الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد للَّه رب العالمين، القائل في كتابه الحكيم:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة/ 15 - 16]. والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه في الأميين، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم؛ فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة. ومضى إلى ربه محمودًا بعدما أقام الدين، وترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعد، فإن كتاب "طريق الهجرتين وباب السعادتين" للإمام ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه تعالى لكتاب نفيس نادر في بابه. فقد وضعه لبيان قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على الطريقة التي شرعها اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمقصود بالهجرتين -كما فسَّر المؤلف في مقدمة هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى- هجرة العبد إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والتوكل والعبودية، وهجرته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمتابعته والتأسِّي به في كل شأن من شؤون حياته من عقائده وعباداته ومعاملاته. وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين لا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما.
ولا تخفى أهمية الهجرتين المذكورتين في باب الإحسان وتزكية النفس والسير إلى اللَّه. فإنّ الصوفية منذ أن جعلوه سرًّا مكتومًا، زاعمين أنه علم خصّ به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، ثم حكَّموا فيه الذوق
والوجدان والكشف والإلهام = فتحوا بابًا واسعًا للزيغ والانحراف والتأويل والتحريف. ثمّ تعدَّوا إلى تقسيم الدين إلى شريعة وطريقة، وعلم الظاهر وعلم الباطن، وقرّروا أن الأول حجاب دون الآخر، حتى صار التصوف في بعض صوره دينًا مناهضًا لدين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبه الإمام ابن القيم رحمهما اللَّه ليصرفا النظر، في المهمة العظيمة التي قاما بها لإصلاح الأمة وتجديد معالم الدين، عن الردّ على مزاعم الصوفية، والكشف عن انحرافاتهم، وبيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التزكية والإحسان.
وقد أوتي الشيخان الربّانيّان قدرةً عجيبةً على الخوض في غوامض علوم العارفين ودقائق أحوالهم والكلام عليها. وذلك لما فتح اللَّه عليهما من علوم الكتاب والحكمة، ثم وفقهما للظهور على معارج العبودية والإشراف على مقامات الإحسان. ومن هنا أصبحت كتابات الشيخين في التصوف والسلوك، الجامعة بين خطر الموضوع، وسلفيّة المنهج في التمسّك بالكتاب والسنّة دون تحيّز لأحدٍ كائنًا من كان، وقدرةٍ على الخوض في الدقائق، وقوّة البيان ووضوح التعبير = أصبحت منظومةً نادرةً في المكتبة الإسلامية الزاخرة.
ومن أجلّ تلك الكتب كتابنا هذا. وقد افتتحه ابن القيّم رحمه الله "بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلّا منه". ثم تكلم على قواعد نافعة منها قاعدة في الإنابة ودرجاتها، وقاعدة في الابتلاء، وقاعدة في ذكر طريق قريب موصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، وقاعدة في أقسام العباد في سفرهم إلى الدار الآخرة. وختم الكتاب بباب جامع في مراتب
المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها.
وقد تطرّق الكلام في أثناء البابين والقواعد إلى مباحث عظيمة ومسائل مشكلة اقتضت أهميتها إشباع القول فيها، كمبحث القضاء والقدر الذي استغرق أكثر من مائتي صفحة. ولكن أهمّ أقسام الكتاب وأنفسها -وهو من صميم الموضوع فلا يعدّ استطرادًا- هو القسم الذي تكلم فيه المؤلف رحمه الله على علل مقامات السلوك. وقد اختار لبيان غلط المشايخ في هذا الباب كتاب محاسن المجالس لأبي العباس ابن العريف الصنهاجي من أكابر صوفية الأندلس. فتناوله فصلًا فصلًا بالنقد والنقض، وبيّن ما له وما عليه، فتكلم على ما قاله في منزلة الإرادة مثلًا، من اثني عشر وجهًا، وعلى التوكل من خمسة عشر وجهًا، وعلى الخوف من ثلاثة عشر وجهًا، وهكذا.
ومما يستغرب أن المستشرق الإسباني الذي نشر محاسن المجالس في باريس سنة 1933 م لم يكن على علم بنقد ابن القيم إياه في طريق الهجرتين، مع كونه مطبوعًا قبل المحاسن بأكثر من ثلاثين سنة.
وقد صدرت أول طبعة من كتابنا عن المطبعة الميمنية سنة 1320 هـ = 1902 م، على حاشية كتاب آخر لابن القيم، وهو إغاثة اللهفان. ثم طبعته إدارة الطباعة المنيرية سنة 1358 هـ، وتلتها طبعة المكتبة السلفية سنة 1375 هـ. ولكن لم تتهيأ لهذه الطبعات نسخة موثقة عالية من الكتاب، فكثرت فيها الأسقاط والتصحيفات والتحريفات، إلا ما صحح منها باجتهاد المشرفين عليها، غير أن اجتهادهم قد أدّى في أحيان كثيرة إلى مزيد من الأخطاء.
وعن هذه الطبعات الثلاث -وبخاصة طبعة المكتبة السلفية-
صدرت عشرات الطبعات، وصوّرت مرّات ومرّات. وزعمت طبعتان منها -وهما طبعة دار ابن كثير بتحقيق يوسف علي البديوي، وطبعة دار البيان بتحقيق بشير محمد عيون- أنهما اعتمدتا على نسخة الظاهرية، وأثبتت الأخيرة أرقام أوراقها أيضًا في الحواشي، ولكن مقارنة متن الطبعتين بالنسخة المذكورة لا تصدّق دعواهما العريضة. ولو اعتمدت إحداهما عليها لكانت خليقةً بأن تكون أصحّ الطبعات، غير أنهما لم تزيدا على مراجعتها في مواضع متفرقة تحلّةً للقسم!
وكان من فضل اللَّه سبحانه أن وفقني لإخراج هذه النشرة التي هي أول نشرة علمية للكتاب، وقد اعتمدت فيها على خمس نسخ خطيّة، أهمّها نسختان: إحداهما نسخة الظاهرية التي هي مسودة الكتاب بخط المصنف، والأخرى نسخة منقولة من نسخة المصنف حسب تصريح ناسخها.
وقد تبيّن لي أنّ المؤلف رحمه الله قد ترك الكتاب مسوّدة مع إضافاته وإلحاقاته الكثيرة، فلا أمكنه تبييضه، ولا قرئ عليه، ومن ثم قد بقي فيه من السهو وسبق القلم شيء كثير. وقد ضاع بعض كلامه أيضًا لكونه في أطراف الأوراق التي أكل منها البلى. وكان في خطه كذلك من السرعة وإهمال النقط وتداخل الكلمات وغيره ما يؤدي إلى صعوبة واختلاف في القراءة. وقد اجتهدت في قراءة النص مستعينًا بالنسخة المنقولة من الأصل وغيرها، ومستأنسًا بأسلوب المؤلف وعباراته المألوفة، وأرجو أن أكون قد وفقت في خدمة الكتاب وأدائه أداءً مقاربًا لما وضعه المؤلف رحمه الله.
وقد مهّدت للكتاب بدراسة اشتملت على الفصول الآتية:
1 -
توثيق نسبة الكتاب.
2 -
عنوان الكتاب.
3 -
تاريخ تأليف الكتاب.
4 -
مقصد الكتاب.
5 -
ترتيب الكتاب وبعض مباحثه المهمة، وفيه إشارة إلى بعض طرائق التاليف اللطيفة عند المصنف.
6 -
أهمية الكتاب.
7 -
موارد الكتاب.
8 -
طبع الكتاب وتحقيقه واختصاره وترجمته.
9 -
مخطوطات الكتاب.
10 -
منهج التحقيق، مع نماذج مصورة من النسخ المعتمدة.
وأشكر الأخ الشيخ زائد بن أحمد النشيري الذي تولّى تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب ما عدا أحاديث الصحيحين، فجزاه اللَّه خير الجزاء.
وقبل أن أضع القلم آمل من القراء، لا سيما العلماء والباحثون، إذا وقفوا على خلل أو زلل في خدمة الكتاب، أن لا يضنّوا عليّ بإفاداتهم وتنبيهاتهم. فالأمانة ثقيلة، والإنسان مهما اجتهد وبالغ فإنه إلى الضعف والنسيان ما هو! وخدمة هذا التراث العظيم لا تتم عندي إلا بتعاون
المحقق الخبير والناقد البصير؛ وإني إذ لم أكن بذاك، أرجو أن لا أعدم ناقدًا بصيرًا يُهدي إليّ عيوبي.
أسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يغفر لمؤلفه، ويرفع درجاته، ويجزيه عنا خير ما يجزي العلماء الربانيين. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الرياض
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
22/ 12/ 1427 هـ