الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في مناهج الشراح
رأينا فيما سبق أن شرح الشعر بعامة قد تحول من غاية تثقيفية إلى غاية تعليمية هدفها مدّ التلاميذ - من خلال النص المشروح - بمعلومات جمة تتصل بعلوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة والرواية والأخبار التاريخية وتفسير الأعلام. ورأينا أيضًا أن شراح الشعر كانوا وثيقي الصلة بما خلفه شيوخهم أو شيوخ شيوخهم من مادة علمية شملت العناصر المختلفة التي يقوم عليها الشرح، ثم رأينا أن هؤلاء الشراح لم يقفوا عند حد النقل من شيوخهم بل كانت لهم جهودهم في الشرح بالإضافة والتعديل والتوجيه أحيانًا، وبالنقد والاعتراض أحيانًا أخرى، وأخيرًا رأينا أن شروح الحماسة عندما بدأت في الظهور تأثرت بكل هذا الذي ذكرناه، كما تحكمت فيها نزعات الشراح المتباينة وقدراتهم المتفاوتة في معالجة عناصر الشرح، كل حسب ميوله وباعه الذي يجعل عنصرًا من عناصر الشرح يطغى على سائر العناصر الأخرى.
وطبيعي - والحال كما ذكرنا - أن تختلف مناهج شراح الحماسة وطرائقهم في الشرح وإن كانت في غلبتها ذات غاية واحدة هي تلك الغاية التعليمية التي تحول إليها شراح الشعر كما وضحنا.
إن الدكتور أحمد جمال العمري قد حدد في بحثه " شروح الشعر الجاهلي" ثلاثة مناهج متوالية لشراح الشعر الجاهلي أولها المنهج الالتزامي النقلي وقد شرحه بأنه منهج يلتزم فيه صاحبه بآراء السلف وأقوالهم معتمدًا رواياتهم وتفسيراتهم في جميع النواحي، ويقوم أساسًا على السماع والرواية والنقل، يجمع أقوال السابقين على
اختلاف اهتماماتهم ويرصها جنبًا إلى جنب، ما توافق منها وما تعارض، دون المساس بجوهر الأقوال والآراء. كما أنه منهج يقوم على التوثيق ونسب كل قول إلى صاحبه مهما تعددت الأقوال والآراء أو تضاربت أو جانبت الحقيقة والصواب، ما دام صاحب الرأي مذكورًا في صدر كلامه.
وثانيها المنهج الإبداعي الفني، وقد حدده بأنه منهج يقوم على دعامات فنية ومقومات أدبية وعلمية تتآزر فيما بينها لتخدم النص الشعري وتضيء جوانبه وتبرز سماته ومعانية في أجمل صورة وعلى أكمل وجه، ويقوم أيضًا على إعمال العقل وكد الفكر واستنطاق النصوص بما فيها وما وراءها، ويستند إلى المحصول الثقافي الواسع في علوم اللغة والأدب، ويظهر في إطار فني بديع يعكس ملكة صاحبه الخلاقة لواعية الذواقة الفاهمة لأغراض الشعر ومراميه، كما يقوم على استغلال امكانات اللغة والتفنن في استخراج مكامن علوم البلاغة لإظهار ما يؤديه من جمال التصوير وروعة التعبير في إطار من حسن العرض وكمال التحليل وجوده التعليل. وبجانب هذا هو منهج يستعرض الروايات ويقارنها ويختار أفضلها وأجودها وأقربه إلى مذهب الشاعر ومقصده، وفوق هذا أنه منهج تظهر فيه ذاتية الشارح وشخصيته وملكته الأدبية وقدرته على بلورة الأفكار وتقديم التصورات الممكنة والمحتملة والجائزة في غلاف من الأسلوب الأدبي المؤثر.
وثالثها المنهج الانتخابي التهذيبي التكميلي وهو - كما رآه - منهج يعتمد على جمع الشروح السابقة ثم الانتخاب منها والتنسيق بين العناصر المنتخبة بما يكمل شرحًا من مجموعها يفي بغرضها ويغني عن جمعها لاشتماله على جميع العناصر التفسيرية المتاحة التي يتطلبها القوم، وهو بهذا منهج لا يظهر فيه مجهود عالم واحد بل ينطق بمجهودات علماء كثيرين متعددي المناهج مختلفي العصور، متنوعي التخصصات والاهتمامات، كما أنه منهج يجمع بين التزام الملتزمين وإبداع المبدعين، ويظهر فيه عنصر النقل للتراث الموروث وعنصر النقل لاجتهاد المجتهدين، وهو بجانب ما
ذكرنا منهج تحصيلي لا يدل على تخصص صاحبه، وإنما يدل على سعة ثقافته وكثرة اطلاعه وجمعه، ثم انتخابه وتنسيقه، فهو يجمع من كل علم بطرق، ومن كل فن بلمحة، ومن كل تخصص بنبذة، ويوفق بين الجميع توفيقًا تامًا، وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والرابط، وهو أيضًا منهج تتعادل فيه عناصر الشرح وتتآزر بحيث لا يطغى عنصر على آخر، وإنما توضع هذه العناصر جنبًا إلى جنب، وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا.
هذه هي مناهج شراح الشعر الجاهلي، والأسس التي قامت عليها، والصفات التي اتصفت به، حرصنا على أن نوردها كما جاءت في بحث الدكتور العمري ذي المجهود الطيب ولا يعني هذا اننا نوافقه في كل ما جاء فيها، ولكننا أوردناها للاستنارة من جهة، ولندلل من جهة أخرى أنه إذا كان شراح الشعر الجاهلي قد ساروا في أعمالهم وفق هذه المناهج الثلاثة فإن هذه المناهج ليست بالضرورة أن تنطبق على جميع أعمل الشراح في ديوان الحماسة، ذلك لأن الدارس في شرح الحماسة يجب عليه وهو يبحث في مناهج الشراح أن يضع في اعتباره أمورًا عدة أهمها: الغاية التعليمية التي كانت وراء الغلبة المطلقة في شروح الحماسة لا يمكن تجاهله أو التغافل عنه بأية حال من الأحوال، ولقد سبق أن أوضحنا في دراساتنا الممهدة لهذا البحث أنه منذ أن وقع الناس على ديوان الحماسة أصبح قبلة العلماء والمتأدبين، يتخذه العلماء محورًا في الدرس الأدبي، ويتخذه التلاميذ أساسًا في تعلم الأدب، بل أن ديوان الحماسة، بتتبعنا له في مجال الدرس الأدبي، كان المحور الثابت الذي لا يتغير في مختلف العصور حتى عصرنا هذا الحديث.
والذي يتتبع أخبار العلماء أصحاب التخصص في اللغة والأدب يجد ديوان الحماسة ماثلًا لدى أغلبهم في عملية الدرس والتعليم، ففي المدرسة النظامية ببغداد
كان الخطيب التبريزي يدرسه لتلاميذه ويجتهد في عمل الشروح له حتى بلغ بها ثلاثة، ودرسه من بعده أبو منصور الجواليقي، ومن بعدهما أبو البركات كمال الدين الأنباري، ودرسه زيد بن علي الفارسي لتلاميذه في حلب ودمشق، وكذلك فعل ذلك سبط ابن الجوزي في القرن السابع الهجري حيث كان يدرسه بدمشق، وفي الأندلس كان لديوان الحماسة وجود في حلقات العلماء والتلاميذ، لاسيما الشلوبيني وابن عصفور، وكلاهما من شراح الحماسة.
وفي عصرنا هذا الحديث أخبرنا الدكتور طه حسين بأن ديوان الحماسة كان في مطلع هذا القرن العشرين أحد مقررات الأدب في الأزهر الشريف، وفي تونس مر بنا أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كان يدرس لتلاميذه في جامع الزيتونة ديوان الحماسة بشرح المرزوقي ثم عدل عن ذلك فاصطنع له شرحًا لا يزال مخطوطًا إلى اليوم. وأخبرني من أثق بكلامه أن كلية غبدون التذكارية عندا أنشئت بالخرطوم في العقد الثاني من هذا القرن كان طلابها يدرسون ديوان الحماسة في مادة بالخرطوم في العقد الثاني من هذا القرن كان طلابها يدرسون ديوان الحماسة في مادة الأدب العربي، بل لماذا أذهب بعيدًا وقد رأيت قبل ربع قرن أستاذنا الدكتور محمد زكي العشماوي - مد الله في عمره - يتخذ من قطع شعرية اختارها من ديوان الحماسة
مجالاً لتدريس مادة "نصوص أدبية" التي كانت مقررة علينا نحن طلاب السنة الأولى في قم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم.
من أجل هذا كله كان للغاية التعليمية دور كبير في بلورة مناهج شراح الحماسة وتشكيلها، ومن أجل هذا أيضاً كان على الباحث في شروح الحماسة أن يضع هذه الغاية نصب عينيه، وهو يبحث في مناهج هذه الشروح وبالرغم من أن الدكتور العمري قد نوه بهذه الغاية عندما تحدث عن تطور شرح الشعر الجاهلي عبر أجيال العلماء فانه قد أغفلها حين حدد مناهج الشراح، ولم يضعها في اعتباره حين أورد الصفات التي يتصف بها كل منهج من الناهج السالفة الذكر. ومن أجل ذلك كان تحفظنا على جلة من الصفات التي حددها الدكتور العمري لهذه المناهج لأنها بدت عند التطبيق في شروح الحماسة نظرية بحتة وتحتاج إلى توجيه وبخاصة في منهجي المرزوقي والتبريزي في شرحيهما للحماسة. أضف إلى ذلك أن أول هذه المناهج وهو المنهج الالتزامي النقلي قد كان له حضور بصورة أو بأخرى في جل شروح الحمامة التي وقفنا عليها، حتى عند أصحاب المنهج الإبداعي الفني الذي تبرز فيه ذاتية الشارح وشخصيته بروزًا واضحًا ملموسًا.
وأمر ثان ينبغي التنبه له وهو أن هذه المناهج الثلاثة التي حددها الدكتور العمري قامت من أجل خدمة الشعر الجاهلي وديوان الحماسة - الذي هو محور شروحه، بجانب ما ضمه من شعرًا جاهلي - ضم شعرًا إسلاميًا وأمويًا وعباسيًا. وصحيح أن منهج الشارح قد يأخذ - بالغلبة - سمتا واحدًا وهو يشرح قطعًا شعرية مختلفة العصور غير أن اللغة تشكل العبء الأكبر من عمل الشراح، واللفة الشعرية عند الشعراء تختلف من عصر إلى عصر، فهي عند الجاهليين غيرها عند الإسلاميين، وعند الأمويين غيرها عند العباسيين. ثم إن هناك تراثًا ضخما في شرح لغة الشعر يعين الشارح في شرح الشعر الجاهلي وبعض الشعر الإسلامي والأموي، أما بعضه الأخر وشعر بني العباسي فان العب، فيهما يقوم على الشارح وحده وبخاصة حين
نجد بعض شعراء بني أمية وبني العباس يستخدمون في لغتهم الشعرية ألفاظًا غير عربية دفعهم إلى استخدامها التطور الهائل الذي حدث في المجتمع العربي الإسلامي نتيجة للامتزاج الاجتماعي والحضاري والفكري بين العرب وغيرهم من الأجناس الأخرى، وهو امتزاج - بلا شك- قد حقق آثارًا بالغة بالخطورة لا في اللغة الشعرية فحسب بل في موضوعات الشعر ومضامينه وما يقوم عليه من مبان وأشكال. ومن هنا كان عمل الشارح الذي يشرح شعرًا جاهليًا غير عمل الشارح الذي يشرح شعرًا قيل في عصر بني أمية أوع صر بني العباس أو بعبارة أخرى الذي يشرح شعرًا محدثًا، لأن شرح الشعر المحدث لا يتطلب معرفة دقيقة باللغة وأسرارها، والنحو ومشكلاته، والصرف واشتقاقاته، والأخبار التاريخية وعلاقتها بالنص، والبيئة وما فيها من مواضع صامته ومتحركة. إنه يتطلب فوق ذلك الذوق الأدبي العالي والإحساس الرفيع بالجمال الفني، والإلمام التام بأساليب الشعراء وطرائقهم في التعبير، وتوليدهم للمعاني ممن سبقهم، ثم ربط ذلك كله بثقافة عالية تجعل صاحبها يدرك ما طرأ على الناس من جديد حضارة ونشوء فكر، ورقي اجتماع، إلى غير ذلك من الأمور التي كان لها تأثير واضح في ثقافة الشاعر المحدث وأفكاره ووجدانه بل ولغته الشعرية.
ومن اجل هذا الاختلاف بين أدوات عمل شارح الشعر الجاهلي من غير رأينا ابن جني، وهو من نعلم في فهلم اللغة وأسرارها والقدرة على شرح الشعر غير المحدث، يقصر قصورًا واضحًا حين شرح ديوان أبى الطيب، المتنبي، قصورًا يجعلنا نصاب الدهشة حين نراه يعجز عن إدراك مراد أبي الطيب في قوله:
تَبُلٌّ خَدَّيَّ كُلَّما ابتْسَمَتْ مِنْ مَطَرٍ بَرْقُهُ ثَنَاَيَاَهَا
فيفسر هذا المطر بريق الحبيبة الذي يتطاير من فمها إذا ضحكت.
ثم هناك أمر ثالث لابد ان ينظر إليه الدارس لشروح الحماسة الباحث عن مناهج شراحها، وهو النظر إلى متلقي هذه الشروح لأن تلاميذ الشراح- كما اتضح لنا- كانوا متفاوتي القدرات، متبايني الثقافة، متعددي الأهواء والمنازع. منهم من كانت تستهويه قضايا اللغة وأسرارها والنحو ومعضلاته كالخطيب التبريزي الذي حمل على كتفه كتاب التهذيب للأزهري من تبريز إلى المعرة ليقرأه على شيخها أبي العلاء المعري، ويدرس عليه علوم اللغة والأدب فكان مما أخذه عنه شرح الحماسة الذي أصبح معلمًا بارزًا في شروحه فيما بعد. ومنهم الأمراء الذين كانوا يعدون أنفسهم للسيادة والسلطة كأمراء بني بويه الذين كان يؤدبهم الإمام المرزوقي يدرسون عليه الحماسة، ويأخذون منه الثقافة العالية في اللغة والأدب، ومنهم طلاب الأدب المحض لا تشغلهم قضايا اللغة واشتقاقات الصرف وعويصات النحو، والأخبار التاريخية الموغلة في سرد القبائل وأنسابها وأيامها وأمثالها، وإنما حسبهم من هذا كله ما يعينهم على إدراك معاني الشعر ومرامي الشعراء بأقرب سبيل وأسهل تناول. ومنهم طلاب منتظمون في مدارس، يريدون أن يأخذوا من كل علم قدرًا يؤهلهم للحياة، وينير لهم السبيل إلى تحصيل العلم حتى يخلفوا أساتذتهم في حلقات الدرس والتعليم مثل طلاب المدرسة النظامية ببغداد الذين توالت عليهم شروح الحماسة جيًلا بعد جيل.
وثمة أمر رابع ينبغي وضعه في الحسبان، وهو أن بعض شراح الحماسة كان ينأي عن سبيل التأليف من اجل الدرس والتعليم إلى سبيل تقويمي نقدي، يقرأ شروح من سبقه في الحماسة أو رواياته لها فيجد فيها- الشروح والروايات- مواطن خلل ونقص، فتدفعه روح العلم والحرص على سلامته وكماله إلى التصدي- بالتأليف-
لهذه المواطن يحاول إصلاحها وضبطها، وذلك على نحو ما نجد عند أبي هلال العسكري في "ضبط مواضع من الحماسة" وأبي محمد الأعرابي في كتابه" إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" وأبي نصر بن الدميك في كتابه" تتمة ما قصر فيه ابن جني في شرح أبيات الحماسة"، وهو أمر يمكن أن نلاحظ لمحات منه في شروح الشراح الآخرين الذين لم يسلكوا في التأليف هذه السبيل مثل تعرض أبي عبد الله النمري للقسام الديمرتي، والمرزوقي لأبي الفتح بن جني، والتبريزي للمرزوقي.
ونحن إذا أدركنا هذه الأمور ثم نظرنا في المناهج الثلاثة التي عرضها الدكتور العمري وصفات كل منهج منها وجدنا أن المنهج الالتزامي النقلي بصفاته تلك لم يتخذ سبيلاً للشرح من قبل شراح الحماسة الذين وصلت إلينا شروحهم، وهذا بطبيعة الحال يرجع إلى أن هذا المنهج كان أول المناهج التي التزمها العلماء في شرح الشعر الجاهلي، ثم توالت بعده مناهج أخرى متأثرة به ولكنها مختلفة عنه، واختلافها هذا كان بتأثير من التطور الذي طرأ على حركة شرح الشعر، وهذا ما أوضحه الدكتور العمري حين تكلم عن تغير موجهات الحياة العلمية والثقافية نتيجة لامتزاج الشعوب والثقافات وتنوع العلوم، والتأثر بالفلسفات والمعارف الوافدة على الفكر العربي الإسلامي. الأمر الذي أدي إلى خروج علماء الأجيال اللاحقة عن الخط التقليدي الذي تمسك به علماء الالتزام والنقل ثم قال" فكان أن انطلق العلماء بلا قيود ولا حدود، تفننوا وأبدعوا واجتهدوا وانتقلوا بحركة الشروح من مرحلة الإبداع والاجتهاد القائم على العقل والدراية".
وإذا كنا قد ذهبنا من قبل إلى أن شروح الحماسة قد بدأت تظهر في عقود النصف الثاني من القرن الثالث ولم يصل إلينا شيء منها سوى شروح من القرن الرابع وما تلاه من قرون فان من الطبيعي ألا نجد فيما وصل إلينا من الشروح شرحًا ذا منهج نقلى التزامي لأن مرحلة الالتزام بهذا المنهج كانت قد بدأت تتلاشي، ولم يبق منها
سوى آثار متفاوتة في شروح الشراح.
إننا يمكن أن نجد لدى شراح الحماسة منهجين من المناهج التي حددها الدكتور العمري: المنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي، غير أننا- ونحن نتكلم عن شروح الحماسة- يجب أن نكون حذرين من تلك الصفات التي أسبغها الدكتور العمري على هذين المنهجين، ذلك لأن الدكتور العمري- كما بدا لنا من بحثه- يشتغل أسلوبًا فضفاضًا يُصَّوُر به الأمور تصويرًا لا تحتمله أو فوق ما تحتمله، وسوف يتضح لنا ذلك من خلال دراستنا لهذين المنهجين وتطبيقهما على شروح الحماسة.
ولقد اتضح لنا أن شراح الحماسة- بجانب هذين المنهجين- قد سلكوا مناهج أخرى، فيها شيء من الإبداع وشيء من النقل، ولكنها شكلت مسارًا في الشرح يمكن أن يكون طريقًا تتبع أو منهاجًا يحتذي في شرح الشعر، ومن ثم نستطيع أن نقول إن شراح الحماسة وفق تلك الأمور التي أوضحاها، وفق رؤيتنا لشروحهم ودراستنا لها ذد سلكوا مناهج متعددة بلغت من حيث التقنين والتطبيق خمسة مناهج وهي:
1 -
المنهج الأدبي الإبداعي الفني.
2 -
المنهج العلمي التخصصي.
3 -
المنهج التتبعي التقويمي.
4 -
المنهج التجميعي الانتخابي.
5 -
المنهج الاختصاري التسهيلي.
وسوف نعرض مقومات هذه المناهج وصفاتها وفق رؤيتنا لها في شروح الحماسة رؤية تطبيقية تقوم على القراءة والاستخلاص للمعايير والمقومات لا رؤية نظرية تقوم علي وضع المعايير والمقومات ثم تحاول التطبيق فيعوزها ذلك إلى تغليب القليل على الكثير وتصوير الأمور في غير وضعها الصحيح، ويمكن وفق هذا أن نعرض صفات هذه المناهج الخمسة على النحو التالي:
1 -
المنهج الأدبي الإبداعي الفني:
هو أحد المناهج التي حددها الدكتور العمري وطبقه على شروح الإمام المرزوقي وبخاصة شرحه للحماسة مركزًا في ذلك على النصوص الشعرية التي هي مدار بحثه، ولقد رأينا فيما سبق مقومات هذا المنهج وصفاته كما عرضها الدكتور العمري، ونحن نتفق معه فيما جاء فيها من حيث هي صفات يمكن أن نجدها في شرح المرزوقي للحماسة، ولكننا نعترض على الأسلوب الذي عرض به هذه الصفات وبخاصة في قوله وهو يحدد مصير هذا المنهج بأنه منهج" يتفنن في استخراج مكامن علوم البلاغة لإظهار ما يؤديه جمال التصوير وروعه التعبير في إطار من حسن العرض وكمال التحليل وجوده التعليل.
فالمروزقي- والحق يقال- يعد أكثر الشراح تناولا لعلوم البلاغة في شرحه ولكن تناوله لها لم يكن في درجة واحدة، فهو قد يحلل ويعلل ما يثيره من نواح بلاغية، غير أنه في جانب مقابل كثيرًا ما نراه يعرض هذه النواحي في عبارات موجزة متشابهة لا تتصف بحسن العرض وكمال التحليل وجودة التعليل بل انه في أحيان أخرى نراه يتجاوز إبراز النكات البلاغية في الأبيات التي يشرحها مهتمًا بعناصر أخرى غيرها، وأدل دليل على ذلك أننا حين قمنا بإحصاء لعمله في هذا الخصوص في القطع المائة الأولى من باب الحماسة، ويبلغ عدد أبياتها 442 بيتًا وجدناه قد عالج نواحي مختلفة من البلاغة التي كانت تستدعى الوقوف ولم يقف عندها. وهذا القول لا ينطبق علي القطع المائة الأولى فحسب بل يشمل سائر قطع الاختيار على مختلف أبوابه. انظر على سبيل المثال هذا التصوير الاستعاري الذي جاء في حماسية هلال بن رزين وهو يصور كتيبة كثيفة العدد تطل على أعدائها بالموت الكثير:
أَجَادَتْ وَبْلَ مٌدْجِنَةٍ فَدَرَّتْ عَلَيْهِمْ صَوْبَ سَارِيَةٍ دَرُورُ
فَوَلَّوْا تَحْتَ قِطْضِطِهَا سرِاَعًا تَكُبُّهُمُ المَهَنَّدَة الذكّورُ
فلا شك أنك تلحظ كيف استغل الشاعر الاستعارة استغلالاً حسنًا في ابراز ما راده من معني، ومع ذلك فان الإمام المرزوقي قد تجاوز الوقوف عند هذا مكتفياً بشرح الألفاظ وعرض الم عني والحديث عن مقابلة صدر البيت الأول وعجزه.
إننا لا نريد أن نغمط الرجل حقه، فهو بالرغم مما رأينا منه في هذا الجانب، فإن شرحه- كما قال القفطي- يعد "الغاية في بابه"، ولكننا مع ذلك لا نريد أن نقف عند الجوانب الإيجابية في شرحه دون التعرض إلى الجوانب السلبية فيه، كما لا نريد أن نصور الأمور في غير موضعها الحقيقي أو نضفي عليها أسلوباً بغلب قلتها على كثرتها.
وثمة أمر آخر ذهب إليه الدكتور العمري- وهو يطبق هذا المنهج على شرح المرزوقي للحماسة- وهو أنه تكلم عن مسار الشراح في شرح النص الشعري فوضح أنهم يسيرون فيه في مسالك ثلاثة متوالية أولها: شرح الألفاظ الغربية، وثانيها: شرح العبارات المشكلة، وثالثها: توضيح المعني الكلي نتيجة لتوضيح العنصرين السابقين، ثم مضي فقال: فإذا نظرنا إلى شروح الشعر عند المروزقي نجد أن منهجة مغاير لك من سبقوه أو عاصروه. ان أول ما يثير اهتمام المرزوقي هو المعني يريد أن يقدمه أولاً قبل كل شيء. وقال في موضع آخر- والحديث عن المروزوقي: - "المعني هو ديدنه وهو شغله الشاغل وهو كل اهتمامه وكل هدفه، المعني له الصدارة، وله الأولية في الشرح دون أن يطغي عليه أي عامل مساعد آخر" ثم عرض أمثله اقتطعها من شرح الحماسية ليبرهن بها على صحة ما ذهب إليه، موازنًا بين عمل المرزوقي في هذا الجانب وعمل ابن جني في" التنبيه" لينتهي إلى قوله: " فإذا أنعمنا في هذا الشرح- يريد شرح الحماسة- وجدنا أن
المرزوقي ينهج نهجًا عكسيًا يختلف كثيرًا عما ألفناه لدى معظم الشراح ينتهج نهجًا تنازليًا، يبدأ من أعلى إلى أسفل، يبدأ بالكل ويتدرج إلى أن يصل إلى لجزء".
فلا شك أن هذه النظرة في منهج الرجل تحتاج إلى توجبه، ذلك- لأنه- كما رأينا في شرحه للحماسة- لم يكن ذا خطوة ثابتة في بدء عملية الشرح بل أن عمله في ذلك لم يكن مطرداً على هذا النحو الذي ذهب إليه الدكتور العمري، ويمكن أن نوضح ذلك في الآتي:
أولاً: أن شراح الحماسة جميعًا عدا أصحاب المنهج العلمي التخصصي، الذي سوف نوضحه فيما بعد- كان المعني همهم الأول والأخير، وليس المرزوقي وحده هو الموصوف بهذا، أما كيف يصلون إليه وبأيه طريق فتلك تتحكم فيها طبيعة الشارح ونفسيته واهتماماته، كما تتحكم فيها الغاية التعليمية التي يرمي إليها الشراح ويلجؤون- غالبًا- في تحقيقها إلى التدرج من الجزء إلى الكل أو من البسيط إلى المركب لأنهم رأوا أن هذه السبيل هي الأجدى والأنفع لطلاب المعرفة والتحصيل.
ثانيًا: اختلف المرزوقي عن معظم الشراح الذين وقفنا على شروحهم في الحماسة لا لأنه كان يبدأ من الكل إلى الجزء، كما ذهب الدكتور العمري، ولكنه كان أدبيًا ذواقًا للفن الشعري، وهو مع كونه موصوفًا بهذه الصفة التي غلبت عليه في شرحه كان أيضًا عالمًا ملمًا بشتى العلوم التي تتصل بشرح الشعر والتي تثير عقله ووجدانه وتلعب دورًا رئيسيًا في شرحه.
وفي إدراكنا أن المرزوقي وهو الأديب الذواقة العالم المتجر في علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد كان عند تعامله مع النص الشعري رهين إحساسه الذاتي، تثيره- وهو يشرح- الخطرة الأولى التي تشع في عقله ووجدانه، حال قراءته للنص، قد تتمثل هذه الخطرة في المعني فيعرضه أولاً، وقد تتمثل في لفظه فيسبق إليها بالشرح والإيضاح وقد تكون هذه الخطرة صورة بلاغية فيسجلها قبل المضي في الشرح، وقد تكون رواية فيبدأ بعرضها ومناقشتها، بل ربما تتمثل الخطرة في غرض الشاعر
ومراميه في الكلام فيعمد إليه أولاً أو في تركيب نحوي فيعرضه قبل إيضاح المعني وشرح الألفاظ، كل هذه العناصر كان المرزوقي يبدأ بها شرحه للنص. ولقد رأيناه بالإحصاء يعالج المائة قطعة الأولى من باب الحماسة، فكانت النتيجة لا تتفق مع ما ذهب إليه الدكتور العمري، فهو قد بدأ بالمعني في ثلاثة وسبعين ومائة بيت، وبشرح الألفاظ في ثلاثة ومائة بيت، وبالنحو في واحد وسبعين بيتًا، وبشرح العبارات الغامضة في ستة وثلاثين بيتًا، وبمناقشة الرواية في تسعة عشر بيتًا. ومن ثم فان مجموع العناصر الأخرى غير المعني قد بلغ ثلاثة وتسعين ومائتي بيت من مجموع قدره اثنان وأربعون وأربعمائة بيت، هذا فضلا عن أنه كان يكتفي بإيراد المعني فقط في جمله من الأبيات التي بدأ فيها بالمعني، دون مناقشة لعنصر من العناصر الأخرى، وربما عالج معه عنصراً أو عنصرين.
ثالثًا: إن إبراز عمل المرزوقي في المعني واهتمامه به لا يظهر بالموازنة بينه وبين ابن جني، فالمرزوقي منهجه أدبي إبداعي فني، وابن جني منهجه علمي تخصصي، وشتان ما بين المذهبين في المقومات والصفات على نحو ما سنرى فيما بعد، ولو أن الدكتور العمري قد وازن بين عمل المرزوقي المعني وشارح آخر يسير على منهجه كأبي أحمد العسكري مثًلا لاتضح لنا قيمة عمل المرزوقي في المعاني، ولتبين لنا الصواب أو عدمه فيما ذهب إليه من أقوال.
إننا لا نقول بأن المرزوقي لم يهتم بالمعني في شرحه، فالمعني هم كل شارح لهم يسلك سبيل العلم المتخصص ولكنه لم يكن في شرحه بهذا التقنين الذي وضعه فيه الدكتور العمري يبدأ بالمعني متدرجاً منه إلى العبارة ثم إلى الألفاظ أو على حد تعبيره يبدأ بالكل ويتدرج إلى أن يصل إلى الجزء" وإنما كان في ذلك محكومًا بما يثيره النص فيه من اهتمام حال قراءته، فهذه الإثارة هي التي تتحكم في معالجة النص عنده وطريقه سيره في الشرح.
ولعلنا من خلال كل ما ذكرناه يتضح لنا أن هذا المنهج" الأدبي الإبداعي الفني" الذي سبق إلى مصطلحه الدكتور العمري يقوم على معايير وصفات نتبع منه، فهو- بلا تزيد وإنشاء- يعد منهجًا أدبيًا لأن صاحبه يجعلنا نحس- ونحن نقرأ شرحه-
بمتعتين: متعة النص الشعري المعالج ومتعة الأسلوب الذي يعرض فيه سرحه، ويعد إبداعياً، لأن الشارح لا يعتمد فيه على النقل والرواية وإنما على العقل والدراية، وان كنا لانعدم لمحات أثر للنقل والرواية في عمل صاحبه، غير انه أثر طفيف لا يمس إبداعه في شيء. وهو منهج فني لأن صاحبه يوظف علوم العربية من لغة ونحو وبلاغة ورواية ونقد لخدمة النصوص التي يعالجها محاولًا أن يبرز من خلال ذلك ثقافتها التي يضطلع بها وذاتية الدالة عليه، كما يستغل مكنته في معالجة عناصر الشرح بصورة تدل على فنية واضحة.
2 -
المنهج العلمي التخصصي:
أما المنهج العلمي التخصصي فانه يقوم على صفات ومعايير تختلف في غلبتها عن المنهج الأدبي الإبداعي الذي رأيناه، قد يلتقي صاحبه مع أصحاب المنهج الإبداعي في أنه مثلهم يعتمد على عقليته ودرايته أكثر من اعتماده على نقله وروايته، ولكننا لا نعدم عنده من أثر النقل والرواية، فهو من حيث هذا الأثر مثل أصحاب المنهج الإبداعي، ولكنه في درجة أعلى منهم.
إن 02 جوهر الاختلاف بين المنهجين يكمن في عدة أمور أحدها: أن أصحاب المنهج العلمي يتعاملون مع النص الشعري وفق اهتمامهم العلمية المحضة، يثيرون من خلاله قضايا اللغة وما فيها من اشتقاقات وتصاريف ومعضلات النحو والإعراب، ولهذا لا يتخذون الأسلوب الأدبي الذي نجده عند أصحاب المنهج الإبداعي الفني، بل يتخذون في قضاياهم اللغوية والنحوية أسلوباً علمياً لا يمس الوجدان ليثير فينا متعة عند قراءته بل يخاطب العقل والعقل وحده. وثانيها: إذا كان أصحاب المنهج الإبداعي يعملون العقل ويكدون الفكر من أجل إبراز أغراض الشعر وما فيه من مضامين وأشكال، فان صاحب هذا المنهج يعمل أيضًا عقله ويكد فكره، ولكن في مجال العلم وحده، يستعرض فيه قوه ذهنه وفكره وقدرته على الاستنباط والتعليل في مجالات علوم اللغة والنحو والصرف وإثارة ما فيها من قضايا ومعضلات. وثالث هذه الأمور أننا رأينا أصحاب المنهج الإبداعي يهتمون
بالرواية، يعالجونها معالجة دقيقة، يفاضلون بينها، يختارون أفصحها أو أبلغها أو أسلمها أو أشهرها أو أوفقها للذوق، ويفحصونها بالنقد والتصويب معتمدين في ذلك على الألفاظ ومدى موافقتها للسياق، أو على المعني ومدي ماله من أهمية وقيمة، أو على الحس الموسيقي إذا كان في الرواية ما يؤدي إلى ضعف في موسيقي الشعر دون ضرورة. أما أصحاب هذا المنهج فإنهم يهتمون بالرواية ولكن ليس من هذه الوجهة التي نجدها عند الإبداعيين، وإنما من وجهة علمية بحتة، ينظرون إليها من خلال اللغة والإعراب، يستعرضونها إعرابها في أوجهها المختلفة أو تفسيرها لغويًا وما يتبع ذلك من تصريف واشتقاق ووزن.
ورابع هذه الأمور أنه إذا كان الإبداعيون يهتمون بالمعني كثيرًا، ويبتكرون له أكثر من وجه ويعرضون ذلك في أسلوب أدبي فيه فنيه وجمال يثيران المتعة فان أصحاب هذا المنهج العلمي لا يهتمون بالمعني كثيرًا، وإذا بدر منهم شيء من اهتمام فإنما ينصب على ربطه بالإعراب وفق تصورهم النحوي في شيء من التعليلات النحوية والمنطقية فالمعني عند أصحاب هذا المنهج لا وجود له إلا إذا كان له صلة بالإعراب، فإن لم تكن هذه الصلة تأت شروحهم خالية من إيراده، مكتفين في ذلك بما أثاروه من قضايا نحوية ولغوية، وطبيعي إذا كان هذا دأبهم أن تأتي شروحهم خالية من النواحي البلاغية التي تبرز المعاني وتكشفها، فهم في هذا اعلي النقيض من أصحاب المنهج الإبداعي الذين نحد في شروحهم معالجات متفاوتة للبلاغة وفنونها المختلفة وفق اهتمامهم بالمعاني وتوضيحها.
هذه هي معايير المنهج العلمي وصفاته عرضناها من خلال هذه الموازنة بصفات المنهج الإبداعي ومعاييره قصدًا إلى كشفها وإيضاحها، لما للمنهجين من تباين واختلاف. ولعل أظهر شارح من شراح الحماسة يمكن أن ينطبق عليه هذا المنهج بجميع الصفات والمعايير التي أوضحاها هو أبو الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة 392 هـ، وذلك في كتابية" التنبيه على شرح مشكلات الحماسة" و"المبهج في شرح أسماء شعراء الحماسة" ويشاركه في هذا المنهج أبو البقاء العكبري المتوفى سنة 616 هـ في كتابه" إعراب الحماسة" غير أنه لا يدخل في الفترة التي حددناها لدراسة
شروح الحماسة ولهذا فإن عملنا في تطبيق هذا المنهج سوف يكون مقصوراً على ابن جني وحده.
3 -
المنهج التتبعي التقويمي:
وأما المنهج التتبعي التقويمي فهو منهج برز عند علماء القرن الرابع وما تلاه من قرون. ويمكن أن نجد ملامح منه لدي أصحاب المناهج الأخرى. ذلك لأنه يقوم على أعمال السابقين، يتتبع هذه الأعمال، يقف على ما فيها من أخطاء وأوهام يعرضها ويفندها ويبن الوجه الصحيح فيها. ومن ثم فإن أعمال أصحاب هذا المنهج لا تقوم من تلقاء ذاتها، كما هو الحال عند أصحاب المنهجين السابقين، وإنما قيامها في التأليف رهين بأعمال السابقين، وهي بهذا تشكل منهجين مزدوجين: منهج في إنشاء الكتب وتصنيفها، ومنهج في طريقه معالجه هذه الكتب، إذ أن الذي يتتبع شروح الآخرين ليكشف ما فيها من أخطاء، ويصنع في ذلك كتابًا يعد صاحب طريقة في التأليف ثم انه وهو يتتبع هذه الأخطاء ويعالجها يحتاج إلى طريقة أخرى يقوم عليها عمله ومن هنا كانت أعمال هؤلاء مختلفة عن غيرهم من الشراح، ومن هنا كان اتجاهاهم هذا منهجاً قائماً لذاته مع إدراكنا التام بأن عملهم وهو يتتبعون أعمال غيرهم ويقومونها قد يكون متأثراً بالمناهج الأخرى، نجد فيه آثاراً من المنهج النقلي وآثارًا من المنهج الإبداعي، وقد يكون مزيجًا من المنهجين معًا.
ولا شك في أن أصحاب هذا المنهج ذوو ثقافة واسعة ملمون بسائر العلوم التي تتصل بشرح الشعر، فهم- كما رأيناهم في أعمال الحماسة- مطلعون على الرواية وما فيها من اختلافات، قادرون على مناقشتها بوسائل مختلفة، وهم بجانب هذا عالمون بالأخبار التاريخية واقفون على أحوال الشعراء والمناسبات التي نظموا فيها شعرهم مستوعبون لوسائل الأداء الشعري، مدركون للغة وأسرارها، مجيدون لكل ما من شأنه أن يعينهم على النقد والتقويم.
وإذا علما أن من الذين اتجهوا نحو هذا المنهج عالمين معروفين أحدهما من علماء القرن الرابع هو أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ، والآخر من علماء القرن
الخامس هو أبو محمد الأعرابي الغندجاني المتوفى سنة 436 هـ، أدركنا حقيقة ما ذكرناه من اضطلاع أصحاب هذا المنهج بسائر أصناف العلم التي يحتاج إليها كل من يسلك سبيل هذا المنهج ويتصدى لأعمال غيره من الشراح بالنقد والتقويم، فأبو هلال من خلال مؤلفاته التي وصلت إلينا بعد موسوعة في علوم اللغة والأدب والبلاغة والنقد. وأبو محمد الأعرابي كان علامة نسابه عارفًا بأيام العرب وأشعارها وأحوالها، وكان مثيل شيخه أبي الندي يجوب بوادي العرب ليأخذ منها ما يزيد معرفته في هذه العلوم.
إن تطبيقنا لهذا المنهج سوف يكون في عملين لهذين العالمين احدهما" ضبط مواضع من حماسة أبي تمام" لأبي هلال العسكري، والآخر"إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" لأبي محمد الأعرابي.
4 -
المنهج التجميعي الانتخابي التكميلي:
وإذا كان المنهج التتبعي التقويمي يقوم على أعمال السابقين من أجل تقويمها ونقدها وتصحيح ما فيها من أخطاء، فان المنهج التجميعي الانتخابي التكميلي يقوم أيضاً على أعمال السابقين ولكن من وجهة أخرى غير النقد والتقويم والتصحيح. أنه المنهج الذي يتجه فيه صاحبه إلى تجميع أعمال السابقين بغية أن ينتخب منها شرحًا يحاول فيه استيفاء جميع عناصر الشرح.
ولقد رأينا فيما سبق أن هذا المنهج من المناهج التي حددها الدكتور العمري في شروح الشعر الجاهلي، ورأينا صفاته ومعاييره كما عرضها في بحثه، ولكن إذا كانت تلك رؤيته لمقومات هذا المنهج من خلال شروح الشعر الجاهلي فإن رؤيتنا لها من
خلال شروح الحماسة تتسم ببعض المخالفة فيما ذهب إليه، وبخاصة حين نحاول تطبيق هذا المنهج على الخطيب التبريزي في شرحه للحماسة لا في شروحه للشعر الجاهلي، فالتبريزي وان كان في شرحه للحماسة تجميعياً انتخابياً تكميلياً فان جملة من الأقوال التي عرضها الدكتور العمري لصفات هذا المنهج لا تنطبق عليه بل تبدو- كما أسلفنا- نظرية بحته يصعب تطبيقها عملياً إلا عن طريق تصيد الأمثلة القليلة النادرة التي تخطر بين تضاعف هذا الشرح، فمن الأقوال التي طرحها الدكتور العمري في صفات هذا المنهج" أنه منهج يجمع من كل علم بطرف، ومن كل فن بلمحة، ومن كل تخصص بنبذة، ويوفق بين الجميع توفيقاً تامًا، وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والترابط" ومنها أيضًا "أنه منهج تتعادل فيه عناصر الشرح وتتآزر بحيث لا يطغى عنصر على آخر، وإنما توضع العناصر كلها جنبًا إلى جنب وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا".
فهذه الأقوال عندما عرضناها على شرح التبريزي في الحماسة وجدنا أنها تحتاج إلى توجيه وتمحيص، فنحن لا ننكر أن التبريزي قد حاول في شرحه أن يجمع من كل علم بطرف، ومن كل فن بلمحة، ومن كل تخصص بنبذة. أما انه كان يوفق بين الجميع توفيقًا تاماً وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والترابط، فهذا ما لم نحسه إلا في القليل النادر، ولو كان الأمر كما صوره الدكتور العمري لما رأينا الدكتور أحمد أمين- رحمه الله يسجل انطباعه عن قراءته لشرح التبريزي فيقول: نحوى لغوي أكثر منه أدبياً وناقداً فكنت أقرأ الشرح أحياناً وأنا متعطش جداً لأفهم معني بيت فلا أجده لأن الشارح انصرف إلى شيء آخر".
وهذا الذي أحسه الدكتور احمد أمين وهو يقرأ شرح التبريزي يحسه كل قارئ لهذا الشرح فالتبرزي جماع منتخب ولكن تجميعه وانتخابه لا يبدو فيهما الانسجام والترابط إلا في جوانب قليلة من شرحه، أما في جمهور شرحه فان اللغة والنحو
يطغيان عليه طغيانًا واضحًا، بل انه كثيرًا ما نراه يكتفي في شرح البيت والواحد فقط أو باللغة والنحو غير بالمعني ولا مهتمًا بإيراده وتستطيع ان تجد برهان هذا القول في مواضع كثيرة شملت سائر أجزاء الشرح، وهو - كما رأيناه ورآه عبد السلام هارون- كان في غلبه شرحه عالة على المرزوقي، ومع ذلك كثيرًا ما يسقط المعني الذي أورده المرزوقي مكتفيًا من ذلك بالنحو فقط. انظر مثلاً كيف كان عمله في شرح بيت حفص العلمي الوارد في باب النسيب والذي يقول فيه:
فَيَا رَبَّ إِنْ لمَ تَقْضِهَا لي فَلَاتَدَعْ
…
قَذُور لَهُمْ وَاقْبِضْ قَذُورَ كَما هِيَا
نقل التبريزي من المزروقي هذا القول: " وموضع" كما هيا" نصب على الحال، وما من قوله"كما يجوز أن تكون بمعني الذي، وتكون هي خبرًا لمبتدأ محذوف كأنه قال: كالذي هو هي، ويجوز أن تكون ما كافة الكاف عن عمل الجر ويكون هي في موضع المبتدأ والخبر محذوف والمعني اقبضها كما هي".
هذا ما نقله التبريزي عن المرزوقي لم يتصرف فيه بشيء ولم يضف إليه شيئًا، ولكن انظر ماذا قال المروزفي في شرحه قبل أن يورد هذا الكلام في النحو والإعراب قال:" دل بالبيت على ضيق صدره بحاله، وشده ضنه بصاحبته، فدعا ربه أن يقبض قذور إليه إن لم يقدر بينهما مرافأة والتحاماً، ويتوفاها بالموت ليأمن أن يملك أمرها غيره، وهذا يدل على شدة غيره فيه، ومضايقة للناس كافة في شيء يتمناه، ثم يقصر عنه".
فهل مثل هذا العمل في الشرح يمكن أن يوصف صاحبه بأنه يوفق بين أجزاء من العلم والفن والتخصص توفيقًا تامًا، وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والترابط؟ !
كذلك لا نجد عند التطبيق ما يدعم قول الدكتور العمري الذي جاء فيه أن هذا المنهج تتعادل فيه عناصر الشرح، وتتآذر بحيث لا يطغي عنصر على آخر، وإنما
توضع العناصر كلها جنبًا إلى جنب وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا "فالتبريزي- كما أشرنا من قبل- كان معلمًا في النظامية يدرس الأدب بها، وكان يدرسه من خلال مختارات شعرية منها المعلقات والمفضليات، ومنها ديوان الحماسة وكانت لدية حصيلة من الشروح جمعها لتكون عدة له في عمله شأن كل معلم في أي زمان يدرس الأدب القديم، كان لديه من شروح المعلقات شرح أبي جعفر النحاس وشرح أبي بكر بن الأنباري فانتخب من هذين الشرحين شرحه للقصائد العشر، وكان لديه من شروح المفضليات شرح الأنباري وشرح المرزوقي فانتخب منهما شرحه للمفضليات. أما في ديوان الحماسة فقد كانت لديه شروح عدة- بدت لنا من شرحه- هي شروح القاسم الديمري وأبي رياش، وأبي بكر الصولي، وأبي عبد الله النمري، وأبي على المرزوقي، أبي هلال العسكري، وأبي العلاء المعري، وأبي القاسم الفسوي، وكان لديه كتاباً التنبيه والمبهج لأبي الفتح بن جني، وكتاب" إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" لأبي محمد الأعرابي، هذا فضلاً عن سماعاته من الشيوخ وقراءاته في كتب علماء اللغة والنحو أمثال الخليل وسيبويه والمبرد وغيرهم، وكانت عناصر الشرح، كما تبلورت في ذلك الزمن تتمثل في الآتي:
(1)
شرح أسماء الشعراء. (2) ذكر مناسبة الشعر. (3) تحديد بحر الشعر وضربة وقافيته (4) اختلاف الروايات ومناقشتها واختيار الأجود منه. (5) شرح لغة الشعر وما فيها من تصريف واشتقاق وأوزان. (6) ذكر ما يتصل بالشعر من قضايا الإعراب والنحو. (7) إيراد المعني وما فيه من تأويلات. (8) رواية الأحداث التي تتصل بالنص وما قيل فيها من أشعار وأمثال وأخبار. (9) التعريف بالأعلام الواردة في النص الشعري (10) إيراد اختلافات الشراح في عناصر الشرح وما وجهه بعضهم لبعض من نقد واعتراض. (11) نقد الشعر المختار في الحماسة وإيراد آراء السابقين في هذا الخصوص. (12) معالجة النواحي البلاغية التي اشتمل عليها النص.
هذه هي عناصر الشرح كما تبلورت في ذهن التبريزي في ذلك الزمن فماذا يصنع حتى يقدم لتلاميذه شرحًا يشمل جميع هذه العناصر، وهو الرجل ذو المنهج
التجميعي الانتخابي. نظر في الشروح التي أمامه فوجدها كما صورها في مقدمة شرحه حين تكلم عن ديوان الحماسة وشراحة قال: "فمنهم من قصر فيه، ومنهم من عني بكر إعراب مواضع منه دون إيراد المعاني، ومنهم من أورد الأخبار التي تتعلق به وأعرض عن ذكر المعاني، ومنهم من ذكر المعاني دون الأعراب والأخبار.
وكان من الطبيعي- والحال كما صوره في هذه الشروح- أن ينتخب ما يوفر لشرحه جميع العناصر السالفة فهي- مجموعة لا منفردة- قد تشتمل على ذلك، فما عليه إذن إلا أن يأخذ من كل شرح ما تقتضيه الحاجة إلى استيفاء هذه العناصر، ثم ينسقها ويرتبها ترتيباً يحق لها التعادل والتآزر بحيث لا يطغي أحدها على الآخر، ويضعها كلها جنبًا إلى جنب وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا، هذا ما رمي إليه الدكتور العمري، وما يرمي إليه كل متصور للمنهج التجميعي الانتخابي، ولكن هل حق التبريزي هنا في شرحه للحماسة؟
أننا بعد دراسة مضنية لشرحه ومضاهاة مجهدة لعمله بما جاء في شرح المرزوقي واستخرج جميع ما أخذه منه اكتشفنا الحقيقة الآتية: انه جعل شرح المرزوقي أصلًا لشرحه في جمهور النصوص الشعرية الواردة في ديوان الحماسة، ثم لجأ إلى الشروح الأخرى يحاول أن يكمل منها ما ينقص شرح المرزوقي من عناصر، فأخذ شرح أسماء شعراء الحماسة والأعلام الواردة في الشعر من ابن جني وأبي العلاء وأبي رياش وأبى هلال وأخذ ما يتصل بالنصوص من مناسبات وأخبار وأحداث من أبي رياش وأبي هلال وأبي محمد الأعرابي، وأخذ اللغة والنحو من المرزوقي أولًا ثم من أبي العلاء وابن جني، وأخذ بعض ما أورده النمرى منمعان وبخاصة في المواطن التي كان أبو محمد الأعرابي يعترض عليه فيها، كما اخذ بعض المعاني الأخرى من شرح زيد بن على الفارسي الفسوي، وأخذ في مواضع قليلة بعض ما أورده أبو هلال في نقد الشعر المختار في الحماسة، وسجل لنا بعض اعتراضات المرزوقي على ابن جني مبينًا رأيه في ذلك، كما سجل لنا بعضًا من مناقشات أبي العلاء لأبى رياش وأبي
عبد الله النمرى فضًلا عن ردود أبي محمد الأعرابي على أبي عبد الله النمري، كذلك أخذ أوزان وأَربه وأنواع قوافيه من أبي العلاء، كما أخذ بعض النواحي البلاغية التي أثارها أبو على المرزوقي في شرحه.
ولما كان الشراح يعتمدون في شروحهم على نسخ مختلفات لمتن الحماسة، كان من الطبيعي ألا تفي هذه المآخر جميع عناصر الشعر الوارد في متنه الذي اعتمده، إذ أن اختلاف روايات الشراح في متن الحماسة يؤدي إلى أن تكون جملة من أبيات القطعة الواحدة أو جملة من القطع متفاوته في متون هذه الشروح التي جمعها لينتخب منها شرحه، وكان عليه في هذه الحال أن يجتهد في تكمله العناصر، لما لم يجده من شعر في هذه الشروح، ولكنه لم يفعل بل وجدناه في أحيان مختلفة يأتي بالبيت أو البيتين أو الثلاثة دون ادني شرح، ففي متنه- بعد الإحساء والتتبع- ثمانية وتسعون بيتًا بلا شرح جلها مما لم يرد في رواية المرزوقي الذي كان عالة عليه، وكذلك اثنتان وستون قطعة لم تحدد أوزانها وأضربها وقوافيها أغلب ظننا أنها لم ترد في رواية أبي العلاء المعري، أو فات على أبي العلاء توضيح بحورها وأضربها وقوافيها. هذا فصلا عن اكتفائه في كثير من المواضع بشرح لفظه أو لفظتين من البيت الواحد وأحيانًا من البيتين أو الثلاثة.
أضف إلى ذلك أنه كثيراً ما ينساق وراء شيخه أبي العلاء باستطراداته في شرح عبارة أو لفظه وردت في أحد الأبيات أو شرح اسم شاعر له قطعة في الحماسة، أو علم ورد في بيت فيها، كما ينساق وراء أبي رياش فيسود العديد من صفحات
شرحه بالحوادث والأخبار التي تتصل بالنص وما يتبع ذلك من أسماء وأشعار وأمثال.
وبناء على جميع ما تقدم نرى أن هذه الصفة التي ذكرها الدكتور العمري من صفات المنهج التجميعي الانتخابي لا تنطبق على التبريزي في شرحه للحماسة، ربما تنطبق عليه في شرحه للمعلقات أو المفضليات. أما في لحماسة فيمكن القول بأن ما شرحناه لا ينفي أن التبريزي كان جامعًا لشروح سبقته، وأنه كان يحاول جهده أن يأخذ منها ما يحقق به استيفاء عناصر الشرح في تناسق بينها تارات، وفي عدم منه تارات أخرى، ولا عيب في هذا لأن الرجل انتخب ما وجده في الشروح لخدمة هذه العناصر، ولم يكن مبدعًا ليكمل ما وجده من نقص في مجموعها، كما كانت تتحكم فيه اهتماماته النحوية واللغوية، ويتحكم فيه التأثر الواضح بشيخه أبي العلاء في الاستطرادات المتشعبة، الأمر الذي جعلنا نحس في كثير من الأحيان بعدم تعادل العناصر وتآزرها في شرح النصوص، ومع ذلك فقد كانت للرجل خطوات عملية، ولمحات طيبة، وجوانب مشرقة في تحقيق هذا المنهج تدل على سعة علمه وكثرة قراءاته ودقة صوابه فيما ينتخب، إلى غير ذلك مما سنعرض له عند الحديث عن تطبيق هذه المناهج في شروح الشراح.
هذا ما رأيناه في بعض الصفات التي أوردها الدكتور العمري لتحديد معايير هذا المنهج، ويمكن ان نضيف إليه ملاحظة وردت في قوله:"ان هذا المنهج لا يظهر علم الشارح ولا سمة تخصصه ولا تتحدد طبيعة فهمه أو عمق فكره"، فهذا القول لا ينطبق أيضًا على جميع عمل التبريزي في شرحه للحماسة، لأنه وان بدا في بعض الأحيان مختفي العلم والتخصص، مستترًا في فهمه وعمق فكره وراء نقولاته المتتالية من شروح غيره فإنه في أحيان أخرى يظهر علمه وتتضح سمات تخصصه
وتتحدد طبيعة فهمه وعمق فكره، والأمثلة على ذلك متعددة وافرة سوف نعرضها عند التطبيق.
إن الشيء الوحيد الذي يختفي في شرحه هو الإبداع ولكنه قد عوض هذا الإبداع بسعة ثقافته وضخامة جمعة وغزارة تحصيله، وبالمحاولة الجادة في الانتخاب، وكل هذه أمور تفيد طلاب العلم من تلاميذه وقرائه، وتحقق الغاية التعليمية التي سلك من اجلها هذا المنهج في شرحه.
5 -
المنهج الاختصاري التسهيلي:
هو منهج اتجهت إليه فئة من العلماء لعوامل مختلفة أحدها: اقتناع هذه الفئة بأن الغاية من شرح الشعر هي الوصول إلى معني الشاعر ومقصده، وما دام الأمر ذلك فليكن الوصول إليه من أسهل الطرق وأيسر السبل.
وثانيها: اقتناعهم التام بأن الشروح التي صنعها العلماء لديوان الحماسة قد جاءت مسهبة في تناول عناصر الشرح بل إن بعضها قد جاء دالاً على ميول أصحابها نحو تخصص معين في العلوم التي تخدم الشرح حيث جاءت شروحهم في غلبتها موقوفة على هذا التخصص، مما أدي إلى طغيان عنصر ما على سائر العناصر الأخرى. كما رأت هذه الفئة أن جملة من الشروح قد عجت بالآراء النحوية وما فيها من خلافات، وباللغة وقضاياها واشتقاقاتها وتصاريفها وأوزانها، وامتلأت كذلك بتأويلات المعاني القريبة منها والبعيدة، وبالخلافات في الرواية وما يتبعها من قبول أو رفض وفق تعليلات منطقية أو نحوية أو لغوية أو بلاغية أو موسيقية، إلى غير ذلك من وسائل اختيار الرواية أو رفضها، كما زخرت بمناسبات الشعر وأحداثه وما يتصل بذلك من أنساب وأعلام وأشعار وأمثال وأخبار، الأمر الذي دفعها إلى الاتجاه نحو تصفية هذا الفيض الغزير وتنقيته وتقديمه في ثوب جديد موشي بالاختصار والإيجاز بدلاً من ثوبه القديم الموشي بالإسهاب والأطناب.
وثالثها: إدراك هذه الفئة بأن قراء الشروح يمثلون فئات متفاوتة في القدرة على التحصيل والعلم، متباينة في الطباع والأهواء، منها فئة يصعب عليه استيعاب
هذه الشروح المتخمة بالمعارف والعلوم، تريد أن تلم بها ولكن بوسيلة تنهض لها قواها الذهنية وقدراتها الاستيعابية وأذواقها الفطرية وغير الفطرية، ومنها فئة أخرى يهمها من الشعر أن تفهمه، أن تتذوقه، أن تصل إلى مواطن الجمال فيه لا تريد أن تشغل بالنحو وما فيه من خلافات، ولا باللغة وما فيها من اشتقاقات وتصاريف وأوزان، ولا بأحداث الشعر وأخبار الشعراء وما يتبع ذلك من أنساب وأشعار وأمثال، حسبها من النحو الشيء اليسير الذي يعين على فهم النص، ومن اللغة ما يعين على فهم ألفاظ الشاعر وصولًا إلى معانية ومراميه، ومن المناسبات ما يحقق فهم الغرض ودواعي القول فيه والجو النفسي والاجتماعي الذي صدر فيه الشعر.
ورابعها: إدراك هذه الفئة بسنن التطور في الحياة وما يتعري الأجيال من علو أو انحدار في المعرفة والتحصيل، وإدراكه أيضًا بأنه إذا كانت الشروح ذات التوسع في العناصر الممتلئة بالاستطرادات العلمية قد استطاعت أن تحوز إعجاب العلماء ذوى التخصصات العلمية، والطبقة العليا من المتعلمين التي تتطلع إلى مرتبه أصحاب التخصصات فإنها بلا شك لن تستطيع أن تحقق ذلك حيال المتعلمين المتوسطي الفهم والاستيعاب أو طالبي الأدب البحت، وبخاصة حين النظر إلى الأجيال وتعددها والقرون وتلاحقها وتغير الحياة العلمية مداً وجزراً عبر هذه الأجيال والقرون.
لهذه العوامل مجتمعة قام هذا المنهج الذي اعتمد اختصار المعلومات في الشرح مسلكاً، والتسهيل في عرضها سبيلاً، ومن أجل هذا أطلقنا عليه هذا المصطلح وهو بحسب ما أوضحنا من عوامل منهج يقوم على مقومات وصفات تختلف من حيث المادة والعرض عن سائر المناهج الأخرى، إنه بإيجاز منهج يقوم على مراعاة المتلقين وقدراتهم واختلاف مشاربهم وأهوائهم، يقدم لهم عناصر الشرح سهلة ميسرة خالية من الاستطراد، بعيدة عن التشعيب والأغراب، منهج تجد فيه اللغة ولكن بقدر محدود، والنحو ولكن بصورة تحقق إدراك المعني فحسب، وتجد فيه الرواية ولكن في لمحات تفي بالغرض وتعين على نيل المطلوب، والأخبار والمناسبات ولكن في اختصار لأسانيد وإسقاط لكل ما من شأنه أن يؤدي إلى التطويل، ونجد فيه البلاغة
والنقد ولكن في غير مغالاة أو إسراف. منهج اعتمد أصحابه فيه أسلوبًا ليس بالعلمي البحت، كما هو الحال عند أصحاب المنهج العلمي التخصصي، ولا بالأدبي الذي يقوم على اختيار الألفاظ والتجويد في صوغ العبارة وإحكامها، على النحو الذي نجده عند أصحاب المنهج الإبداعي الفني، وإنما هو أسلوب يختار من الألفاظ أوضحها وأبينها، ويصوغ العبارات بصورة يحوطها الإيجاز، وتحكمها السهولة، ويقيدها الوضوح.
ولعل خير ما يُطَبَّقُ عليه هذا المنهج من شروح الحماسة شرحان أحدهما الشرح الذي رجحنا نسبته إلى زيد بن على الفارسي المتوفى سنة 467 هـ، والآخر الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء المعري، والذي رجحنا أن يكون صاحبه من علماء القرن السادس الهجري.
هذه هي مناهج شراح الحماسة كما رأيناها في الشروح التي وقفنا عليها واستخرجناها من قراءتنا لها وبحثنا فيها، ولعل من المفيد ونحن نريد أن نطبق كل منهج منها على نموذج أو اثنين من شروح الحماسة المطبوعة والمخطوطة أن نشير إلى أن هناك شروحاً غير واضحة المعالم في مناهجها، لأنها لم تصل إلينا كاملة، وإنما وصلت إلينا في صورة نقولات متفاوتة الشروح المطبوعة والمخطوطة التي وصلت إلينا، ومن أجل هذا سوف نعرض لها بعد التطبيق محاولين الكشف عن هذه المعالم وتحديدها حتى نحقق بذلك الدراسة الشاملة للشروح التي تدخل في الفترة التي حددناها لمسار هذا البحث.