الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: الشعر الإسلامي في الفتوح
الفصل الأول: الفتوح في صدر الإسلام
1-
دواعي الفتوح "الجهاد
":
عجيب أن تقتدر أمة ناشئة كأمة العرب المسلمين، تتعاورها الفتن والاضطرابات، وحركات الارتداد والانتقاض من كل جانب، على أن تهدم إمبراطوريتين عظيمتين لتشيد على أنقاضهما إمبراطورية عظيمة، في مدى لا يتجاوز عشر سنوات، تشتمل على العراق والشام جميعًا وتتخطاهما، فتشتمل على فارس ومصر، حتى تبلغ حدودها الصين من الشرق، وتونس من الغرب، وبحر قزوين من الشمال، والسودان من الجنوب.
إن هذه لمعجزة بلا ريب؛ ووجه الإعجاز فيها أنها حدثت بأيدي العرب الذين كانوا إلى سنوات قبائل متنافسة، لا تهدأ منازعتها، ولا تطمئن فيما بينها إلى قرار. وبدهي أن قيام الإسلام هو أول هذه العوامل التي حققت المعجزة، فهو الذي وحد العرب بعد شتات، وجعل قبائلهم المتنافرة أمة متضافرة، ودفعهم إلى إذاعة تعاليمه، وإعلاء كلمته، ودفع من يريد فتنة الناس عنه.
وقد كان العرب قبل الإسلام ضعافًا أمام الفرس والروم، بل إن مناطق كثيرة من بلادهم كانت تخضع لنفوذهما، فلما أسلموا أسرع هذا النفوذ إلى الانحسار والزوال عن بلادهم كلها، ولم يلبثوا حتى تخطوا إليهما التخوم، وواجهوا جيوشهما التي حسبوها من قبل لا تغلب، وحاصروا حصونها التي توهموها لا تؤخذ، فإذا هي تنقض تحت صلابة إيمانهم من قواعدها. وإنما اقتدر العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم؛ لأن الإسلام نشأهم نشأة جديدة، وبث فيهم روحًا أحالتهم خلقًا جديدًا؛ ذلك بأن اقتحم على نفوسهم مناطق عقائدهم، واتصل بوجدانهم في صميمه، وألقى فيه بذور التوحيد والإيمان والأخوة والتوحد، صافية في جوهرها، نقية من كل شائبة، بسيطة البساطة كلها، فتحررت نفوسهم من قيود الوهم، وتطهرت قلوبهم من رجس الوثنية، وشعر كل واحد منهم بأنه لا حجاب بينه وبين الله ما عمل صالحًا واتقاه حق تقواه.
أخذ الإيمان بمجامع قلوبهم، فجمع بينهم بما سن من نظم روحية واجتماعية، دفعت في أفئدتهم قوة معنوية عظيمة، وحفزتهم للاندفاع إلى ما وراء تخومهم ومواجهة الفرس والروم في أعقار دورهما، وهذه القوة المعنوية هي أساس الظفر في كل نضال، فصاحبها لا يعرف الهزيمة ولا يرضاها ويستهين بكل صعب، بل يستهين بالحياة نفسها في سبيل الظفر بالغاية التي يريد بلوغها.
بهذه القوة اندفع العرب لقتال الفرس والروم، لا حبا في الغزو وتهافتا على مغانمه، وإرضاء لهوى القتال الكمين في طباعهم -كما يحاول المغرضون أن يصوروا هذا الاندفاع- وإنما جهادًا في سبيل الله، يدفعهم إليه الإيمان الصادق بالعقيدة السليمة، والقوة العاتية التي بثها فيهم الإسلام، فحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الله، وفي سبيل الدعوة إلى الحق الذي أوحاه إلى رسوله، فانطلقوا على رغبة وحنين إلى الجنة، وباستهانة نادرة بالحياة يتمثلون الآخرة بنعيمها وظلالها، وكأنما يرونها رأي العين، ويطيرون إليها متغنين بما وعدوا من جنان تحت ظلال السيوف، وآخرة هي خير وأبقى، بأن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيله فيَقتلون ويُقتلون، وبأن الذين يُقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم.
انطلقوا وملء ذاكرتهم تجارب هائلة، كان النصر فيها حليفهم في مواطن كثيرة، أظهرهم الله فيها على أعدائه وأعدائهم، حتى خلص لهم وجه بلاد العرب، وأنالهم رقاب المرتدين، فأعدوا الأمر إلى نصابه في بأس وحزم. وها هم يجدون ريح الجنة، ويتمنون الشهادة في سبيلها، ويترقبون اللحظة التي ينطلقون فيها نحو تخومهم؛ ليحملوا إلى العرب في الأطراف وإلى من وراءهم من العالمين هذه الدعوة التي لا يستطيعون الانطواء عليها وحدهم، وهي تتضوأ بدفئها ونورها في مواطن اعتقادهم، وقد أدركوا أنهم ورثة هذا النبي الذي بعث فيهم إلى الناس كافة، يهدونهم بهديه إلى ما اهتدوا إليه، وما ارتضوا لأنفسهم، فعليهم وحدهم يقع هذا العبء، وما عليهم -لكي يقوموا برسالتهم- إلا أن يقطعوا هذه الطرق التي طالما قطعوها من قبل تجارًا يحملون
عروض الدنيا؛ لكنهم في هذه المرة تجار لتجارة لن تبور، يحملون دين الله الحق وهدى رسوله، ويبشرون بما هو خير وأبقى، متسلحين بما أفاءه عليهم الإسلام من قوة وما يستشعرونه من خطر الرسالة التي يحملونها، متذرعين بما وعدهم الله من النصر، مهطعين إلى دعائه:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] .
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} [البقرة: 191] .
{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] .
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] .
{خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] .
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 38-40] .
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111] .
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .
وقد صدع صلى الله عليه وسلم بما أُمر به، فحرض على القتال، وزين الجهاد للمسلمين وحثهم عليه، حتى ليجعله في تقديرهم ذروة الإسلام وأفضل الأعمال طرا عند الله بعد الإيمان به وبرسوله، فيعلن أنه أمر أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله. وأن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة، ينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم. وتمنى أن يغزوَ في سبيله فيقتل، ثم يغزو فيقتل. وحكى عن ربه عز وجل: "أيما عبد من عبادي
خرج مجاهدًا في سبيله ابتغاء لمرضاتي ضمنت له إن أرجعته أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له". وصور صلى الله عليه وسلم ما أُعد للمجاهد من أجر في الآخرة، فجسده محرم على النار؛ إذ لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في أنف مسلم، وما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار. وكل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمي عمله إلى يوم القيامة، فيؤمن من فتنة القبر. ومن مات مرابطًا في سبيل الله أمن الفزع الأكبر، وغدى عليه برزقه وريح الجنة. وطوبى لعبد آخذ بعِنَان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، يطير على متن فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة يبتغي القتل. ورباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوطه من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها. والقوة الرمي، فمن تركه بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة كفرها. والخيل أجر وستر، ومعقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
بهذا كان صلى الله عليه وسلم يحضهم على الجهاد، ويدفعهم إلى الاستعداد له، ويدعوهم إلى استكمال ثقافتهم العسكرية، ويشهد بنفسه ملاعبتهم لسيوفهم ورماحهم وضروب فروسيتهم وعَدْوهم، ويعجب بهم ويبدي استحسانه لما يرى من صنيعهم، ويزين لهم تعليم أولادهم ركوب الخيل والعدو وحيل الحرب وأفانين القتال والرماية والسباحة، ويرغبهم في التجمل بخلائق الفرسان، في النجدة والشجاعة ونبذ الجبن والخنوثة.
فأثمرت هذه التعاليم ثمرتها، فكان الجهاد بلورة نورانية تجذب وجدان المسلمين، وتلهب مشاعرهم، وصورة متألقة في ضميرهم، تبدو الدنيا فيما مجازًا للآخرة، والآخرة ثوابًا للدنيا، فيعيش من عاش فيها سعيدًا، ويموت من مات فيها شهيدًا. ومن هنا حرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة، لا يجزعون أمامه، وهم مؤمنون بأن كل شيء قد قدر تقديرًا {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ، وأن حينهم سوف يواتيهم في ميقات معلوم ولو كانوا في بروج مشيدة. فما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسهم إلا في كتاب، ولو كانوا في بيوتهم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ولن يصيبهم بعد هذا إلا
ما كتب لهم، وأن ما يمكن أن يصيبهم لا يخرج عن أمرين: أمرهما حلو، فإما الشهادة المؤدية إلى الجنة، وإما النصر الذي هو حق لهم ما أخلصوا في قتال عدوهم، وما نصروا الله، فإن ينصروه ينصرهم، والنصر من عنده يؤتيه من يشاء، وإن ينصرهم فلا غالب لهم.
انطلق المسلمون عبر حدودهم وكل هذه المعاني تعتمل في نفوسهم، وتنطلق على ألسنتهم، كما انطلقت على لسان المغيرة بن شعبة في مسامع رستم وحاشيته "يدخل من قتل منا الجنة، ومن قتل منكم النار، ويظهر من بقي منا على من بقي منكم"1.
وينطلق هذا المعنى في كتاب خالد بن الوليد إلى رؤساء فارس: "أسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا مني الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر"2. كما ينطلق على لسان ربعي بن عامر، رسول سعد بن أبي وقاص إلى رستم في القادسية، وقد دخل على القائد العظيم في ثياب صفيقة، فوق فرس قصيرة، ولا يزال راكبها حتى يدوس بها على طرف البساط، ثم يترجل فيربطها ببعض الوسائد، ويقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته فوق رأسه؛ ليرد على من صاح به أن يلقي سلاحه: "إنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت". ثم يتوكأ على رمحه فوق النمارق ليقول مدويًا مجيبًا من سأله عن سبب مجيء المسلمين "ما جاء بكم؟ "، "الله
…
ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"3.
وقد تداول هذه المعاني أولئك المجاهدون الشعراء الذين اجتذبهم ألق الجهاد، فصهم آذانهم عن كل دعاء إلا دعوة الله، فتركوا من ورائهم أهليهم وذويهم يناشدونهم البقاء إلى جانبهم، حرصًا عليهم ورغبة في سلامتهم، ولكن كيف لهم أن يمنعوا أنفسهم طلبتها، وكيف لهم أن يقعدوا عن واجب أوجبه الله ودعا إليه، وليسوا ممن
1 الطبري أوربا ج5، ص2279.
2 الطبري أوربا ج4، ص2019.
3 الطبري أوربا ج5، ص2270.
يصرح لهم بالقعود
…
فهذه امراة النابغة الجعدي تناشده الله أن يبقى، ولكنه يجيبها بأنه لا عذر له في القعود:
باتت تذكرني بالله قاعدة
…
والدمع ينهل من شأنيهما سبلا
يابنت عمي كتاب الله أخرجني
…
كرهًا وهل أمنعن الله ما بذلا
فإن رجعت فرب الناس أرجعني
…
وإن لحقت بربي فابتغي بدلًا
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني
…
أو ضارعًا من ضنى لم يستطع حولًا1
وكذلك كان الشبان من المسلمين في مقتبل العمر لا يستطيعون مقاومة اللهفة إلى الجهاد، فيخلفون وراءهم آباء ضعافًا، يخافون عليهم ويبكونهم، ولكنهم لا يحفلون بهم ولا بدموعهم. كما فعل شيبان بن المخبل السعدي مع أبيه؛ إذ خرج مع سعد بن أبي وقاص إلى غزو الفرس، وكان أبوه قد أسن وضعف، فما برح يناديه، ويتحسر على وحدته بعده، وجدًا عليه وإشفاقًا وهلعًا، يقول:
أيهلكني شيبان في كل ليلة
…
لقلبي من خوف الفراق وجيب
ويخبرني شيبان أن لم يعقني
…
تعق إذا فارقتني وتحوب
فإن يك غصني أصبح اليوم باليا
…
وغصنك من ماء الشباب رطيب
فإن حنت ظهري خطوب تتابعت
…
فمشيي ضعيف في الرجال دبيب
إذا قال صحبي يا ربيع ألا ترى
…
أرى الشخص كالشخصين وهو قريب
أشيبان ما يدريك أن كل ليلة
…
غبقتك فيها والغبوق حبيب2
وهذا كلاب بن أمية بن الأسكر يسأل طلحة والزبير عن أفضل الأعمال، فيخبرانه أنه الجهاد في سبيل الله، فيقصد عمر رضي الله عنه يسأله الجهاد، فيبعث به إلى العراق، ولكن أباه يناشده الأبوة والعجز أن يبقى، فيوليه ظهره، ويتوجه إلى العراق مخلفًا أباه ينتحب ويقول:
1 الشعر والشعراء ج1، ص251، 252.
2 الإصابة ج3، ص227، الأغاني "ساسي" ج12، ص38.
لمن شيخان قد نشدا كلابا
…
كتاب الله إن حفظ الكتابا
أناديه فولاني قفاه
…
فلا وأبي كلاب ما أصابا
إذا سجعت حمامة بطن وج
…
على بيضاتها دعوا كلابا
أتاه مهاجران تكنفاه
…
عباد الله قد عقا وخابا
ركت أباك مرعشة يداه
…
وأمك ما تسيغ لها شرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي
…
كباغي الماء يتبع السرايا1
ولكن كلابًا لا يحفل به، فيذهب أمية إلى المسجد يبكي لعمر ويستعطفه أن يرد عليه ابنه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والعقوق -في تصوره- معصية كبرى على هذه الصورة، ويعلن أنه سيشكو عمر إلى الله إذا لم يرد كلابًا:
أعاذل قد عذلت بغير قدري
…
ولا تدرين عاذل ما ألاقي
فإما كنت عاذلتي فردي
…
كلابا إذ توجه للعراق
فتى الفتيان في عسر ويسر
…
شديد الركن في يوم التلاقي
فلا وأبيك ما بالبيت وجدي
…
ولا شغفي عليك ولا اشتياقي
وإيقادي عليك إذا شتونا
…
وضحكك تحت نحري واعتناقي
سأستأدي على الفاروق ربا
…
له عمد الحجيج إلى بساق
وأدعو الله محتبسًا عليه
…
ببطن الأخشبين إلى دفاق
إن الفاروق لم يردد كلابا
…
على شيخين هامهما زواق2
وهكذا كان داعي الله أشد أثرًا وأقوى فعلًا في نفوس المجاهدين من المسلمين، طغى على كل دعوة إنسانية، سواء أكانت من أب عاجز، أم من زوجة بائسة.
1 الإصابة ج1، ص65، أسد الغابة ج1، ص116، الأغاني "ساسي" ج18، ص157، ابن سلام ص160.
2 الإصابة ج1، ص66، ياقوت ج1، ص609، الأغاني "ساسي" ج18، ص157، ابن سلام ص160.
وعلام يحفلون بهذه الدعوات وهذه الدموع ما دام الله تعالى قد دعاهم؟ فهذا الحتات يجيب أباه لما جزع عليه وبكاه واستعطفه ليرجع:
ألا من مبلغ عني ذريحا
…
فإن الله بعدك قد دعاني
فإن تسأل فإني مستقيد
…
وإن الخيل قد عرفت مكاني1
وهكذا كانوا يتسابقون إلى الجهاد، لا يعبئون بأهليهم الذين يناشدونهم عجزهم وضعفهم، فيضربون بكل هذا عُرْض الحائط، إيثارًا للآخرة، وحبًّا في الظفر، ورغبة في المثوبة. فهذا أبو خراش الهذلي يقدم إلى المدينة فيجلس بين يدي عمر؛ ليشكو إليه شوقه إلى ابنه خراش الذي أوغل مع جيوش المسلمين في أرض الشام وتركه وحيدًا، بعد أن انقرض أهله ومحبوه، وقتل إخوته، ولم يبقَ له ناصر أو معين، ثم ينشده:
ألا من مبلغ عني خراشا
…
وقد يأتيك بالنبأ البعيد
وقد يأتيك بالأخبار من لا
…
تجهز بالحذاء ولا تزيد
تناديه ليغبقه كليب
…
ولا يأتي لقد سفه الوليد
فرد إناءه لا شيء فيه
…
كأن دموع عينيه الفريد
وأصبح دون غابقة وأمسى
…
جبال من حرار الشأم سود
ألا فاعلم خراش بأن خير الـ
…
مهاجر بعد هجرته زهيد
رأيتك وابتغاء البر دوني
…
كمخضوب اللبان ولا يصيد2
وأكثر من ذلك نجد كثيرًا من المؤمنين والمؤمنات يدفعون بأبنائهم إلى الجهاد دفعًا؛ إذ ليسوا بحاجة إليهم، وقد انتفت حالات العجز والضعف التي دفعت بالخلفاء إلى رد الأبناء على آبائهم الضعاف، ومنعهم من الجهاد إلا بموافقتهم. فنجد الخنساء الشاعرة المعروفة تدفع ببنيهما الأربعة إلى الجهاد ليلة القادسية، وقد أخذت توصيهم قائلة: "إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو.. إنكم لبنو رجل واحد وامرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا
1 الإصابة ج2، ص181.
2 ديوان الهذليين ج2، ص170، الأغاني "ساسي" ج2، ص47.
غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، وأن الدار الباقية خير من الدار الفانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] ، فإذا أصبحتم فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت على أوراقها، فيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها، تظفروا بالغُنْم والكرامة في دار الخلد والمقامة"1. فإذا ببنيها يباكرون مراكزهم إلى الجلاء، وهم يتغنون بهذه النصيحة شعرًا ملتهبًا بالإيمان، يكشف عن تمكن روح الجهاد في نفوسهم وفعله بهم، يقول أولهم:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة
…
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحة
…
فباكروا الحرب الضروس الكالحة
وإنما تلقون عند الصائحة
…
وأنتم بين حياة صالحة
أو ميتة تورث غُنْمًا رابحة
ويتقدم فيقتل، ويحمل الثاني وهو يرتجز:
إن العجوز ذات حزم وجلد
…
والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالسداد والرشد
…
نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد
…
إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
…
في جنة الفردوس والعيش الرغد
ويقاتل حتى يستشهد، فيحمل الثالث وهو ينشد:
والله لا نعصي العجوز حرفا
…
قد أمرتنا حربًا وعطفا
نصحًا وبرًا صادقًا ولطفا
…
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلقوا آل كسرى لفا
…
أو يكشفوكم عن حماكم كشفا
إنا نرى التقصير منكم ضعفا
…
والقتل فيكم نجدة وزلفى
1 الاستيعاب ج2، ص745.
ويظل يجالد الفرس حتى يصرع، فيحمل الرابع منشدًا:
لست لخنساء ولا للأخرم
…
ولا لعمرو ذي السنا الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم
…
ماض على الحول خضم خضرم
إما لفوز عاجل ومغنم
…
أو لوفاة في السبيل الأكرم1
ويخر صريعًا فيلحق بإخوته إلى الرفيق الأعلى، وحين يبلغ الخبر إلى أمهم تلك التي جعلت من أساها على أخيها صخر مناحة أليمة في تاريخ الأدب العربي -نجدها لا تهتز له إلا فخرًا فتقول:"الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم".
وهكذا نرى هذا الدافع العقدي الجبار يدفع بالأم إلى أن تقود بنيها جميعًا بيدها وبلسانها إلى الجهاد، وتعدهم له، ويدفع بالأبناء إلى أن يعصوا الأبوة في سبيل الجهاد ولا يحفلوا بشيء، ويدفع الرجال إلى أن يتركوا وراءهم كل ما يتشبث به، وكل من يتمسك ببقائهم، إنها قوة دافعة لا تقاوم، يغذيها الإيمان العميق، والإحساس الأصيل بضرورة الانطلاق بالرسالة إلى الناس كافة؛ ليتسنى لهم أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، انطلقوا جميعًا يجيبون داعي الله، حتى غدت ديارهم خلاء موحشة، ليس فيها غير الذئاب، كما يصور ذلك أسامة بن الحارث الهذلي في قوله:
فموشكة أرضنا أن تعود
…
خلاف الأنيس وحوشًا يبابا
ولم يدعوا بين عرض الوتـ
…
ـير حتى المناقب إلا الذئابا2
1 الاستيعاب ج2، ص745، 746.
2 ديوان الهذليين ج2، ص199.