الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(القول في الاختلاف الثالث)
30-
قال أبو جعفر:
الثالث بعد ذلك الاختلاف في أفعال الخلق.
(أ) فقالت فرقةٌ ممن ينتحل جملة الإسلام: ليس لله –عز وجل في أفعال خلقه صنعٌ غير المعرفة التي أعطاها للفعل كما أعطاهم الجوارح التي بها يعملون. ثم أمرهم ونهاهم، فمن شاء منهم أطاع فله الثواب، ومن عصى فله العقاب.
قالوا: فلو كان لله –جل ثناؤه- صنعٌ في أفعال الخلق غير الذي قلنا، بطل الثواب والعقاب. وهذا قول القدرية.
(ب) وقال آخرون –منهم جهم بن صفوان وأصحابه-: ليس
للعباد في أفعالهم وأعمالهم صنعٌ، وإنما يضاف إليهم ذلك كما تضاف حركة الشجرة إذا حركتها الريح إلى الشجرة، وليست لها حركةٌ وإنما حركتها الريح، وكما يضاف طلوع الشمس إلى الشمس وليس لها فعلٌ وإنما أطلعها الله، وكذهاب الحجر إذا رمي به وليس له عملٌ، وإنما ذهب بدفع دافعٍ.
وقالوا: لو جاز أن يكون فاعلٌ غير الله جاز أن يكون خالقٌ غيره. وقالوا: لا ثواب ولا عقاب، وإنما هما طينتان خلقتا إحداهما للنار وأخرى للجنة.
31-
وقال آخرون –وهم جمهور أهل الإثبات وعامة العلماء والمتفقهة من المتقدمين والمتأخرين- إن الله تعالى ذكره وفق أهل الإيمان للإيمان، وأهل الطاعة للطاعة، وخذل أهل الكفر والمعاصي، فكفروا بربهم، وعصوا أمره.
1-
قالوا: فالطاعة والمعصية من العباد بسبب من الله –تعالى ذكره- وهو توفيقه للمؤمنين، وباختيارٍ من العبد له.
2-
قالوا: ولو كان القول كما قالت القدرية، الذين زعموا أن الله –تعالى ذكره- قد فوض إلى خلقه الأمر فهم يفعلون ما شاءوا، ولبطلت حاجة الخلق إلى الله –تعالى ذكره- في أمر دينه، وارتفعت الرغبة إليه في معونته إياهم على طاعته.
3-
قالوا: وفي رغبة المؤمنين في كل وقتٍ أن يعينهم على طاعته ويوفقهم ويسددهم، ما يدل على فساد ما قالوا.
4-
قالوا: ولو كان القول كما قالوا من أن من أعطي معونة على الإيمان، فقد أعطيها قوةً على الكفر، وجب أن لا يكون لله –جل ثناؤه- خلقٌ هو أقوى على الإيمان والطاعة من إبليس، وذلك أنه لا أحد من خلق الله يطيق من الشر ومن معصية الله ما يطيقه.
5-
قالوا: وكان واجباً أن يكون إبليس أقدر الخلق على أن يكون أقربهم إلى الله وأفضلهم عنده منزلة.
6-
قالوا: وأخرى: أن القوة على الطاعة لو كانت قوةً على المعصية، والقوة على الكفر قوةً على الإيمان؛ لوجب أن
يوجد الكفر والإيمان معاً في جسمٍ واحدٍ، في حالٍ واحدةٍ؛ لأن السبب إذا وجد وجب أن يكون مسببه موجوداً معه، كالنار إذا وجدت وجب وجود الإسخان مع وجودها، وكالثلج إذا وجد وجب التبريد معه.
7-
قالوا: فإن كانت القوة جائزاً وجودها وعدم أحدهما، كاليد التي قد توجد وهي لا متحركة ولا ساكنة لعجزٍ محلها، فقد يجب أن يكون جائزاً وجود القدرة على الطاعة والمعصية، والعجز عنهما في حالٍ واحدةٍ، في جسمٍ واحدٍ.
8-
قالوا: ففي استحالة اجتماع العجز والقدرة في حالٍ واحدةٍ، في جسمٍ واحدٍ، الدليل الواضح على اختلاف حكم القدرة في الجوارح للفعل والجوارح، والقدرة للعمل سببٌ وليس كذلك الجوارح.
9-
قالوا: وإذا كانت القدرة للفعل سبباً وجب وجود مسببه معه.
10-
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان محالاً اجتماع الكفر والإيمان في جسمٍ واحدٍ، في حالٍ واحدةٍ، علم أن القدرة على الطاعة غير القدرة على المعصية، وأن الذي تعمل به الطاعة فيوصل به إليها من الأسباب غير الذي تعمل به المعصية فيوصل به إليها من الأسباب.
وصح بذلك فساد قول من زعم أن الله –عز ذكره- قد فوض إلى خلقه الأمر فهم يعملون ما شاءوا من طاعةٍ ومعصيةٍ، وإيمانٍ وكفرٍ، وليس لله –جل ثناؤه- في شيءٍ من أعمالهم صنعٌ.
32-
قالوا: فإذا فسد قول القدرية الذين وصفنا قولهم؛ فقول جهمٍ وأصحابه الذين زعموا أن الله –تعالى ذكره- اضطر عباده إلى
الكفر وإلى الإيمان وإلى شتمه والفرية، وأنه ليس للعباد في أفعالهم صنعٌ: أبطل وأفسد.
1-
قالوا: وذلك أن الله –تعالى ذكره- أمر ونهى، ووعد الثواب على طاعته، وأوعد العقاب والعذاب على معصيته؛ فقال في غير موضع من كتابه إذ ذكر ما فعل بأهل طاعته وولايته من أهل كرامته لهم:{جزاء بما كانوا يعملون} ، وإذ ذكر ما فعل بأهل معصيته وعداوته من عقابه إياهم:{جزاء بما كانوا يكسبون} .
2-
قالوا: فلو كانت الأفعال كلها لله لا صنع للعباد فيها، لكان لا معنى للأمر والنهي؛ لأن الآمر يأمر غيره لا نفسه، وإذا أمر غيره فإنما يأمره ليطيعه في ما أمره، وكذلك نهيه إياه إذا نهاه.
3-
قالوا: فهذا أمر الله –تعالى ذكره- ونهى في قولنا وقول جهمٍ وأصحابه؛ فأثاب وعاقب، فلن يخلوا من أن يكون
أمر نفسه ونهاها، وأمر عبده ونهاه.
4-
قالوا: ومن المحال أن يكون أمر نفسه ونهاها عندنا وعندهم؛ فالواجب أن يكون أمر غير نفسه ونهى غيرها.
5-
قالوا: وإذ كان ذلك كذلك فلن يخلو من أن يكون أمر ليطاع أو لا يطاع.
وإن كان أمر ليطاع فمعلومٌ أن الطاعة فعل المطيع والمعصية فعل العاصي، وأن فعل الله وخلقه الذي ليس بكسبٍ للعبد لا طاعةً ولا معصيةً كما خلقه السموات والأرض ليس بطاعةٍ ولا معصيةٍ؛ لأن ذلك ليس بكسبٍ لأحدٍ، وأنه ليس فوق الله –جل ثناؤه- أحدٌ يأمره وينهاه، فيكون فعله طاعةً أو معصيةً.
فالطاعة إنما هي الفعل الذي بحذائه أمرٌ، والمعصية كذلك.
فإن كان أمر لا ليطاع، فقد زالت المآثم عن الكفرة، واللائمة عن العصاة؛ فارتفع الثواب والعقاب، إذ كان الثواب ثواباً على طاعته والعقاب عقاباً على معصيته.
6-
قالوا: وفساد هذا القول أوضح من أن يحتاج إلى الإكثار في الإبانة عن جهل قائله.
فإذا كان فساد قول القدرية القائلين بالتفويض، وخطأ قول جهمٍ وأصحابه القائلين بالإجبار، صح قول القائلين من أهل
الإثبات بالذي استشهدنا من الدلالة.
وهذا القول –أعني قول أهل الإثبات المخالفين القدرية والجهمية- هو الحق عندنا والصواب لدينا للعلل التي ذكرناها.