول. أما الفصل الثاني فقد تناولنا فيه حركة شرح الشعر وتطوره حتى ظهور شروح الحماسة، فرسمنا صورة لما كان عليه شرح الشعر في عصر ما قبل الإسلام وهو العصر الذي لم يكن الناس فيه في حاجة إلى شرح الشعر، لأن الشاعر في ذلك الزمن لم يكن مفصولًا عن متلقي شعره بحاجز زمني أو مكاني إلا في حالات خاصة حين يعمد الشاعر إلى استخدام تركيب أو تصوير فني يتجاوز فيه حد المألوف لديهم، فيتولى توضيحه وتفسيره أو يتولى عنه ذلك رواة شعره، ولاحظنا أيضًا أنه لما جاء الإسلام كانت الحاجة إلى شرح الشعر مثل سابقتها في الجاهلية لم تتجاوز في مطالبها تفسير لفظة أو تركيب غير مألوف، أو خبر متصل بالشعر ذاته أو قائله. غير أنه لما بدت عناية المسلمين بالقرآن وحاجته إلى فهم لغته ومعانيه بدأت عناية خاصة بالشعر لحاجتهم إليه في تفسير القرآن والحديث الشريف، ولاحظنا كذلك أن هذه العناية قد صحبتها عناية أخرى من القبائل حين استقرت في الأمصار الإسلامية، وبدأت مراجعة أشعارها في الجاهلية، ورواية هذه

ص: 394

الأشعار، فاقتضت هذه العناية تفسير الأحداث التي صاحبت هذه الأشعار بل تجاوز المر ذلك إلى تفسير بعض ألفاظه ومعانيه. كذلك لاحظنا أن عناية ثالثة بدأت على يدي علماء متخصصين في رواية الشعر وتدوينه، وأكدنا أنه وإن كان شرح الشعر غير مقصود لذاته في تلك الفترة التي بدأ فيها الجمع والتدوين فإنه قد خطا على يدي هؤلاء العلماء الرواة الأوائل خطوات أدت إلى توسع في عناصره إذ تجاوز ما كانت عليه الحال في الجاهلية وأول الإسلام إلى البحث في رواية الشعر وما فيها من اختلافات وذكر مناسباته وإخبار قائليه، بل امتد حتى شمل البحث في عيوبه والحكم على الشعراء والمفاضلة بينهم.

ثم وقفنا عند صنيع طبقات العلماء المتوالية في شرح الشعر فلاحظنا أن الطبقة الثانية من العلماء قد اعتمدت على ما أخذته من الطبقة الأولى، ولم تقف عند نقله فحسب أو أضافوا إليه ما اعتبروه تصحيحًا لخطأ، أو توجيهًا لرأي، أو سدًا لنقص. وكذلك كان حال الطبقة الثالثة، الأمر الذي أدى إلى إثراء حركة شرح الشعر بالفيض الغزير في عناصر الشرح المختلفة، كما لاحظنا أيضًا أنه قد بدأ شيء من التخصص لدى هذه الطبقات الأولى من العلماء، تخصص بعضهم في الغريب، وبعضهم في النحو، وبعضهم في الأيام والأخبار والأنساب. ثم رأينا توالي طبقات العلماء المهتمين بشرح الشعر، وبداية اتجاه مغاير للسابقين في عملية شرح الشعر حيث نشأ لدى بعض الشراح ما يمكن أن نسميه بالشرح الأدبي الذي يعالج المعاني ومقاصد الشعراء فيها، ويركز كل همه في هذا المدار لا يتجاوزه إلى اللغة وما فيها من اشتقاقات، أو النحو وما فيه من مشكلات.

وسجلنا أيضًا أنه إذا كان شرح الشعر قد بدأ عند علماء الطبقة الأولى والثانية وتلاميذهم ذا مقصد تثقيفي فإنه قد تحول عند الطبقات التي تلت هؤلاء العلماء، ومع ظهور شروح الحماسة إلى مقصد تعليمي، توسعت بسببه دائرة شرح الشعر فأصبحت على شيء غير قليل من التعمق في دراسة اللغة وقضاياها والنحو ومسائله، والرواية واختلافاتها، والمعاني وتأويلاتها، إلى غير ذلك من العلوم التي يقوم عليها شرح الشعر.

ص: 395

كذلك سجلنا أن شروح الحماسة عندما ظهرت إلى حيز الوجود كانت متأثرة بجميع ما طرأ على شرح الشعر عامة، لأن هؤلاء الشراح الذين تصدوا لشرح حماسة أبي تمام لم يكونوا بمعزل عن حركة شرح الشعر عامة، ومن ثم لاحظنا أنهم قد شغلوا حيزًا غير قليل بآراء العلماء السابقين أمثال الخليل والأصمعي وأبي عبيدة وابن العرابي والأخفش وغيرهم، كما لاحظنا فيهم شيئًا من التخصص في عنصر من العناصر التي يقوم عليها الشرح، إذ رأينا منهم من كان يهتم بالغريب من اللغة ويعالجه في بعض أعماله مثل أبي العلاء المعري. ومن كان يهتم بالنحو وما فيه من عويص مثل أبي الفتح ابن جني. ومن كان يهتم بالأخبار التاريخية ومناسبات الشعر وما يتصل بذلك من أيام وأنساب مثل أبي رياش. ومنهم من كان يهتم بالمعاني وما فيها من تأويلات مثل أبي عبد الله النمري. كما رأينا من حاول أن يجمع بين هذه العناصر جميعها في تفوت ملحوظ مثل أبي علي المرزوقي.

كذلك لاحظنا أنهم ساروا في طريق التحول من المقصد التثقيفي إلى المقصد التعليمي، حيث كانت مناهجهم في جملتها مناهج تعليمية، تقوم على جعل النص الشعري مجالًا لتعليم جملة من العلوم المكونة لعناصر الشرح وتزويد طالبي شروحهم بالمعلومات التي تتصل بهذه العلوم في تطويل وإسهاب أو تسهيل واختصار وفق قدرات هؤلاء الطلاب الذهنية وملكاتهم الاستيعابية.

على أن أهم ما لاحظناه حين بدأت شروح الحماسة في الظهور وإبان تواليها هو أن الثقافة المكونة لشرح الشعر وفهمه ونقده قد اتسعت كثيرًا، وذلك بتعدد أعمال العلماء عبر طبقات عدة، وهى أعمال شملت الكثير من علوم العربية من لغة ونحو وبلاغة ونقد ورواية وأخبار تاريخية، وكان من الطبيعي أن تسهم هذه الأعمال المتشعبة في علو ثقافة الشارح وارتقائها. وبجانب ذلك كان أهم ما خرجنا به من علاقة شروح الحماسة بحركة شرح الشعر وتطوره أن هذه الشروح تعد جزءًا من شرح الشعر عامة، فهي صورة منه وممثله له، بل أن كل الذين تصدوا لشرح ديوان الحماسة لم يكتفوا بما شرحوه فيها وإنما أسهموا إسهامات طيبة في شرح جملة من الدواوين والمختارات سواء في ذلك الشعر القديم أو الشعر المحدث.

ص: 396

وحين وصلنا ظهور شروح الحماسة ثم تواليها بعد ذلك عبر القرون رأينا أن نستعرض هذه الشروح منذ أول شرح وصل إلينا خبره والى عصرنا هذا الحديث، فكان أن صنعنا ثبتًا لها، وضعنا في مقدمته شرح أبي القاسم الديمرتي المتوفى سنة 287 هـ باعتباره أقدم شارح وصل إلينا خبر عنه أنه صنع شرحًا للحماسة، وسجلنا أن هذا مخالف لما ذهب إليه البغدادي في الخزانة من أن أول من شرح الحماسة هو أبو عبد الله النمري المتوفى سنة 385 هـ، ومخالف كذلك لما ذهب إليه عبد السلام هارون وعبد الله عسيلان أن أبا رياش هو أول من فعل ذلك، ولم يفتنا ونحن نوضح ذلك أن نسجل أن الديمرتي وإن جاء في مقدمة شراح هذا الثبت ليس هو أول من شرح الحماسة فقد سبق إليه من بعض الشراح الذين لم يصل إلينا خبر عن شروحهم، وذلك بناء على الإشارة التي وردت في مقدمة شرح النمري من أنه -أي الديمرتي- كان متبعًا لغيره في بعض شرحه.

لقد تتبعنا الشروح وفق ما أسعفتنا به المصادر إلى هذا العصر الحديث فبلغت في ثبتنا الذي صنعناه أربعة وأربعين شرحًا، وأشرنا إلى أنه قد سبقنا في عمل مثل هذا الثبت كل من عبد السلام هارون وعبد الله عسيلان، وأن ثبت هارون قد بلغ لديه ثلاثين شرحًا، وبلغ ثبت عسيلان خمسة وثلاثين شرحًا، وبهذا نكون قد أضفنا تسعة شروح فوق ما أورداه معا، كما كنا نحن نورد هذه الشروح نناقش ما دار حولها من أقوال، ونوضح ما هو صحيح النسبة لصاحبه وما هو غير صحيح، دالين على المفقود منها والمخطوط والمطبوع، هذا فضلًا عن تذييلنا لهذا الثبت بشروح مجهولة المؤلف عثرنا عليها من خلال بحثنا وتنقيرنا في المكتبات المختلفة.

ثم كان أن انطلقنا من إيراد هذا الثبت لتوضيح الشروح التي تدخل في دائرة الفترة الزمنية التي حددناها لهذا البحث وهي نهاية القرن السادس الهجري، فرأينا أن هذه الفترة قد ضمت ثلاثة أنواع من هذه الشروح، نوع تمثله شروح لم يصل عنها شيء، ولا يعرف مكانها حتى الآن، ونوع تمثله شروح وصلت إلينا، منها شرحان مطبوعان ومنها شروح مخطوطة جمعناها من مكتبات العالم، ونوع ثالث تمثله شروح لم تصل إلينا ولكن وصلت عنها نقولات متعددة في الشرحين المطبوعين

ص: 397

والشروح الأخرى المخطوطة.

وكان من الطبيعي أن تقوم دراستنا في شروح النوع الثاني والثالث، والتي تبلغ في مجموعها ستة عشر شرحًا، منها ستة شروح في القرن الرابع، وسبعة شروح في القرن الخامس، وثلاثة شروح في القرن السادس.

وحين بلغت الدراسات الممهدة غايتها في الوصول إلى تحديد الشروح التي يقوم عليها بحثنا وفق ما حددناه من فترة زمنية، اتجه البحث إلى دراسة مناهج هذه الشروح وتطبيقها في نماذج من أعمال الشراح، وذلك من خلال نظرة موازنة تحكم العمل وتضبطه، فكان أن قام القسم الثاني من هذا الكتاب مشتملًا على ستة فصول، جاء الفصل الأول في مناهج الشراح، حيث بدأنا العمل فيها بالوقوف على المناهج الثلاثة التي حددها الدكتور أحمد جمال العمري لشراح الشعر الجاهلي وهي: المنهج النقلي الالتزامي، والمنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي التكميلي، وعرضنا ما أورده من معايير وصفا لهذه المناهج، ورأينا أنه إذا كان شراح الشعر الجاهلي قد ساروا في شروحهم وفق هذه المناهج، فإنها بمعاييرها وصفاتها التي حددها الدكتور العمري ليست بالضرورة أن تنطبق على شراح الحماسة، وذلك بسبب أمور أربعة أعطيناها حقها في المناقشة والشرح وانتهينا إلى أن أحد هذه المناهج وهو المنهج النقلي الالتزامي لم يتخذ سبيلًا من قبل شراح الحماسة وإن كان لا نعدم من أثر له في بعض أعمال الشراح، وأن منهجين فقط يمكن أن نجدهما لدى شراح الحماسة وهما: المنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي، غير أننا سجلنا بداية أن جملة من المعايير والصفات التي أسبغها الدكتور العمري على هذين المنهجين بدت لنا عند التطبيق في شروح الحماسة نظرية بحتة لا سبيل إليها في هذه الشروح إلا عن طريق تصيد الأمثلة النادرة.

وبجانب هذين المنهجين لاحظنا أن شراح الحماسة قد حققوا بأعمالهم ثلاثة مناهج أخرى هي: المنهج العلمي التخصصي، والمنهج التتبعي التقويمي، والمنهج الاختصاري التسهيلي. وبذلك بلغت مناهج الشراح خمسة مناهج من حيث التقنين والتطبيق. وأوضحنا من خلال الموازنة والشرح المعايير والصفات التي تقوم عليها

ص: 398

هذه المناهج، فبدأنا بالمنهج الإبداعي الفني الأدبي، وعرضنا إلي الجانب النظري في معايير الدكتور العمري التي طرحها في هذا المنهج، وذلك من خلال نظرتنا إلي شرح المرزوقي الي يعد خير من يمثل هذا المنهج من شراح الحماسة، وحددنا وفق الرؤية التطبيقية المعايير والصفات التي رأيناها في قيام هذا المنهج.

انتقلنا بعدها إلي المنهج العلمي التخصصي فلاحظنا أوجه التشابه والاختلاف بينة وبين المنهج السابق موازنين بين المنهجين خارجين من هذه الموازنة بأهم المعايير والصفات التي أتصف بها هذا المنهج مؤكدين أن من أفضل من أتخذ هذا المنهج سبيلا هو أبو الفتح عثمان بن جني في عملية ((المبهج)) و ((التنبيه)) تدرجنا بعدها إلي المنهج التتبعي التقويمي فلاحظنا أنه منهج برز عند علماء القرن الرابع وما تلاه من قرون، وأن الأعمال فيه لم تقم من تلقاء ذاتها كما هو الحال في المنهج الإبداعي الفني، والمنهج العملي التخصصي، وإنما قامت بناء علي أعمال السابقين من حيث إنه منهج يقوم علي تتبع أعمال الشرح السابقين ورصد ما فيها من أخطاء وأوهام، ومناقشتها بالتقويم والتصحيح، وهو لهذا منهج يقوم علي طريقتين: طريقة في إنشاء الكتب وتأليفها وطريقة في التتبع والتقويم، ولا تخلو الطريقة الثانية من تأثر بالمناهج الأخرى، ورأينا أن أبرز من سلك هذا المنهج في أعمال الحماسة عالمان أحدهما أبو هلال العسكري والآخر أبو محمد الأعرابي.

ثم كان أن وقفنا عند المنهج التجميعي الانتخابي فلاحظنا أنه مثل المنهج التتبعي التقويمي علي أعمال السابقين ولكنة يختلف عنة في أنه لا ينظر في أعمال السابقين ليتتبعها ويقوم ما فيها من أخطاء. وإنما هو منهج يجمع أعمال السابقين لينتخب منها شرحا مستوفيا لجميع عناصر الشرح، ولاحظنا أن الخطيب التريزي يعد رائدا في هذا المنهج، غير أن دراسة شرحه جعلتنا نقف من المعايير والصفات التي حددها الدكتور العمري لهذا المنهج موقف المعترض من حيث إن بعضها قد بدا نظريا بحتا يصعب تحققه في شرح التبريزي للحماسة، ولقد فصلنا الحديث في هذا الجانب ووضحنا بالشرح والأمثلة كل ما يدعم هذا الاعتراض، وانتهينا إلي أنة بالرغم من الخلل الواضح الذي وقع فيه التبريزي في مواضع من شرحه بسبب

ص: 399

نزوعه إلى النحو واللغة من جهة، ومشايعته شيخه أبي العلاء من جهة أخرى فإنه قد حاول جادا أن يفيد من الشروح التي سبقته يجمعها وينتخب منها شروحه في الحماسة، وهي شروح أفاد منها طلابه في المدرسة النظامية، كما أفاد منها طالبو علم الأدب الذين جاءوا بعده فضلا عن متابعة شارحين من شراح القرن السادس له في هذا المنهج هما أمين الدين الطبرسي، وأبو الرضا الراوندي.

ثم عرضنا إلي المنهج ألاختصاري التسهيلي فتحدثنا أولا في العوامل التي دفعت فئة من الشراح إليه فلاحظنا اقتناع هذا الفئة بأن الغاية من شرح الشعر هي الوصول إلي معني الشاعر ومقصده، ومن ثم يمكن الوصول إليه من أسهل الطرق وأيسر السبل، واقتناعها كذلك بأن الشروح التي صنعها السابقون لديوان الحماسة قد جاءت مسهبة في تناول عناصر الشرح إسهابا مبالغا فيه كثير من الأعمال فلماذا لا يقوم عمل يصفي هذا الفيض الغزير التي تزخر به هذه الشروح وتنقية من الإسهاب والاستطراد وتقدمة في ثوب موشي بالاختصار والتسهيل وكذلك اقتناعها التام بأن قراء الشروح يمثلون فئات متفاوتة في القدرة علي تحصيل العلم، متباينة في الطباع والأهواء فلماذا لا يقوم منهج يراعي اختلاف قدرات المتلقين ومشاربهم وأهوائهم، يقدم لهم عناصر الشرح سهلة ميسرة خالية من الاستطراد، بعيدة عن التشعب والأغراب، منهج يضم اللغة ولكن بقدر محدود، والنحو ولكن بصورة تحقق إدراك المعني فحسب والرواية ولكن في لمحات تفي بالغرض المطلوب، وأخبار الشعراء ومناسبات الشعر ولكن في اقتصاد واقتصار. ولاحظنا أنه منهج يشبه المنهج التجميعي الانتخابي في الإفادة من أعمال السابقين، ولكنة لا يقدمها في الثوب الذي يقدمها به التجميعيون الانتخابيون الذين يكتفون بنقل ما ينتخبون من الشروح دون أن يعملوا فيه ما يشذبه ويهذبه، وإنما يقدمها في صورة يحوطها الاختصار وتحكمها السهولة ويضبطها اليسر، ورأينا أن خير ما ينطبق علية هذا المنهج شرحان أحدهما الشرح المرجح نسبته إلي زيد بن علي الفارسي والآخر المنسوب خطأ إلي أبي العلاء المعري، ولاحظنا أن هناك شرحين آخرين سلكا المنهج نفسه هما: شرح البياري وشرج الأعلم الشمنتري.

ص: 400

وحين انتهينا من تحديد المعايير والصفات التي قامت عليها هذا المناهج الخمسة أقتضي العمل أن نتوالى فصول خمسة في هذا القسم خصصنا كل فصل منها لتطبيق منهج من هذه المناهج، فبدأنا بالمنهج الإبداعي الفني الأدبي، ودرسنا عمل أبي علي المرزوقي من خلال فعرضنا أولا لشخصيته وما تركبت علية من نزعة اعتداد وتعال أثرت في مصادرة وعملة فلاحظنا أنها أثرت في مصادرة من حيث جعلته قليل الإفادة من الأعمال التي سبقته في شرح الحماسة بل جعلته يتعمد الإغضاء من العلماء السابقين له أو المعاصرين ممن لهم صلة بعملة في الحماسة، الأمر الذي أدي إلي حرماننا من معرفة جل الشروح التي أفاد منها في شرحه، ولاحظنا أنها أثرت في عمله في الشرح حيث جعلته متفردا بآرائه، حتى في اللغة والنحو- وهما من العلوم التوفيقية- رأينا عملة فيهما دالا علي ذاتيته وتفرده في تحليلاته اللغوية ومناقشاته للمسائل الإعرابية.

ولقد حاولنا أن نتتبع أعمالة في الحماسة من خلال عناصر الشرح فرأيناه قليل الاهتمام بعناصر ثلاثة هي: مناسبات الشعر التاريخية وأخبار الشعر، وتفسير أسماء الشعراء والأعلام، وتحديد بحور الأشعار وأضربها وقوافيها. ولقد عللنا ذلك بأنة لم يقف علي شرح أبي رياش ذي الاهتمام بالأخبار التاريخية ومناسبات الشعر. ولم يقف علي كتاب ((المبهج)) لأبن جني ذي العناية بشرح أسماء الشعراء والأعلام. أما خلو شرحه من تحديد أوزان الشعر وما يتصل بها من ضروب وقواف فقد عللناه بأن هذا العنصر لم يكن من العناصر التي أهتم بها الشراح في زمنه وما قبلة.

إن العناصر التي تجلت فيها عبقرية المرزوقي هي: الرواية، واللغة، والنحو، والمعاني، والبلاغة، والنقد. لقد حقق فيها أعمالا طيبة، أكدت دراستنا لها أنها تدل علي ذاتية متفردة وعلي إبداع وفنية، وعلي أسلوب أدبي مشرق برغم جنوحه المتكرر إلي أساليب المعلمين.

لقد عشنا مع المرزوقي في هذه العناصر، ودرسناها عنصرا عنصرا، حتى مذهبة النحوي أفضنا في دراسته ومناقشته، فكان أهم ما خرجنا به أن المرزوقي بمنهجه الإبداعي الفني الأدبي قد كان معلما بارزا في عملة الذي أداة في الحماسة،

ص: 401

فشرحه يعد نسيج وحدة بالقياس إلي الشروح التي وصلت إلينا.

أما المنهج العلمي التخصصي فقد اخترنا لتطبيقه أعمال أبن جني في كتابية ((المبهج)) و ((التنبيه)) فلاحظنا أنه جعل من ديوان الحماسة وأسماء وشعرائه وما ورد فيه من أعلام مجالا يثير فيه كوامن العلوم التي تخصص فيها، بل لاحظناه أنه الشارح الوحيد الذي لم يكتب للعامة، وإنما قد قصد بأعماله خاصة الخواص من ذوي التخصصي العالي والملكات ذات القدرة علي الفهم والاستيعاب.

لقد تتبعنا عملة في المنهج ورأينا كيف أنه أبتدع عنصرا جديدا من عناصر الشرح يتصل بشرح أسم صاحب النص شرحا لغويا بحتا، يبحث فيه عن اشتقاق العلم، ما كان مرتجلا وما كان منقولا، وما يتصل به من نظائر في كلام العرب أو في القياس. لقد عرضنا عملة في جوانب متعددة، فلاحظنا أنة عمل دل علي سيادة مطلقة في علم التصريف، وعلي علو باذخ في الاشتقاق، واستيعاب تام لما يقبله القياس وما لا يقبله.

وحين عرضنا إلي كتابة ((التنبيه)) وتتبعنا عملة في عناصر شرح الشعر لاحظنا أنه في عنصر الأوزان والقوافي لم تكن نظرته في معالجته عامة تشمل سائر نصوص الحماسة وإنما كانت نظرة خاصة تختص بما يثير قضية فحسب. كذلك رأيناه في عنصر الرواية يختلف عن الإبداعيين الفنيين الذين رأيناهم يناقشون الرواية من وجوه مختلفة، أما هو فقد ينظر إلي الرواية من جهة اللغة وجهة الإعراب، ولا يقف عندها إلا إذا كانت ذات معضلة تعوز الشرح، أو مشكلة إعرابية تحتاج إلي تأويل وإيضاح، وكذلك كان حالة في اللغة والنحو، لم يتخذ منهما وسيلة يستعين بها في تفسير الألفاظ والتراكيب بغية الوصول إلي معني النص كما هو الحال عند سائر الشراح الآخرين، وإنما كان عملة اللغوي موقوفا علي النظر إلي الألفاظ والتراكيب بغية الوصول ألي معني النص كما هو الحال عند سائر الشراح الآخرين، وإنما كان عملة اللغوي موقوفا علي النظر إلي الألفاظ نظرة جزئية من حيث هي لفظة مفردة يقف عندها يعالج تصريفها أو اشتقاقها، مستعرضا ما تثيره من قضية تتصل بالقياس أو الاشتقاق، وأما عملة النحوي فقد رصدنا فيه عدة ملاحظات أهمها إثارة للقضايا

ص: 402

النحوية ظاهرة الأشكال أو القضايا التي تبدو جلية ولكنها تخفي ورائها الغامض من المسائل وثانيتها تتبعه الدائم للخلاف بين سيبويه وأبي الحسن الأخفش في جملة من المسائل التي خالف فيها الأخفش جمهرة النحاة، وثالثتها تنويهه المستمر بأن الإعراب قد يجيء مخالفا للمعني، ورابعتها اعتماده الواضح علي القياس في المسائل الإعرابية.

وأما عملة في المعاني فإنه لم يهتم بها إلا من خلال الإعراب، ولقد أبان ذلك في مقدمته حين أفاد بأنة تحامي تفسير شيء من معاني أبيات الحماسة إلا ما ينعقد بالإعراب، ولذا كان تعرضه لعنصر المعاني نادرا وفي مواضع قليلة من ((التنبيه)).

ولما كانت المعاني ليست من همة كانت البلاغة أيضا ليست من همة فهو حين ينظر إلي لون بلاغي ينظر إلية من جهة نحوية، وكذلك كان شأنه في نقد الأشعار لواردة في الحماسة، لا ينتقدها من حيث المعاني، جودتها ورداءتها، وإنما ينتقدها حين يري خروج تركيب ما عن قواعد الإعراب التي قننها النحاة.

إن أهم ما يخرج به الدارس لعناصر شرح أبن جني هو أن معالجته لها كانت مجال المشاكل التي تثيرها النصوص في اللغة وما يلحق بها من اشتقاق أو تصريف، ومجال المسائل الإعرابية وما ينص لبها من خلاف بين النحاة، ومجال المشكلات التي تتصل بالعروض والقوافي أو تتصل بشذوذ التراكيب في استخدام الشعراء.

ولقد رأيناه في هذه المجالات يتحرك بأسلوب يغلب علية الطريقة الجدلية المتأثرة أحيانا بطرق المتكلمين في التعبير وهو أسلوب قد يثير في نفوسنا شيئا من المتعة الذهنية، ولكنة خال من الإثارة الوجدانية التي نجدها في أسلوب الإبداعيين أمثال المرزوقي.

ثم كان أن وقفنا عند المنهج التتبعي التقويمي وطبقناه في عملين: أحدهما ((ضبط مواضع من الحماسة)) لأبي هلال العسكري، والآخر ((إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري)) لأبي محمد الأعرابي.

فأما عمل أبي هلال فقد لاحظنا انه قد تتبع نسخة للحماسة بخط أحد الشيوخ فقام بضبطها وتحريرها، وسجلنا أن عملة في تتبع هذه النسخة وتقويمها قد

ص: 403

دار حول جوانب ثلاثة، أحدهما: التصحيف الذي يقع في روايات الحماسة فيؤدي إلي فساد في المعني، والثاني: تحريف الرواية الذي ينجم عنة خلل المعني أو خلل الإعراب أو خلل الوزن أو خلل أن يجري الكلام علي غير المألوف عند العرب، وثالثة: الخطأ في نسبة الشعر إلي غير قائلة. ولقد ناقشنا عملة من خلال هذه الجوانب، محللين الأمثلة لدراستها وتبيان جهد الرجل فيها، وانتهينا إلي أن أبا هلال من خلال عملة في هذه الرسالة ((ضبط مواضع من الحماسة)) قد حقق منهجا في التأليف، ومنهجا في معالجة ما تناوله من تقويم وإصلاح، وقد كشفت هذه التقويمات والإصلاحات عن ثقافات في فن الشعر، وما تقتضيه هذه الثقافة من معرفة بعلم النحو واللغة والصرف والعروض، ووقوف علي الأنساب والأخبار التاريخية.

وأما عمل أبي محمد الأعرابي فقد عرضنا فيه أولا لما جاء في مقدمته فلاحظنا أنه ألف هذا الكتاب الذي تعرض لأبي عبد الله النمري بدافع من التحدي وإظهار المقدرة علي التصدي بالنقد لأعمال من سبقه، ولاحظنا أيضا أن العجلة كانت صفة من صفات عملة حيث أنجزه في مدة لا تتجاوز الأسبوع، وسجلنا أن هذا أوقعة في عدم الموضوعية حينا، وإلي خلل في التتبع والتقويم أحيانا أخرى.

ثم أدرسنا عملة في تتبع ما جاء في شرح معاني أبيات الحماسة لأبي عبد الله النمري، فلاحظنا أنه كان يناقشه ويرد علية في جوانب أربعة أولها: جانب الرواية تصحيح ما اعتمده النمري في متنه من رواية للحماسة، وثانيهما: تصحيح نسبة الشعر إلي غير قائليه، وثالثها: التنبيه علي أمور أغفلها النمري في شرحه، ورابعها: التصدي بالمناقشة لما قرره النمري من معاني أبيات الحماسة

ولقد درسنا عملة من خلال هذه الجوانب جميعها محاولين أن نظهر ما حققه الرجل من خدمة للحماسة في تتبعه لعمل النمري وتقويمه، غير أن دراستنا له في هذه الجوانب قد كشفت عن جملة من المآخذ علية، رصدناها من خلال العمل فبلغت أربعة، أحدها: حرصه علي إيراد مثل من الأمثال في كل موضع من المواضع التي تتبع فيها النمري شعرا كان المثل أو نثرا، وقد أوقعة حرصه المتوالي في أن يورد أمثالا تعد من مرتذل القول وتجري علي ألسنة السوقة لا ألسنة العلماء، وثانيهما: أنه كان يتعمد في بعض الأحيان ألا

ص: 404

يورد كل ما قاله النمري في معاني الأبيات، وإنما يكتفي بذكر جزء ينطلق منه لينال من النمري، الأمر الذي جعل البغدادي يتهمه بالتزييف، وثالثهما: أنة كثيرا ما كان يخرج في عملة التتبعي التقويمي عن الموضوعية، وذلك باستخدامه العبارات الجارحة يرددها في ثنايا كتابة بقصد النيل من أبي عبد الله النمري والحط من قدرة، ورابعها: اضطرابه في الحكم علي النمري حيث اشتملت أحكامه علي شيء غير قليل من الاضطراب والتناقص، غير أننا ونحن نورد هذه الآخذ ونقيم الأمثلة علي صحتها والدلالة عليها، لم يفتنا أن نسجل ما انتهينا إلية في عمل الرجل، فهو بالرغم من هذه المآخذ التي أخذناها علية فإنه قد استطاع بحق وفي جوانب متعددة من عملة أن يسهم في خدمة ديوان الحماسة إسهاما طيبا يدل علي جهده وعلمه.

أما المنهج التجميعي الانتخابي فقد خصصنا لتطبيقه ودراسته شرح أبي زكريا التبريزي الأوسط المتداول بين أيدي الناس. ولكننا قبل أن نبدأ في التطبيق نوهنا إلي أن هناك عالمين من علماء القرن السادس الهجري قد تابعا التبريزي في منهجه هذا واستطاعا أن يحققا معاييره وصفاته في عمليهما وهما أمين الدين الطبرسي، وأبو الرضا الراوندي، وكان يمكن أن نطبق هذا المنهج علي عمل أحدهما، غير أن ريادة التبريزي في هذا المنهج ألزمتنا بأن نخصه بهذا التطبيق، فكان أن لاحظنا أولا الجوانب التي بدت نظرية في كلام الدكتور العمري في هذا المنهج، فأكدنا أن التبريزي قد حاول أن يجمع في شرحه ما يحقق جميع العناصر المطلوبة في الشرح ولكنة لم يوفق بين هذه العناصر توفيقا تاما، وينسق بينهما بانسجام يشعرنا بالتكامل والترابط إلا في مواضع ضئيلة من شرحه، كما أنه أعتمد في جمهور شرحه علي المرزوقي محاولا أن يكمل ما فيه من نقص من الشروح الأخرى، غير أن هذه الشروح لم تكن لتسد حاجته في استكمال هذا النقص، ومن ثم جاءت جملة من النصوص خالية تماما من أدني شرح، وكان مقتضي عملة- وهو الشارح المنتخب- أن يسد هذا النقص من عنده، ولكنة لم يكن مبدعا بحيث يحقق بإبداعه وإعمال فكرة استكمال ما ينتخبه من الشروح، هذا فضلا عن انسياقه المتكرر وراء

ص: 405

شيخه أبي العلاء في إستطرادتة المختلفة، وكذلك إنسياقة وراء أبي رياش في نقولات سود بها العديد من الصفحات دون أن يعمل فيها قلمه بالتهذيب والتشذيب أو الحذف والاختصار، الأمر الذي أدي إلي طغيان عنصر أخبار الشعر علي عناصر الشرح في القطع التي كان أبو رياش يذكر خبر أبياتها أو بواعث الشعر فيها.

لقد حاولنا أن نتتبع التبريزي في سائر العناصر التي ضمها شرحه قصدا إلي بيان كيفية انتخابه من الشروح التي سبقته لكل عنصر منها، وكان كل ذلك عن عدة ملاحظات بعضها سلبي وبعضها إيجابي، فمن الملاحظات الإيجابية أنة كان ينظم ما ينقله من الشروح وبخاصة حين ينقل من الشرح الواحد أكثر من عنصر، فهو كما رأيناه يكثر النقل من شرح المرزوقي، ولكنة كان يتصرف فيما ينقله حيث ينظمه ويرتبه وفق الرؤية التي يراها في معالجة عناصر الشرح لا وفق ما جاءت في شرح المرزوقي، ومنها أيضا أنة علي كثرة نقله من الشيوخ دون ان يبدي رأيا فيما ينقل، كانت له بعض المواقف التي دلت علي شخصيته في العمل الانتخابي وهي مواقف وإن كانت ضئيلة إذا ما قيست بالكثرة الكاثرة التي بدا فيها مجرد جماع ناقل، فإنها علي أية حال دلت علي ذاتية فيه، وعلي حضور ذهن فيما كان يعرضه من آراء أثناء عملية الشرح.

أما الملاحظات السلبية فمنها أنه وغيرة من الشراح الذين اتخذوا هذا المنهج سبيلا قد وقعوا في ظاهرة سلبية في الانتخاب وهي أنهم كانوا لا يعزون جميع ما ينتخبون من آراء وأقوال إلي أصحابها، وبخاصة حين ينقلون عن المرزوقي حيث كانوا يوردون كلامه في صورة توحي بان هذا من عملهم وجهدهم، ومن ثم بدت خطورة هذه الظاهرة في عمل الانتخابيين من حيث إنها تجعل الدارسين لشروحهم أو المستفيدين منها في اضطراب مستمر حين ينسبون إليهم أقوالا ليست لهم أو يجعلون لأعمالهم قيمة لا تؤول إليهم في واقع الأمر.

ومنها كذلك كثرة نقلة من أبي رياش أخبار الشعر وما يتصل بها من شخصيات وأشعار، وهو لم يكتف بإيراد هذه الأخبار وما يتصل بها فحسب بل كان يزيد عليها تعليقات شيخه أبي العلاء علي جزيئات

ص: 406

منها، وكل ذلك في إسهاب مخل أدي إلي تغول هذا العنصر علي سائر العناصر الأخرى.

وإذا كنا قد سجلنا في عمل التبريزي هاتين الملاحظتين وغيرهما فإن البحث قد سجل له ما لا يغمض حقه فيما صنع، فقد حاول بحق أن يبتكر منهجا مغايرا لسابقيه في شرح الشعر، وجد شيوخه وسابقيهم قد عالجوا الحماسة في شروحهم من نواح مختلفة، كل شرح يركز في ناحية دون أخري، فأراد بمنهج جديد أن يجمع بين هذه النواحي في شرح واحد أي أن يجمع شروحا في شرح، ومن ثم جاء عملة جامعا لمناهج مختلفة وأساليب متباينة، وهو وإن بدا في جل عملة غير خلاق ولا مبتكر فيما يكمل به ما يجده من النقص في هذه الشروح، فإنه في مقابل ذلك دل عي جهد مضن وحضور ذهن في استدعاء معلوماته التي قرأها أو سمعها من شيوخه أثناء عملية الشرح، وأن يوظف ذلك في مواضعه، وفي هذا فضل لا ينكر، ولو شفعة آخر بان عزا نقولاتة إلي أصحابها، ونفي عن هذه النقولات الاستطرادات المخلة بتنسيق العناصر لكان شرحه الغاية الخالدة في هذا المنهج.

وأما المنهج الأختصاري التسهيلي فقد أفدنا بأنة يمكن تطبيقه في شرح زيد بن علي والشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء المعري، ولكن لما كنا قد عقدنا دراسة كاملة حول الشرح المرجح نسبته لزيد بن علي في الكتاب الثاني من هذا البحث اخترنا الشرح الآخر للدراسة والتطبيق، وقد لاحظنا من خلال دراستنا له أنه قد حاول في غلبة شرحه أن يوفر مقومات هذا المنهج وصفاته غير أننا أخذنا علية أمرين أحدهما ملية المتكرر إلي النقل من أبن جني في شيء من الإسهاب وبخاصة في عنصر اللغة، والآخر عدم إفادته من المصادر التي تحت يده إفادة مطلقة تعصمه من الخطأ في تفسير بعض نصوص الحماسة، فهو قد دل في شرحه أنه قرأ المرزوقي والتبريزي ولكنة كان في بعض الأحيان يأتي بتفسير خطأ للشعر، يختلف عن التفسير الذي قرره المرزوقي أو انتخبه التبريزي في شرحه.

كذلك سجلنا أن هناك شارحين قد سلكا سبيل هذا المنهج أحدهما الأعلم الشنتمري الذي أستطاع أن يحقق هذا المنهج تحقيقا جيدا، ولكن شرحه جاء في

ص: 407

الحماسة التي صنعها، وليس في حماسة أبي تمام، أما الآخر فهو أبو الحسن البياري، غير أن شرحه لم يصل إلينا كاملا، وإنما وصل منه الجزء الأول فقط، وهو جزء لم يستكمل باب الحماسة كله، ناهيك عن سائر الأبواب الأخرى.

وإذا كنا تتبعنا للشروح التي صدرت في الفترة الزمنية التي حددنها لهذا البحث قد كشفت عن شروح لم تصل إلينا كاملة أو وصلت ولكنها غير واضحة المنهج أو وصلت في صورة نقولات في شروح وصلت إلينا فإن هذا أقتضي أن يقوم قسم ثالث لدراسة هذه الشروح.

ومن ثم جاء الفصل الأول من هذا القسم في دراسة شروح كل من أبي الفتوح الجرجاني، وأبي الرياش، وأبي عبد الله النمري، وأبي هلال العسكري، وأبي العلاء المعري. لقد تتبعنا هذه الشروح ودرسنا عناصر الشرح فيها، وكنا في كل شرح نجد نقصا واضحا في جملة من العناصر التي تقوم عليها عملية الشرح وتكشف عن منهج صاحبة في وضوح وجلاء، وانتهينا إلي أن هذه الشروح بصورتها التي وصلت إلينا لا يمكن تصنيفها تحت أي منهج من المناهج فشرح الجرجاني كشفت الدراسة أنه مجرد رواية مصححة لمتن الحماسة علية تعليقات متفرقة لا يمكن تسميتها شرحا إلا من باب التجوز، والنقولات التي وصلت عن شرح أبي رياش، وإن دلت علي بعض العناصر فإن غلبتها قد جاءت في الأخبار التاريخية، وهي مع هذا لم تبين لنا عملة في عناصر مهمة في الشرح مثل الرواية والنحو والبلاغة والنقد، كما أن عملة في اللغة والمعاني غير واضح في هذه النقولات الوضوح كله، ولذا صعب علينا أن نضعه تحت منهج من المناهج، ومختصر معاني أبيات الحماسة الذي وصل إلينا عن شرح أبي عبد الله النمري لم يكشف لنا عن عمل النمري إلا في عنصري الرواية والمعاني، وهو بجانب هذا قد أفاد من شيخه أبي رياش ولكنة لم يكن ذا منهج نقلي التزامي لأنة لم يقف عند حد النقل فحسب بل كان يناقش وينتقد، ويورد من رأي مخالف لمن ينقل عنة، وهو أيضا كان يتعرض للديمرتي في شرحه ولكن تعرضه لم يكن تعرض متتبع مقوم علي نحو ما رأينا عند أصحاب المنهج التتبعي التقويمي، فقد كان يعرض الجوانب الصواب والخطأ معا، كما أنة لم يتتبع كل مواطن الزلل في شرح الديمرتي، وإنما كان يناقش ما في

ص: 408

الشرح من زلل من خلال العنصرين اللذين قصر عملة عليهما وهما الرواية والمعاني.

كذلك لم يبد النمري في شرحه تجميعا انتخابيا، فهو وإن أفاد من أعمال رجال سبقوه فإن إفادته لم تكن إفادة تجميع وانتخاب، ولم يكن كذلك ذا منهج علمي تخصصي علي النحو الذي رأيناه عند أبن جني، ولا سلك سبيل أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يوفرون لشروحهم سائر العناصر يعرضونها في سهولة ويسر.

إن كل الذي خرجنا به من هذا المختصر أن الرجل كان مثل شيخه أبي رياش الذي رأيناه جل جهده علي الأخبار التاريخية، فهو أيضا قد قصر جهده علي دراسة الروايات وتحليل المعاني، أما عناصر الشرح الأخرى فنحن لا نكاد نظفر بشيء منها سوي لمحات ضئيلة لا تقاس بأعمال أصحاب الشروح الذين طبقنا عليهم المناهج الخمسة.

أما أبو هلال في شرحه الذي لم يصل إلينا فإن النقولات التي وردت عنة قد دلت علي معالجته لجملة من عناصر الشرح كشفت عنها الدراسة حيث لاحظنا أنة كان كثير الاهتمام بنقد الأشعار الواردة في اختيار الحماسة، وتعريف الشعراء، وتصحصح نسبة القطع الواردة في الاختيار، وكشفت أيضا عن عمل له في المعاني، ولكن في مواضع قليلة، وكذلك عنصر الأخبار التاريخية. ولاحظنا أن ثمة عناصر لم ترد في هذه النقولات مثل عنصر اللغة الذي لم نجد فيه نقولات تذكر وكذلك النحو والإعراب والبلاغة وأوزان الشعر وأضربه وقوافيه، الأمر الذي جعلنا نتوقف متسائلين أكان له عمل في هذه العناصر لم تنقله لنا هذه الشروح التي وصلت إلينا أم أنة في الأصل لم يولها اهتمامه؟ ومهما كان الجواب فإن النتيجة التي خرجنا بها من هذه النقولات أنها لا تكشف عن منهج واضح لأبي هلال في شرحه يهيئ لنا السبيل إلي إدراجه تحت منهج من المناهج الخمسة، وإن كان ظننا يذهب إلي أنة أشبة بأصحاب المنهج الإبداعي الفني منة إلي أصحاب أي منهج آخر.

وأما أبو العلاء في شرحه ((الرياشي المصطنعي)) فإن ما وصل إلينا عنة جاء عن

ص: 409

طريق ما كان ينتخبه التبريزي في شرحه، وقد رأينا بالرصد أن نقولات التبريزي عن شرح أبي العلاء قد بلغت نحو بضعة ومائة موضع، غير أنها مع تنوعها والإسهاب في بعضها لم تيسر لنا تحديد منهج أبي العلاء في شرحه فقد جاءت جل هذه النقولات في شرح أسماء الشعراء، وفي اللغة والنحو، ولاحظنا أن نقولات التبريزي عنة في عنصر المعاني كانت ضئيلة جدا، وذلك بسبب أن التبريزي في شرحه الانتخابي كان يعتمد في عنصر المعاني علي المرزوقي، ولهذا قل انتخابه من الشروح الأخرى في هذا العنصر غير أن دراستنا لعل أبي العلاء في عنصر اللغة والنحو وملاحظتنا حرصه الدائم علي مراعاة المعني في التحليل اللغوي والإعرابي جعلتنا نسجل أنة كان ذا اهتمام بهذا العنصر، فلم يكن مقتصدا مقتصرا فيه كما ذهب الدكتور العمري ولا كانت عنايته باللغة صارفة له عن التدقيق في معاني الشعر، يعرضها في صورة تكاد تكون نثرا كما ذهب الدكتور عسيلان، لقد ناقشنا هذا الجانب في كلام الباحثين وبينا عدو صحة ما ذهبنا إلية من قول.

إن هناك عناصر لم تكشف عنها نقولات التبريزي من شرح أبي العلاء مثل عنصر الرواية الذي جاء النقل فيه أشد ضآلة من عنصر المعاني، ومثل عنصر الأخبار التاريخية الذي لم يورد التبريزي منة سوي في موضع واحد، ومثل البلاغة والنقد اللذين لا وجود لهما البتة في نقولات التبريزي.

لقد لاحظنا إن أبا العلاء كان في شرح أسماء الشعراء أشبة بابن جني، غير أنة يختلف عنة في أنة لم يجنح إلي التصريف كما كان يفعل أبن جني، كما أنة في عنصري اللغة والنحو لم يكن مثله ينظر إلي الأبيات التي تثير قضية لغوية أو نحوية، ولا ينظر إلي المعني إلا من خلال ارتباطه بالإعراب، كذلك لم يكن يعمد إلي إثارة الخلاف بين أبي الحسن الأخفش وسيبويه وينظر إلي ما تعطيه أبيات الحماسة من دعم لرأي أحد الرجلين، كل هذه الأمور التي لاحظناها في عمل أبن حني لم يكن لأبي العلاء شأن فيها. هذا فضلًا عن أبن جني كان في عملة الذي رأيناه له في ((التنبيه)) علميا بحتا، أما أبو العلاء فإنه بجانب جنوحه نحو اللغة وتحليلها في النصوص، فإن عملة لم يخل من جانب أدبي، وبخاصة في نظرته إلي كلام العرب ونقله الكثير

ص: 410

من أدبها ليدلل به علي صحة المعني اللغوي للألفاظ والتراكيب أو المعاني النصوص ومقاصد الشعراء.

هذا الذي فصلناه في الموازنة بين عمل أبي العلاء وأبن جني فصلناه أيضا بين عملة وأعمال أصحاب المناهج الأخرى، ومن ثم انتهينا إلي أن ما وصل إلينا من عمل أبي العلاء شيء مختلف عن سائر المناهج الخمسة بحيث لم يتأت لنا إدراجه تحت واحد منها.

وإذا كنا قد درسنا الشروح الواضحة المنهج والشروح غير الواضحة فإن دراستنا لها جميعا قد كشفت عن ظاهر عامة شملت سائر أعمال الشراح، ومن هذا كان أن خصصنا الفصل الثاني من هذا القسم الأخير لدراسة هذه الظاهر فلاحظنا أنها من خلال رصدنا لها يمكن تصنيفها في ثلاث مجموعات: مجموعة تتصل بمتن الحماسة وتشمل ظاهرتين إحداهما: قلة رجوع الشراح إلي الأصول في رواية متن الحماسة، والأخرى تغاضيهم عن مناقشة النحل في المتن المختار من قبل أبي تمام، ومجموعة تتصل بمادة الشروح وتشمل ثلاث ظاهر إحداهما الاستطراد والتوسع في بعض عناصر الشرح، والثانية طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح، والثالثة إغفال الشاعر والعوامل الموحية له بالشعر، ومجموعة تتصل بالشراح أنفسهم وتشمل ظاهرة واحدة هي تسلط نزعات الشراح وأهوائهم في أعمال الشرح.

لقد درسنا هذه الظاهر وفق مجموعاتها، ووفق ما أفرزته هذه الشروح من أعمال، وانتهينا إلي أن عدم رجوعهم إلي مجاميع الشعر ودواوين الشعراء قد أدي بهم إلي الوقوع في افتراضات لا معني لها حين كان أبو تمام يختار بعض الشعر ويسقط بعضة الآخر، كما حرمهم من دراسة تطبيقية في طريقة اختيار أبي تمام للشعر، ومعرفة دقته فيما كان يختار وما كان يترك، كذلك لاحظنا أنهم لم يناقشوا الإشارات التي صدرت عن الشراح الأوائل حول نحل بعض القطع وتوليدها، وإنما وقفوا عند حد النقل وترديد ما قالوه دون أن يناقشوا صحته أو خطأه علي النحو الذي رأيناه فيما بعد عند الباحثين المعاصرين.

أما في ظاهرة التوسع والاستطراد فقد لاحظنا أنة لم يسلم منها شارح من

ص: 411

الشراح على مختلف المناهج التي سلوكها، ولقد عللنا شيوع هذه الظاهرة في أعمالهم بتأثرهم الواضح بشراح الشعر الجاهلي في القرن الرابع الهجري الذين أدركوا أن القصد من شرح الشعر هو التعليم والتثقيف إلي جانب الإمتاع، فوسعوا من نشاطهم في الشروح فحللوا ودققوا وأسهبوا واستطردوا في كل شيء يتصل بالنص من قريب أو بعيد فجاءت شروحهم زاخرة بالمواد العلمية التي هي حصيلة الجمع والجهد، ولم تكن هذه النظرة بغائبة عن شراح الحماسة، وبخاصة إذا علمنا أنهم لم يكونوا بمعزل عن حركة شرح الشعر عامة، ومن هنا جاء إليهم التوسع .. والاستطراد حتى شمل أصحاب المنهج التجميعي الانتخابي الذين يفترض في عملهم التهذيب والتشذيب، وأصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يفترض فيهم أن يكونوا بعيدين عن هذه الظاهرة كل البعد.

أما ظاهرة طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح فقد أوضحنا أننا لا نعني بها أصحاب المنهج العلمي التخصصي لأنهم قد بنوا منهجهم علي إثارة القضايا التي تتصل باللغة والنحو، ومن ثم فمن الطبيعي أن نجد اللغة والنحو يطغيان في أعمالهم، وكذلك لا نعني بها أصحاب المنهج التتبعي التقويمي لأن أعمالهم تقوم وفق ما يتتبعونه ويقومونه في أعمال الآخرين، نحوا كان أو لغة أو غيرهما. إننا نعني بها أصحاب المنهج الإبداعي الفني والمنهج التجميعي الانتخابي والمنهج الاختصاري، فهؤلاء تقوم مناهجهم علي مقومات وصفات لا تقتضي وجود هذه الظاهرة في أعمالهم، ولكنهم مع محاولاتهم الدائبة في توفير هذه الصفات والمقومات لأعمالهم لم يسلموا من شيوع هذه الظاهرة في شروحهم حيث رصدناها في بعض أعمال المرزوقي وفي انتخاب التبريزي وفي أعمال صاحب الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء، وأبي الحين البياري، وأبي القاسم زيد بن علي، ولقد عللنا لهذه الظاهرة وتسربها في أعمال هؤلاء الشراح بأنها مثل ظاهرة التوسع والاستطراد ترجع إلي التأثر بأعمال أبي بكر بن الأنباري وأبي جعفر النحاس، وهي في جملتها يمكن أن ترجعها بالنسبة لشراح الشعر القديم إلي أن كل العلماء الأوائل الذين عنوا بشرح الشعر ابتداء من أبي عمرو الشيباني المتوفى سنة 206 أو 210 هـ إلي أبي سعيد السكري المتوفى سنة

ص: 412

275 هـ كانوا من ذوي الاهتمامات باللغة والنحو، وقد أنعكس هذا الاهتمام علي أعمالهم في شرح الشعر ومن ثم تأثر بذلك كل من جاء بعدهم من شراح الشعر سواء في ذلك شراح الحماسة أو غيرهم.

كذلك سجلنا أن نشأة دراسة الشعر وارتباطها في البداية بخدمة القرآن الكريم والحديث الشريف قد كان لها تأثير في غلو هذه الظاهرة ووجودها في شروح الشراح من حيث إن النظرة إلي شرح الشعر وسيلة إلي فهم القرآن والحديث قد ربطت علم الأشعار بعلمي اللغة والنحو لتصب جميعها في وسيلة واحدة لخدمة غاية واحدة هي فهم القرآن والحديث، ومن هنا ارتبط شرح الشعر لدي الشراح بهذين العلمين بالرغم من انفصال هذه العلوم عن بعضها وقيام كل منها في وحدة قائمة لذاتها.

لقد رأينا أن اهتمام الشراح فيما يتصل بالشاعر كان منصبا علي شرح أسمة لغويا، وتبيان نسبة وقبيلته والأحداث التي كانت وراء قولة الشعر وما يتصل بها من أنساب وأيام وأمثال وأشعار. أما الشاعر نفسه فلا وجود له في تحليل الشعر وشرحه، الأمر الذي شكل ظاهرة عامة شملت سائر الشروح. إن الشاعر بعواطفه وعقله وتفكيره والخط النفسي في بناء شعرة، والعوامل الموحية له بالشعر كل هذا لم يكن من هم الشراح في ذلك الزمن، ولقد اعتمدنا في تعليل انتقاء وجود الشاعر في عملية الشرح لدي الشراح، علي ما علله الدكتور العمري في وجود هذه الظاهرة لدي شراح الشعر الجاهلي، وهي علة ترجع إلي طبيعة العصور القديمة والظروف العملية والثقافية فيها، وهي طبيعة لم تكن تلتفت إلي هذه الأمور من قريب أو بعيد، لأن كل ما يهم الشارح- وهو واقع تحت تأثير هذه الظروف- هو المادة الشعرية يحللها ويقدمها خدمة للعلم أولا وقبل كل شيء لا خدمة للشاعر وإبراز مقاصده ومراميه وخصائصه التي تميز شعرة.

ولاحظنا أيضا أن سائر شراح الحماسة بعد القرن السادس الهجري داروا في الفلك نفسه بل صاروا يكررون ما قاله الأوائل اختصارا أو انتخابا دون أن يكون لهم أدني إضافة فيما خلفه هؤلاء الشراح القدماء، ومن هنا رأينا العلماء

ص: 413

المعاصرين الذين تصدوا إلي الحماسة بالعمل في مجال التعليم قد فكروا في عمل شرح لها وذلك علي نحو ما وضحنا في عمل الشيخ سيد علي المرصفي ومحمد الطاهر بن عاشور وعلي النجدي ناصف.

أما الظاهرة العامة والأخيرة التي سجلناها لهؤلاء الشراح فهي تسلط نزعاتهم وأهوائهم في عملية الشرح، فقد رأيناها عند المرزوقي في نزعته إلي التعالي والتفرد من جهة وإتباعه هوي نفسه ومزاجه من جهة أخري، وسجلنا مدي تأثير ذلك في مصادرة وعملة، كذلك سجلنا لأبن جني جنوحه المستمر نحو اللغة والنحو مما دفع به إلي إخضاع النصوص الشعرية في الحماسة إلي هذه النزعة فحول اختيار أبي تمام الأدبي إلي عمل بعيد الأدب ومجاله.

ورأيناها أيضا في عمل أبي محمد الأعرابي حيث برزت لدية نزعة التحدي وإظهار سقطات الآخرين وقد دفعته هذه النزعة إلي تزييف بعض أعمال النمري بغية إظهار عجزة وضعفه في فهم الشعر وشرحه، فخرج في عملة عن الموضوعية التي ينبغي أن يتمسك بها كل ناقد متصد إلي أعمال غيرة، كذلك سجلت الدراسة في هذا الخصوص نزعتين تحكمتا في عمل التبريزي في الحماسة إحداهما نزعته إلي اللغة والنحو، والأخرى انسياقه المتكرر وراء شيخه أبي العلاء بحيث جعلته النزعة الأولي يقصر جهده علي اللغة والنحو في كثير من النصوص التي ينتخبها من الشروح، وجعلته النزعة الثانية محتل المنهج في مواضع متعددة كان ينزلق فيها نحو الاستطراد الذي ينقله في شرحه من أعمال أبي العلاء.

ولقد سجلنا كذلك أن بعض أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي لم يسلم من هذه الظاهرة وهو صاحب الشرح المنسوب خطأ إلي أبي العلاء حيث لاحظناه ينزع إلي أعمال أبن جني في ((التنبيه)) فينتقل منها في مواضع من شرحه مما يعد استطراد في العمل وتغليبا لعنصر علي عناصر الشرح الأخرى، ولولا أنها كانت قليلة في عملة لا تقاس بما استوفاه من صفات منهجه ومقوماته لأخرجته عن حد المنهج الذي رسمه لعملة.

ولعل أهم نتيجة خرجنا بها من دراستنا لهذه الشروح جميعها، ومن خلال ما

ص: 414

رصدناه فيها من ملاحظات وظاهر عامة هي أننا- وفق رؤيتنا المعاصرة لشرح الشعر، ووفق فهمنا للنظرة الحديثة إلي تراثنا الأدبي والدعوة إلي دراسته وتمحيصه وعرضه في ثوب جديد يتلاءم مع ثقافة عصرنا والعصور التي سوف تليه- نري أن ديوان الحماسة، هذه الاختيار العظيم الذي خلفه أبو تمام، لا يزال في حاجة إلي جهود علماء معاصرين يتصدون لشرحه وفق المفاهيم النقدية الحديثة، والرؤية المعاصرة لعملية الإبداع الشعري وشرحه وإيصاله إلي طلاب الأدب.

إننا نأمل أن نكون بهذه الدراسة قد حققنا عملا مفيدا في تراثنا الأدبي وإضافة جديدة في ميدان البحث العلمي، فإن حققنا في ذلك توفيقا فبها ونعمت، وإلا فما قصرنا في الجهد وإن حرمنا التوفيق الذي هو من عند الله تعالي، عليه توكلنا وإليه ننيب.

ص: 415