الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الطوابع الشعبية
1-
أحاديث البطولة بين الواقع والأسطورة:
لا ريب أن أنباء الفتح وأخبار المسلمين مع الفرس والروم وأقاصيص غزواتهم العديدة وما كان يلقى المسلمون هنا وهناك من تقدم أو تقهقر أو عسر أو يسر كان ينتقل بين الميادين المختلفة، وتنعكس أصداؤه على المسلمين في شبه الجزيرة العربية؛ حيث كانوا هناك يستشرفون هذه الأخبار وينتظرونها بشغف، ويتتبعونها في حرص ولهفة، ذلك أنهم وجهوا كل اهتمامهم آنذاك إلى ما قد تتمخض عنه هذه الحركة الهائلة في تاريخهم وتاريخ عقيدتهم.
وكان هذا الاهتمام يظهر في وضوح في أثناء المعارك المهمة والفاصلة؛ إذ يروي الرواة أن العرب كانوا يتوقعون وقعة القادسية فيما بين العذيب إلى عدن، وفيما بين الأبلة وأيلة، ويرون أن ثبات ملكهم وزواله بها. وكانت كل بلد مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها، حتى إن الرجل كان يريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه حتى أنظر ما يكون من أمر القادسية1.
وكان المسلمون يتلهفون على أبناء المعارك والانتصارات. وكان الفاتحون وكثرتهم من المسلمين العاديين الذين انطلق الشعر على ألسنتهم ولم يكونوا يعرفون به من قبل يسجلون انتصاراتهم ويغتبطون بها، وكان كل هذا يتجمع في روايات الرواة، في صورته الأولى التي صدر فيها، والتي لم تصل إلينا على كل حال؛ إذ إن هذه المرويات المأثورة من أخبار الأبطال وبلائهم، وأفانين بسالتهم، وما يروون لهم أو عنهم من الشعر في إطار زمني يحدد سير المعارك قد تعرضت في صورتها البسيطة الواقعية لغير قليل من محاولات النسج، والسبك والتضخيم، والإغراق، ودخلها كثير من الخيال الشعبي.
1 الطبري 1/ 5/ 2364.
فقد ظلت هذه الآثار تتناقل على الألسن زمنًا قبل تدوينها، وأسهم القصاص الذين كانوا يتحدثون إلى الناس في مساجد الأمصار -فيذكرون لهم من أخبار المغازي والفتوح ما يمثل لهم أهواءهم وشهواتهم ومثلهم- إسهامًا خطيرًا في البعد بهذه المرويات المأثورة من الواقع إلى الخيال البعيد.
فقد كان هؤلاء القصاص يمضون مع الخيال إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم، لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا. وكأن الناس كلفين بهؤلاء القصاص، مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث1. كما كان القصاص كلفين بإرضاء روح الشعب الذين كانوا يتحدثون إليه، والذي يطلب المعجزة في كل شيء، فعنوا عناية كبيرة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور، وصوروا له تاريخه وفتوحه كما يحب أن يراها وأن يسمعها، ورسموا له صور الأبطال الذين يعجب بهم ويتمثلهم رسمًا خياليًّا أسطوريًّا.
وكانت هذه الأحاديث شأنها شأن القصص الشعبي كله في حاجة إلى الشعر، فالبطل لا بد أن يكون شاعرًا إلى جانب فروسيته، وعاشقًا ومستخفًّا بكل المصاعب التي يواجهها. وهذه المواقف في حاجة إلى الشعر؛ لتزيينها، وتشويق الشعب لسماعها. ورصعت هذه الأحاديث بالشعر، وأضيفت هذه الأشعار إلى الشعراء وغير الشعراء، ونتجت أشعار تنسب إلى غير قائل، وأشعار أخرى تنسب إلى الجن، وولدت الروايات، وامتلأت بالأعاجيب والتهاويل، حتى ليذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أن الأخبار التي استخلص منها تاريخ العرب ليست إلا المظهر القصصي للحياة العربية القديمة، ذكرها العرب بعد أن استقروا في الأمصار، فزادوا فيها ونموها وزينوها بالشعر2.
وظلت الروايات هذه تتعرض لعمل الرواة والقصاص، وتتأثر بالظروف التي تروى خلالها؛ حيث اشتدت العداوة السياسية، وعادت العصبية جذعة عقب الانتهاء من الفتوح، واشتعلت الفتن، ولعبت هذه الظروف -فضلًا عن تعلق روح الشعب الذي شغف برواية أخبار الفتوح- دورها في تغيير صور هذه الآثار إلى ما يرضي نزعات
1 في الأدب الجاهلي 189.
2 في الأدب الجاهلي 200.
الشعب، من الإغراب والإعجاب وما يساير نزعات السياسة والعصبية، وبعد هذا كله عن الوقائع، إلى أن أصبحت أساطير أو كادت، حتى دونت في القرن الثاني الهجري.
ومن بين هذه العوامل جميعًا نجد روح الشعب أكثر فاعلية في البعد بهذه الأحاديث عن الواقع؛ إذ إن المسلمين الذين تحققت على أيديهم المعجزة فدكوا صروح الفرس والروم بهرتهم المعجزة التي صنعوها بأيديهم، فراح وجدانهم يطلب الإعجاز في تبريرها، ويسهم بطريق غير مباشر في رواية تاريخ الفتوح، رواية تشبع مطامحه وترضي اعتزازه، كما يبدو في تصوير بلاء الفرسان الأفذاذ؛ كخالد بن الوليد، والقعقاع، والمثنى، وعمرو بن العاص، وأبي محجن الثقفي، وعمرو بن معديكرب، وغيرهم من الأبطال الذين نسبت إليهم أفعال معجزة لا تكاد تصدق. بل إن هذه الأفعال كثيرًا ما نسبت إلى المحاربين العاديين. فهذا حياص بن قيس بن الأعور القشيري، الذي قطعت رجله يوم اليرموك يقتل ألفًا من الروم وحده في هذا اليوم1.
ولو رحنا نعدد القتلى الذين قتلهم المسلمون من الفرس والروم في الوقائع المختلفة جميعًا لربا مجموعهم على كل ما نعرف الآن من ضخامة الجيوش الحديثة.
ونحن لا نذهب مذهب الشك الخالص في هذه الروايات، وما احتوت عليه من الأخبار والأشعار والقصص، فإنها على حد زعم المتشككين مظهر للوقائع الحقيقية، تدل عليها وتصورها، وتعطينا صورة لروح الشعب في ذلك الوقت. وسنرى فيما بعد كيف لعبت هذه العوامل دورها في البعد بالروايات وأحاديث البطولة من الواقع التاريخي إلى التاريخ الأسطوري، الذي نسجه الخيال الشعبي.
1 الإصابة ج2/ 68.