الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
القعقاع شاعر الفتوح:
وكما لا تذكر الروايات شيئًا عن حياته في الجاهلية، فإنها لا تذكر شيئًا عن شعره أو ما يفيد معرفة به قبل الإسلام، فمجموع شعره إسلامي، أو بعبارة أدق: ليس له شعر إلا في الفتوح التي أنطقته بالشعر. وقد أسهم هذا إلى جانب وضوح حياته وبلائهفي الفتوح في تواتر شعره، وازدياد الثقة بصحته جميعًا؛ إذ يقترن شعره بحياته خطوة بخطوة، ويتفق مع الأحداث التاريخية اتفاقًا تامًّا.
وعلى هذا فشعره يمكن أن يعد وثيقة تاريخية بالغة القيمة، فهو مرآة لأحداث الفتوح التي عاشها الشاعر الفارس وعاصرها؛ حيث تنعكس عليه جميع جوانبها، من تحركات وتحولات وقتال ونصر واستشهاد، ولم يحدث أن تحركت كتيبة من مكان إلى مكان، أو تحولت من ميدان إلى ميدان، ولا من معركة إلى معركة إلا وسجل شعره ذلك، حتى لتختلف الروايات التاريخية في أمر الفتوح الأولى في الشام، وشهود كتيبة خالد هذه الفتوح، فإذا بشعره يسجل الوقائع التي حدثت في الشام مرتبة ترتيبًا زمنيًّا، مبتدئًا بسقوط خالد على بني غسان في ديارهم، متنقلًا إلى بصرى؛ حيث التقى بسائر جند المسلمين ومتنهيًا إلى اليرموك، فقال:
بدأنا بجمع الصفرين فلم ندع
…
لغسان أنفا فوق تلك المناخر
وجئنا إلى بصرى وبصرى مقيمة
…
فألقت إلينا بالحشا والمعاذر
فضضنا بها أبوابها ثم قابلت
…
بنا العيس في اليرموك جمع العشائر1
ولم يترك معركة اشترك فيها إلا وصورها في شعره، مشيدًا ببطولته وبطولة المسلمين، فعل ذلك في الحفير، وفي الولجة، وفي الثني، وفي الحيرة، وفي الحصيد، وفي الخنافس والمصيخ، وعند اليرموك، ودمشق، وفحل، وفي القادسية، والمدائن، وجلولاء، وحلوان، وأخيرًا في نهاوند.
ويكاد يكون القعقاع لهذا أكثر شعراء الفتوح شعرًا وأغزرهم إنتاجًا، فله في كل موقعة من هذه المواقع مقطوعة أو أكثر.
وينصرف شعره كله في الإشادة ببلائه وبلاء قومه، والإشادة ببطولات الفرسان من أصدقائه ورثائهم، وتصوير قسوة المقاومة التي يلقونها من الفرس وعرب القبائل والروم، والحوادث التي تقع في أثناء المعارك، فضلًا عن أرجازه التي كانت تهيب بالمسلمين أن يتقدموا للقاء أعدائهم. فهو يفخر بفعاله يوم نهاوند، حينما تعقب ركب الفيرزان وقتله عند ثنية العسل، ويذكر هتكه لبيوت الفرس، ومباغتتهم في قراهم فيقول:
1 ياقوت ج4، ص1015.
جذعت على الماهات في ألف فارس
…
بكل فتى من صلب فارس خادر
هتكت بيوت الفرس يوم لقيتها
…
وما كل من يلقى الحروب بثائر
جست ركاب الفيرزان وجمعه
…
على فتر من جرينا غير فاتر
هدمت بها الماهات والدرب بغتة
…
إلى غاية أخرى الليالي الغوابر1
ويتناول هذه الوقعة في مقطوعة أخرى، يصور فيها متابعته للفيرزان، وما كان من سقوط الفرس في خندق نهاوند، المسمى وادي خرد، فيقول مفتخرًا بصنيعه:
ويوم نهاوند شهدت فلم أحم
…
وقد أحسنت فيه جميع القبائل
عشية ولي الفيرزان موايلا
…
إلى جبل آب حذار القواصل
فأدركه منا أخو الهيج والندى
…
فقطره عند ازدحام العوامل
وأشلاؤهم في وادي خرد مقيمة
…
تنوبهم عبس الذئاب العواسل2
وقد تناول هذه المعركة كرة أخرى، مفتخرًا بقومه الذين أبلوا معه فيها بلاء حسنًا، وكأنه يدفع عنهم اتهامًا بالتقصير، ويعدد فعالهم بالفرس يوم نهاوند فيقول:
رمى الله من ذم العشيرة سادرا
…
بداهية تبيض منها المقادم
فدع عنك لومي لا تلمني فإنني
…
أحرط حريمي والعدو الموائم
فنحن وردنا في نهاوند موردا
…
صدرنا به والجمع حران داحم
ونحن حبسنا في نهاوند خيلنا
…
لشر ليال أنتجت للأعاجم
فنحن لهم بينا ونصل سجلها
…
غداة نهاوند لإحدى الفطائم
ملأنا شعابا في نهاوند منهم
…
رجالًا وخيلًا أضرمت بالضرائم
وراكضهن الفيرزان على الصفا
…
فلم ينجه منها انفساح المخارم
ألا أبلغ أسيدًا حيث سارت ويممت
…
بما لقيت منا جموع الزمازم
1 ياقوت ج4، ص405.
2 ياقوت ج4، ص896.
غداة هووا في واي خرد فأصبحوا
…
تعودهم شهب النسور القشاعم
قتلناهم حتى ملأنا شعابهم
…
وقد أنعم اللهب الذي بالصرائم1
ويصف أسلحة المسلمين في هذه الواقعة التي أثار المسلمون فيها الفرس بالرمي، ثم لجئوا إلى السيوف عندما خرجوا إليهم، فيقول مشيدًا بالمسلمين:
هم هدموا الماهات بعد اعتدالها
…
بصحن نهاوند التي قد أمرت
بكل قناة لدنة برمية
…
إذا كرهت لم تنتنى واستمرت
وأبيض من ماء الحديد مهند
…
وصفراء من تبع إذا هي رنت2
وفي ليلة الهرير: رأى القعقاع صديقه العزيز خالد بن يعمر التميمي يدافع الفرس ويبلي بلاء الأبطال، فأشاد بصنيعه، وقال في ذلك:
حضض قومي مضر حي بن يعمر
…
فلله قومي حين هزوا العواليا
وما خام عنها يوم سارت جموعنا
…
لأهل قديس يمنعون المواليا3
ولكن صديقه لا يلبث أن يسقط مجندلًا، فينطلق القعقاع وكأنه "آشيل" يرى صديقه "باتروكلوس" صريعًا، فيحس الفرس بسيفه مزاحفًا، دون أن يأذن له سعد، ويقول معبرًا عن أحاسيسه في هذه اللحظة، وما انطوى عليه صدره من غيظ ورغبة في الثأر:
سقى الله يا خوصاء قبر ابن يعمر
…
إذا ارتحل الغار لم يترحل
سقى الله أرضًا حلها قبر خالد
…
ذهاب غواد مدجنات تجلجل
فأقسمت لا ينفك سيفي يحسهم
…
فإن زحل الأقوام لم أتزحل4
1 ياقوت ج4، ص827، 896.
2 ياقوت ج4، ص405.
3 ياقوت ج5، ص2326.
4 الطبري ج5، ص2230.
والقعقاع الفارس الذي يشيد ببلائه في شعره لا يجد غضاضة في الشهادة بقدرة أعدائه، وبلائهم في الدفاع عن أرضهم، فيصور شجاعتهم وحمايتهم لبلادهم فيقول فيما كان من دفاع العرب الذين حشدهم الفرس بين الولجة وكثرتهم من بكر بن وائل:
ولم أرَ قومًا مثل قوم رأيتهم
…
على ولجات البر أحمى وانجبا
وأقل للرواس في كل مجمع
…
إذا ضعضع الدهر الجموع وكبكبا1
وعندما يجتمع الفرس والروم على ملاقاة المسلمين بالفراض، يصور القعقاع التقاء هذا الحلف وإبادة المسلمين لهم حتى صرعوا كالأغنام، قال:
لقينا بالفراض جموع روم
…
وفرس عمها طول السلام
أبدنا جمعهم لما التقينا
…
وبيتنا بجمع بني رزام
فما فتئت جنود السلم حتى
…
رأينا القوم كالغنم السوام2
وفي يوم أغواث قدم رسول من الخليفة بأربعة جياد وأربعة سيوف، لتقسم في أهل النجدة والبلاء، فاستحق القعقاع جوادًا لما قدم في هذا اليوم فيذكر هذه المكافأة ويشيد ببطولته:
لم تعرف الخيل العراب سواءنا
…
عشية أغواث بجنب القوادس
عشية رحنا بالرماح كأنها
…
على القوم ألوان الطيور الرسارس3
وخلف القعقاع بعض أراجيز كان يهدر بها عند لقاء الفرس في القادسية والروم في اليرموك، ففي يوم اليرموك كان على أحد كراديس القلب، يفعل بالروم الأفاعيل، ويجندل أبطالهم، وهو يرتجز بقوله:
يا ليتني ألقاك في الطراد
…
قبل اعترام الجحفل الوراد
وأنت في حلبتها الوراد4
1 ياقوت ج4، ص936.
2 ياقوت ج3، ص894.
3 ياقوت ج1، ص321.
4 الطبري ج4، ص2097.
وفي القادسية -في زحوفه الثلاثين يوم أغواث- كان يرتجز في كل زحف يحمل فيه، من مثل قوله:
أزعجهم عمدًا بها إزعاجا
…
أطعن طعنًا صائبًا ثجاجا
أرجو به من جنة أفواجا1
وكانت آخر حملاته في هذا اليوم تلك التي قتل فيها يزرجهر، فأنشد وهو يسقيه كأس حتفه:
حبوته جياشة بالنفس
…
هدارة مثل شعاع الشمس
في يوم أغواث فليل الفرس
…
أنخس بالقوم أشد النخس
حتى تفيض معشري ونفسي2
وكان رجزه بشيرًا بالنصر، عندما تناهى صوته إلى سعد، وهو يقول:
نحن قتلنا معشرًا وزائدا
…
أربعة وخمسة وواحدا
تحسب فوق اللبد الأساودا
…
حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا
الله ربي واحترزت عامدًا3
وهكذا نرى شعر القعقاع يمتد فيشمل جميع أغراض الشعر في هذا المقام، ويصور جوانب الحياة المختلفة في الفتوح الإسلامية تصويرًا دقيقًا، يجعل الاعتماد على شعره أمرًا ضروريًّا لكل من يُعْنَى بدراسة الفتوح، ورسم صورة كاملة لجميع أقطارها.
وكذلك كان رجزه أحد العوامل المثيرة في إقدامه وإقدام جنده في هذه الحملات العديدة التي صممها وقادها في اليرموك والقادسية.
ويكاد يكون شعره استغرق كل موضوعات الشعر التي خاض فيها شعر الفتح جميعه، اللهم إلا شعر الحنين، فلسنا نعرف له في هذا الموضوع شيئًا، وإن كنا نرجح أن سبب هذا وجود جموع كبيرة من أبناء عمومته معه في حرب العراق، ووجود زوجته
1 الطبري ج5، ص2311.
2 مروج الذهب ج2، ص206.
3 الطبري ج5، ص2333.
النخعية معه كذلك1. ويخلو شعره أيضًا من أية دلالات على حياته الخاصة أو عواطفه الشخصية في غير موضوعات الفتوح، وكأنما طرح الشاعر كل ما يمت إلى حياته الشخصية وراء ظهره، حينما استقبل حياة الطعان والجلاد. فإذا بنا لا نجد في شعره شيئًا يكشف لنا عن كنه شخصيته، إلا بما يميزها من الشجاعة والفروسية والفدائية المؤمنة، وتنعكس كل هذه الصفات في افتخاره بنفسه وعشيرته وبجماعة المسلمين.
وهو في هذا يشارك شعراء الفتوح جميعًا؛ إذ لم يعد لهم في حياتهم ما يعبرون عنه في شعرهم إلا ما هو ماثل أمام أعينهم، وما تمتلئ به وجداناتهم من أحداث وانفعالات.
وشعره كما هو واضح شعر بسيط لا غموض فيه ولا تعمل ولا زخرفة، فكل قصد هذا الشعر أن ينفس عما في وجدان صاحبه تنفيسًا بسيطًا، كاستجابة حرة وطليقة للعوامل النفسية التي تتلبس به.
ومن هنا نجد شعره متدفقًا، دون قسر في التعبير، أو تعسف في التصوير، أو جفوة في أفكاره، أو زخرف في ألفاظه؛ ولهذا فهو شعر صادق لا تكلف فيه، حار لا زيف فيه، وهو -أولًا وآخِرًا- صورة نفسية لذات صاحبه وأفكاره، فضلًا عن كونه سجلًّا حافلًا للفتوح التي أسهم فيها، وتاريخًا أدبيًّا لفروسيته.
1 الطبري ج5، ص2354.