المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد - عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي - جـ ١

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الباب الأول: الثناء في القرآن والسنة على الصحابة

- ‌الفصل الأول: الثناء عليهم عموما في القرآن والسنة وأقوال السلف

- ‌المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن

- ‌المبحث الثاني الثناء عليهم في السنة

- ‌المبحث الثالث: النثاء عليهم في أقوال السلف

- ‌الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين

- ‌المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر

- ‌المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد

- ‌المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان

- ‌الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة

- ‌المبحث الأول: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: فضل ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: فضل أبي السبطين علي رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: فضل السته بقية العشرة

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: المراد بأهل البيت

- ‌المبحث الثاني: ما جاء في فضل أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً

- ‌المبحث الثالث: فضل أهل بيته الذكور رضي الله عنهم

- ‌المبحث الرابع: فضل أهل بيته الإناث

الفصل: ‌المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد

‌المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد

1

قد جاء الثناء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على تلك الفئة المؤمنة من الصحابة رضي الله عنهم الذين حضروا موقعة أحد بغية نصرة دين الله ـ تعالى ـ ونصرة سيد الخلق المبعوث بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده الله لعباده ديناً وكانت موقعة أحد في نصف شوال في السنة الثالثة للهجرة أول نهار السبت2 وفي فتح الباري لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل لسبع، وقيل لثمان، وقيل لتسع"3.

وذلك "لما قتل الله أشراف قريش ببدر، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم

أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ويجمع الجموع، فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والخلفاء والأحابيش وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد بمكان يقال له عينين

واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي، وكان هو الرأي فبادر جماعة من

1ـ قال السهيلي: سمي أحداً لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك أ. هـ الروض الأنف 5/448 وبهذا قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/11، وانظر: فتح الباري 7/376-378، لوامع البهية 2/367، وأحد جبل معروف يقع شمال المدينة.

2ـ تاريخ الأمم والملوك 2/499، جامع البيان 4/70، تفسير البغوي مع الخازن 1/344، الكامل في التاريخ 2/150.148، البداية والنهاية 4/11، تفسير القرآن العظيم 2/104.

3ـ فتح الباري 7/346.

ص: 181

فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" 1 فخرج عليه الصلاة والسلام في ألف من الصحابة بيوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد رجع عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس2 وقال: أطاعهم وعصانا، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتعبه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكننا لا نرى أنه يكون قتال قال: فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه3 وهكذا أخرج الله المنافقين مع رئيسهم من بين المؤمنين حقاً الذين هم أهل لتخليد ذكراهم بالثناء الجميل في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة ويذكرون بهذا الثناء الطيب على مر الأيام والليالي إلى يوم القيامة وكان عددهم رضي الله عنهم سبعمائة فيهم خمسون فارساً4 ولقد جاء الثناء عليهم في القرآن في غير ما آية:

1-

قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ

1ـ انظر: مسند الإمام أحمد 13/351، والحاكم 2/128-129 ووافقه الذهبي على تصحيحه، سنن الدارمي 2/129.

2ـ زاد المعاد لابن القيم 3/192-194، وانظر السيرة النبوية لابن هشام 2/63-64.

3ـ السيرة النبوية لابن هشام 2/64.

4ـ زاد المعاد 3/194، وانظر السيرة النبوية لابن هشام 2/65، البداية والنهاية 4/15.

ص: 182

وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.

هذه الآية تضمنت الثناء البالغ على أهل أحد بشهادة الله ـ تعالى ـ لهم بحقيقة الإيمان الذي حل واستقر في قلوبهم الطيبة وفي هذه الشهادة فضيلة أيما فضيلة لمن حضر من الصحابة موقعة أحد.

وقد اختلف السلف رحمهم الله تعالى في المراد بهذه الآية: فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحد.

قال حبر الأمة عبد الله بن عباس في قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} قال: هو يوم أحد.

وقال قتادة: ذلك يوم أحد غدا نبي الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوء المؤمنين وبهذا القول قال مجاهد والربيع بن أنس والسدي وابن إسحاق.

وقال بعضهم: عنى بذلك يوم الأحزاب.

وهذا القول ذهب إليه مجاهد في رواية عنه والحسن ومقاتل والكلبي وفي رواية عن الحسن أيضاً أنه يوم بدر.

وأرجحها هو ما ذهب إليه الجمهور وهو المراد من ذلك يوم أحد. لأن الله تعالى قال في الآية التي بعدها: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ولا خلاف بين أهل التفسير أنه عنى بالطائفتين بنو سلمة وبنو حارثة، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب"2.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} الآية المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور قاله ابن عباس وقتادة والسدي وغير واحد3.

1ـ سورة آل عمران آية/121.

2ـ انظر جامع البيان للطبري 4/69-70، زاد المسير 1/499، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/184.

3ـ تفسير القرآن العظيم 2/104.

ص: 183

فالآية اشتملت على منقبة عظيمة لجميع الصحابة الذين حضروا موقعة أحد بغية نصر دين الإسلام وإذلال الشرك وخفض رايته بالجهاد في سبيل الله وتلك المنقبة التي تضمنتها الآية هي إخبار الله جل وعلا بثبوت حقيقة الإيمان ورسوخه في قلوبهم الطاهرة النقية رضي الله عنهم أجمعين.

2-

وقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 1. هذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم على الطائفتين اللتين همتا بالفشل وهاتان الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة كانتا في يوم أحد جناحي معسكر الإيمان، والهم الذي همت به هاتان الطائفتان هو الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك حين انصرف ابن أبي بثلث الناس، وهذا الهمّ الذي حصل لهما لم يكن عن شك في الإسلام، أو نفاق حاشاهم من ذلك وإنما كان نتيجة عارض الضعف وشيء من الجبن عن لقاء العدو، ولكن الله تعالى تدارك الطائفتين بالعصمة، مما كانا قد هما به فقويت عزائمهم وثبتوا على الرشد ومضوا لقتال أهل الشرك تحت راية الإسلام مع سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. والثناء الذي حظيت به هاتان الطائفتان هو أن الآية ناطقة مفصحة بأن الله وليهم وأن تلك الهمة التي هموها ما أخرجتهم من ولاية الله تعالى وفي هذا من الشرف العظيم لهاتين الطائفتين ما لا يعلمه إلا الله فقد روى الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بنو سلمة وبنو حارثة وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل: {وَلِيُّهُمَا} 2. حق لجابر رضي الله عنه أن يُسَر ويفرح بالتنويه بهذه المنقبة العظيمة لأن ولاية الله لا يظفر بها إلا المؤمنون والصالحون من عباده قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3.

1ـ سورة آل عمران آية/122.

2ـ صحيح البخاري 3/113، صحيح مسلم 4/1948.

3ـ سورة البقرة آية/257.

ص: 184

وقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 1.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى شارحاً لحديث جابر: "قوله: نزلت هذه الآية فينا أي في قومه بني سلمة وهم من الخزرج وفي أقاربهم بني حارثة وهم الأوس" وقوله: وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: {وَلِيُّهُمَا} أي: وإن الآية وإن كان في ظاهرها غض منهم لكن في آخرها غاية الشرف لهم قال ابن إسحاق: قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي: الدافع عنهما ما هموا به من الفشل لأن ذلك كان من وسوسة الشيطان من غير وهن منهم"2.

فالآية تضمنت منقبة عظيمة للطائفتين اللتين هما بنو سلمة وبنو حارثة حيث صرحت الآية بولاية الله لهما وحفظها مما كانا قد هما به وهو الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين يوم أحد وأن ذلك الهم لم يخرجهما من ولاية الله لهما.

3-

وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 3.

هذه الآية تحمل في طياتها الثناء على أهل أحد وهذا الثناء هو صدق الله لهم ما وعدهم به من النصر على أعدائهم، وعفوه تعالى عنهم لما وقع من بعضهم من فشل وتنازع في أمر الحرب وإرادة الحياة الدنيا وبين تعالى أن ذلك من فضله على أولئك الصفوة رضي الله عنهم كما تضمنت الثناء على بعضهم بإرادتهم الآخرة قبل الدنيا والثناء عليهم جميعاً بتحقيقهم الإيمان الذي هو ينبوع كل خير والدافع إلى كل بر وإلى كل ما يحقق للإنسان السعادة

1ـ سورة الأعراف آية/196.

2ـ فتح الباري 7/357.

3ـ سورة آل عمران آية/152.

ص: 185

في دنياه وآخرته، وقد يخطر على بال إنسان فيقول: إن الله ـ جل وعلا ـ قد أخبر أن في أهل أحد من يريد الدنيا وذلك بقوله في الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} ويجاب عن هذا أن ذلك لا يقدح في حقيقة إيمانهم دل على هذا تمام الآية فقد أخبر ـ تعالى ـ أنه قد عفا عنهم وبين أن ذلك العفو كان فضلا منه تعالى تفضل به عليهم بسبب إيمانهم قال تعالى في ختام الآية: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهذا من تمام نعمه ـ جل وعلا ـ على عباده المؤمنين حيث نصرهم أولا في وقعة أحد، ثم عفا عن المخطئين بترك مقاعدهم التي أمرهم الرسول بلزومها وعدم تركها ثانياً لأنه تعالى دو الفضل والطول والإحسان1 روى ابن جرير بإسناده إلى ابن إسحاق أنه قال:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يقول: وكذلك منَّ الله على المؤمنين أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدباً وموعظة فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم لما أصابوا من معصيته رحمة لهم وعائدة عليهم لما فيهم من الإيمان"أ. هـ2.

4-

قال تعالى مادحاً أهل أحد عندما ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعقب جيش الشرك الذي جاء إلى أحد بقيادة أبي سفيان بعد انتهاء معركة أحد: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 3.

هذه الآيات اشتملت على مدح عظيم للصحابة رضي الله عنهم الذين

1ـ انظر: جامع البيان للطبري 4/132-134، تفسير البغوي على الخازن 1/363، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/237، تفسير القرآن العظيم 2/127، تفسير روح المعاني للألوسي 4/90.

2ـ جامع البيان 4/132.

3ـ سورة آل عمران آية/172-174.

ص: 186

حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم واقعة أحد فقد مدحهم الله ـ تعالى ـ بالاستجابة لله والرسول حينما ندبهم صلى الله عليه وسلم لتعقب أبي سفيان في اليوم الثاني من غزوة أحد وقد أجابوا الدعوة ولبوا النداء وأتوا بالمطلوب منهم على أكمل وجه واتقوا عاقبة تقصيرهم على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم، وقد وعد تعالى المحسنين المتقين منهم بالثواب العظيم وقد فعلوا رضي الله عنهم ما وعدهم الثواب عليه، كما أثنى عليهم تبارك وتعالى بقوة الإيمان وزيادته والصبر على البلاء وتفويضهم كل الأمور باللجأ إلى الله تعالى، كما أخبر ـ تعالى ـ أنه أكرمهم بأن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم وأطاعوا رسولهم وفازوا بالأجر الكريم، ولم يمسسهم قتل ولا أذى، كما أثنى عليهم تعالى، بأنهم اتبعوا في كل ما أوتوا من قول أو قول أو فعل رضى الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فأطاعوا رسوله في كل ما به أمر، وعنه نهى، وقد بين ـ تعالى ـ أنه تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والجراءة على العدو وحفظهم من كل ما يسوؤهم وقد اتفق العلماء أن المراد بالذين استجابوا لله والرسول في قوله:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} هم المهاجرون والأنصار الذين حضروا معه صلى الله عليه وسلم وقعة أحد، قال العلامة ابن جرير رحمه الله تعالى بعد قوله عز وجل:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية: "يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجراح والكلوم، وإنما عنى الله ـ تعالى ـ ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معهم من مشركي قريش منصرفهم من أحد وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة ليرى الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم"1.

1ـ جامع البيان 4/176.

ص: 187

وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ثم ساق بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت لعروة: "يا ابن أختي كان أبواك منهم: ـ الزبير وأبو بكر ـ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: "من يذهب في أثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير"1.

فالإمام البخاري بين لنا سبب نزول الآية وأنها تتعلق بأحد وأن الذين خرجوا لطلب العدو بلغوا سبعين رجلاً منهم أبو بكر والزبير بن العوام وأخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى ابن عباس أن منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبا عبيدة بن الجراح"2.

وذكر القرطبي: "أنه نهض مع النبي صلى الله عليه وسلم مائتا رجل من المؤمنين"أ. هـ3.

فالآية اشتملت على المدح والثناء على الصحابة من أهل أحد بالاستجابة والطاعة لله ـ جل وعلا ـ في جميع أوامره وطاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة يرجون من ورائها ثواب الله ـ تعالى ـ ولم يمنعهم من ذلك ما بهم من جروج وكلوم أصابتهم في سبيل الله يوم أحد بل خرجوا إلى حمراء الأسد ممتثلين لندب الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم، متلذذين بتلك الطاعة التي أنستهم كل ألم وكل أذى أصابهم في ذات الله وزادهم ذلك قوة وجراءة واستعداداً لمواجهة أهل الشرك وقتالهم حتى يدخلوا في دين الله الحق، ولقد أحسنوا رضي الله عنهم في الإجابة إلى الغزو واتقوا معصية الرسول والتخلف عنه فأكرمهم الله عز وجل بالثواب الجزيل العظيم وهو الجنة، رضي الله عنهم وأرضاهم وأكرمنا بفضله معهم.

1ـ صحيح البخاري 3/126.

2ـ جامع البيان 4/177.

3ـ الجامع لأحكام القرآن 4/277.

ص: 188

وأما قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} هذه الآية أيضاً: فيها إخبار بأن "هذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول والناس الأولى ـ في هذه الآية ـ هم قوم كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد، والناس الثانية هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأحد وقوله:{قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي: قد جمعوا الرجال للقائكم، والكرة إليكم لحربكم {فَاخْشَوْهُمْ} فاحذروهم واتقوا لقاءهم فإنه لا طاقة لكم بهم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} أي: فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين يقيناً إلى يقينهم، وتصديقاً لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا ثقة بالله، وتوكلا عليه إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: كفانا الله وهو نعم المولى لمن وليه وكفله

فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية قد كانوا فوضوا أمرهم إلى الله ووثقوا به وأسندوا ذلك إليه وصف نفسه بقيامه لهم بذلك وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم"1.

هذه صفة أهل الإيمان والتقوى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث "توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به"2 فالآية تضمنت ثناء الله عليهم بقيلهم {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وأن تخويف الناس لهم بكثرة عددهم وقوة عدتهم زادهم تصديقاً ويقيناً في دينهم وإقامة على نصرتهم لدين الإسلام معتمدين على الله عز وجل

1ـ جامع البيان 4/178-179، وانظر تفسير البغوي على الخازن 1/378.

2ـ تفسير القرآن العظيم 2/161.

ص: 189

في كل الأمور وبهذه الصفات الطيبة كانوا أصفى خلق الله وخيرتهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وأما قوله عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ففيها أيضاً: ثناء جميل وإكرام عظيم للذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح فقد أكرمهم الله بأن رجعوا سالمين من حمراء الأسد فلم يلقوا عدواً بحيث كفاهم الله ما أهمهم ورد عنهم بأس الذين كفروا بقذف الخوف والرعب في قلوبهم، ثم أثنى عليهم باتباعهم رضوان الله الذي هو مناط كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة فاتبعوا أمر الله وابتعدوا عن نهيه واتبعوا رسوله حين ندبهم للخروج ولذلك تفضل الله عليهم بالتوفيق والسداد فيما فعلوا وظفروا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لاتباعهم ما يرضي الله ورسوله1.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عليهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} مما أضمر لهم عدوهم"2.

5-

أثنى الله تبارك وتعالى ثناء حسناً على الشهداء والذين لحقوا بالرفيق الأعلى يوم أحد وهم مقاتلون في سبيل الله تعالى وفاء منهم بصدق ما عاهدوا الله تعالى عليه وقد جاء الثناء عليهم بالذكر الحسن في أربع آيات من الكتاب العزيز قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ

1ـ انظر: جامع البيان للطبري 4/183، وانظر تفسير البغوي على حاشية الخازن 1/380، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 3/318، وفتح القدير للشوكاني 1/400، تفسير روح المعاني 4/129.

2ـ تفسير القرآن العظيم 2/163.

ص: 190

خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2.

هذه الآيات بين الله ـ تعالى ـ فيها مكانة الشهداء وعلو درجتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وفرحون بما آتاهم الله من الكرامة والفضل، وأنهم يسبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم بما أنعم الله به عليهم من فضل وأنه لا خوف عليهم ولا حزن لأن الدار التي انتقلوا إليها هي دار الحياء والفرح لا حزن ولا نغص في عيشها، وقد كان عدد هؤلاء الشهداء الذين استشهدوا في أحد سبعين شهيداً كما في صحيح البخاري3. رحمه الله تعالى منهم ست من المهاجرين منهم سيد الشهداء حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وثقف بن عمرو وهذا يوافق ما رواه أبو عبد الله الحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة فمثلوا بهم وفيهم حمزة

الحديث4.

فقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} هذه الآية تضمنت النهي عن ظن الموت بالشهداء فدلت على أنهم أحياء عند ربهم يرزقون والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ولا تحسبنهم يا محمد أمواتاً لا يحسون شيئاً ولا يلتذون ولا يتنعمون فإنهم أحياء عندي متنعمون في رزقي فرحون مسرورون بما آتيتهم من كراماتي وفضلي، حبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي"5.

1ـ سورة آل عمران آية/169-171.

2ـ سورة الأحزاب آية/23.

3ـ صحيح البخاري 3/26.

4ـ المستدرك 2/359 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

5ـ جامع البيان 4/170، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/268-274، وانظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ص/155- القسم الأول، وانظر فتح القدير للشوكاني 1/399.

ص: 191

قال الحافظ ابن كثير: بعد الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية: "يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار"أ. هـ1.

فالآية دلت على فضيلة عظيمة للشهداء وهي أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عند الله تعالى.

وأما قوله تعالى: {فَرِ حِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذه الآية اشتملت على تكريم عظيم لأولئك الشهداء وهم أنهم فرحون بما أعطاهم الله من الصواب والكرامة والإحسان والإفضال في دار النعيم، ويفرحون ويسرون بإخوانهم الذين تركوهم أحياء في الحياة الدنيا على منهج الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم إذا ماتوا في سبيل الله لحقوا بهم ونالوا من الكرامة مثل ما نالوا فهم بذلك مستبشرون. وبين تعالى:"أنه لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله وأيقنوا برضاه عنهم فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها الحظ الذي صاروا إليه وادعى الزلفى"2.

وهذا من أعظم التكريم الذي يكرم الله به من يشاء من عباده الذين بذلوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه الحنيف.

وأما قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} وهذه الآية بين الله ـ تعالى ـ فيها أن الشهداء يستبشرون بما رزقوا من النعيم والفضل وهذا الاستبشار في هذه الآية كان لأنفسهم، وأما الاستبشار الأول الذي في الآية المتقدمة قبل هذه فإنه كان لغيرهم من إخوانهم

1ـ تفسير القرآن العظيم 2/153.

2ـ جامع البيان 4/174، وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 1/502، الجامع لأحكام القرآن 4/275، فتح القدير للشوكاني 1/399، أضواء البيان 1/262.

ص: 192

المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وختم الله هذه الآية بالإخبار بأنه ـ تعالى ـ كما لا يضيع أجر المجاهدين والشهداء كذلك لا يضيع أجر المؤمنين.

قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول: ـ جل ثناؤه ـ: {يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني: بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كراماته عند ورودهم عليه {وَفَضْلٍ} يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أعدائه.... ومعنى قوله:{لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله

ثم روى بإسناده إلى محمد بن إسحاق في قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية قال: سروا ـ لما عاينوا أن وفاء الموعود وعظيم الثواب1.

فالآية اشتملت على التنويه باستبشار شهداء أحد بمغفرة الله تعالى لهم وفضله عليهم حين قدموا على ربهم تبارك وتعالى.

وأما قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} هذه الآية هي الآية الرابعة التي سيقت في الثناء على شهداء أحد فقد بين ـ تعالى ـ فيها أن من الصحابة الذين حضروا غزوة أحد رجالا قاموا بما عاهدوا الله تعالى عليه ووفوا بما نذروا به فصبروا على الجهاد حتى استشهدوا في سبيل الله ـ تعالى ـ من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ومنهم من بقي بعد أولئك الشهداء وهم ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصرة وكانوا على عهدهم فلم يغيروه، أو يبدلوه رضي الله عنهم حتى لقوا ربهم تبارك وتعالى ورضي الله عنهم أجمعين.

قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالله

1ـ جامع البيان 4/175-176، تفسير القرآن العظيم 2/157، وانظر في معنى الآية أيضاً: الجامع لأحكام القرآن 4/275، فتح القدير للشوكاني 1/399.

ص: 193

ورسوله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} يقول: أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء وحين البأس {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان أنذره لله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير ذلك من المواطن {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده والنصر من الله والظفر على عدوه، والنحب: النذر في كلام العرب وللنحب أيضاً: في كلامهم وجوه غير ذلك منها الموت

وقوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييراً كما غيره المعوقون القائلون لإخوانهم: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} والقائلون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أ. هـ1.

فالآية تضمنت الثناء والمدح على شهداء أحد بتحقيقهم الإيمان الكامل والثناء عليهم بالصدق والوفاء فما عرف منهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل رضي الله عنهم، وكل الآيات المتقدمة بين الله ـ تعالى فيها أن ما حصل يوم أحد كان ابتلاء ليتميز أهل النفاق من أهل الإيمان الصادق وبين ـ سبحانه ـ أن من لم ينهزم في موقعة أحد فقتل له الكرامة، وذلك أن الشهداء أحياء في الجنة يرزقون ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين. ذلك هو الثناء في القرآن على أهل أحد. أما الأحاديث التي وردت في السنة المطهرة فكثيرة وفيها بيان فضلهم رضي الله عنهم، وبيان منزلتهم منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص ومن ذلك ما يلي:

1.

روى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم،

1ـ جامع البيان 21/145-147، تفسير القرآن العظيم 5/438، فتح القدير للشوكاني 4/271-272.

ص: 194

قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} "1.

2.

وأخرج الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} 2.

3.

وروى الإمام مسلم بإسناده إلى مسروق قال: سألنا عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك ثلاثة مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا"3.

هذه الأحاديث المتقدمة فيها بيان إكرام الله تعالى للشهداء على وجه الخصوص فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "فقال لهم الله هل تشتهون شيئاً"

الخ

1ـ المسند 1/265-266، سنن أبي داود 2/14، ابن هشام في السيرة 2/119، وابن جرير في جامع البيان 4/171، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 4/218، والحاكم في مستدركه 2/288 وص/297 وقال في الموضعين صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي والحديث عند مسلم كما هو هنا بمعناه والآيات المشار إليها في الحديث رقم 169-171 من سورة آل عمران.

2ـ المستدرك 2/387.

3ـ صحيح مسلم 2/1502.

ص: 195

الحديث" هذا فيه مبالغة في إكرامهم وتنعيمهم إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطر على قلب بشر ثم رغبهم في سؤال الزيادة فلم يجدوا مزيداً على ما أعطاهم فسألوه حين رأوه وأنه لا بد من سؤال أن يرجع أرواحهم إلى أجسادهم ليجاهدوا ويبذلوا أنفسهم في سبيل الله تعالى ويستلذوا بالقتل في سبيله"1.

4.

وروى الإمام الترمذي بإسناده إلى طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مالي أراك منكسراً؟ " قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا وديناً قال: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك" قال: بلى يا رسول الله قال: "ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجابه وأحيا أباك فكلمه كفاحاً 2 فقال: تمن علي أعطيك قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون" قال: وأنزلت هذه الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ولا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم ورواه علي بن عبد الله المديني وغير واحد من كبار أهل الحديث هكذا عن موسى بن إبراهيم وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر شيئاً من هذا"3.

قال الزرقاني شارحاً لقوله في الحديث: "ما كلم الله أحداً قط يعني لم يكلم أحداً غير من قام الدليل على تكليمهم بلا واسطة كالمصطفى عليه الصلاة والسلام وموسى عليه السلام، أو المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق"أ. هـ4.

وأخرج ابن جرير بإسناده إلى أنس أن سبب نزول الآية قتلى بئر معونة.

وقال العلامة الشوكاني: "وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها

1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/33.

2ـ كفاحاً: أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول النهاية 4/185.

3ـ سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 8/360، الرد على الجهمية للدارمي ص/86.

4ـ شرح المواهب اللدنية 2/53.

ص: 196

كل شهيد"أ. هـ1.

5.

ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى جابر بن عبد الله يقول: لما كان يوم أحد جيء بأبي2 مسجى وقد مثل به قال: فأردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي ثم أردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فرفع فسمع صوت باكية أو صائحة فقال: "من هذه" فقالوا: بنت عمرو أو أخت عمرو فقال: "ولم تبكي فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع" وفي رواية أنه قال: "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه"3.

قال النووي رحمه الله تعالى مبيناً هذا التكريم والمنقبة التي نالها والد جابر بن عبد الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع" قال القاضي: "ويحتمل أن ذلك لتزاحمهم عليه لبشارته بفضل الله ورضاه عنه وما أعد له من الكرامة عليه ازدحموا عليه إكراماً له وفرحاً به أو أظلوه من حر الشمس لئلا يتغير ريحه أو جسمه

وقال عند قوله صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله" معناه سواء بكيت عليه أم لا فما زالت الملائكة تظله أي: فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره فلا ينبغي البكاء على مثل هذا وفي هذا تسلية لها"أ. هـ4.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأو" في قوله "تبكين أو لا تبكين"

1ـ فتح القدير 1/401.

2ـ اسمه عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي السلمي أسلم قديماً وكان من النقباء وشهد العقبة ثم بدراً، وقتل يوم أحد قتله أسامة الأعور وقيل سفيان بن عبد شمس أبو الأعور قال الواقدي: صل عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة وهذا فيه نظر لأنه نقل إلى المدينة ولم يكن يعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعادوه بعد أمر الرسول بإعادة الشهداء فصلى عليه معهم ـ انظر الاستيعاب 2/331، الإصابة 2/341، مغازي الواقدي 1/266.

3ـ صحيح البخاري 1/224وص/216، صحيح مسلم 4/1917-1918.

4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/25-26.

ص: 197

للتخيير ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه"1 وقال أيضاً: في موضع آخر: "ومحصله أن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكى عليه بل يفرح له بما صار إليه"أ. هـ2.

6.

وفي الصحيحن من حديث أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس: كما نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .. إلى آخر الآية3.

هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر رضي الله عنه وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين كما تضمن المدح والثناء لأهل أحد عموماً بصدقهم فيما عاهدوا الله عليه، والمراد بالمعاهدة المذكورة هي المشار لها بقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} 4 وكان ذلك أول ما خرجوا إلى أحد وهذا قول ابن إسحاق. وقيل ما وقع ليلة العقبة من الأنصار إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤووه

1ـ فتح الباري 3/116.

2ـ المصدر السابق 3/163.

3ـ صحيح البخاري 2/138، صحيح مسلم 3/1512.

4ـ سورة الأحزاب آية/15.

ص: 198

وينصروه ويمنعوه والأول أولى"1

فلقد عاهدوا الله تبارك وتعالى ووفوا بالعهد ولو كان في ذلك مشقة على أنفسهم، وبذلوا أنفسهم في الجهاد في سبيل الله طلباً للشهادة التي ثمنها الجنة التي عرضها السماوات والأرض. فرضي الله عنهم أجمعين.

ذلك هو الثناء في القرآن الكريم والسنة المطهرة على أولئك الأبرار من أهل أحد وذلك هو مصير شهداء أحد الذي صاروا إليه فقد تبوءوا الدرجات العالية بسبب ما قدموه من بذل أنفسهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى ونصرة دينه وتلك المناقب الرفيعة التي نوهت بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يجب على العبد الإيمان والتسليم بها لأولئك الأطهار رضي الله عنهم أجمعين. ونسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.

1ـ فتح الباري 6/22-23.

ص: 199