المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في الاختلاف الرابع - التبصير في معالم الدين للطبري

[ابن جرير الطبري]

الفصل: ‌القول في الاختلاف الرابع

‌القول في الاختلاف الرابع

33-

قال أبو جعفر:

ثم كان الاختلاف الرابع الذي حدث بعد هذا الاختلاف الثالث الذي ذكرناه، وذلك اختلافهم في الكبائر.

(أ) فقال بعضهم: هم كفار، وهو قول الخوارج.

(ب) وقال بعضهم: ليسوا بالكفار الذين تحل دماؤهم وأموالهم، ولكنهم كفار نعمةٍ، وهم منافقون؛ لأن لهم حكم المؤمنين.

ص: 177

(ج) وقال آخرون: ليسوا بمؤمنين ولا كفار، ولكنهم فسقةً أعداء الله، ويوارثون في الدنيا المسلمين ويناكحونهم ويحكم لهم بحكم الإسلام، غير أنهم من أهل النار مخلدون فيها. وهذا قول المعتزلة.

ص: 178

وكل أهل هذه المقالات الثلاث التي وصفنا صفة قائليها يزعمون أن أهل الكبائر من أهل التوحيد مخلدون في النار لا يخرجون منها.

(د) وقال آخرون: أهل الكبائر من أهل التوحيد الذين وحدوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقروا بشرائع الإسلام مؤمنون بإيمان جبريل وميكائيل، وهم من أهل الجنة.

وقالوا: لا يضرهم مع الإيمان ذنبٌ، صغيرةً كانت أو كبيرةً، كما لا ينفع مع الشرك عملٌ.

قالوا: والوعيد إنما هو لأهل الكفر بالله، المكذبين بما جاء به

ص: 179

رسوله صلى الله عليه وسلم.

34-

وقال آخرون: هم مؤمنون غير أنهم لما ركبوا من معاصي الله فاجترحوا الذنوب في مشيئة الله إن شاء عفا عنهم بفضله فأدخلهم الجنة، وإن شاء عاقبهم بذنوبهم، فإنه يعاقبهم بقدر الذنب ثم يخرجهم من النار بعد التمحيص فيدخلهم الجنة.

ص: 180

1-

قالوا: ولا يجوز في عدله أن يعاقب عبده على ذنوبه، ولا يجازيه على طاعته إياه.

2-

قالوا: بل الذي هو أولى به الأخذ بالصفح والفضل عن الجرم.

3-

قالوا: فإن هو لم يصفح عن الجرم وعاقب عليه، فغير جائزٍ أن لا يثيب على الطاعة؛ لأن ترك الثواب على الطاعة مع العقاب على المعصية جورٌ. قالوا: والله عدلٌ لا يجور وليس ذلك من صفته.

وقال آخرون فيهم: هم مسلمون وليسوا بمؤمنين، لأن المؤمن هو الولي المطيع لله.

قالوا: وقول القائل: فلانٌ مؤمنٌ، مدحٌ منه لمن وصفه.

قالوا: والفاسق مذمومٌ غير ممدوحٍ، عدو الله لا ولي له.

ص: 182

قالوا: فغير جائزٍ أن يوصف أعداء الله بصفة أوليائه، أو أولياؤه بصفة أعدائه.

قالوا: فاسمه الذي هو اسمه الفاسق الخبيث الرديء لا المؤمن.

قالوا: وتسميته مسلماً باستسلامه لحكم الله الذي جعله حكماً له ولأمثاله من الناس.

35-

قال أبو جعفر:

والذي نقول: معنى ذلك أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا نقول: هم مؤمنون بالإطلاق؛ لعلل سنذكرها بعد.

ونقول: هم مسلمون بالإطلاق؛ لأن الإسلام اسمٌ للخضوع والإذعان فكل مذعنٍ لحكم [الإسلام ممن وحد] الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عنده، فهو مسلمٌ.

ونقول: هم مسلمون فسقةٌ عصاةٌ لله ولرسوله. ولا ننزلهم جنة ولا ناراً، ولكنا نقول كما قال الله تعالى ذكره:{إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .

فنقول: هم في مشية الله تعالى ذكره، إن شاء أن يعذبهم

ص: 183

عذبهم وأدخلهم النار بذنوبهم، وإن شاء عفا عنهم بفضله ورحمته فأدخلهم الجنة، غير أنه إن أدخلهم النار فعاقبهم بها لم يخلدهم فيها، ولكنه يعاقبهم فيها بقدر إجرامهم، ثم يخرجهم بعد عقوبته إياهم بقدر ما استحقوا فيدخلهم الجنة؛ لأن الله –جل ثناؤه- وعد على الطاعة والثواب، وأوعد على المعصية العقاب، ووعد أن يمحو بالحسنة السيئة ما لم تكن السيئة شركاً.

فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يبطل بعقاب عبدٍ على معصيته إياه ثوابه على طاعته؛ لأن ذلك محوٌ بالسيئة الحسنة لا بالحسنة السيئة، وذلك خلاف الوعد الذي وعد عباده، وغير الذي هو به موصوفٌ من العدل والفضل والعفو عن الجرم.

والعدل: العقاب على الجرم، والثواب على الطاعة.

فأما المؤاخذة على الذنب وترك الثواب والجزاء على الطاعة، فلا عدل ولا فضل، وليس من صفته أن يكون خارجاً من إحدى هاتين الصفتين.

36-

وبعد: فإن الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متظاهرةٌ بنقل من يمتنع في نقله الخطأ والسهو والكذب، ويوجب نقله العلم، أنه ذكر أن الله جل ثناؤه يخرج من النار قوماً بعد ما امتحشوا

ص: 184

وصاروا حمماً؛ بذنوب كانوا أصابوها في الدنيا ثم يدخلهم الجنة. وأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) . وأنه عليه السلام يشفع لأمته إلى ربه –عز وجل ذكره-

ص: 185

فيقال: أخرج منها منهم من كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ. في نظائر لما ذكرنا من الأخبار التي إن لم تثبت صحتها لم يصح عنه خبرٌ صلى الله عليه وسلم.

ص: 186