الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك سجل الشعر بعض الحوادث العامة في تاريخ الفتح الإسلامي، كأمر ابن الخطاب بطبخ الأنبذة حتى يذهب ثلثاها، حينما بلغه وقوع بعض الجند في الخمر. وقد روى بعض المؤرخين ارتباط ذلك بما ابتلي به المسلمون من الطاعون، فقال ذو الكلاع في رثاء الخمر:
ألم ترَ أن الدهر يعثر بالفتى
…
وليس على صرف المنون بقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي
…
ولست على الصهباء يومًا بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها
…
فخلانها يبكون حول المعاصر1
وهكذا يعطينا الشعر في الشام صورة باهتة وناقصة لحوادث الفتح ولمشاعر الفاتحين، ولكنها تبدو أكثر إشراقًا أمام الصورة التي يعطيها لنا الشعر في فتوح مصر وإفريقية.
1 الإصابة ج2، ص183.
3-
الشعر في مصر وإفريقية:
كنا قد التمسنا العذر لميدان الشام في قلة المحصول الشعري للفتوح؛ لأن الفاتحين لم يتخذوا بها مساكن ولم يختطوا فيها خططًا، وبأن آماد الفتح وأبعاده لم تيسر لهم الانطلاقة الطويلة التي يسرها امتداد الفتح في آماد الأرض المنفسحة في خراسان.
فما العذر الذي يمكن أن نتذرع به أمام ندرة المحصول الشعري للفتوح في مصر، وقد اختط العرب خططًا، وأقاموا بها يحاربون الروم، ويقضون على فتنهم وغدرهم قرابة ثماني سنوات، بينما كانت آماد الفتح ليست ذات حدود في الانطلاق عبر إفريقية والسودان انطلاقة واسعة؟
إن القبائل التي شكلت جند الشام وأمداده هي نفس القبائل التي فتحت مصر واستقرت فيها من بعد الفتح، وإذا كنا لاحظنا أن قوات من العرب النزاريين قد حاربت في الشام فترة تحت إمرة خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان فتركت آثارًا لها في شعر الفتوح هي تقريبًا كل ما لدينا من هذا الشعر فإننا نلاحظ هنا هجرة قبائل معينة، اشتهرت بالشعر، وأقامت بمصر إقامة دائمة، وأشهر هذه القبائل: قبيلة هذيل، وبرغم
هذا فليست لها آثار تدل على اشتراكها في الفتوح اشتراكًا واضحًا، وقد هاجرت هذه القبيلة إلى مصر في أعداد كبيرة، جعلت بعض المؤرخين المتقدمين يعتقدون أنه لم يعد لها في الحجاز حتى يطرق1. وظهرت آثار هذه الهجرات الضخمة فوصفوا إقفار ديارهم، وخلوها بعد هجرة ذويهم، كما نجد في شعر البريق بن عياض وأبي صخر والحارث بن أسامة2.
وعلى الرغم من أن هذه الأشعار وجدت بسبب من الفتوح إلا أنها لا تدل بطبيعة الحال على حوادثها ولا تتعرض لها على الإطلاق.
وهناك قصيدة تروى لأبي العيال الهذلي أحد الذين اشتركوا في الفتوح بمصر والشام يتحدث فيها عن الحرب والحصار، ويوجهها إلى معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على صورة رسالة. ويذكر أنها كانت على زمن معاوية. ولكننا نعجب لذكر والي مصر في عهد عمر وعثمان في هذه القصيدة التي تسير على هذا النحو:
من أبي العيال أبي هذيل فاعرفوا
…
قولي ولا تتجمجموا ما أرسل
أبلغ معاوية بن صخر آية
…
يهوي إليه بها البريد المعجل
والمرء عمرًا فائته بصحيفة
…
مني يلوح بها الكتاب المنمل
وإلى ابن سعد إن أؤخره فقد
…
أزرى بنا في قسمة إذ يعدل
وإلى أولي الأحلام حيث لقيتهم
…
حيث البقية والكتاب المنزل
أنا لقينا بعدكم بديارنا
…
من جانب الأمراج يومًا يسأل
أمرًا تضيق به الصدور ودونه
…
مهج النفوس وليس عنه معدل
في كل معركة يرى منا فتى
…
يهوي كعزلاء المزادة يزغل
أو سيد كهل تمور دماؤه
…
أو جانح في صدر رمح يسعل
1 ابن خلدون ج2، ص319.
2 انظر ديوان الهذليين ج2، ص199، 202، ج3، ص58.
حتى إذا رجب تخلى وانقضى
…
وجماديان وجاء شهر مقبل
شعبان قدرنا لوفق رحيلهم
…
سبعا يعد لها الوفاء فتكمل
وتجردت حرب يكون حلابها
…
علقا وميريها الغوى المبطل
فاستقبلوا طرف الصعيد إقامة
…
طورًا وطورًا رحلة فتنقل
فترى النبال تعير في أقطارنا
…
شمسًا كأن نصالهن السنبل
وترى الرماح كأنما هي بيننا
…
أشطان بئر يوغلون ونوغل1
وفي رأينا أن القصيدة كانت في محاولة الروم استعادة مصر للمرة الثانية، بحملة مانويل الداخلة في مشروع قسطانز، لاستعادة الإمبراطورية الرومية لمصر والشام، وهذه الحملة كانت في عام 25هـ، في الوقت الذي كان فيه معاوية بن أبي سفيان واليًا للشام، ويعمل بكل قواه لرد طرف الحملة الثاني عن الشام؛ إذ كانت حملة مزدوجة ذات شعبتين. وليست هناك حوادث تاريخية جمعت بين هؤلاء الذين يتوجه إليهم الشاعر برسالته إلا هذه الحادثة، فمعاوية أمير الشام يقضي على حملة مانويل في الشام، وتمنى أمامه بهزيمة فادحة. وعبد الله بن سعد هو أمير مصر، وعمرو بن العاص فاتحها، وأميرها السابق الذي تصدى لهذه الحملة بعد أن أتى به الخليفة وكلفه بها. وقد توغلت حملة مانويل داخل الأراضي المصرية، وكان عددها كبيرًا؛ إذ قدمت في ثلاثمائة سفينة2، وتقدمت من الإسكندرية التي استسلمت مباشرة إلى حصن بابليون، ووقفت على أطراف الصعيد كما يقول أبو العيال ونهد عمرو إليها في نقيوس، حيث أذاقها الهزيمة، فعادت تتحصن بالإسكندرية وتنصب المجانيق على أسوارها، فسواها عمرو بالتراب. ودخل المدينة في الوقت الذي انتهى منه معاوية من القضاء على شق الحملة في الشام.
والقصيدة في جملتها ليست إلا استصراخًا للأمراء المعنيين بأمر الدفاع عن مصر والشام لرد العدوان الذي تعرضت له، وإجلاء المعتدين الذين أقاموا بالبلاد ما يقرب من أربعة أشهر.
1 وقد لاحظ بعض الدارسين أن القصيدة ليست كاملة، وأن تسلسل الفكرة فيها منعدم. "مصر العربية""ص92"، وانظر القصيدة في ديوان الهذليين ج2 ص252، والإصابة ج7 ص143.
2 ابن عبد الحكم ص157.
وتجمع الروايات التاريخية على أن أبا ذؤيب الهذلي قد خرج إلى مصر يريد الغزو في إفريقية مع جيش عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 26هـ1، ولكنها تختلف في أمر بنيه الخمسة، الذي ذكر أنهم لاقوا حتفهم في مصر أو في غيرها، ولكن بعض الروايات تؤكد أنهم هلكوا بالطاعون في مصر2. وقد رثاهم أبو ذؤيب بقصيدة من عيون الشعر العربي3، سنتعرض لها فيما بعد.
وقد رأى بعض الدارسين أن أبا ذؤيب قد يكون قال بمصر قصيدته التي يذكر فيها بلاء عبد الله بن الزبير في فتح إفريقية4، وهذا شيء لا تدل عليه القصيدة، ولكنها تدل في وضوح على ظروفها ومناسبتها وتؤيدها الروايات التاريخية التي عرضت لفتح إفريقية كما سنرى.
وهكذا يشعر الدارس لشعر الفتح الإسلامي في مصر بالأسف ولا يملك إلا أن يتعلل بما يتعلل به غيره من الدارسين، من ضياع شعر القبائل التي نزلت مصر؛ إذ لا يمكننا أن نتصور أن تحدث هذه الفتوح الخطيرة في مصر، وأن تقع الوقائع العنيفة هذه في بابليون، وأم دنين، وعين شمس، والكريون والإسكندرية ولا يكون لها أثر في الشعر، بل من العجيب حقًّا أن يقتتل المسلمون مع الروم في الكريون بضعة عشر يومًا متصلة -حتى يصلي عمرو صلاة الخوف- ولا نجد لذلك أثرًا إلا في إشارة لكثير فيما بعد الفتح بسنوات عديدة حينما قال:
ومرت سراعًا عيرها وكأنها
…
دوافع بالكريون ذات قلوع5
وتروى بعض الروايات أبياتًا قليلة من الرجز، منسوبة إلى عمرو بن العاص، وتذكر أنه قالها في حصار بابليون، يصف فيها المنجنيق على هذا النمط:
1 انظر أغاني دار الكتب ج6، ص56، الشعر والشعراء ج2 ص625، وفتوح البلدان ص226، وابن الأثير ج3، ص70، الإصابة ج7، ص63.
2 الخزانة ج1، ص203.
3 ديوان الهذليين ج1 ص1-3، الاستيعاب ص665، أسد الغابة ج5، ص190، الإصابة ج7، ص64.
4 مصر العربية ص104.
5 ياقوت ج4، ص471.
يوم لهمدان ويوم للصدف
والمنجنيق في بلى تختلف
وعمرو يرقل إرقال الشيخ الخرف1
وتذهب بعض الروايات الأخرى إلى أنه قالها في معركة صفين2، ولكننا لا نستطيع أن نعتقد أن عمرًا قال هذه الأبيات، ونحن لا ننكر أن لعمرو شعرًا كثيرًا روته كتب التاريخ، على عادة الرواة الذين لا يكادون يتركون واحدًا من الصحابة من غير أن يرووا له شعرًا. والذي يمنعنا من الاعتقاد في صحة نسبة هذه الأبيات إلى عمرو واضح في الأبيات نفسها، فليس عمرو بن العاص باعتداده بنفسه وشموخه واعتزازه هو الذي يقول عن نفسه هذا القول، ويصف نفسه بهذا الوصف.
ولا نجد أثرًا لمغامرات المسلمين في بلاد النوبة واستعصائها عليهم في الشعر، فلم يهتج شاعر مثلًا لوصف ما جرى من معارك عنيفة، ذهبت فيها رماح القوم بأحداق المسلمين.
وفي إفريقية التي فتحها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والتقى فيها بجرجير في معركة عنيفة، وأصاب المسلمون فيها غنائم وفيرة لا نجد ما يصور هذه الأحداث، إلا أبياتًا لأبي ذؤيب الهذلي، يمدح فيها عبد الله بن الزبير الذي اغتنم فرصة قتل فيها جرجير. ويبدأ أبو ذؤيب أبياته بالنسيب وينتقل منه إلى وصف السحاب، ثم يعود إلى النسيب فيخلطه بمدح ابن الزبير ويشير إلى رحلتهما معًا فيقول:
وصاحب صدق كسيد الضرا
…
ء ينهض في الغزو نهضًا نجيخا
وشيك الفضول بطيء القفو
…
ل إلا مشاحًا به أو مشيحا
يريع الغزاة وما إن يريـ
…
ـع مضطمرا طرتاه طليحا
كسيف المرادي لا ناكلا
…
جبانا ولا جيدريا قبيحا
1 ابن عبد الحكم ص162.
2 وقعة صفين ص463.
قد أبقى لك الأين من جسمه
…
نواشر سيد ووجها صبيحا
أربت لأربته فانطلقـ
…
ـت أزجي لحب الإياب السنيحا
على طرق كنحور الركا
…
ب تحسب آرامهن الصروحا
بهن نعام بناها الرجا
…
ل تبقى النقائض فيها السريحا1
والأبيات تعطي الصورة لتوثق أواصر الصداقة بين الرجلين ومتابعة الشاعر للفارس في انطلاقته، وربما تبرر هذه الصداقة ما يروى من تلازمهما حتى ليكون ابن الزبير هو الذي يوسد الشاعر في ضجعته الأخيرة منصرفهما من غزوة إفريقية في بعض الروايات2. وقد قال الشاعر المجاهد وهو يستعد لرقدته الأخيرة واصفًا حفرته التي دفن فيها:
مطأطأة لم ينبطوها وإنها
…
ليرضى بها فراطها أم واحد
قضوا ما قضوا من رمها ثم أقبلوا
…
إلى بطاء المشي غبر السواعد
فكنت دنوب البئر لما تبسلت
…
وسربلت أكفاني ووسدت ساعدي3
ولسنا نجد ظلا ولو باهتا يصور انسياح الفاتحين في إفريقية وفتحهم لبرقة وطرابلس وما بينهما وما حولهما كودان وفزان، اللهم إلا ما يتردد في كتب التاريخ من شكوى المسلمين من اختصاص الخليفة عثمان بن عفان لمروان بن الحكم بخمس الفيء الذي جاء من إفريقية، فيقول عبد الرحمن بن حنبل في هذا المعنى:
وأحلف بالله جهد اليمين
…
ما ترك الله أمرًا سُدى
ولكن جعلت لنا فتنة
…
لكي نبتلى بك أو نبتلي
دعوت الطريد فأدنيته
…
خلافًا لما سنه المصطفى
ووليت قرباك أمر العباد
…
خلافًا لسنة ما قد مضى
1 ديوان الهذليين ج1، ص135، 136، الأغاني "دار الكتب" ج6، ص266، وابن قتيبة ج2، ص635.
2 أسد الغابة ج5، ص189، الاستيعاب ص666، الخزانة ج1، ص203.
3 الشعر والشعراء ج2، ص640، 641.
وأعطيت مروان خمس الغنيمـ
…
ـمة آثرته وحميت الحمى
ومالا أتاك به الأشعري
…
من الفيء أعطيته من دنا
فإن الأمينين قد بينا
…
منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهمًا غيلة
…
ولا قسمًا درهمًا في هوى1
وجلي أن هذه الأبيات لم يقلها الشاعر في المعركة، وإنما قالها في شبه الجزيرة، يلوم فيها على الخليفة تفريطه في فيء المسلمين ومحاباته أقاربه، وليس هناك أشعار وراء هذه الأبيات التي لا تصور من الفتح إلا جانبًا فرديًّا شاحبًا من جوانب المعركة، وبذلك لا نجد في الشعر آثارًا للتجربة الهائلة التي كنا نتوقع أن نرى لها نتائج أدبية خطيرة، لما كان من عنف المعارك، وقسوة القتال، واختلاف البيئة وجدتها على الفاتحين، وغنائها بالعناصر الجديرة بالوصف، والملهمة بالتعبير.
ولهذا لا يمكننا أن نعزو انعدام التعبير الشعري هنا لانعدام المثيرات، فإن التجربة حافلة بالأحداث المثيرة، والأحاسيس المختلفة الحقيقة بالتعبير والتصوير.
ولا نملك إزاء ما نجد من تقصير الشعر في رسم جوانب تجربة الفتوح الإسلامية في الشام، وندرة الشعر أو انعدامه في مصر وإفريقية، إلا أن نقرر ما سبق أن قررناه من أن جل الفاتحين لهذه الميادين كانوا من عرب اليمن، الذين لم يرزقوا ما رزق العدنانيون من اقتدار على التعبير الشعري، وأن ما وجد في الشام من الشعر لم يكن إلا نتيجة لوجود بعض القبائل العدنانية التي استقرت لفترة ثم رحلت، وأن ما وجد بمصر لم يكن إلا نتيجة لوجود بعض قبائل عدنان الشهيرة بالشعر، وربما ضاع في مصر شعر لقبائل أخرى لم تصل إلينا دواوينهم، كما وصل إلينا ديوان هذيل. ولا شك أن من أهم الأسباب الفاعلة في قلة الشعر في مصر والشام وأنه لم يدون، وأن الذين كتبوا عن الفتوح كانوا في جملتهم من مؤرخي العراق ورواته، وكذلك كان رواة الشعر، ومن ثم ضاع الشعر الذي نظم في الفتوح بغربي الدولة. على أن كما قدمنا نفترض إلى جانب ذلك أن قلته ترجع إلى أن كثرة القبائل المهاجرة هناك كانت يمنية، والشعر في مضر لا في
1 الاستيعاب ج1، ص410، 411، أغاني دار الكتب ج6، ص268.
اليمن، ومما يدل على ما نذهب إليه من ذلك أن مسألة مثل فشو اللحن على ألسنة العرب الفصحاء حينما تعرض لها الجاحظ في البيان والتبيين لم يذكر لنا شيئًا عن مصر، وإن كان ذكر عرضًا شيئًا عن لحن بعض الخلفاء الأمويين، ولكنه لم يعرض للشعب العربي في الشام ومصر، وفي نفس الوقت نراه يعرض في تفصيل لفشو اللحن على ألسنة الكوفيين والبصريين، وما ذلك إلا لأن الرواة كانوا من العراق، وعنوا بتدوين كل ما يتصل به، ولم يعنوا بتدوين الظواهر اللغوية في الغرب.
ومعنى ذلك أن الشام ومصر وشعراءهما حتى في العصر الأموي لا يأخذون مجالًا واسعًا في الرواية الأدبية أو اللغوية، فما بالنا بعصر الفتوح؟