المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يعذر بالخطأ فيه المجتهد الطالب، وما لا يعذر بذلك فيه - التبصير في معالم الدين للطبري

[ابن جرير الطبري]

الفصل: ‌القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يعذر بالخطأ فيه المجتهد الطالب، وما لا يعذر بذلك فيه

‌القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يعذر بالخطأ فيه المجتهد الطالب، وما لا يعذر بذلك فيه

.

6-

اعلموا –رحمكم الله- أن كل معلومٍ للخلق من أمر الدين والدنيا أن تخرج من أحد معنيين:

(أ) من أن يكون إما معلوماً لهم بإدراك حواسهم إياه.

(ب) وإما معلوماً لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم.

ص: 112

ثم لن يعدو جميع أمور الدين –الذي امتحن الله به عباده- معنيين: أحدهما: توحيد الله وعدله.

والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلالٍ وحرامٍ وأقضيةٍ وأحكام.

(أ) فأما توحيده وعدله: فمدركةٌ حقيقة علمه استدلالاً بما أدركته الحواس.

(ب) وأما شرائعه فمدركةٌ حقيقة علم بعضها حساً بالسمع، وعلم بعضها استدلالاً بما أدركته حاسة السمع.

ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالاً على وجهين:

أحدهما: معذورٌ فيه بالخطأ والمخطئ، ومأجورٌ فيه على الاجتهاد والفحص والطلب؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ)) .

وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفةً غير مؤتلفةٍ، والأصول في الدلالة عليه مفترقةً غير متفقةٍ،

ص: 113

وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضاً يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثيرٍ من بغاته.

والآخر منهما غير معذورٍ بالخطأ فيه مكلفٌ قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفرٌ بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحته متفقةً غير مفترقة، ومؤتلفةً غير مختلفةٍ، وهي مع ذلك ظاهرةٌ للحواس.

ص: 114

7-

وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حساً، فغير لازمٍ فرضه أحداً إلا بعد وقوعه تحت حسه، فأما وهو واقعٌ تحت حسه فلا سبيل له إلى العلم به، وإذا لم تكن له إلى العلم به سبيلٌ، لم يجز تكلفيه فرض العمل به، مع ارتفاع العلم به؛ وذلك أنه من لم ينته إليه الخبر بأن الله تعالى ذكره بعث رسولاً يأمر الناس بإقامة خمس صلواتٍ كل يومٍ وليلةٍ، لم يجز أن يكون معذباً على تركه إقامة الصلوات الخمس. لأن ذلك من الأمر الذي لا يدرك إلا

ص: 115

بالسماع، ومن لم يسمع ذلك ولم يبلغه؛ فلم تلزمه الحجة به، وإنما يلزم فرضه من ثبتت عليه به الحجة.

8-

فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه غير مختلفةٍ،

ص: 116

ظاهرةً للحس غير خفية، فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلاً دالاً وبرهاناً واضحاً يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحداً كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره، والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا، وعذاب الآخرة فقال –جل ثناؤه-:{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} .

فسوى –جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب. وذلك لما وصفنا من

ص: 117

استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله –جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب.

ص: 118

وخالف حكم ذلك حكم الجهل بالشرائع، لما وصفت من أن من لم يقطع الله عذره بحجة أقامها عليه بفريضة ألزمه إياها من شرائع الدين، فلا سبيل له إلى العلم بوجوب فرضها؛ إذ لا دلالة على وجوب فرضها، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن مأموراً، وإذا لم يكن مأموراً لم يكن بترك العمل لله –عز ذكره- عاصياً، ولا لأمر ربه مخالفاً؛ فيستحق عقابه؛ لأن الطاعة والمعصية إنما تكون باتباع الأمر ومخالفته.

ص: 119

9-

فإن قال لنا قائلٌ:

فإنك قد تستدل بالمحسوس من أحكام الشرائع بعد وقوعه تحت الحس على نظائره التي لم تقع تحت الحس ويحكم له بحكم نظيره، ويفرق فيه بين المجتهد المخطئ، وبين المعاند فيه بعد العلم بحقيقته؛ فتجعل المجتهد المخطئ مأجوراً باجتهاده، والإثم عنه زائلاً بخطئه. وقد سويت بين حكم المجتهد المخطئ في توحيد الله وأسمائه وصفاته وعدله، والمعاند في ذلك بعد العلم به.

فما الفصل بينك وبين من عارضك في ذلك، فسوى بين المجتهد المخطئ والمعاند بعد العلم، حيث فرقت بينهما، وفرق حيث سويت؟

قيل: الفرق بيني وبينه أن من قيلي وقيل كل موحدٍ: أن كل محسوسٍ أدركته حاسة خلقٍ في الدنيا فدليلٌ لكل مستدل على وحدانية الله عز وجل وأسمائه وصفاته وعدله، وكل دال على ذلك فهو في الدلالة عليه متفقٌ غير مفترق، ومؤتلفٌ غير مختلف.

وإن من قيلي وقيل كل قائلٍ بالاجتهاد في الحكم على الأصول: أنه ليست الأصول كلها متفقةً في الدلالة على كل فرع.

وذلك أن الحجة قد ثبتت على أن واطئاً لو وطئ نهاراً في شهر رمضان امرأته في حالٍ يلزمه فيها فرض الكف عن ذلك، أن عليه

ص: 120

كفارةً بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك حكمٌ من الله تعالى ذكره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ امرأته في حالٍ حرامٌ عليه وطؤها، وقد يلزمه في حالٍ أخرى يحرم عليه فيها وطؤه، فلا يلزمه ذلك الحكم بل يلزمه غيره؛ وذلك لو وطئها معتكفاً، أو حائضاً: أو مطلقةً تطليقةً واحدة قبل الرجعة، وفي أحوال سواها نظائرٌ لها. فقد اختلفت أحكام الفرج الموطوء في الأحوال المنهي فيها الواطئ عن وطئه مع اتفاق أحواله كلها في أنه منهيٌ في جميعها عن وطئه.

ص: 121

وليست كذلك الأدلة على وحدانية الله –جل جلاله وأسمائه وصفاته وعدله، بل هي كلها مؤتلفةٌ غير مختلفة، ليس منها شيءٌ إلا وهو في ذلك دالٌ على مثل الذي دلت عليه الأشياء كلها. ألا ترى أن السماء ليست بأبين في الدلالة من الأرض، ولا الأرض من الجبال، ولا الجبال من البهائم، ولا شيء من المحسوسات وإن كبر وعظم بأدل على ذلك من شيءٍ فيها وإن صغر ولطف، فلذلك افترق القول في حكم الخطأ في التوحيد، وحكم الخطأ في شرائع الدين وفرائضه.

ولولا قصدنا في كتابنا هذا الاختصار والإيجاز فيما قصدنا البيان عنه لاستقصينا القول في ذلك، وأطنبنا في الدلالة على صحة

ص: 122

ما قلنا فيه

وفيما بينا من ذلك مكتفىً لمن وفق لفهمه.

10-

وإذا كان صحيحاً ما قلنا بالذي عليه استشهدنا، فواجبٌ أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض – فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت، فهو كافرٌ حلال الدم والمال، إلا أن يكون من أهل العهد الذين صولح سلفهم على الجزية وأقهروا فمن عليهم ووصف عليهم خراجٌ يؤدونه إلى المسلمين، فيكون من أجل ذلك محقون الدم والمال وإن كان كافراً.

فإن قال قائلٌ:

فإذا كان الوقت الذي تلزمه الفرائض هو الوقت الذي ألزمته الكفر إن لم يكن عارفاً بصانعه، بأسمائه وصفاته التي ذكرت، فمتى لزمه فرض النظر والفكر في مدبره وصانعه حتى كان مستحقاً اسم الكفر في الحال التي وصفت والحكم عليه بحكم أهله؟

قيل له:

لم يلزمه فرض شيءٍ من الأشياء قبل الحد الذي وصفت، غير

ص: 123

أنه مع بلوغه حدث التمييز بين ماله فيه الحظ وعليه فيه البخس: أن يخليه داعي الرحمن وداعي الشيطان من الدعاء، هذا إلى معرفة الرحمن وطاعته، وهذا إلى اتباع الشيطان وخطواته؛ كما قال الله تعالى ذكره:{الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم} . وذلك قد يكون في حال بلوغ الصبي سبع سنين أو ثمان سنين، فإذا عرض له الداعيان اللذان وصفت في تلك الحال، فهو ممهلٌ بعد ذلك من الوقت السنين، وربما كان ذلك قدر عشر سنين وربما كان ثمانية، وربما كان أقل وأكثر.

وأقل ما يكون ست سنين، وفي قدر ذلك من المهل، وفي

ص: 124

أقل منه ما يتذكر من هو متذكرٌ، ويعتبر من هو معتبرٌ. ولن يهلك الله –جل ذكره- إلا هالكاً.

ص: 125