المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس: المنهج التجميعي الانتخابي وشرح التبريزي - شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

[محمد عثمان علي]

الفصل: ‌الفصل الخامس: المنهج التجميعي الانتخابي وشرح التبريزي

‌الفصل الخامس: المنهج التجميعي الانتخابي وشرح التبريزي

هذا منهج سبق أن أوضحنا صفاته ومقوماته من خلال مناقشتنا لأحمد جمال العمري في تحديد صفات هذا المنهج بالنظر لعمل التبريزي في شرح الحماسة، ولقد رأينا من خلال تلك المناقشة أن هذا المنهج يقوم علي تجميع أعمال السابقين وانتخاب شرح منها يحقق استيفاء جميع العناصر التي يقاضيها شرح الشعر، كما كشفت هذه المناقشة عن جملة من الملاحظات حول تطبيق هذا المنهج علي شرح التبريزي كنا قد عدنا بتوضيحها وإبرازها من خلال تطبيق هذا المنهج. ولكن قبل أن نشرع في ذلك رأينا من المفيد أن نشير إلي أن التبريزي ليس وحده الذي سلك هذا المنهج سبيلاً، فقد تبعه فيه عالمان من علماء القرن السادس أحدهما أمين الدين الطبرسي، المتوفى سنة 548 هـ، والآخر أبو الرضا ضياء الدين الرواندي المتوفى سنة 549 هـ.

ص: 246

فأما الطبرسي فقد انتخب شرحه من شروح أبي رياش والنمري والبياري وابن جني وأبي العلاء، فضًلا عن نقولاته المتكررة عن علماء اللغة والنحو من أمثال الخليل وسيبويه والأصمعي وأبي العباس ثعلب، وأبي علي الفارسي وعبد القاهر الجرجاني، وكان مثل التبريزي عالة علي المرزوقي في جمهور شرحه يأخذ منه دون أن يشير إلا في القليل النادر، وليس في شرحه ما يدل علي ذاتية إلا في عنصر البلاغة حيث أكثر من شرح الألوان البلاغية وبيان جمالها في الكلام، وذلك مثل عمله في بيت بشامه بن حزن النهشلي الذي يقول فيه:

بيض مفارقنا تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا آثار أيدينا

فقد وقف عند الكناية في قوله: "بيض مفارقنا" وشرحها ثم أفاض في الحديث عن جمال الكناية في الكلام وأتي بالأمثلة المتعددة من القرآن والشعر وكلام العرب، وكذلك عمله في بيتي الحارث بن وعلة اللذين يقول فيهما:

لا تأمنن قومًا ظلمتهم وبدأتهم بالشتم والرغم

أن يأبروا نخلًا لغيرهم والقول تحقره وقد ينمي

فقد رأيناه يقف عند "التضمين" الذي وقع فيه الشاعر، ويبين أنه من عيوب

ص: 247

الشعر ولكنه أخف العيوب، واستدل بذلك علي قو الأخفش:"التضمين ليس بعيب إلا أن غيره أحسن منه" ثم مضي مفصًلا الحديث في البيت المقلد الذي يتم معناه به والبيت ذي التقليدين الذي يشتمل علي معنيين تامين، مستشهداً في ذلك بالشعر محاوًلا من أوجه عدة أن يوضح ما جاء في بعض التضمين من حسن وجمال.

وأما أبو الرضا الرواندي فقد دل في مقدمة شرحه علي منهجه الانتخابي حيث قال-والكلام عن ديوان الحماسة: " وكنت شديد التفات الهمة منذ صباي إلي تتبع شروحه والتقاط غررها ودررها وضم نشرها وإيداعها مجلدة خفيفة المعونة سهلة المرتقي قريبة المغزى، والأيام تماطل إلي أن أرضتني من ذلك بحواش علقتها من نسخة منه بخطي من شرح أبي علي المرزوقي والاستراباذي وأبي الحسن البياري وأبي عبد الله النمري وأبي الفتح ابن جني ونسخة للأمير أبي الفضل الميكالي، ومن مواضع أخر، وان لاح لي لائح كتبته، غير مستبعد أن يكون الأوب قد ترك للآخر شيئًا".

وعلي هذا فأن شرحه يمثل تجميعًا لشروح هؤلاء الذين ذكرهم وانتخابًا منها، وان كان اتكاؤه علي شرح المرزوقي قد فاق سائر الشروح الأخرى، كما كان بجانب من ذكرهم مثل الطبرسي ينقل عن علماء اللغة والنحو والأوائل، إذ له نقولات من الخليل وسيبويه، والأصمعي، وابن الأعرابي، وأبي سعيد السيرافي، وأبي حاتم السجستاني، وأبي عثمان المازني، والزجاج.

وإذا كان الطبرسي قد تميز في شرحه الانتخابي بالتركيز علي النواحي البلاغية،

ص: 248

فإن أبا الرضا قد تميز كذلك بخاصة تمثلت في أنه كان ينتخب من أعمال السابقين، ثم لا يكتفي بذلك بل يضيف إليها ما يعن له من رأي فيها، وهذا قوله:"وإن لاح لي فيه لائح كتبته" ولهذا رأيناه في جملة من المواضع يدلي برأيه فيما ينتخبه، ومن ذلك ما جاء عنه في بيت ملحة الجرمي الذي جاء في باب الصفات والذي يصف فيه برقًا لاح له في الليل وهو:

نشاوى من الادلاج كدري مزنه يقضي بجدب الأرض ما لم يكن يقضي

قال: "قد أكثروا في معنى هذا البيت، والذي يلوح لي أن معناه يقضي كدري هذا البارق بتقضية جدب الأرض ما لم يكد يقضي أي يذهب ما لم يكد يذهب من الجدب".

وأحيانا لا تكون إضافته إلا إطالة وإسهابًا في إيراد معنى النص، ومن ذلك ما أورده في بيت الغطمش الضبي الذي يقول فيه:

فبالخير لا بالشر فارج مودتي وأي امرٍئ يقتال منه الترهب

فقد أورد آراء من سبقوه في هذا البيت الديمرتي والمرزوقي وأبي الندى ثم أورد معناه مشيرًا إلى أنه صاحبه قال: "يقول أيها الرجل الذي يغتابني وينتقصني ثم إذا رآني داجاني وتبصبص إلي لا تفعل ذلك، فإنك إن رجوت مودتي إياك ومحافظتي عليك فلن أدرك ذلك بالمداجاة إذا حضرت والاغتياب إذا غبت، ولكن إن أردت ذلك فعليك باعتياد الخير واستصلاح الدخلة وتحسين الباطن فإنك إنما تفعل معي ذلك، وتتكلف هذه المعاملة لأنك ترهبني وتستعرمني، وكيف يحتكم على من يخاف ناحيته ولا تؤمن غائلته، فلا تحتكم على ما شئت من الاغتياب في حال الغيبة

ص: 249

والمداجاة في حال الحضور".

وهذا عمل ليس فيه جديد إضافة على ما ذكره الشراح سوى إسهاب العرض وتطويله، واستدعاء الجمل بأكثر من وجه.

وإذا كان هذا المنهج قد وجد لدى عالمين غير التبريزي، فإن التبريزي بحق له قصب السبق فيه، فهو صاحبه الأول لا في شرح الحماسة فحسب بل في غيره من الشروح الأخرى التي قام بصناعتها مثل شرح المفضليات وشرح القصائد العشر. التبريزي هو مبتكر هذا المنهج الذي ظل ينمو ويتطور مع الزمن حتى اكتمل وتجلى عند البغدادي في خزانة الأدب، وبخاصة في شرح الشواهد الشعرية التي جاءت في اختيار الحماسة، ومن أجل ذلك كان من حقه علينا أن يكون تطبيق هذا المنهج في شرحه بالرغم من ملاحظاتنا التي نوهنا لها من قبل.

وهي ملاحظات تتلخص في أنه قد حاول أن يجمع في شرحه ما يحقق جميع العناصر المتطلبة في الشرح، ولكنه لم يوفق بين هذه العناصر توفيقًا تامًا، وينسق وبينها بانسجام يشعرنا بالتكامل والترابط إلا في مواضع متفرقة من شرحه، كما أنه اعتمد في جمهور شرحه على المرزوقي محاولًا أن يكمل ما فيه من نقص من الشروح الأخرى، غير أن هذه الشروح لم تكن لتسد حاجته في استكمال هذا النقص، ومن ثم جاءت جملة من النصوص خالية تمامًا من أدنى شرح يذكر، وكان مقتضى عمله- وهو الشارح المنتخب- أن يسد هذا من عنده، ولكنه لم يكن مبدعًا بحيث يحقق بإبداعه استكمال ما ينتخبه من الشروح، هذا فضلًا عن انسياقه المتكرر وراء شيخه أبي العلاء في استطراداته المختلفة، وكذلك انسياقه وراء أبي رياش في نقولات مسهبة سود بها العديد من الصفحات دون أن يعمل فيها قلمه بالتهذيب والتشذيب

ص: 250

أو الحذف والاختصار الأمر الذي أدى إلى طغيان عنصر أخبار الشعر على عناصر الشرح في القطع التي كان أبو رياش يذكر خبر أبياتها أو بواعث الشعر فيها.

هذا ما كنا قد لاحظناه عليه فيما مضى وأقمنا الأمثلة لصحته، والآن لننظر كيف حاول التبريزي أن يحقق هذا المنهج في شرحه متوخين أن نوضح ذلك من خلال العناصر التي تحقق فيها هذا الانتخاب.

أ- شرح أسماء الشعراء والأعلام:

جمع التبريزي لتحقيق هذا العنصر أعمال رجال سبقوه في هذا المضمار هم ابن جني وأبو العلاء وأبو رياش وأبو هلال وأبو محمد الأعرابي، كما جمع أقوال بعض العلماء الأوائل أمثال: الأصمعي وأبي زيد وغيرهما. وقد استطاع بحق أن ينتخب من هذه الأعمال والأقوال ما يحقق لهذا العنصر وجوده البارز في صنعة شرحه. صحيح أنه أكثر الاعتماد فيه على ابن جني ثم أبي العلاء، ولكنه كان في أحيان متفرقة يحاول الانتخاب من هؤلاء الذين ذكرناهم بما يوفر لمنهجه مقوماته حيث نراه يجمع بين أعمال ثلاثة علماء في موضع واحد، وذلك في مثل عمله في شرح اسم الشاعر "ابن زيابة التيمي" فقد انتخب في شرحه من ابن جني وأبي العلاء وأبي رياش، نقل عن ابن جني قوله: "زيابة اسم مرتجل للعلم وهو فعالة أو فيعالة أو فوعالة من لفظ الأرنب، وتيم فعل من تيمه الحب أي ذلله ويقال تامه، قال الشاعر:

تامت فؤادي بذات الجزع خرعبٌة مرت تريد بذات العذبة البيعا

ومنه تيم اللات أي عبد اللات ومنه قالوا معبد أي مذلل موطوء". ونقل عن أبي العلاء إضافة جديدة غير ما ذكر ابن جني وهي قوله: "لم يصرف الفعل من زيابة إلا أنهم قالوا رجل أزيٌب وهو الدعي وقالوا للريح: أزيب فقيل هي الجنوب وقيل هي الصبات". ثم نقل عن أبي رياش إضافة أخرى حيث أورد لقب هذا

ص: 251

الشاعر واسمه وشرحهما قال: "وقال أبو رياش هو فارس مجلز عمرو بن لأي، اللأي البطء، ومجلز من الجلز، وهو الفتل الشديد، وجلز السوط مقبضه، وجلز السنان أسفله قال أبو زبيد:

حمدت أمري ولمت أمرك إذ أمسك جلز السنان بالنفس

وكل ذلك راجع إلى الجلز الذي هو إحكام الفتل".

ونراه في موضع آخر ينتخب من ابن جني والأصمعي وأبي العلاء، وذلك في شرح هشام بن المغيرة المخزومي، فقد أورد أولًا قول ابن جني وهو "هشام مصدر هاشمته هشامًا، وهو فاعليته من الهشم وهو الكسر، قالت بنت هاشم جد النبي- صلى الله عليه وسلم:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

ثم أتى بتفسير الأصمعي فقال: "وقال الأصمعي في تفسيره: هشم ماله فأطعم الثريد" ثم أضاف إلى ذلك ما جاء عن أبي العلاء فيه وفي اسم المغيرة ومخزوم قال: "وقال أبو العلاء: هشام من هشمت الشيء إذا كسرته، وأصل ذلك أن يكون في شيء يابس إلا أنه ليس بصعب المكسر، ومنه قيل للشجرة اليابسة هشيمة وللنبت اليابس هشيم. والمغيرة بضم الميم أجود اللغتين، وقد حكي بالكسر على الإتباع، وهو من أغرت الحبل إذا أحكمت فتله أو من أغار على العدو أو من أغار المرأة، ومخزوم من خزمت البعير إذا جعلت في أنفه خزامة وهي حلقة من شعر".

ص: 252

وهو بجانب انتخابه من ثلاثة علماء قد ينتخب من اثنين، وهذا عنده كثير، ينتخب أحيانًا من ابن جني وأبي العلاء وأحيانًا أخرى من أبي العلاء وأبي هلال، وأحيانًا ثالثة من ابن جني وأبي محمد الأعرابي.

ويمكن القول بأن التبريزي قد حقق من خلال انتخابه في هذا العنصر إضافة لها قيمتها هي تصحيح بعض أسماء الشعراء من ذوي الاختيار في الحماسة فمثل ما أفاد من هؤلاء العلماء في شرح الأسماء والأعلام أفاد منهم في تصحيح الأسماء التي وقع فيها وهم من أبي تمام، ومن أمثلة ذلك ما جاء في اسم "قراد بن عياد" فقد نقل عن أبي هلال تصحيحًا له، قال:"قال أبو هلال: هكذا في الأصل وهو خطأ، وإنما هو قراد بن العيار بن محرز، وأبوه العيار أحد شياطين العرب".

وفي اسم حسان بن نشبة العدوي نقل تصحيحًا له عن أبي محمد الأعرابي قال: "قال أبو محمد الأعرابي: هذا الاسم مصحف، والصحيح جساس بن نشبة بن عساس قال جرير يهجو جخدب بن خرعب التيمي:

لقد شهدت تيٌم على أم جخدٍب وكان سراة التيم رهط جساس

يعني جساس بن نشبة".

وفي نسب الشاعر المنخل اليشكري ذكر أبو تمام "المنخل بن الحرث اليشكري" فنقل التبريزي تصحيحًا لهذا النسب قال: "قال أبو هلال: هو المنخل ابن مسعود بن عامر بن ربيعة بن عمرو اليشكري".

وسجل التبريزي من خلال انتخابه من الشراح إضافة أخرى تتمثل في أن أبا

ص: 253

تمام قد أورد في اختياره جملة من القطع مغفلة بدون نسبة إلى أصحابها حيث كان يصدرها بقوله: "وقال آخر" أو "وقال بعضهم" ونحو ذلك، فكان التبريزي ينقل من الشروح التي ينتخب منها ما يوضح قائلي بعض هذه القطع، ومن ذلك ما نقله في القطيعة (63) من باب الحماسة التي صدرها أبو تمام بقوله:"وقال آخر" فقد نقل التبريزي عن أبي هلال قوله: "لم يذكر أبو تمام اسمه، واسمه الحكم بن زهرة".

وفي القطعة (73) من الحماسة أيضًا وقد صدرت بـ "وقال آخر" نجد التبريزي ينتخب في نسبتها قولين أحدهما لأبي رياش الذي نسبها إلى أبي الشغب العبسي، والآخر لأبي عبيدة الذي نسبها للأقرع بن معاذ القشيري.

ونسب أبو تمام إحدى القطع لبعض لصوص طيئ فنقل التبريزي توضيحًا له عن أبي هلال قال: "قال أبو هلال: هو شبيب بن عمرو بن كريب".

وكان أبو تمام يورد أحيانًا اسم الشاعر غير كامل فينتخب التبريزي من الشروح التي أمامه ما يكمل الاسم ويوضحه، وذلك في مثل القطعة التي نسبها أبو تمام إلى القطامي، ولم يذكر اسمه، فنقل التبريزي عن أبي هلال قوله:"واسمه عمير بن شييم بن عمرو وأوصل نسبه إلى تغلب بن وائل".

وكذلك في القطعة التي صدرها أبو تمام بقوله: "وقال التميمي في منصور بن زياد" نجد التبريزي ينقل عن أبي هلال توضيحًا لهذا التميمي قال: "قال أبو هلال: هو عبد الله بن أيوب ويكنى أبا محمد".

والحق أن التبريزي قد استطاع من خلال عمله في هذا العنصر أن يحقق من

ص: 254

الشروح التي ينتخب منها فائدة طيبة لاختيار الحماسة وبخاصة حين نعلم أن جملة من الشروح التي كان ينتخب منها لم تصل إلينا إذ لا تزال في طي المجهول لا يعرف مكانها.

ب- تصحيح نسبة الشعر إلى قائليه:

ومثلما أفاد التبريزي من شروح أبي رياش وأبي هلال وأبي محمد الأعرابي في العنصر السابق كانت فائدته جمة من هذه الشروح في هذا العنصر، فقد خطا بهذه الشروح التي انتخب منها شرحه خطوات عملية في هذا الجانب المهم في توثيق الشعر وتحقيق نسبته إلى قائليه.

ولا شك أن اضطراب النسبة في الشعر القديم بين أكثر من شاعر يشكل عقبة للدارس في هذا الشعر، ولهذا فإن عمل التبريزي الانتخابي في هذا العنصر له قيمته في البحث الأدبي، إذ يعرض لنا من خلال الشروح التي وقف عليها، وشكلت مادة شرحه آراء هؤلاء الشراح فيما وقع فيه أبو تمام من وهم في نسبة الشعر إلى غير قائليه. والأمثلة على ذلك كثيرة متعددة، منها على سبيل المثال ما جاء في قطعة الرثاء التي قيلت في عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وقد نسبها أبو تمام إلى الشماخ بن ضرار، فقد انتخب التبريزي لنا قولين في نسبتها أحدهما لأبي رياش الذي قال:"الذي عندي أنه- أي الشعر- لمز رد أخيه" والآخر لأبي محمد الأعرابي الذي قال: "هو لجزء بن ضرار أخي الشماخ".

وفي بيت الحماسة الذي نسب إلى السموءل بن عادياء الغساني وهو:

وأسيافنا في كل غرٍب ومشرٍق بها من قراع الدراعين فلول

نجد التبريزي ينقل عن أبي محمد الأعرابي قوله: "هذا البيت لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، يدلك على ذلك قوله:

فإن بني الديان قطٌب لقومهم

ص: 255

والديان هو يزيد ين قطن بن زياد بن الحرث الأصغر بن مالك بن ربيعة بن كعب الحرث الأكبر".

وفي القطعة التي نسبها أبو تمام إلى يحيى بن منصور الحنفي ينقل التبريزي عن أبي رياش قوله: "هذا غلط من أبي تمام يحيى بن منصور ذهلي وهذه الأبيات لموسى بن جابر الحنفي".

وفي الحماسة التي مطلعها:

ألا أيهذا النابح السيد إنني على نأيها مستبسٌل من ورائها

والتي نسبها أبو تمام إلى الفضل بن الأخضر الضبي نجد لدى التبريزي تصحيحًا لنسبتها من أبي هلال الذي قال: إنها لأبيه الأخضر بن هبيرة بن المنذر".

ونسب أبو تمام مرثية لعمرة الخثعمية قال إنها ترثي فيها بنيها وجاء مطلعها في روايته:

لقد زعموا أني جزعت عليهما وهل جزٌع أن قلت وابأباهما

فأفاد التبريزي عن أبي رياش قوله: "الذي عندي أن هذه الأبيات لدرماء بنت سيار بن عبعب الجحدرية ترثي أخويها وأولها:

أبي الناس إلا أن يقولوا هماهما ولو أننا اسطعنا لكان سواهما

وهكذا نجد أن التبريزي قد أفاد في مواضع متفرقة من شرحه إضافات ذات جدوى في هذا العنصر، وهي إضافات قد خدمت اختيار الحماسة من حيث إن تحقيق نسبة الشعر إلى قائله أمر ضروري في عملية الشرح، وإن كنا نأخذ عليه أنه

ص: 256

كان ينقل الآراء في نسبة الشعر دون أن يرجح أيها أصح في نظره، ومع هذا فإن مجرد التنبيه إلى شيء كهذا يعد عملًا مفيدًا في خدمة النص الشعري.

ج- أخبار الشعر ومناسباته:

احتفى التبريزي بهذا العنصر كثيرًا، فلقد سبق أن أشرنا إلى أنه كان ينساق وراء أبي رياش فلا نقولات مسهبة، وهي نقولات إن لم تحقق تعادلًا وتكافؤًا بين عناصر الشرح فإنها بلا شك قد خدمت هذا العنصر وحققت به فائدة في فهم الجو الاجتماعي والنفسي الذي قيل فيه الشعر المختار في الحماسة، والتبريزي بجانب إفاداته المتعددة من شرح أبي رياش في هذا العنصر كان يفيد أيضًا من أبي محمد الأعرابي الذي رأيناه في تتبعه لأبي عبد الله النمري يعني كثيرًا بأخبار الشعر وبواعث قوله ويعد معرفة ذلك من قبل الشراح أمرًا له أهميته الكبرى في فهم الشعر وإدراك معانيه، وكذلك كان ينقل من شرح أبي هلال ومن أبي عبيدة معمر بن المثنى، ونحن لا نستطيع أن نورد نماذج لهذه الإفادات لأن جلها قد جاء في إطالة بالغة، وبخاصة نقولاته من أبي رياش، ولكن حسبنا أن نشير إلى أنه نقل لخدمة هذا العنصر من شرح أبي رياش في نحو تسعة وثلاثين موضعًا، وهي مواضع متفاوتة في أجزاء الشرح الأربعة، ونقل عن أبي محمد الأعرابي في سبعة مواضع ونقل عن كل من أبي هلال وأبي عبيدة في موضعين، وهناك مواضع متفرقة أورد فيها أخبارًا عن الشعر وأصحابه لم يعزها لأحد من هؤلاء، ولعلها من أبي رياش أو أبي عبيدة.

د- أوزان الشعر وأضربه وقوافيه:

مر بنا أن التبريزي كان يهتم بتحديد وزن الشعر في قطع الحماسة وأضربه وقوافيه، وأنه استطاع أن يحقق ذلك في جل قطع الحماسة وأن نحوًا من اثنتين وستين قطعة فقط هي التي لم تحظ عنده بتحديد الضرب والوزن والقافية، وهو في هذا

ص: 257

الجانب كان يحدد الضرب أولًا فالبحر فالقافية، كأن يقول في صدر شرح أول بيت من كل قطعة:"الأول من الطويل والقافية من لمتواتر" أو "الأول من البسيط والقافية متدارك" ونحو ذلك، ولم يورد قضايا تتصل بالوزن أو القافية في شيء من الشرح والتوضيح إلا ستة مواضع: أربعة منها جاءت منقولة نصًا من شرح أبي العلاء، وموضع واحد نقله عن المرزوقي ولم يعزه إليه، ولكن ما نقله موجود بنصه في شرح المرزوقي وهو كلام المرزوقي الذي سبق أن أوردناه عندما تكلمنا عن عنصر الوزن والقافية في شرحه، والذي كان قد قاله في قطعة سلمى بن ربيعة التي مطلعها:

إن شواًء ونشوًة وخبب البازل الأمون

كما نقل كلامًا عن شذوذ الوزن في القطعة التي مطلعها:

"إن تسألي فالمجد غير البديع" ولم يعزه لأحد، وأغلب ظننا أنه أخذه من أبي العلاء لأن الأسلوب فيه شبيه بأسلوب أبي العلاء.

وهذه النقولات الستة إنما أخذها من شرحي أبي العلاء والمرزوقي، وهما من الشروح التي انتخب منها شرحه، غير أننا وجدنا له موضعًا سابعًا ناقش فيه مسألة تتصل بوزن الشعر أفاد فيها إضافة من غير هذين الشرحين، وذلك في قطعة الربيع ابن زياد التي يرثي فيها مالك بن زهير العبسي والتي يقول فيها:

ومجنباٍت ما يذقن عذوفًا يقذفن بالمهرات والأمهار

ص: 258

فقد أورد فيه قولًا لبي العلاء جاء فيه: "هكذا روى هذا البيت ناقصًا، وذكر أن الخليل كان يسمى هذا المقعد، وروى عن أبي عبيدة أنه كان يسمى هذا ونحوه الإقواء" ثم أضاف التبريزي إلى قول أبي العلاء هذا أن أبا عبيد ذكر في الغريب المصنف فيما يتعلق بالقوافي أن الأقواء نقصان حرف من الفاصلة، واستشهد بقوله:"أفبعد مقتل مالك بن زهير". قال التبريزي: ولم يبين ما الفاصلة، وربما توهم أن الفاصلة إحدى الفاصلتين المذكورتين في أول العروض الصغرى والكبرى، والأمر بخلاف ذلك لأن الحرف الناقص في البيت إذا قطعته من الوتد لا من الفاصلة".

ومضى التبريزي مقررًا حديثه قال: "وذاكرت شيخنا أبا القاسم الرقي في وقت قراءتي عليه هذا الموضع من الغريب، فذكر أن أبا عبيد يحكي هذا عن أبي عبيدة وأن أبا عبيدة لم تكن له معرفة بهذا العلم، وكأن الرقي توهم أن المراد بالفاصلة إحدى الفاصلتين من الصغرى والكبرى، فأطلق هذا القول في أبي عبيدة، والصواب ما وقع إلي فيما بعد وذكره لي بعض الشيوخ، وهو أن المراد بالفاصلة الفصل وهم يسمون عروض البيت فصلًا، والنقصان في هذا البيت من العروض، فعلى هذا الأقواء على ضربين أحدهما اختلاف حركة الروي بالضم والكسر، والآخر، نقصان حرف من عروض البيت.

فهذا هو الموضع الوحيد في هذا العنصر الذي قدم فيه التبريزي عملًا يمكن أن يعد جهدًا منه، وهو وإن بدا فيه معتمدًا على غيره فإنه دل على أنه مستوعب لقراءاته وسماعاته، يعرف كيف يوظف هذه القراءات والسماعات في مواضعها المناسبة من شرحه.

هـ- الرواية:

هذا العنصر رأيناه فيما سبق عند المرزوقي وابن جني وأبي هلال وأبي محمد

ص: 259

الأعرابي يخضع لمفاضلة واختيار، فالمفاضلة والاختيار هما المعيار السليم الذي يقاس به ذكر اختلافات الرواية، ولهذا كان لعمل هؤلاء الشراح قيمته في هذا العنصر. أما التبريزي ففضلًا عن أنه كان عالة على المرزوقي في هذا العنصر بصورة لا تخفى على من يقف على الشرحين معًا فإنه كان يورد أقوال هؤلاء الشراح ومناقشاتهم في الرواية واختيارهم لها، يرصفها جنبًا إلى جنب دون أن يتدخل بالوقوف إلى صف واحد منهم بالرأي والتعليل، ولهذا كان عمله في هذا العنصر- كما لاحظه أحمد جمال العمري- مجرد عرض للرواية لا أكثر ولا أقل، لا تخدم القارئ في شيء بل هو في واقع الأمر عمل له خطورته بالنسبة للقارئين والدارسين لأنه يجعلهم غير واثقين من صحة ما يقال وما يروي، إذ أن كثرة الروايات وتضاربها تجعل الشعر بين أذهان هؤلاء القراء والدراسيين ألعوبة غير جديرة بالثقة لكثرة ما طرأ عليه من تغييرات لفظية في الرواية.

وهذا القول الذي ذهب إليه العمري هو خير ما يقال في عمل التبريزي في الرواية، لأننا حين استخرجنا من شرحه كل ما جمعه من الشراح السابقين في الرواية وبدأنا نقرؤه قراءة دراسة متأنية هالنا ما فيه من آراء متضاربة بحيث تجد الرأي ونقيضه في موضع واحد، بل يتجاوز الأمر إلى أن اللفظة الواحدة تراها في رواية هؤلاء الشراح في أكثر من شكل، والكل يحاول أن يدعم روايته لها ذاهبًا إلى أنها هي الرواية وما عداها هو الخطأ، ولا نكون مبالغين إننا في كثير من المواضع التي لفتنا الحيرة فيها بأثرابها تمنينا أن تكون تحت أيدينا نسخة من رواية الحماسة بخط أبي تمام نفسه، بل ربما باعدنا في ذلك فتمنينا أن يكون أبو تمام بين ظهرانينا حتى نسأله عن صحة هذه الأقوال الصادرة عن هؤلاء الشراح، والتي جمعها لنا التبريزي في موضع واحد دون أن يتدخل فيها بعمل يذكر.

وربما يكونه هذا القول غريبًا من باحث يدري هذه الشروح، ولكنه شعور انتابنا في لحظات كثيرة أردنا أن نسجله دالين به على حيرتنا ونحن نقرأ ما جمعه

ص: 260

التبريزي من أقوال هؤلاء الشراح، والأمثلة على ذلك كثيرة. انظر مثلًا إلى عمل التبريزي في بيت المثلم بن رياح المري الذي يقول فيه:

سأكفيك جنبي وضعه ووساده وأغضب إن لم تعط بالحق أشجعا

وكان المثلم قد قال قبله في رواية أبي تمام:

من مبلٌغ عني سنانًا رسالًة وشجنة أن قوما خذا الحق أودعا

فنقل التبريزي عن المرزوقي قوله: "ويغلب في نفسي أن الشاعر قال: "وأغضب إن لم تعطيا الحق أشجعا" لأنه بنى الرسالة على أن تكون متوجهة نحو اثنين سنان وشجنة، ومخاطبته من بعد أحدهما في قوله "سأكفيك" على عادتهم في الافتنان والتصرف ولا يمنع من رجوعه إلى ما بنى كلامه عليه من ذكر الاثنين، وهذا ظاهر لمن تأمله".

وهذا اجتهاد من المرزوقي لك أن تقبله أو ترفضه لأنه مبني على غلبة الظن، وغلبة الظن في الرواية تحتاج إلى الرجوع إلى ديوان الشاعر، وليس إلى هذا من سبيل، هذا فضلًا عن أن المرزوقي لم يعتمده هذه الرواية في متنه، وهذا يضعف اجتهاده، إذ لو كان مقتنعًا به لأثبته في متنه.

هذا ما يقال في عمل المرزوقي، والأمر إلى هنا واضح جلي أن للبيت روايتين: أولى أثبتها المرزوقي في متنه وثانية قال: بأن غلبة ظنه تدفعه إلى القول بأن الشاعر قالها. ولكن التبريزي- وهو يثبت رواية المرزوقي الأولى في متنه ويورد هذا القول عن المرزوقي في الرواية الثانية- ينقل لنا في الموضع ذاته قولًا لأبي هلال العسكري جاء فيه "قوله إن لم تعط بالحق أشجعا، تصحيف قبيح، والصحيح" وأغضب إن لم يغضب الحق أشجعا" يقول: سأكفيك أمري كله لا أحملك شيئًا وأغضب لك ولحقك إن لم يغضب له أشجع".

ص: 261

ولم يعلق التبريزي على هذا القول بشيء كأنه لم يثبت في متنه الرواية التي وصفها أبو هلال بأنها تصحيف قبيح بل كأنه لم يلحظ أن تفسير أبي هلال لشطرة البيت مخالف لما ذهب أنه الرواية الصحيحة، فالرواية تجعل الحق فاعلًا، وأشجعًا مفعولًا به، والتفسير ظاهره أن أشجع هو فاعل الغضب.

وأعجب من ذلك أن تحاول اللجوء للمرزباني الذي ترجم للمثلم وروى له هذه القطعة فتجد نفسك أمام رواية تختلف عن هذه الروايات جميعًا هي: "وأقبل إن لم تعطنا الحق أشجعا"، وأنت قد تضعف هذه الرواية لأن فيها إقواء ظاهرًا ولكنها في الوقت ذاته قد حولت الغضب إلى قبول إذ فرق بين "أغضب" الواردة في الروايات السابقة و"أقبل" الواردة عنده.

ومع هذا الاضطراب الواضح في شأن رواية هذا البيت تجد نفسك باحثًا عن المعنى الذي أراده الشاعر فلا تجد ما يرضيك سوى أنها روايات ذات معان، كل معنى منها يمكن أن يكون هو الذي قصده الشاعر.

ومثل آخر نسوقه في جمع التبريزي للرواية جنبًا إلى جنب دون أن يبت في ذلك برأي، ففي بيت ربيعة بن مقروم الذي يقول فيه:

أرجيته عني فأبصر قصده وكويته فوق النواظر من عل

نجد التبريزي ينقل عن المرزوقي- دون أن يشير إليه وفي شيء من التحريف، وهو في أصله على هذا النحو قال:"والرواية الصحيحة""أرجأته" و"أرجيته" وهما لغتان، والهمز أفصح، قد قرئ "ترجئ من تشاء منهن" وترجي، ويروي "أرجيته" ويروي "أزجيته" والمعاني تتقارب في الكل".

وعمل المرزوقي هنا أيضًا واضح، فهو قد أثبت الرواية المشهورة في متنه وهي

ص: 262

"أرجيته" ثم فضل عليها رواية "أرجأته" بالهمز لأنها أفصح، وأشار إلى روايتين أخريين قال إنهما تلتقيان مع السابقتين في معنى واحد، غير أن التبريزي- وقد أثبت في متنه ما أثبته المرزوقي- ينقل قولًا لأبي الفتح ابن جني جاء فيه "أكثر من ترى يروي هذا البيت""أرجيته" بالراء، فإذا تعالى قليلًا رواه "أرجأته" بالهمزة وكلاهما تصحيف وإنما هو "أوجيته" بالواو أي ذللته وقهرته، كذلك روينا، وكذلك وجدته أيضًا في شعر القبيلة".

ولم يكشف التبريزي مع أي الروايات يقف، مع روايته التي أثبتها في متنه وهي "أرجيته" أو مع الرواية التي وصفها المرزوقي بأنها أفصح وهي "أرجأته" أو مع رواية أبي الفتح التي قال بأنه وجدها في ديوان القبيلة وهي "أوجيته" إنه لم يوضح شيئًا في هذا الأمر.

والحق أنا تتبعنا عمله في هذا العنصر فلم نجد له موقفًا يذكر إلا في موضع واحد، وذلك في بيت سبرة بن عمرو الفقعسي القائل:

أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلٌم وقد سال من ذٍل عليك قراقر

وهي الرواية التي أثبتها في متنه، وهي كذلك عند المرزوقي، وأشار التبريزي في شرحه إلى أنها رواية عبد الله النمري وأورد تفسير النمري لها قال:"قال النمري يقول سال هذا الوادي عليك فلم تستطع الانتقال عنه ذلًا وضعفًا" ثم نقل رواية أخرى لأبي محمد الأعرابي قال: "وقال أبو محمد الأعرابي: الصواب" وقد سال من نصر عليك قراقر" يعني نصر بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ابن خزيمة يقول: دافعتهم عنك حين سال الوادي بهم عليك، كما قال الآخر:

ونحن أسلنا مصعدًا بطن حائٍل ولم ير واٍد قبله سال مصعدا

يعني أنهم أسالوه بالرجال"، ثم عقب على هذا بقوله: "وهذا الذي ذكره أحسن ما قيل في هذا البيت كأن الوادي سال عليهم بالرجال".

ص: 263

وهو وإن لم يبين وجه الحسن فيه فإنه على أية حال يعد الموقف الوحيد الذي أبدى فيه رأيًا في هذا العنصر، أما باقي عمله فيه فقد كان ناقلًا سلبيًا في إيراده الآراء المتضاربة التي جمعها من الشروح المكونة لمادة شرحه.

وإذا كنا قد حكمنا بسلبية الرجل في عمله المتصل بالرواية وذهبنا من قبل إلى أن عمله الذي رأيناه منه في تجميع الأقوال التي يناقض بعضها بعضًا وتسجيلها في موضع واحد أمر يزعج القارئ والدارس معًا ويجعلهما في موقف الاضطراب والحيرة، فإن هذا لا ينبغي أن ينسينا ما سجلناه سابقًا عنه، إنه لم يكن مبدعًا في عمله بقدر ما كان جامعًا ناقلًا منتخبًا، وحسب الرجل أن يحقق هذا في شرحه وأن يترك لقارئه أو دارسه فرصة أن يختار من هذا التضارب والتناقض ما يرضي عقله وذوقه وفق معطياته الثقافية ومكنته في العمل والدراسة، وهذا بطبيعة الحال يضع قارئه أو دارسه في موقف عسير، لأن الرجال الذين كان ينقل عنهم- وعلى رأسهم أبو رياش وأبو هلال والمرزوقي وابن جني وأبو العلاء، رجال لهم وزنهم ومكانتهم في شرح الشعر وفهم لغته والخبرة الوافية بأساليب العرب فيه، ولا يعني هذا أنهم لا يخطئون في التأويل، فقد ثبت لنا ذلك عند بعضهم، ولكن أن ترجح رأي أحد منهم على الآخر في مسألة الرواية يحتاج إلى دليل مادي، يتمثل في الأصول التي اختار منها أبو تمام هذا الشعر، وأني لنا بهذه الأصول؟ . إذا كنا عاجزين عن أن نعثر على نسخة أصلية من عمل أبي تمام فهل نطمع في أن نعثر على أصول اختياره؟ بل إذا كنا عاجزين عن الحصول على جميع الشروح التي كان التبريزي ينتخب منها شرحه فهل يتيسر لنا أن نحصل على اختيار أبي تمام الأصلي أو على الأصول التي اعتمد عليها في اختياره.

و- شرح الألفاظ والتراكيب:

هذا العنصر ليس للتبريزي عمل ذاتي فيه سوى أنه قد أفاد من أعمال السابقين في مجال اللغة والنحو في شرح الألفاظ والتراكيب، وإذا كان له فضل عمل في هذا العنصر فإنه قد استطاع من خلال انتخابه أن يحقق توسعًا في الشرح اللغوي سواء في ذلك شرح الألفاظ أو التراكيب، وذلك أن هؤلاء العلماء الذين كان ينتخب من

ص: 264

أعمالهم- ابن جني وأبي العلاء والمرزوقي وغيرهم- قد حققوا في شروحهم مناقشات مستفيضة في القضايا اللغوية والنحوية، فكان تجميع ما أثاره في شرح واحد عملًا له قيمته من حيث استيفاء المادة المعروضة للنقاش والمساجلة من مختلف النواحي المتصلة بفروع اللغة.

والملاحظة التي نسجلها في هذا الخصوص أن انتخاب التبريزي في القضايا اللغوية كان أبرز منه في القضايا النحوية، وذلك أنه كان في جانب النحو المتصل بشرح التراكيب وما يتبعه من مسائل الأعراب يعتمد اعتمادًا يكاد يكون كليًا على المرزوقي، ولهذا قل انتخابه في مسائل النحو والإعراب. أما في مجال اللغة فقد كان انتخابه فيها واضحًا، وكانت الإضافات التوسعية بارزة بحيث نجدها في الكثير من الأمثلة، ومن ذلك ما جاء في تفسير لفظة "الكلالة" الواردة في بيت يزيد بن الحكم الثقفي القائل:

والمرء يبخل في الحقو ق وللكلالة ما يسيم

فقد انتخب في تفسيرها من شرحين: شرح المرزوقي وشرح أبي العلاء. نقل عن المرزوقي- ولم يسمه كعادته- "الكلالة هم الوارث ما خلال الوالد والولد، وأصله من تكلله النسب إذا أحاط به، وقيل: هو من الكلال الإعياء كأن بعد النسب أكله". ثم نقل عن أبي العلاء إضافة وتوسعًا في تفسير اللفظة قال: "وقال أبو العلاء الكلالة التي جاءت في الكتاب العزيز دلت على أنها يعني بها الأخوة من الأم، وفي موضع آخر وقعت على الأخت التي ترث النصف، فجائز أن تكون من الأب، وإذا قيل الكلالة من ليس بوالد ولا مولود دخلت فيه الأخت وغيرها من ذوي النسب".

ونراه في موضع آخر ينقل أقوال ثلاثة علماء في تفسير لفظة وردت في بيت لعبد اله بن عنمة يقول فيه:

ص: 265

فازجر حمارك لا يرتع بساحتنا إذن يرد وقيد العير مكروب

فقد أورد عن المرزوقي في معنى "مكروب" قوله: مكروب أي ملئ قيده فتلًا حتى لا يمشي إلا بتعب كأنه يضرب أو يستعمل حتى يرم جسمه، ويؤدي الوجع منه إلى موضع حافره فيضيق عليه".

ونقل عن أبي عبد الله النمري قوله: "كربت الشيء إذا أحكمته وأوثقته، ومعنى البيت أنا نرد الحمار مملوءًا قيده فتلًا كما يمتلئ الإنسان كربًا". ثم نقل عن أبي محمد الأعرابي معنى يختلف عن المرزوقي والنمري قال: "وقال أبو محمد الأعرابي: وقوله: "وقيد العير مكروب" أي إنهم يعقرونه والعقر أضيق القيود".

أما التراكيب فقد أفاد فيها إضافات من الشروح بحيث حقق فيها هي الأخرى توسعًا ضخمًا في شرح اللغة، الأمر الذي غنى المادة اللغوية بالكثير من أقوال العلماء، فمثلًا في تركيب "أهذا ما لكم بجلا" الوارد في بيت جابر بن رالان السنبسي القائل:

لما رأت معشرًا قلت حمولتهم قالت سعاد أهذا مالكم بجلا

نراه ينقل عن شرح المرزوقي- دون عزو- قوله: "وبجل في موضع الحال، والمعنى أهذا مالك مكتفى به، والأصل في بجل البناء على السكون، ودعت الضرورة إلى تحريكه فحركه بالفتح، كان الواجب إذا حرك الكسر فيه، ومنه قول الآخر:

نعم إن قلتما نعما

لأن نعم أيضًا مبني على السكون فحرك آخره للضرورة بالفتح كما ترى، وقد يضاف "بجل" لكونه اسمًا كما يضاف "قد" إذا كان بمعنى حسب قال:"بجلي الآن من العيش بجل". وينقل في الموضع ذاته من شرح أبي العلاء- ولكن بعزو-

ص: 266

قوله: "يجوز أن يكون نصب: "بجلا" كأنه قال أهذا مالك غير مجاوز ما أراه، ويجوز أن يكون أراد بجلي أي حسبي فقلب الياء ألفًا، لأن الأخفش وغيره حكوا أن بعض العرب يقول: "جاءني غلامًا" يعني غلامي فيقلب الياء ألفًا وعلى هذا أنشدوا:

أطوف ما أطوف ثم آوي إلى أما ويكفيني النقيع

فلا شك أنك تلحظ في مثل هذا العمل توسعًا في شرح المادة اللغوية، وهو توسع- بلا شك- ما كان ليتحقق لولا تجميع التبريزي لأقوال هؤلاء العلماء والانتخاب منها في موضع واحد من مواضع عمله في شرح الشعر.

ز- المعاني:

سبق أن أوضحنا أن التبريزي قد اعتمد شرح المرزوقي أصلًا لشرحه، ينقل منه بعزو وبدون عزو، ثم كان ينتخب من الشروح الأخرى ما يكمل به النقص الذي يجده في شرح المرزوقي أو يضيف منها ما يعد جديدًا بالنسبة لما ذكره المرزوقي، ولقد كان هذا العنصر من أبرز العناصر التي عول فيها على المرزوقي، وذلك أن المرزوقي- كما رأينا من قبل- كان قد اهتم بهذا العنصر اهتمامًا ملحوظًا، حيث يوضح معاني الشعر وما فيها من تأويلات، ويزيد على ذلك أنه كان يعرض هذه المعاني في أسلوب أدبي جذاب، ومن هنا كان الشراح ذوو المنهج التجميعي الانتخابي يعولون عليه في شروحهم، لاحظنا ذلك عند أمين الدين الطبرسي وعند الرواندي، وكلاهما سار في الطريق الذي سلكه التبريزي من قبلهما.

غير أننا حين نتتبع هذا العنصر في عمل التبريزي نجد أنه بجانب تعويله على المرزوقي فإن عمله لم يخل من انتخاب من شروح أخرى، جاء هذا في مواضع مختلفة من شرحه وهي مواضع دلت على إثراء هذا العنصر بالكثير من آراء الشراح في معاني الشعر بحيث ترى في الموضع الواحد أكثر من رأي.

ولا شك في أن هذه الآراء المتصلة بمعاني الشعر- وإن كان فيها تباين واختلاف

ص: 267

في بعض الأحيان فإنها تعطي القارئ فرصة الوقوف على أعمال الشراح فلي هذا العنصر، وبخاصة الشروح التي لم تصل إلينا، كما تعطيه فرصة التأمل والاختيار في التأويلات التي كان يذهب إليها العلماء بحيث تتكون لديه حصيلة وفيرة من معاني الشعر تمكنه من فهم النص الأدبي فهما يشمل جميع المعاني المحتملة فيه، وتهيئ له السبيل في إدراك معاني الشعر بعامة، ما اختاره أبو تمام وما لم يختره.

ونحن لا نريد أن نكرر أن التبريزي لم يكن له عمل خاص في هذا العنصر، ولكن مجرد تجميع أقوال العلماء والانتخاب منها يعد عملًا له فائدته، إذ يسهل للقارئ معرفة كل المعاني التي تتصل بالنص دون أن يكلف نفسه عناء قراءة الشروح التي انتخب منها التبريزي. هذا إذا توفرت لديه هذه الشروح. انظر مثلًا إلى هذا العمل في بيت موسى بن جابر الحنفي الذي يقول فيه: -

هلالان حمالان في كل شتوٍة من الثقل ما لا تستطيع الأباعر

فقد نقل أولًا قول المرزوقي فيه قال: "أي هما في الاشتهار والانتفاع بمنزلة هلالين، ويتكلفان في كل جدب ومحل من الأثقال والأعباء ما لو صارت أجرامًا لعجز عن النهوض بها وتحملها البعران". ثم نقل بعده قول النمري الذي قال: "أي هذان الرجلان يحملان من أعباء المغارم وأثقال الصنائع ما لو أنه يوزن لم تستطع حمله الإبل وهي أثقل الحيوان حملًا وأكثره صبرًا".

ولعلك تلحظ أن هذا القول في معنى البيت شبيه بما أورده المرزوقي ولكن التبريزي أورده لكي يورد لأبي العلاء عليه، فقد أتبع قول النمري بما وجده في شرح أبي العلاء الذي قال: "قد تأول النمري له معنى قد يجوز مثله، ولكنه بعيد، وإنما ينبغي أن يحمل الشيء على الشيء على ما كثر، وذلك أنه ذهب- أي الشاعر- إلى أن هذين الممدوحين يحملان من قرى الأضياف ومن نحر الإبل ما لا تستطيعه الأباعر، أي أنها لا تقوى عليه لأنه يهلكها، وهذا مجانس قولهم بنو فلان ظلامون للجزر، وقال ابن مقبل:

عاد الأذلة في داٍر وكان بها خرس الشقاشق ظلامون للجزر

ص: 268

أي إنهم يعقرونها كثيرًا، فكأن ذلك ظلم لها، ونحو منه قول الآخر:

قتيلان لا تبكي المخاض عليهما إذا شبعت من قرمٍل وأفاني

أي كانا يعقرانها فلما قتلا لم تبك عليهما". أورد التبريزي قول أبي العلاء هذا ثم عقب عليه بقوله: "فلا تعدلن عما ذكره أبو العلاء إلى غيره".

ولقد رأينا في صدر كلام المرزوقي أنه يذهب في معنى "هلالان" إلى أن الممدوحين في الاشتهار بمنزلة هلالين فنقل التبريزي في الموضع ذاته قول أبي محمد الأعرابي الذي جاء فيه "سألت أبا الندى عن قوله "هلالان" من هما؟ فقال: هما مرداس وعامر ابن شماس بن لأي من بني أنف الناقة، أمهما من بني العنبر وهما خالا موسى بن جابر الحنفي" فعقب التبريزي على هذا بقوله: "وهذا خلاف ما ذكره المرزوقي".

فانظر أي فائدة يحصل عليها القارئ من هذا العمل الانتخابي الذي لم يخل من تدخل التبريزي، وهذا الموضع من المواضع النادرة في شرحه التي كان يبدي فيها رأيًا حول ما ينتخبه في شرحه، أما جل المواضع الأخرى فقد كان انتخابه فيها مثل انتخابه الذي رأيناه في عنصر الرواية، إيراد للأقوال والآراء دون مفاضلة أو اختيار، وذلك مثل عمله في بيت الحماسة الذي نسبه أبو تمام لبعض بني فقعس وهو:

كيما أعدهم لأبعد منهم ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد

فقد نقل أولًا قول المرزوقي في معنى البيت دون عزو وهو: "أي قد يضطر الإنسان إلى نصرة بني الأعمام وإن كانوا منطوين على ضغائن، وهذا كما قيل لبعض حكماء العرب، ما تقول في العم وابن العم؟ قال: عدوك وعدو عدوك". ثم قال معنى آخر لأبي هلال قال: "وقال أبو هلال: يقول: ربما يضطر الإنسان أعدائه في بعض الأمور، ومثله قول الآخر:

ص: 269

وإني لأستبقى امرأ السوء عدًة لعدوة عريٍض من الناس جانب

أخاف كلاب الأبعدين ونبحها إذا لم يجاوبها كلاب الأقارب

ثم شفع ذلك بنقل ثالث لأبي عبد الله النمري في معنى جزء من البيت وهو "لأبعد منهم" قال: وقال النمري: لأبعد منهم أي لمن هو أبعد عداوة منهم، أي أشد، من قوله عز وجل:"وضلوا ضلالًا بعيدًا". ثم أردفه باعتراض أبي محمد الأعرابي على هذا المعنى قال: "وقال أبو محمد الأعرابي: غلط- أي النمري- في قوله لأبعد عداوة منهم، وإنما هو لأبعد قرابة منهم".

فأنت ترى أنه يورد هذه الأقوال- وهي مختلفة مناقضة بعضها بعضًا- بدون أن يتدخل فيها بالرأي لبيان أي من هذه الأقوال وافق الصواب وأي لم يوافقه.

هذه هي العناصر التي رأينا فيها لدى التبريزي عملًا انتخابيًا يحقق المنهج الذي سلكه، أما عنصر البلاغة والنقد فإن عمله فيه كان مقصورًا على النقل عن المرزوقي وعن أبي هلال، كان ينقل عن المرزوقي آراءه في الألوان البلاغية التي تعرض له في نصوص الحماسة، وينقل عن أبي هلال لمحاته النقدية التي كان يراها في الأبيات المختارة في الحماسة، ولهذا فإن من التكرار أن نتعرض بالدراسة لهذا العنصر عنده لأن عمل المرزوقي في البلاغة قد درسناه في منهجه في الفصل الثاني من هذا القسم، أما عمل أبي هلال في النقد فسوف نعرض له بالدراسة في القسم الثالث من هذا البحث.

والآن- وقد فرغنا من استعراض عناصر الشرح التي شكلت انتخابًا في عمل التبريزي- لدينا بعض الملاحظات حول عمل التبريزي في الحماسة نود أن نختم بها هذه الدراسة:

أولاها: أنه كان ينظم ما ينقله من الشروح، فقد رأيناه يكثر النقل من المرزوقي، ولكنه كان يتصرف فيما ينقله حيث ينظمه ويرتبه وفق الرؤية التي يراها في معالجة

ص: 270

عناصر الشرح، لا وفق ما جاءت في شرح المرزوقي، ولعلنا نذكر أننا حين تكلمنا عن طريقة المرزوقي في شرح النص أوضحنا أنه كان يتعامل مع النص بالشرح وفق الخطرة الأولى التي يخطر له عند قراءته، قد تكون هذه الخطرة جانبًا يتصل بالرواية فيناقشه أولًا، وقد تكون بلاغة فيبدأ بها، وقد تكون لفظة فيشرحها، وربما كانت تركيبًا فيعالج شرحه بداية، وأحيانًا قد تكون الخطرة في المعنى ذاته أو في الغرض الذي قيل فيه الشعر فيسجله، أما التبريزي فقد كان عمله أشبه بالشيء التنظيري الذي يسير وفق طريقة تقليدية هي شرح الألفاظ ثم التراكيب ثم إيراد المعنى وما فيه من اختلافات بين الشراح وأخيرًا البلاغة والنقد، وربما سبقت إيراد المعنى مناقشة الرواية، ولذا كنا نراه حين ينقل عن المرزوقي عملًا متعدد العناصر لا ينقله كما جاء في شرح المرزوقي وإنما يتدخل فيه بالتقديم والتأخير، ولم يكن يهدف من هذا أن يخفي أخذه عن المرزوقي قصدًا إلى الإيهام والتمويه كما ظن الدكتور أحمد جمال العمري، وإنما كان الرجل يحقق رؤيته الخاصة في ترتيب العناصر في عملية الشرح، وتستطيع أن تدرك هذا من خلال نماذج متعددة رأيناها في نقله عن المرزوقي، ولكن يكفي أن نعرض لك نموذجًا واحدًا حتى تدرك صدق ما ذهبنا إليه، وذلك في بيت ربيعة بن مقروم القائل:

وألد ذي حنٍق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل

فقد جاءت خطوات المرزوقي في شرحه على النحو التالي:

1 -

خطر له أول ما خطر أن يسجل في البيت جانبًا بلاغيًا فقال: "أخرج التشبيه ما لا يدرك من العداوة بالحس إلى ما يدرك من غليان القدر حتى تجلي فصار كالمشاهد".

2 -

انتقل فشرح أول لفظة في البيت، وهي لفظة "ألد"، قال:"والألد الشديد الخصومة، كأنه لد بالخصومة أي أوجر فلد به، ولذلك كان اللدد مصدر ألد ويقال في معناه ألندد".

ص: 271

3 -

شرح لفظة الحنق قال: "والحنق شدة الغيظ يقال أحنقه فحنق".

4 -

أورد معنى البيت فقال: "يقول: رب خصم شديد الخصومة ذي غيظ وغضب علي تغلي في صدره غليان المرجل بما فيه إذا كان على النار أنا دفعته عن نفسي".

5 -

وضح جواب "رب" من قوله "وألد" فقال: وجواب رب هو صدر البيت الثاني.

6 -

رجع مرة أخرى إلى تفسير لفظة الحنق فقال: "والحنق يجوز أن يكون عن اللزوق كأن الحقد لزق بصدره، ومنه يقال: أحنقت الدابة إذا أضمرتها".

هذه هي خطوات المرزوقي في شرح البيت، وهي بلا شك تفتقر إلى الترتيب المألوف الذي درج عليه الشراح في شرح النص الشعري، ولهذا كان من الطبيعي ألا ينقله التبريزي كما ورد في شرح المرزوقي، إنما كان عمله في البيت على النحو التالي:

1 -

نقل عن المزروقي خطوته الثانية وهي شرحه للفظة الألد.

2 -

نقل عن أبي العلاء إضافة في شرح اللفظة قال: "وقال أبو العلاء خصم ألد أي شديد الخصومة كأنه يمل عما يريد صاحبه، أخذ من اللديد وهو صفحة العنق وجانب الوادي".

3 -

مزج بين خطوتي المرزوقي الثالثة والسادسة فأورد ما قاله في معنى الحنق.

4 -

أورد معنى البيت كما جاء في شرح المرزوقي.

5 -

سجل ما جاء في خطوة المرزوقي الأولى وهي الجانب البلاغي.

6 -

نقل قول المرزوقي: "وجواب رب هو صدر البيت الذي يليه" وختم به عملية شرح البيت ليدخل في البيت التالي الذي هو جواب رب.

ص: 272

وهكذا نلاحظ أن خطوات التبريزي بدأت من شرح الألفاظ ثم المعنى ثم الجوانب الفنية التي تتصل بالأسلوب، وأخيرًا الربط بين البيت وتاليه، وهذه الخطوات المنتظمة في الشرح لها قيمتها في خدمة الغاية التعليمية التي قلنا بأن شروح الحماسة قد ارتبطت بها منذ ظهورها، وظلت كذلك في مختلف العصور التي تنقلت فيها. وهي بغير شك مفيدة في استيعاب القارئ الدارس لشرح الشعر.

وثانية هذه الملاحظات أنه- على كثرة نقله من الشروح دون أن يبدي رأيًا فيما ينقل- كانت له بعض المواقف التي دلت على شخصيته في العلم الانتخابي وهي مواقف- وإن كانت ضئيلة إذا ما قيست بالكثرة الكاثرة التي بدا فيها مجرد جماع ناقل منتخب- فإنها على أية حال دلت على ذاتية فيه، وعلى حضور ذهن فيما كان يعرضه من آراء. ومن أمثلة ذلك عمله في البيتين اللذين وردا في باب الملح وهما:

ولقد غدوت بمشرٍف يافوخه عسر المكرة ماؤه يتدفق

أرٍن يسيل من النشاط لعابه ويكاد جلد أهابه يتمزق

فقد أورد فيهما رأيًا لأبي محمد الأعرابي هو أن الضرب منهما مغير وأن الصواب ما نقله عن شيخه أبي الندى وهو:

ولقد غدوت بمشرٍف يافوخه عسٍر المكرة ماؤه يتفصد

مرٍح يمج من المراح لعابه ويكاد جلد أهابه يتقدد

حتى علوت به مشق ثنيٍة طورا أغور بها وطورًا أنجد

فعلق التبريزي على هذا بقوله: "والبيتان معروفان وهذه الأبيات الثلاثة غريبة، ولا يمتنع أن تكون هذه غير البيتين، فقد يقع الحافر على الحافر حتى لا تختلف كلمة من البيت غير ما يتعلق بالقافية نحو قول امرئ القيس:

يقولون لا تهلك أسى وتحمل

ص: 273

وقول طرفة: يقولون لا تهلك أسى وتجلد.

ومن ذلك أيضًا ما جاء عنه في بيت زياد بن حمل القائل:

وحبذا حين تمسي الريح باردًة وادي أشٍي وفتياٌن به هضم

فقد شرح التبريزي "هضم" بأنه جمع هضوم، وهو المنافق في الشتاء، ثم قال: سألت الرقي عن قوله هضم ما معناه؟ فقال جمع أهضم وهو الضامر البطن، فقلت له قد ذكر لي أبو العلاء شيئًا غير هذا فقال: ما هو؟ قلت: قال: هضم يعني أنهم يهضمون المال أي يكسرونه وينفقونه فأنشد:

إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام

فهذا المثال وسابقه وغيرهما في شرحه تدل على شخصية الرجل من حيث قراءته ولقاءاته بالعلماء ومساءلته لهم، والإفادة من ذلك في مواضعه الصحيحة من الشرح، وهو يؤكد حضوره الذهني واستدعاء المعلومات في حينها أثناء عملية الانتخاب في شرح الشعر.

وإذا كانت هاتان الملاحظتان إيجابيتين في عمل التبريزي الانتخابي فإن لنا أخريين سلبيتين في العمل ذاته: أولاهما: تخصه وتخص غيره من الشراح الذين اتبعوه في منهجه التجميعي الانتخابي، وهي أنهم كانوا لا يعزون جميع ما ينقلونه من آراء وأقوال إلى أصحابها، وبخاصة حين ينقلون عن المرزوقي فهم- التبريزي والطبرسي والرواندي- يوردون كلام المرزوقي في صورة توحي بأن هذا من عملهم، وهذه بطبيعة الحال ظاهرة لها خطورتها من حيث أنها تجعل الدارسين لشروحهم أو المستفيدين منها في اضطراب مستمر، حين ينسبون لهم أقوالًا ليست لهم أو يجعلون لأعمالهم قيمة لا تؤول إليهم في واقع الأمر، ولقد حدث هذا بالفعل من البغدادي في خزانة الأدب، ومن بعض الباحثين المعاصرين، فلقد رأينا البغدادي في أكثر من

ص: 274

موضع في الخزانة ينسب رأيًا للتبريزي أو لأمين الدين الطبرسي، وهو ليس لهما، وإنما لابن جني أو المرزوقي.

وكذلك أوقع صنيع التبريزي في نقله أعمال العلماء دون عزو باحثًا معاصرًا- هو الدكتور فخر الدين قباوة- في وهم كبير حين ظن أن كل ما جاء في شروح التبريزي من أعمال رائعة لشراح سابقين إنما هي للتبريزي، وأقام على ذلك حكمًا لا يستند شيء، ولو أنه رجع إلى مصادر التبريزي في شرحه لإدراك هذه الحقيقة، وهذا ما نبه إليه الدكتور العمري حين قال:"لقد ضلل التبريزي فخر الدين قباوة، وأغرقه في الوهم حين جعله يعتقد أن الإبداع الفني كله خليق به، من جهده، من فهمه، والحقيقة أنه وإن كان من صنع يديه لكنه ليس من إعمال عقله أو كد فكره إنما هو لمام جمع عارض سارد".

وثانيهما: هذا الإسهاب الذي رأيناه منه في نقله أخبار الشعر عن أبي رياش وما يتصل بها من شخصيات وأشعار، وقد أدى هذا الإسهاب إلى خلل في تنظيم العناصر عنده، بحيث تغول هذا العنصر في بعض المواضع على سائر العناصر الأخرى، وهو لم يكن يكتفي بإيراد هذه الأخبار وما يتصل بها فحسب، بل كان يزيد عليها تعليقات شيخه أبي العلاء على جزئيات منها، فهو مثلًا قد نقل عن أبي رياش خبر أرجوزة أدهم بن أبي الزعراء التي مطلعها:

قد صبحت معٌن بجمٍع ذي لجب

وهو خبر طويل جدًا وردت فيه أشعار مختلفة منها أبيات لمعدان بن عبيد الطائي وجههًا لمروان بن الحكم منها هذا البيت:

ص: 275

ألم تر للخلافة كيف ضاعت إذا كانت بأبناء السراري

فلم يكتف التبريزي بإيراد الخبر وما قيل فيه من أشعار وإنما زاد عليه ما جاء عن أبي العلاء في مناقشته للفظة "السراري" الواردة في البيت السابق، وهي مناقشة فيها إفاضة وإسهاب قال: "السراري جمع سرية وحق الجمع أن يكون مشدد الياء فخففه للضرورة، وقد اختلف في اشتقاقها فقيل: هي من السر الذي هو النكاح، وقيل إنما سمي سرًا لأنه يستسر به عن العيون، وقيل: سميت سرية لأن مالكها يسر بها وهذا أقيس من القول المتقدم لأنهم يسمون السر سرًا بضم السين قال طرفة:

ففداٌء لبني قيٍس على ما أصاب الناس من سٍر وضر

فوزنه على فعلية، وقال قوم: إنما أخذت السرية من السراة وهي أعلى الشيء، فقيل: أراد أن مالكها يملك سراتها، وقيل: بل ذلك من فعل السراة من الناس لأن السراري إنما يتخذها أهل اليسار والسعة، وقال قوم: سميت سرية لأن مالكها يطرقها ليلًا فكأنه يسري إليها، ووزنها على هذه الوجه فعولة، وذلك أقيس من أن تجعل فعيلة إنما حكى في قولهم كوكب دري، وفعولًا وإن كان قليلًا فهو أكثر في الكلام قالوا: السبوح والقدوس والذروح".

فهذا الاستطراد المسهب في شرح لفظة ترد في بيت من أبيات الاختيار وإن كان له قيمته في التوسع اللغوي الذي تميز به شرح التبريزي فإنه في الوقت ذاته قد أخل بإحدى صفات هذا المنهج المتمثلة في إيراد العناصر محاطة بالتناسق والتنظيم مشمولة بالمواءمة التي لا تجعل عنصرًا يطغى على العناصر الأخرى.

هذا هو عمل التبريزي في الحماسة، حاولنا أن نعرضه في صورة لا تغمط الرجل حقه، فهو شارح حاول أن يبتكر منهجًا مغايرًا لسابقيه في شرح الشعر، وجد شيوخه وسابقيهم قد عالجوا الحماسة في شروحهم من نواح مختلفة كل شرح يركز على ناحية دون الأخرى، فأراد بمنهج جديد أن يجمع بين هذه النواحي في شرح واحد أي

ص: 276

أن يجمع شروحًا في شرح، ومن ثم جاء عمله جامعًا بين مناهج مختلفة، وأساليب متباينة وهو وإن بدا في عمله غير خلاق أو مبتكر فإنه في مقابل ذلك دل على جهد مضٍن، وعلى استيعاب شامل، وعلى وعي وإدراك وحضور ذهن، في استدعاء معلوماته التي قرأها أو سمعها من شيوخه أثناء عملية الشرح وأن يوظف ذلك في مواضعه، وفي هذا فضل لا ينكر ولو شفعه بفضل آخر بأن عزا نقولاته إلى أصحابها لكان شرحه الغاية الخالدة في هذا المنهج.

* * *

ص: 277