الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة:
موضوع هذا الكتاب "شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام"، وهو يتناول الدراسة الفنية في شعر المحاربين من العرب المسلمين في فترة مشرقة من فترات تاريخهم، بل لعلها أكثرها إشراقًا، فهي الفترة التي تزخر بأسمى المشاعر الروحية الإسلامية، ويتجلى فيها أثر الإسلام عقيدة وفكرة في نفوس العرب، وفي حملهم على البذل والتضحية والفداء، كما أنها تصور الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام عن طريق الارتقاء بالنوازع الوجدانية القبلية والفردية الضيقة الحدود إلى وجدان متوحد، من أجل هدف واحد نبيل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102، 103] .
وإلى جانب هذا التمثيل الصادق للأخوة الإسلامية تمثل العرب دينهم خير دين ارتضاه الله لهم، وأن نبيهم الذي بعث فيهم إنما بعث إلى الناس كافة، وأنهم هم ورثته في هداية هذه الأمم الضالة إلى طريق الحق، وقد خلق هذا في نفوسهم شعورًا متوثبًا، لا يقنع بالانطواء على ما تأجج في صدورهم من ألق العقيدة، فاندفعوا ينتشرون بهذا الشعور خارج حدودهم إلى الشرق والشمال والغرب، لا يأبهون بقوة في الأرض، وهم على ثقة كاملة من نصر الله لهم، وكلهم أمل في إحدى الحسنيين، الشهادة أو الظفر.
وشعر الفتوحات الإسلامية في هذه الفترة يرسم صورة مشرقة للانطلاقة الهائلة الواسعة، التي انتزعت العربي من حيزه الضيق لتطوف به في أرجاء ممتدة وبعيدة لم يستشرفها من قبل، كما أنه يرسم صورًا رائعة للفروسية العربية في ذلك الإطار الجديد الذي وضعه الإسلام لتقاليدها، وصورًا رائعة أخرى للإيمان القوى، والتصديق العميق بما وُعد به المؤمنون المجاهدون، ولصنيع هذا الإيمان بتلك
النفوس؛ من اكتشافها لذواتها، ومعرفتها بقدرها، فراحت من ثم تدك بإيمانها معاقل الأكاسرة وعروش الأباطرة والجبابرة، وتقود ولاياتهم إلى حظيرة الإسلام.
وعلى هذا: فإن شعر الفتح بتصويره للآثار النفسية لما تمثله العرب من روح الإسلام، يكشف في جلاء عن الأسباب الفاعلة في انتقال هذه الأمة من ضلال وضعف وتخبط في عمايات الفتن والتناحر، إلى ما صارت إليه من اقتدار على رسم خريطة جديدة للعالم وقتذاك.
وفضلًا عن ذلك يرسم شعر الفتح صورًا لبأس المسلمين في حومات الوغى وزحمات القتال، لا يغادر في سبيل ذلك معركة أو اشتباكا، حتى ليعد وثيقة تاريخية هامة في هذا السبيل، تسجل النتائج الناجمة عن الفتوح، من احتكاك بالبيئات الجديدة، وتأثر النفوس العربية المنطلقة بتلك الأجواء الغربية في طبيعتها وحياتها، وسبل هذه الحياة، وعما استحدثته في ظروف البعد عن المواطن الأولى، من استشعار الاغتراب والحنين، وعن هجرة البذور الأولى للشعر العربي إلى الأمصار والمناطق المفتوحة، وتصوير حياة المسلمين في هذه البقاع، وعلاقاتهم بأولي الأمر فيها قبل استقرار المجتمعات الإسلامية.
وقد عنيت في هذا الموضوع الذي يتخذ تلك الفترة المهمة من تاريخ الإسلام مسرحًا له باستجلاء طبيعة الفتوح ومظاهرها، وطوابع الشعر، وخصائص الشعراء، متوخيًا بتلك العناية أن أعرض شعر الفتوح الإسلامية في معارض شتى، مكسوة بالتاريخ، ومحفوظة بتأثيرات الدين الجديد وروحه ومثله في نفوس المسلمين، لما لهذه الفترة من ارتباط وثيق بالدين الحنيف، ولما لهذه الفتوحات من صلة وثيقة بروح الأمة الإسلامية في هذا الزمان، وارتباطها بتصوير مجدها وعزها.
فشعر المعارك الحربية كان أبدًا ودائمًا ولدى جميع الأمم سجل فخرها، وعنوان بأسها وأناشيد بطولتها، وقد اخترت أن تكون رسالتي في هذا السبيل وسيلة متواضعة للفت أمتنا العربية في عزة حاضرها وتوثبها إلى مجد ماضيها وعظمته، واجتلاء تصوير الشعر لما اضطلع به المسلمون الأُوَل من واجبات مقدسة ضخمة في سبيل نشر معتقدهم، وما عانوا في هذا السبيل من حياة القلق والحركة
والانتشار والتمدد، وما قاسوا من مشقات النزوح والهجرة وأهوال الحروب وقسوة المعارك، والصراع الدامي في ملحمة لم يعرف تاريخ العقائد لها مثيلًا على مر العصور وكر الدهور.
وقد سدد عزيمتي إلى ذلك أن في الإمكان أن نجتلي في شعر هذه المعارك -برغم قسوتها- عواطف إنسانية عالية من النجدة والفداء، والإيثار والتضحية، والذود عن العقيدة، والتمكين لها في إطار من التاريخ، وأن ننظر في مظاهر الحقائق خلال معارض من الأخيلة والعواطف، فترى الشعر على صنع الخيال وتهويله معربًا عن حقائق التاريخ، مبينًا عقيدة الإنسان وبساطة إنسانيته وسموها.
ولا شك أن تصوير الشعر لهذا الحديث الفذ في تاريخ العقيدة الإسلامية ليس إلا تصويرًا لجوانب الحياة الإسلامية عامة في نفس الوقت؛ إذ إن الحقيقة التي لا جدال فيها أن الفتوح كانت أهم ما شغل حياة المسلمين، سواء من كان منهم تحت ظلال السيوف أو على حافة الميادين، فما من شك في أنهم كانوا يتنسمون أخبارها، ويترقبون ما يمكن أن تسفر عنه هذه الحركة الهائلة. فإذا بأنبائها من يوم إلى آخر تطلع عليهم في أقاصيص ممتزجة بغبار الوقائع وصهيل الخيل وصليل السيوف وصياح المحاربين، وإذا بهذه الروايات تنتشر في ربوع الديار العربية لتشغل كل اهتمامات المسلمين، ولتصبح زادًا لسمرهم، لا يزالون يقصونها ويزخرفونها ويعجبون بها.
ولهذا اندفعت في اختيار هذا الموضوع مقدرًا أهميته التي تتجلى في تصوير هذه الاهتمامات، التي استنفدت منازع المسلمين وشغلهم، وتصوير تلك الحياة الوجدانية الثرة، وتلك التجارب الطريفة التي تعرضوا لها في ظروف جديدة عن حياتهم السابقة كل الجدة، فصاغوها بما تأتي لهم من مشاعر، فكان هذا الشعر الذي يمثل وثيقة تاريخية ونفسية خطيرة في تاريخ الأدب العربي، من حيث كونه مرحلة حية من مراحله طالما أنكرها الدارسون وتجافوا عنها، ومروا عليها عابرين، لا يكلفون أنفسهم أكثر من أن يعزوا إليها موات الشعر أو خموده وضعفه؛ لغلبة النشاط الفكري الإسلامي عليه، نتيجة الاستعاضة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وتعاليم الدين.
قدرت هذا وتأتَّى لي أن أرى هذه المرحلة ليست كما وصفت، وإنما هي فترة حية، لم تستطع الظروف القاسية التي رافقتها من حركة الفتح والهجرات والصراع أن تذهب فيها بالمواهب الفنية للنفس العربية التي ألفت الشعر ومرنت عليه، وما كان لهذا التيار المتدفق عبر القرون من الماضي النفسي والوجداني البعيد لهذه الأمة أن ينقطع في هذه المرحلة ليتصل من جديد، أو يمحى ليخلقه العرب فيما بعد خلقًا آخر في عصر بني أمية، على ضخامة ما رافق هذه المرحلة من أحداث شملت جوانب الحياة الإسلامية.
ولقد يبدو غريبًا ونحن نعتبر شعر الحرب أناشيد بطولة الأمة وسجل عزها وخلودها ألا نجد في الدراسات الأدبية عناية بشعر الشعراء المحاربين في هذا الآونة، بل إننا لنعجب أن كثرتهم مجهولون ومغمورون، وبعيدون عن الأضواء، ومحرومون من الاحتفال بحيواتهم وشخصياتهم وشعرهم!
ولقد سلكت إلى قصدي نهج التبويب والتفصيل والترقيم، معتمدًا على التحليل والتركيب حينًا، والمقارنة والنقد حينًا آخر؛ لاستجلاء المقومات والطوابع الفنية للشعر، وربطها بمسبباتها والأصول التي صدرت عنها، ونظرت إلى موضوعي الذي آثرته فوجدت أن بعض الدارسين يربطون بين هذا الشعر وبين شعر الملاحم، ويفترضون أن هذه الأشعار المفرقة ليست إلا ملحمة في حاجة إلى النظم، فكان ضروريًّا أن أعقد تمهيدًا أقرر فيه حقيقة شعر الفتح وغنائيته، وأفرق بينه وبين شعر الملاحم القصصي الذي يختلف عنه في شروطه وقواعده، ثم وجدت أن الشروع في استكناه مقومات شعر الفتح يستوجب دراسة الفتوح ذاتها كوعاء لهذا الشعر، وتلك بدورها بحاجة إلى دراسة تلك الدوافع التي انثال المسلمون بوحي منها، ينساحون في الأرض حاملين في مواضع الاعتقاد منهم الأمن والثقة والأمل بما وُعدوا، إلى جانب الدعوة لهذا الدين الذي ارتضوه، وكان على الدارس إزاء هذا أن يتعقب هذا الانطلاق في إطار التاريخ شرقًا وغربًا وشمالًا وفي كل اتجاهاته؛ ليعرض من ثم لمواكبة الشعر للأحداث في الميادين المختلفة، متتبعًا الشعراء ومدى خصبهم وأصالتهم وأسباب ذلك، الأمر الذي يستدعي بالضرورة تصنيف الجيوش والإمدادات تصنيفًا يتعقب هذه الأصالة الفنية
وثراء الروح الشعري بين القبائل، مما سيترتب عليه اختلاف حظوظ الميادين المختلفة في وفرة النتاج الشعري أو قلته أو قدرته، ووسم الأمصار الإسلامية فيما بعد الفتوح بهذه الصفات على اختلافها.
وهكذا يذهب الباب الأول الذي يعالج الشعر في الفتوح بفصوله الثلاثة في هذا السبيل، بينما يذهب الباب الثاني الذي يعالج شعراء الفتح في التعريف بهم، ومناقشة ما يشيع حولهم من مشكلات، سببها تنوعهم وتعددهم بين شعراء قدماء مخضرمين، ومحاربين أنطقتهم الفتوح ولم يكن لهم شهرة بالشعر، ومجهولين ينسب شعرهم لغير قائل.
وكان طبيعيًّا أن يجد الدارس ضرورة إعطاء نموذج للشعراء المخضرمين الذين أسهموا في الفتوح بسيوفهم وألسنتهم كعمرو بن معديكرب الزبيدي، ونموذج آخر للشعراء المؤمنين الخلص الذين أنتجتهم الفتوحات كالقعقاع بن عمرو التميمي.
وبهذا يذهب الباب الثاني بفصوله الثلاثة في شعراء الفتح، ليعقبه الباب الثالث في فصول أربعة، تعالج في دراسة فنية مقومات الشعر وطوابعه، فتتناول في فصل منها أنواعه وموضوعاته، وما تطور منها وما لم يتطور، وما استحدث منها وسبب استحداثه ودواعيه، وتتناول الطوابع الإسلامية في فصل آخر، تتبين خلاله الآثار الإسلامية في هذا الشعر، من صدوره عن وجدان الجماعة، والأخوة الجديدة الإسلامية، وروح الدين ومثله، وتصور أحاسيس المحاربين ومشاعرهم الدينية الجديدة، وما تأتي لهم من صياغة المعاني الإسلامية المتعددة في أشعارهم.
وفي فصل آخر تناولت الدراسة ما وسم هذا الشعر من السمات الشعبية، التي بعثها تعلق المسلمين بأحداث الفتوح ورواياتها وزخرفتها والتغني بها، وما وجد من شعر مجهول القائل كثير، وعرضت الدراسة لأحاديث البطولة هذه بين الواقع والأسطورة، ولقصص الفرسان المشاهير وتلونها ونموها وتضخمها، كما حاولت الكشف عن هذه الآثار الناجمة عن كل هذا في الشعر الشعبي.
وأخيرًا تتجمع في الفصل الأخير من هذا الباب الطوابع الفنية الصرفة التي طبعت الشعر، والتي كانت أثرًا من الآثار الإسلامية في الصياغة ونتيجة للظروف المرافقة لولادة هذا الشعر.
وكان ضروريًّا بعد هذا، أن تُلَخَّص الدراسة تلخيصًا موجزًا، يكشف عما انتهت إليه وما حاولت أن تحققه.
ويتضح من خلال هذا المنهج: ما تهدف إليه الدراسة من تجلية القيم التاريخية والاجتماعية والفنية لشعر الفتح الإسلامي، والتعريف بشعرائه المجهولين، وتسليط الأضواء عليهم، وتبين القيمة الحقيقية لهذا الشعر، كجسر عبر عليه الشعر العربي من العصر الجاهلي إلى ما تلاه من العصور الإسلامية.
وإزاء هذا الهدف يجد الدارس نفسه مضطرًّا إلى دراسة حركة الفتح الإسلامي ذاتها باعتبارها وعاء هذا الشعر؛ إذ وجد فيها وزَكَا في أجوائها، وكان أثرًا من آثارها ونتيجة من نتائجها، وفضلًا عن هذا فإن الشعر لا يوجد منفصلًا عن الفتوح، وهو على كثرته متفرق لا يجمع شتاته جامع، وإنما ينتشر في تضاعيف كتب التاريخ الإسلامي المختلفة، وكتب الصحابة والفتوح، والجغرافيا التاريخية، وكتب الأدب، وهذه كلها كتب لا تُعْنَى بهذا الشعر إلا عناية قريبة، تجعل منه شاهدًا لحكاياتها، ومصداقًا لسردها الوقائع وقصها الأحداث، أو زينة لها في أغلب الأحيان.
ونفس الأمر يصدق على حركة الفتح ذاتها؛ إذ إن الكتب التي تتناولها لا يهمها إلا مجرد سرد الحوادث، دون النفاذ إلى الروح التي تكمن وراءها كعامل مؤثر في الحياة الإسلامية بعامة، وفي الحياة الأدبية بخاصة. وكذلك لا يهمها أن تكشف النقاب عن هؤلاء الذين قاموا بهذه الحركة، لا تشذ عن ذلك دراسة من الدراسات الأدبية التي تُعْنَى بالعصور المختلفة التي أعقبت الفتوح، فإنها لا تحاول التعرف على حركة الفتح ذاتها، ولا على أولئك الذين اشتركوا فيها وتغنوا بها، وإنما قنعت بأنه كان هناك فتح، ومضت تنظر فيما كان بعد ذلك، دون ربط بين سبب ونتيجة، على الرغم من أنه يبدو منطقيًّا لمن يدرسون العصور الأدبية التي أعقبت الفتوحات الإسلامية، ولمن يدرسون العصور الأدبية في الأقاليم الإسلامية
التي هاجر إليها الشعر أن يعنوا بدراسة حركة الفتح الإسلامي، وما تشتمل عليه من البذور الفاعلة من هجرة الدين واللغة والدم.
ولا شك أن المصادر التي تشتمل على شعر الفتح كثيرة ومتعددة، إلا أن المتقدمين من العرب عالجوا هذا الشعر لا بسبيل الفن وقيمه، وإنما فعلوا ذلك لغاية التاريخ، وفي مطالب الأحداث التاريخية والتراجم وما أشبه، كما فعل ابن عبد البر 368هـ بتأريخه للصحابة تأريخًا إجماليًّا في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" حينما يترجم لمن اشترك في الفتوح منهم، ذاكرًا أثارة من شعرهم إن كان له نصيب من الشعر، ومثله في ذلك ابن الأثير 630هـ في "أُسْد الغابة في معرفة الصحابة" وإن كانت تراجمه أوسع، ومقدار ما يروي من الشعر أكثر، وعلى مثل هذا سار ابن حجر العسقلاني 852هـ في "الإصابة في تمييز الصحابة" إلا أن تراجمه أشمل من صنيع سابقيه، وفيها فرصة لإيراد أكثر من رواية للحادثة الواحدة، وإن كان لا يُعْنَى بمناقشة ما يتعارض من الروايات وما يختلف من الأشعار، وبجانب كتب الصحابة هناك كتب التاريخ الإسلامي، وأكثرها اهتمامًا برواية شعر الفتوح "تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري 310هـ، وهو يروي الشعر في ثنايا الوقائع أو في أعقابها، منسوبًا إلى صاحبه أو إلى أحد المسلمين، ومنها أيضًا "فتوح مصر" لابن عبد الحكم على ندرة ما يروي من الشعر، وكذلك "مروج الذهب ومعادن الجوهر" للمسعودي 345هـ، و"فتوح البلدان" للبلاذري 279هـ، وعلى الرغم من قلة ما يرويه من الشعر فإنه ينفرد أحيانًا برواية أشعار لا يرويها كتاب غيره، وكذلك "فتوح الشام" للواقدي 207هـ، و"الأخبار الطوال" وغير ذلك.
وفي الحقيقة أن كثرة شعرالفتوح تقع في "معجم البلدان" لياقوت، فهو لا يذكر مدينة أو بلدة أو قرية أو محلة للجند إلا ويروي ما قيل في فتحها من الشعر، ولكنه لا يتحرى في الأغلب ذكر المناسبة القريبة، ولا يحدد الفتح تحديدًا تاريخيًّا قدر تحريه رواية كل ما قيل في فتحها بصورة عامة، قد تشمل عصورًا متعاقبة، دون أن يفصل بين الأشعار فصلًا تاريخيًّا، مما يضطر الدارس في أغلب الأحيان إلى التحقق من الشعر ومن قائله، ورد الشعر والشاعر إلى عصريهما.
ومن كتب الأدب التي عنيت بشعر الفتح "الأغاني"، وذلك في تراجم الشعراء الذين كان لهم بلاء في حركة الفتح، برغم اقتصاره على الترجمة لأولئك المشهورين من الشعراء دون عناية بغيرهم. وكذلك "الشعر والشعراء" لابن قتيبة" و"طبقات الفحول" لابن سلام، وما يرويانه من الشعر قليل إلى جانب ديوان أبي محجن الثقفي، وهو ديوان مفرد، ليس لشاعر من شعراء الفتح ديوان غيره.
هذا فضلًا عن كتب أدبية أخرى، لا يجد الباحث فيها غير قصائد قليلة، كذيل الأمالي، والخزانة، وديوان الهذليين، والمؤتلف والمختلف، والمفضليات، والحيوان، وغير ذلك كثير.
هذا عن مصادر الشعر. وقد يفيد الباحث من تعددها في التحقيق من أصالة الشعر، وصحة نسبته إلى صاحبه، أما عن المصادر العامة لحركة الفتح وحوادثه فهي كثيرة ومتعددة أيضًا، إلا أنها كثيرًا ما تختلف في تحديد التواريخ التي وقعت فيها بعض المعارك، وقليلًا ما تتفق على وقوع معركة في تاريخ واحد محدد، ونادرًا ما تشير إلى تصنيف الجيوش والإمدادات التي انطلقت من شبه الجزيرة إلى ميادين القتال، أو إلى الكيفية التي خرجت عليها في تصنيفها.
ومهمة الدارس هنا أن يحاول مقارنة الأحداث والوقائع في الروايات المختلفة في إطار التاريخ العام، وعلى ضوء ما يروى من الشعر لو كان في ذلك غناء، وتجميع هذه الأثارات من خلال الموضوعات التي لا تقصد إلى ما يبغي، ولم أطرافها ليكون منها -جاهدًا- صورة لتصنيف الجند قريبة من الأصل أو دالة عليه.
وكذلك تصعب مهمة الدارس أمام الاختلاط الذي يصادفه في حوادث الفتح وتضارب بعضها، فيعكف على تتبع الروايات التاريخية وتنسيقها، وتحري الدقة في ترتيبها زمنيًّا وميدانيًّا، ووضعها في إطار الخطة الإسلامية العامة للفتوح.
ويرجع هذا الاختلاط في حوادث الفتح إلى ما كان من وقوع هذه الأحداث في أكثر من ميدان في آن واحد، وإلى أن فتح بعض البلدان قد تكرر أكثر من مرة لانتقاضها وإعادة فتحها من جديد، وبهذا يؤرخ لفتحها مرتين، أو يكتفي بالتأريخ لها في المرة الثانية دون الأولى، فتضيع الحقيقة ويحدث الاضطراب.
ولا يستطيع باحث في هذا السبيل أن يجحد قيمة الفائدة التي تعود عليه إذا ما اهتدى خلال هذه الدروب الملتوية بدراسات المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل عن الصديق أبي بكر والفاروق عمر، فكثيرًا ما كانت تكشف اللبس وتزيل الغموض، وتقود إلى الحقيقة في التأريخ للفتوح، وفي تحديد المواقع والأماكن، تحديدًا يساعد على اكتمال الصورة التي يحاول الدارس تكوينها، حتى لا يكون حديثه عنها حديثًا مجردًا عائمًا، ولترتبط الأسماء والمواقع بمدلولاتها ارتباطًا وثيقًا.
بينما كانت مصادر هذه الدراسة في بابها الخاص بشعر الفتح هي: كتب الصحابة والتاريخ والفتوح والجغرافيا التاريخية والأدب، فإن الباب الثاني الخاص بشعراء الفتح لم يقتصر على الكتب الأدبية الصرفة التي تترجم للمشهورين منهم، وإنما كان من الضروري الاعتماد على كل ما يمت إلى الفتوح بسبب، من كتب التراجم والصحابة والتاريخ والجغرافيا وغيرها.
وقد نظرت لدى محاولة الدراسة الفنية لهذا الشعر واجتلاء مقوماته وطوابعه إلى ما سبقني إلى هذا الموضوع أو بما يماثله، من دراسات للشعر الحماسي وشعر الحروب، فوجدت أن المتقدمين قد عالجوه بسبيل مطالب أخرى غير الدراسة الفنية؛ كالتاريخ واللغة في تفسير كلماتها، أو للإعراب في مناقشة وجوه، لا يعنيهم سوى جمعه فحسب، بعد أن يتخيروا أحسنه، دون تصنيف أو تنسيق ينتمي إلى التاريخ أو إلى الفن، ولا يربط بين مختاراتهم سوى وَحْدَة الموضوع.
ومن ثم فإن الباحث في هذا السبيل لا يجد دراسة بعينها تتعمق في البحث الفني في مقومات شعر البطولة والحرب، وتُعْنَى بالكشف عن طوابعه بعامة، وفي خلال هذه الحركة الهائلة في تاريخ الإسلام بخاصة.
وقد يصادف الدارس كتابًا أو كتابين لبعض الباحثين المحدثين في هذا السبيل فيظن فيهما غناء، ولكنه لا يلبث أن يصاب بخيبة أمل، فهذا كتاب يدرس "المجتمعات الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجريين" ويمهد لهذه الدراسة بدراسة تمهيدية ضافية لحركة الفتح الإسلامي، إلا أنها لا تسلم في أجزائها
التاريخية مما سار عليه الأقدمون، وهدف الدراسة التي يقوم عليها الكتاب في حد ذاته تمهيد لدراسة الظواهر الأدبية المختلفة عن استقرار المجتمعات بعد الفتوح، ومع ذلك فإنها لا تتعرض لشعر الفتح إلا تعرضًا طفيفًا.
وهذا كتاب آخر يدرس شعر الحرب في أدب العرب في صدر الإسلام إلى أبي فراس الحمداني، لا يشير إلى الفتح الإسلامي ولا إلى شعره بكلمة واحدة، برغم أن هذه الدراسة تجعل شعر الحرب في العصر الأموي نتاجًا لمنازع الحزبية والتسلط المذهبي وسطوة التاريخ، بينما تجعل شعر الحرب في العصر العباسي نتاجًا خالصًا لمنازع الفن وحده بعد تخلخل تلك السيطرة الحزبية والمذهبية. وكان منطقيًّا أن يأخذ شعر الفتح مكانة قبل هذين العهدين في تلك الدراسة كنتاج لتمثل الفكرة الإسلامية حتى تكتمل الصورة التي عُنِي البحث برصدها.
وإزاء هذا النقص يشعر الدارس لدى محاولة تقييم هذا الشعر أن عليه أن يعتمد كل الاعتماد على الانعكاسات الحرة الطليقة لهذا الشعر، وأن يضع النصوص الشعرية وحدها أمام ناظريه، معتمدًا عليها تمامًا في استكناه الأبعاد الفنية ومقومات الشعر وطوابعه، وعلى الله قصد السبيل.
النعمان عبد المتعال القاضي