الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في الاختلاف الخامس
37-
قال أبو جعفر:
ثم كان الاختلاف الخامس وهو الاختلاف فيمن يستحق أن يسمى مؤمناً، وهل يجوز أن يسمى أحدٌ مؤمناً على الإطلاق، أم ذلك غير جائزٍ إلا موصولاً بمشيئة الله جل ثناؤه؟
(أ) فقال بعضهم: الإيمان معرفةٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالجوارح. فمن أتى بمعنيين من هذه المعاني الثلاثة ولم يأت بالثالث فغير جائزٍ أن يقال: إنه مؤمنٌ، ولكنه يقال له: إن كان اللذان أتى بهما المعرفة بالقلب والإقرار باللسان، وهو في العمل مفرطٌ فمسلمٌ.
- وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إذ كان كذلك فإننا نقول: هو مؤمنٌ بالله ورسوله، ولا نقول: مؤمنٌ على الإطلاق.
- وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إذ كان كذلك فإنه يقال له: مسلمٌ، ولا يقال له مؤمنٌ إلا مقيداً بالاستثناء؛ فيقال: هو مؤمنٌ إن شاء الله.
(ب) وقال آخرون: الإيمان معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وليس العمل من الإيمان في شيءٍ؛ لأن الإيمان في كلام العرب التصديق.
قالوا: والعامل لا يقال له مصدقٌ، وإنما التصديق بالقلب واللسان. قال: فمتى صدق بقلبه ولسانه فهو مؤمنٌ مسلمٌ.
(ج) وقال آخرون: الإيمان المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه وإن جحده بلسانه وفرط في الشرائع، فهو مؤمنٌ.
(د) وقال آخرون: الإيمان نفسه التصديق باللسان، والإقرار بدون المعرفة والعمل. قالوا: لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب.
1-
قالوا: وبعد، فإن معرفة الله –جل ثناؤه- ليس بكسبٍ للعبد فيكون من معاني الإيمان، والعمل من فرائض الله التي شرعها لعباده وليس ذلك بتوحيد أيضاً.
2-
قالوا: وإيمانٌ بلا كسب العبد من العمل الذي هو توحيد الله تعالى ذكره، وإقرارٌ منه بوحدانيته ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من شرائع دينه.
3-
قالوا: فمتى أتى بذلك فهو مؤمنٌ لا شك فيه.
38-
قال أبو جعفر:
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الإيمان اسمٌ للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتاب الله –تعالى ذكره- خبراً عن إخوة يوسف من قيلهم لأبيهم يعقوب:{وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} . بمعنى: ما أنت بمصدق لنا على قيلنا.
غير أن المعنى الذي يستحق به اسم مؤمنٌ بالإطلاق، هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله –تعالى ذكره- من معرفةٍ وإقرارٍ وعملٍ.
وذلك أن العارف المعتقد صحة ما عرف من توحيد الله –تعالى ذكره- وأسمائه وصفاته، مصدقٌ لله في خبره عن وحدانيته وأسمائه وصفاته؛ فكذلك العارف بنبوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، المعتقد صحة ذلك، وصحة ما جاء به من فرائض الله.
وذلك أن معارف القلوب عندنا اكتساب العباد وأفعالهم، وكذلك الإقرار باللسان بعد ثبوته، وكذلك العمل بفرائض الله التي فرضها على عباده، تصديقٌ من العامل بعمله ذلك لله –جل ثناؤه-،
ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كما إقراره بوجوب فرض ذلك عليه، تصديقٌ منه لله ورسوله بإقراره أن ذلك له لازمٌ فإذ كل هذه المعاني يستحق على كل واحدٍ منهما على انفراده اسم إيمان.
وكان العبد مأموراً بالقيام بجميعها كما هو مأمورٌ ببعضها، وإن كانت العقوبة على تضييع بعضها أغلظ، وفي تضييع بعضها أخف، كان بيناً أنه غير جائز تسمية أحدٍ مؤمناً ووصفه به مطلقاً من غير وصلٍ إلا لمن استكمل معاني التصديق الذي هو جماع أداء جميع فرائض الله.
كما أن العلم الذي يأتي مطلقاً هو العلم بما ينوب أمر الدين.
فلو أن قائلاً قال لرجلٍ عرف منه نوعاً، وذلك كرجلٍ كان عالماً بأحكام المواريث دون سائر علوم الدين، فذكره ذاكرٌ عند من يعتقد أن اسم عالم لا يلزمه بالإطلاق في أمر الدين إلا من قلنا: إنه يلزمه، فقال: فلانٌ عالمٌ بالإطلاق ولم يصله، فيقال: فلانٌ عالمٌ بالفرائض أو بأحكام المواريث، كان قد أخطأ في العبارة وأساء في المقالة؛ لأنه وضع اسم العموم على خاص عند من لا يعلم مراده، إن كان قائل ذلك أراد الخصوص.
وإن كان أراد العموم وهو يعلم أن هذا الاسم لا يستحق إلا من
كان جامعاً علم جميع ما ينوب أمر الدين فقد كذب.
39-
وكذلك القائل- لمن لم يكن جامعاً أداء جميع فرائض الله –عز ذكره- من معرفةٍ وإقرارٍ وعملٍ-: هو مؤمنٌ، إما كاذبٌ، وإما مخطىءٌ في العبارة، مسيءٌ في المقالة، إذا لم يصل قيله: هو مؤمنٌ بما هو به مؤمنٌ، لأن وصفنا من وصفنا بهذه الصفة، وتسميتناه هذه التسمية بالإطلاق إنما هو للمعاني الثلاثة التي قد ذكرناها.
فمن لم يكن جامعاً ذلك فإنما له ذلك الاسم بالخصوص؛ فغير جائزٍ وصف من كان له من صفات الإيمان خاصٌ، ومن أسمائه بعضٌ بصيغة العموم، وتسميته باسم الكل، ولكن الواجب أن يصل الواصف إذا وصف بذلك أن يقول له –إذا عرف وأقر وفرط في العمل- هو مؤمنٌ بالله ورسوله، فإذا أقر بعد المعرفة بلسانه وصدق وعمل ولم تظهر منه موبقةٌ ولم تعرف منه إلا المحافظة على أداء الفرائض. قيل: هو مؤمنٌ إن شاء الله.
وإنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا إن شاء الله؛ لأن لا ندري هل هو مؤمنٌ ضيع شيئاً من فرائض الله عز ذكره – أم لا؛ بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين، فإنه غير مضيع شيئاً منها ولا مفرطٍ فلذلك من وصفناه بالإيمان بالمشيئة إذ كان الاسم المطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال،
فمن لم يكن مكملاً جميع معانيه –والأغلب عندنا أنه لا يكملها أحدٌ- لم يكن مستحقاً اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال؛ لأن الناقص غير جائزٍ تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل.