المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في الاختلاف في عذاب القبر - التبصير في معالم الدين للطبري

[ابن جرير الطبري]

الفصل: ‌القول في الاختلاف في عذاب القبر

‌القول في الاختلاف في عذاب القبر

44-

قال أبو جعفر:

ثم كان الاختلاف بعد ذلك في ألفاظ العباد بالقرآن.

ص: 204

وقد بينا ذلك فيما مضى من كتابنا هذا.

واختلف في عذاب القبر، وهل يعذب الله تعالى أحداً في قبره أو ينعمه فيه؟

(أ) فقال قومٌ: جائزٌ أن يكون الله جل ذكره يعذب في القبر من شاء من أعدائه وأهل معصيته.

ص: 205

(ب) وقال آخرون: بل ذلك كائنٌ لا محالة؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله –جل جلاله يعذب قوماً في قبورهم بعد مماتهم.

(ج) وقال آخرون: ذلك من المحال ومن القول خطأٌ. وذلك أن الميت قد فارقه الروح، وزايلته المعرفة. فلو كان يألم وينعم لكان حياً لا ميتاً. والفرق بين الحي والميت الحس، فمن كان يحس الأشياء فهو حيٌ، ومن كان لا يحسها فهو ميتٌ.

قالوا: ومحالٌ اجتماع الحس وفقد الحس في جسمٍ واحدٍ،

ص: 206

فلذلك كان عندهم محالاً أن يعذب الميت في قبره.

قال أبو جعفر:

والحق في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حقٌ)) .

ص: 207

45-

ويقال لمن أنكر ذلك: أتجيزون أن يحدث الله حياةً في جسمٍ ويعدمه الحس؟

فإن أنكروا ذلك قيل لهم: وما المعنى الذي دعاكم إلى الإنكار لذلك؟

فإن زعموا أن الذي دعاهم إلى ذلك هو أن الحياة علةٌ للحس وسببٌ له، وغير جائزٍ أن يوجد سبب شيءٍ ويعدم مسببه. وأوجبوا أن يكون المبرسم والمغمى عليه يحسان الآلام في حال زوال أفهامهما.

فيقال لهم: أتنكرون جواز فقد الآلام واللذات مع وجود الحياة؟

فإن أنكروا جواز ذلك، وقالوا: لا يكون حيٌ إلا من يألم ويلذ. قلنا لهم: أفتحيلون أن يكون حياً إلا مطيعاً أو عاصياً أو فاعلاً أو تاركاً؟ فإن قالوا: نعم. خرجوا من حد المناظرة لدفعهم الموجود المحسوس. وذلك أن الأطفال والمجانين موجودون أحياءٌ لا مطيعين ولا عاصين. وأن المغمى عليه والمبرسم لا فاعلٌ ولا تاركٌ اختياراً.

وإن قالوا: بل لا نحيل ذلك ونقول: جائزٌ وجود حيٍ لا مطيعاً،

ص: 208

ولا عاصياً، ولا فاعلاً، ولا تاركاً، قيل لهم: فأجيزونا وجود حيٍ لا حاسٍ ولا مدرك كما أجزتم وجوده لا فاعلاً ولا تاركاً.

فإن أبو سئلوا الفرق بينهما.

وإن أجازوا وجود حيٍ لا حاسٍ ولا مدركٍ قيل لهم: فإذ كان جائزاً عندكم وجود حيٍ لا حاسٍ ولا مدركٍ فقد جاز وجود الحياة في جسمٍ، وارتفاع الحس عندكم منه.

فإذا جاز ذلك عندكم فما أنكرتم من وجود الحس في جسمٍ مع ارتفاع الحياة منه؟! ويسألون الفرق بين ذلك.

ويقال لهم: أليس من قولكم: إنه جائزٌ وجود الحياة في جسمٍ، وفقد العلم منه في حالٍ واحدةٍ؟

فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فما أنكرتم من وجود العلم في جسمٍ مع فقد الحياة؟ وهل بينكم وبين من أنكر وجود الحياة في جسمٍ مع فقد العلم، فأجازوا وجود العلم مع فقد الحياة؟!

فإن قالوا: الفرق بيننا وبينه أنا لم نجد عالماً إلا حياً، وقد نجد حياً لا عالماً.

قيل لهم: أوكل ما لم تشاهدوه أو تعاينوه أو مثله فغير جائز كونه عندكم؟

ص: 209

فإن قالوا: نعم.

قيل لهم: أفشاهدتم جسماً حياً له حياةٌ لا تفارقه الحياة بالاحتراق بالنار؟

فإن زعموا أنهم قد شاهدوا ذلك وعاينوه، أكذبتهم المشاهدة مع ادعائهم ما لا يخفى كذبهم فيه.

46-

وإن زعموا أنهم لم يعاينوا ذلك ولن يشاهدوه.

قيل لهم: أفتقرون بأن ذلك كائنٌ، أم تنكرونه؟ فإن زعموا أنهم ينكرونه خرجوا من ملة الإسلام بتكذيبهم محكم القرآن. وذلك أن الله تعالى ذكره قال فيه:{والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} . فإن قالوا: بل نقر بأن ذلك كائنٌ.

قيل لهم: فما أنكرتم من جواز وجود العلم وحس الألم واللذة مع فقد الحياة؟ وإن لم تكونوا شاهدتم ولا عاينتم عالماً ولا حاساً إلا حيا له حياةٌ، كما جاز عندكم وجود الحياة في جسمٍ تحرقه النار، وإن لم تكونوا عاينتم جسماً تتعاقبه الحياة مع احتراقه بالنار.

فإن قالوا: إنما أجزنا ما أجزنا من بقاء الحياة في الجسم الذي تحرقه النار في حال إحراقه النار، تصديقاً منا بخبر الله –جل ثناؤه-.

ص: 210

قيل لهم: فصدقتم بخبر الله –جل ثناؤه- بما هو ممكنٌ في العقول كونه أو بما هو غير ممكن فيها كونه؟

فإن زعموا أنهم أجازوا ما هو غير ممكنٍ في العقول كونه، زعموا أن خبر الله –عز وجل بذلك تكذب به العقول وترفع صحته، وذلك بالله كفرٌ عندنا وعندهم. ولا إخالهم يقولون ذلك.

فإن زعموا أنه –تعالى ذكره- أخبر من ذلك بما تصدقه العقول.

قيل لهم: فإذ كان خبره بذلك خبراً يصدقه العقل –وإن لم تكونوا عاينتم مثله- فأجيزوا كذلك أن عذاب الله –تعالى ذكره- ألماً ولذةً وعلماً في جسمٍ لا حياة فيه، وإن لم تكونوا عاينتم مثله فيما شاهدتم، ولا صح بذلك عندكم خبرٌ عن الله –تعالى ذكره- أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، كما كان غير محال عندكم في العقل وجود الحياة في جسمٍ قد أحرقته النار قبل مجيء الخبر به.

وإن كان الخبر قد حقق صحة كون ذلك حتى يصح به عندكم خبرٌ من الله أو من رسوله عليه الصلاة والسلام.

ص: 211

47-

قال أبو جعفر:

والمسألة على من أنكر منكراً ونكيرً، ودفع صحة الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن الميت ليسمع خفق نعالهم)) ، يعني نعال من حضر قبره، إذا ولوا مدبرين.

والخبر الذي روي عنه عليه السلام: ((أنه وقف على أهل القليب فناداهم بأسمائهم: يا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ويا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. قالوا: يا رسول الله، أتكلم قوماً قد ماتوا وجيفوا؟! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)) . وما أشبه ذلك من الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموتى، كالمسألة على من أنكر عذاب القبر سواء؛ لأن علتهم في جميع إنكار ذلك علةٌ واحدةٌ، وعلتنا في الإيمان بجميعه والتصديق به علة واحدةٌ؛ وهو

ص: 212

تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، مع جوازه في العقل وصحته فيه، وذلك أن الحياة معنىً، والآلام واللذات والمعلوم معانٍ غيره. وعير مستحيلٍ وجود الحياة مع فقد هذه المعاني، ووجود هذه المعاني مع فقد الحياة، لا فرق بين ذلك.

48-

قال أبو جعفر:

قد أوضحت سبيل الرشاد، وبينت طريق السداد لمن أيد بنصح نفسه، وطلب منه السلامة منها لها، والنجاة من المهالك، وترك التعصب للرؤساء، والغضب للكبراء، وإعراضٌ منه عن تقليد الجهال، ودعاة الضلال، في جميع ما اختلفت فيه أمة نبينا صلى الله عليه وسلم بعده إلى يوم القيامة هذا، وما عساها أن تختلف فيه بعد اليوم من توحيد الله –جل ثناؤه- وأسمائه وصفاته وعدله ووعده ووعيده، وأحكام أهل الإجرام، والقول في أهل الآثام العظام وأسمائهم وصفاتهم.

والقول في أهل الاستحقاق للإمارة والخلافة، وأحكام المرقة من الخوارج على الأئمة.

والصحيح من القول فيما لا يدرك علمه إلا حساً وسماعاً،

ص: 213

وفيما لا يدرك علمه إلا استدلالاً، وما الذي لا يسع جهله من ذلك، وما الذي يسع جهله منه بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله.

ص: 214