الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
قصص الفرسان في الفتوح:
روى القصاص أحاديث البطولة في الشعب، الذي كان يتطلب أن يرى فيها إعجازًا وإغرابًا يبرران المعجزة التي تحققت له. وكان يحب أن يرى نفسه في فرسانه الذين حققوا هذه المعجزة. وأفلح القصاص في نسج هذه الصورة التي بعدت مع الخيال -في بعض جوانبها- عن الواقع الحقيقي إلى الأسطورة الخيالية، وصورت له الفرسان المسلمين في صورة عجيبة وفذة، وهي صورة ترضي أحاسيسه بالاعتزاز وتتملق إعجابه بتاريخه.
ومن هذه القصص ما روي في أخبار القواد والأمراء والفرسان الذين برزوا ببلائهم، واتخذت أفعالهم الفذة نواة صيغت حولها هذه الصور الأسطورية.
تتبعت هذه الأخبار اجتياح خالد بن الوليد للعراق في السنة الأولى، وإخضاعه لها، وإجرائه أنهار الدم في أليس وفم فرات بادقلي، وافتضاضه الحيرة والأنبار وعين التمر، وإنقاذه عياض بن غنم، وفتح دومة، واعتسافه الصحراء إلى مكة؛ ليؤدي فريضة الحج وعودته إلى الحيرة قبل أن يعود جيشه إليها، ثم اعتسافه الصحراء إلى الشام في خمسة أيام، سلك فيها طريقًا غامضًا، لا يزال موضوع حدس وتخمين لعلماء الجغرافية العسكرية إلى اليوم.
وقد فعلت هذه الروايات فعل السحر في الناس. فتابعوا خالدًا في الشام فإذا هو بطل اليرموك، وهو الذي تسور دمشق، وإذا هو أحد أركان المسلمين فيها بعد فتح دمشق، وفي القضاء على الفتن في شمالي الشام.
ولا شك أن هذه الروايات هي التي عزلت خالدًا، كما يبدو في كتاب الخليفة إلى الأمصار، واعترافه بأنه لم يعزله عن خيانة وتقصير، وإنما لأن الناس قد فتنوا به، فخاف أن يوكلوا إليه الأمر، وأحب أن يعلموا أن الله هو الصانع، وأن عمر تمثل بقول الشاعر:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع
…
وما يصنع الأقوام فالله صانع1
وقد مر بنا كيف كانت حياة عمرو بن معديكرب أقرب ما تكون إلى الأسطورة، من ترداد لقصص بطولته وأفاعيله في القتال، ومنازلة الأقران وشجعان العرب، واستهانته بكل صعب، وما كان من امتداد عمره حتى ينيف على المائة، والرغبة في جعله ممن شهدوا صفين؛ ليكون أطول عمرًا. كل هذا كان بدافع الرغبة الشعبية في النزوع بهذه السير والذكريات إلى الأساطير المعجزة؛ لتكون من دواعي فخر الشعب وزهوه، وإرضاء منازع الفروسية الكامنة فيه، وتأكيد المثل العليا في الشجاعة والنجدة.
ويظهر ذلك جليًّا في التضارب الذي تحفل به الروايات التي تعلل قصائده؛ لربطها بأخبار فروسيته وشجاعته. ومن هذا القبيل أيضًا ما يذكر في أخبار أبي محجن الثقفي،
1 الطبري ج5/ 2528.
وما يروى في خروجه للجهاد من روايات متضاربة، فهو حُدَّ في الخمر، ونفاه الخليفة مرة، ثم مرة أخرى يشبب بامرأة من الأنصار. وتلعب الروايات دورًا كبيرًا في تفسير خروج الشاعر إلى القادسية والتحاقه بسعد؛ لتفسير حبسه في القادسية عن القتال، ثم انطلاقته البطولية وتحقيقه النصر للمسلمين، بعد أن يبكي أغلاله ويظهر ما يجيش في صدره من ضيق لقعوده عن القتال.
وتذهب الروايات مذاهب بعيدة في تصوير بلائه وقصفه للأعداء؛ حتى ليظنه المسلمون الخضر يمتطي البلقاء، ويظنه الآخرون ملكًا يحارب إلى جانبهم، ويتعجب سعد إذ ترك أبا محجن حبيسًا، ولولا أنه حبسه بيده لظن أنه هو1.
وواضح فيما سلف أن أبا محجن خرج للجهاد قبل القادسية، وأنه شهد الجسر، وأنه إنما حبس لشغبه على سعد. ولكن الروايات تمضي تستكمل جوانب شخصية الفارس فتصوره عابثًا لاهيًا، مستهينًا بكل شيء، يجادل الخليفة في الخمر جدالًا فكهًا، ويرثيها بشعر رُوي لأكثر من شاعر2.
ومثل أبي محجن وما نسج عنه نسجت قصص كثيرة في مقتل يزدجرد ورستم ومهران، وتنازعت الروايات شرف قتلهم، فتفرق دمهم بين عدد كبير من الفرسان، أمثال: عمرو بن معديكرب، وطليحة بن خويلد، وقرط بن جماح، زاهير بن عبد شمس، وعمرو بن شأس، وهلال بن غلفه. وقال كل من هؤلاء شعرًا يفخر فيه بقتل أحد هؤلاء القادة العظام.
ومن مصر أتت روايات تتحدث عن بطولات عمرو بن العاص ودهائه، وقدومه إلى مصر في الجاهلية مرتين، ومشاهده في الإسكندرية، وما كان من التنبؤ له بفتح مصر، في قصة وقوع الكرة بكمه في أحد أعياد القبط3. مما يدل على تدخل روح العامة في الاستشراف والتوقع والتمهيد لفتح مصر على يده. وغير ذلك من القصص التي تكشف عن المثل العربية في النجدة والوفاء، من مثل: قصة اليمامة التي باضت فوق
1 الأغاني 21/ 138، 139، 140.
2 الأغاني 21/ 142.
3 المقريزي ج1/ 158.