الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
فتوح الشرق:
يجدر بنا أن نشير هنا إلى خلاف المؤرخين على الزمن الذي حدثت فيه فتوحات الشرق ووقائعها خلافًا يصبح معه تتبع الحوادث في تسلسلها التاريخي مغامرة لا تستند إلى أساس يمكن الاعتماد عليه في شيء من الدقة. فالطبري مثلًا يرى أن حروب الردة وقعت في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأن فتح العراق تم في السنة الثانية عشرة، وأن فتح الشام تم في السنة الثالثة عشرة.
ويكاد المرء يظن حينما يطالع هذا لتعاقب أن فتح العراق لم يبدأ إلا بعد الفراغ من حروب الردة، وأن فتح الشام لم يبدأ إلا بعد أن استقر الأمر للمسلمين في العراق، لكن شيئًا من التدقيق في مراجعة الحوادث ووقوعها لا يلبث أن يحمل على الريبة في مثل هذا الظن، ففتح العراق بدأ وحروب الردة لا تزال قائمة. وفتح الشام بدأ في أعقاب حروب الردة، وجيوش خالد بن الوليد لا تزال تعالج إقرار السكينة في أرجاء العراق، وتتوقع غزوات جديدة.
وقد رأينا أن التأريخ للفتوح الإسلامية يستتبع النظر العاجل في حروب الردة، التي أسهمت في توجيه أنظار المسلمين إلى الامتداد خارج شبه الجزيرة، فضلًا عن تأكيدها لوَحْدَة الأمة الإسلامية، وصهرها في بوتقة الصراع الدامي، كتمهيد لما ينتظرها بعد من تحمل لرسالتها الجليلة.
فلم يكد أبو بكر رضي الله عنه يقضي على عبس وذبيان وبني بكر ومن انضم إليهم في الأبرق حتى انحاز فلهم إلى طليحة الأسدي ببزاخة، ورجع الصديق إلى المدينة وهو يفكر في الوسيلة التي يقضي بها على المرتدين. وكان جيش أسامة قد وصل إلى المدينة وقضى أيامًا جم فيها، فخرج الصديق إلى ذي القصة حيث وزع جنده لمحاربة المرتدين أحد عشر لواء، جعل لكل منها أميرًا، وأمره أن يستنفر من يمره به من المسلمين أولي القوة، وأن يسير لقتال المرتدين. وقد وزع الألوية توزيعًا مناسبًا في عددها وأمرائها، مع قوة القبائل التي وجهت إليها، ومبلغ إلحالحها في الردة.
فتوجه خالد بن الوليد إلى طليحة بن خويلد في بني أسد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة، زعيم بني تميم في البطاح. وبنو أسد وبنو تميم كانوا أقرب القبائل المرتدة
إلى المدينة؛ ولهذا بدأ بهم المسلمون، ووجهوا إليهم خالدًا. وتوجه عكرمة بن أبي جهل على اللواء الثاني إلى مسيلمة في بني حنيفة باليمامة، وشرحبيل ابن حسنة على اللواء الثالث، ليعين عكرمة على مسيلمة. فإذا فرغا منه لحق شرحبيل بقضاعة، مددا لعمرو بن العاص وقد استعصت اليمامة على عكرمة، كما استعصت على شرحبيل. ثم كان النصر لخالد بعد أن قتل مسيلمة في عقرباء.
وعقد للمهاجر بن أمية المخزومي اللواء الرابع لقتال الأسود العنسي باليمن وعمرو بن معديكرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح المرادي ورجالهم، فإذا فرغ منهم قصد كندة وحضرموت لقتال الأشعث بن قيس والمرتدين معه. وعقد اللواء الخامس لسويد بن مقرن الأوسي؛ ليتوجه إلى تهامة باليمن. وعقد اللواء السادس للعلاء الحضرمي، لقتال الحطم بن ضبيعة أخي بن قيس بن ثعلبة، والمرتدين معه بالبحرين. ووجه حذيفة بن محصن الغلفاني من حمير على رأس اللواء السابع، لقتال ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي المتنبي في عمان. وكانت وجهة اللواء الثامن إلى مهرة، وعليه عرفجة بن هرثمة. كما توجهت ألوية ثلاثة إلى الشمال، على أحدها: عمرو بن العاص لقتال قضاعة، وعلى الثاني: معن بن حاجز السلمي، لقتال بني سليم ومن معهم من هوازن. وعلى الثالث: خالد بن سعيد بن العاص لاستبراء مشارف الشام، واحتفظ الخليفة بقوة لحماية المدينة، وكانت دون لواء من هذه الألوية عددًا.
وكانت مهمة ألوية الجنوب صعبة؛ إذ إن موقع هذه المناطق الجغرافي جعل لبلاط كسرى في هذه الأنحاء من الصلة بها، بل من السلطان عليها ما لم يكن له بغيرها من بلاد العرب، ولسنا نستطيع أن نتجاهل أثر هذا السلطان في تحريك البواعث التي أدت إلى انتقاض العرب وردتهم. فقد رأى عاهل الفرس فيمن رأوا في رسالة محمد إليه وإلى غيره من الملوك والأمراء؛ ليدينوا بالإسلام مما أدى به إلى أن يعمل على إيقاظ نار الفتنة في بلاد ليس بها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد، الذي يجمع كلمتها، ويضاعف قوتها، ولا شيء كالفتنة يضعضع العزائم، ويفت في أعضاء الأمم1. ولقد كان سلطان فارس على اليمن ممتدًا إلى أن دخل عاملها لكسرى في الإسلام، وصار عاملًا للنبي صلى الله عليه وسلم عليها،
1 الصديق، هيكل، ص93.
ولكن سلطان فارس كان أكثر وضوحًا في البحرين وعمان؛ حيث كان من أبناء فارس عدد كبير استوطنهما، وعلت كلمته فيهما، لما كانت تمدهم به فارس من نفوذها وقواتها كلما خشيت ثورة العرب الخلص بهم، أو محاولتهم القضاء على سلطانها في ربوعهم. فليس عجبًا إذن أن تكون هذه البلاد آخر من دان بالإسلام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الوفود، وأن تكون أول من ارتد حين قبض، ثم تكون آخر من يعود إلى الإسلام بعد حروب طاحنة، تختم حروب الردة، وتعيد إلى البلاد العربية وحدتها الدينية، وتقيم فيها الوحدة السياسية.
كانت الثورات في الجنوب إذن أعنف مظاهر الانتقاض على الدين الجديد في بلاد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. لكن اليمامة وما حاذى الخليج الفارسي من القبائل كان يتلظى ببذور الثورة في هذا العهد، وكان المسلمون على حذر ليظل سلطانهم قائمًا وكلمتهم مسموعة، فلا عجب إذن أن يكون ذلك أمر حواضر وبواد تبعد عن منزل الوحي بمكة والمدينة، تتصل بالفرس وتبادلهم التجارة وتقر لهم بتفوق الحضارة، بل لا عجب أن تكون للفرس يد خفية في تحريك هذه الحواضر والبوادي؛ لتنقض على الدين الجديد والسلطان الناشئ، ولكن المسلمين استطاعوا أن يعيدوا الأمر إلى نصابه، وأن يقضوا -في صرامة وحزم- على كل بواعث الفتنة قضاء مبرمًا.
عادت الألوية الظافرة إلى المدينة، إلا أن بعضها انساح في الأرض يؤمن تخوم شبه الجزيرة وأطرافها، فأقسام العلاء الحضرمي في البحرين بعد أن أرسل بانتصاره إلى الصديق، لا يخشى شيئًا إلا غارة قبائل البادية التي ألفت العزو والسلب، ودسائس الفرس الذين تقلص نفوذهم في جنوب الجزيرة. على أنه كان مطمئنًا بعض الشيء إذا انضم إليه قبل ذهابه إلى دارين من قبائل البحرين ومن الأبناء من كفوه مئونة ما يخشى. وكان عتيبة بن النهاس والمثنى بن حارثة الشيباني على رأس من انضم إليه، وقد قعدوا بكل طريق للمنهزمين، وللذين يعيثون في الأرض فسادًا. وتابع المثنى المسير على شاطئ الخليج الفارسي، يقاوم دسائس الفرس، ويقضي على أنصارهم من القبائل والأبناء، حتى بلغ مصب الفرات، فكان لبلوغه هذا المبلغ ولاتصاله بأرض العراق ولدعوته إلى الإسلام هناك أثر لا نبالغ إذا زعمنا أنه كان مقدم لفتح العراق.
وقد يبدو الأمر متناقضًا إذا ما رأينا إجماع المؤرخين المحققين على أن فتح العراق وفارس وما وراءهما لم يدر بخلد المسلمين في هذه الفترة ابتداء، وإنما دار هذا الخاطر بنفس أبي بكر حينما كان النصر يحالف ألويته في حروب الردة، فمذ قضى خالد بن الوليد على مسيلمة باليمامة، ومذ نشر المهاجر بن أمية وعكرمة بن أبي جهل لواء الإسلام في أرجاء اليمن وما جاورها، أيقن أبو بكر أن الأمر صائر إلى ما يرضي المسلمين، من الوحدة الفكرية والسياسية لشبه الجزيرة العربية، ولكنه كان يخشى أن يستنيم المسلمون لهذا النصر، وينسوا ما تنطوي عليه صدور العرب من حفيظة قد تضطرم فتضرم الثورة كرة أخرى، وربما يكون في اتجاه أنظار هؤلاء العرب إلى ما وراء الحدود في شبه الجزيرة ما يجعلهم ينسون حفائظهم وأحقادهم.
واتجه ذهن أبي بكر إلى اقتحام مشارف الشام وحرب قيصر، بعدما كان من سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم نحو تأمين التخوم العربية بحملاته الشهيرة مما يصرف أذهان العرب عن ثاراتهم، ويجعل لهم من الفخار ما ينسيهم ضغنهم على المدينة وأهلها، ويمهد لانتشار كلمة الله في الإمبراطورية الرومية، ولكن.. ألا يمكن أن تنقلب الآية فلا يحالف النصر ألوية المسلمين، فتتعرض شبه الجزيرة لما هو أكثر شرًّا من الثورة التي أخمدتها حروب الردة؟ حقًّا لقد قامت بين إمبراطورية الروم وفارس حروب استطالت على السنين، تداولوا فيها النصر والهزيمة، حتى انتهى الغلب فيها للروم، وقد استنفدت هذه الحروب من قوة الدولتين ما يحتاج جهدًا ضخمًا وزمنًا طويلًا لتعويضه، ولكن بريق النصر الذي انتهى إليهم في هذه الحروب لا يزال يبهر أنظار العرب ويصدهم عن حربهم، ويجعل التفكير فيها مغامرة غير مضمونة العواقب.
وعلى الرغم مما لاقى العرب من دسائس الفرس في فتنة الردة فلم يدر بخاطر أبي بكر أن يحارب "فارس"، فضلًا عن استشراء نفوذها في اليمن، فإن الحجاز لا يتصل بفارس. والبلاد العربية التي تتاخم الفرس هي البلاد التي فشت فيها الردة؛ ولهذا لا يمكن الاعتماد عليها، أو الركون إلى أهلها في غزو دولة لا يزال لها سلطانها عليهم.
ومن هذا يتضح ضعف تلك الآراء التي تجعل من الصراع الشهير بين الدولتين الفارسية والرومية حافزًا للعرب على الفتوح. فالحقيقة السافرة أن هزيمة الدولة الفارسية على
أيدي الروم لم تقضِ عليها، ولم تؤد بها إلى الانهيار، ولم تدفع العرب إلى الانقضاض عليها وإدخالها مثخنة بالجراح إلى حظيرة الإسلام كما يزعم البعض1، فقد كان لها بعد كل هذا جيوشها الجرارة، ونظامها وسلطانها. فإن كسرى أنوشروان الذي ولد لأول عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جعل هدفه تجديد شباب الدولة الساسانية، فمضى في سلسلة من الإصلاحات، تناولت شتى النظم الإدارية والمالية والعسكرية. ورد إلى الدولة الساسانية شبابها، فاستطاعت أن تنتزع من الإمبراطورية الرومية آسيا الصغرى وأرمينيا والشام، ونجحت في أن تلطم العالم المسيحي لطمة قاسية بإدخالها بيت المقدس في حوزة الوثنيين، واستيلائها على صليب الصلبوت، كما استولت على مصر، وبلغ الأمر بها أن هددت أبواب القسطنطينية ذاتها2.
وحتى لو فرضنا أن الدولة الفارسية انهارت على يدي "هرقل"، ألم يكن أقرب إلى المنطق والعقل أن يلتهمها الروم أنفسهم، الذين طرقوا أبواب عاصمتها "المدائن" بعد هزيمتها المنكرة في نينوى، وإرغامها على صلح مشين في 628م بطريقة أسهل من استيلاء العرب عليها، إذا ما قارنا بين حالة الروم وحالة العرب وقتذاك؟!
لا ريب في أن أبا بكر كان يقدر قوة الفرس ومبلغ سلطانهم على الجنوب وأثره في فتنة العرب، وأنه ليفكر ويقدر في موقف المسلمين من هاتين القوتين دون أن يجرؤ على التفكير في حربهما؛ إذ تترامى إليه الأنباء بأن المثنى بن حارثة الشيباني قد سار بقواته شمالًا في البحرين حتى وضع يده على القطيف وهجر، وحتى بلغ مصب دجلة والفرات، وأنه قضى في مسيرته على الفرس وعمالهم، ممن عاونوا المرتدين بالبحرين، وأنه تابع مسيره مساحلًا الخليج الفارسي إلى الشمال، حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين، فتحدث إليهم وتعاهد معهم.
وفكر أبو بكر فيما جاءه من أنباء، فإذا به يفكر من ثم في دفع المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة، حتى يصرفهم عن ثاراتهم الأولى، فربما ينجح المثنى في التوغل إلى العراق، فيفتح للمسلمين المتعطشين إلى الجهاد أبوابه. وبدأت عناصر نجاح هذا التدبير تتداعَى إلى
1 انظر الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم، العدوي ص42.
2 نفس المرجع، ص32.
خاطره، وقبائل العرب في العراق من بني لخم وتغلب وإياد والنمر وبني شيبان تهوى نفوسهم إلى منابتهم في شبه الجزيرة، ولم تبعد أنسابهم بعد عن أنسابها. وبرغم أن أكثر هذه القبائل قد نعم بالحضر وترفه إلا أنها ظلت شديدة التعلق بالبادية تسكن مشارفها، وهي في هذا لا تستطيع مقاومة الوراثة البدوية المتغلغلة في نفوسها، التي تأبى الاستقرار والركون إلى حياة الحضر الوادعة، فسكنت على شفا الصحراء، بين البادية والحضر، لتجد في الحضر رزقها، وفي البادية ما يستهويها من الحرية والسحر والجمال.
وتردد فيما جاءت به أنباء المثنى أن قبائل العرب التي استقرت بدلتا النهرين، الغنية بالزروع والفاكهة والطير والحيوان، مالت إلى الحضر والإقامة فعمل أبناؤها في زراعة الأرض، وأن دهاقين الفرس يستولون على غلاتها، فلا ينال أولئك العرب منها إلا القليل الذي يجود به الدهاقين عليهم، مما يجعلهم أدنى إلى الاستجابة لكل دعوة عربية. فمعاملة الدهاقين تعدهم للثورة بهم، وتمهد للمسلمين أن يستخدموهم أدوات لبث دعوتهم، وتأمين شبه الجزيرة من دسائس الفرس وعدوانهم.
هذا فضلًا عن أن بطونا من ربيعة ومضر استقرت في سواد العراق والجزيرة، فصارت لهم هناك ديار ومراعٍ، ونزلوا على خفارة فارس1. وكذلك استقرت قبيلة تنوخ غربي نهر الفرات من الحدود الفارسية، حتى أنشأ لهم سابور الأول ملك الفرس إمارة الحيرة عام 240م، وأمر عليها عمرو بن عدي؛ لتكون هذه الإمارة درعًا يكفي دولة فارس من وراءها من الروم والأعراب، ولكن هذه العلاقة الوطيدة بين العرب والفرس لم تمنع القبائل العربية من الإحساس بعصبيتها وتوحدها ضد الفرس في يوم ذي قار2.
فالعراق إذن لم يكن يومًا ما غريبًا عن عرب الجزيرة، بل كان دائمًا امتدادًا لمنازلهم، ودار هجرة لهم، يجتذبهم إليه بخصبه واستقرار الحياة فيه، ويجوسون خلاله في معاناة التجارة وخفارتها، ويجدون في رحيلهم إلى الشرق والغرب فرصة مواتية للاختلاط بسكان هذه المناطق، اختلاطًا يتعدى الناحية الاقتصادية إلى التأثير والتأثر، وتعميق المعرفة بأحوالهم وبظروف حياتهم، وكان في أسواق العرب مجال لاختلاط التجار العرب
1 المسالك والممالك ص18.
2 العقد الفريد ج2، ص81.
والفرس، وبخاصة في دومة الجندل على أطراف العراق وشبه الجزيرة، وعلى امتداد خط القوافل بمحاذاة الخليج الفارسي. وكان التجار الأعاجم يقدمون إلى مكة -قبل أن يلي هاشم شئون التجارة- فيشتري منهم العرب، ويتبايعون فيما بينهم ويبيعون من حولهم. ثم أخذ العرب بعد ذلك يقتحمون العراق وفارس بتجارتهم؛ إذ اختص نوفل بن هاشم بالتجارة مع فارس وعقد معها حلفًا ومعاهدة تجارية فيما يقال1.
وليس أدل على قوة هذه الصلات من أن سكان الحيرة والأنبار كانوا يكتبون اللغة العربية، فقد وجد خالد بن الوليد بعد فتح الأنبار قومًا يكتبون بها فسألهم: ممن تعلمتم؟ فقالوا: من إياد، وأنشدوه:
قومي إياد لو أنهم أمم
…
أولو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا
…
ساروا جميعًا والخط والقلم2
وكذلك وجد قوم من العرب كانوا يجيدون اللغة الفارسية إجادة مكنتهم من الاشتغال لدى ملوك الفرس بالكتابة والترجمة، من مثل عدي بن زيد التميمي، الذي كان يكتب لكسرى أنوشروان ويترجم له. وخلفه في عمله ابنه زيد3.
وكانت وفادات العرب على ملوك الفرس لا تنقطع، وفي كل مرة كان العرب يعودون وقد حملوا معهم إلى موطنهم ألوانًا من المعرفة والحضارة، كما فعل الحارث بن كلدة من وفوده على كسرى أنوشروان، وابنه النضر بن الحارث الذي تعلم في فارس صناعة الألحان والطب، وكان يجلس ليتحدى الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديثه من ملوك فارس4. ومثل: عبد الله بن جدعان الذي وفد على كسرى فاستطاب من أطعمة فارس الفالوذج، فابتاع غلامًا أعجميًّا يصنعه له5.
1 حياة محمد، هيكل ص97.
2 الطبري 1/ 4/ 2061.
3 مروج الذهب ج2، ص25، ابن خلدون ج2، ص266.
4 السيرة "الحلبي" ج1، ص221.
5 الأغاني، دار الكتب ج8، ص229.
ولا يزال التاريخ يحفظ وفادات الشعراء العرب على أمراء الحيرة العرب، التي استمرت طوال مدة حكمهم. فقد وفد عليهم: طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، والنابغة الذبياني؛ إذ كان هؤلاء الأمراء يعنون باللغة والأدب، ويحبون الشعر والشعراء، ويهتمون بجمع الأشعار وتسجيلها وحفظها في قصورهم1.
هذا، وقد شاع في الأدب العربي، وفي الحياة العقلية للعرب بعامة كثير من آثار العراق وفارس، سقطت إلى العرب عن طريق الحيرة؛ كأحاديث جذيمة بن الأبرش، وأساطير الزباء، والخورنق والسدير، وسنمار وجزائه، ويومي البؤس والنعيم اللذين استنهما النعمان بن المنذر2، هذا فضلًا عما سقط إلى اللغة العربية من ألفاظ فارسية تجلت في استخدام القرآن الكريم لها. هذه الصلات الوثيقة وما يعززها من قرابة الدم والجوار واللغة، وتلك العلاقات العقلية والحضارية والسياسية كانت كفيلة كلها بتوجيه أنظار المسلمين إلى العراق.
ولم يكن خافيًا على أبي بكر ما وصلت إليه فارس صاحبة السلطان في العراق من اضطرابات داخلية، ضربت بجرانها في البلاط الفارسي؛ إذ يسعى كل أمير ليقتل الجالس على العرش ليأخذ مكانه، حتى ليدعي هذا العرش في أربع سنوات تسعة من الأمراء كانوا يقتتلون عليه، يقتل بعضهم بعضًا جهرًا وغيلة. وقد بدأ هذا الاضطراب في عهد كسرى أبرويز، الذي أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فكان جوابه أن كتب إلى عامله في اليمن بأن يرسل إليه ذلك الراعي ليرى رأيه فيه. وحدث أن ثار عليه ابنه شيرويه فقتله واستلب العرش، ولكنه لم يتمتع بالملك طويلًا فمات بعد قليل، تاركًا العرش لابنه الصغير، الذي ثار به أحد القواد فقتله ونصب نفسه ملكًا، واستهدف هذا الملك لثورة الأسرة المالكة به، فقتل بعد أربعين يومًا من ثورته. حتى آل الأمر إلى بوران بنة كسرى أبرويز، وكان ذلك في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
لمح المسلمون في كل هذه الظروف المواتية فرصتهم وبشير سعودهم، وقد ارتفعت معنوياتهم بإعادة الأمور إلى نصابها، والظفر بأهل الردة، وبفرض كلمة الحق بالسلطان
1 العمدة ج1، ص61.
2 فجر الإسلام ص18.
الصارم، فراحوا يستشرفون مثل هذه الغاية التي أعدوا لها أنفسهم منذ أن كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه فرصة ثمينة، يجب أن تكون خطوة لما بعدها. ولئن حالف المسلمين النجاح في هذا الخطوة لتكونن البشير لخطوات واسعة، فبقاع العراق الخصبة، التي أطلق عليها "جنة الأرض" تموج بكثرة غلالها ووفرة خيراتها وجمالها، وقد رأى أبو بكر صدق ما يذكره المثنى، ورأى أن من الواجب على المسلمين أن يقوموا بتأمين العرب من أهلها، فإذا استجاب هؤلاء العرب من بعد للدعوة الإسلامية، ولم يصرفهم الفرس عنها فذاك، وإلا قاتل المسلمون الفرس؛ ليكون المجال فسيحًا أمام كلمة الحق التي ستنتصر لا محالة.
ويجمع أبو بكر ولاة أمر المسلمين وأولي الرأي منهم؛ للتداول في عناصر نجاح تدبيره. وما أن ينتهي حتى يخطو الخطوة الأولى في فتح العراق، فيأمر المثنى بن حارثة الشيباني بأن يسير بمن معه من قومه لقتال أهل فارس. ولما بلغته أخبار انتصاراته بدلتا النهرين رأى أن يمده، فكتب إلى خالد بن الوليد في المحرم من سنة 12هـ يأمره أن يجمع بقية جنده ويمضي إلى العراق فيدخله من أسفله، وأمر عياض بن غنم أن يسير إلى دومة الجندل ليخضع أهلها المرتدين، ثم يدخل العراق من أعلى، متجهًا شرقًا إلى الحيرة، فإن بلغها قبل خالد فالأمر فيها له، وخالد فيها من قواده، وإن سبقه خالد إليها فالأمر والقيادة له، وعياض من قواده. فإذا اجتمعتما في الحيرة وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يُؤتَى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكم ردءًا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن1.
وهكذا تهدف الخطة التي وضعها أبو بكر مباشرة إلى الحيرة، ومنها إلى المدائن. وعلى هذا يمكننا أن نجعل الفتوح الشرقية مراحل ثلاث؛ أولاها: ما قبل الحيرة، والثانية: تشمل ما بين الحيرة والمدائن، والثالثة: تشمل ما بعد المدائن.
المرحلة الأولى:
كانت وصية أبي بكر لأمرائه أن يتجهوا إلى الحيرة، على ألا ينالوا العرب الفلاحين بسوء، فهم عرب، فضلًا عما يشعرون به من ظلم الفرس الذي يجب أن يزول حين مقدم العرب؛ ليعمهم العدل على أيدي بني عمومتهم.
1 الطبري 1/ 4/ 2021، 2022.
وكان جنود خالد قد قل عددهم بعد قتال اليمامة، وتسريح من شاء الرجوع بإذن الخليفة، حتى لا يستفتح بمتكاره، وألا يكون معه في الغزو أحد ممن ارتد حتى يرى الخليفة رأيه فيه؛ ولهذا استمد خالد أبا بكر، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي، فلا يهزم جيش فيه مثله، كذلك أمد عياضًا بعبد بن عوف الحميري.
ولم يلبث خالد أن حشد ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، ثم سار إلى العراق على رأس عشرة آلاف قدم بهم، على ثمانية آلاف كانوا مع أمراء الجند المسلمين الذي سبقوه إليه، والمثنى في مقدمتهم.
وكان أمر أبي بكر إلى خالد أن يبدأ بالأبلة1، ولكن الرواة يجمعون على أن أول غزاة بالعراق كانت في الحفير، بينما يختلفون في أمر الأبلة، هل كان فتحها في عهد أبي بكر أو على عهد عمر؟ وكان أمير منطقة الحفير من قبل فارس يدعى "هرمز"، ومن أسوأ أمراء الثغور معاملة للعرب، حتى ليضرب به المثل في الخبث والكفر، وكان يعتبر نفسه حامي البلاد؛ لصده هجمات العرب وغاراتهم في البر، وقراصنة الهنود في البحر.
وقد سار خالد من اليمامة إلى العراق على رأس عشرة آلاف من الجند. وما إن بلغ حدود هرمز حتى ألفى المثنى وجنده في انتظاره، وحينئذ قسم الجند كله ثلاث فرق، وجه كل واحدة منها إلى طريق، على أن يلتقوا جميعًا بالحفير.
وسارت الفرقة الأولى بقيادة المثنى، وتبعتها بعد يوم فرقة أخرى على رأسها عدي بن حاتم الطائي، وبعد يوم آخر سار خالد في المؤخَّرة، وكان خالد قد أرسل إنذارًا إلى هرمز الذي بلغه مع كتاب خالد أنباء جند المسلمين ومسيرهم فكتب إلى أردشير بالخبر، وجمع جموعه وسار إلى الكواظم ليلقى فيها خالدًا، ولكن أنباء أخيرة جاءته بأن خالدًا أمر أصحابه بالسير إلى الحفير، فأسرع بجنده إليها، ونزل على الماء فيها. وقدم خالد ليجد جنده على غير ماء، فيقرر معهم ضرورة مجالدتهم على الماء.
وكان على مجنبتي هرمز أميران من بيت الملك في فارس، هما:"قباذ" و"أنوشجان"، وأدرك هرمز أنه لن يدرك غرضه إلا بقتل خالد، فناده وعهد إلى جماعة من فرسانه أن ينقضوا عليه فيقتلوه. وسمع خالد النداء، فمشى إلى هرمز والتقيا،
1 على الخليج الفارسي، وهو الثغر الذي تسير منه التجارة إلى الهند والسند وترد إليه منهما للعراق.
فاغتنمها فرسان هرمز، وشدوا يريدون قتل خالد واستخلاص قائدهم من يده، لكن القعقاع بن عمرو لم يمهلهم، فشد المسلمون وانهزم أهل فارس، وطارد المسلمون الفرس إلى الليل، حتى بلغوا الجسر الأعظم من الفرات، وطار المثنى في أثرهم يلاحقهم1.
وكان لهذه الغزوة الأولى أثر عظيم، ألهب حمية المسلمين، فقد قتل هرمز بين يدي خالد، وغنم المسلمون ما شاء الله لهم أن يغنموا، حتى بلغ نفل الفارس ألف درهم خلا السلاح. وزاد نصر المسلمين جلالًا تنفيذ خالد للسياسة التي رسمها أبو بكر مع العرب الفلاحين بالعراق، فسبى المسلمون أبناء المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، أما الفلاحون فتركوا وأقروا، وجعلت لهم الذمة.
وما لبث أردشير بعد أن تسلم رسالة هرمز أن دعا إليه أحد الأمراء الفارسيين المسمى قارن بن قريانس، وجعله على رأس قوة عظيمة سارت مددًا لجيش الثغور، وانضم إليها قباذ وأنوشجان على رأس فلول المنهزمين وعسكروا بالمذار، وعلم المثنى في عودته من مطاردة الفالة بأمر هذا الحشد، وخشي أن يقابله دون خالد، فكاتبه بتفصيل ما عنده وأنزل جنده منزلًا قريبًا من المذار، وطار خالد بجيشه فبلغ المذار وقارن يعد للقاء المثنى. وأخاف قدوم خالد الفرس الموتورين، وإن لم يضعف عزمهم، وخيل إلى قارن أنهم إن هاجموا خالدًا قبل أن يتخذ للموقف عدته لم يفتهم الظفر بالمسلمين وردهم إلى ديارهم. ولكن خالدًا كان على أهبة الاستعداد، فشد عليهم. ورأى المثنى في قدوم خالد معجزة أمد الله بها المسلمين فانقلب جنده من الخوف إلى اليقين بالنصر أسودًا كاسرة، والتحم الجمعان فإذا بقارن وقباذ وأنوشجان يُذبَحون بأعين جنودهم، وسيوف المسلمين تطيح برءوس الفرس من كل جانب، فيفرون إلى السفن يتخذونها مطاياهم للنجاة2. وقد أخذ الفرس تحت وطأة الهزيمة يحشدون عرب الضاحية والدهاقين لمعركة يثأرون فيها، وفي الولجة أوقع بهم خالد، وكانت الإصابة في بكر بن وائل فادحة3.
1 الطبري 1/ 4/ 2021، 2022.
2 الطبري 1/ 4/ 2027-2029.
3 الطبري 1/ 4/ 2029-2031.
ورأى العرب من نصارى بكر بن وائل أن يثأروا لهزيمتهم، فكاتبوا الفرس واجتمعوا على أليس، ولكن خالدًا تمكن منهم، وقتل من العرب والفرس سبعين ألفًا1. واستمر خالد في طريقه إلى أمغيشيا؛ لأن أليس من مسالحها، فخربها وفرق أهلها2. ثم استقل خالد النهر، متخذًا من سفن أمغيشيا التي غنمها المسلمون مطية إلى مرزبان الحيرة، الذي نهض في عسكره إلى خارج الحيرة، وأمر ابنه فسد قناطر الفرات؛ ليحول دون مسيل الماء فيما وراءها، فيعوق ذلك مسير السفن إليهم. وبينما خالد وجنده يدفعون بسفنهم شمالًا إلى الحيرة إذ جنحت السفن وارتطمت بقاع النهر، فخرج خالد في كتيبة من فرسانه، فلقي ابن المرزبان على فم العقيق، وقتلوه في جنده شر قتلة، وأعاد خالد الماء يجري في النهر، فعادت المياه تقل السفن إلى الخورنق، حيث نزل المسلمون يستعدون لفتح الحيرة3.
وكان أهل الحيرة متحصنين بقصورهم، فحاصرهم خالد، بأن جعل أصحابه يحاصر كل منهم قصرًا، ثم دعوهم وأجلوهم يومًا فأبوا، فناوشهم المسلمون، وانتهت المناوشة باستجابتهم إلى الجزية وعقد الصلح4. وما إن سقطت الحيرة حتى أخذ الدهاقين يتتابعون على صلح المسلمين؛ إذ كانوا يترقبون ما يصنع أهل الحيرة. وبذلك بلغ سلطان المسلمين شاطئ دجلة، وأصبحوا مهددين له، ومن ثم أخذ خالد يكتب إلى أمراء فارس ومرازبتهم يدعوهم وينذرهم ويتوعدهم.
وبينما ينهى خالد ما نيط به من خطة أبي بكر بدخوله الحيرة لا نسمع شيئًا عن شريكه عياض، الذي يدفع بخالد إلى إرجاء المرحلة الثانية من الخطة حتى يستنقذه، فيخلف القعقاع بن عمرو على الحيرة في طريقه إلى الأنبار، وكان أهلها قد تحصنوا وخندقوا وأشرفوا من حصونهم، فأمر خالد بأن ترشق عيونهم، فأصاب منهم المسلمون ألف عين؛ ولهذا فقد سميت تلك الوقعة بذات العيون5. وأفلح خالد في أن يسد الخندق بالمناحر، واجتازه المسلمون، وفضوا الحصون، وأعملوا في سكانها السيوف، ثم
1 الطبري 1/ 4/ 2031-2036.
2 الطبري 1/ 4/ 2036.
3 الطبري 1/ 4/ 2037، 2038.
4 الطبري 1/ 4/ 2038.
5 الطبري 1/ 4/ 2059.
خلف عليها الزبرقان بن بدر. وانطلق بعد أن صالحه أهل كلواذى يريد عين التمر؛ حيث اجتمع على حربه فيها جمع كبير من الفرس والعرب من النمر وتغلب وإياد، جعلهم الفرس في مواجهة المسلمين، حتى يقاتلوا وهم أقوياء، إذا لم يثبت العرب أمام المسلمين، ولم يثبت العرب أمام المسلمين، فقتل عقة بن أبي عقة زعيم العرب، وفر مهران قائد الفرس، وتمكن خالد من اقتحام الحصن الذي فر إليه الفرس وقتلهم فيه جميعًا1.
بعث خالد بالأخماس إلى أبي بكر مع الوليد بن عقبة، واستطاع أبو بكر أن يقف منه على سأم خالد من بقائه بالحيرة، وضيقه بانتظار عياض، وكان أبو بكر يرى موقف عياض مضعفًا لروح المسلمين، فأمر الوليد أن يتجه لعياض بدومة الجندل، وألفى الوليد عياضًا يحاصر القوم ويحاصرونه، وقد أخذوا عليه الطريق، فأشار الوليد بالاستنجاد بخالد، وما كان لعياض أن يتردد وقد بقي سنة لا يقوى على خصومه، فبعث رسولًا إلى خالد أدركه يوم فراغه من عين التمر.
وما كاد خالد يفض كتاب عياض حتى تهلل، ورد الرسول لساعته يحمل كتابًا إلى عياض فيه:
إياك أريد:
البث قليلًا تأتك الحلائب
…
يحملن آسادا عليها القاشب
كتائب تتبعها كتائب
وخلف خالد على عين التمر عويم بن الكاهل الأسلمي، وخرج يحث السير في جنده إلى دومة الجندل، وبينه وبينها ثلاثمائة ميل، وقطعها في أقل من عشرة أيام بعزم لا يعرف الخطر. وما إن تسامعت القبائل بمقدمه حتى بهتت واختلفت. وكانت القبائل المعسكرة بدومة الجندل قد تضاعف عددها عما كان عليه منذ عام؛ ذلك أن بني كلب وبهراء وغسان نفروا من العراق منحدرين إلى دومة الجندل ليثأروا من عياض لهزائمهم أمام خالد. وكان على هذه القبائل أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، وكان من رأي أكيدر الصلح، فلما لم يتسن له حمل قومه عليه تركهم نجاة بنفسه، فأرسل خالد إليه من
1 الطبري 1/ 4/ 2062-2064.
أتى به وقتله. ونزل خالد عليهم فأظفر الله المسلمين، بعد أن أسروا رؤساء القوم، وقتلوا من التجأ إلى الحصن، عدا حلفاء تميم من كلب، فقد أجارهم عاصم بن عمرو1.
وكان لعرب الجزيرة أن يثأروا لمقتل عقة، ولهزيمة عين التمر، فكاتبوا الفرس فخرج روزمهر وروزبه يريدان الأنبار، واتعدا حصيدًا والخنافس، وفي نفس الوقت خرج الهذيل بن عمران فعسكر بالمصيخ، بينما عسكر ربيعة بن بجير بالثني، وعلم الزبرقان بن بدر أمير الأنبار بأمر هذا الترتيب الحربي، فكاتب القعقاع أمير الحيرة الذي بعث إليه بأعبد بن فدكي السعدي، وأمره بالحصيد، وبعروة بن الجعد البارقي، وأمره بالخنافس، فخرجا فحالا بين روزمهر وروزبه ومقصديهما. وبلغت الأنباء خالدًا فحث السير إلى الحيرة؛ حيث خلف عليها عياضًا، ورمى بالقعقاع وأبي ليلى بن فدكي أمامه إلى عين التمر، فلما وافاهما وجه القعقاع إلى الحصيد وأبا ليلى إلى الخنافس؛ ليعطي القوم فرصة للتجمع حتى يقاتلهم مرة واحدة مجتمعين2.
وسار القعقاع إلى الحصيد وعليه روزيه، فاستغاث هذا بروزمهر فأغاثه بنفسه، والتقى المسلمون بالفرس في الحصيد، فقتلهم الله شر قِتْلَة، وقتل القعقاع روزمهر، وقتل عبد الله الضبي روزبه. وسار أبو ليلى إلى الخنافس وعليها المهبوذان فانهزم أمام المسلمين دون قتال، وفر جنده إلى المصيخ، يلتحقون بمن فيها من العرب.
وعقد خالد اجتماعًا لقواده، واتفقوا على اللقاء بالمصيخ في ساعة بعينها، توافوا إليها من ثلاث جهات، فبيتوا الهذيل ومن معه، وملئوا الفضاء بجثث القتلى. ورأى خالد أن يبغت تغلب في دارها، فتقدم إلى قائديه القعقاع وأبي ليلى بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما الغارة على تغلب في ليلة بعينها، واجتمع القواد الثلاثة من ثلاثة أوجه، فلم يكد يفلت من جيش بني تغلب أحد.
وذاعت أنباء خالد وفعاله بالقبائل وعجزها عن مقاومته، ففت ذلك في أعضاد رجال البادية بالعراق، فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان. وجعل خالد يسير على شاطئ الفرات فيما حوله فلا يلقى إلا الإذعان، حتى بلغ الفراض، وهي تخوم العراق والشام،
1 الطبري 1/ 4/ 2065-2067.
2 الطبري 1/ 4/ 2067-2073.
فوجد الروم في مواجهته، ليس بينه وبينهم غير مجرى الفرات. وقد أغاظ الروم أن يقيم جيش المسلمين في مواجهتهم، وأن يطيل المقام غير عابئ بهم، ولا بكتائب الفرس القريبة، ولا بأهل البادية من تغلب والنمر وإياد المنتشرين حولهم في كل مكان. ولم يلبث هؤلاء وأولئك أن انضموا إلى الروم وحرضوهم وأمدوهم، فسار خالد حتى إذا لم يبقَ بينه وبينهم غير الماء بعثوا إليه يخبرونه بين أن يعبروا إليه أو أن يعبر إليهم، فاختار عبورهم. وفيما يعبرون صف خالد صفوفه ودبر خطته، والتقى الجمعان، وأبلى المسلمون بلاء لم يعهده أعداؤهم، فلم يثبتوا لهم، وانكشفوا وأدبروا، والمسلمون من ورائهم يمعنون في قتلهم، حتى بلغ من قتل في هذه الواقعة مائة ألف من أعداء المسلمين1.
أقام خالد عشرة أيام بعد وقعة الفراض، ثم أذن في الناس بالرجوع إلى الحيرة، لخمس بقين من ذي القعدة من السنة الثانية عشرة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بالمسلمين، وأظهر أنه بالساقة، وفي نفس الوقت أمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم. ومن ثم مضى هو إلى الحج -لا يعلم أحد بذلك- في طريق غير مطروقة، متعسفًا البلاد، ومتسمتًا مكة2.
وما إن قضى نسكه حتى سارع إلى جنده فأدركهم في دخولهم الحيرة، فالتحق بالساقة كأن لم يكن شيء. وقد اعتبر أبو بكر هذا العمل -حينما علم به بعد ذلك- زهوًا من خالد بنفسه واغترارًا. وحدث أن مست الحاجة إلى رمي الروم بمثل ما رمى به الفرس، فتلقى خالد بالحيرة كتابًا من أبي بكر يأمره بأن يسير حتى يأتي جموع المسلمين باليرموك، فقد شجوا وأشجوا، على ألا يعود لمثل ما فعل، وألا يدخله عُجْب، وألا يدل بعمل. على أن يستخلف المثنى على العراق في نصف الناس، وأن يأخذ معه النصف، "فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك"3.
المرحلة الثانية:
انتهت المرحلة الأولى من الفتوح الشرقية باستنقاذ عياض واستقامة العراق للمسلمين أسفله وأعلاه. وبدأت المرحلة الثانية بنفس البداية، فالمثنى وحده في العراق بعد أن صدع
1 الطبري 1/ 4/ 2073-2075.
2 الطبري 1/ 4/ 2075، 2076.
3 الطبري 1/ 4/ 2089-2110.
خالد بأمر أبي بكر، وتوجه في نصف جيش العراق إلى اليرموك. ولم يكد المثنى يعود من وداع خالد إلى تخوم الصحراء حتى بدأ ينظم الدفاع عن البلاد التي فتحها المسلمون. فلا ريب أن الفرس سيتحرشون به متى علموا بسفر خالد، ولا ريب كذلك فيما سيتكشف عنه حقد القبائل العربية التي لم يصلحها إلا بطش خالد، ولكنه أحفظها كذلك، فباتت تترقب الثورة بالمسلمين. وقد شعر خالد قبل توجهه إلى الشام بدقة الموقف، فبعث بالنساء والصبيان والضعفاء إلى المدينة.
ووجد المثنى نفسه في حالة لا يُحسد عليها، فهو رائد الفتح في هذا الميدان وطليعته، وليس من الهين على نفسه أن يهزم فيه، وزاد الموقف صعوبة أن الفرس استقام أمرهم على شهر براز بن أردشير، الذي أراد إرهاب المثنى، فوجه إليه جندًا كثيفًا، بقيادة هرمز جاذويه، وفي مقدمة جيشه فيل كبير. ولم ينتظر المثنى أن يقدم عليه الفرس في الحيرة، متخطين المناطق التي حازها المسلمون، فخرج إليهم في جنده، وسار حتى بلغ أطلال بابل، وعلى مقدمتيه أخواه المعنى ومسعود، فعسكروا على مرتفع يبعد خمسين ميلا من المدائن. والتقى الجمعان، وكانت معركة رهيبة، ابتلي فيها المسلمون بالفيل الذي عانى منه الجند والخيل، حتى دل المثنى على مقاتله فقتله، وهاجموا الفرس فهزموهم شر هزيمة واحتلوا معاقلهم، وتعقبوا فلولهم إلى أبواب المدائن1.
ونزلت الهزيمة على شهر براز نزول الصاعقة، فحم ومات. وعاد الاضطراب إلى البلاط الفارسي من جديد، فاطمأن المثنى قليلًا، ولكنه حسب حساب الغد حينما تنتهي هذه الخلافات، ولا بد له أن يكون مستعدًّا للقائهم لقاء حاسمًا. والخليفة لا يمكن أن يمده وجيوشه موزعة في الشام والعراق، ولو كان في الإمكان إمداده لما فصل خالد بنصف جيش العراق، ولكنه كتب إلى الخليفة يستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته من أهل الردة. وفي انتظار رد الخليفة أقام يدبر خطته ويحكم تدبيره، وأبطأ رد الخليفة، ولم يرَ المثنى بُدًّا من الانسحاب إلى أدنى أرض العراق من حدود البادية؛ حيث خلف على المسلمين بشير بن الخصاصية، وذهب بنفسه إلى المدينة ليرى رأيه مع الخليفة. وفي المدينة ألفى المثنى أبا بكر مريضًا مرضًا يشفي على الموت، ولكنه استقبله، واستدعى عمر بن الخطاب فأوصاه أن يندب الناس مع المثنى، لا يشغله مصيبة وإن عظمت عن وصيته.
1 الطبري 1/ 4/ 2152.
ويقضي الخليفة الأول في الحادي والعشرين من جُمَادَى الآخرة سنة 13هـ بعد إصدار أمره بندب المسلمين مع المثنى، لاستكمال المرحلة الثانية من الخطة التي رسمها. ولم يضيع الخليفة الثاني وقتًا، فأخذ يندب الناس باذلًا في ذلك جهده، حتى بلغ له من أهل المدينة ومن كان قد ارتد حشد كبير، أمر عليه أول منتدب -أبا عبيد عمر بن مسعود الثقفي- وعجل المثنى، فسبق أبا عبيد، ووصل إلى الميدان بعد عشر ليال؛ ليلحق به أبو عبيد بعد شهر من وصوله.
ولا يكاد المثنى يستقر بين جنده حتى يسأل عما آل إليه أمر البلاد الفارسي فيبلغه أن الفرس ولوا ابنة كسرى عليهم ثم خلعوها، وخلفها سابور بن شهريران، الذي تآمرت عليه ابنة عمه آزرميدخت، فقتل وقتل وزيره الفرخزاد، وجلست على عرش فارس. لكن القائد رستم بن الفرخزاد انتقم لأبيه، فألحق الهزيمة بجيوش الملكة وحاصر قصرها. وأقام بوران ابنة كسرى على عرش البلاد، فأطلقت يده في أمور الدولة وجعلته على الجند، وأمرت أهل لفارس أن يسمعوا له ويطيعوا.
وبلغ أبو عبيد العراق، فوجد المثنى قد انسحب إلى "خفان" على حدود البادية؛ لأن رستم أوعز إلى الدهاقين بالسواد أن يثوروا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلًا يثير أهله، ثم أرسل جندًا لمصادمة المثنى، الذي آثر الحذر وانسحب من الحيرة، حتى لا يُؤتَى من خلفه، وفي "خفان" وافاه أبو عبيد، وأقاما يدبران خطة لملاقاة الفرس.
وكان رستم قد عهد إلى جابان -أحد قواده- أن يتجه على رأس جيش عظيم إلى الحيرة، كما عهد إلى قائد آخر هو نرسى أن يتجه إلى كسكر. وخرج المسلمون بعد أن جمعوا في "خفان"، فالتقوا بهم عند النمارق، واقتتلوا قتالًا شديدًا، أظفر الله فيه المسلمين، فأسروا جابان ومرادا نشاه1.
وما إن علم رستم بهزيمة جابان حتى أمر الجالينوس بأن يسير إلى المسلمين فيلحق بنرسى في كسكر، ولكن أبا عبيد كان أسرع منه، فحث بجنده السير لمواجهة نرسى، الذي انحاز إليه فل النمارق. والتقى المسلمون بالفرس في مكان يُدعى بالسقاطية على مقربة من كسكر قبل أن يصل الجالينوس. ولم يثبت نرسى أكثر مما ثبت جابان، ففر في
1 الطبري 1/ 4/ 2152-2168.
جنده تاركًا لهم مغانم كثيرة. وأقام أبو عبيد بكسكر، بينما سرح المثنى وغيره من القواد يغيرون على النواحي القريبة، فاحتلوا سواد العراق -أسفله وأعلاه- وأذاعوا الرعب في القوم، معيدين إلى ذاكرتهم أيام خالد بن الوليد. فما لبث الدهاقين حتى جاءوا أبا عبيد يصالحونه، ويعتذرون عن ممالأة الفرس، وأن ذلك كان بإكراههم. ولما تم الصلح معهم جاءوه ببعض الهدايا1، ونهد أبو عبيد للجالينوس الذي كان تحول إلى باقسياثا فهزمه وألجأه إلى الفرار2.
وتبلغ الهزيمة رستم، فيجهز جيشًا عليه بهمن جاذويه، ويبعث بالجالينوس والفيلة وراية فارس الكبرى "درفش كابيان" في جيش لم يعرفه المسلمون من قبل، وتراجع أبو عبيد بجنده إلى قرية قس الناطف، بعد أن عبر النهر إليها وتحصن بها ينتظر عدوه. وأقبل بهمن يفصل بينه وبين المسلمين النهر، وبعث يخير أبا عبيد في أن يعبر إليهم أو يعبروا إليه وأشار أصحاب أبي عبيد عليه بألا يعبر، وأن يدع الفرس يعبرون، لكنه أخذته العزة فقال: والله لا يكونون أجرأ منا على الموت، بل نعبر نحن إليهم. وعبر. فعبر المسلمون واقتتلوا على الجسر، فأصيب من الفرس ستة آلاف قتيل وغريق، ولم يبقَ لهم إلا الهزيمة، برغم هول الفيلة وخيبة الخيل بإزائها، وحدث أن أبا عبيد كان يعالج فيلًا فخبطه وأصابه، فتضعضع المسلمون لإصابة قائدهم، وركب الفرس أكتافهم، فبادر رجل من ثقيف إلى قطع الجسر؛ ظنًّا منه أنه بذلك يمنع الفرس عن المسلمين فكانت الطامة؛ إذ أخذت السيوف المسلمين من كل ناحية، فتهافتوا في الفرات، واستطاع المثنى في حماية نفر من المسلمين أن يعقد الجسر، وعبر المسلمون إلى المروحة عائدين إلى مكانهم. وأصيب المثنى بجراح وهو يعقد الجسر. وفر ألفان من المسلمين وقتل أربعة آلاف منهم. وبقي المثنى في ثلاثة آلاف فحسب3. وكانت هزيمة الجسر.
هذه أول هزيمة صادفها المسلمون؛ ولهذا كان أثرها في المسلمين أليمًا وعنيفًا، حتى ليتجاوز ميدان المعركة إلى المسلمين في المدينة؛ حيث لجأ الفارون. ورأى عمر بثاقب رأيه
1 الطبري 1/ 4/ 2168-2170.
2 الطبري 1/ 4/ 2172.
3 الطبري 1/ 4/ 2174-2182.
أن يحتضنهم، وأن يعتبرهم متحفزين لقتال؛ ليداري افتضاحهم في ثباتهم ورجولتهم فيقول: أنا فئة كل مسلم1.
انحدر المثنى بجنده جريحًا إلى أليس، فقد خشي أن يتعقبه بهمن واضعًا في تقديره قوة عدوه وقوته، وصح ما توقعه المثنى، فقد تجهز بهمن لتعقبه، إلا أن الأنباء واتته بتجدد الاضطرابات في المدائن، واختلاف الفرس فرقتين، إحداهما مع رستم والأخرى مع الفيروزان. فعاد بهمن إلى العاصمة، وخلف من ورائه جابان ومردانشاه في كتيبة من الجند، فسارا يتعقبان المثنى، فخرج إليهما وأسرهما وأصحابهما، وضرب أعناقهم جميعًا. فقد خدعا أبا عبيد يوم أسرا بالنمارق، وعاد إلى حرب المسلمين. وفي هذا الوقت كان عمر في المدينة يحشد أمدادًا من بجيلة وضبة. وممن ظهرت توبتهم من أهل الردة. وأدرك المثنى أن هذه الإمدادات تحتاج إلى وقت طويل حتى تصل إليه، وسرعان ما تنتهي الاضطرابات في العاصمة حتى يعود الجند تتقدمهم الفيلة، فبعث إلى من يليه من قبائل العرب فتوافوا إليه في جمع عظيم، بينهم نصارى بني النمر، ونقل عسكره من أليس إلى مرج السباخ بين القادسية وخفان ليكون على تخوم العرب يلجأ إليهم عند الحاجة. وكان عمر يتصور حال المثنى وموقفه الدقيق، فضاعف جهده في ندب الناس المتثاقلين، بعدما رأوا فالة الجسر وفرارهم، فاستصلح عمر جرير بن عبد الله البجلي في جمع من بجيلة، وحذا الناس حذو بجيلة، فانضم إليهم من فر يوم الجسر وكثير من الأزد، وبني كنانة، وخلق كثير من مختلف القبائل، وتحمل الناس ومعهم نساؤهم وساروا يريدون المثنى.
وانتهى الخلاف بين رستم والفيروزان، وهالتهما أنباء الأمداد التي تسير تباعًا إلى العراق، فجمعا جندًا عظيمًا، جعلا عليه مهران الهمذاني. وسار مهران في جنده تتقدمه الفيلة، وفي خاطره أن يحرز نصرًا يُنسي الناس انتصار بهمن يوم الجسر. وقد علم المثنى بمسيره، فسار إلى البويب مكان الكوفة الحالية بعد أن كتب إلى أمراء الأمداد بموافاته فيها. وسار مهران حتى وقف قبالة جيش المسلمين، لا يفصل بينهما غير النهر. وأرسل يخير المسلمين في العبور، ولم يكن المثنى قد نسي ما حدث لأبي عبيد. فعبر الفرس إلى البويب، وتعبئوا في صفوف ثلاثة على كل فيل. ولم يكد المسلمون يمسعون التكبيرة
1 البلاذري ص252.
الأولى حتى أعجلهم الفرس فشدوا عليهم، فاختلت صفوفهم؛ ولكنهم عادوا فشدوا، وترجحت المعركة حامية الوطيس حتى حمل المثنى على قائد الفرس فأزاله عن مكانه، ودخل في ميمنته. ورأى الفرس ما حدث فاندفعوا يحمون قائدهم، وتقهقر القلب تحت ضربات المسلمين إلى النهر يريدون العبور، فسبقهم المثنى والمسلمون فردوهم عنه. فازداد اضطرابهم بعد أن حصروا فقتلوا شر قتلة، حتى لقد سُمي يوم البويب بيوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل من المسلمين قتل كل منهم عشرة من الفرس، وأمعن المسلمون يتعقبون الفالة إلى الليل، وأحصوا القتلى مائة ألف من الفرس، تلوح عظامهم تلولًا1.
انتصر المسلمون انتصارًا مبينًا، تطهروا فيه من عار هزيمتهم يوم الجسر، وإن كانوا فقدوا عددًا كبيرًا بين جريح وقتيل. ولم يضيع المثنى وقتًا، فأمر قواده فانطلقوا في السواد حتى بلغوا ساباط على مرأى من المدائن وجيوش الفرس تفر أمامهم فرار النعام. وانطلق هو فغزا الخنافس والأنبار أيام سوقهما فنال منهما غنمًا كثيرًا. فبلغ المسلمون دجلة وأغاروا على قرية بغداد. وبلغوا تكريت يقتلون المقاتلة، ويسبون الذرية ويستاقون الأموال. ودان بهذه الغزوة العراق لسلطان المسلمين كرة أخرى2.
وتدبر الفرس موقفهم. فما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن، والخلافات عادت جذعة بين رستم والفيروزان، حتى ضج الفرس منهما، وأنذروهما إن لم يجتمعا على حرب المسلمين. وقد استجابا وتشاورا على تنصيب يزد جرد بن شهريار، واجتمع الفرس عليه وتباروا في معونته، وأعدوا العدة للثأر. وعلم المثنى بذلك، فكاتب الخليفة الذي أبطأ رده، فلم يرَ المثنى بُدًّا من أن ينسحب كرة أخرى إلى تخوم شبه الجزيرة، فنزل بذي قار ينتظر مدد الخليفة.
وفي نفس الوقت بدأ يزدجرد حركة عامة للحشد، استعدادًا لمعركة فاصلة فسمي جند الأماكن التي سيطر عليها المسلمون، فثارت هذه الأماكن وكفر أهل السواد، في الوقت الذي خرجت فيه الزحوف من المدائن، واهتزت، الأرض بالمسلمين، وجاءهم أمر الخليفة بأن يتفرق المسلمون بين المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضهم مسالح..
1 الطبري 1/ 4/ 2193-2199.
2 الطبري 1/ 4/ 2202-2207.
مسالح، يغيث بعضهم بعضًا، وكان قد كتب إلى عماله بألا يدعوا فارسًا أو ذا نجدة أو سلاح أو رأي إلا اجتلبوه. وما كاد يعود من الحج حتى وافاه الجند من كل صوب، وخرج فيهم إلى صرار في المحرم سنة 14هـ فعسكر بها، لا يدري ما يصنع. وعقد مؤتمرًا عسكريًّا، ضم أولي الرأي الذين أجمعوا على أن يقيم عمر، وأن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كسعد بن أبي وقاص وكان على صدقات هوازن وأجمع المسلمون عليه، فسرحه في أربعة آلاف ممن اجتمع إليه. وكانت بعض الجموع قد لحقت قبله بالمثنى، وقد كان بهذا الجيش خلاصة الأمة الإسلامية وقتئذ؛ إذ لم يدع عمر رئيسًا ولا ذا رأي أو سلطة أو نجدة ولا شاعرًا أو خطيبًا إلا رماهم به، فضلًا عن بضعة وسبعين بدريًّا، وثلاثمائة من أبناء الصحابة. وقبل أن يصل سعد مات المثنى متأثرًا بجراحه يوم الجسر ويوم البويب، تاركًا وصيته لخلفه في معالجة الفرس.
واستمرت المكاتبات بين سعد والخليفة ينصحه ويوجهه ويأمره بأن يرسل إلى الفرس من أهل المناظرة والرأي، فاختار قومًا أجلاء، تحدثوا إلى يزدجرد وقواده أحاديث شائقة وبارعة عن روح الإسلام، التي لم يستطع الفرس إدراك أثرها في حياة العرب. وفصل رستم من المدائن في تعبئة كبرى وعدد جنوده زهاء مائة وعشرين ألفًا، وسارت طلائعه حتى وصلت الحيرة فنزلت بها، وسار رستم حتى أتى النجف فعسكر بها، والطلائع تسير أمامه، ولم يزل الجيشان يتقاربان حتى وقف رستم على العقيق، وسعد أمامه.
والتقى الجيشان على الدعاء والمكاتبات حتى خرس صوت المنطق، وأجمع رستم أمره على العبور، وكان سعد قد عبأ جيشه، فأقام بأعلى القصر لمرض كان به، يشرف على المعركة من عل، ويرمي بالرقاع إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل منه.
وكان وراء الفرس العقيق، ووراء المسلمين الخندق، وميدان المعركة بين ذلك، وعند الظهر أنشب أهل النجدات القتال، وأشعل الرجاز أوار الحماس. وكان سعد قد أمر الشماخ، والحطيئة، وعبدة بن الطبيب، والمغيرة بن شعبة، وعاصم بن عمرو، وعمر بن معديكرب وغيرهم ليقوموا في الناس بما يحق عليهم، يذكرونهم ويحرضونهم على القتال1.
1 الفاروق، هيكل ص168.
وأقبل أهل فارس عليهم في مثل حماسهم، يلبون نداء من يريدون نزالهم. وكان غالب بن عبد الله الأسدي في مقدمة من خرجوا يبارزون، وأخذ يرتجز، فخرج إليه هرمز فأسره غالب وجاء به سعدًا، ورجع إلى المطاردة. وبينما هو يرتجز طارد فارسيًّا نفر منه. فلقي فارسًا معه بغل، ففر الفارس، فاستاق عاصم بن عمرو البغل والرجل، فإذا الرجل خباز الملك، وإذا في الرحل طعام رستم، فنقله سعد للمسلمين ليأكلوه.
وكبر سعد التكبيرة الرابعة -وكان القراء قد انتهوا من سورة الأنفال- فالتقى الجيشان. وأبلى أبطال المسملين بلاء لم يعرف له نظير. ورأى الفرس بني بجيلة وعليهم جرير بن عبد الله يصولون ويجولون، فوجهوا إليهم ثلاثة عشر فيلًا، حملوا عليهم ففرت خيلهم نفارًا، وبقي الرجال وتكاد الفيلة تبيدهم. ورأى سعد ما أصاب بجيلة، فأرسل إلى بني أسد ليذبوا عنهم، فخرج إليهم طليحة بن خويلد وجماعة من قبيلته، فشدوا عليهم، فما زالوا يطعنونهم حتى حبسوا الفيلة عنهم. لكن الفيلة عادت فحملت عليهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو ليرى رأيه في الفيلة، فنادى عاصم الرماة ليذبوا ركبان الفيلة بالنبل، فاستدبروها وقطعوا وضنها وضربوها بالنبل، فارتفع عواؤها وألقت بركبانها فقتلوا. ونفس عن أسد وعن بجيلة جميعًا، بعد أن قتل من أسد وحدها أكثر من خمسمائة1.
وظل سعد مشفقًا من مصير المعركة؛ لما كان يراه من شدة الفرس وكثرة عددهم وفعال فيلتهم. وانقضى النهار وغربت الشمس والقتال لا يزال حاميًا وطيسه. فلما ذهبت هدأة من الليل رجع الجيشان كل إلى مواقعه، وكل يحسب للغد حسابه، والمسلمون أشد لهذا الغد حسابًا، بعدما نزل بهم في اليوم الأول من كوارث.
فلما تنفس الصبح شغل العرب والفرس بدفن القتلى ونقل الجرحى، وقد دفن المسلمون قتلاهم بالعذيب، ونقلوا الجرحى إلى النساء ليقمن على العناية بهم. وبينما هؤلاء وأولئك في شغل بهذا الأمر كان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص يغذ السير في ستة آلاف من المسلمين الذين فصلوا من الشام تنفيذًا لأمر عمر إلى أبي عبيدة بأن يرد جيش العراق إليه بعد أن ينصره الله بدمشق. فلما فتحت دمشق وانتصر المسلمون بفحل انطلقوا مددًا لسعد، وعلى مقدمتهم القعقاع في ألف من شجعان المسلمين، وعجله هاشم أمامه
1 مروج الذهب ج2، ص205.
ليدرك سعدًا قبل فوات الوقت. وأراد القعقاع أن يشد عزائم المحاربين في هذه الوقعة الخطيرة، فقسم رجاله الألف عشر فرق، وعهد إليهم ألا تسير فرقة حتى تكون الفرقة التي سبقتها على مدى البصر، ثم سار على رأس الفرقة الأولى، ثم تقدم الصفوف يستفتح القتال، فخرج إليه بهمن جاذويه، فصاح القعقاع: يا لثارات أبي عبيد!! وانقض عليه فأورده حتفه، وتنشط الناس وهم يرون صنيع القعقاع ولم يروا الفيلة بينهم. وبدأت فرق القعقاع تفد، والمسلمون يكبرون، حتى خيل إلى الفرس أن لا آخر لها، وأبلى القعقاع وأبو محجن الثقفي في هذا اليوم بلاء عجيبًا، فقد حمل القعقاع ثلاثًا وثلاثين حملة يقتل في كل منها رجلًا1. وصنع أبو محجن أفاعيل بالفرس تكاد تكون أساطير.
واتصل القتال إلى منتصف الليل، والمسلمون يرون فيه الظفر. وقد رفه عن المسلمين غياب الفيلة، وأن بني عم القعقاع برقعوا إبلًا وجللوها ودفعوها تحمل على الفرس كأنها الفيلة، فولت خيولهم نفارًا من منظرها، ولقيت منها ما لقيت خيول المسلمين يوم "أرماث" فركبتهم قوات المسلمين، وأعملوا فيها السيوف قتلًا وبترًا. وتنصف الليل والمسلمون يزاحفون عدوهم يريدون إجلاءه عن مواقعه فيصيبون منه ويكثرون القتل فيه، ويكادون يظفرون به لولا كثرة عدده وشدة مقاومته. ولم يجد كل من الفريقين بُدًّا من أن يرجع إلى عسكره، يعيد تنظيم صفوفه؛ ليعود في الصباح إلى الزحف ابتغاء الظفر.
واطمأن سعد ونام، فقد وجد الناس مغتبطين، ينتمي كل منهم إلى قبيلته. أما القعقاع بن عمرو فبات ليله يسرب أصحابه الذين جاءوا معه من الشام إلى المكان الذي كانوا فيه بالصحراء صبح أغواث، وأمرهم أن يقبلوا مائة مائة إذا طلعت الشمس، على نحو ما فعلوه في أمسهم، فإن أدركهم هاشم بن عتبة وجاء بمن معه فذاك، وإلا فقد جددوا للناس رجاء في المدد. وأصبح الناس والجيشان في مواقفهم، وبين الصفين ألفان من المسلمين بين قتيل وجريح، وعشرة آلاف من الفرس. فدفن كل جيش قتلاه ونقل جرحاه. ووقف القعقاع في المؤخَّرة حين طلعت الشمس ينظر إلى ناحية الصحراء، فلما بدأت خيله تقبل كبر وكبر الناس معه. وكان هاشم قد أدرك رجال القعقاع وعرف ما صنع صاحبه، فقسم رجاله فرقًا تتلاحق دراكًا، فبلغ القادسية حين أخذ المسلمون مصافهم
1 المرجع السابق.
للقتال، فلما رآه الناس ورآهم كبر وكبروا معه، واندفع هاشم إلى القلب حتى بلغ النهر وهو يرمي العدو، ثم عاد فكرر فعله فلم يجرؤ أحد على مصاولته. ولم يضعضع هذا من عزم الفرس، فقد أصلحوا توابيت الفيلة واقتحموا بها المعركة. ومنذ طلعت الشمس ورآها سعد تفعل الأفاعيل وتفرق بين الكتائب سأل جماعة من الفرس الذين أسلموا عن مقاتلها. فقالوا: مشافرها وعيونها. وقد تمكن القعقاع وأخوه عاصم من الفيل الأبيض فوضعا رمحيهما في عينيه، وكذلك فعل حمال والربيل بالفيل الأجرب. وهرولت الفيلة فأحدثت هرجًا ومرجًا بين صفوف الفرس، وتواثبت في العقيق وقد ألقت ركبانها، وتخطت الماء مدبرة ولم تعقب.
وواصل الجيشان القتال، وكأنما دار بخواطر الجند من الفرس والعرب ألا يضعوا السلاح حتى يحسم بينهم. وهدأ وطيس القتال حين أقبل الليل، وقدر سعد أن الجيشين سيقضيانه في الاستعداد ليوم رابع، ولكنه خشي أن يأتيه العدو من مخاضة بأسفل العسكر، فأرسل طليحة وعمرو بن معديكرب في جماعة وأمرهما بأن يقيما فيها حتى يأتيهما أمره، وسولت لهما نفساهما أن يخوضاها فيأتيا العدو من خلفه، واختلفا كيف يفعلان، فأخذ طليحة مكانه وراء العسكر، وكبر ثلاث تكبيرات، ارتاع لها أهل فارس فظنوا أن جيش المسلمين أزمع الغدر بهم، وظن المسلمون أن الأعاجم فتكوا برجالهم، فأغار عمرو على جماعة من الفرس أسفل المخاضة، فلم يعد لديهم ريب في غدر المسلمين بهم فزحفوا، ورأى القعقاع صنيعهم فزاحفهم دون استئذان سعد، ولكن سعدًا يطل فيراه يزاحفهم فيقول: اللهم اغفرها له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني، وتبعه المسلمون دون انتظار لتكبير سعد، واستقبلوا الفرس بالسيوف وخالطوهم. فكان للسيوف قعقعة، والمقاتلون لا يتكلمون بل يصيحون، والقتال يشتد ويحمى وطيسه كلما تقدم الليل. وبات الجيشان يقتتلان أشد قتال وأقساه، ولم يغمض لأحد من الجند تلك الليلة جفن. فلما أصبح الصباح جعل المسلمون ينتمون إلى قبائلهم، ولم يكن النصر قد عقد لواءه لأحد من الفريقين، وسار القعقاع في الناس يقول: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فأصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فحمل المسلمون حتى الظهيرة في جلاد باسل، حتى بدأت صفوف الفرس تضطرب وتراجع الفيرزان والهرمزان في المجنبتين، فانفرج القلب وهبت ريح أطارت طيارة رستم إلى العتيق، وزحف القعقاع بمن معه إلى
سريره، ففر رستم إلى النهر واقتحم وراءه نفر من فرسان المسلمين، وصَعِدَ أحدهم على سريره يصيح: قتلت رستم ورب الكعبة!! إليَّ إليَّ، وطاف به الجند يهللون ويكبرون. وأسقط في يد الأعاجم ووهنت قوتهم، وانهد ركنهم، وقام الجالينوس يعبر بقومه النهر، لكن الردم انهار بهم في النهر، فغرق بانهياره ثلاثون ألف فارس مقترنين بالسلاسل، وانهزم جيش الفرس وانطلقت فلوله يولون الأدبار.
وأمر سعد فخرج القعقاع وشرحبيل وزهرة بن حوية يتعقبونهم، وأدرك زهرة الجالينوس يجمع المنهزمين فقتله. وجعل المسلمون يقتلون من يلونهم من الفرس ويأسرونهم دون مقاومة وجمع الناس الأسلاب والأموال، فإذا هي شيء لا يحيط به خيال عربي، حتى لقد بلغ عطاء الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين. وزاد أهل البلاء كل واحد منهم خمسمائة -فضلًا عن الخمس- وما بقي بعد ذلك كثير، نحاه سعد ليبعث به إلى المدينة، وأمر عمر بتوزيعه فيمن لحق بسعد ولم يشهد الموقعة، وفي حملة القرآن.
وهكذا انتهت المعركة إلى النصر الحاسم، حين كان الناس في كل الأرجاء من شبه الجزيرة يتطلعون ببصائرهم وقلوبهم إلى ناحيتها، وهم على أحر من الجمر شوقًا لمعرفة أنبائها من العذيب إلى عدن، ومن الأبلة إلى بيت المقدس، يتربصون وقعة القادسية، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدًا يكشف ما يكون من خبرهم1.
انطلق المسلمون في وادي العراق من أعلاه إلى أسفله، فعاد الناس جميعًا إلى طاعتهم، معتذرين عن ولائهم للفرس بأنهم غُلبوا على أمرهم، وسعد يعذرهم تألفًا لهم، وحرصًا على أن تسود الطمأنينة ربوعهم. فأقلبت قبائل العرب المنتشرة فيما بين النهرين يعلنون إيمانهم بالله وبرسوله. وقد مكث سعد بالقادسية شهر المحرم سنة 15هـ، وارتحل في نهايته بجيشه الذي أصبح معظمه فرسانًا لكثرة ما غنموا من الخيل، ولقيتهم في سيرهم فلول القادسية، وعليهم الهرمزان فهزمهم المسلمون. وبلغ سعدًا تجمع فلول الفرس ببابل، فسار إليهم وهزمهم. وأقام ببابل حيث سير من هناك مقدمته مع زهرة بن حوية إلى بهرسير أو المدائن الدنيا على شاطئ دجلة الغربي، فحاصرها شهرين وفتحها الله
1 الطبري 1/ 5/ 2264.
عليهم، ففر أهلها إلى الجهة الشرقية حيث المدائن القصوى -معقل الساسانيين وعاصمتهم- وأصبح من المحتم على زهرة أن يعبر دجلة، واستطاع بمعاونة بعض أهل البلاد أن يصل إلى مخاضة عبر خلالها المسلمون خوضًا، وفي سرعة أذهلت أهل المدائن، الذين فوجئوا بالمسلمين دون أن يروا سفينًا يقلهم إليهم، فتركوا المدائن وفروا، وكان يزدجرد قد سبقهم بالفرار إلى حلوان، وفي المدائن غنم المسلمون أموال كسرى وخزائنه وجواهره1.
وبفتح المدائن تنتهي المرحلة الثانية في هذه الفتوح، من الخطة التي رسمها أبو بكر، وتبدأ المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة:
أقام المسلمون بالمدائن ما يزيد على سنة، لاحظ خلالها الخليفة عمر انتفاء التواؤم بين المسلمين وبيئتهم الجديدة هذه، فكان أن أمر بارتياد الأرض، وباختطاط البصرة والكوفة. وقد تم للمسلمين تمصير الكوفة في المحرم من سنة 17هـ. وكانت أول أمرها مبنية بالقصب، وبنيت بعد ذلك باللبن بعد تعرضها للحريق. وفي نفس العام بنيت الأبنية بالبصرة التي كان المسلمون قد نزلوها في أواخر سنة 13هـ وأوائل سنة 14هـ، ولم يتم تخطيطها إلا مع الكوفة.
ومنذ هذا التاريخ صارت الكوفة والبصرة مركزين حربيين، تفصل منهما الجنود لحرب الفرس، وصار لكل منها جند خاص، ومناطق بعينها يناط بها فتحها وتنسب إليها. وصار المسلمون يفدون على عمر يشكون ضيق منازلهم بهم، ويطلبون السماح لهم بضم مناطق بعينها إليهم دون غيرهم2.
وتكاد الفتوح في أطراف فارس تكون نتيجة مجهودات أهل هذين المصرين، بالإضافة إلى البحرين التي انطلق منها المسلمون لغزو فارس وكرمان، وكان أول ذلك عمل العلاء الحضرمي، في مغامرته التي عضده فيها أهل البصرة في طاوس3، ثم في موقعة أصطخر التي تولاها الحكم بن العاص أواخر عهد عمر، وتمخض عنها فتح كرمان4.
1 الطبري 1/ 5/ 2434.
2 الطبري 1/ 5/ 3538.
3 الطبري 1/ 5/ 2545.
4 الطبري 1/ 5/ 2698.
وأسهمت الكوفة في إخضاع الجزيرة التي كانت بمثابة قاعدة حربية لحلفاء الروم من نصارى العرب، مما رفه عن المجاهدين في الشام1. وتتابعت فتوح أهل الكوفة، ففتحوا الري وأذربيجان وأرمينية، وطبرستان، وجرجان2. بينما فتح أهل البصرة الأهواز وتستر ورامهرمز، وجند يسابور3.
وليس يعني استقرار الجند الإسلامي في هذين المصرين وفتحهما لهذه المناطق انتهاء المقاومة الفارسية الرسمية، فإن المنهزمين في المدائن فروا إلى جلولاء، وأزمعوا أن يستميتوا في درء المسلمين والتفاني في ذلك، فاحتفروا خندقًا حول جلولاء، أحاطوه بحسك الخشب والحديد، وقاموا ينتظرون المسلمين، وأمر عمر سعدًا بأن يسرح إليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاس، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو. فسار هاشم في اثني عشر ألفًا حتى نزل على الفرس. وكان كسرى قد أمد قواته من حلوان بالأموال والرجال. وأحاط المسلمون بالحصن، وزاحفوا الفرس ثمانين زحفًا لم تسفر عن شيء، إلى أن اقتحم المسلمون الحصن في هجوم عارم، ترك الفرس بعده المدينة للمسلمين4.
وبعد أن فر الفرس أرسل هاشم بالقعقاع على رأسه حملة إلى حلوان، على حافة المرتفعات الفارسية بجبال الصقر تتبع الفارين واحتلها، بعد أن فر يزدجرد إلى الري5.
وأخذ سعد يبسط راية الإسلام في أنحاء الجزيرة وفارس، فوجه عبد الله بن المعتم إلى تكريت بالجزيرة، فاستمال من بها من إياد وتغلب، والنمر، ووجه بضرار بن الخطاب إلى مامبذان، حيث كان آذين أحد عظماء فارس قد جمع جمعًا عظيمًا من الفرس والعرب وخرج بهم إلى السهل، وتمكن ضرار من قتله، والاستيلاء على الناحية6.
1 ياقوت ج2، ص74.
2 الطبري 1/ 5/ 2805، 2836.
3 الطبري 1/ 5/ 3534.
4 الطبري 5/ 2472.
5 فيليب حتى وآخرون ص212.
6 ياقوت ج4 ص393.
كما أرسل عمرو بن مالك الزهري إلى "هيت" و "قرقيسيا" فاضطر أهلهما إلى النزول على الجزية1. وبهذا صار السواد كله بيد المسلمين، فمهدوا طرق إدارته، وأقاموا الجند مرابطة في الثغور بينهم وبين الجبال.
وبعد سقوط السواد، وهزيمة الفرس في جلولاء، انهارت خطوط المقاومة الفارسية، إلا أن بقاء يزدجرد -ذلك الملك الشاب- كان لا يزال رمزًا حيًّا للوطن السليب، فجمع حوله الفلول، وعلى الرغم من أن الخليفة كان يرى الاقتصار على ما بيد المسلمين من سواد العراق، ويتمنى لو كان بين السواد والجبل سد يفصل بين العرب والفرس، فإن المسلمين لم يجدوا بُدًّا من مطاردة هذا الرمز، فظلوا يتعقبون يزدجرد؛ لأنه الذي يبعث المقاومة.. "ولن يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا، فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه عن مملكته وزعامته، فينقطع رجاء أهل فارس"2.
وكان يزدجرد قد فر من حلوان، أمام هاشم بن عتبة إلى إقليم فارس، جنوبي إيران؛ حيث تحول إلى الري ومنها إلى قرميسين، يطارده المسلمون حتى استقر في نهاوند. وفي نهاوند كان اهتمام عمر أشد من اهتمامه بالقادسية، حتى لقد راودته نفسه الخروج إليها، ولكن المسلمين رأوا له خلاف ما رأى لنفسه. وكذلك كان اهتمام الفرس بها عظيمًا؛ إذ كتب يزدجرد إلى عماله، فاجتمع من الفرس من أهل الجبال -من بين الباب إلى حلوان- ثلاثون ألف مقاتل، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألفًا، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألفًا أخر. واجتمعوا جميعًا إلى الفيرزان3.
وتحصن الفرس بالحصون والخنادق. وكان على المسلمين النعمان بن مقرن، الذي عقد مؤتمرًا عسكريًّا للتشاور في أمر الحرب، شهده أبطال المسلمين كالقعقاع وطليحة وعمرو بن معديكرب وغيرهم. وانتهى الرأي إلى أن يبدأ القعقاع القتال حتى يخرج إليه الفرس من حصونهم وخنادقهم فيقتلهم المسلمون. وتم هذا الترتيب الحربي كما قدر له. وبدأ القتال واشتد، وقتل قائد المسلمين، وأُخفي خبر استشهاده، واستلم حذيفة بن اليمان الراية، وما أتى المساء حتى أتت معه الهزيمة للفرس، ودخل المسلمون نهاوند واحتووا ما حولها.
1 ياقوت ج2، ص65.
2 الطبري 1/ 5/ 2551.
3 الطبري 1/ 5/ 2608.
وقد سميت هذه الموقعة بفتح الفتوح؛ لأنه لم يكن بعدها كبير حرب، وتابع القعقاع المنهزمين حتى همذان، فاحتواها وملكها المسلمون1.
وقد وضع سقوط نهاوند بعد كل هذا الحشد الذي حشده الفرس نهاية للمقاومة الفارسية الرسمية، وأصبحت المقاومة جهودًا فردية، يقوم بها حكام المقاطعات في غير تساند أو نظام لحماية "يزدجرد" فحسب. وعملًا بنصيحة الأحنف بن قيس في وجوب القضاء على يزدجرد أذن عمر للمسلمين بالانسياح في بلاد الفرس لقطع دابر الشغب، حتى ييئس الملك من عودة ملكه إليه، فلا يظل شوكة في جنب المسلمين، وييئس الفرس فلا يجتمعون حوله.
عين عمر رؤساء الجند لافتتاح فارس، وأرسل إليهم بالألوية، الأحنف بن قيس إلى خراسان، وعثمان بن أبي العاص الثقفي إلى أصطخر، وسارية بن زنيم الكناني إلى فاسودراخرد، وسهيل بن عدي إلى كرمان، وعاصم بن عمرو التميمي إلى سجستان، والحكم بن عمير التغلبي إلى مكران.
وكان يزدجرد قد لجأ إلى أصفهان من نهاوند، فتابع المسلمون تقدمهم حتى غلبوا عليها. فكان أن تحدر هو إلى أصطخر2، ولكنها لم تكن الملجأ الحصين؛ إذ كان المسلمون يتقدمون من البصرة إلى الأهواز وخوزستان، ويقفزون من البحرين إلى الشاطئ الشرقي المقابل للخليج الفارسي، فغادر يزدجرد أصطخر إلى المقاطعات العليا من طبرستان، يلبي دعوة جاءته من مرزبانها3.
وبعد أن يحتل المسلمون أصطخر ينساحون في مواطن متفرقة عن إذن عمر. وتترى مدن خراسان تتساقط في يدي الأحنف.. الطبسين.. فهراء.. فمرو الشاهجان.. فنيسابور. ثم يهرب يزدجرد إلى خاقان، ملك الترك فيما وراء النهر4.
ولا يلبث ولاء أمراء المقاطعات ليزدجرد أن يتناقص بازدياد تفكيرهم في مطامعهم الشخصية، والرغبة في الاحتفاظ بنفوذهم. وبعد سلسلة طويلة من التنقلات يقتل يزدجرد في مرو، وبقتله يسقط التاج الساساني إلى الأبد.
1 ياقوت ج4 ص838.
2 الطبري 1/ 5/ 2562.
3 بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية ص126.
4 ياقوت ج4 ص409.
وكان المسلمون قد بلغوا في تتبعهم ليزدجرد إلى حدود النهر، فكتب عمر إلى الأحنف بطل هذه الوثبة بألا يجوز النهر، وبأن يقتصر على ما دونه1، ولكن انسياح المسلمين لم يتوقف؛ لأن انتقاض البلدان والمناطق المفتوحة لم يتوقف هو الآخر، فلم يبقَ إقليم لم ينتقض بعد فتحه، وبخاصة في أطراف المنطقة الشرقية بخراسان، التي اشتد انتقاضها وكفرها في خلافة عثمان2.
وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يستشرفون نهر جيحون كانت جيوش أخرى تجوز الخليج الفارسي؛ لتنساح في منطقة فارس وسواحل كرمان، ثم تتقدم بعد ذلك إلى مكران، حتى تبلغ قريبًا من السند. ويذكر أن عمر كان قد أوصى بألا يتقدم المسلمون إلى كرمان، بعد أن أخبره صحار العبدي بسوئها.. ولكن الحكم بن عمير التغلبي يتقدم إليها ويجوزها. وتوالت ظروف الانتقاض والثورة، فلم يستطع المسلمون الإذعان لهذا الأمر ولم يقنعوا بما في أيديهم.
وتكاد تذهب خلافة عثمان رضي الله عنه كلها في محاولة تأكيد الفتح الإسلامي، والمحافظة على الثغور، وإعادة من شق العصا إلى الطاعة، إذا ما استثنينا فتح طبرستان، الذي تم على يد سعيد بن أبي العاص سنة 29هـ. فهذه أذربيجان تنتقض في إمارة الوليد بن عقبة سنة 25هـ فيغزوها ويعيدها إلى ما كانت عليه3. وهذه فارس تنتقض في ولاية عبد الله بن عامر على البصرة، ويقتل أهلها أميرهم عبيد الله بن معمر، فيسير إليهم عبد الله بن عامر ويستردها4.
وأخذ المسلمون يتدفقون لاستثمار انتصاراتهم في خراسان، معبرين عن مدى الانطلاق الروحي، راغبين في القضاء على المقاومات والانتقاضات. فأخذنا نسمع عن أول من عبر النهر؛ كعبد الله بن عامر والحكم بن عمرو الغفاري وسعيد بن عثمان، الذي ولاه معاوية خراسان5، إلى أن يستكمل فتح هذه المنطقة قتيبة بن مسلم.
وهكذا تصير إلى العرب تلك المنطقة، التي يحدها من الغرب نهر الفرات، ومن الشرق نهر جيحون والسند، ومن الجنوب المحيط الهندي، ومن الشمال أرمينية وطبرستان في فترة وجيزة من الزمن، برغم أن مثل هذه الأعمال العظيمة لا تقاس بالفترات ولا بالسنين.
وقد رافق الشعر المسلمين في تقدمهم خطوة بخطوة، طوال هذا الطريق المشرق، وواكب المد المنطلق إلى غايته، كما سنرى فيما بعد.
1 الطبري 1/ 5/ 2685.
2 الطبري 1/ 5/ 2689.
3 ياقوت ج1، ص173.
4 ياقوت ج2، ص412.
5 البلاذري ص408، 412.