المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر - عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي - جـ ١

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الباب الأول: الثناء في القرآن والسنة على الصحابة

- ‌الفصل الأول: الثناء عليهم عموما في القرآن والسنة وأقوال السلف

- ‌المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن

- ‌المبحث الثاني الثناء عليهم في السنة

- ‌المبحث الثالث: النثاء عليهم في أقوال السلف

- ‌الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين

- ‌المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر

- ‌المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد

- ‌المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان

- ‌الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة

- ‌المبحث الأول: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: فضل ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: فضل أبي السبطين علي رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: فضل السته بقية العشرة

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: المراد بأهل البيت

- ‌المبحث الثاني: ما جاء في فضل أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً

- ‌المبحث الثالث: فضل أهل بيته الذكور رضي الله عنهم

- ‌المبحث الرابع: فضل أهل بيته الإناث

الفصل: ‌المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر

‌المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر

1

إن الصحابة الذين شهدوا موقعة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين اختارهم رب العالمين واصطفاهم فجعل لهم ميزة تميزوا بها على غيرهم من عباد الله المؤمنين إذ أن معركة بدر تعتبر من أعظم المعارك التي انتصر فيها الإسلام على الكفر وأهله، وبسببها انتشر ضوء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، ثم إلى خارجها، وبسببها أضيئت الطريق أمام الدعاة إلى الله لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى ونبذ جميع المعبودات التي تعبد من دون الله نتيجة اتباع الهوى والتقليد الأعمى، وكل من شارك من الصحابة في وقعة بدر كانت له المكانة اللائقة بالثناء الحسن في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة، فأهل بدر هم النجوم التي أضاءت تاريخ الإسلام حتى أصبح يقال لأحدهم: فلان بدري، وشهد بدراً وكفى بهذه المنقبة شرفاً وتعظيماً لهم في هذه الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكفى بذلك أجراً وإحساناً عند رب العالمين في الحياة الآخرة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلقد أعطاهم ذلك ربهم تبارك وتعالى وفضلهم على كثير من عباده تفضيلاً، وكانت هذه الغزوة المباركة في السنة الثانية من الهجرة2 وقد كان عدد المشركين الذين جاءوا من مكة لإطفاء نور الله ألفاً وفي

1ـ قال الحافظ ابن حجر: قوله: "ببدر" هي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها، ويقال بدر بن الحارث، ويقال: بدر اسم البئر التي سميت بذلك لاستدارتها، أو لصفاء مائها فكان البدر يرى فيها الفتح 7/285، وانظر معجم البلدان 1/375.

2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 2/12، وتاريخ الأمم والملوك 2/418، الكامل لابن الأثير 2/116، البداية والنهاية 3/258، زاد المعاد 3/171.

ص: 164

رواية أنهم خمسون وتسعمائة1، وأما عدد الفئة المؤمنة التي تصدت لمشركي قريش فقد كان عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا.

فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه" الحديث2.

وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو أن عددهم ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً"3.

قال ابن جرير: "وأما عامة السلف فإنهم قالوا: كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا"4 والبضع هذا تفسير ما جاء في رواية صحيح مسلم المتقدمة أنه "تسعة عشر رجلا" وهذه الفئة المؤمنة جاء الثناء عليهم في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة.

ففي الكتاب العزيز شهد الله لهم بإخلاص نياتهم في الجهاد في سبيل الله ومن أجل ذلك أكرمهم الله ـ تعالى ـ بالنصر على أعداء الله من أهل الكفر والضلال، وما ذلك إلا لفضلهم عند الله ـ جل وعلا ـ وأن لهم كرامة ومكانة ومنزلة رفيعة عنده تبارك وتعالى كما شهد الله لهم بحقيقة الإيمان.

فالآيات التي أثنى الله عليهم بما ذكر هي:

1-

قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} 5.

1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/15، وانظر: البداية والنهاية 3/284.

2ـ صحيح مسلم 3/1384.

3ـ سنن أبي داود 2/72.

4ـ تاريخ الأمم والملوك 2/432.

5ـ سورة آل عمران آية/13.

ص: 165

هذه الآية تشير إلى اللقاء الذي وقع بين المسلمين وبين المشركين يوم بدر، وفيها ثناء من الله ـ تعالى ـ على أهل بدر بخلوص نياتهم في الجهاد يوم بدر وأنهم ما قاتلوا يومذاك حمية ولا شجاعة ولا لترى أمكانهم، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فأيدهم الله بنصره وأكرم بها من منقبة وأكرم به من موقف عظيم يذكرون به في الدنيا والآخرة وجدير بهذا الموقف العظيم أنه موضع للتفكر والاتعاظ والاعتبار لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة.

قال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله عند قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} الآية: "يعني بذلك ـ جل ثناؤه ـ قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون

والفئة الجماعة من الناس التقتا للحرب وإحدى الفئتين، رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهدوا وقعة بدر والأخرى مشركو قريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه وهم رسول الله وأصحابه {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وهم مشركو قريش.

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} فئة قريش الكفار.

وقال عكرمة في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} قال: قريش يوم بدر.

وقال مجاهد: ذلك يوم بدر التقى المسلمون والكفار"1.

ومن خلال أقوال أئمة التفسير تبين أن الآية اشتملت على المدح والثناء على الفئة المؤمنة من البدريين، كما أنها أيضاً تضمنت التهديد لليهود الذين كانوا

1ـ جامع البيان 3/193-194.

ص: 166

في المدينة حينذاك، فقد أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر فقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً1 لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أ. هـ2.

فكأنه يقول لهم: يا معشر يهود لا يغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد فليس هذا سبيل النصر والغلب فالحوادث التي تجري في هذا الكون أعظم دليل على فساد ما تدعون انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا، فئة قليلة من المؤمنين عددها ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ولم يكن معها من القوة إلا سبعون بعيراً يعتقبونها وفرسان فقط3 ولما كانت تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين التي كان عددها ألف رجل ومعها من القوة مائتا فرس يقودونها4 وفي هذا عبرة أيما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى وهي قوة الله التي يؤيد بها الفئة المؤمنة القليلة، فتغلب الفئة المشركة الكثيرة بإذنه ـ تعالى ـ وقال ابن جرير مبيناً معنى قوله ـ تعالى ـ في الآية السابقة:{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} . وتأويل الكلام قد كان

1ـ قال في النهاية: الأغمار جمع ـ غمر ـ بالضم ـ وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور 3/385.

2ـ جامع البيان 3/192، وتفسير البغوي على حاشية الخازن 1/272، وتفسير ابن كثير 2/14.

3ـ السير لابن هشام 1/613، زاد المعاد 3/171، البداية والنهاية 3/285، وانظر: مسند الإمام أحمد 1/411 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، المستدرك للحاكم 3/20.

4ـ البداية والنهاية 3/284.

ص: 167

لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا:

إحداهما: تقاتل في سبيل الله.

وأخرى: كافرة يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر والله يقوي بنصره من يشاء ـ وقال جل ثناؤه ـ إن في ذلك يعني فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها على الفئة الكافرة مع كثرة عددها لعبرة يعني: لمتفكراً ومتعظاً لمن عقل وأدرك فأبصر الحق"أ. هـ1.

2-

وأما الشهادة من الله تعالى للبدريين بحقيقة الإيمان ففي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2.

فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} فيها إخبار من المولى ـ جل وعلا ـ بحقيقة إيمانهم فلقد أخبر ـ سبحانه ـ نبيه عليه الصلاة والسلام أنه قواه وأعانه بنصره يوم بدر، كما أيده وأعانه بالمؤمنين، والمؤمنون الذين أيده بهم هم المهاجرون والأنصار الذين حضروا موقعة بدر المباركة قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وإنما أيده في حياته بالصحابة"أ. هـ3.

وقال مقاتل: في بيان معنى الآية {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال: قواك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر4.

وقال ابن جرير: عند الآية {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} : "يقول: الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} يعني:

1ـ جامع البيان 3/198، وانظر: تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 1/273، وانظر تفسير القرآن العظيم 2/15.

2ـ سورة الأنفال آية/62-63.

3ـ منهاج السنة 1/156.

4ـ زاد المسير 3/376.

ص: 168

بالأنصار1.

وقال أبو عبد الله القرطبي: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: قواك بنصره يريد يوم بدر {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال النعمان بن بشير نزلت في الأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته إلا أن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكان أشد خلق الله حمية فألف الله بالإيمان بينهم حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب"أ. هـ2.

فالآية اشتملت على الثناء بالإيمان الحقيقي على أهل بدر من الفريقين من مهاجرين وأنصار الذين حضروا تلك الغزوة وأيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم.

3-

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3.

وفي هذه الآية مدح الله ـ تعالى ـ المتبعين لنبيه صلى الله عليه وسلم بصفة الإيمان التي هي أعلى صفات الكمال وفي مقدمة هؤلاء الفئة المؤمنة من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين، ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً. قال ابن جرير عند هذه الآية:"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله يقول لهم جل ثناؤه ناهضوا عدوكم فإن الله كافيكم أمركم ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم فإن الله مؤيدكم بنصره"4.

1ـ جامع البيان 10/35.

2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/42.

3ـ سورة الأنفال آية/64.

4ـ جامع البيان 10/37.

ص: 169

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} أي: الله كافيك ومن اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم"أ. هـ1.

وقد نقل القرطبي رحمه الله تعالى: عن ابن الكلبي أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.2

وعلى هذا يكون المراد بالذين اتبعوه هم البدريون الذين كان عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً كما تقدم.

4-

قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3.

فالمقصود بالمؤمنين في هذه الآية هم الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا معه أعداء دينه من كفار قريش فلقد شهد الله لهم في هذه الآية بأنهم مؤمنون وأكرم بها من شهادة صادرة عمن يعلم السر وأخفى فهو ـ سبحانه ـ علم حقيقة أنفسهم وما انطوت عليه من تحقيق الإيمان الصادق، فأخبر ـ سبحانه ـ بما استقر في نفوسهم الزكية من حقيقة الإيمان والبلاء الحسن الذي أبلى به أولئك المؤمنون هو ما أنعم الله به عليهم من الظفر بأعدائهم وغنيمتهم ما معهم، وإثبات ما لهم من الأجر على أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك هو البلاء الحسن.

ذكر ابن جرير رحمه الله تعالى عن ابن إسحاق أنه قال في قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} أي: ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته"أ. هـ4.

1ـ منهاج السنة 1/156، وانظر: زاد المعاد 1/35-36.

2ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/43.

3ـ سورة الأنفال آية/17.

4ـ جامع البيان 9/206.

ص: 170

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} : "فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصحابته"أ. هـ1.

وروى ابن جرير الطبري: بإسناده إلى محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي أنهما قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 2.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفه من الحصباء فرمى بها وجوه العدو، فلم تترك رجلاً منهم إلا ملأت عينيه، وشغلوا بالتراب في أعينهم وشغل المسلمون بقتلهم فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 3.

فالآية اشتملت على مدح أهل بدر والثناء عليهم بصفة الإيمان التي هي من أعلى صفات الكمال التي يسعى لتحقيقها عباد الله المؤمنون بكل ما يمكنهم من العمل الصالح.

5-

قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} 4.

6-

وقال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى

1ـ مدارج السالكين 3/426.

2ـ جامع البيان 9/205 وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بسند رجاله رجال الصحيح انظر: مجمع الزوائد 6/84.

3ـ زاد المعاد 3/82.

4ـ سورة آل عمران آية/124.

ص: 171

قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1.

فقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} شهادة قاطعة يقينية على إثبات إيمان أهل بدر رضي الله عنهم وكفى بهذه الشهادة شرفاً ورفعة لأولئك البدريين الأطهار إذ هي شهادة صادرة من رب السموات والأرض وما بينهما الذي يعلم الأمور على حقائقها وما هي عليه.

قال ابن جرير رحمه الله تعالى عند الآية: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} "بك من أصحابك: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} وذلك يوم بدر"أ. هـ2.

وقد بين الله في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية أن المطر الذي أنزله على أرض بدر كان لهم فيه أربع فوائد هي:

1.

تطهيرهم حسياً بالنظافة التي تنشط الأعضاء وتدخل السرور على النفس وشرعياً بالغسل من الجنابة، والوضوء من الحدث الأصغر.

2.

إذهاب رجس الشيطان عنهم ووسوسته.

3.

الربط على قلوبهم، أي: توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3.

4.

تثبيت أقدامهم ذلك أن المطر لبد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على مناجزة أعدائه من المشركين4.

1ـ سورة الأنفال آية/11-12.

2ـ جامع البيان 4/76./

3ـ سورة القصص آية/10.

4ـ انظر: جامع البيان الطبري 9/194، وانظر: زاد المعاد لابن القيم 3/175، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7/373، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/289.

ص: 172

وفي هذه الفوائد الأربع تكريم لأولئك البدريين رضوان الله عليهم أجمعين.

وأما قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1.

وهذه الآية مع ما دلت عليه من إثبات إيمان أهل بدر كذلك دلت صراحة على مشاركة الملائكة في قتال أعداء الدين من كفار قريش.

وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وسوط الفارس يقول: أقدم حيزوم2 فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقت ذلك من مدد السماء السادسة

" الحديث3.

وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي داود المازني وكان شهد بدراً قال: إني لأتبع رجل من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري4.

وروى أيضاً رحمه الله تعالى: بإسناده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه

قال: جاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح5 من أحسن الناس

1ـ سورة الأنفال آية/12.

2ـ قال في النهاية "حيزوم" جاء في التفسير أنه اسم فرس جبريل عليه السلام 1/467.

3ـ صحيح مسلم 3/1384-1385.

4ـ المسند 5/450، وابن هشام في السيرة 1/633.

5ـ قال ابن الأثير: الأجلح من الناس الذي انحسر الشعر عن جانبيه رأسه 1/284.

ص: 173

وجهاً على فرس أبلق1 ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، قال:"أسكت فقد أيدك الله تعالى بملك كريم"2.

فهذه الأحاديث صرحت بمشاركة الملائكة في قتال المشركين يوم بدر قال العلامة ابن القيم: "وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم"أ. هـ3.

وإمداد الله ـ تعالى ـ لهم بالملائكة لم يكن دفعة واحدة بل كان بالتدريج "قال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين يوم بدر بألف، ثم زادهم فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زادهم فصاروا خمسة آلاف، قال الحافظ ابن حجر: وكأنه جمع بذلك بين آيتي آل عمران والأنفال"4.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى الحكمة في قتال الملائكة مع الصحابة في بدر فقال: قال الشيخ تقي الدين السبكي: "سألت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟ فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله ـ تعالى ـ في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلم".5

وفيما قدمنا من الآيات القرآنية إثبات لفضل تلك الفئة المؤمنة من البدريين وكما ثبت فضلهم بنص القرآن الكريم كذلك ورد في إثبات فضلهم الكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة ومنها ما يلي:

1ـ قال في اللسان البلق: الدابة، والبلق سواد وبياض وكذلك البلقة: بالضم ـ 10/25.

2ـ المسند 1/117.

3ـ زاد المعاد 3/183.

4ـ فتح الباري 7/33، وانظر: جمع قتادة بين الآيتين في جامع البيان 4/78.

5ـ فتح الباري 7/313.

ص: 174

1-

روى الإمام البخاري بإسناده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير، وكلنا فارس، قال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ1 فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب ابن أبي بلتعة إلى المشركين" فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب فقالت: ما معي كتاب، وأنخناها، فلتمسنا فلم نر كتاباً فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حاجزتها، وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملك" قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق ولا تقولوا له إلا خيراً" فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.2.

فلله ما أعظم هذا التكريم لتلك الفئة المؤمنة من البدريين، وما أعظم فضلها عند المولى سبحانه وتعالى.

قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "ووقع الخبر بألفاظ منها: "فقد غفرت لكم" ومنها: "فقد وجبت لكم الجنة" ومنها: "لعل الله اطلع" لكن قال العلماء: إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله للوقوع، ثم قال: وقد استشكل قوله: "اعملوا ما شئتم" فإن ظاهره أنه للإباحة وهو خلاف

1ـ روضة خاخ: موضع بين مكة والمدينة بقرب المدينة شرح النووي على صحيح مسلم 16/55، وانظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 2/335.

2ـ صحيح البخاري 3/7، صحيح مسلم 4/1941.

ص: 175

عقد الشرع وأجيب: بأنه إخبار عن الماضي ـ أي: كل عمل كان لكم فهو مغفور ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقل بلفظ الماضي ولقال: فسأغفره لكم، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكراً عليه ما قال في أمر حاطب وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين فدل على أن المراد ما سيأتي، وأورده في لفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، وقيل: إن صيغة الأمر في قوله: "اعملوا" للتشريف والتكريم والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت، أي: كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور.. وقيل: إن المراد ذنوبهم تقل إذا وقعت مغفورة. وقيل: هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم. وفيه نظر ظاهر لقصة قدامة بن مظعون حيث شرب الخمر في أيام عمر وحده

واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها والله أعلم1.

وقال النووي: قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد وأقامه عمر على بعضهم قال: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطحاً الحد وكان بدرياً" أ. هـ2.

وقال المناوي شارحاً لهذا الحديث: "اعملوا ما شئتم أن تعملوا فإني غفرت لكم ذنوبكم أي: سترتها فلا أؤاخذكم بها لبذلكم مهجكم في الله ونصر دينه والمراد إظهار العناية بهم وإعلاء رتبتهم والتنويه بإكرامهم والإعلام بتشريفهم وإعظامهم لا الترخيص لهم في كل فعل كما يقال للمحب افعل ما شئت أو هو

1ـ الفتح 7/305-306، وانظر: رسالته في الخصال المكفرة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/258.

2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/56-57.

ص: 176

على ظاهره والخطاب لقوم منهم على أنهم لا يقارفون بعد بدر ذنباً وإن قارفوه لم يصروا بل يوفقون لتوبة نصوح فليس فيه تخييرهم فيما شاءوا وإلا لما كان أكابرهم بعد ذلك أشد خوفاً وحذراً مما كانوا قبله"أ. هـ1.

2-

روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية"2.

هذا الحديث فيه شهادة لحاطب بدخول الجنة رغم أنه كان يريد أن يعلم قريشاً بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كما أن فيه التصريح بعدم دخول النار لمن شهد بدراً والحديبية.

3-

وروى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما تعدون أهل بدر فيكم قال: "من أفضل المسلمين" ـ أو كلمة نحوها ـ قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة"3.

وهذا الحديث تضمن بيان درجة أهل بدر ويبين أن لهم درجة كبيرة، ومنزلة عظيمة عند الله ـ جل وعلا ـ فقد نالوا ذلك الفضل وتلك المنزلة بسبب ما قدموه في هذه الحياة الدنيا من جهد في نصرة الإسلام، وقمع عبدة الأصنام وما وقر في قلوبهخم الطيبة من حقيقة الإيمان فكون الملائكة تقاس بهم فإن ذلك من أعظم الأدلة على علو قدرهم وارتفاع درجتهم عند الله ـ تعالى ـ فرضوان الله عليهم أجمعين.

1ـ شرح الجامع الصغير 2/212.

2ـ صحيح مسلم 4/1942.

3ـ صحيح البخاري 3/10.

ص: 177

4-

وروى البخاري رحمه الله بإسناده أيضاً إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أصيب ـ حارثة ـ1 يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وإن تكن الأخرى تر ما أصنع فقال: "ويحك ـ أو هبلت ـ أو جنة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس" 2. ورواه بلفظ آخر بإسناده إلى أنس رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب3 فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال: "يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" 4.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكره حديث حارثة هذا: "وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا لم يكن في بحيحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس ـ التي هي أعلا الجنان، وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة ـ أن يسألوه إياها، فإذا كان هذا حال هذا فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عدداً وعُدداً"أ. هـ5.

5-

وجاء في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار عمي فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع إليه قومه فتغيب رجل

1ـ ستأتي ترجمته في ص/710 من هذه الرسالة.

2ـ صحيح البخاري 3/7.

3ـ هو الذي: لا يعلم راميه، أو لا يعرف من أين أتى، أو جاء دون قصد من راميه. فتح الباري 6/27.

4ـ صحيح البخاري 2/139.

5ـ البداية والنهاية 3/361.

ص: 178

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل فلان" فذكره بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد شهد بدرا" قالوا: نعم ولكنه كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"1.

6-

وفيه أيضاً: من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن لا يدخل النار من من شهد بدراً إن شاء الله"2.

7-

وروى الحاكم بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: كلم طلحة بن عبيد الله عامر بن فهيرة بشيء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلاً يا طلحة فإنه قد شهد بدراً كما شهدت وخيركم خيركم لمواليه" ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه3.

8-

ومن مناقب أهل بدر التي دلت على علو شأنهم، ورفعة مكانتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم كتيبة الإيمان وعصابة الإسلام التي كان لها السبق في نصر دين الإسلام وإعلاء كلمته، وأن جهادهم في موقعة بدر كان من أعظم الأسباب في أن يعبد الله وحده لا شريك له على وجه الأرض. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدعاء الذي دعا به يوم بدر:"اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"4.

ذلك هو الثناء في الكتاب والسنة على تلك الفئة المؤمنة من البدريين الفضلاء فقد أوضح الله ورسوله مكانتهم أتم وضوح فقد كانوا في القمة من الكمال وما حصل لهم ذلك إلا باستجابتهم لربهم تبارك وتعالى على الوجه

1ـ مجمع الزوائد 9/160 ثم قال الهيثمي رواه أبو داود وابن ماجه باختصار كثير في الأوسط وإسناده حسن.

2ـ المصدر السابق 9/161 وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير خداش بن عياش وهو ثقة.

3ـ المستدرك 4/77 وأقره الذهبي.

4ـ صحيح مسلم 3/1384.

ص: 179

المطلوب في امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولذلك كان جزاؤهم أن وفقهم الله لصالح الأعمال في الدنيا، وفازوا بالجنة في الأخرى والذي أخلص إليه مما تقدم أن الله تعالى أثنى على أهل بدر ثناء حسناً وبين النبي صلى الله عليه وسلم مكانتهم وفضلهم في كثير من الأحاديث وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم، فقد بين عليه الصلاة والسلام أنهم مغفور لهم، وأن من شهد بدراً لا يدخل النار وذلك نتيجة لما وقر في قلوبهم من الإيمان الذي ظهرت براهينه في أعمالهم وبسبب ذلك نصرهم الله على عدوهم في موقعة بدر رغم قلة عددهم وعدتهم، ففتح الله عليهم وأخذ أئمة الكفر وشفى صدورهم رضي الله عنهم في أعداء الله وأعداء رسوله والمؤمنين.

قال العلامة ابن القيم: "ثم ارتحل ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء معركة بدر مؤيداً منصوراً قرير العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانم"1.

فكان هذا اليوم يوم سعد وفوز للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان يوم نحس وشؤم على الكافرين والمنافقين وذلك لاختلاف الأعمال.

قال العلامة ابن القيم: "فسعود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال إنما هو بمخالفتها لما جاءت به الرسل واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة، ونحس لطائفة كما كان يوم بدر، يوم سعد للمؤمنين، ويوم نحس على الكافرين"2.

1ـ زاد المعاد 3/188.

2ـ مفتاح دار السعادة 2/194، وانظر: التفسير القيم لابن القيم ص/430.

ص: 180