المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: المنهج التتبعي التقويمي وتطبيقه في عملي أبي هلال وأبي محمد الأعرابي - شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

[محمد عثمان علي]

الفصل: ‌الفصل الرابع: المنهج التتبعي التقويمي وتطبيقه في عملي أبي هلال وأبي محمد الأعرابي

‌الفصل الرابع: المنهج التتبعي التقويمي وتطبيقه في عملي أبي هلال وأبي محمد الأعرابي

سبق أن أوضحنا أن هذا المنهج يقوم على أعمال السابقين لا ليجمعها وينتخب منها كما هو الحال في المنهج التجميعي الانتخابي، وإنما ليتتبعها ويقوم ما فيها من أخطاء وأوهام، فهو منهج يقوم على تصحيح ما ورد في شروح الآخرين سواء من حيث رواية الشعر أو شرحه، ولقد اشرنا إلى أن هذا المنهج يمكن أن يطبق في عمل رجلين من العلماء الذين اهتموا بحماسة أبي تمام هما: أبو هلال العسكري في رسالته (ضبط مواضع الحماسة) وأبو محمد الإعرابي في كتابه (إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري).

أ- أبو هلال ورسالته:

فأما أبو هلال فإن له عملين في الحماسة أحدهما شرحه للحماسة الذي سبق إيراده في ثبت الشروح، وليس هنا موضع دراسته، إذْ له موضع آت إن شاء الله، أما ما يهمنا الآن فهي رسالته التي صنعها متتبعًا رواية أحد الشيوخ لمتن الحماسة

ص: 214

ضابطًا ومقومًا ما رآه من مواضع زلل فيها، قال في مقدمة هذه الرسالة:((مر بي في نسخة الحماسة بخط بعض أجلاء الشيوخ، وذكر أنه قرأها على أبي بكر الخياط وأبي الحسن الهرباني مواضع لم تضبط حق الضبط، ولم تجر على سنن العدل، فرأيت الأبانة عن مواقع الزلل منها لئلا أنسب إلى الخطأ إذا رويت خلافها))، فإذا نظرنا إلى هذه الرسالة وجدنا أن عمل أبي هلال فيها يقوم على ثلاثة جوانب: أولها التصحيف الذي يحدث في روايات الحماسة فيؤدي إلى فساد في المعنى، وثانيها التحريف الذي تنجم عنه عدة أمور، منها خلل المعنى أو خلل الإعراب أو خلل الوزن، أو خلل أن يجري الكلام على غير المألوف عند العرب، وثالثها الخطأ في نسبة الشعر إلى قائله، وهو في هذه الجوانب الثلاثة كان يعتمد في تبيان كل ما يطرأ له من زلل في الرواية على علوم اللغة والنحو والصرف والأخبار التاريخية وعلم العروض، وعلى ثقافته الواسعة في الموروث من العلم والأدب، وعلى إدراكه العميق لمعاني الشعر ومرامي الشعراء، وذوقه الخاص في فهم الشعر، ومعرفة دقائق القول فيه.

ففي الجانب الأول الخاص بالتصحيف نراه يبيّن ما وقع فيه الشيخ صاحب النسخة من تصحيف في رواياته. ولا شك أن أبا هلال قد أفاد في هذا الجانب من شيخه أبي أحمد العسكري صاحب كتاب (شرح ما يقع في التصحيف)، فهو وإن لم يشر إليه في رسالته فإن تلمذته له تدفعنا إلى القول بأنه أفاد من شيخه في هذا الجانب بدلالة ما جاء عنه في بيت قيس بن الخطيم الذي يقول فيه:

ص: 215

إذا ما شربت أربعا خط مئزري وأتبعت دلوي في السماح رشاءها

فقد قال أبو هلال فيه: (رواه هذا الشيخ (حط مئزري) بالحاء، ورواية الناس (خط) بالخاء، قال خالد بن كلثوم وأبو عمرو الشيباني: خط مئزري أي أرخاه فخط الأرض، وكانوا يسبلون أطراف الأزر فتخط أهدابها في التراب أي تشقه، والخط الشق قال النابغة:

أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني تحت العجاج فما خططت غباري

أي ما شققته) وهذا الكلام موجود في كتاب أبي أحمد العسكري المشار إليه آنفا، وقال أبو هلال عن رواية (حط) المصحفة إن حط المئزر إنزاله عن الحقو، وليس ذلك مما يمدح به).

والتصحيف كما رأينا في هذا المثال قد يقع بسبب الخطأ في الاعجام، لأن الكلمة إذا أسقط الاعجام في حرف من حروفها أدت إلى معنى مغاير للمعنى المراد كما وضح في خط وحط، ومثله أيضًا ما وقع في بيت تأبط شرًا القائل:

على غرةٍ أو جهرةٍ من مكانسٍ أطال نزال القوم حتى تشعشعا

فقد جاءت رواية الشيخ له بإسقاط الإعجام في كلمة (تشعشعا) فصارت (تسعسعا) وهذا ما دفع أبا هلال إلى أن يوقل موضحًا الفرق بين اللفظين قال: "التسعسع بالسين الادبار والهرم، والتشعشع بالشين معجمة من قولهم رجل شعشاع أي حلو فأراد أنه أكثر من الطعان حتى حذقه وصار لبقًا حلوًا إذا فعله لأنه لا يتكلفه، ونحوه قول الآخر:

ص: 216

لبيقا بتقليب القناة بنانيا

وإذا كان تأبط شرًا يعني نفسه بهذا البيت فإن أبا هلال يلجأ إلى ما ذكره الرواة عن صفاته حتى يدلل أن الرواية تشعشع بالشين لا بالسين قال: (وقد أجمع الرواة على أن تأبط شرًا قتل وهو شاب، ولم يكبر فيتسعسع، وفي هذه المقطوعة ما يدل على ذلك وهو قوله:

فلم تر من راء فتيلًا وحاذرت تأيمها من لابس الليل أروعا

والأروع هو الجميل الذي يروع النظر منظره، ولو قد تسعسع لم يرع، ومنها:

رأين فتى لا صيد وحش يهمه فلو صافحت إنسا لصافحته معًا

والهرم المدبر من الرجال لا يسمى فتى).

وفي الجانب الثاني الخاص بالتحريف في الرواية يتضح لنا من مناقشة أبي هلال له أن التحريف قد يقع في الضبط فيؤدي ذلك إلى فساد في المعنى أو إلى فساد في المعنى والإعراب معًا، ومن أمثلة فساد المعنى وجعله رديئا ما جاء عن الشيخ صاحب النسخة في ضبط لفظة وردت في بيت جريبة بن الأشيم القائل:

وقد شبهوا العير أفراسنا فقد وجدوا ميرها ذا شبم

قال أبو هلال: (رواه هذا الشيخ) وقد شبهوا العير أفراسنا) أي بفتح العين وسكون الياء في (العير) قال: وهو خطأ وذلك أن الأفراس لا تشبه بالعير الواحد وإن شبهت به كان رديئًا لا يقوله مجيد، وأيضًا فإن العير ليس له مير، والرواية الصحيحة العير والمراد أنهم لما غزوناهم فرأوا أفراسنا من بعيد ظنوها عيرًا أي إبلا تحمل الميرة فابتدروها فصادفوا ميرها) ثم فسر ذا شيم بقوله أراد ذا موت على ذلك بقول خداش بن زهير:

ص: 217

بين الأراك وبين المرخ تشدخهم رزق الأسنة في أطرافها الشبم

أي في أطرافها الموت).

ومثل ذلك في تحريف الضبط وفساد المعنى ما جاء في قول أبي عطاء السندي:

فإنك لم تبعد على متعهد بلى كل من تحت التراب بعيد

فقد رواه هذا الشيخ صاحب النسخة (لم تبعد) بفتح العين من قولك: بعد الرجل يبعد إذا هلك. قال أبو هلال معلقًا على هذا التحريف: (وليس هذا بالجيد والجيد ها هنا فإنك لم تبع) بضم العين من قولك بعد يبعد لقوله: (كل من تحت التراب بعيد) ولو قال: فإنك لم تبعد لم يحسن إلا أن يقول في آخر الخطاب بعد، ومن حق الصنعة أن يرد ما ابتدأ به كقولك: من اجتم سواء حق به ما اجترم ولم يحسن أن تقول حق به ما اكتسب، فإنه قال لم تبعد على متعهد، ومن العادة أن يقال إنك لم تبعد عليّ لتعهدي إياك بالذكر، وليس من العادة أن يقال إنك لم تمت عليّ لتعهدي إياك بالذكر).

ومن أمثلة تحريف الضبط الذي يؤدي إلى إفساد الأعراب والمعنى معًا ما وقع فيه الشيخ في بيت هلال بن زر أحد بني ثور بن عبد مناة بن أد وهو:

أجادت وبل مدجنة فدرت عليهم صوب سارية درور

فقد روي الشيخ (صوب) بالرفع، قال أبو هلال:(والصواب)(صوب) بالنصب، أراد أن الحرب أجادت فحذفها لدلالة الخطاب عليها، وصوب منصوب على تأويل المصدر أي أجادت الحرب صوب سارية، ودرور مرفوع جعله نعتًا للسالأرية على المعنى لأنها في المعنى رفع، ويجوز أن يكون درور نعتًا لمحذوف أي أجادت حرب صوب سارية) هذا هو وجه النصب عند أبي هلال. أما الرفع فقد قال فيه: وصوب بالرفع غير جائز لقوله أجادت ولا يجوز أن يؤنث

ص: 218

الصوب على تأنيث السارية كما فعل في (شرقت صدر القناة) و (تضعضعت سور المدينة) لأن الصوب ليس بعض السارية بل السارية طرف له، وطرف الشيء ليس منه، ولا يكون صوبًا إلا إذا انفصل عنه، وصدر القناة من القناة، وسور المدينة من المدينة).

ومثلما يؤدي التحريف إلى فساد في الأعراب والمعنى يؤدي إلى اختلال في وزن الشعر، ومن أمثلة ذلك ما جاء في البيت القائل:

تبكي على بكر شربت به سفهًا تبكيها على بكر

رواه الشيخ (تبكي) بتشديد الكاف وضم التاء، قال أبو هلال: والبيت إذا روي كذلك كان مكسورًا).

وكذلك الأمر في البيت القائل:

ولست بلوام على الأمر بعدما يفوت ولكن عل أن أتقدما

فقد قال أبو هلال فيه: (ذكر الديمرتي أن عل ها هنا بمعنى لعل وعقب على هذا بقوله: (عل هو الأصل مزيد عليه اللام، ويجئ لعل بمعنى الإيجاب، والمراد ولكن اوجب على نفسي التقدم في الأمور والاجتهاد في أن لا يفوت) ثم أشار إلى رواية الشيخ التي أدت إلى اختلال الوزن فقال:

(ورواه هذا الشيخ ولكن علي أن أتقدما، والبيت مكسور على هذه الرواية).

كذلك قد يؤدي التحريف في الرواية إلى الوقوع في عيب من عيوب الشعر التي يتحاماها الشعراء المجيدون، وينأون عن الوقوع فيها، ومن ذلك ما جاء في باب المراثي من قول هشام أخي ذي الرمة وهو:

هوى المسجد المعمور بعد ابن دلهم وأمسى بأوفى أهله قد تضعضعوا

ص: 219

قال أبو هلال: (رواه هذا الشيخ قد تصدعوا) وتضعضعوا أجود لأن روى البيت الذي قبل هذا البيت تصدع البيت:

نعوا باسق الأخلاق لا يخلفونه تكاد الجبال الشم منه تصدع

ولم يكن هشام ليوطئ في بيتين متواليين ومع إمكان القوافي له، وإذا وقع الإيطاء في بيتين متباعدين في القصيدة كان أقل عيبًا، وكلما تقاربا كان عيبه أشد فإذا تواليا فهو غاية في العيب ولا نعرفه لمجيد) فكأن أبا هلال يرى أن رواية الشيخ قد نفت عن الشاعر الجودة حيث جعلته يقع في غاية العيب من الايطاء، وهذا بطبيعة الحال يمتنع معه أن يكون من ذوي الاختيار في الحماسة، وهو اختيار بناه صاحبه على الجيد من القول.

وقد يؤدي التحريف إلى مخالفة الكلام لما هو جار على عادة العرب، وذلك مثل قول برج بن مسهر:

فقمنا والركاب مخسيات إلى بزل مرافقهن كوم

فقد عرض أبو هلال لشرح معنى الركاب ومعنى مخسيات قبل أن يتصدى لتحريف الشيخ في رواية هذا البيت قال: (الركاب الإبل لا واحد لها من لفظها، والمخسيات المذللات والتخييس التذليل، ومنه قيل للسجن مخيس، وأصل الكلمة من اللين يقال: خيست الكتان إذا ألقيت بعضه على بعض في الماء ليلين) ثم تصدى لتحريف رواية الشيخ فقال: (رواه هذا الشيخ محبسات على أنها تحبس ولا أعرف ما الذي تحبسه الركاب ثم تناول تحريفًا آخر، وهو أن يروي البيت (مخسيات) قال: (ولعل قائلا مخسيات أنها تخيس أصحابها أي تذللهم) فرد هذه الرواية بقوله: (فيكون ذلك قولًا مردودًا لأنه ليس من عادة العرب أن يصفوا الإبل بتذليل أصحابها وإنما العادة أن يصفوها بالذل -وهو خلاف الصعوبة- فيقولوا: ناقة مياسرة إذا كانت لا تصعب على راكبها فالوجه أن يروي ها هنا "مخسيات" بالفتح ليكون الكلام جاريًا على عادة العرب).

ص: 220

على أن أهم ما تعرض إليه أبو هلال من تحريف في الرواية هو قضية إرجاع الضمائر علي الوجه الصحيح الذي يسير وفق ضوابط اللغة، ووفق طريق الصنعة في الشعر فضًلا عن أداء المعني بالصورة التي أرادها الشاعر، وهو أمر سبق أن تعرضنا له في حديثنا عن ابن جني الذي تكلم في مسألة إرجاع الضمائر من حيث التذكير والتأنيث، وما انتهي إليه الأمر بينه وبين أبي الطيب المتنبي في هذا الخصوص، فأبو هلال في رسالته هذه رأيناه يهتم كثيرًا بهذا الجانب في رده روايات هذا الشيخ، وذلك لأن إعادة الضمير إلي غير وضعه الصحيح تؤدي إما إلي خلل في قواعد العربية التي قعدها النحاة أو غلي قلب في المعني. ومثال ما يؤدي إلي خلل في قواعد العربية ما جاء في البيت القائل:

إن الأمور دقيقها مما يهيج له العظيم

فقد جاءت رواية الشيخ فيه "مما يهيج لك" فقال أبو هلال: "ليست هذه الرواية بالمستقيمة، وذلك أن الأمور منصوب بأن، ودقيقها بدل من الأمور، ومما يهيج .... إلى آخر البيت خبر، والهاء في "له" راجعة إلي اسمها من الخبر ولو قال: "لك " لما صح الكلام لأنه ليس له في الخبر رادع إلي لاسم يرتبط به الكلام".

أما مثال ما يؤدي إلي قلب المعني عما هو مراد له فقد جاء ف بيت الغزل وروايته الصحيحة هكذا:

أرادت لتنتاش الرواق فلم تقم

إليه ولكن طأطأته الولائد

فقد رواه الشيخ صاحب النسخة "طأطأتها" بتأنيث الضمير بدلاً من تذكيره فقال أبو هلال مناقشًا هذا التحريف بادئًا بمعني البيت: "يصف امرأة بالكسل والنعمة، ويذكر أنها مكفيه أي أنها أرادت لتتناول رواق البيت لغرض لها فيه فلم تقم لتكاسلها عن حوائجها ولكن طأطأت الولائد وهي الإماء الرواق إليها فقضت من تناولها وطره من غير أن تتجشم القيام إليه، والتناوش التناول. ومنه قوله

ص: 221

تعالى: "وأنى لهم التناوش من مكان بعيد"، ثم عرض لرواية الشيخ "ولكن طأطأتها الولائد" قال: أي طأطأت هذه المرأة وليس لذلك معني هنا البتة، وطأطأتها باعدتها عن انتياش الرواق وهذا قلب المراد هنا".

وفي الجانب الثالث والأخير نري أبا هلال يهتم بنسبة الشعر غلي قائليه، ففي القطعة الواردة في باب الهجاء، والتي نسبتها أبو تمام إلي أبي الأسد في هجاء الحسن ابن رجاء، وهي من بيتين هما:

فأنظرن إلى الجبال وأهلها وغلي منابرها بطرف أخزر

ما زلت تركب كل شيء قائم حتى اجتزأـ علي ركوب المنبر

حرف الشيخ صاحب النسخة اسم الشاعر إلي "أبو الأسود" فقال: أبو هلال مصححًا إياه: "وهو غلط إنما هو أبو الأسد التميمي واسمه مباتة بن حمان، ويعرف بأبي الأسد الدينوري شاعر رشيدي، وليس بأبي الأسود الدلي، وذلك أن أبا الأسود في أيام أمير المؤمنين علي عليه السلام والحسن بن رجاء في بعض أيام بني العباس.

ومثل ذلك ما وقع الشيخ من تحريف لاسم أبي الطمحان الأسدي، وذلك في أبيات وردت في باب الملح قالها أبو الطمحان الأسدي لما حلق صاحب الشرطة يوسف بن عمر لمته ومطلعها:

وبالحيرة البيضاء شيخ مسلط أذا حلف الأيمان بالله برت

قال أبو هلال: "رواه هذا الشيخ أبو الطمحان القيني وهو خطأ، وذلك أن أبا الطمحان القيني جاهلي واسمه حنظلة بن شرقي: وقيل بل اسمه ربيعة بن عوف بن غنم بن كنانة بن القين بن جسر القائل:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

ص: 222

وفيهم أبو الطمحان النهشلي وكان يهاجي أم الورد العجلانية، أبو الطمحان الأسدي هذا الذي أنشد له أبو تمام " وبالحيرة البيضاء: وأنشد له الأخفش قال نقلته من خط ثعلب:

كأن لم يكن بالقصر قصر مقايل وزورة ظل ناعم وصديق

وهي أبيات. وأبو الطمحان الطائي أنشد له الجاحظ في الحيوان:

يا أم لا رقيت عين بكيت بها

ولا جرت لكم طير الميامين

وهي أبيات.

وختم أبو هلال هذا التوضيح فيمن اسمه أبو الطمحان بقوله: "فهؤلاء آباء الطمحان، والقيني منهم جاهلي من غير خلاف، ويوسف بن عمر عامل لهشام بر عبد الملك" ثم أضاف أن الحسن بن بشير الآمدي ذكر من يقال له أبو الطمحان، فذكر أبا الطمحان القيني، وأبا النهشلي، وأبا الطمحان الطائي، وأفاد بأن الأسدي التبس أمره علي الرواة وأشكل حتى حسبوه أبا الطمحان وانما هو أبو الطمخاء، واسمه طخيم أنشد له أبو حاتم والمبرد".

وهكذا رأيناه أبا هلال العسكري من خلال عمله في هذه الرسالة التي تتبع فيها رواية أحد الشيوخ بالإصلاح والتقويم يحقق منهجًا في التأليف ومنهجًا في معالجة ما تناوله من تقويم وإصلاح، وقد كشفت لنا هذه التقويمات والإصلاحات عن ثقافة أبي هلال في فن الشعر، وما تقضيه هذه الثقافة من معرفة بعلم النحو واللغة والصرف والعروض ووقوف علي الأنساب والأخبار التاريخية، الأمر الذي يؤكد ما قلناه سابقً أن أصحاب هذا المنهج ذو وثقافة عالية في جميع العلوم التي تشكل عناصر

ص: 223

الشرح في الشعر، غير أننا ونحن نقول هذا القول ينبغي أ، نسجل ملاحظتين من خلال ناء رأيناه من عمل لأبي هلال في هذه الرسالة. إحداهما أ، أبا هلال وهو العالم المتصدي لأعمال السابقين، يقومها ويصوب ما فيها من زلل، كان عليه أن يتحاشى الوقوع في الوهم، حتى لا يصحح وهمًا ليبقي علي وهم آخر، فقد رأيناه يقع في هفوة هو في رأينا أكبر منها، ذلك أنه لما صحح رواية الشيخ في بيت لأبي عطاء السندي قال: "وقول أبي عطاء السندي يرثي يعقوب بن داؤد:

فأنك لم تبعد علي متعهد

بلي كل ما تحت التراب بعيد"

والبيت من أبيات أربعة قالها أبو عطاء السندي في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة لا في رثاء يعقوب بن داؤد وزير المهدي المشهور، يدلنا علي ذلك أن الطبري ذكر في تاريخه أن يزيد بن عمر بن هبيرة لما قتل علي يدي المنصور ودفن بواسط قال أبو عطاء السندي:

ألا ان عينًا لم تجد يوم واسط عليك بجاري دمعها لجمود

وروي بعدها أبياتًا ثلاثة منها البيت الذي أورده أبو هلال".

كذلك أورد الأبيات ابن قتيبة في الشعر والشعراء ولكنه وهم وقال: إنها في رثاء عمر بن هبيرة أبي يزيد، ويتضح وهمه هذا من أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر لنا علاقة أبي عطاء السندي بيزيد بن عمر بن هبيرة، ولم يشر إلي أية علاقة بينة وبين عمر بن هبيرة (1)، كما أ، صاحب مراتب النحويين أبا الطيب اللغوي أفاد بأن ذكر أبي عطاء قد ورد عند الأصمعي ذات يوم فطعن أحد الحاضرين في شعره فقال الأصمعي: أخبرني أبو جندل الراعي قالك لما دفن يزيد بن عمر بن هبيرة قال أبو

(1) ينظر ترجمة أبي عطاء في الأغاني 16: 78 وما بعدها.

ص: 224

عطاء، وروى أبيات الرثاء الأربعة، ثم أردف الأصمعي قائًلا: أفيقال لهذا لا يحسن؟ ! ".

وهذه الروايات جميعها تؤكد أن الأبيات في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة ولا صلة ليعقوب بن داؤود بها.

أما الملاحظة الثانية فهي تتصل بما يصنعه شراح الحماسة من مفاضلة بين الروايات، وذلك أننا بعد أن قرأنا رسالة أبي هلال هذه اتضح لنا أن هناك اختلافًا فيما يفضله أبو هلال من رواية، وما فضله الإمام المرزوقي من رواية، فقد سبق أن مر بنا في دراستنا لعمل المرزوقي في الحماسة أنه قد اختار رواية بيت مرة بن محكان في وصف جازر ناقة علي هذا النحو:

ينشنش اللحم منها وهي باركة كما ينشنش كفا قاتل سلبا

وأشار إلي أن بعضهم قد روي " كما تنشنش كفا قاتل سلبا" ولكنه قال: إن الرواية الأولي أجود وأكثر مشابهة"، وهذه الرواية التي اختارها لمرزوقي ووصفها بالجودة هي ذاتها التي اختارها الشيخ صاحب النسخة التي تعقبها أبو هلال بالتصحيح والتقويم، وكان أن قال عن رواية "كفا قاتل" أنها تصحيف والقاتل لا يقطع السلب ولا يعسر عليه أخذه". ويبدو أن المرزوقي نظر إلى المشابهة بين قاتل القتيل وناحر الناقة، وان القاتل يسلب القتيل عدة حربه كما أن الجازر يسلب الناقة لحمها أما أبو هلال فقد وقف عند معني لفظ النشنشة وفسرها بمعني القطع أو الأخذ بمعاسرة، ثم نظر إلي نظر أن القاتل لا يقطع سلب قتيله ولا يأخذه في معسرة ولذلك حكم بأن رواية "كفا قاتل" بالقاف تصحيف.

والحق أن اختلاف وجهات النظر في تفضيل رواية علي أخري عند شراح الحماسة يعد عمًلا قائمًا بذاته ويحتاج إلي استقصاء دقيق، وحسبنا أن نضير إليه فقط

ص: 225

لكي ندلل على أن المفاضلة بين رواية وأخرى إذا قامت على الرؤية الذاتية من الشارح أو ذوقه الخاص فإن الاختلاف بينه وبين غيره من الشراح لابد أن يقع لأن الرؤى مختلفة والأذواق متفاوتة.

ب/ أبو محمد الأعرابي وكتابع: إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري:

وأما أبو محمد الأعرابي فلم يعرف له عمل في الحماسة سوى هذا الكتاب الذي ألفه في الرد على أبو عبد الله النمري، وقد أوضح سبب تأليفه في أول الكتاب قال)) حضرت المجلس العادلي العالي -نوره الله - ذات ليلة، فجرى ذكر أبي عبد الله النمري-رحمة الله- فأثني عليه بعض الحاضرين، وذكر أنه كان شيخ البصرة في زمانه فضلاً، ونبلاً، ودرايًة، ورواية، قد استخرج معاني الأبيات من أبيات الحماسة هو فيها السابق المبرز والجواد المبر، فقلت: شاكه أبا يسار، تأملت ما فسره الشيخ من تلك الأبيات أولاً وثانيًا فوجدت في خلال ذلك خللاً كثيرًا، أما قصورًا أو تقصيراً، فقال لي: عنتًا باطلاً وظلمًا، إن كنت صادقًا فيما تدعيه فجرد لنقيضها كتابًا يدل علي صحة دعواك وقد أمهلتك سنة، فأمليت كتابي هذا بعون الله في مدة

ص: 226

أسبوع وبينت مواضع الزلل فيما فسر أبو عبد الله، وأثبت الصواب تحت كل بيت، وجعلت ذلك خدمة للمجلس العادلي، وبالله التوفيق".

ونفهم من هذه المقدمة أمرين أحدهما أنه ألف هذا الكتاب بدافع من التحدي وإظهار المقدرة علي التصدي بالنقد والتقويم لأعمال من سبقه، والآخر أن العجلة كانت صفة من صفات هذا التصنيف، إذ ألفه في مدة لا تتجاوز الأسبوع، وهما أمران قد يديان إلي عدم موضوعية من جهة، وإلي خلل واضطراب في التتبع والتقويم من جهة أخري، وهذا ما سيتضح لنا من خلال دراستنا لهذا التصنيف. وربما كان أهم ما يتوقف عنده الدارس لهذا الكتاب هو مصادره فليس فيه من المصادر سوي شيخه أبي الندي، الذي أشرنا إليه في ثبت الشروح شارحًا من شراح الحماسة، وأبو الندي وان كان رجًلا واسع العلم راجع المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها كما قال ياقوت، فإنه لم يأخذ علمه من شيوخ معروفين، وإنما أخذ ذلك من خروجه إلي البادية والتقائه بالأعراف الذين يسكنون الخيام، كما أنه كان مجهوًلا لا معرفة للعلماء به، ولهذا رأينا أبا يعلي الشريف نظام الدين المعروف بابا الهبارية يعيب علي أبي محمد الأعرابي استناده فيما يرويه عن أبي الندي وقال عنه:"من هذا الأسود الذي نصب نفسه للرد علي العلماء، وتصدي للأخذ علي الأئمة القدماء، بماذا نصحح قوله ونبطل قول الأوائل ولا تعويل له فيما يرويه إلا علي أبي الندي، ومن أبو الندي في العالم، لا شيخ مشهور ولا ذو علم مذكور"

ولكن هذا القول وان كان صحيحًا فإن هذا لا يمنع من أن يكون عمل أبي محمد رده علي النمري ذا فوائد، مع ما ذكرناه من اضطراب وخلل، ولعل هذه الفوائد هي ما عناه القفطي حين أشار إلي أن كتب أبي محمد الأعرابي من فواكه الكتب وإنها لنعم الممتع لأهل الرغبة والطلب، وان الذي قصده منها لم يقصده

ص: 227

سواه، ولا يسوغ لأحد من العلماء أن يأتي بمثل ما أتاه)).

ونحن إذا نظرنا في كتابه وجدناه يناقش النمري ويرد عليه في جوانب أربعة:

أولها: جانب الرواية وتصحيح ما اعتمده النمري في متنه من رواية للحماسة، وثانيها: تصحيح نسبة الشعر إلى قائليه، وثالثها: التنبه على أمور أغلفها النمري في شرحه، ورابعها: التصدي بالمناقشة لما قرره النمري من معاني أبيات الحماسة.

ففي الجانب الأول الخاص بتصحيح متن النمري نراه ينظر إلى صحة الرواية؛ من جهة، وصحة المعني من جهة أخرى، ومن ذلك ما ورد عنه في رواية بيت أرطاة ابن سهية، وقد رواه النمري هكذا:

ونحن بنوعم على الذات بيننا زرابي فيها بغضة وتنافس

وقال فيه: أكثر أهل العلم لا يدري ما الزرابي ها هنا. والزرابي: البسط ذات الألوان، فرد عليه أبو محمد الأعرابي قائًلا إنه)) تاه في تفسيره لما لم يعرف صحة متنه، وأظنه كان معولًا على الصحف، والصواب ما أنشدناه أبو الندي رحمه الله ثم وجدت بعده بخط إسحق الأعرابي أخي أبي عبد الله:

ونحن نبو عم على ذاك بيننا

زانب فيها بغضة وتنافس

قال: والذانب القوارض ولا أعرف لها واحدًا)).

ولقد انفرد أبو محمد برواية ((زانب)) غير أنني رأيت أبا هلال ينتقدها ويقول: ((الزرابي الطنافس، واحدها زريبة وليس له هنا معني البتة، ولا شك في أنه تحريف أو تصحيف))، وهذا يؤكد أن للبيت رواية غير هذه التي أجمع الشراح، وربما كان ما ذهب إليه أبو محمد الأعرابي صحيحًا لأن أبا هلال لم يعرف للبيت رواية غير هذه التي انتقدها ووصفها بالتصحيف أو التحريف.

ومما نظر فيه أبو محمد إلى الرواية والمعنى معاً ما جاء عنه في قول ابن زيابة:

ص: 228

إنك يا عمرو وترك الندى

كالعباد إذ قيد أجماله

فقد جاء تفسير أبي عبد الله النمري له أنه نقل قولًا عن ابن السكيت مفاده أن الشاعر يقول: أنت كالعبد اقتصر على موضع يرعي فيه ولا يتغرب بإبله، وعلق عليه بقوله: وعندي أنه غير مقنع أن يكون قوله وترك الندى معناه أنك وبخلك فإن من ترك الندى فقد أخذ البخل. ثم أتي بالمعنى الذي رآه، قال: يقول إنك وبخلك وحبسك مالك كالعبد قيد أجماله فلا يبرحه منها بعير، وكذلك أنت قيدت مالك فلا يبرحك، فرد عليه أبو محمد الأعرابي مصححًا رواية البيت والمعنى معًا قال)) أخبرنا أبو الندي قال: هذا البيت من المختل القديم والصواب:

إني وحواء وترك الندي

كالعبد إذ قيد أجماله

قال: حواء فرسه، ومعناه: إنني متى تركت الغزو على ظهر حواء واغتنام الأموال وتفريقها على الزائرين والسائلين لم يبق لي هم لأن أكثر همي في ذلك وكنت مثل العبد، إذا شبعت إبله فأراحها وقيدها في مراحها ولم يبق له هم حينئذ، يقول: همي في الغزو واغتنام الأموال وبذلها"".

وفي هذا الجانب نري أبا محمد الأعرابي يعيب علي أبي عبد الله النمري أخذه الرواية من الصحف، ولعلك لحظت ذلك في مناقشة لبيت أرطاة بن سهية، ولقد رأينا ذلك منه في مناقشته للبيت الذي ورد في الحماسة منسوبًا لعامر بن الطفيل وهو:

أكر عليهم دعلجا ولبانه إذا ما اشتكي وقع الرماح تحمحما

فقد شرحه النمري وفق هذه الرواية فاعترض عليه أبو محمد الأعرابي بقوله: "هذا موضع المثل:

إذا أفسدت أول كل أمر أبت أعجازه إلا التواء

لو عرف أبو عبد الله صحة متن هذا البيت لما استهدف في تفسيره بلسان الطاعن، وأظنه أخذ هذا الشعر من الصحف فلهذا وقعت فيه هذه التخالط، والصواب:

ص: 229

أقدم فيهم دعلجًا وأكره إذا أكرهوا فيه الرماح تحمحما"

وهذا يدفعنا إلي إيراد ما أشرنا إليه في فصل سابق أن أبا عبد الله النمري أخذ ديوان الحماسة عن أبي رياش، وأخذه أبو رياش عن أبي المطرف الأنطاكي الذي أخذه بدوره عن أبي تمام، وجل الذين شرحوا الحماسة أفادوا بأن الحماسة إما وقعت لهم عن طريق أبي رياش أو الحسن بن بشر الآمدي، فهما اللذان أخذا الحماسة عن أبي المطرف، وسند أبي رياش أساسه النمري، وسند الآمدي أساسه أبو الحسين بن دينار، هذا فضلًلا عن أن الحماسة قد أخذت مما خطه أبو تمام بقلمه وتركه في بيتت آل بهمذان، ولهذا تعددت نسخ الحماسة بناء علي اختلاف هذه المصادر، ومن الطبيعي أن يرجع الشراح وهم يشرحون ما فيها من شعر إلى هذه النسخ، ويقارنوا بينها وبين ما أخذوه من شيوخهم، ومن ثم فلا مجال لاعتراض أبي محمد الأعرابي علي النمري واهتمامه بأنه يأخذ روايته من الصحف، لأنه ان كان ثمة خلل في رواية النمري فمرده إلي أمرين: أحدهما أبو تمام الذي كان في اختياره يفاضل بين روايات الشعر فيأخذ منها ما يوافق ذوقه ورؤيته السليمة للشعر، والآخر اختلاف نسخ الحماسة التي كان يرجع إليها الشراح. وصحيح أن العلماء الأوائل كانوا يعترضون علي الأخذ من الصحف، ويعولون كثيراً علي الأخذ شفاهه عن الشيوخ، وهذا واضح مما جاء عن ابن سلام فقد قال" إذا اختلفت الرواة وقالوا بآرائهم وقالت العشائر بأهوائهم فلا ينفع الناس في ذلك إلا الرواية عن من تقدم"، غير أنه في زمن النمري كان عهد الرواية الشفهية قد بدأ يتلاشى ليحل محله عهد جديد قوامه الكتب، وسجلوا أعمالهم في كتب أخذها عنهم تلاميذهم قراءة عليهم أو سماعاً منهم أو إجازة بقراءتها وشرحها للناس، ومن ثم فإن من الغبن والتعسف أن يأتي أبو محمد الأعرابي ليأخذ علي النمري شيئًا هو نفسه لم يسلم منه، لأنه وإن كان يعول كثيراً علي أخذه مشافهة عن شيخه أبي الندي فإنه كان يرجع إلي ما أسماه بالصحف، ولقد مر بنا فيما سبق قوله في

ص: 230

بيت أرطاة بن سهية "والصواب ما أنشدناه أبو الندي رحمه الله ثم وجدته بعده بخط إسحق الأعرابي أخي أبي عبد الله".

ومع ما ذكرناه فأن تتبع أبي محمد الأعرابي للرواية في شرح النمري قد دل علي نواح فيها وجه من القبول والاستحسان، ومن ذلك ما باء عنه في بيت الحماسة القائل:

بيض مفارقنا تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا أثار أيدينا

فقد فسر أبو عبدالله معني قوله "بيض مفارقنا" بأن المراد لا دنس فسنا، والعرب كلها سمر فإذا وصفوا بالبياض فإنما يراد به النقاء والطهارة، فقال أبو محمد الأعرابي أنه سأل شيخه أبا الندي عن معني "بيض مفارقنا تغلي مراجلنا" قال:"هذه رواية ضعيفة فإن بيض المفارق قرع، ومرجل الحائك يغلي كما يغلي مرجل الملك. قال: والرواية الصحيحة شعث مقاذفنا نهب مراجلنا" ومعناه أننا أصحاب حروب وقري" وهي رواية تتفق مع ما جاء في الشطرة الثانية، وفي رأينا أنها أدل وأقوي في المعني من رواية بيض مفارقنا التي ذهب بعض الشراح في تفسيرها مذهباً فجاً حيث فسرها بأنهم يستعملون الطيب ولذا ابيضت مفارقهم، وهو معني بعيد عن الجو العام للقصيدة التي بنيت علي الفخر بالشجاعة والكرم.

وفي تصورنا أن أبا محمد العرابي قد أفاد من شيخه أبي الندي في عمله التبعي لرواية أبي عبد الله النمري، ولكن الأمر لا يعدون أن يكون مجرد اختلاف في الرواية يقع عادة بسبب اختلاف المصادر التي أخذ العلماء منها الشعر، وبخاصة بالنسبة لأبي الندي الذي ذكرت المصادر أنه كان يخرج إلي البادية ويأخذ علمه وروايته منها، وهي روايات لا تقاس بما محصه العلماء الأوائل الذين خلفوا ما محصوه في كتب ودواوين اختار منها أبو تمام حماسته.

ص: 231

أما الجانب الثاني الخاص بتصحيح نسبة الشعر إلي قائله فهو أيضاً جانب لا دخل لأبي عبد الله النمري فيه، وإنما أبو تمام هو المسؤول الأول عنه، ثم الذين نسخوا اختيار في الحماسة من بعده، ومع ذلك فأن أبا محمد الأعرابي يحمل النمري خطأ نسبة الشعر إلي قائليه.

ولقد تتبعنا عمله في هذا الجانب فوجدناه يصحح نسبة خمس عشرة قطعة إلى قائليها، وكان يأتي في بعضها بالحجة التي تدعم قوله ويترك بعضها الأخر بغير حجة، فمن القطع التي صحح نسبتها بحجة قوله في البيت الذي نسب للسموءل بن عادياء في رواية النمري وهو:

وأسيافنا في كل غرب ومشرق بها من قراع الدارعين فلول

قال أبو محمد الأعرابي: هذا البيت لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي لا للسموءل بن هادياء الغساني، ويدل ذلك قوله في القصيدة:

فأن بني الديان قطب لقومهم تدور رحاهم حوله وتجول

والديان هو يزيد بن قطب بن زياد بن الحارث الأصغر بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث الأكبر القبيل"

وفي البيت الذي نسب في شرح النمري لمعدان بن جواس وهو:

وكفنت وحدي منذرًا في ثيابه وصادف حوطًا من أعادي قاتل

قال النمري: قيل/ منذر ابنه وحوط أخوه، فرد أبو محمد الأعرابي بأن البيت ينسب إلى حجييه بن المضرب، ومنذر أخوه وهو المنذر بن المضرب وحوط ابنه، به كان يكتني حجية، وفيه يقول معدان بن جواس:

ورثت أبا حوط حجية شعره وأورثني شعر السكون المضرب

وممن القطع التي صحح نسبتها دون أن يورد لذلك حجة ما جاء عنه في

ص: 232

القطعة التي نسبت في شرح النمري ليزيد بن الحكم الكلابي والتي منها قوله:

فلما بلغنا الأمهات وجدتم بني عمكم كانوا كرام المضاجع

فقال أبو محمد الأعرابي: هذا البيت لعبد الرحمن بن زيد العذري أخي زيادة بن زيد قتيل هدبة بن الخشرم، ولم يأت بحجة تدعم قوله هذا ولا ذكره مصدره فيه"، ومثله ما جاء في باب الهجاء في البيت الذي رواه النمري لزميل بن أبير وهو:

ولست بربل مثلك احتملت به حصان نأت عن فحلها وهي حائل

قال أبو محمد الأعرابي: ليس هذا البيت لزميل بل هو لأرطاة بن سهية يهجو زميلاً، ولم يأت بشيء يكد هذا القول سوي أنه أورد الأبيات التي وردت في الحماسة بتغيير طفيف في الألفاظ.

علي أن أبا محمد الأعرابي في هذا الجانب قد قام بتصحيح اسمين من شعراء الحماسة وردا في شرح النمري وغيره محرفين، فقام بتصحيح التحريف فيهما، أحدهما حسان بن نشبة فقد نقل أبو محمد الأعرابي عن شيخه أبي الندي أن هذا الاسم محرف، والصواب جساس بن نشبة، مثل عساس، وأتي بدليا علي ذلك، وهو قول جرير يهجو جحدف بن خرعب التيمي:

أجخدب أشبهت التي كان بظرها كطرثوثو أرض غير ذات أناس

لقد شهدت تيم علي أم جخدب وكان سراة التيم رهط جساس

يعني جساس بن نشبة التيمي.

والاسم الثاني هو أبو الطمحان الأسدي، وقد ورد هكذا في شرح النمري، فقال أبو محمد الأعرابي: ليس كل اسم فيه طاء وميم فهو الطمحان علي قياس أبي

ص: 233

الطمحان القيني، وإنما هو طخيم أبو الطخماء الأسدي، وهذا يجعانا نرجع إلى ما أوردناه سابقًا في عمل أبي هلال حين ذكر أن الآمدي قد أفاد بأن اسم هذا الشاعر قد التبس علي الرواة وهو طخيم أبو الطخماء وكذلك ما أشرنا إليه من أن المبرد قد أورد في الكامل صخيم بن أبي الطخماء"، وكل هذا إنما يدعم ما ذهب إليه أبو محمد الأعرابي، ولكن علينا أن نتبه غلي عبارة الآمدي " إن هذا الاسم قد التبس علي الرواة" فالرواة هم سبب التحريف وليس النمري حتى يأخذ عليه من قبل أبي محمد الأعرابي.

أما الجانب الثالث المتمثل في التنبيه علي أمور أغفلها النمري في شرحه فقد كانت مآخذ فيه تنحصر في ثلاثة أمور: أحدها - وهو الأكثر - أن النمري يغفل ذكر القصة أو المناسبة التي تتصل بالنص ولا يتضح المعني إلا بإيرادها، وثانيها أنه يترك أجزاء من النص دون تفسير، وثالثها: أنه يهمل توضيح الأعلام التي ترد في النصوص أو التي تشير إليها أبيات النصوص.

(1)

ولقد رأيناه في الأمر الأول وفي مواضع مختلفة من كتابه ينوه إلي أن هذا البيت لا يفهم معناه إلا بذكر قصته، ثم يورد القصة الخاصة به، غير أنه كان إذا رأي هذا في بيت من أبيات الحماسة لا يورد كل ما قاله النمري حول البيت، وإنا يشير إليه إشارة فقط، وقع ذلك منه في أكثر من موضع، ومن أمثلة ما جاء عنه في بيت قيس ابن الخطيم القائل:

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر لها نقذ لولا الشعاع أضاءها

فقد قال فيه: "ذكر أبو عبد الله حروف هذا البيت ولم يذكر السبب الذي دعا قيسًا إلي طعن ابن عبد القيس، وكان سبب ذلك أن هذا القيسي قتل عديا جد قيس ابن الخطيم، فقتله قيس بجده وأعانه علي ذلك خداش بن زهير العامري".

ص: 234

وفي بيت معن بن أوس الذي يقول فيه:

لعمرك ما أدري وإن لأجل

علي أينا تعدو المنية أول

أشار أبو محمد إلي ما ذكره النمري أن البيت يروي تغدو بالغين معجمة من الغدو ثم قال: "كنت قد ذكرت أن مثل هذا من الشعر لا يكاد يعرف معناه محققًا إلا بالقصة المتعلقة به، فاشتغل أبو عبد الله عن الأهم وذكر يغدو ويعدو بالغين والعين، وكان من قصة هذا الشعر أنه كان لمعن بن أوس صديق، وكان معن متزوجًا بأخته، فاتفق أنه طلقها وتزوج بأخرى، فآلي صديقه أن لا يكلمه أبدًا، فأنشأ معن يقول يستعطف عليه ويسترقه له" ثم أورد البيت كما رواه النمري وقال: وهذا كما قال الأخر:

فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معًا كفي بالممات فرقًة وتناءيا

والحق أن ذكر المناسبة في شرح الشعر يصور الجو النفسي الذي قال فيه الشاعر شعره، ويبين الدوافع التي حركت وجدانه إلي قوله. ولكن ليس بالضرورة دائمًا أن يكون فهم المعني مقصورًا علي ذلك، ففي هذا المثال وسابقه يمكن للشارح أ، يشرح البيت دون ذكر القصة، ولا يخل ذلك بإيراد المعني، بدلالة أننا يمكن أن نشرح هذا البيت الذي أورده أبو محمد الأعرابي "فأكرم أخاك الدهر" وتبين ما فيه من معني دون أن نعرف الدوافع النفسي الذي دفع قائله أو القصة التي كانت وراءه، ومع هذا فأن هذا الأمر من عمل أبي محمد الأعرابي قد حفل بالكثير المتنوع الذي أضاف إلي أعمال الشراح الشيء الوفير من أخبار الشعراء وقصصهم وأشعارهم غير المختارة في الحماسة، ويكفي المتصفح لكتابه أن ينظر فيه ليدرك مدي غزارة علم الرجل في هذه الناحية، ولعلك حين تقف معنا علي نموذج من عمله في هذا الخصوص تدرك قيمة هذا الكلام الذي قللناه، ففي بيت النسيب الذي نسب إلي آخر والذي جاء فيه:

ونبئت سوداء القلوب مريضةً فأقبلت من مصر إليها أعودها

ص: 235

نجد أبا محمد الأعرابي يقف علي عمل النمري فيه فيذكر لنا تقصيه للديمرتي في شرح معني سوداء القلوب، فقد كان الديمرتي قد قال: جعلها سوداء القلوب لقساوة قلبها، وجمع كما تقول: فلان عظيم المناكب وغليظ الحواجب، فاعترض عليه النمري بقوله، إن هذا يدي إلي خطأ كبير لأن الشاعر إنما وصف امرأة معرفة وهي ها هنا علي تفسيره نكرة، فلو قلنا رأيت حسن الوجه لكان نكرة، فإذا أردنا التعريف قلنا: رأيت الحسن الوجه، وكذلك سوداء القلوب، ثم أتي بتفسيره فقال: قوله سوداء القلوب يشتمل علي معنين أحدهما: أن يكون اسمها سوداء فأضافها إلي القلوب لتعلقها بها وحبها لها كقول ابن الدمينة:

قفي يا أميم القلب نقض تحيًة ونشك الهوي ثم افعلي ما بدا لك

والمعني الآخر أن يكون جعلها كسويداء القلوب، وزعموا أنها هنة سوداء تحل القلوب، ويسمي حبة القلب، ويقال إنها موضع الحب والله أعلم.

هذا عمل النمري في تفسير معني "سوداء القلوب" وقف عنده أبو محمد الأعرابي فأتي بمثل كعادته في تتبع عمل النمري وتقويمه فقال: هذا موضع المثل:

تعبين أمرًا ثم تأتين مثله لقد حاس هذا الأمر عندك حائس

ثم قال: الشيخان كلاهما علي خطأ فاحش، وذلك لأنهما لم يعرفا قائل هذا البيت ولا من قيل فيه، ولا القصة التي لا يعرف معناه إلا بها، والصواب:

ونبئت سوداء الغميم مريضةً فأقبلت من مصر إليها أعودها

سوداء الغميم امرأة من بني عبد الله بن غطفان اسمها ليلي ولقبها سوداء وكانت تنزل الغميم من بلاد غطفان، وكان عقبة بن كعب بن زهير ينسب بها، ثم علقها بعده ابنة العوام بن عقبة فكلف بها فهتف بها وكانت تجد به كذلك، فخرج إلي مصر في ميرة فبلغه أنها مريضة فترك وكر نحوها وأنشأ يقول: ونبئت سوداء

ص: 236

القلوب مريضة

البيت. وروي أبو محمد بعده خمسة أبيات لم ترد في رواية أبي تمام ثم مضي فأخبر بأن العوام ظل يلطف بها حتى رأته ورآها، فأومأت إليه أن ما جاء بك؟ فقال: جئتك عائدًا حين علمت علتك، فأشارت إليه أن ارجع فإنني في عافية، فرجع لميرته، واستعر بها المرض فجلعت تتوله إليه حتى ماتت فبلغه الخبر فقال:

سقي جدثًا بين الغميم وزلفة

أجم الندى واهي العزالي مطيرها

وفيها يقول:

فان تك سوداء العشية فارقت

فقد مات ملح الغانيات ونورها

فأنت ترى في هذا العمل إفادات مختلفة، منها تصحيح رواية البيت، ومنها وصف الجو الذي قيل فيه الشعر، ومنها الإشارة المكانية، ثم إثراء القطعة بما لم يختره أبو تمام وإثراء الشرح بغير الشعر المختار في الحماسة مما له صلة بالقصة التي أوردها، وكل هذا يؤكد ما قلناه إن هذا الجانب أبين عمل أداه أبو محمد الأعرابي في خدمة اختيار الحماسة وأثري إضافة قدمها في عمل الشراح.

(2)

أما في الأمر الثاني فقد رأيناه ينبه إلى أن النمري يترك أجزاء من النص ويشغل نفسه تفسير أجزاء، ومن ذلك ما جاء في بيت عبده بن الطيب:

تحية من غادرته غرض الردي

إذا زار عن شحط بلادك سلما

فقد أخذ أبو محمد على النمري تركه شرح قوله: ((إذا زار عن شحط بلادك سلما)) وقال: ((أن معناه ان قيس بن عاصم كان كثير الأفضال على عبدة بن الطيب، فإلى عبده ألا يخرج قي سفره إلا بدأ بتوديعه، وإذا قدم منه بدأ بزيارته والتسليم عليه، وكان ذلك دأبه في حياته وفي زيارة قبره بعد وفاته)).

ص: 237

ومثله بيت ابن الدمينة القائل:

ولما لحقنا بالحمول ودونها

خميص الحشا توهي القميص كواهله

فقد قال النمري فيه انه ظاهر اللفظ والمعنى، فأخذ عليه أبو محمد هذا القول، وأشار إي أن معناه أدق من طرف الإبرة، وذلك لأن معترضًا قد يعترض بقوله: لم خص العواتق وإنها توهي القميص من بين أعضائه فيكون الجواب إن هذا الشاعر جعل هذا الموصوف بهذه الصفة أحقب مصدرًا كما يوصف الأسد، يعنى أنه دقيق الخصر مهفهف الكشح، غليظ الكاهل فينخرق القميص لأجل ذلك، ولا يبخرق من قبل الكشح إذ ليس بمنتفخ الجنبين، وقد أخذ ابن الدمينة هذا المعنى من أم يزيد بن الطثرية حيث تقول:

فتي لا يرى قد القميص بخصره

ولكنما توهي القميص كواهله

(3)

فإذا نظرنا إلى الأمر الثالث والأخير وجدنا له قيمة لا تقل عن قيمة عمله في الأمر الأول، فقد بين فيه الكثير من أسماء الأعلام التي وردت في أبيات الحماسة أو ألمحت إليها، مما لم يتناوله النمري بالشرح والتوضيح، والأمثلة على ذلك متعددة ومختلفة، منه ما جاء في بيت موسي بن جابر الحنفي:

هلالان حمالان في كل شتوة من الثقل مالا تستطيع الأباعر

فقد شرح النمري البيت دون أن يوضح من هما المعنيان بقوله: ((هلالان)) فقال أبو محمد: ((كان يجب أن يذكر أبو عبد الله قبلًا من هذان الهلالان، ومن أي قبيلة هما؟ وما تعلقهما بقائل هذا الشعر؟ ثم وضح فقال:"سألت أبا الندي- رحمه الله عن قوله "هلالان" من هما؟ قال: هما مرداس وعامر ابنا شماس بن لأي من بني أنف الناقة أمهما من بني العنبر، وهما خالا موسي بن جابر الحنفي".

وفي بيت شقيق بن سليك الأسدي الذي يقول فيه:

ص: 238

وأعطيت الجعالة مستميتًا خفيف الحاذ من فتيان جرم

قال أبو محمد: فسر أبو عبد الله هذا البيت بنبذ من الحروف ولم يذكر من المعني بهذه الصفة، ثم وضحه فقال:" هو حطان بن خفاف بم زهير بن عبد الله ابن رمح بن عرعرة بن نهار".

وفي بيت نهشل بن حري الوارد في باب الرثاء وهو:

أغر كمصباح الدجنة يتقي قدي الزاد حتى ستفاد أطايبه

أشار إلي قول النمري إن البيت يروي "قدي" و "قذي" ثم قال: "ذكر المرثي بهذا البيت أهم من ذكر رواية قدي وقذي، وهو مالك بن حري أخو نهشل، ويكني أبا ماجد، رحمه الله وقتل بصفين مع علي عليه السلام".

وفي بيت برج بن مسهر الذي يقول فيه:

وندمان يزيد الكأس طيبًا سقيت إذا تغورت النجوم

ذكر النمري في معني الندمان أنه واحد الندامى، فقال أبو محمد الإعرابي قد أثري عمل الشراح بإضافات في توضيح أسماء الإعلان الواردة في الاختيار أو الأعلام التي تشير إليها أبيات الاختيار وربما لاحظنا بعض الشطط في تحميل النمري عبء هذا العمل والاستعانة بما قام به في الشرح ولكننا بالمقابل ندرك مدي قيمة الإثراء الذي قام به في شرح الأعلام من خلال هذه السبيل التي ركبها في تتبعه وتقويمه لعمل النمري.

وأما الجانب الرابع من جوانب عمل أبي محمد في منهجه الذي سلكه فقد كان

ص: 239

منصبًا على المعاني التي أوردها النمري لأبيات الحماسة، وكن في تتبعه لعمل النمري في هذا العنصر المهم من عناصر الشرح يعتمد علي فهمه الخاص للنص تارة ويتكئ علي ما أخذه من شيخه أبي الندي تارة أخري، فمما اعتمد فيه علي فهمه ما جاء عنه في بيت سلمة بن ذهل المعروف بابن زيابة والذي قاله يرد فيه علي الحرث بن همام الشيباني وهو:

يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب

فقد فسره النمري بأنه أراد أن الحرث يصبح أعداءه بالغارة فيغنم ويؤوب سالمًا، قد وصفه بالفتك والظفر وحسن العاقبة، فاعترض أبو محمد علي هذا المعني وقال:"كيف يذكره بالفتك والظفر وهو أعدي عدو له، وإنما المعني انه لهف أمه وهي زيابة أن لا يلحقه في بعض غاراته فيقتله أو يأسره".

ومثل ذلك ما جاء عنه في بيت كبشة أخت عمرو بن معدي كرب وهو:

ولا تردوا الا فضول نسائكم إذا ارتملت أعقابهن من الدم

فقد نقل أبو عبد الله النمري رأي شيخه أبي رياش في معناه وهو: أنها أرادت أن تقول إذا قبلتم الدية فلا تأنفوا بعدها عن شيء واغشوا نساءكم وهن حيض، والفضول هاهنا يقال الحيض، وسمي الغشيان ورداً مجازًا. ثم أشار النمري إلي أن في البيت أٌولاً ليست بشيء وأن تفسير أبي رياش هو أصحها، فاعترض أبو محمد علي ذلك وقال "أن معني قولها: ولا تردوا إلا فضول نسائكم أي تردوا المواسم بعد أخذ الدية إلا وأعراضكم دنسة من العار كأنكم نساء حيض، ثم أضاف والبيت كما قال جرير:

لا تذكروا حلل الملوك فإنكم بعد الزبير كحائض لم تغسل"

ص: 240

ومن أمثلة ما اعتمد فيه علي شيخه أبي الندي ما أورده في بيت عبد الله بن عنمة

القائل:

لا تجعلونا إلي مولي يحل بنا عقد الحزام إذا ما لبده مالا

فقد فسره أبو عبد الله النمري بقوله: "قوله يحل بنا عقد الحزام أي أذا أراد حل عقد حزامه حله بإنشاء هجائنا مستريحًا إليه متعللا به" فقال أبو محمد معترضًا عليه: "ليس هذا التفسير بشيء، سألت أبا الندي-رحمه الله عن هذا البيت فقال: معناه لا تجعلونا إلي مولي يحلنا محل الهلاك، وذاك أن من استرخي حزامه صار إلي السقوط من فرسه، وبعده بيت يدل علي هذا وهو:

مولي من القوم يدعي وهو مشتمل تري به عن قتال القوم عقالا

ويمكن أن نلاحظ أن مآخذ أبي محمد الأعرابي في هذا الجانب جاءت -غالبًا- في الأبيات التي تحتمل أكثر من معني، ول تأملت ما قاله النمري في بيت كبشه بنت معدي كرب، وما قاله أبو محمد الأعرابي فيه لأدركت صدق هذا القول، والشاعر بطبيعة الحال لا يعني من كلامه إلا معني واحدًا فقط، غير أن الشراح يفسرون النص حسب رؤيتهم وفهمهم، ومن هنا اختلفت تفاسير المعاني لديهم في نصوص الحماسة، فالنمري قد يري معني لأحد الأبيات ويري أبو محمد غيره، وربما يكون ثالث فيأتي بمعني مغاير لها، غير أن الرؤية قد تقصر بالشارح أحيانًا فيأتي إليه الخطأ في التفسير وهذا ما لاحظناه في مواضع أخطأ النمري الرؤية فيها، فجاء التفسير لديه فجًا متهافتًا فكشف ذلك أبو محمد الأعرابي في تتبعه له. ومن أمثلته رؤية النمري في تفسيره بيت جواس الضبي الذي يقول فيه:

كأن خرو الطير فوق رؤوسهم إذا اجتمعت قيس معًا وتميم

فقد قال النمري فيه إن الشاعر يصف قومًا فشبه بياض قرعهم بخرو الطير وهو أبيض، وهو تفسير لا محالة، ولذا. رأيناه أبا محمد يعترض عليه

ص: 241

بقوله: "ذكر أبو عبد الله أن هؤلاء قرع الرس أذا اجتمعت هاتان القبيلتان فيجب ألا يكونوا كذلك إذا لم يجتمعا، والصواب غير ما ذكر، ومعني البيت أنهم لا مآثر لهم يعدونها في المواسم إذا اجتمعت قيس وتميم لذلك فهم خزايا سكوت كأن علي رؤوسهم الطير، وإنما أراد الشاعر الخرو استخفافًا وهزءاً بهم واستحقارًا لأمرهم، والبيت الذي بعده يدلك علي صحة ذلك وهو:

متى تسأل الضبي عن شر قومه يقل لك إن العائذي لئيم

ومثل البيت الأول قول الآخر:

إذا حلت بنو أٍد عكاظًا رأيت علي رؤوسهم الغرابا"

ولعمري إن هذا التفسير أوضح وأبين مما ذهب إليه النمري، لأن القبائل في مجال الفخر لا تعبير بصلع الرؤوس وإنما بالأحساب والأنساب، ولا ندري كيف فات علي النمري هذا، وربما كان ما أورده أبو محمد في هذا الخصوص وجهًا من وجوه المعني التي كان النمري ينقلها لبعض من سبقوه فاقتطعه أبو محمد ليبين منه قصور أبي عبد الله في فهم الشعر، وذلك علي نحو ما سنورده في مآخذنا عليه، ولكن بالرغم من هذا التبرير الذي عرض لنا في هذا الموضوع فأن النمري كان يفسر الأبيات أحيانًا علي ظاهر القول، ومن ثم يفوت علي نفسه فرصة التأمل التي تتيح له معرفة ما في النص من خبايا في المعاني، ومن هذا ما جاء عنه في تفسير بيت راعي الإبل النميري.

فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها

فقد قال: يعني امرأة أضافها، وأراد بالنجم النجوم وهذا كما يقال: قل الدرهم والدينار يراد به الجنس، ويقال: بل أراد بالنجم الثريا نفسها والأول أصح، فقوله والأول أصح جاء جريًا وراء الطاهر من اللفظ، ولذا اهتبلها أبو محمد الأعرابي في أن يشنع عليه ويطعن في معرفته بمعاني الشعر قال: "كثيرا ما يرجح أبو عبد الله الرديء

ص: 242

على الجيد والغث علي السمين، وهذا يدل علي قلة معرفة منه بمذاهب العرب في معاني أشعارها، ولا يجوز أن يكون النجم ها هنا إلا الثريا، وذلك أن في البيت خبية لم يخرجها أبو عبد الله، وذلك أن الثريا لا تكاد تري في قعر الجفنة وغيرها إلا أن تكون قم ارأس، ولا تكون قم الرأس إلا في صميم الشتاء ويقال حينئذ أقعر النجم، وقوله تعد النجم أي لصفاء الودك في الجفنة تعرف عدد الثريا فيها، وهذا معني مليح، وذلك أن نجوم الثريا لا يكاد يعدها إلا ذو بصر حديد ولذلك يقول القائل:

إذا ما الثريا في السماء تعرضت يراها حديد العين سبعة أنجم

هذا هو عمل أبي محمد الأعرابي في كتابة الذي بناه علي المنهج التتبعي التقويمي، رأيناه فيه يكشف عن الكثير من جوانب الخلل التي وقع فيها أبو عبد الله النمري، غير أننا ونحن نقرأ عمله وندرسه بدت لنا بعض المآخذ نود أن نوردها في الآتي:

أولاً: أنه كان يحرص في غلبة المواضع التي تتبع فيها النمري أن يورد مثلاً من لأمثال شعرًا كان أو نثرًا، ولكن حرصه هذا دفعه إلي أن يورد أمثاًلا كان ينبغي أن ينزه كتابه منها، لأنها منن مرتذل القول وسفسافه وذلك مثل قوله:"أخطأت استك الحفرة" و "أودي البعير إلا ضرطه القبيح" و "سلي هذا من استك" و " صه صاقع أير أبيكم فاقع" وغير ذلك مما يضيق المقام لذكره، وهو يعد من كلام السوقة لا من كلام العلماء.

ثانياً: إننا رأيناه يعتمد في بعض الأحيان ألا يورد كل ما قاله النمري في معاني الأبيات، وانما يكتفي بذكر جزء ينطلق منه لينال من الرجل، وهذا ما جعل البغدادي يتهمه بالتزييف، وذلك في البيت الذي أورده أبو تمام في باب الملح وهو:

كأن خصييه من التدلدل ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل

فقد قال النمري في تفسيره: يحتمل أن يكون هذا في وصف شجاع لا يجبن في

ص: 243

الحرب فتتقلص خصيتاه، ويحتمل أن يكون هجوًا، ووجهه أنه يصف شيخًا قد كبر وأسن، ولذلك قال ظرف عجوز، لأن ظرف العجوز خلق منقبض، فيه تشنج لقدمه، فلذلك شبه به جلد الخصية للغصون التي به، والولي به، والأولي أن يكون هجوًا لذكره العجوز مع تصريحه بذكره الخصيتين، ومثل هذا لا يصلح للمدح.

وقد نقل البغدادي هذا التفسير في الخزانة، ودل علي أنه من النمري ثم قال: وزيفه أبو محمد لأعرابي الشهير بالأسود الغندجاني فيما كتبه علي شرح النمري قال: "قال أبو عبد الله: هذا يحتمل المدح والذم إلا أن يكون له تمام فيحمل عليه، فأما الذم فهو أن تصف شيخًا قد اضطرب جلده لكبر سنه وهرمه، وأما المدح فهو أن الأبطال يوصفون اذا شهدوا الحرب بطول الخصي وقلة تقلصها".

فأنت تري أن هذا ليس كل ما قاله النمري في هذا البيت حرفه أبو محمد لينطلق منه إلي القول بأن "قوله هذا يحتمل المدح والذم، يدل علي أنه لم يمارس الأشعار والأراجيز ولم يستقر الدواوين، ومثل هذا البيت لا يعرف معناه قياسًا إلا بمعرفة ما يتقدمه من الأبيات

ثم قال: "فقوله: كأن خصييه من التدلدل أذم ذم يكون في الشيخ، وذلك أنهما يتدليان من الكبر".

ثالثًا: أنه كثيرًا ما كان يخرج في عمله التتبعي التقويمي عن الموضوعية وذلك باستخدام العبارات الجارحة التي ترد في ثنايا كتابه لقصد النيل من أبي عبد الله النمري والحط من قدرة مثل" هذا يدل علي جهل كثير وغباوة ظاهرة" ومثل "ٌقال كذا وكذا في هذيان يشبه هذا" وغير ذلك مما يعد جنوحًا في القصد إلي الإساءة أكثر منه في إصلاح الخطأ للإفادة، وهو بلا شك أمر كان عليه أن يتجنبه حتى يدي العمل غايته في التصحيح والتقويم.

رابعًا: أنه مع هذه العبارات التي تقدح في حق أبي عبد الله النمري كان مضطربًا في الحكم عليه فبيناه نراه يصدر هذه العبارات لينال منه نراه في موضع آخر يعترف

ص: 244

ضمنًا بعلم الرجل في معرفة لغات العرب ونوادر كلامهم، فقد قال مثًلا معلقًا علي عمل أبي عبد الله في بيت من أبيات المدح:"لو أن أبا عبد الله عرف علم النسب وأيام العرب مثل ما عرف من لغاتها ونوادر كلامها لما شق غباره في استخراج هذه المعاني".

ومعني هذا أنه يعترف بأن أبا عبد الله النمري كان علي علم بلغات العرب ونوادر كلامها، فكيف يتأتى لنا أن نتصور - بزعم أبي محمد- أن رجلًا هذا هو شأنه يمكن أن يوصف بالغباوة أو يكون عمله في تفسير الشعر ضربًا أشبه بالهذيان.

وأما قوله: "لو أن أبا عبد الله عرف علم النسب وأيام العرب" فهذا يدفعنا إلي مناقشة أمر تسلط علي أبي محمد الأعرابي في عمله وهو أنه يوقف دائمًا إدراك معني الشعر علي معرفة قصته أو نسب قائله أو نسب المقول فيه، بل هو يذهب إلي أبعد من ذلك حين يصرح في أحد أبيات الحماسة بأن "مثل هذا لا يعرف معناه البتة إلا بالقصة المتعلقة بها معناه ولو قرن به كتاب العين والجمهرة"، فكأنه بهذا القول يجعل عنصرًا من عناصر الشرح متغلبًا علي سائر العناصر الأخرى وعلي عنصر شرح اللغة بالذات وهو عنصر لا غني في شرح الشعر البتة، ولقد سبق أن وضحنا أننا لا ننكر قيمة ذكر الأخبار التي تتصل بالشعر في فهم بالشعر في فهم الدوافع التي أدت إلي قوله والجو النفسي الذي قيل فيه، ولكن هذا لا يجعلنا نحكمه في كل بيت بحيث تتحول عملية الشرح غلي روايات وقصص مأخوذة من أفواه أعراب متأخرين، عاشوا في البادية، رحل إليهم أبو محمد وشيخه أبو الندي فأخذه هذه الأقاصيص والروايات التي ربما تشتمل علي الكثير مما يدخل فيه التزييف والاختلاق، ويحتاج إلي صنيع أشبه بصنيع الأجيال الأولي من العلماء في تصفية ما كانوا يأخذونه من أفواه أهل البوادي وتنقيته.

وإذا كنا قد أخذنا علي أبي محمد هذه المآخذ في عمله، فان هذا لا يمنع من القول بأن كتابه بمنهجه الذي قام به يعد إسهامه طيبه في خدمة اختيار الحماسة، وهذا أمر واضح من خلال الجوانب التي عرضناها فيما سبق.

ص: 245