الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقصد الكتاب
موضوع هذا الكتاب قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على المنهج الشرعي الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن يجب عليه أن يوحد اللَّه بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأن يكون قدوته في ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، فيتبع هديه وشرعه ومنهاجه. وهذان الأمران: إفراد اللَّه بالعبادة، وإفراد الرسول بالمتابعة، هما المقصودان بالهجرتين في عنوان الكتاب. فيقول المؤلف رحمه الله في مقدمته:"فله -يعني للمؤمن- في كل وقت هجرتان: هجرة إلى اللَّه بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجأ والافتقار في كل نفَس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه. وكل عمل سواه، فعيش النفس وحظّها لا زاد المعاد".
وقد عني المؤلف في كتبه ببيان أهمية الهجرتين في حياة المسلمين عناية بالغة، فتكلم عليهما في مواطن عديدة؛ لأنهما مضمون الشهادتين ومقتضاهما، ولا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما. فقال في مدارج السالكين (2/ 520): "وللَّه على كل قلب هجرتان، وهما فرض لازم له على [مدى] الأنفاس: هجرة إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية. وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته، فيكون تقيده به أعظم من تقيد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق. فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على
رأسه الرماد، وليراجع الإيمان من أصله، فيرجع وراء، ليقتبس نورًا قبل أن يحال بينه وبينه، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور، واللَّه المستعان".
وقد عقد فصلًا كاملًا في قصيدته النونية (870) بعنوان "فصل في تعيّن الهجرة من الآراء والبدع إلى سنّته، كما كانت فرضًا من الأمصار إلى بلدته صلى الله عليه وسلم" يشتمل على 57 بيتًا، افتتحه بقوله:
يا قوم فرضُ الهجرتين بحاله
…
واللَّهِ لم يُنسخ إلى ذا الآنِ
فالهجرة الأولى إلى الرحمن بالـ
…
إخلاص في سرّ وفي إعلان
إلى أن قال:
والهجرة الأخرى إلى المبعوث بالـ
…
إسلام والإيمان والإحسان
وفي رسالته التي بعث بها من تبوك إلى أصحابه بالشام، أفاض القول في بيان أهمية الهجرتين بأسلوب أدبي بليغ، وذكر أن الهجرة إلى اللَّه ورسوله فرض عين على كل أحد في كل وقت، وهي مطلوب اللَّه ومراده من العباد. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها. وبعد ما فسّر الهجرة إلى اللَّه قال:"والذي يُقضى منه العجب أنّ المرء يوسّع الكلام، ويفرّع المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة ربما لا تتعلق به في العمر أصلًا. وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس [فإنه] لا يحصل [فيها] علمًا ولا إرادة. وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له والاشتغال عما لا ينجيه غيره"(20 - 21).
وأما الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكلام المؤلف عليها في الرسالة
المذكورة ينطوي على تألم شديد لما آل إليه أمر المسلمين في عهده من إعراض عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، واشتغال بأفكار ومذاهب وبدع وعادات ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فقال:"وأمّا الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه، ومحجّة سفت عليها السوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها. فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش ممّا [به]، يستأنسون، مستأنس ممّا به يستوحشون. . . والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد"(21 - 22).
ثمّ بين حدّ هذه الهجرة بقوله: "فحدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلب، وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}. فكل مسألة طلعت عليها شمس الرسالة وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلّا فعدّه من أهل الريب والشبهات. فهذا هو حدّ هذه الهجرة"(23 - 24).
فهذه الهجرة شاملة محيطة بحياة المؤمن كلها. فلا تخصّ جانبًا منها دون جانب، ولا يحتاج إليها في وقت دون وقت. وليست أهميتها في أحكام الفقه أكثر منها في مسائل الاعتقاد ومنازل السلوك ومقامات الإحسان. بل لها أهمية خاصة في وادي السلوك، فإن المقرر عند كثير من أصحابه أنّ الشرع فيه معزول، والعقل فيه معقول، والحكم فيه
للذوق والوجدان والكشف والإلهام، لا للشرع والحجة والبرهان. فالشريعة شيء، وأصحابها أصحاب الظاهر. والطريقة شيء، وأصحابها أصحاب الباطن. هذا علم الصدور، وذاك علم السطور. هذا علم اللبّ وذاك علم القشور. بل هذا العلم حجاب دون ذلك العلم. وبهذا التفريق المزعوم قد انفسح مجال الانحراف والضلال في علم السلوك الذي هو أهمّ العلوم، فإن سعادة الإنسان في الدارين منوطة به، وانفتح الباب لكل دخيل غريب، فتشعبت الطرق، وكثرت المزالق، ولا نهاية للترّهات بعد العدول عن قصد السبيل وسواء الصراط.
فالهجرة الثانية -وهي الهجرة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة واتباعُه في كل منازل السلوك- هي التي توصل العبد إلى اللَّه، وتصونه عن الجور والانحراف، وتضمن له السعادة في الدنيا والآخرة. يقول المؤلف رحمه الله في مقدمة هذا الكتاب:"ولما كانت السعادة دائرة نفيًا وإثباتًا مع ما جاء به كان جديرًا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفًا على معرفته، وإرادته مقصورة على محابّه. وهذه أعلى همة شمّر إليها السابقون، وتنافس فيها المتنافسون. فلا جرم ضمنًا هذا الكتاب قواعد من سلوك طريق الهجرة المحمدية".
فهذا هو مقصود الكتاب، ولكن كيف تناوله المؤلف، وما المباحث التي اشتمل عليها الكتاب؟ هذا سنبينه في الصفحات الآتية.