المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان - عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي - جـ ١

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الباب الأول: الثناء في القرآن والسنة على الصحابة

- ‌الفصل الأول: الثناء عليهم عموما في القرآن والسنة وأقوال السلف

- ‌المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن

- ‌المبحث الثاني الثناء عليهم في السنة

- ‌المبحث الثالث: النثاء عليهم في أقوال السلف

- ‌الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين

- ‌المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر

- ‌المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد

- ‌المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان

- ‌الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة

- ‌المبحث الأول: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: فضل ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: فضل أبي السبطين علي رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: فضل السته بقية العشرة

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: المراد بأهل البيت

- ‌المبحث الثاني: ما جاء في فضل أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً

- ‌المبحث الثالث: فضل أهل بيته الذكور رضي الله عنهم

- ‌المبحث الرابع: فضل أهل بيته الإناث

الفصل: ‌المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان

‌المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان

لقد ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك البيعة المباركة الميمونة المشهورة "بيعة الرضوان" وكانت هذه البيعة بمكان يسمى "الحديبية"1 في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة بلا خلاف بين علماء المغازي والسير2 وقد اختلفت الروايات الصحيحة في عددهم رضي الله عنهم فقد روى الشيخان من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان أصحاب الشجرة3 ألفاً وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين"4.

ورويا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة"5.

1ـ قال ياقوت الحموي: "هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع تحتها" معجم البلدان 2/229 وكذا قال الحافظ ابن حجر: "هي بئر سمي بها المكان"أ. هـ. فتح الباري 5/334 وقال الحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى: "الحديبية بئر كانت الشجرة بالقرب من البئر ثم إن الشجرة فقدت بعد ذلك فلم توجد وقالوا إن السيول ذهبت بها فقال سعيد بن المسيب سمعت أبي وكان من أصحاب الشجرة يقول قد طلبناها غير مرة فلم نجدها فأما ما يذكره عوام الحجيج أنها شجرة بين منى ومكة فإنه خطأ فاحش"أ. هـ. معرفة علوم الحديث ص/23-24.

2ـ انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/208، دلائل النبوة للبيهقي 4/91، تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/619، الكامل لابن الأثير 2/200، المجموع شرح المهذب للنووي 7/78، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ص/140، البداية والنهاية 4/185، فتح الباري 7/440.

3ـ الشجرة: هي السمرة التي حصلت البيعة تحتها، انظر: صحيح مسلم 3/1483.

4ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1485.

5ـ صحيح البخاري 3/43، صحيح مسلم 3/1484.

ص: 200

ورويا أيضاً: من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة1 فتوضأ فجهش2 الناس نحوه فقال: "ما لكم"؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور3 بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأ وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة"4.

فهذه الروايات الثلاث هي أصح ما ورد في بيان عدد أصحاب بيعة الرضوان ولا إشكال فيها من حيث صحتها وإنما الإشكال من حيث العدد المذكورة فيها من ألف وثلاثمائة إلى ألف وأربعمائة إلى خمس عشرة مائة ولا يمكن ردها بحال من الأحوال وقد حاول العلماء الجمع بينها وقد سلكوا تجاهها طريقين.

الطريق الأول: طريق الترجيح، وقد مال إلى هذا الطريق الإمام البيهقي والحافظ ابن القيم رحمهما الله تعالى.

فأما البيهقي فإنه أورد رواية التحديد بألف وأربعمائة المروية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ثم قال: وهذه الرواية أصح فلذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين عنه"أ. هـ5.

وأما العلامة ابن القيم فإنه ذكر رواية ألف وأربعمائة وقال عقبها: "والقلب إلى هذا أميل"6.

الطريق الثاني: طريق الجمع وقد ذهب إلى هذا الإمام النووي والحافظ ابن حجر رحمهما الله.

1ـ الركوة: إنا صغير يشرب فيه الماء والجمع ركاء. النهاية 2/261.

2ـ الجهش: أن يفزع الإنسان إلى الأنسان ويلجأ إليه. النهاية 1/322.

3ـ يثور: ينبع بقوة وشدة النهاية 1/228.

4ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1484.

5ـ دلائل النبوة للبيهقي 4/98.

6ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 3/288.

ص: 201

فأما الإمام النووي فقد قال عقب الروايات الثلاث المتقدم ذكرها: "ويمكن أن يجمع بينهما بأنهم كانوا أربعمائة وكسر فمن قال: أربعمائة لم يعتبر الكسر ومن قال خمسمائة اعتبره، ومن قال ألف وثلاثمائة ترك بعضهم لكونه لم يتقن العد أو لغير ذلك"أ. هـ1.

وأما الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فإنه ذكر كلام النووي وزاد عليه حيث قال: بعد ذكره للروايات الثلاث السابقة: "والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة فمن قال ألفاً وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفاً وأربعمائة ألغاه ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر، أما قول عبد الله بن أبي أوفى: ألف وثلاثمائة، فيمكن حمله على ما اطلع عليه هو، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة أو العدد الذي ذكره جملة من ابتدأ الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك أو العدد الذي ذكره عدد المقاتلة والزيادة عليه من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم"أ. هـ2.

والذي يظهر والله أعلم أن طريقة الجمع بين النصوص أولى من ترجيح بعضها على بعض لأن الروايات كلها صحيحة في العدد المذكور وينبغي الأخذ بما قاله الحافظ ابن حجر لأن توجيهه للنصوص ممكن وظاهر.

وأصحاب الحديبة الذين هم أهل بيعة الرضوان ورد في فضلهم نصوص محكمة كثيرة من الآيات القرآن والأحاديث النبوية ومنها ما يلي:

1-

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ3 فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا

1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/2.

2ـ فتح الباري 7/440.

3ـ قال ابن جرير بعد أن ذكر عدة أقوال في معنى السكينة: "وأولى هذه الأقوال بالصواب بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح: ما تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها وذلك أن السكينة في كلام العرب الفعلية من قول القائل سكن فلان إلى كذا وكذا إذا اطمأن إليه وهدأت

ص: 202

إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 1.

في هذه الآية شهادة لهم بحقيقة الإيمان الكامل وإكرامهم بإنزال السكون والطمأنينة في قلوبهم إلى الإيمان بالله ورسوله وإلى الحق الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليزدادوا بتصديقهم بما حدد الله من الفرائض التي ألزمهموها التي لم تكن لهم لازمة {إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ثم أخبر تعالى أنه له جنود السموات والأرض ينتقم بهم ممن يشاء من أعداء وختم الآية بأنه ـ سبحانه ـ لم يزل ذا علم بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملون حكيماً في تدبيره"2.

قال ابن كثير: "يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعنه الرحمة وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب"أ. هـ3.

فالآية تضمنت مدحاً عظيماً وثناء بالغاً على أهل بيعة الرضوان حيث أكرمهم الله بإنزال السكينة في قلوبهم فكان ذلك من ذلك من أسباب زيادة الإيمان فيها كما تضمنت الشهادة لهم من الله بالإيمان الكامل وتحقيق شرائعه وذلك أنهم رضي الله عنهم كلما ورد عليهم أمر أو نهي آمنوا به وعملوا بمقتضاه طائعين خاضعين لحكم الله رب العالمين.

= عنده نفسه فهو يسكن سكوناً وسكينة، مثل قولك: عزم فلان هذا الأمر عزماً وعزيمة وقضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية جامع البيان 2/613، وانظر: النهاية 2/384-385، واللسان 13/213.

1ـ سورة الفتح آية/4.

2ـ انظر: جامع البيان 26/71-72.

3ـ تفسير القرآن العظيم 6/330، وانظر تفسير البغوي مع الخازن 6/158، فتح القدير للشوكاني 5/45.

ص: 203

2-

وقال تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} 1.

هذه الآية فيها وعيد من الله تعالى لأهل بيعة الرضوان خصوصاً ولجميع المؤمنين والمؤمنات عموماً بدخول جنات تجري من تحتها الأنهار وأنهم يخلدون فيها لا يحولون ولا يزولون عنها وأنه تعالى يكفر عنهم سيئاتهم بمعنى أنه يغطيها ولا يظهرها وختم تعالى الآية ببيان أن إدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم فوز عظيم لا يقادر قدره لأنه منتهى غاية ما يتطلع إليه المؤمنون الصادقون الذين في مقدمتهم أولئك الصفوة أصحاب بيعة الرضوان.

روى البخار بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما لنا فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 2.

وعند الترمذي وأحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد نزلت علي آية أحب إليّ مما على الأرض" ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} حتى بلغ {فَوْزاً عَظِيماً} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وفيه عن مجمع3 بن جارية4.

1ـ سورة الفتح آية/5.

2ـ صحيح البخاري 3/44.

3ـ مجمع بن جارية بن عامر الأنصاري الأوسي المدني صحابي مات في خلافة معاوية التقريب 2/230، الإصابة 3/346.

4ـ سنن الترمذي 5/61-62، المسند 3/122.

ص: 204

فهذا الحديث بين الفضيلة التي تضمنتها الآية التي سيقت قبله لأصحابه بيعة الرضوان.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها أبدا {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر ويرحم ويشكر {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} كقوله ـ جل وعلا ـ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} 1 الآية أ. هـ2.

فأي فوز وأي فلاح أعظم من تكفير الذنوب والخطايا ودخول الجنة ورؤية الله عز وجل فيها إنه لمن أعظم التكريم ومن أعلا النعيم الذي فاز به أهل بيعة الرضوان.

3-

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 3.

وهذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم لأهل بيعة الرضوان فقد جعل الله مبايعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم مبايعة له وفي هذا غاية التشريف والتكريم لهم رضي الله عنهم.

وهذه الآية نظير قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4 فمبايعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مبايعة لله ـ جل وعلا ـ.

قال العلامة ابن القيم: "وتأمل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فلما كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيديهم ويضرب بيده

1ـ تفسير القرآن العظيم 6/330.

2ـ المصدر نفسه 6/330.

3ـ سورة الفتح آية/10.

4ـ سورة النساء آية/80.

ص: 205

على أيديهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السفير بينه وبينهم كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سماواته على عرشه وفوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم كما أنه سبحانه فوقهم"أ. هـ1 ومعنى قوله في الآية:{وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي: ثواباً جزيلاً وهو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"2.

قال ابن جرير رحمه الله تعالى: وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول: فسيعطيه ثواباً عظيماً، وذلك أن يدخله الجنة جزاء له على وفائه بما عاهد عليه الله ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الإيمان

ثم روى بإسناده إلى قتادة رحمه الله تعالى: {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} قال: هي الجنة"أ. هـ3.

4-

وقال تعالى مخبراً برضاه عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 4.

فقد أخبر تعالى أنه رضي الله عن أولئك الصفوة الأخيار من أهل بيعة الرضوان ومن رضي الله عنه لا يسخط عليه أبداً فلله ما أعظم هذا التكريم الذي ناله أهل بيعة الرضوان، وما أعلاها من منقبة ومعنى الآية {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} يعني: بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة

1ـ مختصر الصواعق المرسلة 2/172.

2ـ انظر: تفسير القرآن العظيم 6/331، تفسير روح المعاني 26/97.

3ـ جامع البيان 26/76، وانظر: تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/160.

4ـ سورة الفتح آية/18-19.

ص: 206

قريش الحرب وعلى أن لا يفروا، ولا يولوهم الدبر، تحت الشجرة وكانت بيعتهم إياه هنالك تحت الشجرة سمرة {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة من صدق النية والوفاء بما يبايعونك عليه والصبر معك {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه من دينهم وحسن بصيرتهم بالحق الذي هداهم الله له {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو فتح خيبر، وأما قوله تعالى:{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي: وأثاب الله هؤلاء الذي بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم، وإنزاله السكينة عليهم وإثابته إياهم فتحاً قريباً وهو ما أجرى الله عز وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة.

ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ولهذا قال الله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 1.

قال أحمد بن عليّ الجصاص بعد قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصدق بصائرهم فهم قوم بأعيانهم

فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء الله إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان وقد أكد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني: الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أ. هـ2.

1ـ جامع البيان 26/85-86، تفسير القرآن العظيم 6/341، وانظر تفسير البغوي على الخازن 6/163، زاد المسير 7/434-435، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/278، فتح القدير للشوكاني 5/51.

2ـ أحكام القرآن للجصاص 3/394 والآية رقم 35/من سورة النساء.

ص: 207

والسبب الذي كانت من أجله بيعة الرضوان ما ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: "والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان ليعلم قريشاً أنه إنما جاء معتمراً لا محارباً، ففي غيبة عثمان شاع عندهم أن المشركين تعرضوا لحرب المسلمين فاستعد المسلمون للقتال وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ تحت الشجرة على أن لا يفروا وذلك في غيبة عثمان، وقيل: بل جاء الخبر بأن عثمان قتل فكان ذلك سبب البيعة"أ. هـ1 وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة الذين كانوا معه بالحديبية لما أشيع أن عثمان قد قتل ولم يتخلف عن تلك البيعة إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ تحت بطن بعيره2.

وقد سئل الصحابة رضي الله عنهم على أي شيء كانت بيعتهم؟ فكانت الإجابة بما يلي:

1-

أجاب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأنهم بايعوا على الموت. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال: على الموت3.

وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له: إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت فقال لا أبايع على ذلك أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم4.

2-

وأجاب معقل بن يسار وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما بأنهم بايعوا على عدم الفرار.

روى الإمام مسلم بإسناده إلى معقل بن يسار قال: لقد رأيتني

1ـ فتح الباري 7/59، ص/448، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/315، تاريخ الأمم والملوك 2/631، دلائل النبوة البيهقي 4/134، البداية والنهاية لابن كثير 4/189، الجامع لأحكام القرآن 16/276.

2ـ صحيح مسلم 3/83.

3ـ صحيح البخاري 3/44.

4ـ صحيح البخاري 3/44، صحيح مسلم 3/1486.

ص: 208

يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربع عشرة مائة قال: "لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على ألا نفر"1.

وروى أيضاً بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: "كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة وقال: بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت"2.

فهذه الأحاديث أوضحت لنا الشيء الذي بايع عليه الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إلا أن بعضها تفيد أن البيعة كانت على الموت وبعضها يفيد أنهم بايعوا على عدم الفرار، فقد يحس القارئ أن بين هذه الروايات اختلافاً في الشيء الذي كانت البيعة عليه والواقع أنه لا اختلاف بينها.

فقد قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: "قد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: "لا نزال بين يديك حتى نقتل، وبايعه آخرون فقالوا لا نفر"3.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت وعلى عدم الفرار لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا وليس المراد أن يقع الموت ولا بد"4.

تلك هي البيعة التي استحق بها أصحاب الحديبية رضوان الله تعالى والثناء عليهم بما وقر في قلوبهم من الإيمان والوفاء والصدق وقد رتب تعالى على رضاه عنهم وعلمه بما في قلوبهم ما أنعم به عليهم من سكينة وفتح ومغانم فقال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} .

1ـ صحيح مسلم 3/1485.

2ـ صحيح مسلم 3/1483.

3ـ سنن الترمذي 3/76.

4ـ فتح الباري 6/118، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 13/3.

ص: 209

5-

أخبر تعالى عن أهل بيعة الرضوان أنه ألزمهم كلمة التقوى التي هي كلمة التوحيد وأنهم كانوا أحق بها وأهلها، قال تعالى:{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} 1.

فلقد بين تعالى في هذه الآية أنه ألزم الصحابة رضي الله عنهم كلمة التقوى وأكثر المفسرين على أن المراد بكلمة التقوى هي "لا إله إلا الله" وبين أنهم أحق بها من كفار قريش وأنهم كانوا أهلها في علم الله لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير2 ذلك هو الثناء في القرآن على الصحابة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان الحديبية وقد ورد الثناء عليهم في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة ومن ذلك ما يلي:

1-

روى الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة3.

هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما

وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليّ على عثمان لأن علياً كان من جملة من خوطب بذلك وممن بايع تحت الشجرة وكان عثمان حينئذ غائباً ـ وهذا التمسك باطل ـ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه4 فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل

1ـ سورة الفتح آية/26.

2ـ انظر: جامع البيان 26/103-106، تفسير البغوي على الخازن 6/177، تفسير ابن كثير 6/347.

3ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1485.

4ـ انظر: صحيح البخاري 2/297.

ص: 210

بعضهم على بعض"1.

2-

روى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله: فانتهرها فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} 2.

قال النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً

وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك وأما قول حفصة بلى وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} فيه دليل للمناظرة والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون"أ. هـ3.

3-

وروى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية"4.

هذا الحديث تضمن فضيلة أهل بدر والحديبية وفضيلة حاطب لكونه منهم رضي الله عنهم أجمعين.

1ـ فتح الباري 7/443.

2ـ صحيح مسلم 4/1942، والآيتان رقم/71-72 من سورة مريم.

3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/58.

4ـ صحيح مسلم 4/1942.

ص: 211

4-

وروى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية نثية 1 المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل" قال: فكان أول من يصعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالة له"2.

وهذا الحديث تضمن فضيلة عظيمة لأصحاب الحديبية رضي الله عنهم وتلك الفضيلة مغفرة الله لهم وأكرم بها من فضيلة منحهم إياها الرب ـ جل وعلا ـ لإخلاصهم في طاعتهم واستجابتهم لله والرسول بالسمع والطاعة.

5-

روى الإمام أحمد بإسناده إلى يحيى بن سعيد بن فروخ أن أبا سعيد حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية قال: "لا توقدوا ناراً بليل" فلما كان بعد ذلك قال: " أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم"3.

فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن من يأتي بعد أهل بيعة الرضوان لا يمكن أن يدركهم في فضلهم، ولا في فضل عملهم مهما بلغ من الإخلاص وصدق النية والتحري في عمل الصالحات فلقد فازوا فوزاً عظيماً رضي الله عنهم وأرضاهم ولقد شمل فضل أهل بيعة الرضوان الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان غائباً في المهمة التي بعثه بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة.

6-

فقد روى البخاري بإسناده إلى عثمان بن موهب قال: "جاء رجل

1ـ ثنية المرار: مهبط الحديبية والمرار: بقلة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت عنه مشافرها، معجم البلدان 5/92، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17/126.

2ـ صحيح مسلم 4/2144-2145.

3ـ مسند الإمام أحمد 3/26، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي 3/36.

ص: 212

من أهل مصر وحج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم: قال: الله أكبر قال ابن عمر: تعالى أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه" وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز من عثمان ببطن مكة لبعثه مكانه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان" فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك"1.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "الذي يظهر من سياقه أن السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد بالمسائل الثلاث أن يقرر معتقده فيه ولذلك كبر مستحسناً لما أجابه ابن عمر قوله "قال ابن عمر: تعال أبين لك" كأن ابن عمر فهم منه مراده لما كبر وإلا لو فهم ذلك من أول سؤاله لقرن العذر بالجواب وحاصله أنه عابه بثلاثة أشياء فأظهر له ابن عمر العذر عن جميعها: أما الفرار فالبعفو وأما التخلف فبالأمر وقد حصل له مقصود من شهد من ترتب الأمرين الدنيوي وهو السهم والأخروي وهو الأجر، وأما البيعة فكان مأذوناً له في ذلك أيضاً: ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لعثمان من يده كما ثبت ذلك أيضاً: عن عثمان نفسه فيما رواه البزار بإسناد جيد أنه عاتب عبد الرحمن بن عوف فقال له: لم ترفع صوتك علي؟ فذكر الأمور الثلاثة فأجابه عثمان بمثل ما أجاب

1ـ صحيح البخاري 2/297.

ص: 213

به ابن عمر قال في هذه: فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لي من يميني إلى أن قال: قوله: "فقال له ابن عمر اذهب بها الآن معك" أي: أقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده من غيبة عثمان، وقال الطيبي: قال له ابن عمر تهكماً به أي: توجه بما تمسكت به فإنه لا ينفعك بعدما بينت لك"أ. هـ 1.

تلك هي مناقب أصحاب بيعة الرضوان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا رضي الله عنهم من أكمل البشرية إيماناً وعلماً وطاعة لله ورسوله ولذلك شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير أهل الأرض، وأنهم مغفور لهم، كما شهد لهم عليه الصلاة والسلام هم وإخوانهم البدريون بالجنة والنجاة من النار. نسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.

1 ـ فتح الباري 7/59.

ص: 214